الباب الحادى عشر: الصهيونية العمالية
الصهيونية الاشتراكية Socialist Zionism
«الصهيونية الاشتراكية» اصطلاح مرادف لاصطلاح «الصهيونية العمالية». وقد أخذنا بالمصطلح الثاني لأنه أكثر حياداً. وقد أثبتت ممارسات الصهاينة العماليين أن انتماءهم الاشتراكي مجرد وهم، فقد قاموا باحتلال الأرض الفلسطينية وطردوا بعض أهلها بالتعاون مع قوى الاستعمار، ويُشكِّلون الآن الصفوة الحاكمة في إسرائيل، قاعدة الاستعمار الغربي في المنطقة العربية. أما اصطلاح «الصهيونية العمالية» فهو على الأقل يصف الانتماء الطبقي الفعلي لبعض قطاعات المستوطنين الصهاينة، كما أن كلمة «عمالي» لا تزال تُستخدَم للإشارة إلى مجموعة من الأحزاب الإسرائيلية.
الصهيونية العمالية Labour Zionism
«الصهيونية العمالية» تيار صهيوني يَقْبل الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد تهويدها وإدخال ديباجات اشتراكية عليها، وهو تيار استيطاني بالدرجة الأولى. وقد نشأت الصهيونية العمالية في صفوف المثقفين اليهود في شرق أوربا ممن سقطوا ضحية تعثُّر التحديث في روسيا.
ويتلخص إنجاز الصهيونية العمالية فيما يأتي:
أولاً: نجاحها في التوصُّل إلى صيغة صهيونية مقبولة لدى الشباب اليهودي الثوري في أواخر القرن التاسع عشر. فقد شهد الشتتل ومنطقة الاستيطان اليهودي صراعاً طبقياً حاداً بين العمال والفقراء اليهود من جهة وأصحاب العمل (اليهود أساساً) من جهة أخرى. وكان 30% من جملة المقبوض عليهم لجرائم سياسية عام 1900 من اليهود. وكتب وايزمان في خطاب له يشكو من أن شباب اليهود ينخرطون في سلك الاشتراكية وكأن الحمى قد أصابتهم، ولعله كان يشير إلى أخيه الذي انخرط في صفوف الثوريين آنذاك. وقد نظمت اتحادات نقابات العمال اليهودية في الفترة 1895 ـ 1904 ما لا يقل عن 2276 إضراباً ضد أصحاب العمل، وانضم إليهم عمال غير يهود. ومن هنا كانت شعبية البوند وانتشاره.
وقد تَأسَّس البوند في العام نفسه الذي أُسِّست فيه المنظمة الصهيونية (1897). ومع هذا، نجحت الصهيونية العمالية في خداع بعض هؤلاء وأقنعتهم بإمكان تحسين مستواهم المعيشي في فلسطين. وساعد على ذلك وجود إحساس عام بين المستوطنين بأنهم سيصبحون ملاكاً للأرض لا مجرد أُجراء زراعيين أو عمال صناعيين، أي أن الاسـتيطان كان يشـكل صعوداً أكـيداً في السلم الطبقي وليس هبوطاً فيه. بل يمكننا أن نقول إنه لولا الصهيونية العمالية لما قُدِّر للمشروع الصهيوني أي نجاح، فهي التي نقلت جزءاً من الكتلة البشرية اليهودية اليديشية إلى فلسطين.
ثانياً: نجحت الصهيونية العمالية (صهيونية ساحة القتال الاستيطانية) في التوصل إلى صيغة تَحُل إشكالية خصوصية الاستيطان الصهيوني وإحلاليته. وقد اكتشف الصهاينة العماليون أن الصيغة الجماعية (ذات الديباجة الاشتراكية) هي الصيغة المُثلى الكفيلة بتحقيق الاستعمار الصهيوني بجانبيه الاستيطاني والإحلالي. فالدولة الراعية لم يكن لديها استعداد لمد المشروع الصهيوني بما يحتاج إليه من تخطيط شامل وجهد بشري وتمويل كثيف لتوطين المهاجرين من أوربا وتهويد فلسطين سكانياً. والمادة البشرية المهاجرة من شرق أوربا لم تكن تملك رأس المال اللازم. ومن هنا، كان الشكل الجماعي (التعاوني الاشتراكي) حيث تقوم المنظمة الصهيونية والصهاينة التوطينيون في الخارج بجمع رأس المال القومي اللازم من أعضاء الجماعات اليهودية (ولا سيما الأثرياء) في الغرب، ثم تقوم بإعطائه للوكالة اليهودية في الداخل، التي تقوم بتوظيفه بشكل تعاوني على أرض مملوكة ملكية جماعية. ويقوم العنصر البشري الدخيل بتنظيم نفسه على هيئة وحدات جماعية تمارس الزراعة والقتال لأن المجهود الفردي لا يمكن أن يُكتَب له النجاح (وهو أمر اكتشفه المستوطنون البيض الأوائل في الولايات المتحدة أثناء حرب الإبادة ضد الهنود بدون مساعدة من أي فكر اشتراكي).
