الباب الحادى عشر: عبادة يسرائيل
عبـادة يســرائيل والعبــادة القربانيــة المركزيـة
Israelite Cult and the Central Sacrificial Cult
«عبادة يسرائيل» أو «العبادة القربانية المركزية» مصطلح يُستخدَم للإشارة إلى ديانة العبرانيين (جماعة يسرائيل) منذ ظهورهم على مسرح التاريخ حتى التهجير البابلي. وقد اكتسبت هذه الديانة صفات محدَّدة أثناء فترة التجوال في الصحراء، وتعدلت بعد فترة التسلل في كنعان، ونضجت تحت تأثير رؤى الأنبياء، وفي فترة بابل. وبعد العودة من بابل، بدأت تنقيتها من العناصر القديمة. وبدأت عملية التحول على يد عزرا ونحميا، وساهم الفريسيون فيها، ثم قضى عليها هدم الهيكل تماماً حتى تحولت عبادة يسرائيل إلى العقيدة اليهودية أو اليهودية الحاخامية.
وتعود عبادة يسرائيل إلى الديانات السامية القديمة، وهي ديانات حيوية حلولية تؤمن بأن العناصر الطبيعية، مثل الأحجار والمياه والأشجار والجبال، لها حياة مستقلة وتؤثر في حياة الأفراد. وتصل بعض هذه الكائنات إلى درجة خاصة من القداسة بحيث تحل فيها آلهة ينبغي على الإنسان أن يعبدها ويتقرب إليها. وتُعتبَر الطوطمية من المصادر الأخرى لعبادة يسرائيل، وهي الاعتقاد بأن حيواناً ما هو حامي القبيلة وربما سلفها أي جدها الأكبر. وتكتسب الآلهة في عبادة الساميين القدامى صفات إنسانية، فتتناحر فيما بينها وتنقسم إلى ذكور وإناث. ويبدو أن عبادة الأسلاف كانت، هي الأخرى، أحد المكونات الأساسية لعبادة يسرائيل. كما أن ثمة إشارات عديدة للتيرافيم (الأصنام)، وهي تماثيل لها علاقة بالخصوبة بين الإناث.
ورغم أن إبراهيم أول من رفض الشـرك حسـب التصور التوراتي، فإن العهد القديم يقرر أيضاً أن التوحيد الحق جاء بعد خروج العبرانيين (أو جماعة يسرائيل) من مصر. ففي هذه المرحلة يكشــف يهوه عن نفـســه لموسى أثنـاء إقامـة العـبرانيين في أرض مدين، وتدخل يسرائيل في ميثاق مع الرب (العهد). وقد خطى التوحيد خطى واسعة بين العبرانيين، ولكن العبادة لم تكن توحيدية خالصة، بل كانت مقصورة على إله واحد، ولكن ثمة إشارات إلى أنه أعظم من الآلهة الأخرى. كما أن أعضاء جماعة يسرائيل كانوا دائمي العودة إلى طرق الشرك القديمة، فقد عبدوا العجل الذهبي وهم بعد في سيناء.
وحينما تسلل العبرانيون إلى كنعان (فلسطين) (1250 ق.م)، تراجع التوحيد عدة درجات، وبدأت الرؤية الحلولية تترسخ. فالعبرانيون كانوا رعاة ثم تعلموا الزراعة من الكنعانيين وتأثروا أيضاً بأعيادهم الزراعية إذ كان يستحيل فصل التكنولوجيا عن الدين في ذلك الوقت. ومن هنا، ظهرت الأعياد الزراعية المختلفة مثل عيد المظال. كما تَعلَّم العبرانيون بعض رقصاتهم ذات الطابع الجنسي الواضح، وبعض قوانين الطعام مثل عدم طبخ الجدي في لبن أمه، كما عرفوا كثيراً من الشعائر المرتبطة بالزراعة، وعبدوا آلهة كنعان الوثنية وسقطوا في الشرك الواضح. ومن هنا، كانت الثورة الدائمة من قبَل الأنبيـاء عليـهم ودعوتهم إلى العـودة إلى طريق التوحيـد. وفي هذه العبادة، ظهرت خيمة الاجتماع، وكان تابوت العهد يُوضَع داخلها. وكانت هناك شعائر أخرى، مثل: الاحتفال بظهور الهلال ومجيء الربيع (عيد الفصح)، والتضحية بكبشين في عيد الغفران، والختان.
