الباب الحادى عشر: المفكرون من أعضاء الجـماعات اليهودية
الفكـــر اليهــودي والمفــكرون اليهــود
Jewish Thought and Jewish Thinkers
تُطلَق عبارة «فكر يهودي» أحياناً على الكتابات التي يكتبها مفكرون من أعضــاء الجماعـات اليهـودية («المفكرون اليهـود» في المصطلح الشائع)، وكأن هناك عناصر يهودية متكررة تربط بين كتابات هؤلاء المفكرين وتضفي عليها درجة من الوحدة. ويمكننا أن نسأل: ما الوحدة التي تربط كتابات يوسيفوس فلافيوس ويهودا اللاوي وإسحق لابيرير ويعقوب صنوع ومراد فرج وألبير ميمه، حتى يمكن تصنيف فكرهـم على أنه يهـودي؟ فإسـحق لابيرير وألبير ميمه فَقَدَا الإيمان الديني، ومراد فرج يهودي قرّائي ويوسيفوس يهودي متأغرق، أما يهودا اللاوي فهو من اليهود المستعربة، وتأثرت عقيدة كلٌّ منهم بمحيطه الحضاري.
ومن ناحية الانتماء الحضاري ولغة الكتابة والتقاليد الفكرية، فإن يوسيفوس جزء من التراث الهيليني، ويهودا اللاوي جزء من التراث العربي الإسلامي القديم، على عكس يعقوب صنوع ومراد فرج فهما جزء من التراث العربي الإسلامي في مصر. وكل مؤلف من هؤلاء يكتب بلغة مختلفة تماماً عن لغة الآخر. وتتنوع القضايا التي يتعامل معها هؤلاء المفكرون والكُتَّاب بتنوع لغاتهم وحضارتهم، وإن بقيت عناصر مشتركة فلن تكون لها قيمة تفسيرية أو تصنيفية كبيرة. ولذا، قد يكون من الأفضل الحديث عن مفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية بسبب المقدرة التصنيفية والتفسيرية العالية لهذا التعبير، فهو يؤكد عدم التجانس والتنوع، ويمكن داخل هذا الإطار أن نشير إلى المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب باعتبار أن لهم بعض السمات المشتركة التي يكتسبونها من داخل التشكيل الحضاري الغربي لا رغماً عنه أو من خارجه.
وقد تزايد بروز المفكرين اليهود في الحضارة الغربية مع تزايُد حلوليتها وتزايُد عدميتها في مرحلة الحلولية بدون إله. وحينما ظهر نيتشه الذي أعلن موت الإله، تلبست النيتشوية المفكرين اليهود في أواخر القرن التاسع عشر، إذ كانت الحلولية اليهودية قد توصلت إلى النيتشوية قبل نيتشه (على حد قول آحاد هعام). ومما لا شك فيه أن غربة المثقف اليهودي في مجتمعه عمقت اغترابه وموقفه النقدي والعدمي. ونحن نرى أن هذه العناصر جعلت المثقفين اليهود أكثر حداثة وأكثر امتلاكاً لناصية الخطاب الحضاري الغربي الحديث، ومن ثم أكثر بروزاً.
ومع هذا، حتى لا نسقط في التعميمات البسيطة والاختزالات السهلة، لنا أن نلاحظ أن من الأنماط التي تتواتر بين المثقفين من أعضاء الجماعات اليهودية، أن عدداً لا بأس به منهم ينتمون إلى زمرة المثقفين التي تحاول الاحتفاظ بالوظيفة النقدية للعقل، بحيث لا يُستوعب العقل في المادة ويظل متجاوزاً وبشكل دائم للأمر الواقع والوضع القائم، أي أنهم يحاولون تخطِّي الحلولية الكامنة في الفكر العلماني المادي عن طريق افتراض وجود نقطة ثبات خارج النسق (شيستوف ولا محدودية الاحتمالات ـ إرنست بلوخ والإمكانية الإنسانية التي لم ولن تتحقق، أي مقولة «ليس بعد» ـ العداء بين المعرفة والدولة عند ولتر بنجامين ـ القيم الأخلاقية الدائمة عند ليو ستراوس ـ المجال الخاص الذي يستطيع الفرد أن يفكر فيه وأن يحكم ضميره عند أرنت ـ التعددية التي لا يمكن اختزالها عند أيزياه برلين ـ المسيحية وسيمون فاي... إلخ). ويُلاحَظ وجود الظاهرة نفسها عند بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس من أعضاء الجماعات اليهودية.