أما الشق الإحلالي من الاستعمار الصهيوني، فقد تكفلت به المفاهيم الاشتراكية الخاصة بنُبل العمل اليدوي. وقد نادت الصهيونية العمالية بأن يذهب يهودي المنفى إلى فلسطين ليعمل بنفسه ويزرع أرضها بيديه، فيزيل ما علق بذاته في الشتات، ويكون آخر اليهود وأول العبرانيين (كما قال جوردون). وهكذا، فإن اليهودي إذا استأجر عاملاً عربياً فقد هدم الفكرة الصهيونية من أساسها. ومن هنا طرح جوردون فكرة اقتحام العمل، أي أن يعمل اليهودي بنفسه، ثم اقتحام الأرض، أي أن يزرعها بنفسه، وأخيراً اقتحام الحراسة، أي أن يحرسها بنفسه (وهذا ما نسميه «الزراعة المسلحة»). ورغم أن الديباجات المُستخدَمة ديباجات ثورية شعبوية تتسم بشيء من الجمال والجاذبية، فإنها في واقع الأمر تترجم نفسها إلى إحلالية. فهذه المفاهيم تعني في واقع الأمر تغييب العربي، والاستيلاء على الأرض بعد إخلائها من سكانها العرب مصدر العمالة الرخيصة التي كانت تتهدد المشروع الصهيوني من أساسه، وإحلال المستوطن الصهيوني محله. وبذلك تكون الصهيونية العمالية قد نجحت في التوصل إلى الصيغة التي تسمح بترجمة أهم عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (أي توطين الفائض اليهودي في فلسطين بعد التخلص من العرب) إلى برنامج عملي وممارسة فعلية.
ويبدو أن أعضاء البورجوازية اليهودية المندمجة أو شبه المندمجة في الغرب ووسط أوربا (والتي جاء من صفوفها كثير من زعماء الصهيونية السياسية مثل هرتزل ونوردو) كانوا واعين بحقائق الموقف وبصعوبات الاستيطان. كما أنهم لم يكن يعنيهم، من قريب أو بعيد، شكل الدولة الصهيونية ما دامت تؤدي الأغراض المطلوبة منها مثل إبعاد يهود شرق أوربا عنهم والقيام بدور المدافع عن المصالح الإمبريالية. ولذلك، لم تمانع هذه القيادات البورجوازية في اتخاذ قرارات «اشتراكية» ثورية عديدة. فالنقطة الأولى في برنامج بازل تدعو إلى توطين اليهود في فلسطين بالوسائل اللازمة دون تأكيد أي محتوى طبقي أو نمط إنتاجي معيَّن. وبمرور الزمن، اكتشف جميع الصهاينة بشكل برجماتي أن الاستيطان الجماعي والعمالي هو أهم أشكال الاستيطان، فعملية تمويل المشروع الصهيوني كان لابد أن تتم بشكل جماعي أو قومي، كما أن المستوطنين اضطروا إلى التجمع على هيئة جزر متماسكة في وجه الرفض العربي. لكل هذا، نجد أن المؤتمرات الصهيونية الأولى (التي سيطرت علىها الطبقات الوسطى والحاخامات) وافقت على مبدأ تأميم الأرض باعتباره أهم أُسس الدولة الصهيونية في المستقبل، كما اتخذت هذه المؤتمرات كثيراً من القرارات الثورية الأخرى. وكان وايزمان (الصهيوني العملي البورجوازي) يعطف كثيراً على النشاط الصهيوني العمالي ولم يكن يأبه باعتراضات المموِّلين اليهود اعتقاداً منه أن الصهيونية العمالية ستَخدم، في نهاية الأمر، المشروع الصهيوني.
وتجدُر ملاحظة أن الصهيونية العمالية الاستيطانية لا ترفض اليهودية الحاخامية وحسب وإنما تقدم نقداً عميقاً للشخصية اليهودية في المنفى باعتبار أنها تود أن تُسبغ مركزية على المُستوطَن الصهيوني فتزيد من شرعيته وتضمن تَدفُّق الدعم المالي والسياسي عليه. وكان التصور أنه كلما زاد هذا النقد عمقاً زادت الشرعية وزاد الدعم، بل إن النقد العمالي الاستيطاني وصل إلى درجة رفض ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» تماماً واعتبارها من مخلفات الماضي، ومن ثم نشأت الدعوة إلى أن يكون المستوطنون آخر اليهود وأول العبرانيين، وأصبحت الدعوة للهوية اليهودية من أمراض المنفى.
وتؤمن الصهيونية العمالية بأزلية معاداة اليهود وإن كانت تعطي تفسيراً اجتماعياً مادياً لهذه الظاهرة. وتتلخص المشكلة، حسب التصور الصهيوني العمالي، في أن التركيب الاجتماعي والحضاري لليهود يختلف عن التركيب الاجتماعي والحضاري للشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، فاليهود الذين يُحرَّم عليهم ممارسة مهنة الزراعة كانوا يعيشون أساساً في المدن، أما العمال منهم فهم لا يشكلون بروليتاريا صناعية وإنما ينتمون إلى قطاع البروليتاريا الرثة ومُحرَّم عليهم ممارسة كثير من الحرف والأعمال، أما أثرياء اليهود فإنهم يشتغلون بالتجارة والربا أو ببعض الصناعات الاستهلاكية. وهذا كله دليل على تَشوُّه البناء الطبقي عند اليهود وعلى هامشيتهم. وقد عبَّر بوروخوف عن هذه الفكرة بصورة الهرم المقلوب: فكل شعب يتكون من فئات اجتماعية تأخذ شكل الهرم الذي يتكون من قاعدة عريضة تُسهم في العمليات الإنتاجية الأساسية، وكلما بَعُدت العمليات الاقتصادية عن هذه العمليات الأساسية قلَّ عدد العاملين حتى نصل إلى قمة الهرم. ويجد بوروخوف أن هذا الهرم مُشوَّه تماماً عند اليهود ففي صفوفهم عدد كبير، من المحامين والأطباء والمفكرين وغيرهم، يشاركون في العمليات الإنتاجية الهامشية وينتمون إلى الطبقة الوسطى وإلى قمة الهرم، مع قلة قليلة من الفلاحين، إن وُجدت، وبروليتاريا صغيرة الحجم نسبياً ممن ينتمون إلى قاعدته.
