الباب الحادى عشر: العبادات الجديدة
العبـادات الجديدة في العالم الغربي New Cults in the Western World
«العبادات الجديدة» حركات شبه دينية، لها شعائر مركبة وتنظيم مغلق، يرتدي أعضاؤها أحياناً أزياء خاصة مقصورة عليهم. وتزود هذه الحركة أعضاءها بالأمن من خلال عقيدة ثابتة بسيطة تفسر الكون والظواهر كافة، حيث يتطلب الانتماء إلى هذه العقيدة الولاء الكامل. ومن أكثر الظواهر التي تتهدد اليهودية المعاصرة، إقبال أعضاء الجماعات اليهودية على هذه العبادات الجديدة، وخصوصاً بعد أن تخلَّى أتباع هذه العبادات عن شعائرها الغريبة الشاذة وأصبح أسلوب حياتهم لا يختلف عن أسلوب حياة الإنسان العادي في المجتمعات التي يعيشون في كنفها. ومع أن عدد أعضاء الجماعة اليهودية لا يزيد بأي حال على 3% من سكان الولايات المتحدة، فإن من الملاحظ أن حوالي 20 - 50% من أعضاء مثل هذه الحركات من اليهود، كما أن كثيراً من قياداتها منهم. ولا يختلف الوضع في أوربا الغربية عنه في الولايات المتحدة. ومن أهم هذه الجماعات في الولايات المتحدة الجماعة البوذية من طراز الزن (50% من مجموع أتباعها في سان فرانسيسكو من اليهود) وجماعة هاري كريشنا الهندوكية (15% من جملة أتباع الجماعة في الولايات المتحدة من اليهود)، وهناك أيضاً كنيسة التوحيد (يونيفيكشان تشيرش Unification Church) وجماعات الإمكانية الإنسانية مثل إست EST وينبوع الحياة. ويمكن أن نعتبر الماسونية والبهائية من هذه العبادات الجديدة. وقد عادت جماعات عبادة الشيطان للظهور مرة أخرى وانتظم في صفوفها كثير من أعضاء الجماعة اليهودية. كما نشطت جماعات تبشيرية مسيحية ذات ديباجات يهودية (جماعات «المسيحيون العبرانيون») تمارس نشاطها بين أعضاء الجماعة. ومن أهم هذه الجماعات، جماعة «يهود من أجل المسيح» التي ترى أن بوسع اليهود أن يصبحوا مسيحيين ويهوداً في آن واحد، بل إن مسيحيتهم إن هي إلا مسوِّغ ليهوديتهم. وهؤلاء المبشرون يجيدون استخدام الرموز اليهودية، مثل: الخبز غير المخمر، واللغة العبرية، ونجمة داود، وشمعدان المينوراه. وهم يشيرون إلى المسيح ومريم بأسمائهم العبرية («يهوشاو»، و«مريام»)، ويسمون المسيح «الماشيَّح». كما يحاولون أن يضعوا مضموناً مسيحياً للرموز اليهودية، ففي عيد الفصح، على سبيل المثال، نجد أرغفة خبز الفطير الثلاثة (مَتْسُوت) هي الثالوث المسيحي، أما نصف الرغيف (أفيكومان) وعظمة الحمل فيرمزان للمسيح المصلوب، والنبيذ هو دمه. وقد أضافوا إلى كل ذلك تأييد دولة إسرائيل تأييداً أعمى، ولكنهم يضعون هذا التأييد في سياق مسيحي. ويبدو أن ثمة إقبالاً شديداً من جانب الشباب اليهودي على هذه الجماعات، بل يُقال إن عدد الذين تنصروا من خلال هذه الجمعية يصل إلى ثلاثين ألف يهودي.
وقد وصل نشاط هذه العبادات إلى إسرائيل ذاتها، فعبارة «تي إم TM» (اختصار لعبارة «ترانسندنتال مديتيشان Transcendental Meditation» أي التأمل المتسامي) قد جذبت آلاف الإسرائيليين، ولها مستوطنة تُسمَّى «ميجداليم». كما أن جماعة هاري كرشنا تنوي تشييد كيبوتس.
ويبدو أن إقبال اليهود والإسرائيليين على العبادات الجديدة هو تعبير عن ضعف العقيدة اليهودية وعن تزايد الإحساس بالاغتراب نتيجة لتزايد معدلات الترشيد والعلمنة وتآكُل الأسرة كمؤسسة وسيطة. والعبادات الجديدة تحل محل العقيدة والأسرة في الوقت نفسه، وتقوم بعملية الوساطة العقائدية والفعلية بين الفرد والمجتمع. كما يُقـبل كـثير من الشباب اليهودي على العبادات الجديدة، لتأكيدها الزهد، تعبيراً عن احتجاجهم على النجاح المادي الذي حققه أهاليهم باندماجهم في الحضارة البورجوازية الغربية، فهو في تصورهم نجاح خال من المعنى والمضمون الخلقي، ويؤدي إلى الاستغراق في الحياة الحسية والاستهلاك اللامتناهي.