مفكرون ومثقفون من أعضاء الجماعات اليهودية
Thinkers and Intellectuals from Members of Jewish Communities
نفضل استخدام مصطلح «مفكرون ومثقفون من أعضاء الجماعات اليهودية» بسبب مقدرته التصنيفية والتفسيرية العالية، فهو يؤكد عدم التجانس كما يؤكد التنوع والانفصال بين المفكرين اليهود. ونحن في هذه الموسوعة، نفرق بين «الفكر» و«الفلسفة». وهو فصل متعسف بعض الشيء، بخـاصة في العصـر الحديث، حيث نجد أن جزءاً كبيراً من التفكير الفلسفي يتم من خلال دراسات في اللغة (تشومسكي وفتجنشتاين ودريدا) والأنثروبولوجيا (كلود ليفي شتراوس) وعلم النفس (فرويد) وعلم الاجتماع (أدورنو وهوركهايمر). ومع هذا، فإن الفصل هنا ذو فائدة تصنيفية، من منظور هذه الموسوعة، بل وله فائدة تفسيرية أيضاً.
يهــودا الـلاوي (1080-1141)
Judah Halevy
شاعر وطبيب ومفكر عربي يهودي يُكنَّى بأبي حسن اللاوي. وُلد في طليطلة التي احتفظت بطابعها الإسلامي لبعض الوقت حتى بعد أن استولى عليها المسيحيون. وتلقَّى تعليمه في إسبانيا الإسلامية حيث درس اللغة العبرية وعلوم الدين اليهودي والفلسفة وكذلك اللغة العربية وآدابها والطب. وعندما تقدم به العمر، خرج من الأندلس إلى الإسكندرية، ثم ذهب إلى دمياط حيث مكث عامين يعمل بالتجارة، ومنها سافر إلى القاهرة التي خلبه جمالها وكتب قصائد في وصفها. ثم توجه إلى الشام حيث مات هناك. وتقول الأساطير التي ترددها الكتب الصهيونية إن عربياً قتله برمحه وهو على مشارف القدس. ويبدو أنه وقع تحت تأثير الأفكار المشيحانية، فتصوَّر أن العصر المشيحاني وانهيار حكم المسلمين في الأندلس هو عام 1130. وبطبيعة الحال، لم يتحقق هذا الحلم أو غيره من أحلامه المشيحانية الأخرى.
ويُعَدُّ اللاوي من أشهر شعراء العبرية في عصره، فقد امتلك ناصية الشعر العبري بعد تأثره بالشعر العربي وأوزانه وأدخل كثيراً من مضامينه وأشكاله على الشعر العبري. وكتب اللاوي كثيراً من القصائد ذات الأغراض الدنيوية (مثل الحب ووصف الطبيعة). كما كتب قصائد في المدح والمناسبات كافة، فكتب قصائد ذات طابع ديني مثل «أغنية إلى صهيون»، وتحدث عن الأرض المقدَّسة التي سكن فيها الرب، وعن اختياره الشعب اليهودي رغم معاناة أفراده، وعن رغبته في العودة. ونظم بعض القصائد للمناسبات الدينية مثل الاحتفال بالسبت والأعياد وأيام الصوم، ووجدت هذه القصائد طريقها إلى كل كتب صلوات العيد (ماحزور).
اتخذ اللاوي موقفاً معادياً للفلسفة، وقال إن الفلسفة من عبث العقل، وتبدَّى موقفه هذا في شعره الديني. ولكن أهم مؤلفاته هو كتاب الخزري (سيفر هاكوزاري) الذي يُعرَف أيضاً باسم الحجة والدليل في نصر الدين الذليل. وقد أُلف الكتاب بالعربية ودُوِّن بحروف عبرية حتى لا يُتداول إلا بين اليهود، وهو يُعَدُّ من كلاسيكيات الفـكر العربي اليهـودي.
والكتاب يدور حول حادثة تهود بولان، ملك الخزر، ولا يعدو أن يكون صدى لبعض التيارات الفكرية في العالم الإسلامي. فقد انتشر علم الكلام بين كثير من المفكرين اليهود وسيطر تماماً على فكر القرّائين الذين تبنوا العقل وجعلوه الأساس الوحيد للتفسير والاجتهاد. وكتاب الخزري هو رد اللاوي على هذا الاتجاه متأثراً في شكله وفكره بمؤلفات الغزالي (1058 ـ 1111). ويأخذ الكتاب شكل مناظرة بين حاخام يهودي وقس مسيحي وشيخ مسلم وفيلسوف أرسطي، ويعرض كل واحد منهم وجهة نظره، وبعد الحوار الطويل (وبعد أن يعرض كلٌّ موقفه) يختار ملك الخزر اليهودية ويعتنقها.
ويُهاجم اللاوي الفلسفة اليونانية ويُبيِّن عجز العقل عن الوصول إلى الحقيقة. ولذا، فهو يعتقد أن الفلسفة لابد أن تظل في خدمة الدين. وكان اللاوي يتصور أن الإسلام والمسيحية يرتكزان على شخصيتي محمد عليه الصلاة والسلام والمسيح عليه السلام، وأن القرآن (لأنه مكتوب بالعربية) موجه إلى العرب وحسب، على حين أن اليهودية لا تدور حول شخص، وإنما تستند إلى الشعب اليهودي الذي اختصه الرب بالتوراة دون شعوب الأرض. ويعبِّر تاريخ هذا الشعب عن الإرادة الربانية، ومن ثم فهو تاريخ مقدَّس.