وقد نتج عن هذا الوضع المتميز شيئان:
أولاً: أن كل الطبقات اليهودية في المجتمع ـ رأسماليين كانوا أو عمالاً ـ كانت تشكل وحدة متميزة مرفوضة من بقية المجتمع بسبب هامشيتها (وبسبب تراثها الفكري الديني القومي). وهذا يعني أن معاداة اليهود شيء موجه ضد كل اليهود بجميع طبقاتهم، وهي تكاد تكون مرضاً أزلياً لأن المجتمعات الاشتراكية اللا طبقية غير قادرة على حل هذه القضية لعدم إدراكها خصوصية وضع اليهود.
ثانياً: أُصيبت الشخصية اليهودية بالذبول والطفيلية لأنها فقدت علاقتها بالأرض الزراعية وبأي عمل منتج. وقد ازداد هذا الوضع حدَّة وتفاقماً، بسبب ظهور طبقة رأسمالية محلية (في روسيا وبولندا) تُنافس الرأسماليين اليهود وترفض استئجار العمال اليهود وذلك بسبب التعصب الديني ولأن العامل اليهودي في معظم الأحيان كان لا يمتلك الخبرات. ولقد راحت هذه الرأسمالية المحلية الجديدة تؤلب الجماهير المسيحية المُستغَلة ضد كل من الرأسماليين والعمال اليهود، حتى لا تعرف هذه الجماهير مستغليها الحقيقيين، وتحليل أوضاع اليهود بعد سقوط الجيتو على هذا النحو فيه كثير من الجدة والصدق. ويشترك الصهاينة العماليون في الإيمان بأن اليهود فقدوا كثيراً من الصفات القومية وإن كانوا مع هذا يشكلون أمة مستقلة أو أمة لها سمات الطبقة، وبأنها منبوذة في الغرب للأسباب التي ذُكرت آنفاً.
وبالتالي، فإن الحل الذي يطرح نفسه هو إخلاء أوربا من يهودها وتصفية الجماعات اليهودية (وإن كان بوروخوف يرى إمكان استثمار مثل هذه الجماعات وبالتالي وجوب الدفاع عن حقوقها السياسية). وتتم عملية التصفية من خلال نقل الكتلة البشرية اليهودية إلى فلسطين، أي تحويل الهجرة التلقائية (إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان) إلى استعمار استيطاني في فلسطين حيث ستُؤسَّس دولة صهيونية تُجسِّد القيم القومية اليهودية وتساهم في تطبيع الشخصية اليهودية وتُطهِّرها من أدران المنفى من خلال العمل اليدوي.
وقد طالب العماليون بأن تُجسِّد هذه الدولة القيم الاشتراكية والثورية وكل القيم التقدمية المطروحة آنذاك في أوربا، ولا يخلو أي برنامج صهيوني عمالي من الحديث عن وحدة الطبقة العاملة. وفي الماضي، كان العماليون يتحدثون كذلك عن الأممية والتضامن البروليتاري العالمي وما شابه من شعارات. ولكن، داخل هذه الوحدة البنيوية الأساسية، توجد بنَى فرعية مختلفة. ولعل أهم هذه البنَى تيار بوروخوف الذي حاول توظيف المنهج الماركسي في خدمة رؤيته الصهيونية، فأكد الأساس الطبقي والاقتصادي للصهيونية، وخَلُص من تحليله إلى حتمية الحل الصهيوني كوسيلة لتزويد كل الطبقات اليهودية الهامشية بقاعدة للإنتاج. أما تيار سيركين، فقد ركز على العنصر الأخلاقي ووحدة الرؤية بين اليهود، ولذلك فهو يؤكد التعاون والأخوة ويُقلِّل أهمية الصراع الطبقي. وقد انصرف جل اهتمام جوردون إلى الجانب النفسي، ولذلك فقد ركز على فكرة اقتحام الأرض والعمل كوسيلة للتخلص من آفات المنفى وكوسيلة للولادة الجديدة وتحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج. وقد كُتب لأفكار جوردون وسيركين الشيوع في الأوساط العمالية الصهيونية.
ويعود ظهور الاتجاه العمالي إلى المؤتمر الصهيوني الثاني عام 1898، لكنه قوبل برفض شديد من أغلبية المشاركين بزعامة هرتزل وكان الرافضون يقدِّمون الصهيونية آنذاك على أنها طريقة لتحويل الشباب اليهودي عن طريق الثورة. وبعد ذلك، عُقد مؤتمر في لاهاي عام 1907 لجماعات عمال صهيون بقيادة بوروخوف، ثم انضمت لهم جماعات أخرى، مثل العامل الفتي (هابوعيل هاتسعير) والفتي الحارس (هاشومير هاتسعير) واتحاد العمل (أحدوت هعفودا).
ويمكن القول بأن الموجة الثانية من الهجرة اليهودية (1905 ـ 1914) هي التي أتت بالمادة البشرية الاستيطانية العمالية. فالمهاجرون اليهود في الموجة الأولى من الهجرة كانوا في معظمهم من أبناء الطبقة الوسطى، ولذا فقد استقروا في المدن الفلسطينية، ولم يعمل منهم في الزراعة سوى 5% فقط. أما مهاجرو الموجة الثانية فكانوا ـ لاعتبارات تتعلق بانتماءاتهم الطبقية والأيديولوجية على حدٍّ سواء ـ مصرين على العمل الزراعي الذي رأوه مفتاحاً لحل المسأة اليهودية وإصلاح الهرم الاجتماعي المقلوب عند اليهود.