ويمكن على مستوى من المستويات أن نقسم عبادة يسرائيل إلى مرحلتين، تنتهي المرحلة الأولى (في 1000 ق.م) مع التسلل إلى كنعان، وبعد أن نُقلت العناصر الشعائرية من المدن المقدَّسة وتم تأسيس المملكة العبرانية المتحدة وتحويل أورشليم (القدس) إلى عاصمة لهذه العبادة وبناء الهيكل الذي أصبح مركز العبادة القربانية. ثم تبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة العبادة القربانية المركزية. وكان الكهنة هم العمود الفقري في عبادة يسرائيل، والقائمين على العبادة القربانية. وقد تزايد نفوذهم بعد العودة من بابل وبعد أن بُعثت العبادة القربانية المركزية، وخصوصاً بعد اختفاء النظام العبراني للملكية التي لم يسمح الفرس بعودتها. وتتضح قوة الكهنة في جماعة الصدوقيين المرتبطة بالعبادة القربانية.
ومن أهم سمات عبادة يسرائيل، تقديم القرابين (وقد كان ذلك يتم في الهيكل، ومن هنا جاءت التسمية). وقد كانت تُقام شعائر يومية في الصباح وعند الغروب حيث كان الكهنة يقومون بتقديم حَمَل وقرابين أخرى للإله (كما كان الحال في ديانات الشرق الأدنى القديم). وكانت القرابين أنواعاً مختلفة. وكلمة «قربان» كلمة سامية ويُقال لها أيضاً «منحة». وتقديم القربان (البقر والخراف وبواكير الثمر) كان ضمن شـعائر التقـرب من الإله حيث يلعب الدم دوراً مهماً. ولذا، فقد كان الدم يُنثر على المذبح حتى نهاية مرحلة العبادة القربانية أو عبادة يسرائيل، وتُحرَق القرابين أمام الهيكل. وفي بداية الأمر، كان العبرانيون يقدمون القرابين في أي مكان ثم أصبح ذلك مقتصراً على الهيكل، وكانوا يضحون بالحيوانات (حيث كانت عملية التضحية تُسمَّى «زبَح» أي «الذبح»)، كما كانوا يتقدمون بالنباتات وبالطعام والبخور والخمور. وكانت هناك قواعد صارمة تتصل بعمر ولون الحيوان الذي سيُضحَّى به. وقد كان تقديم القربان هو الحدث اليومي عميق الصلة بالمعبد، فكان يُقدَّم واحد في الصباح وآخر في المساء، وكان يصحب القرابين احتفال طويل وشعائر يقوم بها الكهنة.
وتُقسَّم القرابين إلى عدة أنواع، منها: قرابين التكفير، وقرابين السلام، والقرابين التي تُقدَّم عند ولادة البكر، وأعشار الحيوانات، والمحاصيل، وقربان عيد الفصح. وكان تقديم القرابين إلى يهوه يدل على الارتباط بين الشعب والإله وعلى وجود يهوه بين الشعب. وقد هاجم الأنبياء (وخصوصاً عاموس وإرميا) العبادة القربانية، وذكَّروا اليهود بأن أسلافهم لم يُقدّموا قرابين في الصحراء، وطالبوهم بأن يعبدوا الإله بقلوبهم وبالصلاة إليه (قربان الفم).