ومن أهم القضايا التي طرحها اللاوي في كتابه قضية النبوة، فهو يرى أن ملَكة النبوَّة مقصورة على أقلية منذ آدم ولا تظهر إلا في فرد واحد في كل جيل. وهذه المَلَكة انتقلت من إبراهيم إلى إسحق ومنه إلى يعقوب ومن يعقوب إلى كل شعب يسرائيل وهو الشعب الوحيد الذي ظهر بينه العديد من الأنبياء. ولكن ملَكة النبوَّة ليست كافية في حد ذاتها لأن يصبح المرء نبياً. وهنا يورد اللاوي صورة الكرمة الرفيعة المجازية التي يجب أن تُزرع في تربة خاصة، ويُعتنى بها بمهارة غير عادية قبل أن تُعطي العنب الذي يمكن استخلاص الخمر الفاخر منه. وهكذا النبوَّة، لا يمكنها أن تزدهر إلا في أرض خاصة وهي أرض يسرائيل، وتحتاج إلى طريقة خاصة للعناية بها وهي اللغة العبرية، وقوانين الكتاب المقدَّس الشعائرية.
وتحت هذه الظروف فقط، يستطيع الأنبياء أن يسمعوا الكلمة المقدَّسة ويُدركوا الرؤىا السماوية. وبهذا، يمكن تفـسـير عدم ظـهور أنبيـاء في يسرائيل بعد النفي. ولن تتحقق موهبة يسرائيل ولن تعود مقدرتها على التنبؤ إلا بعد عودتها إلى الأرض. وهذا الرأي يربط من جهة بين النبوَّة وتميُّز يسرائيل وبين عناصر طبيعية وبيولوجية، ويربط بين الحلولية اليهودية التقليدية وصورة الطبيعة العضوية المجازية من جهة أخرى. وهو، بهذا، يُعَدُّ أحد رواد الفكر الصهيوني الذي يربط بين الشعب والأرض واللغة والرب ويراها جميعاً كلاًّ عضوياً ملتحماً بسبب حلول الرب في مادة يسرائيل المقدَّسة. وهذه الفكرة تشبه فكرة الشعب العضوي (فولك) الألمانية.
ثم يتوجَّه اللاوي إلى مشكلة الشعب الذليل الذي قد يُؤخذ عذاب أفراده قرينة على رفض الرب لهم. وهنا يلجأ اللاوي إلى تفسير طريف بقدر ما هو ملتو، إذ يقول إن الأمم لا تُباهي بمحاربيها وملوكها وإنما بشهدائها (وهنا يظهر التأثير الواضح للفكر المسيحي عليه بتأكيد حادثة الصلب باعتبارها حادثة ذات دلالة عميقة على عكس الإسلام الذي يؤكد نصر الله والفتح). وبالتالي، يكون العذاب ميزة، وهي ميزة يتمتع بها اليهود. ولعل القصور الوحيد عند اليهود يكمن في أنهم لا يتعذبون برضاهم. ولكنه يستدرك قائلاً: إن عذاب اليهود مسألة تتم باختيارهم، إذ أن بمقدور اليهودي أن يهرب من معاناته باعتناق دين آخر. ثم يضيف أن هناك هدفاً وراء معاناة اليهود، فيسرائيل هي بمثابة القلب بين أعضاء الجسد، وهذه فكرة صهيونية أخرى، حيث تمنح الشعب اليهودي مركزية في الكون والتاريخ الإنساني.
ابــن كمونـة (1215-1285)
Ibn Kamuna
ابن كمونة اسم الشهرة لسعد بن منصور بن سعد بن الحسن الإسرائيلي. عاش في بغداد وعمل بعض الوقت مع الغزاة المغول الوثنيين. ارتبطت شهرته بكتابه الجديد في الحكمة، وهو الكتاب الذي نال اهتماماً خاصاً من المسلمين وأعضاء الجماعات اليهودية. مع أن لابن كمونة مؤلفات أخرى، مثل التذكرة في الكيمياء، وشرح كتاب الإشارات والتنبيهات لابن سينا، وشرح كتاب التلويحات العرشية للسهروردي، و تنقيح الأبحاث في البحث عن الملل الثلاث. وهذا الكتاب الأخير مطبوع مع ترجمة للإنجليزية (جامعة كاليفورنيا 1967، نشرة موسى برلمان).
أما الكتب الأخرى فهي في حكم المفقود. يتناول الكتاب النقاش الدائر بين أتباع الديانات الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، ويبدأ بفصل تمهيدي عن النبوة بشكل عام ثم يُتبعه بفصول عن النبوة في الديانات الثلاث تتسم بالموضوعية. كما يتبدَّى في الكتاب تعَاطُف ابن كمونة مع الاتجاهات العقلانية (مقابل الاتجاهات الصوفية والإشراقية). ولكن مادة الكتاب في معظمها اقتباسات من كتابات ابن سينا والغزالي وموسى بن ميمون (دون أن يعيِّن المصدر). وقد نسب البعض لابن كمونة كتاب إفحام اليهود مع ادعاء أنه أسلم في آخر حياته! وهو خلط بين ابن كمونة والسموأل، فالأخير هو الذي أسلم وألَّف الإفحام.