لقد تمت هذه الموجة " الثانية " من الهجرة في سنوات الهجرة اليهودية الكبرى من روسيا وأوربا الشرقية إلى أمريكا، وحدثت نتيجة فشل ثورة 1905وازدياد معاداة اليهود في روسيا القيصرية نتيجة تعثُّر التحديث. ولقد كانت الأقلية العقائدية هي التي هاجرت إلى فلسطين بدلاً من أمريكا. كانت هذه الأقلية في معظمها من الشبان (77% كانوا في سن دون 25 عاماً)، ولا يملكون أية مدخرات، ومتشبعون بالأفكار الشعبوية الروسية (المعادية للصناعة) وبالأفكار الثورية الاشتراكية. ولذا استخدموا هذه الديباجات في تبرير الاستيلاء على الأرض العربية وطَرْد سكانها، ولذا بدلاً من المنطق الاستعماري التقليدي الذي يقوم بطرد السكان الأصليين وإبادتهم لأنهم من أجناس مُلوَّثة لجأ هؤلاء المهاجرون إلى تبرير عمليات الطرد والإبادة من خلال ديباجات اشتراكية ملتهبة. فاستولوا على الأرض بحجة أن الأرض لمن يزرعها، وطردوا أصحابها منها بحجة أن إنتاجيتهم ضعيفة. وقد تحوَّلت الصهيونية العمالية في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1933) إلى أكبر أجنحة المنظمة الصهيونية العالمية وأكثرها تأثيراً على الصعيدين السياسي والعملي.
ويعود هذا إلى نجاحها في مجالين أساسيين:
أولاً: نجحت الصهيونية العمالية فيما فشلت فيه كل الاتجاهات الصهيونية الأخرى، أي تجنيد المادة البشرية الأساسية للعملية الاستيطانية.
ثانياً: نجحت الصهيونية العمالية في تنفيذ القسم الأكبر والأهم من عمليات الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة من خلال صيغ وأشكال مختلفة. والبناء الاقتصادي السياسي في المُستوطَن الصهيوني نتاج نشاطات الصهيونية العمالية بالدرجة الأولى. فالهستدروت والكيبوتس والهاجاناه والبالماخ هي الأدوات التي استخدمها الصهاينة لتحويل جزء من فلسطين إلى مُستوطَن صهيوني تحكمه دولة صهيونية وظيفية، وهي مؤسسات أوجدتها وسيطرت عليها الصهيونية العمالية التي لا تزال لها اليد الطولى في إسرائيل.
إن الصندوق القومي اليهودي الذي أسسه الممولون من أعضاء الجماعات اليهودية كان سيصبح مؤسسة بلا هدف بدون المادة البشرية وبدون المؤسسات العمالية التي حققت لها البقاء والاستمرار. ولذا ليس من الغريب أن تعرف أن أموال الصندوق القومي اليهودي ما بين سنة 1921 وسنة 1945 كانت تذهب، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى الاقتصاد العمالي. فالبند الوحيد الذي كان لا يخضع لسيطرة شبكة الأحزاب والمؤسسات العمالية هو بند الإسكان في المدن البالغ 6.8% فقط من مجموع الإنفاق. أما باقي المصاريف، فكان يذهب مباشرةً إلى العمال، كمصاريف المستعمرات الزراعية والهجرة والتدريب والإسكان، كما كان يذهب بصورة غير مباشرة إلى مؤسسات يُشرف العمالي عليها، كالمصاريف المتعلقة بالثقافة والأمن والصحة.
وقد تحوَّلت «الصهيونية العمالية» في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1933) إلى أكبر أجنحة المنظمة الصهيونية العالمية وأكثرها تأثيراً على الصعيـدين السـياسي والعملي الخاصين بالمشروع الصهيوني. ويُلاحَظ أنه مع تزايد اعتـماد الدولة الصـهيونية على يهود العالم، ومع تزايد خفوت النبرة الاشتراكية في صفوف الصهاينة العماليين، اختفى النقد الراديكالي للهوية اليهودية، بل استوعبت الصهيونية العمالية ديباجات الصهيونية الإثنية العلمانية وأصبحت الهوية اليهودية الرقعة المشتركة بين يهود الدولة الصهيونية ويهود العالم.
موسى هـس (1812-1875) Moses Hess
رائد الصهيونية العمالية. وُلد في ألمانيا من أب بقَّال وأم كان أبوها حاخاماً. وانتقل هس، وهو بعد في التاسعة، إلى منزل جده حيث تلقَّى على يديه تعليماً دينياً وتعلَّم العبرية. ورغم ذلك، لم يُبد هـس أي اهتمـام بالقــضايا اليهودية إلا في مرحلة متقدمة من عمره. وقد اهتم هس بدراسة التاريخ وكان شديد الإعجاب بالفيزياء والأدب الفرنسي ودرس الفلسفة في الجامعة ولكنه لم يحصل على درجة علمية. وقد استقر هس معظم حياته في باريس حيث تزوج من فتاة أمية مسيحية تعمل بالدعارة، ولكنه أجَّل الزواج إلى ما بعد وفاة والده بعام واحد أي عام 1852 لكي يضمن حقه في الميراث. وكان لهس اتصال بالأوساط والمجالات الاشتراكية، كما كان صديقاً لكارل ماركس وفردريك إنجلز، ولكنه اختلف معهما بعد فترة قصيرة، كما كان عضواً في أحد المحافل الماسونية، وساهم بعدة مقالات في المجلات الماسونية. وقد أظهر إعجاباً شديداً في مقتبل حياته بالدين المسيحي والحضارة الغربية، وخصوصاً في ألمانيا، ولذلك فقد كان يؤكد أهمية ألمانيا مثل نوردو وجابوتنسكي، واشترك في الثورة الألمانية عام 1848 وحُكم عليه بالإعدام. وقد كان هس واقعاً تحت تأثير روسو وإسبينوزا وماتزيني، ولكن أهم مصادر تفكيره هي الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية.