ولعل تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي من أهم أسباب إقبال الشباب اليهودي على العبادات الجديدة، فاليهودية تحوي طبقات مختلفة متناقضة متجاورة متعايشة لا تفاعُل بينها في حين تتسم العبادات الجديدة بأنها قاطعة محددة والانتماء إليها يعني اكتساب هوية واضحة. كما أن اليهودي الذي ينضم إلى عبادة جديدة يمكنه أن يجد سوابق لها في تراثه اليهودي (فعبادة الشيطان ليست أمراً بعيداً عن التضحية لعزازيل). ومعظم هذه العبادات تعبِّر عن الحلولية إما من خلال وحدة الوجود المادية أو الحلولية بدون إله، أي الحلولية التي يتوحد فيها الخالق تماماً مع الوجود المادي، فيصبح المطلق كامناً في المادة أو في ذات الإنسان. واليهودية باعتبارها تركيباً جيولوجياً تحوي طبقة حلولية قوية تولِّد لدى أعضاء الجماعات اليهودية قابلية للانخراط في صفوف هذه العبادات الجديدة. ومن أهم الأمور الأخرى التي ساعدت على انضمام اليهود إلى هذه الجماعات، بخاصة جماعات المسيحيين العبرانيين، أنها لا تطلب من اليهودي أن يتخلى عن انتمائه أو هويته الدينية الإثنية، الأمر الذي يجعل الأمر سهلاً على الكثير من اليهود. ومن الحقائق الإحصائية التي قد تكون لها علاقة بموضوع العبادات الجديدة أن نسبة أعضاء الجماعات اليهودية في الجمعيات السرية في العالم هو نحو 30%.
ونحن نضع الماسونية والبهائية والموحدانية واليهودية المتمركزة حول الأنثى (بل واليهودية التجديدية وحركة الحضارة الأخلاقية) ضمن هذه العبادات الجديدة (رغم أن المراجع التي اطلّعنا عليها لا تُصنِّفها مثل هذا التصنيف).
الماسـونيــــة: تاريــــخ وعقائــــــد Freemasonery: History and Doctrines
كلمة «ماسونية» من الكلمة الإنجليزية «ميسون Mason» التي تُكتَب في العربية خطأً «ماسون». لكن الخطأ شاع، ولا مفر لنا من اعتماده ومسايرته. وهي تعني «البنَّاء»، ثم تضاف كلمة «فري free» بمعنى «حر» وتعني «البنَّاء الحر». وقد اختلف المفسرون في تعريف أصل كلمة «حر»، فيُقال إنها نسبة إلى «فري ستون Free Stone»، أي «الحجر السلس». وقد ورد في مخطوطات العصور الوسطى اللاتينية عبارة «إسكالبتور لابيدوم ليبيروروم Sculptor Lapidum Liberorum»، أي «ناحت الأحجار الحرة»، ولكن بعض التفسيرات تذهب إلى أن كلمة «حر» تجيء لتمييز الـ «فري ميسون»، أي «البناء الماهر»، في مقابل الـ «راف أور رو ميسون rough or raw mason»، أي «البنَّاء الخام غير المُدرَّب». وثمة رأي ثالث يذهب إلى أن الـ «فري ميسون»، عضو في نقابة البنائين، ولذا فهو «حر» أي أن من حقه ممارسة مهنته في البلدية التي يتبعها بعد أن يكون قد تَلقَّى التدريب اللازم. ويذهب رأي رابع إلى أن كلمة «فري» إنما تشير إلى أن البنائين لم يكونوا مُلزَمين بالاستقرار في إقطاعية أو بلدية بعينها والارتباط بها، وإنما كانوا أحراراً في الانتقال من مكان إلى آخر داخل المجتمع الإقطاعي. وإن صَدَق هذا التفسير، فهذا يعني أن البنائين كانوا مثل أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب الذين كانوا يُعَدون عنصراً حراً يمكنه الانتقال من بلد إلى آخر. وقد كان هذا حقاً مقصوراً على الفرسان ورجال الدين.
وتُعرَّف الماسونية بأنها مجموعة من التعاليم الأخلاقية والمنظمات الأخوية السرية التي تمارس هذه التعاليم، والتي تضم البنائين الأحرار والبنَّائين المقبولين أو المنتسبين، أي الأعضاء الذين لا يمارسون حرفة البناء.
وبعد أن أوردنا هذا التعريف الشائع، فإننا سنكتشف في التوّ أنه تعريف غير كاف البتة، إذ أن الماسونية، مثل اليهودية، تركيب تراكمي جيولوجي مر بمراحل عدة فأصبحت عناصره تشبه الطبقات الجيولوجية التي تتراكم الواحدة فوق الأخرى دون أي تفاعل أو تمازج. ورغم اختلاف الطبقات، فإنها تظل متعايشة ومتجاورة ومتزامنة داخل الإطار نفسه. ومن ثم، فرغم أنه توجد كلمة واحدة أو دال واحد هو «الماسونية» يشير إلى ظاهرة واحدة، فإن الماسونية في واقع الأمر عدة أنساق فكرية وتنظيمية مختلفة تماماً لا تنتظمها وحدة. ومشكلة التعريف، أي تعريف، أنه يستخدم صيغة المفرد، ومن ثم يفترض وحدة وتجانساً حيث لا وحدة ولا تجانس، ويفترض وجود مدلول واحد للدال. وقد قيل في محاولة التوصل إلى حد أدنى مشترك بين كل الماسونيات إنه توجد ثلاثة عناصر تميِّزها.
أول هذه العناصر هو وجود مراتب ثلاث أساسية يُقال لها درجات، وهي:
أ ) التلميذ أو الصبي (الملتحق أو المتدرب).
ب) زميل المهنة أو الصنعة (الرفيق).
جـ) البنّاء الأعظم أو الأستاذ (بمعنى أستاذ في الصنعة).