وقد انتهت عبادة يسرائيل، ومنها العبادة القربانية كما أسلفنا، بهدم الهيكل (70م). ومع هذا، دوَّن الحاخامات القواعد الخاصة بتقديم القرابين بكل تفاصيلها، وذلك نظراً لإيمانهم بأن إعادة بناء الهيكل أمر سـيتم في المسـتقبل. وقد حلَّت، في نهاية الأمر، شـعائر الصلاة والصوم، التي كان بالإمكان إقامتها في المنزل والمعبد، محل العبادة القربانية التي كانت تدور حول الهيكل. ورغم أن النسق الديني اليهودي قد تَطوَّر بعيداً عن العبادة اليسرائيلية، فإن هذا التطور قد استغرق مرحلة زمنية طويلة. ولم يستقر كثير من العقائد الدينية الأساسية في اليهودية، مثل الإيمان بالثواب والعقاب والبعث، إلا في مراحل متأخرة، بل إن بعضها لما يستقر حتى الآن. وهذا يفسر عدم تَجانُس النسق الديني اليهودي (الخاصية الجيولوجية) وصعوبة تعريف الهوية اليهودية.
وقد تركت عبادة يسرائيل (العبادة القربانية) أثراً عميقاً في التطور اللاحق لليهودية يتجلى في تركيزها الشديد والحرفي على الشعائر وعلى شكلها دون الاهتمام بالروح والمعنى. ومن المعروف أن ثُلث الأوامر والنواهي، وهي ستمائة وثلاثة عشر، تتناول العبادة القربانية وجوانب أخرى من العبادة في الهيكل. كما أن جزءاً من التلمود والصلوات اليومية مرتبط بالعبادة القربانية. ويبدو أثر العبادة القربانية في الاهتمام الشديد بقواعد الطهارة والنجاسة في اليهودية. وقد تَركَّز هجوم السيد المسيح على اليهودية في هذه الناحية. ولعل هذا الجانب في اليهودية هو ما يُفسِّر سبب تَأخُّر صياغة العقائد اليهودية حتى ظهور سعيد بن يوسف الفيومي ثم موسى بن ميمون. وتدور اليهودية الحاخامية حول طريقة العبادة لا حول مضمونها. فعلى سبيل المثال، يجب على اليهودي أن يغسل يديه قبل الأكل وبعده، ويتلو المؤمنون بالقبَّالاه أدعية يُفهَم منها أنها مُوجَّهة إلى كل من الإله والشيطان كقوتين متساويتين. لكن مثل هذا الدعاء، لأنه ينصرف إلى المعنى وحسب، ليس مهماً، فما يهم هو الطريقة نفسها التي يتم على أساسها غسل اليد. ويظهر هذا بشكل أكثر وضوحاً في الشماع، فاليهودية الأرثوذكسية أعطتها معنى مختلفاً تماماً عن معناها في التراث القبَّالي، ثم جاءت اليهودية المحافظة وأعطتها معنى ثالثاً. ولكن، من منظور شعائري، لا تهم الاختلافات في المعنى والتفسير، فما يهم هو طريقة تلاوة الشماع. ولذا، لا يعترض الأرثوذكس على التفسيرات القبَّالية التي تعطي مضموناً غير توحيدي لشهادة التوحيد اليهودية، ولكنهم يعترضون وبشدة حين يتلون الشماع بالإنجليزية، أي حين يغيرون طريقة التلاوة.
ويمكن القول، على مستوى من المستويات، بأن الصهيونية هي علمنة للعبادة القربانية الحلولية، فقد جعلت من الدولة شيئاً يشبه الهيكل القديم (يطلق الصهاينة على إسرائيل مصطلح «الهيكل الثالث»)، حل فيها الإله وهي محط اهتمامهم أينما وُجدوا، ولا يهم إن كانوا يعبدون الإله أو لا وإنما المهم هو تقديم القرابين إلى هذا الوثن الجديد. وتأخذ القرابين الآن شكل شيك يُدفَع للمنظمة الصهيونية العالمية فيما يُسمَّى «يهودية دفتر الشيكات». وقد تحولت المعابد اليهودية إلى ما يشبه الفروع للهيكل الجديد في محاولة لتجنيد اليهود للعبادة القربانية الجديدة.