ويُعدُّ الجديد في الحكمة أحد أهم المؤلفات الفلسفية (ذات الطـابع الديني) في القرن السـابع الهـجري. ومع أن مؤلفه يهودي الديانة، إلا أن الكتاب يحمل طابع الثقافة الإسلامية الأصيل آنذاك؛ فهو مكتوب بلغة عربية فصيحة، ويعالج القضايا نفسها التي عالجها المسلمون آنذاك، مستخدماً مصطلحاتهم وتقسيمهم للقضايا. بل يعكس ابن كمونة، بقوة، طابع الثقافة الإسلامية التي كان المسلمون يبدأون بها مؤلفاتهم؛ يقول ابن كمونة بعد البسملة: أحمد الله تعالى حمداً يُقرِّب إلى جنابه الكريم، ويُوجب المزيد من فضله وإحسانه؛ وأستغفره استغفاراً يؤمِّن من عقابه الأليم، ويُخلِّد في الفردوس الأعلى من جنانه؛ وأسأله الهداية إلى صراطه المستقيم، بإلهام الحق وإنارة برهانه [لاحظ السجع التبادلي المُركَّب بين العبارات]. وبعد، فقد اتفق أرباب العقائد العقلية، والديانات النقلية، على أن الإيمان بالله، واليوم الآخر، وعمل الصالحات؛ هو غاية الكمالات الإنسانية... إلخ.
ولا يحمل الجديد في الحكمة أي جديد مخالف لما قرره العلماء المسلمون السابقون على ابن كمونة، وبخاصة متكلمو المعتزلة والأشاعرة، فهو يكاد يلخص أقوالهم، أو بالأحرى: ينتقي من أقوالهم أشهرها. ومهما فتَّشنا في هذا الكتاب، فلن نجد دليلاً واحداً ـ ظاهراً أو مستتراً ـ على يهودية مؤلّفه ابن كمونة؛ حتى أنه لم يفعل كسلفه موسى بن ميمون الذي كان ينثر في كتابه دلالة الحائرين بعض آيات التوراة بين آراء متكلمي المسلمين، ليُضفي طابعاً يهودياً مُصطَنعاً على ثقافته العربية الإسلامية.
وقد كتب ابن كمونة كذلك كتيباً عن الفرق بين اليهود الحاخاميين والقرّائين. ولا تشير المصادر اليهودية إلى ابن كمونة.
إســحق لابيــرير (1594 أو1596-1676)
Isaac La Peyrere
عالم لاهوت فرنسي من أصل ماراني وأحد نقاد العهد القديم. وُلد في بوردو، وكانت مركز تجمُّع اليهود المارانو، ونُشِّئ على العقيدة الكالفنية إذ كان من الهيجونوت.
كتب مؤلفاً بعنوان الإنسان قبل آدم، صُودر عند نشره وإن استمر تداوله مخطوطاً في فرنسا وهولندا والدنمارك. كما كتب عام 1643 كتاباً ذا طابع صهيوني مشيحاني يُسمَّى استدعاء اليهود. وفي عام 1644، ذهب لابيرير إلى كوبنهاجن مع السفير الفرنسي، وألَّف كتابين عام 1647 عن جرينلاند وأيسلندا يعدان من الدراسات الأنثروبولوجية الرائدة.
وقد أطَّلعت الملكة كريستينا على مخطوطة كتاب الإنسان قبل آدم وحثته على نشره على نفقتها، فطُبع عام 1655 في كلٍّ من أمستردام وبازل، وظهرت خمس طبعات لاتينية عام 1655 وطبعة إنجليزية عام 1656 وطبعة هولندية عام 1666، وقد أُحرق الكتاب في كل مكان بسـبب أطروحاته المهرطقة القائلة بأن آدم لم يكـن الإنسـان الأول، وأن العهد القديم ليس سجلاً لتاريخ الجنس البشري وإنما لتاريخ اليهود وحسب، وأن موسى لم يكتب أسفار موسى الخمسة وأنه لا توجد نسخة دقيقة واحدة من الإنجيل.
وأُلقي القبض عليه، ولم يُفرَج عنه إلا بعد أن تكثلك وعبَّر عن ندمه أمام البابا. وقد فعل هذا من أجل التقية على طريقة المارانو قائلاً إن هرطقاته هي نتيجة تنشئته الكالفنية، وأنه على الرغم من عدم اتفاق كل اليهود والمسيحيين معه، ورغم أنه لم يعثر على أية شواهد توراتية أو عقلية ضد نظرياته، إلا أنه سيتخلى عنها كلها لأن الكنيسة قررت أنها خاطئة. ومع هذا، استمر لابيرير في جمع الشواهد على نظرية الوجود الإنساني قبل آدم.