وقد أضيفت إلى هذه الدرجات الثلاث الأساسية درجة رابعة أخرى أساسية هي «القوس المقدَّس الأعظم»، ثم هناك ما يقرب من ثلاث وثلاثين درجة أخرى في بعض المحافل (كما هو الحال في الطقس الاسكتلندي القديم)، ويصل أحياناً عدد الدرجات إلى بضعة آلاف. وما دمنا نتحدث عن أشكال التنظيم فيمكن أن نضيف هنا أن من رموز الماسونية: المثلث، والفرجار، والمسطرة، والمقص، والرافعة، والنجمة الخماسية، والأرقام 3 و5 و7 (وهي رموز وطقوس تساعد على اكتشاف النور). والوحدة الأساسية في التنظيمات الماسونية هي المحفل أو الورشة. ويحق لكل سبعة ماسونيين أن يشكلوا محفلاً، والمحفل يمكن أن يضم خمسين عضواً. وتعقد المحافل اجتماعاً دورياً كل خمسة عشر يوماً، يحضره المتدربون والعرفاء والمعلمون. أما ذوو الرتب الأعلى فيجتمعون على حدة، في ورشات «التجويد». ويُفترض في المشاركين في الاجتماع أن يقبلوا لباساً معيَّناً: فهم يضعون في أيديهم قفازات بيضاء، ويزينون صدورهم بشريط عريض، ويربطون على خصورهم مآزر صغيرة، وقد يرتدون ثوباً أسود طويلاً، أو بزة قاتمة اللون، أو «سموكينج»، بحسب تقاليد محفلهم، وهي تقاليد بالغة التعقيد والتنوع.
وتشكل المحافل اتحادات تدين بالولاء والطاعة لأحد المحافل الكبرى. ففي فرنسا، على سبيل المثال، خمسة محافل أساسية كبرى، وهي: محفل الشرق الكبير، ومحفل فرنسا الكبير، والمحفل الوطني الفرنسي الكبير، والاتحاد الفرنسي للحقوق الإنسانية، ومحفل فرنسا الكبير للنساء. وتعقد المحافل الكبرى جمعيات عمومية يتخللها تقييم العمل الذي تم إنجازه ورسم خطط العمل للمستقبل. وبعد عَرْض هذه الأشكال التنظيمية والطقوس والرموز، يمكننا القول بأن تنوعها يجعلها غير صالحة كأساس تصنيفي للماسونية.
أما العنصر الثاني الذي يُقال إنه يميِّز الماسونية عن غيرها من الحركات، فهو الإيمان بالحرية والمساواة والإنسانية. ولكن كثيراً من المحافل اتخذت مواقف عنصرية، فالمحافل الألمانية والإسكندنافية رفضت السماح لأعضاء الجماعات اليهودية بالانضمام إليها، والمحافل الأمريكية رفضت انضمام الزنوج. كما لم تنجح المحافل الماسونية في تجاوز الحدود القومية الضيقة. فأثناء الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال، استبعدت المحافل البريطانية الأعضاء المنحدرين عن أصل ألماني أو نمساوي أو مجري أو تركي.
أما العنصر الثالث، وهو العنصر الربوبي، أي الإيمان بالخالق بدون حاجة إلى وحي، فإن محفل الشرق الأعظم في فرنسا رفض هذا الحد الأدنى تماماً عام 1877، وترك لكل عضو أن يحدد بنفسه موقفه من هذه القضية، وتم تأكيد «التقوى الطبيعية» بدلاً من «الإيمان الحق»، أي أن الماسونية الفرنسية تبنت صيغة علمانية كاملة مؤسَّسة على الفكر الهيوماني أو الإنساني العلماني.
وحتى نصل إلى تعريف دقيق مركب، فلابد أن نأخذ في الاعتبار هذه الخاصية التراكمية الجيولوجية، فندرس الطبقات الجيولوجية في تراكمها الواحدة فوق الأخرى، والتي أدَّت في نهاية الأمر إلى ظهور الماسونيات المختلفة وصفاتها المتنوعة. ويجب أن نؤكد ابتداءً أننا يجب أن نلزم الحذر في تحديد مستوى التعميم والتخصيص. فرغم أن الماسونية حركة بدأت في أوربا (في العالم الغربي) إلا أنها انتشرت في العالم بأسره. ورغم انتشارها هذا إلا أنها لم تصبح حركة عالمية، إذ لا يوجد نمط واحد للتطور، فالماسونية في الغرب مختلفة عنها في العالم الثالث، وهي في إيطاليا مختلفة عنها في أمريكا اللاتينية. وكما سنبين أن الحركات الماسونية المختلفة خدمت دولها ولذا قامت الحركات الماسونية البريطانية بخدمة الاستعمار البريطاني وقامت الحركة الماسونية الفرنسية بخدمة الاستعمار الفرنسي (ولذا نشب صراع بين الحركتين).
تعود جذور الماسونية إلى جماعات أو نقابات الحرفيين في العصور الوسطى الإقطاعية في الغرب، وهي جماعات كانت منظمة تنظيماً صارماً شبه ديني، فكان لكل نقابة طقوسها الخاصة ورموزها الخفية وقسمها السري وأسرار المهنة التي تحاول كل جماعة الحفاظ عليها. وهـذه كلها أدوات لهـا وظيفة اجتـماعية شـديدة الأهمية إذ أنه، مع غياب المؤسسات التعليمية، كان يتم توريث المعلومات، والخبرات المختلفة الحيوية اللازمة لاستمرار المجتمع، من خلال نقابات الحرفيين. وبدون هذه العملية، لم يكن المجتمع ليحقق أي استمرار. وكانت جماعات البنَّائين من أقوى الجماعات الحرفية، ذلك أن العصور الوسطى كانت العصر الذهبي لبناء الكاتدرائيات والأديرة والمقابر. وكان البناءون يعيشون على أجرهم وحده، على عكس الحرفيين الآخرين، مثل النساجين والحدادين الذين كانوا يتقاضون من زبائنهم مقابلاً عينياً من خلال نظام المقايضة، أي أن البنائين (مثل أعضاء الجماعات اليهودية) كانوا جزءاً من اقتصاد نقدي في مجتمع زراعي. كما أن البنائين كانوا أحراراً تماماً في حركتهم. فقد كان الحداد، مثلاً، يقوم بعمله في مكان ثابت ويقوم على خدمة جماعة بعينها، أما البناء فكان عليه الانتقال من مكان إلى آخر بحثاً عن عمل. ولذا، يمكن القول بأن البنائين كانوا من أكثر القطاعات حركية في المجتمع الوسيط في الغرب. وكان على البنائين أن يجدوا إطاراً تنظيمياً يتلاءم مع حركيتهم، فالنقابات الحرفية بتنظيمها المألوف كانت ملائمة للحرفيين الثابتين. أما بالنسبة للبنّائين، فكان لابد من ابتداع إطار حركي خاص بهم.