ولعل نجاح هذه العبادة يعود إلى أنها تستطيع التعايش مع الرؤية العلمانية الشاملة، فهي لا تتحداها ولا تطلب إلى المؤمن أن يغيِّر سلوك حياته. وعلى كلٍّ، فإن كليهما يرى القداسة شيئاً كامناً في المادة غير متجاوز لها. وقد سجَّل كثير من الحاخامات احتجاجهم على هذا الاتجاه الذي سيودي بالديانة اليهودية كعقيدة، إذ أن يهود الولايات المتحدة يعبِّرون عن يهوديتهم لا عن طريق الإيمان بالقيم الدينية اليهودية أو الالتزام بها وإنما عن طريق تقديم القربان/الشيك. وقد أطلق أحد الحاخامات على الصهاينة لقب «يهود النفقة»، وهو ما يعني أن اليهود يدفعون نفقة لمطلقتهم، ربما لاتقاء شرّها!
وقد بدأت خطوات جادة نحو إعادة العبادة القربانية والهيكل في إسرائيل. وهناك مدرستان تلموديتان تضمان مائتي دارس يتعلمون التفاصيل المركبة الخاصة بالعبادة في الهيكل. كما أن هناك جماعات أخرى تَدرُس أنساب الكهنة اليهود حتى يمكن تحديد الشخص المُؤهَّل لتقديم القرابين. ولقد عُقد في عام 1990 مؤتمر يضم اليهود الذين يعتقدون أنهم من نسل الكهنة. وهناك معهد خاص يُسمَّى «معهد الهيكل» قام بأبحاث وأعد ثمانيا وثلاثين من الأدوات اللازمة لإقامة العبادة القربانية، وهو في طريقه إلى إعداد الأدوات الخمس والستين المتبقية. كما تم إعداد الملابس اللازمة للكهنة، وهي ملابس تُنسَج يدوياً من التيل.
القــرابين
Sacrifice
انظر: «عبادة يسرائيل والعبادة القربانية المركزية».
الكهنــــة والكهانـــة
Priests and Priesthood
الكاهن في العبرية هو «كوهين» وهو سبيل الكهانة: الأداة المقدَّسة المختارة للوساطة بين الإنسان والخالق. ويرتبط تاريخ الكهانة بين العبرانيين بظهورهم في التاريخ إذ يبدو أن كل رب أسرة عبرانية، وأول الذكور فيها، كانا يقومان بدور الكهان. وقد ظل هذا الوضع قائماً حتى زمن الخروج من مصر أو الهجرة منها حين انحصرت الكهانة في قبيلة اللاويين، لأن آباءهم رفضوا عبادة العجل الذهبي. ولكن يبدو أن أسرة هارون كانت تشغل، في بداية الأمر، مركزاً متميِّزاً داخل قبيلة لاوي، فقد كان أعضاؤها المسئولين الفعليين عن الأضاحي والإشراف على الطهارة. وفي معظم الأحيان، كان يتم اختيار كبير الكهنة من بينهم، وقد كان كبير الكهنة هو الذي يتلفظ باسم الإله في قدس الأقداس. ويبدو أن هذا النظام مقتبس من النظام المصري القديم للكهانة في تخصيص أسرة للقيام بأعمال الكهانة وخدمة الدين والمعابد وبالجوانب السرية الخاصة في العلاقة بين الإله وأتباعه.
وثمة نظرية تذهب إلى أن أسرة هارون كانت أصلاً أسرة كهنوتية مصرية. وقد ظهر تَوتُّر بينهم وبين بقية أعضاء القبيلة بسبب احتكارهم أهم الشعائر. ولكن الفريقين اندمجا بمرور الزمن وأصبح الكهنة العمود الفقري لليهودية، وخصوصاً بعد إنشاء الهيكل وتَمركُز العبادة القربانية حوله.