نشـر هــس عـام 1862 كتاباً كان عـنوانه الأصـلي حياة إسرائيل، ولكنه عدَّل هذا الاسم وسماه روما والقدس. وتَردُّده بين الاسمين ذو دلالة، فالعنوان الأول ديني حلولي صريح وله بُعْد يهودي خالص، أما الثاني فهو حلولي غربي استعماري. وروما التي يشير إليها هس هي روما الثالثة التي كان يشير لها ماتزيني والتي ستُؤسَّس عن طريق بعث القومية الإيطالية، فهو يرى أن ثمة علاقة بين بعث روما في أوربا وبعث القدس في الشرق، ويرى أن ثمة علاقة بين الحركة القومية العضوية والحركة الصهيونية. ويتحدث الكتاب عن الثورة الفرنسية كمَعْلَم أساسي في تاريخ الغرب، فهي تشكل بعثاً اجتماعياً سيؤيد المشروع الاستعماري الصهيوني في الغرب، أي أن هس قام في البداية بتصنيف الصهيونية تصنيفاً صحيحاً لا باعتبارها حركة تنبع من داخل ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» وإنما باعتبارها ظاهرة تنبع من حركيات التاريخ الغربي الاستعماري. والكتاب عبارة عن اثنتي عشرة رسالة إلى سيدة حزينة على فَقْد إنسان تحبه، ولعل هذا يفسر عدم ترابط الأفكار كما يفسر العاطفية الزائدة، وهو كتاب سطحي بشكل عام في أطروحاته ورؤيته السياسية.
يتفق هس مع النقد المعادي لليهودية ولما يسمَّى «الشخصية اليهودية». وقد صرَّح في بداية حياته بأن شريعة موسى ماتت وأن اليهود إذا كان عليهم أن يختاروا ديناً فهو المسيحية فهي أكثر ملاءمة للعصر الحاضر، فهي دين يهدف إلى توحيد كل الشعوب وليس توحيد شعب واحد (كما هو الحال في اليهودية). ورغم أن هس لم يَتنصَّر إلا أنه لم يكن معارضاً تماماً لفكرة التعميد، فالدين اليهودي أصبح، على حد قول هايني، مصيبة أكثر منه ديناً خلال الألفي عام الماضية. بل إن كل الأديان إن هي إلا خطأ إنساني جماعي والدين إن هو إلا تعبير عن حالة مرضية.
ولا يختلف موقف هس من اليهود عن موقفه من اليهودية. ففي أول كتاب له التاريخ المقدَّس للإنسانية، وهو كتاب ذو صبغة مسيحية رومنتيكية، يقول فيه إن اليهود قد أنجزوا مهمتهم الروحية بظهور المسيح برؤيته العالمية. وقد قدَّم تقسيماً لمراحل التاريخ يدور في إطار مسيحي: المرحلة الأولى هي مملكة الإله الأب (التي سادتها المسيحية)، أما المرحلة الثانية والأخيرة فهي مملكة الروح القدس (وهي مرحلة نهـاية التاريخ التي سـيتحقَّق فيها خلاص الجنـس البـشري بأسره)، وينشأ مجتمع اشتراكي كامل تُلغَى فيه الملكية الخاصة وحق الميراث وحكم مامون إله المال ويؤكد التضامن الإنساني نفسه دون أية عوائق، ومن ثم فهو مجتمع يحقق رسالة اليهودية القديمة ولكن في إطار علماني. وليس بإمكان اليهود الآن إلا أن ينضموا كأفراد إلى الحضارة العالمية، تماماً كما فعل إسبينوزا نبي اليهودية الحقيقي. بل إن اليهود سيعودون تحت راياته وسيُنفَخ في الشوفار اليهودي الذي نُفخ فيه حين طُرد إسبينوزا من حظيرة الدين. والقدس الجديدة بهذا المعنى ستبقى هنا في قلب أوربا وليس في فلسطين.
وفي مخطوطة أخرى بعنوان البولنديون واليهود تنتمي للفترة نفسها (1840)، يرى أن البولنديين لهم مستقبل أما اليهود فلا مستقبل لهم لأنهم يعانون من نقص مطلق في الوعي القومي، والبولنديون لن يستسلموا قط لحقيقة تقسيم بولندا على عكس اليهود الذين استسلموا لحقيقة طردهم من فلسطين. ويذهب هس إلى أن اليهود والصينيين حفرية تاريخية لها ماض وليس لها مستقبل، بحيث أصبح الصينيون جسداً بلا روح وأصـبح اليهـود روحاً بلا جسد. ولذا فهو يرى أن الشعب المختار لابد أن يختفي إلى الأبد، فمن اختفائه قد تظهر حياة جديدة ثمينة.
وقد صدرت له كراسة عن رأس المال (1845)، وهي تزخر بالإشارات المعادية لليهود (ويبدو أن ماركس قرأها قبل أن تُنشر وتأثر بها). يقول هس في هذه الكراسة إن أعضاء جماعة يسرائيل كانوا شعباً من الوثنيين، ربهم الأساسي هو مولك الذي كان يطلب منهم دم الضحايا. ولكنهـم، بمـرور الزمن، عبروا من مرحلة قرابين الدم (بالعبرية: دم) إلى مرحلة قرابين النقود (بالعبرية: داميم أي «رسـوم») وهـذه هي أصـول عبادة اليهـود للنقود إذ حلَّت محل مولك. وفي هذه الكراسة، يشير هس لإله يسرائيل باعتباره يهوه ـ مولك. ويصف شلومو أفنيري هذه العبارات بأنها "فرية دم جماعية" لا نظير لها في أدبيات معاداة اليهود. ويُعَدُّ هذا الرفض المبدئي لكل من اليهودية واليهود إحدى المقولات الأساسية الصريحة في صهيونية اليهود وغير اليهود وبُعْداً أساسياً في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.