ومن هنا كانت فكرة البناَّء الذي يُقال له بالإنجليزية: «لودج lodge» أي «المحفل». والمحفل هو عبارة عن كوخ يُبنى من الطين أو مادة بناء أخرى تَسهُل إزالتها بعد الانتهاء من عملية البناء. وكان المحفل هو المكان الذي يلتقي فيه البناءون حيث يتبادلون المعلومات، ويعبِّرون عن شكواهم وضيقهم من أحوال العمل، ويتبادلون الأخبار بل المشروبات. كما كان بوسعهم النوم في المحفل وقت الظهيرة. وكان العضو الجديد من جماعة البنائين يذهب إلى المحفل لمقابلة أبناء حرفته، ومن هنا ظهرت فكرة السرية والرمزية، إذ كان لابد أن يتوصل هؤلاء البناءون إلى لغة أو شفرة خاصة بهم لا يفهمها سواهم ولا يستطيع صاحب العمل أو غير المشتغلين بحرفة البناء فهمها. وقد أخذت الشفرة شكل عبارات خاصة وطرق معيَّنة في المصافحة وإشارات بالأيدي الهدف منها أن يتمكن البنّاء من التفرقة بين أبناء حرفته الحقيقيين الذين تلقوا التدريب اللازم وينتمون إلى نقابة الحرفيين وبين الدخلاء على الحرفة. وقد التزم البنّاءون بمجموعة من الواجبات ضمها ما يُسمَّى «كتب الواجبات» أو كتب التعليمات أو الدساتير، ومن أهمها مخطوط ريجيوس الذي يعود إلى عام 1390. وتذكر كتب الواجبات أن البناء يتعيَّن عليه مساعدة زملائه وعدم ذمهم، وعليه تعليم المبتدئين منهم، كما أن عليه عدم إيواء الدخلاء. وتتحدث كتب الواجبات كذلك عن الأصول التاريخية أو الأسطورية لحرفة البناء التي يُرجعونها إلى مصر وإلى بناء هيكل سليمان. وثمة قصص أخرى وردت في هذه الكتب عن «الأربعة المتوَّجين»، وهم أربعة بنائين مسيحيين قتلهم الرومان وأصبحوا شهداء، ومن ثم فقد كان هؤلاء قديسي البنائين.
وقد ظلت نقابات البنائين مزدهرة حتى عصر النهضة في الغرب في القرن السادس عشر، وهو أيضاً عصر الإصلاح الديني، حين توقفت حركة بناء الكاتدرائيات وغيرها من المباني الدينية الكاثوليكية. ولكن ذلك تزامن مع ظهور الدولة القومية المطلقة التي قامت بتأسيس مشاريع عمرانية ضخمة تحت إشرافها كسلطة مركزية، ومن ثم بدأت الدعائم التي تستند إليها نقابات البنائين في الاهتزاز، شأنها في هذا شأن كثير من الجماعات الحرفية والمؤسسات الإقطاعية الأخرى وبدأت في التحول إلى جماعات خيرية أو جماعات تضامن تحاول أن تُوفِّر لأعضائها بعض الطمأنينة النفسية وشيئاً من الأمن الاقتصادي. ومع تَناقُص العضوية، بدأت النقابات تقبل في صفوفها أعضاء شرفيين ليحافظوا على الأعداد اللازمة، ومن هنا بدأ التمييز بين البنائين العاملين أو الأحرار، أي الذين يعملون بالحرفة فعلاً، والبنائين المقبولين أو الرمزيين. وظهرت الماسونية الرمزية أو التأملية أو النظرية أو الفلسفية التي حلت محـل الماسـونية الفعلية، بحيث تحوَّل البناء وأدواته من وظيفة إلى رمز. ولكن البناء (وأدواته) لم يكن المصـدر الوحـيد للرمـوز الماسونية، فكما أسلفنا كان هناك سليمان وهيكله، وهو يعتبر البنّاء الأول، وهيكله رمز الكـمال الذي يطـمح كل البنـائين أو الماسون أن يصلوا إليه. ويبدو أن بعض رموز الملـكية المقدَّسة في الدولة العبرانية وجدت طريقها إلى الشعائر والرموز الماسونية. وكانت هناك رموز مسيحية كثيرة مأخوذة من تقاليد جماعات الفرسان التي انتشرت في أوربا في العصور الوسطى، والتي يعود أصل معظمها إلى حروب الفرنجة والاستعمار الاستيطاني للفرنجة في فلسطين، مثل جماعة فرسان الهيكل (الداوية) وجماعة فرسان الإسعاف (الإسبتارية) وغيرهما. كما يحتل يوحنا المعمدان ويوحنا الرسول مكاناً خاصاً لديهم، وقد أسلفنا الإشارة إلى الأربعة المتوجين.