وكانت الكهانة، باعتبارها السلطة الدينية، متداخلة تماماً مع السلطة الدنيوية كما هو الحال في عصر القضاة (حوالي 1250 ـ 1020 ق.م). وبظهور حكم الملوك، أصبح رئيس الدولة هو الكاهن الأعظم. ولكنه، نظراً لانشـغاله كان يُعيّن مندوبين عنه لممارسـة هذه المهمة، فبدأ يظهر شيء من الانفصال بين السلطتين. ومع هذا، ظل الكهنة (ممثلو العبادة القربانية ومصدر أكبر دخل للدولة) قريبين من السلطة الدنيوية ومرتبطين بها أشد الارتباط. ولذا، كان الصراع ينشب دائماً بينهم وبين الأنبياء، وهم مفكرون دينيون أحرار جاءوا أساساً من صفوف الشعب.
وقد زاد تداخل السلطة الدنيوية والسلطة الدينية في مرحلة ما بعد العودة من بابل إذ اضطلع كبير الكهنة بوظائف دنيوية باعتباره ممثلاً محلياً للقوة الإمبراطورية الحاكمة. كما اضطلع الكهنة بمعظم الوظائف الإدارية والسياسية نظراً لعدم ثقة الفرس في أبناء الأسرة الحاكمة العبرانية. واستمر نفوذ الكهنة في الإمبراطورية اليونانية قوياً، سواء في الشام أو في مصر، إذ كانوا يلعبون دوراً أساسياً في الحضارة الهيلينية. وكان الكاهن الأكبر يُعيَّن مدى الحياة. ولكن أنطيوخوس الرابع (السلوقي) (175 ـ 164 ق.م) أنهى هذه العادة، وأصبح من الممكن خلع الكاهن الأكبر وتعيين كاهن آخر. وقد ظهرت طبقة من الكهنة المتأغرقين الذين قاموا على خدمة الدولة الهيلينية، فأضعف هذا الوضع هيبة الكهنة وسلطانهم. ذلك أن الكهنة في الحضارة الهيلينية رغم أهميتهم، كانوا يُعَدّون بمنزلة الخدم لا القادة. وقد انعكس هذا على مكانة الكهنة اليهود.
وحينما قامت الأسرة الحشمونية (164 ق.م)، أصبح رئيس الدولة قائد القوات والكاهن الأعظم في آن واحد. وتُعَدُّ هذه الفترة الزمنية قمة ازدهار المؤسسة الكهنوتية. وظهرت إبان حكم الأسرة الحشمونية فرق يهودية مختلفة من أهمها الصدوقيون الذين كانوا أساساً من كبار الكهنة وأعضاء السنهدرين ويمثلون مصالحهم. وظهر في المقابل فريق الفريسيين الذين أكدوا الجانب الروحي في اليهودية على حساب الجانب القرباني مع أنهم كانوا يضمون في صفوفهم بعض الكهنة من متوسطي الحال. وقد ازداد الفريسيون شعبيةً وازداد الكهنة عُزلةً، وخصوصاً أنهم تحولوا إلى أُلعوبة في يد الحكام، وظهرت بينهم صراعات عديدة كما حدث في حالة الكاهن الأعظم أونياس الرابع الذي فرَّ إلى مصر وأسس هيكلاً وعبادة قربانية مستقلة فيها (145 ق.م) وذلك بتشجيع من البطالمة أعداء حكام فلسطين السلوقيين. وعند تَولي هيرود الحكم (37 ق.م)، لم يكن بوسعه أن يضطلع بدور الكاهن الأعظم لأنه كان من أصل أدومي، فكان يعيِّن كبير الكهنة على هواه. وقد شهدت هذه الفترة تَزايُد انتشار اليهود خارج فلسطين بحيث فاق عددهم خارجها عدد من يقيمون داخلها. ومعنى هذا أن العبادة القربانية (ونخبتها الكهنوتية) فقدت كثيراً من مقومات وجودها. فهي تعتمد بالدرجة الأولى على جماعة بشرية متماسكة تعيش بجوار الهيكل أو حوله فتُموِّله، ويشكل هو رمز وحدتها القومية تحت حكم الإله القومي.
