وانطلاقاً من كل هذا، يطرح هرتزل الحل: "يجب ألا يأخذ الخروج شكل هروب أو تسلُّل، وإنما يجب أن يتم بمراقبة الرأي العام [الغربي]. هذا ويجب أن تتم الهجرة وفقاً للقوانين وبمعاونة صادقة من الحكومات المعنية [الغربية طبعاً] التي يجب أن تضمن وجودنا لأن اليهود لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك بأنفسهم". وهكذا رفض هرتزل تماماً فكرة الانعتاق الذاتي باعتباره حلماً رومانسياً، وطرح حتمية الاعتماد على الإمبريالية (وهذا هو مربط الفرس الذي لم يتنبه إليه أي مفكر صهيوني آخر من قبله). ولذا، فإن القول بأن أفكار هرتزل كانت كلها في كتابات أحباء صهيون قول صادق وكاذب في آن واحد! صادق إذا ما فتَّتنا الأفكار إلى وحدات صغيرة، مثل: فكرة الدولة اليهودية، فكرة وطن قومي لليهود، فكرة الاستيطان... إلخ، ولكنه كاذب إذا ما نظرنا إلى البنية الكامنة أو إلى الإطار الكلي المبتكر.
وعندما تتضح الأمور عند هرتزل، فإنه يتقدم بمطالبه للحكومات الغربية المعنية.. "امنحونا سلطة على قطعة من الأرض في هذا العالم [غير الغربي] تكـفي حاجاتنا القومـية المشـروعة، ونحن سـنعمل ما يتبقى". ويكرر هرتزل الفكرة نفسها في موضع آخر "متى أظهرت القوى الدولية [الغربية] رغبة في مَنْحنا السلطة فوق قطعة أرض محايدة [أي خارج أوربا] ستعمل جمعية اليهود مع السلطات الموجودة في تلك الأراضي [أي الدولة العثمانية أو الحكومة الأرجنتينية أو غيرها من الدول] وتحت إشراف القوى الأوربية [المصدر الوحيد للسلطة]". وبهذا، يكون هرتزل قد قدَّم الحل: دولة يهودية ذات سيادة تُؤسِّس خارج أوربا، مصدر سيادتها هو العالم الغربي، أي أنه سيحقق السيادة من خلال العمالة للقوى العظمى الغربية صاحبة القرار في العالم في ذلك الوقت.
وهو بذلك قد توصَّل للآلية الكبرى لتنفيذ المشروع الصهيوني وهي الإمبريالية، وللإطار الأمثل وهو الدولة الوظيفية التي سيتم توظيف اليهود من خلالها لصالح العالم الغربي. بل ستُحل مشكلة الهوية اليهودية حلاًّ عبقرياً، فهو يُخرج اليهود من التشكيل القومي الغربي، ويُخلِّص الغرب منهم، ولكنه يُدخلهم الغرب مرة أخرى عن طريق التشكيل الاستعماري الغربي، إذ يبدو أن الدولة الوظيفية سيتم استيعابها في الحضارة الغربية وتصبح دولة مثل كل الدول الغربية. إن الغرب العنصري (ويهود الغرب المندمجين) لم يكونوا على استعداد لتقبُّل الشعب اليهودي العضوي المنبوذ داخل الغرب، ولكن مَنْ الذي يمكنه أن يرفض الشعب اليهودي العضوي الذي يحقق هويته اليهودية هناك بعيداً عن الغرب، داخل دولة وظيفية تقوم على خدمته وتظل تربطه به علاقة؟
قد يُقال إن هذا الحل الاستعماري ليس تحديثاً بقدر ما هو استمرار لوضع اليهود القديم في أوربا منذ العصور الوسطى كجسد غريب من المرابين والتجار، في أوربا وليس منها ويعيشون في مسام المجتمع (على حد قول ماركس). ولكن أن يعيش الإنسان على هامش المجتمـع خير له من أن يعيـش في مسـامه، لأن الحـالة الثانية خطرة جداً. كما أن الغرب الحديث على ما يبدو قد ضاقت مسامه كثيراً، ولذا فقد قام بتصفية معظم الجيوب الإثنية. كما أن عملية التحديث تأخذ أحياناً في الظاهر شكل العودة إلى الوراء، إلى القديم وإلى الأصول، ولكنها في الواقع عملية تغيير شاملة. وهذا أيضاً ما فعله هرتزل، فقد احتفظ بالأشكال القديمة (عقيدة الخروج وأسطورة الشعب والعودة) ولكنه أعطاها مضموناً جديداً أو حديثاً، وهذا مؤشر آخر على براعته.