وقد يكون من المفيد (أو لعله من الطريف) أن نتوقف قليلاً عند أحد الأصول المفترضة للحركة الماسونية وفكرها حسب بعض مؤرخيها، ونعني بذلك نسبتها إلى بعض الجماعات الإسلامية (أو شبه الإسلامية)، مثل: الدروز، والطائفة الإسماعيلية، وجماعة الحشاشين. ويرى هؤلاء المؤرخون أن الحركة الماسونية استمدت بعض أفكارها ورموزها وطريقة تنظيمها من هذه الجماعات. فشيخ الجبل، رئيس جماعة الحشاشين، الذي يمسك كل الخيوط بيديه لا يختلف كثيراً عن رئيس المحفل، وطريقة العمل السرية وتجنيد الأعضاء الجدد وفكرة الدرجات التي تتبعها الحركة الماسونية لا تختلف كثيراً عن طريقة العمل والتجنيد في هذه الجماعات. بل تذهب بعض المراجع إلى أن جماعة فرسان الهيكل التي اتخذت الحركة الماسونية كثيراً من رموزها رموزاً لها هي في الواقع الأصل الحقيقي للحركة الماسونية، وأن فرسان الهيكل هؤلاء بدأوا نشاطهم في فلسطين إبّان حروب الفرنجة، ثم انتقل نشاطهم إلى أوربا واستمر بعد سقوط كل جيوب الفرنجة في فلسطين، هؤلاء الفرسان هم في واقع الأمر مسلمون أو متأثرون بالفكر الديني الإسلامي، كانوا يحاولون من خلال تنظيمهم السري/العلني أن يسيطروا على العالم المسيحي. ومن المعروف أن جماعة فرسان الهيكل كانت تكوِّن شبكة ضخمة في معظم أرجاء أوربا وأنه كانت تتبعها مجموعة من المحاربين/الرهبان (الذين تأثروا بفكرة الجهاد الإسلامية) ومجموعة من المؤسسات المالية الضخمة ذات النفوذ القوي. وقد تم ضرب فرسان الهيكل في فرنسا وفي كل أنحاء أوربا وقُدِّموا لمحاكم التفتيش. وكانت إحدى التهم الموجهة إليهم هي رفضهم القول بألوهية المسيح وتأثرهم العميق بالفكر الديني الإسلامي وتبشيرهم به، وقد اعترف بعض الفرسان بالتهم الموجهة إليهم. ويبدو أن فرسان الهيكل تأثروا بالفكر الإسلامي أو المُثُل الإسلامية إبّان وجودهم في الشرق الأوسط الإسلامي، كما أنهم تعاونوا بالفعل مع جماعة الحشاشين ودبروا معهم بعض المؤامرات. مهما كان الأمر فإن بعض المؤرخين يذهبون إلى أن بعض فرسان الهيكل قَدموا إلى اسكتلندا حيث أسسوا الحركة الماسونية للسيطرة على أوربا بعد أن تم ضربهم. وقد استطردنا في الحديث عند فرسان الهيكل والإسلام لنبين مدى تشابك أصول الماسونية وتركيبيتها.
وقد اختلطت فلسفة البنائين بالفلسفة الهرمسية السائدة في عصر النهضة في إنجلترا، وهي فلسفة غنوصية ذات طابع أفلاطوني حـديث ارتبـطت بهرمـيس تريسميجيستوس، وهو شخصية رمزية أساسية في الفكر الغنوصي حيث كان يُعَدُّ نبياً قبل المسيحية، وكان يُعَدُّ رسول الآلهة للبشر ويحمل المعرفة الخفية الباطنية (الغنوص). كما اختلطت فلسفة البنائين بالحركة الروزيكروشيانية (بالإنجليزية: روزيكروشيان Rosicrusian نسبة إلى روز rose بمعنى وردة وكروس cross أي صليب) التي ورد أول ذكر لها في القرن السابع عشر، وهي جماعة غنوصية تدَّعي أنها تمتلك الحكمة الخفية عند القدماء. وقد أدَّى تداخُل رموز البنائين وأسرارهم مع الفلسفة الهرمسية والروزيكرو شيانية، إلى أن سقطت تماماً القيمة الوظيفية لحرفة البناء، كما سقطت أدواتها (الفرجار والذراع والبوصلة والمثلث والمئزر والمزولة) واكتسبت قيمة رمزية، فتحوَّل ميزان البنائين (على سبيل المثال) إلى رمز العدالة، وتحوَّل الفادن (وهو خيط رفيع في طرفه قطعة من الرصاص تُمتَحن به استقامة الجدار) إلى رمز استقامة الحياة وأفعال الإنسان.
وهكذا تشكلت الطبيعة الجيولوجية المركبة لرموز الماسونية التي ضمت رموزاً من الديانات المصرية القديمة، كما ضمت كلمات عبرية بتأثير من القبَّالاه التي دخل الماسونية كثير من أفكارها. والواقع أن اختلاط فكر البنائين بالفلسفة الهرمسية والروزيكروشيانية يَصلُح مؤشراً على اتجاه الماسونية. فهذه الفلسفات، برغم شكلها الصوفي، كانت جزءاً من الثورة العلمانية الشاملة الكبرى التي تفجرت في الغرب في القرن السادس عشر، والتي كانت تهدف إلى إزاحة الخالق من الكون أو وضعه في مكان هامشي ووضع الإنسان في المركز بدلاً منه، على أن يقوم الإنسان بالتحكم الكامل في الكون عن طريق اكتشاف قوانين الطبيعة الهندسية والآلية. وهي، بهذا، غنوصية جديدة تهدف إلى التحكم في الكون، لا من خلال المعرفة الخفية وإنما من خلال الصيغ العلمية. وعلى كلٍّ، كانت المعرفة الخفية تأخذ، في كثير من الأحيان، شكل صيغ رقمية أقرب إلى المعادلات الجبرية.