ويُلاحَظ أن الاستقطاب الطبقي الذي كان يسم المجتمع العبراني اليهودي في ذلك الوقت، انعكس في صفوف الكهنة، وقوَّض نفوذ المؤسسة الكهنوتية في الداخل، فكانت الأرستقراطية الكهنوتية المتأغرقة (التي كانت تقيم في القدس) تختلف كثيراً في موقفها وموقعها عن فقراء الكهنة الذين كانوا يعيشون في الريف (السامي الآرامي) على عملهم وعلى الصدقات. وأثناء التمرد اليهودي الأول (66 ـ 70)، حينما سيطر الغيورون على القدس، قاموا بطرد الكهنة وذبحوا بعضاً منهم واختاروا كاهناً أكبر من بين فقراء الكهنة. ولذا، حينما هدم تيتوس الهيكل عام 70م، كانت الأوضاع التاريخية مواتية تماماً لاختفائهم ولظهور الحاخام باعتباره شخصية أساسية بين اليهود. ولعل أهم الأسباب الأخرى لاختفائهم هو تدوين الشريعة، إذ أصبح الكتاب المقدَّس مركز العبادة بدلاً من العبادة القربانية.
وقد لعب الكهنة دوراً مهماً في تطوير اليهود واليهودية إذ وضعوا أنفسهم وسطاء بين الناس والإله، فلم تكن تُقبَل توبة ولا قرابين إلا إذا باركها الكاهن لأن مفتاح السماء كان في يده، ولم يكن أحد غيرهم يستطيع تفسير الطقوس أو الشعائر الدينية تفسيراً آمناً من الخطأ. وكانوا يفصلون في الأمور القضائية عن طريق استخارة الرب ويضطلعون بدور الطبيب (الساحر) الذي يشفي الأمراض. وكان فريق منهم يحمل تابوت العهد أثناء تجوال العبرانيين وحروبهم، ثم أصبحوا بعد ذلك كهنة الهيكل. ويبدو أن الكهنة مرتبطون بالعناصر الوثنية داخل النسق الديني اليهودي، فقبيلة لاوي كانت تقدِّس الحية. وقد أُدخل هذا التقديس على اليهودية، فأقاموا تمثالاً نحاسياً لها زاعمين أنها من عمل موسى، إلى أن أزالها حزقيا بن آحاز (ملوك ثاني 18/4). كما نقل الكهنة كثيراً من العقائد الوثنية كتقديس بعض المرتفعات والأشجار، وهي عملية تركت أثرها في اليهودية. والكهانة اليهودية تُورَّث. وقد أدَّى هذا إلى أن الكهنة كونوا طبقة مغلقة لا يستطيع أحد من خارجها أن ينتمي إليها، حتى أصبحت كلمة «لاوي» مرادفة لكلمة «كوهين». ولعل انغلاقهم هذا هو الذي أدَّى إلى تماسكهم وإلى دفاعهم عن العزلة الدينية اليهودية، وخصوصاً أنهم كانوا يكوِّنون بالمعنى الحرفي للكلمة طبقة لا يمكنها أن تحتفظ بوجودها إلا في ظروف الانغلاق.