موقف هرتزل من التيارات الصهيونية قبله
Herzl's Attitude to Preceding Zionist Trends
لعل أهمية هرتزل في تاريخ الصهيونية هي أنه حوَّل الصهيونية من مجرد فكرة إلى حركة ومنظمة، وبلور العقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية باعتبارها ممثلة ليهود أوربا وبين الحضارة الغربية، ومن ثم فقد خَلَق الإطار اللازم لعملية التوقيع التي تمت في وعد بلفور. ولكن العقد الصامت لم يُولَد مكتملاً بل استغرق ميلاده مدة طويلة، فقد تعثَّر هرتزل نفسه طويلاً قبل أن يصل إلى هذه الصيغة. وبرغم عصرية حلِّه وحداثته إلا أن بصيرته خانته، إذ بدأ نشاطه السياسي بطريقة تقليدية فتوجَّه للقيادات اليهودية التقليدية (الحاخامات والأثرياء) أصحاب النفوذ التقليدي (الذين نظروا إليه بنوع من الفتور أو الاشمئزاز). ففي يونيه 1895، قام هرتزل بمقابلة هيرش (المليونير والمصرفي الألماني اليهودي) ليقرأ عليه خطاباً يحدد فيه حله للمسألة اليهودية، ولكن هيرش لم يسمح له بالاستمرار في الحديث، فأرسل إليه هرتزل خطاباً في اليوم التالي فقوبل بالفتور نفسه. وبدأ هرتزل في كتابة مذكراته وفي كتابة خطاب لعائلة روتشيلد (في فرنسا) أو إلى مجلس العائلة وأنهى الخطاب في يونيه 1895، ثم طلب من حاخام فيينا موريتز جودمان أن يكـون هـمزة الوصل بينه وبين ألبرت روتشيلد زعيم العائلة في فيينا. وقد كان منطقه أن ثروة روتشيلد محكوم عليها بالهلاك والمصادرة في عالم الأغيار، ولذا فإن عليه أن يتبنَّى المشروع الصهيوني.
ولكن يجب أن نلاحظ أن هرتزل، حتى في هذه المرحلة، كان قد بدأ في عملية التحديث، فهو لم يتقدم للأثرياء اليهود كشحاذ يهودي يطلب الصدقات من إخوانه في الدين وإنما جاء كمفكر يهودي غربي يطرح قضية حاجة اليهود إلى القيادة، وينبه إلى عُقم الاستعمار التسللي في الأرجنتين وفلسطين. والأهم من ذلك كله أنه يطالب أثرياء اليهود بالتوسط لدى قيصر ألمانيا وأن تقوم القيادة اليهودية بتمويل عملية الخروج وأن تُقنع القيصر بأهميتها، وذلك حتى تتم هذه العملية على نطاق واسع وبشكل منظم ومنهجي ورشيد.
ولكن روتشيلد رفض اقتراحه لأسباب بيَّنها روتشيلد نفسه في تاريخ لاحق:
1 ـ أن هرتزل سيثير عداوة البدو (أي العرب).
2 ـ أنه سيثير شكوك الأتراك (أي الدولة المهيمنة على الشرق)، وخصوصاً أن تركيا معادية لروسيا. وروسيا لن تسمح بسقوط فلسطين في يد اليهود (وهنا يدرك روتشيلد أهمية القوى العظمى).
3 ـ سيثير هرتزل غيرة المستعمرات المسيحية والحجاج (المسيحيين) ـ وربما تكون الإشارة هنا إلى مستعمرات فرسان الهيكل وغيرها من المستعمرات.
4 ـ قد يؤدي هذا إلى هَدْم المستوطنات اليهودية هناك (أي جهود الإنقاذ التي يقوم بها يهود الغرب والتي تضمن لهم الهيمنة).
5 ـ سيثير هرتزل أعداء اليهود لأن أطروحته الصهيونية ستبين أن اليهود المندمجين منافقون في ادعائهم حب أوطانهم، ولذا سيطالب المعادون لليهود بعودة اليهود لوطنهم القومي.
6 ـ كما أشار روتشيلد إلى قضية التمويل، فمن سيمول 150 ألف شحاذ من الذين سيصلون إلى فلسطين؟.