ثم يذكر هس حقيقة ظهور القومية العضوية كإطار مرجعي في الغرب، فيقول: إن حركة التنوير دعوة للعالمية والإخاء ولكنها يصاحبها زيادة الوعي القومي (في أوربا) وزيادة الإحساس بأن الأمة كيان عضوي متماسك. ومصدر التماسك العضوي للشعوب العضوية هو العرْق، فهو القيمة الحاكمة الكبرى، وهو محرك التاريخ. فالتاريخ إن هو إلا ساحة للصراع العرْقي والطبقي، بل إن الصراع العرْقي هو الغالب. ولذا، تفشل كل محاولات الإصلاح لأنها تتجاهل عنصر العرْق. وهذا التركيز على العرْق أغلق أبواب الغرب تماماً أمام اليهود، إذ لم يَعُد بوسعهم الحصول على تأشيرة دخول الحضارة الغربية عن طريق التنصُّر (كما فعل هايني).
ثم يذكر هس الحقيقة الأساسية في أوربا في عصره وهي أن الشعوب الأوربية اعتبرت وجود اليهود بينها شذوذاً، ولذا سيبقى اليهود غرباء أبداً لا يمكنهم الالتحام العضوي بأوربا، شعباً منبوذاً ومُحتقَراً ومُشتَّتاً؛ شعباً هبط إلى مرتبة الطفيليات التي تعتمد في غذائها على الغير؛ شعباً ميتاً لا حياة له (والمُلاحَظ أن الصور المجازية العضوية تتواتر في كتابات هس كما هو الحال في معظم الأدبيات الصهيونية والنازية والمعادية لليهود). المخْرَج من هذا الوضع هو الصيغة الصهيونية الأساسية التي تطرح فكرة الشعب العضوي المنبوذ، الذي يمكن حل مشكلته عن طريق توظيفه في خدمة الحضارة الغربية التي نبذته. ويبين هس أن اليهود عنصر حركي نافع، فمبدؤهم الرئيسي أن "موطن المرء حيث ينتفع". هذا هو دينهم، وهو أعظم من كل ذكرياتهم القومية إذ يرى أن اليهود متميزون باجتهادهم الصناعي والتجاري. ولذا، فقد أصبحوا مهمين للأمم المتحضرة التي يعيش فيها اليهود. وأصبحوا أمراً لا يمكن الاستغناء عنه لتقدُّم هذه الأمم (وهذا هو وَصفُنا للجماعة الوظيفية).
ولكن اليهود ليسوا جماعة وظيفية وحسب، إذ يجب أن يُعاد إنتاجهم على هيئة شعب عضوي حتى تتمكن أوربا من أن تجد لهم مكاناً في الأرض وتشرف على مشروعهم الاستعماري. ولذا، فهو يرى اليهود باعتبارهم قوماً ينقصهم الوعي القومي. وحيث إن القومية والعرْق أمران مترادفان في عقل هس وفي وجدان أوربا في القرن التاسع عشر (فالعرْق هو مصدر الوحدة العضوية وهو القيمة الحاكمة المرجعية)، وحيث إن الانتماء القومي هو في جوهره انتماء عرْقي، نجد أن هس يشير إلى العرْق اليهودي باعتباره من العروق الرئيسية في الجنس البشري التي حافظت على وحدتها رغم التأثيرات المناخية عليها، كما حافظت السمة اليهودية على نقائها عَبْر العصور. وقد قسَّم هس العالم إلى جنسين أساسيين (السامي والآري) يهدف الأول إلى إضفاء الأخلاق على الحياة ويهدف الثاني إلى إضفاء الجمال عليها (وهو التقسيم الذي قبلته أوربا وقبله النازيون فيما بعد).
ولكن التعريف العرْقي ليس التعريف الوحيد وإن كان هو الأساس. والواقع أن ثمة إشارات في الكراسة تدل على أنه يرى أن الوحدة بين اليهود إثنية (ثقافية) أيضاً على طريقة القومية العضوية، فهو يقول إن هويته القومية ترتبط بتراث أسلافه وبالأرض المقدَّسة وبالمدينة الخالدة. ويرى هس أن ثمة ترابطاً عضوياً عميقاً بين الهوية اليهـودية والدين اليهودي، فالدين أهم أشكال التعبير عن هذه الهوية، أي أنه يرى الدين مكوناً إثنياً وشكلاً من أشكال الفلكلور. ولذا، فقد اقترح هس عدم إدخال أية تغييرات عليه. واستنكر محاولات اليهود الإصلاحيين تحويل اليهودية إلى شيء عالمي أو إلى نسخة ثانية من المسيحية، فهي محاولة محكوم عليها بالفشل لأن اليهودية الإصلاحية لا تُبدي أي شكل من أشكال الاحترام للمقومات الأساسية للقومية الدينية التي تشكل جوهر الدين. فاليهودية دين عقيدة ودين عبادة قومية (على عكس المسيحية)، ولذا فهو يشير دائماً إلى «دين اليهود التاريخي»، أي دين يتبدَّى في الحياة القومية والتاريخية لليهود، والذي لا وجود له كمجموعة من القيم المطلقة المُتجاوزة لهذه الحياة المُنزَّهة عنها.