ولم يكن من حق الكهنة أن يرثوا مالاً أو يمتلكوا أرضاً. ولكنهم كانوا يُعفَون من الضرائب والإتاوات على اختلاف أنواعها، ويأخذون العشـور على نتـاج الضـأن وأول ما يُحصَد من الأرض (بالعبرية: بكوريم)، وينتفعون بما يبقى في الهيكل من القرابين. ومما يذكر، أن الكاهن كان عليه أن يحتفظ بطهارته فلا يتزوج من امرأة مطلقة ولا من زانية أو أرملة ولا من امرأة أبواها غير يهوديين بالمولد، أي أن طهارة الكاهن تقتضي أن يتزوج من امرأة طاهرة مثله تماماً. كما أن طهارة الكاهن تمنعه من لمس الموتى (إلا أقرب أقاربه) أو حتى السير فوق أرض دُفن فيها أحد.ورغم أن مؤسسة الكهانة قد اختفت في اليهودية تماماً مع هدم الهيكل على يد تيتوس، ومع اختفاء العبادة القربانية، ومع أن اليهودية لا تقبل، على المستوى النظري، الوساطة بين الخالق والمخلوق، فإن مؤسسة الكهانة استمرت بعد أن أخذت شكلاً جديداً هو الحاخامية حيث يحل الحاخام محل الكاهن.
ويعود هذا إلى الأسباب التالية:
أ) رغم اختفاء الهيكل والعبادة القربانية المركزية، إلا أن الرؤية الحلولية التي تشكل الإطار العقائدي لمؤسسة الكهانة ظلت قائمة بل زادت حدة. ولذا، تعمَّق الإحساس لدى اليهود بأنهم الشعب المختار، وأنهم أمة من الكهنة والقديسين والأنبياء اختارهم الإله ليكونوا بمنزلة الكهنة للشعوب الأخرى.
ب) بانتشار اليهود خارج فلسطين وتحوُّلهم إلى جماعات وظيفية منعزلة مغلقة، تشابكت السلطة الدنيوية والسلطة الدينية مرة أخرى حتى أن الحاخام (مع أنه لم يكن كاهناً) كان القائد الديني الفعلي للجماعة اليهودية الذي يقوم بشئون الإفتاء الديني والتجارة وإقراض المال والأعمال المالية والقضاء والزواج وفض المنازعات والإشراف على تنفيذ القوانين الخاصة بالطعام وبالعديد من المهام الدينية الاجتماعية الأخرى.
ومن الصعب تحديد مَن من نسل هارون و مَن من قبيلة اللاويين في وقتنا الحاضر، إذ تُوجَد قطاعات كبيرة من اليهود، وخصوصاً اليهود الأرثوذكس، يؤمنون بأن كل يهودي يُسمَّى «كوهين» لابد أن يكون من نسل اللاويين، وكذلك كل من يدعى «كاتس»، باعتبار أن اسمه اختصار لتعبير «كوهين تساديك»، وكذلك من يدعى «سيجال» فهو اختصار «سيجان ليفي» أي «نائب اللاوي أو مرافقه». ومن المفروض أن كل اليهود الذين يحملون هذه الأسماء تنطبق عليهم قوانين الكهانة، فهم يقفون في المعابد اليهودية أثناء صلوات أيام الأعياد وفي أيام السبت فيغطون وجوههم ويباركون الناس، ولهم الأولوية في أن يقرأوا التوراة في المعبد متخطين بقية المصلين ومنهم اللاويون. ولا يزال الكهنة يتلقون ما يُسمَّى «فدية البكريّ». ففي الماضي كان على اليهودي أن يكرس ابنه البكر لخدمة الرب، ولكن أُعفي أبكار الأسر من هذه المهمة بعد قيام سبط اللاويين بأعباء الكهانة نظير فدية يقدمها الآباء للكهنة عند إنجابهم أبكاراً ذكوراً. كما لا تزال قوانين عدم لمس الموتى قائمة، ولذلك تُخطَّط المدافن اليهودية بطريقة تجعل بإمكان الكاهن أن يزور أقاربه دون أن تُدنَّس طهارته.