ويذهب بعض المؤرخين إلى أن لابيرير هو من آباء الصهيونية التي تضرب بجذورها في مشيحانيته المارانية، إذ ذهب في كتابه استدعاء اليهود إلى أن الماشيَّح على وشك الظهور، وأنه سيقود اليهود إلى صهيون بمسـاعدة ملك فرنسـا، وأن عودتهم شرط انتصار المسـيحية. والكتاب مليء بالصور القبَّالية والغنوصية.
وتبيِّن كتابات لابيرير تداخل عدة موضوعات أساسية في الحضارة الغربية الحديثة (المشيحانية ونهاية التاريخ والاستعمار والعلمانية والصهيونية). وتوجد نقط تشابه كثيرة بين لابيرير وإسبينوزا الذي تأثر به، ولعل هذا رافد قبَّالي آخر يصب في فكر إسبينوزا. ويُبيِّن لابيرير مدى تأثير الفكر الماراني على مسار الفكر الغربي الحديث.
مــراد فــرج (1866-1956)
Murad Faraj
كاتب مصري يهودي قرّائي كان يكتب بالعربية والعبرية، صدر له حوالي ثلاثين مجلداً من الأشعار والكتابات الدينية والقانونية. وقد وُلد مراد فرج في القاهرة ودرس المحاماة وعمل بالحكومة المصرية خلال عهد الخديوي عباس حلمي، واهتم بشئون طائفة اليهود القرّائين ومشاكلها، وقـام بتـحرير جريدة الطائفة التهذيب حيـث نشـر كثيراً من مقالاته الأولى. واشتغل بالمحاماة بعد استقالته من وظيفته وحتى عام 1932، ثم تفرغ بعد ذلك تماماً للأنشطة الأدبية.
ونشر مراد فرج كثيراً من مقالاته وأشعاره في الصحف والمجلات المصرية مثل جريدتي الجريدة و المؤيد. وتناولت مقالاته قضايا فلسفية وفكرية واجتماعية متعددة، وبخاصة في مجال العلاقة بين الطوائف الدينية. ولم تتناول مقالاته الأحداث السياسية برغم سخونة الأحداث في تلك الفترة باستثناء مقال واحد دعا فيه إلى ضرورة الوحدة الوطنية بين عناصر الأمة الثلاثة: المسلمين والمسيحيين واليهود، وناشد المسلمين بمعاملة غير المسلمين على قدم المساواة.
كما صدر لفرج مجموعة من الأشعار (أثنى عليها الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي من قبيل المجاملة، فليس فيها ما يميزها عن غيرها من المجموعات الشعرية التي يكتبها صغار الشعراء في كل العصور) من أهمها ديوان فرج الذي صدر في خمسة مجلدات في الفترة بين عامي 1912 و1935، و مجموعة الشعراء اليهود العرب التي صدرت بين 1929 ـ 1932. كما أصدر عام 1945 مجموعة أخرى من الأشعار بالعربية والعبرية.
وقد كتـب فـرج جـميع أعماله الدينية بالعربية ما عدا عملاً واحداً. ومن بين هذه الأعمال القرّاءون والربانيون (1918)، واليهودية (1920)، و تفسير التوراة (1928)، و القدسيات والتي ترجمها إلى العبرية عام 1923. وتناول فرج في هذا العمل الأخير كثيراً من القضايا اليهودية؛ خصوصاً علاقة اليهود بغير اليهود، والمشروع الصهيوني في فلسطين، والذي أبدى فرج بعض التعاطف معه رغم انتمائه القرّائي.
وقد تفرغ فرج خلال الأعوام العشرين الأخيرة من حياته لكتابة معجم مقارن للغتين العربية والعبرية، كما قام بترجمة أجزاء من العهد القديم إلى اللغة العربية. وانتُخب عام 1936 عضواً في مجمع اللغة العربية. وليس هناك بُعد يهودي في كتابات مراد فرج إلا مجموعة الكتب والدراسات التي كتبها عن اليهود واليهودية (وهي لا تتسم بكثير من العمق).
فرتــز هـابر (1868-1934)
Frtiz Haber
كيميائي فيزيائي ألماني يهودي حاصل على جائزة نوبل. وُلد في برسلاو ابناً لتاجر كيماويات وأصباغ ناجح. درس الكيمياء وحصل على الدكتوراه من جامعة برلين، وعُيِّن عام 1906 أستاذاً في الكيمياء الفيزيائية والكهربائية. ونجح من خلال أبحاثه العلمية في الوصول لقانون في الكيمياء أصبح يحمل اسمه، إلا أن أهم أعماله كانت في مجال تطوير عملية إنتاج مادة النشادر عن طريق دمج عنصري الهيدروجين والنيتروجين كيميائياً. ومُنح هابر جائزة نوبل عام 1918 عن هذا الإنجاز العلمي. وقامت بعض الشركات الألمانية الكبرى بتطوير هذه المادة صناعياً واستغلالها تجارياً، كما كانت هذه المادة ذات أهمية كبرى للمجهود الحربي الألماني خلال الحرب العالمية الأولى، وبخاصة في إنتاج المتفجرات.