وفي العصور الوسطى، كان الوجدان الشعبي يرى أن مثال الغنوصية هو الدكتور فاوستوس الذي باع روحه للشيطان في سبيل المعرفة الكاملة. وفاوستوس هو بطل التفكير العلمي، إليه تُنسَب النزعة الفاوستية التي تسم الفكر العلمي والثوري. وربما تكون مركزية رموز آلات البناء تعبيراً عن النسق الهندسي والآلي الكامن في الماسونية، وعن رغبة التحكم في كلٍّ من الذات الإنسانية والكون من خلال صيغ رياضية (ولعل المقارنة هنا مع فلسفة إسبينوزا وطموحه نحو لغة رياضية هندسية دقيقة مقارنة ذات دلالة عميقة).
لا يمكن، إذن، فهم الماسونية إلا بوضعها في هذا السياق الفكري. وكما يعرف دارسو تاريخ أوربا، فإنه بعد ظهور فكر عصر النهضة وُلد فكر عصر العقل والاستنارة والإيمان بالقانون الطبيعي. والعلمانية (الشاملة) هي نزع القداسة عن العالم (الإنسان والطبيعة) والإيمان بفعالية القانون الطبيعي في مجالات الحياة الطبيعية والإنسانية كافة وإنكار أي غيب، وإلا لما أمكن التحكم في الكون (الإنسان والطبيعة) وتوظيفه واستخدامه وتحويله إلى مادة استعمالية. وقد انعكس هذا في فكرة الإنسان الطبيعي (العقلاني) أو الأممي، وهو إنسان عام لا يتميَّز عن أي إنسان آخر، صفاته الأساسية عامة أما صفاته الخاصة فلا أهمية لها، وهو إنسان عقلاني إن أعمل عقله بالقدر الكافي لتوصَّل إلى الحقائق نفسها التي يتوصَّل إليها الآخرون بغض النظر عن الزمان والمكان. ومن ثم، فبإمكان هذا الإنسان أن يصل إلى فكرة الخالق بعقله بـدون حاجـة إلى وحي إلهـي أو معجزات، أي دون الحاجـة إلى دين مُرسَل، أي أن الإنسان الطبيعي العقلاني العالمي (الأممي) يمكنه أن يتوصل بعقله إلى الإيمان بدين طبيعي عقلاني عالمي.
ويمكن القول بأن الدين الطبيعي، أو «الربوبية» كما كانت تُدعَى، هو تعبير عن معدل منخفض من العلمنة أو تعبير عن علمانية جنينية، فهي تستجيب لحاجة أولئك الذين فقدوا إيمانهم بالدين التقليدي ولكنهم لا يزالون غير قادرين على تَقبُّل عالم اختفى منه الخالق تماماً، أي أنهم بشر جردوا العالم من الدين والقداسة واليقين المعرفي والأخلاقي ولكنهم احتفظوا بفكرة الخالق في صيغة باهتة لا شخصية، حتى لا يصبح العالم فراغاً كاملاً.
والفكر الربوبي لا يطالب من يؤمن به بأن يتنكر لدينه، إذ أن المطلوب هو أن يعيد تأسيس عقيدته، لا على الوحي وإنما على قيم عقلية مجردة منفصلة تماماً عن أي غيب، أي منفصلة عن الأنساق الدينية المألوفة للتفكير. فالربوبية، في واقع الأمر، فلسفة علمانية تستخدم خطاباً دينياً، أو ديباجات دينية، للدفاع عن العقل المادي المحض، وعن الرؤية التجريبية المادية. ومن ثم، فهي وسيلة من وسائل علمنة العقل الإنساني.
في هذا الإطار الفكري والفلسفي والديني، وُلدت الماسونية. وقد تم تأسيس أربعة محافل متفرقة في إنجلترا في القرن السابع عشر، جمعها كلها محفل واحد مركزي تأسس عام 1717 مع بدايات عصر العقل وحركة الاستنارة. ويُعَد هذا التاريخ هو تاريخ بدء الحركة الماسونية، وقد سُمح لليهود بالالتحاق بها عام 1732. ودخلت الحركة الماسونية فرنسا عام 1725، وإيطاليا وألمانيا عام 1733.
وإن أردنا تلخيص فكر أولى الماسونيات التي نقابلها، ولنسمها «الماسونية العقلانية» أو «الماسونية الربوبية»، لقلنا إنها تنادي بتوحيد كل البشر من خلال العقل، كما تنادي بإسقاط الدين مع الاحتفاظ بالخالق خشية الفوضى الفلسفية الشاملة.
ولذا، فقد جاء في تعريف الماسوني أنه «ذكر بالغ يلتزم بالنسق الديني الذي يوافق عليه جميع البشر». وهذا هو الإيمان بالخالق أو الكائن الأسمى (مهندس الكون الأعظم)، أو الإيمان بالجوهر العقلي للدين الذي يستطيع العقل أن يصل إليه. وبوسع العضو أن يحتفظ لنفسه بأية آراء دينية خاصة أخرى، على أن يعلن تسامحه مع الأديان وإيمانه بأبوة الرب وأخوة البشر وخلود الروح. وقد جاء في الدستور الماسوني لعام 1733 الصادر في إنجلترا أن الماسوني «لا يمكن أن يكون كافراً غبياً أو فاسقاً غير متدين» وعليه أن يحترم السلطات المدنية ولا يشترك في الحركات السياسية. ومن أهداف الماسونية الأساسية ما يُسمَّى «اليقظة الأخلاقية عن طريق العلم» وهي عبارة قد تبدو بريئة ولكنها تعبير عن منظومة عقلانية مادية لا تزال متلبسة ديباجات أخلاقية وروحية. وتدعو الماسونية إلى مجموعة من الصفات العامة التي لا تغيِّر كثيراً من هذه البنية الفكرية التحتية، فهي تدعو إلى وحدة البشر على أساس الإخاء والمحبة والمساواة، والعون المشترك وخدمة الغير وحُسْن معاملتهم، وحب الجماعة وتبادُل المصالح والتحلي بالفضائل المدنية، أى الفضائل التي يتسم بها المواطن الذي ينتمي إلى الدولة القومية (مقابل الفضائل الدينية لدى الإنسان المتدين الذي ينتمي إلى الكنيسة ويؤمن بعقيدة مُنزَّلة). كما تُقدِّس الماسونية الملْكية الخاصة. وليس للماسونية هدف نهائي محدد، وإن كان ثمة هدف فهو عام غير محدد، وهو أن يكون العالم في النهاية في اتحاد أخوي وإلهي (ولعلنا نُلاحظ هنا النموذج الحلولي الواحدي الكامن).