وعند هذا الحد أدرك هرتزل أن القيادات اليهودية الغربية غير جادة وغير قادرة. ولكنه مع هذا تعلَّم منها الكثير، ذلك أن اعتراضات روتشيلد مهمة. ولعل هذا ساعده في تطوير الخطاب الصهيوني المراوغ. أما قيادات يهود شرق أوربا (التي لم يكن هرتزل يعرف عنها الكثير)، فقـد كانت غير مطروحة أسـاساً لأنها لم تكـن قد دخـلت العالم الحديث بعد، فكان الشرقيون غارقين في الجيتو وكان الغربيون غارقين في الاندماج، فأخذ هرتزل بزمام الموقف وكتب مباشرةً لبسمارك، ثم أعد مذكرة ليقدمها لقيصر ألمانيا.
ولكن الدول، بطبـيعة الحـال، لا تتعامل مع أفراد وإنما مع كتل بشرية، ولذا فقد كانت الاستجابات سلبية في كل مكان. ولذا قرر هرتزل (على حد قوله) أن يتوجَّه إلى الشعب. والشعب هنا لا يعني الجماهير اليهودية وإنما يعني حركة أحباء صهيون، التي كانت تضم بضعة آلاف من اليهود، كما يعني الحركات المماثلة المتناثرة ذات الأهداف المماثلة، والتي تدعم موقفه التفاوضي أمام عالم الصهيونية غير اليهودية، عالم الاستعمار الغربي. ويكون هرتزل بهذا قد حطَّم الجيتو، وقام بتحديث قيادة اليهود في الغرب، أو طرح نفسه (وهو الصحفي ذو الثقافة الغربية) بديلاً عن الأثرياء والحاخامات. وقد كان هرتزل أكثر ذكاءً من الآخرين لأنه كان يملك ما لا يملكون: رؤية جديدة للمسألة اليهودية وعقداً جاهزاً للتوقيع مع الحضارة الغربية يرضي جميع الأطراف. لقد اكتشف حتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية.
توجَّه هرتزل، إذن، للشعب ولكنه كان يرفض النزعات الصهيونية السابقة عليه، فصهيونية أثرياء يهود الغرب المندمجين (صهيونية الإنقاذ التي تأخذ شكل صدقات) غير صالحة لأن المشروع الصهـيوني مشروع ضخم يتجاوز الجهود الفردية. أما بالنسبة للتسلل، فقد ساهم الصهاينة التسلليون ولا شك في إلقاء الضوء على فكرة تأسيس الدولة (وهي أحد عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة)، كما أن أخطاء التسلليين أثناء الممارسة قد تفيد في تنفيذ المشاريع الضخمة المقبلة. ولكن التسلل، مع هذا، بَذَر الشك في نفوس الناس بشأن المشروع الصهيوني ككل، كما أنه اتسم بالرومانسية، فالمتسللون من أحباء صهيون يظنون أن خروج اليهود سيتخذ شكل تَرْك الحضارة والسكنى في الصحراء. لكن الأمر ليس كذلك إذ أن كل شيء سيتم في إطار الحضارة (الغربية). وقد شبَّه نوردو وهرتزل التسلليين بالبوكسرز الذين قاموا بثورة رومانسية في الصين وأرادوا التصدي للزحف الغربي بالوسائل التقليدية. وتتجلَّى سطحية هرتزل وبرجماتيته في اعتراضه على التسلل باعتبار أنه سيؤدي إلى رفع أسعار الأراضي (فالسمسار في داخله لا يهدأ له بال)، ثم يبين بعملية حسابية عبث الحلول التسللية قائلاً: "لو افترضنا أن عدد يهود العالم هو تسعة ملايين [كانوا عشرة ملايين في واقع الأمر]، وإذا كان بإمكاننا إرسال عشرة آلاف يهودي كي يستعمروا فلسطين سنوياً، فهذا يعني أن المسألة اليهودية ستُحَّل بعد تسعمائة سنة". ومن هنا، فقد شبه التسلليين بمن يريد نزح المحيط بواسطة دلو.