وفي عام 1911، عُيِّن هابر أول رئيس لمعهد قيصر فيلهلم للبحوث في برلين. وفي عام 1914، تم توجيه نشاط المعهد للمجهود الحربي الألماني، خصوصاً باتجاه الحرب الكيماوية، حيث أشرف هابر على عمليات تطوير واستخدام غازات الكلور والخردل. وعقب انتهاء الحرب عمل هابر على تطوير المعهد حتى أصبحت ألمانيا في العشرينيات الدولة الأولى في العالم في مجال الكيمياء الفيزيائية. وانتُخب هابر رئيساً للجمعية الألمانية الكيميائية. وبعد أن أمضى عدة أشهر في اليابان، قام بتأسيس «معهد اليابان» في كلٍّ من طوكيو وبرلين بغرض تدعيم العلاقات الثنائية والتفاهم بين البلدين. كما أجرى هابر بعض الأبحاث لمحاولة استخراج الذهب من مياه البحر وذلك لمساعدة ألمانيا في دفع تعويضات الحرب.
وكان هابر رافضاً لأصوله اليهودية، بل ترك العقيدة اليهودية وتنصَّر. ولذلك، لم يتعرض لأي تهديد أو اضطهاد عندما وصل النازي إلى الحكم في ألمانيا عام 1933. ولكنه استقال من رئاسة المعهد بعد أن رفض طلب الحكومة النازية بطرد جميع العاملين اليهود بالمعهد. وقد سافر عقب ذلك إلى سويسرا حيث تُوفي في إحدى المصحات.
جوســتاف لانـداور (1870-1919)
Gustav Landauer
مفكر ألماني فوضوي اشتراكي وابن تاجر ثري. درس الفلسفة ولكنه طُرد من الجامعة بعد أن حُكم عليه بالسجن عام 1893 لأنه حرَّض مجموعة من العمال على الثورة. ثم قُبض عليه مرة أخرى عام 1896 وهو يدعو إلى التمرد.
يتسم فكر لانداور بأنه فكر صوفي عضوي حلولي فوضوي، فقد تأثر بأفكار الفوضوي الروسي كروبتكين. وقام لانداور بترجمة أعمال المتصوف الألماني مايستر إيكهارت إلى الألمانية الحديثة. ووجد أن فلسفة صديقه فريتز ماوثنر في اللغة قد فتحت آفاقاً عظيمة لكل من التعددية الفلسفية والصوفية، فهي فلسفة إلحادية تماماً ترى أن كل فكر يُرد إما إلى المادة أو إلى أوهام الإنسان. وهي فلسفة أعلنت أن من المستحيل الوصول إلى أية حقيقة من خلال اللغة، وهو ما يعني أن الحقيقة فردية نسبية، وما يقوله شخص لا يفهمه شخص غيره، ومن هنا التعددية (الفوضوية) والنسبية والفردية الصوفية. وقد رفض لانداور أية سلطة أو إدارة مركزية واقترح بدلاً من ذلك ما سماه «الرابطة الاشتراكية» التي ستحل محل الدولة والاقتصاد الرأسمالي. فطالب بثورة يلعب فيها الأفراد (لا الطبقة العاملة) دوراً أساسياً، أفراد سيقومون بصياغة علاقات تعاونية جديدة لتؤسِّس أسلوباً جديداً للحياة من خلال القدوة الحسنة وليس من خلال السياسة أو الحزب.
وحينما اندلعت الحرب العالمية الأولى عارضها لانداور، وتحمَّس لانتفاضة بافاريا، ودعاه إيسنر (رئيس وزراء جمهورية بافاريا) إلى ميونيخ وعيَّنه وزيراً، وقد استمر في منصبه بعد اغتيال إيسنر وبعد إعلان بافاريا جمهورية سوفيتية.
وكان لانداور، رغم فوضويته وفرديته، يؤمن بفكرة الديكتاتور العادل الذي يعرف مصلحة رعاياه خيراً منهم، كما كان يرى أن الفكرة المشيحانية في اليهودية فكرة ثورية إلى أقصى حد. فاليهود شعب ينتظر الماشيَّح والمنفى، ولذا فإنهم يقومون بتثوير كل الشعوب. وهم يُعتبرون، على أحد المستويات، بمثابة ماشيَّح الشعوب، وكان يرى أن خلاص اليهود والإنسانية شيء واحد لا يتجزأ. بل إنه كان يرى أن سنة اليوبيل في اليهودية تجعل من الثورة الدائمة أساس الدستور الاجتماعي.
ورغم أن لانداور كان ملحداً، يهودياً غير يهودي، إلا أن استخدامه بعض الأفكار والمصطلحات اليهودية جعل الكثيرين يعتبرونه مسئولاً عن كثير من الجرائم التي ارتكبتها جمهورية بافاريا. كما ارتبط اسمه بالدعاية المعادية لليهود باعتبارهم من دعاة الفوضوية، والفوضىون مسئولون عن ضعف ألمانيا. وقد قُتل لانداور في الشارع حينما وصلت القوات الألمانية النظامية وقضت على الجمهورية.