ويمكننا أن نقول إن الماسونية الربوبية هي ماسونية الفكر المركنتالي والدولة المطلقة، وماسونية الطبقات الأرستقراطية التي احتضنت الطبقات الوسطى الصاعدة باعتبارها قوة تستخدمها وتوظِّفها لصالح الدولة القومية المطلقة دون أن تسلمها صولجان الحكم والقيادة. وقد اكتشف الإنسان الغربي (منذ عصر نهضته، بعد ظهور ماكيافيللي وهوبز وفكرة القانون الطبيعي وضعف الإطار المسيحي التقليدي وانكماش سلطة الكنيسة الدنيوية) أن المطلق الوحيد في الإطار العلماني الشامل هو الدولة وأن مصلحتها العليا هي المطلق الأخلاقي الأسمى. وهذه الفلسفة علمانية شاملة تضع الخالق والغيب في موضع هامشي، وهذا ما تنجزه الماسونية الربوبية وتُعلمن الإنسان وتجعله يستبطن هذه القيمة المطلقة حتى يخضع لإرادة الدولة بدلاً من إرادة الخالق. داخل إطار عقلانى هادئ يشجع على تطويع الإنسان وتطبيعه. والدولة المطلقة إطار يضم كل الطبقات تحت قيادة هذه الملكية المطلقة أو تلك، أو أية ملكية أخرى في مواجهـة الكنيسـة التي كانت لا تزال تحاول الحفاظ على سلطانها الدنيوي. ومن ثم، نجد أن أعضاء الأرستقراطية انضموا إلى الحركات الماسونية، فقد انضم إليها ملكا بروسيا فريدريك الثاني وفريدريك الثالث، وملوك شبه جزيرة إسكندنافيا، وملك النمسا جوزيف الثاني، ونابليون وأفراد عائلته، وأعضاء الطبقة الوسطى الذين يطمحون إلى شيء من الحراك الاجتماعي. ويمكن تفسير انضمام أعضاء الأسرة المالكة الإنجليزية وأعضاء الأرستقراطية إلى الجماعات الماسونية من المنظور نفسه. وكان كثير ممن يُطلَق عليهم «مثقفو الطبقة الوسطى الصاعدة» من الماسونيين. كما يمكن أن نذكر من أعضائها فولتير ومونتسكيو والأنسيكلوبيديين (الموسوعيين)، وفخته وجوته وهردر ولسنج وموتسارت، وأعضاء الجمعية الملكية في إنجلترا، وجورج واشنطن، وماتزيني وغاريبالدي.
وعشية الثورة الفرنسية، كان يوجد في فرنسا نحو خمسمائة محفل ماسوني. كما يُقال إن أكثر من نصف أعضاء الجمعية العمومية في فرنسا، عشية الثورة، كانوا من الماسونيين. ولكن يجب ملاحظة أن معظم الماسونيين في فرنسا في تلك المرحلة لم يكونوا من غلاة الثوريين (الجمهوريين) بل كانوا من دعاة الإصلاح بلا ثورة. ولذلك، فقد هاجر كثير منهم من فرنسا بعد تصاعد حمَّى الثورة، أو سقطت رؤوس بعضهم ضحايا المد الثوري (ويمكن أن نخص بالذكر مارا ودانتون ميرابو ولافاييت باعتبارهم من قادة الثورة الفرنسية من الماسونيين).
ويمكن القول بأن الماسونيين كانوا من أعضاء طبقات أو فئات هامشية تود أن تحقق شيئاً من الحراك والمركزية، أو كانوا أعضاء هامشيين أو فئات هامشية في طبقات مركزية ويودون أن يحققوا قدراً من الحراك من خلال الانضمام إلى تَجمُّع أكبر، أو كانوا من أعضاء الأرستقراطية الذين أرادوا أن يستخدموا القوة الماسونية وأن يوظفوها لصالحهم الشخصي أو لصالح الدولة المطلقة. وربما يعود شيوع الماسونية في القرن الثامن عشر إلى سببين أساسيين: أولهما، شيوع الفلسفات العقلانية المعادية للكنيسة والطبقات الإقطاعية. ولكن هذه الفلسفات لم تكن بعد ثورية أو إلحادية، فقد كانت تعبِّر عن مصالح الطبقة الوسطى الصاعدة وعن رؤيتها التجارية المادية العلمانية الشاملة للكون، بدون أن تعلن صراحة عن ماديتها أو علمانيتها إذ كانت أضعف من أن تفعل ذلك. أما السبب الثاني، فهو عدم تجانس رموز الحركة الماسونية، الأمر الذي لعب دوراً حيوياً في زيادة مقدرتها التعبوية على مستوى كل الطبقات. وقد كانت الماسونية ديموقراطية تقوم بتجنيد أعضائها من الطبقات كافة، ولكنها كانت في الوقت نفسه أرستقراطية يترأسها الملك وأعضاء النخبة، وتأخذ شكلاً هرمياً جامداً. وكانت ليبرالية تدعو إلى الأخوة والمساواة، ولكنها كانت في الوقت نفسه محافظة تدعو إلى عدم التعرض للسلطات الحكومية أو الخوض في الأمور السياسية. وكانت الماسونية في تلك المرحلة حركة إيمانية ربوبية، ولكنها كانت تحوي داخلها كل معالم التفكير الإلحادي الذي يُسقط الإله تماماً. وكانت عقلانية ذات رموز صوفية، وتضم أفكاراً عالمية ومحلية. وربما جعلتها هذه الصيغة الإسفنجية تحقق هذا النجاح الباهر وتجعلها واحدة من أهم مؤسسات العلمنة في العالم، فهي تستخدم ديباجات دينية ضبابية لتحقيق أهداف علمانية.