ويَقرن هس بين الروح المقدَّسـة والعبـقرية الخلاقة للشـعب ويُوحِّدهما، فالواحد هو الآخر. وقد نبعت منها كل من الحياة الإثنية والعقيدة اليهودية، أي أن القومية العضوية أو روح الشعب أسبق من الدين، وما الدين سوى تعبير عن الروح القومية، وهذا يعني أن هس يَصدُر عن صورة مجازية حلولية عضوية ترى ترادفاً بين الدين والقومية، وتجعل الشعب المركز الوحيد للحلول والكمون، ومن ثم فهي حلولية بدون إله. وهكذا تكون قد تمت إعادة إنتاج الجماعة اليهودية في الغرب على هيئة شعب عضوي لا تقبله أوربا، أي شعب عضوي منبوذ.
وطرح المشكلة على هذا النحو يشير إلى الحل وهو نقل الشعب الذي نبذه العالم الغربي وتوطينه في الشرق ليقوم على خدمة الغرب ومن ثم يصبح اليهود جزءاً من التشكيل الاستعماري الغربي بعد أن فشلوا في الانتماء إلى التشكيل الحضاري الغربي. ويشير هس إلى أنه قد تم تعبيد طريق الحضارة في الصحراء بحفر قناة السويس ومد الخطوط الحديدية التي تصل أوربا وآسيا، أي أن طرق المواصلات جعلت الشرق مفتوحاً أمام الغرب. ثم يشير إلى أن الظروف السياسية في الشرق (أي المسألة الشرقية) بدأت تتهيأ لدرجة تسمح بتنظيم عودة الدولة اليهودية للحياة. ولذا، يمكن أن تقوم إحدى الدول الغربية الاستعمارية (فرنسا الحبيبة مثلاً، المُخلِّص الذي سيعيد لشعبنا مكانته في التاريخ العالمي) بتشييد مستعمرات في أرض الأجداد. "فالأمم المسيحية لا تعارض عودة الدولة اليهودية إلى الحياة لأنهم بهذه الطريقة سيتخلصون من شعب غريب يعيش بينهم بعد أن كان شوكة في جنبهم". والدولة اليهودية يجب أن تكون دولة مستقلة مُعترَفاً بها من القانون الدولي (أي القانون الاستعماري الغربي) كدولة متحضرة (أي كدولة استيطانية وظيفية تدور في فلك الغرب الذي يضمن بقاءها واستمرارها وتدافع هي عن مصالحه).
ويَتوصَّل هس لفكرة الدولة الوظيفية، فاليهود سيذهبون إلى أرض الأجداد داخل إطار الحضارة الغربية الاستعمارية. لكل هذا، يرى هس أن اليهـود ينبغي علىهم ألا يطالبوا الإله بأرض الأجـداد من خـلال الصلاة، وإنما يجب عليهم أن يتحلوا بالشجاعة ويطلبوا هذه الأرض من الإنسان الغربي، وأن ينسلخوا عن اليهودية وينخرطوا في التشكيل الاستعماري الغربي (ذلك أن هس صهيوني يهودي غير يهودي). ويبين هس مدى نفع الدولة الوظيفية الجديدة، فاليهود يُكوِّنون "مركز اتصال بين القارات الثلاث... [وهم] حملة الحضارة إلى شعوب لا تعرفها... الوسيط بين أوربا وآسيا البعيدة، وذلك كي يمهدوا الطرق التي تقود إلى الهند والصين، لكل المناطق المعزولة التي يجب أن تُعرَّض للحضارة ". كما أنهم سيعطون الدولة العثمانية بعض المال الأمر الذي سيحد من تداعي الإمبراطورية (وهو ما كان يُهم فرنسا آنذاك).
ويَتوصَّل هس إلى مفهوم الصهيونيتين، فيميز بين يهود الشرق ويهود الغرب، فالمشروع الصهيوني لا يعني أن يهاجر يهود الغرب كلهم إلى فلسطين، ذلك أن أغلبية اليهود الذين يعيشون في بلدان متمـدنة في الغـرب لابد أن يبقـوا في بلادهـم بعد تأســيس دولة يهودية، فقد نجحوا في شق طريقهم بجهد بالغ وحققوا لأنفسهم مركزاً اجتماعياً وسوف لن يتخلوا عن أي نجاح حققوه. ولكنهم، مع هذا، سيساندون الشعب اليهودي من شرق أوربا (أي يهود اليديشية) في مهمته التاريخية، أي أنه حدد لهم دورهم في الحركة الصهيونية باعتباره صهيونية توطينية. "أما في تلك البلاد التي تؤلف الخط الفاصل بين الغرب والشرق، أي روسيا وبولندا وبروسيا والنمسا وتركيا، فالملايين من إخواننا يتضرعون إلى الإله بحماس كي يعيد المملكة اليهودية.
لقد حافظ هؤلاء اليهود على بذرة الحياة اليهودية [الحياة الجيتوية] بإخلاص أكثر من إخواننا في الغرب". لقد توجَّس هس خيفة من البداية من أن المادة البشرية المطلوبة للمـشروع الاسـتعماري قد لا تكون طيـعة وقد لا تهاجر، ولذا فهو يقول: "إن عدد اليهود الذين سيسكنون الدولة ليس أمراً مهماً، فاليهود عبر تاريخهم يعيشون في كل مكان، وكل دولة مستقلة لها مواطنون يعيشون في أرض أجنبية" أي أنه لا يطالب بتصفية الدياسبورا.