ثم يثير هرتزل قضية مهمة أخيرة، هي أن التسلليين ليس عندهم أية سيادة قومية، ولذلك فهم تحت رحمة الباشا العثماني، كما أنهم يفتقدون أساس القوة. ولذا، فلن يمكنهم الحصول على الاسـتقلال، وسوف يظل الاستيطان التسللي استيطاناً "يائساً جباناً". وكتب هرتزل لبودنهايمر يخبره بأنه حتى لو وصل التسلليون إلى مستوى كاف من القوة، وحتى لو وهن الباب العالي إلى الحد الذي يسمح للصهاينة بإعلان استقلالهم، فإن هذه المحاولة لن تنجح لأن القوى العظمى الغربية لن تعترف بالكيان الجديد. ويثير هرتزل أيضاً مشكلة الاستعمار الإحلالي، فمهما بلغ عدد المتسللين، ومهما بلغوا من قوة، فسيأتي حتماً الوقت الذي تبدأ فيه الحكومات المعنية (تحت ضغط السكان الأصليين) في وضع حد لتسلل اليهود. إذن، فالهجرة لا فائدة منها "إلا إذا كانت تأتي ضمن السلطة الممنوحة لنا [من قبَل الدول الغربية[".
وانطلاقاً من كل هذا، طرح هرتزل رؤيته الصهيونية الجديدة الحديثة التي خرجت بالصهيونية من إطار المعبد اليهودي والاجتهادات الدينية وجو شرق أوربا الخانق ودخلت بها جو الإمبريالية (الحديث)، فطالب بأن يُنظَر إلى المسألة اليهودية كمشكلة سياسية دولية تجتمع كل الأمم المتحضرة لمناقشتها وإيجاد حل لها (كلمة «دولية» أو «متحضرة» تعني في الواقع «غربية»). ومعنى ذلك أن المسألة اليهودية ستصبح مشكلة قومية غربية تحلها الأمم الغربية أو القـوى العظـمى. إن هذه المسألة يمكن حلها من خلال المنظومة الغربية، إذ يجب أن يتحول الاستيطان من «التسلل» ليصبح «الاستيطان القومي». وهذا يتطلب عملية إدراكية، تترجم نفسها إلى حركة استعمارية. أما العملية الإدراكية، فهي أن يُنظَر لليهود لا باعتبارهم أعضاء في طبقة طفيلية منبوذة وإنما باعتبارهم شعباً عضوياً (فولك) ولكن منبوذاً. أما الحركة الاستعمارية فهي الخروج بموافقة الرأي العام (الغربي) وبموافقة الحكومات المعنية التي يجب أن "تضمن وجودنا لتأسيس دولة يهودية ذات سيادة" مصدر سيادتها ليـس القـوة اليهودية الذاتية كما يظن التسلليون وإنما الحكومات الغربية. وفي إطار هذه الدولة، يمكن تحويل أعضاء الشعب العضوي المنبوذ إلى عنصر نافع لا لأنفسهم وحسب وإنما للحضارة الغربية، إذ سيصبحون عنصراً تابعاً للاستعمار الغربي وقاعدة له. بل إن معاداة اليهود (مأساة اليهود)، إذا ما وُظِّفت توظيفاً صحيحاً، ستكون قوة كافية لإدارة محرك كبير يحمل مسافرين وبضائع، وهذا رمز جيد للاستعمار الاستيطاني.
وقد أدار هرتزل المحرك عن طريق خطابه المراوغ وصياغة العقد الصامت. وقد لاحَظ قيادات أحباء صهيون حتى قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، كيف تحوَّل هرتزل إلى بطل أسطوري، وكيف أن الموقف العام للصهيونية تغيَّر تماماً بعد ظهوره، وأن الاهتمام بالصهيونية والتعاطف معها قد ازداد. وهكذا، وجدوا أنهم إن لم ينضموا إليه لاكتسحهم النسيان، فليس عندهم ما يقدمونه للجماهير سوى «التسلل» المميت. وقد عبَّر أوسيشكين عن هذا الوضع بطريقة بلهاء فقال: "إن هرتزل عنده آمال وبرامج، أما نحن فعندنا برامج وحسب". ولعل ما يريد أن يقوله هو أن هرتزل كان يملك رؤية تجعل بالإمكان وضع البرامج الميتة موضع التنفيذ بسبب اكتشافه حتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية كآلية لتنفيذ المشروع الصهيوني، أما برامجهم التسللية فقد كانت ميتة لأنهم لم يكتشفوا الاستعمار الغربي.
هرتزل والصهيونيتان Herzl and the Two Zionisms
تتبدَّى براعة هرتزل لا في تطويره الخطاب الصهيوني المراوغ وحسب، ولا في اكتشافه حتمية الاعتماد على الإمبريالية فقط، وإنما في اكتشافه منذ البداية نظرية الصهيونيتين. وقد اكتشف هرتزل الصهيونيتين لأنه صهيوني يهودي غير يهودي ينظر إلى اليهود من الخارج، باعتبارهم مادة بشرية مستهدفة، ولكنه ينظر أيضاً إليهم من الداخل باعتبـارهم كياناً بشرياً يحتاج لأن يجد معنى لحياته وأفعـاله.