صدرت للانداور رواية عام 1893، كما صدرت له مجموعة قصص قصيرة عام 1903، وله دراسات في أعمال شكسبير المسرحية وفي النظرية الاشتراكية. وقد أثر فكر لانداور في كثير من المفكرين اليهود والصهاينة، خصوصاً مارتن بوبر، ويبدو أن معظم أفكار بوبر الاشتراكية الصوفية تعود إلى لانداور.
ويبيِّن فكر لانداور الصوفي الحلولي مدى تداخل الفكر الديني اليهودي بالفكر المسيحي في عصر الحلولية والعلمانية. ويبدو أن إيكهارت (المسيحي) أثر في لانداور (اليهودي) الذي أثر بدوره في بوبر (اليهودي) الذي ترك أثراً عميقاً في الفكر الديني المسيحي واليهودي في العصر الحديث.
إرنست بلـوخ (1885-1977)
Ernst Bloch
فيلسوف ألماني ماركسي يهودي. نشر كتابه روح اليوتوبيا (المدينة المثالية) عام 1918، وهو خليط غريب من التصوف اليهودي والهرطقات المسيحية والرومانسية الألمانية والمشيحانية الماركسية. وكان بلوخ مُعجباً بجيوردانو برونو ونيكولاس كوزا والمتصوفين المسيحيين الذين رأوا مملكة الرب باعتبارها إمكانية كامنة في الإنسان. هاجر بلوخ إلى الولايات المتحدة عام 1938، وبعدها كتب أهم أعماله مبادئ الأمل وهو دراسة ضخمة في الفكر الطوباوي. وقد وُصف بلوخ بأنه رومانتيكي ماركسي أو حتى اشتراكي تلمودي.
بينما يصف هو فلسفته بأنها الأمل في المستقبل، وهو يرى أن الفن والدين هما مستودع الحاجات الروحية والتطلعات المثالية (الطوباوية) التي تكافح لتعبِّر عن نفسها. فالفن والدين يحتويان على ما يُسميه بلوخ «فائض الحضارة» بما يتجاوز الواقع وما هو مُعطي وتاريخي ومادي، ومن ثم فالفائض الحضاري هو المثالي والطوباوي، هو الأمل الذي يتجاوز الواقع. ويرى بلوخ ضرورة أن تحتفظ النظرية الثورية بهذا اللب الطوباوي للدين والفن كأفق تاريخي للجدلية التاريخية. ولذا يجب على النظرية الثورية أن تفهم فكرة التجاوز الدينية والخلاص والتطلع للحياة الآخرة.
ويمكن القول بأن بلوخ يحاول أن يولّد ثنائية داخل النظام المعرفي المادي (تجاوز من خلال المادة) حتى يحتفظ بروح الثورة والأمل؛ ثنائية تشبه الثنائية التقليدية. وبالفعل يتحدث عن أن الأمل الطوباوي يشغل الحيز نفسه الذي كان يشغله الإله من قبل. ولذا تظهر داخل فلسفته ثنائية هيومانية: الإنسان مقابل المعطيات الجامدة وكل ما يشيّئه. فهو يرى على سبيل المثال أن مصدر الثورة هو التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج (على حد قول النظرية الماركسية التقليدية)، ولكن « اتجاه » الثورة هو أمر كلي ونهائي (تطلق عليه الديانات لفظ «إسكاتولوجي» أو «تيليولوجي»، أي «علم نهاية الأشياء»).
وهذا تعبير عن ثنائية عالم الأشياء مقابل اليوتوبيا. والإنسان نفسه تعبير عن هذه الثنائية، فهناك قوانين التاريخ الحتمية والأفق المادي الذي يعيش فيه، ولكن هناك أيضاً داخل الإنسان إمكانيات لم تتحقق بعد. فهو يعيش في أفق «ليس بعد» (بالألمانية: نوخ نيخت Noch-Nicht). وهذه الإمكانية المثالية الطوباوية هي التي تحرك الإنسان وهي التي تجعل الطفرات النوعية نحو الجديد ممكنة وهو ما يعني وجود انقطاع في التاريخ، أي أن الحديث عن الحتمية التاريخية (كما يفعل الماركسيون الآليون) أمر لا معنى له. هذا لا يعني أن الممكن، غير المتحقق، (ما ليس بعد) منفصل عن الحقيقي، فهو إرهاص له، هو طريق الخلاص للإنسان ولكنه خلاص يتحقق داخل العالم المادي. ولذا، ينادي بلوخ بإنسانية ثورية،أي إنسانية تحقق للإنسان،إمكانياته من خلال نضال ثوري وتحوُّل اجتماعي (هذا في مقابل ما يُسميه «الإنسانية البورجوازية» التي تُمجِّد الإنسان كوضع قائم في المجتمع البورجوازي).