هذه هي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. ولكن هس كان مدركاً أنها في حد ذاتها لا تكفي، ولذا فلابد من زيادة مقدرتها التعبوية بإضافة ديباجات وأبعاد مختلفة، يقول هس إن دولة اليهود الجديدة ستوفر لهم الكرامة والاحترام والشرف، وسيتم تطبيعهم إذ سيُحوِّلهم حصولهم على أرض إلى أفراد، عمال نافعين، وسيُسهم رأسمالهم وعملهم في إعادة الحياة للأرض القاحلة، أي أنهم سيتحولون إلى مادة استيطانية ناجحة بيضاء. ثم يستخدم هس ديباجات إثنية دينية، فيؤكد أن هذا البعث القومي سيؤدي لا إلى إصلاح اليهود وحسب وإنما إلى إصلاح اليهودية نفسها، فعبقرية اليهود الدينية لن يعيدها إلا نهضة قومية (والقومية على كلٍّ أسبق من الدين). كما أن هذا الجفاف الديني سيختفي عندما تستيقظ الحياة الوطنية المنطفئة.
وعندما يتغلغل تيار التطور الوطني القومي التاريخي الحر ثانيةً داخل تلك الشكليات الدينية المتزمتة. "فإذا حققنا هذه الخطوة الرئيسية لأمكننا التغلب على الصعوبات مهما بلغت.... ويمكننا بهذه الروح الوطنية تحرير الشعب اليهودي من الشكليات المميتة للروح". بل إن البعث القومي سيغير شكل التعبير الديني ذاته في المستقبل، فمن المؤكد أن اليهود سيختلفون في تعبيرهم الديني عما هو عليه في الحاضر وعما كان عليه في الماضي. بل إن هس يتنبأ بأنه بعد البعث القومي، وإنشاء دولة يهودية، سيقام سنهدرين منتخب يقوم بتعديل الشريعة اليهودية حسب احتياجات المجتمع الجديد (وهو الأمر الذي حَدَث بالفعل).
وإلى جانب الديباجة الإثنية، هناك الديباجة العمالية الأممية الإنسانية، "واليهودية القومية لا تستبعد النظرة العالمية، بل العكس هو الصحـيح، فالعــالمية هي النتيـجة المنطقية لصفات اليهود القومية". بل إنه "لا يوجد شعب غير اليهود له دين يربط العناصر القومية والعالمية والتاريخية معاً، فاليهود إذن هم وحدهم شعب الإله". ولقد أصبح تاريخ الإنسانية مقدَّساً من خلال اليهودية. فالتاريخ أصبح تطوراً عضوياً ومُوحَّداً يعود في أصله إلى حب الأسرة. وسوف لا يتم هذا التطور إلا إذا أصبحت الإنسانية كلها أسره واحـدة يتحـد أعضـاؤها بالروح القـدس وبإبداع التاريخ العبقري. والواقع أن هناك حتمية وراء اختيار اليهود لطريق العدالة في مجتمعهم، فهم طفيليون منبوذون يشعرون بالحاجة إلى ظروف عمل عادلة وصحيحة.
ولذا، فهم بحاجة إلى أرض حتى يتحولوا من طفيليين هامشيين إلى عمال نافعين، ووجود مثل هذه الأرض التي ستشكل الوطن المشترك شرط أساسي لإدخال علاقة صحيحة بين رأس المال والعمل عند اليهود. وسيزداد تحقيق العدالة في المجتمع إن اعتمد على اسـتغلال الإنسـان للطبيعة بدلاً من اسـتغلال الإنسان للإنسان، وسيتحقق هذا من خلال التقدم العلمي. ففي الماضي، كانت الندرة مصدر الصراع الطبقي والعرْقي. ولذا، ومع تحقيق الوفرة من خلال تَقدُّم وسائل الإنتاج والعلم، ستختفي هذه الصراعات وستزول الحاجة لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وسيختفي العداء بين الطبقة الرأسمالية والطبقة المنتجة، بل ستختفي الاختلافات بين النظرة الفلسفية والبحث العلمي، وسيتحد الذات والموضوع تماماً.
وسيصبح الفاعل الفلسفي هو نفسه القانون العلمي، أي أن التاريخ والطبيعة سيتحدان وتتحقق الواحدية المادية الكونية في لحظة نهائية مطلقة في سبت التاريخ أي نهايته. ومن الواضح أن المشيحانية تحوَّلت هنا إلى عقيدة هيجلية علمانية. وفيما يتصل بالسكان الأصليين، فهناك ما يشبه الصمت بشأنهم، وحينما تحدَّث هس عن الأعراق في أوربا، فقد تحدَّث عن اختلافها لا عن تفاوتها، ولكنه حينما انتقل إلى الشرق فإنه يؤكد التفاوت فيما بينها حتى يُكسب مشروعه الصهيوني الشرعية الغربية الإمبريالية اللازمة. فاليهود سيجلبون الحضارة للمتخلفين وعليهم أن يعملوا على تثقيف القطعان العربية المتوحشة والشعوب الأفريقية وأن يجعلوا القرآن والإنجيل يتحلقان حول التوراة.
وقد سـمع هس، قبل نشر كراسـته، عن كتـابات كاليــشر فنوَّه بها وبيَّن أنها علامة على البعث القومي الجديد، كما كان يرى ذلك في الحسيدية (فرَفْضُها الاندماج علامة على حيوية اليهودية الحديثة). وقد وصـف الزعيم الإصلاحي أبراهـام جايـجر كتابات هـس بأنها "ليست الولادة لعصر جديد، بل القبر المفتوح لعهد مضى". وقد ساهم هس في بعض الأعمال التمهيدية للاستيطان، فاشترك في تحقيق مشروع المدرسة الزراعية قرب يافا والذي تبنته الأليانس. وقد تُوفي هس عام 1875، ونُقلت رفاته إلى إسرائيل. وإلى جانب الدراسات التي أسلفنا الإشارة إليها، كَتَب هس في الاشتراكية وله كتاب المادية الدينامية يضم آراءه العلمية المقتبسة عن النظرة الحيوية.
يتبع إن شاء الله...