وتُسبِّب كل هذه الشعائر مشاكل للدولة الصهيونية. فعلى سبيل المثال، ونظراً لأن من المحظور أن يجمع سقف واحد بين الكاهن وجثة ميت، فقد اضطرت مستشفى الهاداساه في إسرائيل إلى استخدام أبواب دائرية للمشرحة الملحقة بالمستشفى حتى تكون بمنزلة حاجز دائم بين الكاهن الذي يزور أقاربه في المستشفى والجثث الموجودة في المشرحة، فالباب العادي لا يمكنه أن يؤدي هذه الوظيفة الدينية. وقد واجه الإسرائيليون المشكلة نفسها بشكل آخر بعد استيلائهم على طريق القدس - الخليل، فهذا الطريق قد بناه العرب دون أي اعتبار للتحريمات اليهودية الخاصة بالكهانة. ولهذا، فإن الطريق يمر ببعض المقابر اليهودية، الأمر الذي يجعل استخدام هذا الطريق غير الطاهر محظوراً على الكهنة. ولهذا، فقد ثُبتت لافتة تعطي إشارات إلى طريق بديل «طاهر».
ولا تزال قوانين الزواج الخاصة بالكهنة سارية المفعول، وهو ما يُسبِّب زيادة المامزير أي الأطفال غير الشرعيين في إسرائيل، ويجعل الحياة صعبة لكل من يحمل اسم «كوهين» أو «سيجال» أو «كاتس»، وخصوصاً أن كثيراً منهم لا يعرف هذه القوانين اليهودية. ولا تعترف اليهودية الإصلاحية أو المحافظة بأي قانون من قوانين الكهنة هذه. وقد بدأت الدولة الصهيونية في العودة إلى شيء يشبه العبادة القربانية التي تدور حول الهيكل، ومن ثم عاد الاهتمام بالكهنة. وتُوجَد مدرستان تلموديتان بالقرب من حائط المبكى يدرس فيهما نحو مائتي طالب شعائر العبادة القربانية للقيام بها عند إعادة تشييد الهيكل. وقد بدأت مجموعة من الإسرائيليين في البحث عن شجرة العائلة الخاصة بالكهنة اليهود حتى يتم تقرير من هو المؤهل للقيام بهذه الشعائر (لعله يكون من نسل هارون أو صادوق). كما عُقد عام 1990 مؤتمر في إسرائيل لليهود الذين يعتقدون أنهم من أصل كهنوتي. وبدأ معهد الهيكل في إعداد الملابس الخاصة التي يتعيَّن على الكهنة ارتداؤها.
كوهين
Cohen
«كوهين» كلمة عبرية تعني «كاهن» ويُعتبَر حامل هذا اللقب سليل الكهنة ومن نسل هارون أخي موسى الكاهن الأعظم. وتنطبق عليه المحظورات المختلفة مثل ضرورة أن يتزوج من عذراء فلا يتزوج مطلقة، وأن يتمتع بكل المزايا كأن يقوم بتلاوة التوراة في المعبد اليهودي. ومن الأسماء الأخرى المرادفة لكلمة «كوهين» في المعنى، كلمة «كاهن» و «كوهان» و «كاجان» و«كان» و«كوجين» و«كون» و«كوون» و«كوين» و«كوفين». وأحياناً يُترجَم الاسم فيقال مثلاً «أجرانات»، وهي ترجمة روسية لكلمة «هاروني» أو من «نسل هارون».
وكلمة «كاتس» اختصار لكلمة «كوهين تساديك» أي «كاهن الاستقامة والتقوى» ولها نفس دلالة كلمة «كوهين»، وأحياناً تُزاد الصيغة لتصبح «كاتزنلسون» أو «كاتسمان» أو «كاتزنشتاين» أو «كوهنهايم» أو «كوهنشتاين». وهناك الكثير من اليهود يحملون مثل هذه الأسماء ولا يعرفون شيئاً عنها ثم يفاجأون بأنهم كهنة تنطبق عليهم المحظورات مثل عدم الزواج من مطلقة الأمر الذي يسبب لهم الكثير من المشاكل في إسرائيل.
يتبع إن شاء الله...