وقد توجَّه هرتزل للطرفين: يهود الغرب المندمجين التوطينيون، ويهود اليديشية الاستيطانيين. ولكنه واجه متاعب مع الطرفين في طرح حله الصهيوني لأسباب مختلفة:
1 ـ يهود اليديشية:
يشير هرتزل إلى "هؤلاء المسجونين دوماً، الذين لا يتركون سجنهم برضا". والمسجونون هم يهود اليديشية. والواقع أن مسألة يهود شرق أوربا كانت مسألة متشعبة ومتشابكة.
ويمكن تقسيمها إلى قسمين؛ المشكلة الاقتصادية والمشكلة الثقافية أو الإثنية:
أ) المشكلة الاقتصادية:
كان الحل الذي طرحه هرتزل بالنسبة للشق الاقتصادي بسيطاً وهو تحويل الطبقة المضطهدة (أي الجماعات الوظيفية) إلى أمة عن طريق تهجير الفقراء الفائضين، وإتاحة فرص الحراك الاجتماعي أمامهم. ويؤكد هرتزل أن الصهيونية لن تعود بالمستوطنين إلى مرحلة متأخرة، إنما سترتفع بهم إلى مرحلة أعلى "لن نفقد ما نملك إنما سنحافظ عليه... لن يغادر إلا أولئك الذين ستتحسن أوضاعهم بالهجرة... سيذهب أولاً أولئك الذين هم في حالة يأس ثم يتبعهم الفقراء، وبعدهم يذهب الأغنياء. إن الذين يذهبون أولاً سيرفعون أنفسهم إلى مرتبة توازي مرتبة الذين سيلحقون بهم من الأغنياء. وهكذا فإن الخروج سيكون طريقاً للرقي الطبقي"، أي أن جماهير البورجوازية الصغيرة اليهودية في شرق أوربا الذي أدَّى تَعثُّر التحديث إلى القضاء على فرصها في الحراك، سيمكنها مرة أخرى أن تحقق أحلامها عن طريق المشروع الصهيوني. وهناك الكثيرون من الثوريين في صفوف يهود الشرق، ولهذا فإن هرتزل قد وَعَد بتسريب هذه الطاقة الثورية. ولعل فَتْح أبواب الحراك الاجتماعي هو في حد ذاته جزء من عملية التسريب هذه، كما أن عملية نَقْل العنصر الثوري من مجتمعه وطبقته إلى مجتمع جديد ستؤدي إلى تقويض التطلعات الثورية.
ب) مشكلة الإثنية:
لعل مواجهة هرتزل مع المدافعين عن الخطاب الإثني (الديني أو العلماني) كانت من أعمق المواجهات. كان هرتزل يرى أن الانتماء اليهودي (يهودية اليهود) مسـألة مفروضـة عليهم من قبَـل أعدائهم، ولذا فهي مسألة فارغة تماماً؛ شكل من أشكال الغياب، وليست تعبيراً عن ثقافة يهودية، فمثل هذه الثقافة ـ حسب تصوُّره ـ غير موجود إطلاقاً. ولذا، فإن الحل الصهيوني بالنسبة إليه ليس مسألة حفاظ على التقاليد أو تعبير عن هوية بقدر ما هو حل لمشكلة اجتماعية تفاقمت عن طريق الصيغة الاستعمارية وهي نَقْل اليهود خارج الغرب، ولا يهم إن كان نَقْلهم إلى فلسطين أم إلى الأرجـنتين. أما بالنسـبة للــغة الدولة، فلكل مواطن أن يتحدث بلغته. وقد لاحظ أحد أعضاء أحباء صهيون (بعد المؤتمر الأول) أن ثمة خيطاً رفيعاً يفصل حزب هرتزل عن حزبه، فالأول كان لا يطلب سوى إفراغ أوربا من اليهود لوضع نهاية لمعاداة اليهود، بينما كان الثاني يرغب في تأسيس مُستوطَن إرتس يسرائيل ليعبِّر عن الأشكال الإثنية التي عرفوها في شرق أوربا. وقد فرَّق وايزمان بين الصهيونية كحركة إنقاذ (ويمكن أن نسميها أيضاً حركة إفراغ) والصهيونية كحركة تعبير عن الذات. وقد رأى المدافعون عن الصهيونية الإثنية أن هرتزل قد أهمل الجانب التعبيري عن الصهيونية، أي أهمل الإثنية اليهودية.