ولكن الماسونية هي بنت محيطها الحضاري التاريخي والجغرافي (فلا يوجد كما أسلفنا نسق عالمي واحد ينطبق على الماسونيين في كل زمان ومكان)، فقد كانت ألمانية في ألمانيا، وإنجليزية في إنجلترا، وفرنسية في فرنسا. ولذا، فقد تغيَّرت هي نفسها مع تغيُّر أوربا. كما نجد أن تصاعد قوى الطبقة الوسطى ومعدلات العلمانية والإلحاد قد انعكس على الفكر الماسوني وتنظيماته، فاكتسب كثير من المحافل الماسـونية مضمـوناً ثورياً، وخصوصاً في البـلاد الكاثوليكية والأرثوذكسية، وأصبحت الأداة الكبرى في الحرب ضد الكنيسة، وفي المطالبة بفصل الدين عن الدولة. هذا على عكس المحافل الماسونية في البلاد البروتستانتية حيث ظلت معتدلة تدور داخل إطار ربوبي.
وفي هذا الإطار الجديد، ظهرت الماسونية الثانية التي تتخذ موقفاً إلحادياً أكثر صراحة، وبدلاً من العقلانية الربوبية شبه المادية التي تستخدم ديباجات أخلاقية وروحية، تُسقط الماسونية تدريجياً كل هذه الديباجات وتدور تماماً في إطار العقلانية المادية الكاملة، فقرَّر محفل الشرق الأعظم في فرنسا عام 1877 استبعاد أية بقايا إيمانية من الفكر الماسوني. وظهرت محافل ذات طابع ثوري مثل النورانيين (إليوميناتي) في بافاريا، وقبلها المارتينيست في فرنسا، وكانت المحافل الماسونية في روسيا القيصرية (الأرثوذكسية) خلايا ثورية، وكان معظم أعضاء ثورة الديسمبريين من الماسونيين.
ويُلاحَظ أن الماسونية الثانية، وهي ثورية إلحادية، تنتشر في البلاد الكاثوليكية والأرثوذكسية، أي البلاد التي توجد فيها كنيسة قوية تقف ضد الفلسفات العقلانية البورجوازية والثورية العمالية. كما يُلاحَظ أن المحـافل الماسـونية في هـذه البلاد، كما هـو الحال في أمريكا اللاتينية، تتسم بثوريتها وعدائها للكنيسة والكهنوت، كما تتسم بارتباطها الواضح بالفلسفة الوضعية التي تجعل العلم الأساس الوحيد للقيمة والأخلاق، فالتقدم الأخلاقي يتم تحقيقه من خلال التقدم العلمي، والمنفعة الإنسانية ككل هي نهضة علمية (ولهذا لوحظ أن عدداً كبيراً من دعاة الفكر الوضعي في فرنسا وروسيا والعالم الثالث أعضاء في المحافل الماسونية). كما أن الكنيسة، بدورها، تناصب الحركة الماسونية العداء. وبمرور الزمن، أصبحت المحافل الماسونية تضم، من ناحية الأساس، عناصر البورجوازية والطبقة الوسطى، ولم يَعُد ينضم إليها أي مفكرين، كما اختفى منها كذلك أعضاء الأرستقراطية. وبرغم كل هذا، فإن عضوية المحافل الماسونية ظلت (من ناحية الأساس) مقصورة على العناصر البورجوازية المعتدلة التي ترفض الدخول في أية مغامرات سياسية، والتي تود أن تعيش في عالم علماني عقلاني ولكنها لا تريد مواجهة النتائج الفلسفية الناجمة عن ذلك، وربما يفسر هذا سر تَصدِّي البلاشفة للجماعات الماسونية وحظرهم إياها، وتَصدِّي هتلر وموسوليني أيضاً لها وتجريمهما الجمعيات الماسونية. فالبلاشفة والفاشيون والنازيون راديكاليون، وإذا كان البلاشفة راديكاليين عقلانيين ماديين فالفاشيون والنازيون راديكاليون لا عقلانيون ماديون، ويطمحون إلى التحكم الكامل في الدولة وجماهيرها، ولذا فالاعتدال أو التراخي الماسوني يُشكِّل تحدياً لسلطتهم. كما أن الجيب الماسوني كان يتمتع بقدر من الاستقلال بل السرية، فهو يمثل جماعة مصالح لها شعائرها وطقوسها، والدول العلمانية الشمولية المطلقة لا تتحمل وجود مثل هذه الجيوب داخلها.
وقد انتشرت الماسونية في البلاد البروتستانتية لأن البروتستانتية شكل من أشكال علمنة المسيحية الكاثوليكية، كما أن معدلات العلمانية مرتفعة فيها. فقد انتشرت بسرعة في الجزر البريطانية بسبب عدم وجود كنيسة مسيطرة على جوانب الحياة، وبسبب انخراط الطبقة الحاكمة في صفوف الماسونية. وقد انتشرت الماسونية مع اتساع الإمبراطورية الإنجليزية، فانتقلت إلى الولايات المتحدة وأستراليا وكندا ومصر وفلسطين والهند وغيرها من المستعمرات أو المحميات. وقد احتفظت الحركة الماسونية بطابع هادئ مهادن داخل التشكيل البروتستانتي.
يتبع إن شاء الله...