فالإنسان «ليس بعد» لأنه مقيد بالأحوال الاجتماعية والتاريخية المحيطة به والمؤسسات التي تمنعه من تحقيق إمكانياته. وغاية الفلسفة معرفة هذه الإمكانية التي لم تتحقق،ومن ثم فإن المعرفة الفلسفية معرفة ثورية لأنها تدفع صاحبها إلى ما ليس بعد. كما تدفع العالم من حوله نحو الأفضل وتقوده إلى الحرية.وبدون هذا العنصر المثالي الطوباوي فإن الماركسية ستتشيأ وتسقط في العقلانية التكنولوجية وتصبح مرتبطة بالوضع القائم الملحد الذي يُعطل الروح الإنسانية ويقضي عليها (أي يقضي على ثنائية الإنسان والأشياء) ولا يُبقي سوي فرد متشيئ ذي بُعد واحد وفردوس متشيئ.
ومن الواضح أن بلوخ يبذل قصارى جهده للهروب من انغلاق النسق المادي ومن السقوط في نهاية التاريخ، حتى لا يضيع الحلم الإنساني الطوباوي تماماً. ومع هذا تُطل إشكالية نهاية التاريخ برأسها القبيح، إذ يُبشر بلوخ بفردوس أرضي يمكن أن يتحقق إذا ما تم تحرير كل من قوى الإنتاج (المادية البرانية) وقلب الإنسان وعقله وخياله (الروحي الجواني) في مجتمع ديموقرّاطي حقيقي دون اغتراب أو قمع للذات. حينئذ سيظهر في العالم شيء يظهر لنا جميعاً في طفولتنا - شيء لم يصله أحد منا بعد - المنزل/الدار. وهكذا تتحقق الإمكانية وتكتمل الدائرة وتعود البراءة الأولى في العصر المشيحاني (هل تختفي حينئذ «ليس بعد»؟ أم أن هذا الفردوس ليس نهاية المطاف؟).
ومن الواضح أن بلوخ، في فلسفته العامة، لا يفرد دوراً خاصاً لليهودي، كما أنه لم يتناول الموضوع اليهودي بكثير من الإفاضة والتفصيل. ومع هذا، نجد أنه في كتابه روح اليوتوبيا يخصِّص فصلاً يُسمَّى «رمز اليهود»، وهو من المقالات النادرة التي كتبها بلوخ عن اليهود. يرفض بلوخ كلاًّ من الموقف الاندماجي والموقف الأرثوذكسي. كما أنه يرفض الصهيونية، إذ أنها ستُحوِّل يهودا (أي فلسطين) إلى دولة آسيوية صغيرة.
وتظهر الموضوعات القبَّالية اللوريانية ومفهوم إصلاح الخلل الكوني (تيقون) في كتابه توماس موزنر: لاهوتي الثورة (1921). ومن الواضح أن مصادره القبَّالية ليست بالضرورة يهودية، بل إن القبَّالاه المسيحية تلعب دوراً أكثر فعالية في فكره، ولذا نجد أن اهتمامه الأساسي ينصب على حركات الهرطقة المسيحية في القرن السـادس عـشر باعتبـارها إرهاصـات للمدن المثالية الثورية الحديثة.
وتُشير بعض فصول كتاب مبادئ الأمل، كفصل « موسى: اليوتوبيا في الدين، الدين في اليوتوبيا »، إلى التراث الديني اليهودي باعتباره أحد المصادر الروحية للفكر الطوباوي. كما أن هناك فصلاً عن الصهيونية يوجه فيه بلوخ النقد لصهيونية هرتزل ويُسمِّيها «صهيونية بورجوازية» لأنها دعوة قومية، تخاطب اليهود دون غيرهم، وتطالب بأرض ودولة، بينما يجد هو أن اليهودية أكثر رحابة من ذلك، فالعالم بأسره هو وطنها.
ويجد بلوخ أن أصدق مثل على ذلك هو كتابات المفكر موسى هسّ الذي يُحوِّل النزعة الطوباوية المثالية في اليهودية إلى نزعة عالمية. وهذه، بطبيعة الحال، قرّاءة شديدة التحيُّز لهذا المفكر الصهيوني الذي يطالب بتأسيس دولة اشتراكية يهودية تقوم بطرد الفلسطينيين وتحقيق الأمن والعدالة لليهود! ويرى إرنست بلوخ أن معاداة اليهود هي شكل من أشكال الحقد على الإمكانيات الطوباوية التي يمتلكها اليهود داخل الحضارة الغربية (وهو موقف لا يختلف كثيراً عن موقف مدرسة فرانكفورت).
وقد عاد بلوخ إلى ألمانيا الشرقية بعد عام 1948، ولكنه تركها عام 1961 إلى ألمانيا الغربية بعد اختلافه مع النظام الشيوعي، ومع هذا ظل بلوخ ماركسياً حتى وفاته. وقد دافع عن حق الدولة الصهيونية في الوجود عام 1967، وهو في هذا لا يختلف عن كثير من المثقفين الغربيين.
يتبع إن شاء الله...