ولكن هرتزل في الواقع لم يهمل شيئاً، فصيغته المراوغة تسمح بامتصاص أي شيء. ومن هنا كانت أهمية سطحيته وهامشيته في صياغة الحل الصهيوني المقبول للجميع، فحينما كان يتناول قضية مصيرية (على الأقل من وجهة نظر يهود الشرق)، مثل موقع الوطن المقترح، فإنه يتحدث عنها كما لو كانت مسألة عابرة تفصيلية (بسبب خلفيته الغربية غير اليهودية) "أيهما أفضل، فلسطين أم الأرجنتين؟ ستأخذ جمعية اليهود ما يُعطَى لها [من الدول الغربية كما حدث في مشروع شرق أفريقيا] وما يفضله الرأي العام اليهودي. ستقرر الجمعية كلاًّ من هذين الأمرين". وقد ترك هنا مشـكلة الإثنية برمتـها مفـتوحة، فهــي في الواقـع أمر لا يعنيه كثيراً. ولكنه صحفي قادر على كتابة تقارير تتسم بالذكاء وإن كانت لا تتسم بالعمق، وحين يتحدث عن أهمية فلسطين يقول هرتزل "إنها وطننا التاريخي الذي لا يمكننا نسيانه، ومجرد الاسم هو صرخة جامعة عظيمة". ولكنه لا ينسى الأرجنتين، فهي من أخصب بلاد العالم وتمتد فوق مساحات شاسعة، سكانها غير كثيفين، كما أن مناخها معتدل.
إن الصيغة المقترحة صيغة منفتحة جداً، تركت المجال مفتوحاً لأي شكل من أشكال الإثنية العلمانية أو الدينية أو رفض الإثنية، دينية كانت أم علمانية. ومما سهل الأمور أن الصهيونية الإثنية لا تكترث كثيراً بالنشاطات السياسية أو الاقتصادية أو الاستيطانية، ويقتصر نشاطها على أشكال التعبير، ولذا فإن دعاتها لم يطرحوا برنامجاً سياسياً أو اقتصادياً محدداً. وقد قال آحاد هعام ذات مرة: "إن خلاص إسرائيل سيأتي من خلال الأنبياء وليس من خلال الدبلوماسيين الذين يتفاوضون مع القوى الاستعمارية"، وهي عبارة مضحكة تنم عن جهل المفكر الصهيوني بأبعاد المشروع الصهيوني. فإسرائيل التي يتحدث عنها ليست إسرائيل التي كان يبشر بها هرتزل أو التي يمكن أن تساعد الإمبريالية على بنائها، ولذلك فقد اكتسحه هرتزل تماماً، واضطر هو في نهاية الأمر أن يلحق بالحركة التي أسسها الصحفي النمساوي وأن يقوم بجهود دبلوماسية استعمارية (لا علاقة لها كثيراً بالأنبياء أو حتى الكهنة) وذلك أثناء وجوده في لندن. وفي نهاية الأمر، قدَّم هرتزل لأصحاب الخطاب الإثني أو الصهيونية الإثنية فكرة دولة اليهود، أي الدولة الجيتو.
والواقع أن عبارة «دولة اليهود» (يودين شتات) نفسها كانت تُطلَق على الجيتو في مدينة براغ. وبهذا الشكل، قدَّم لهم هرتزل الإطار الذي يمكن أن تتحقق من خلاله إثنيتهم، وفي هذا إشباع لبعض طموحاتهم. وفكرة الدولة نفسها تتضمن فكرة الشعب العضوي الذي له إثنيته العضوية المستقلة التي تحتاج إلى إطار مستقل للتعبير عنها. وهي على أية حال فكرة مُتضمَّنة في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي كان يتحرك في إطـارها العـالم الغـربي وكـذلك هرتـزل.
وماذا عن الدين اليهودي؟ لقد فَقَد هرتزل علاقته بالدين اليهــودي وبقىت لديه (في خطـابه) بضعة مصطلحات مثل «الخـروج»، وبضع إشارات مثل «الماشيَّح». ومع هذا، لم يُغلق هرتزل الباب، بل تركه مفتوحاً للإيمان الديني مثلما تركه مفتوحاً أمام الإثنية، ولذا كان دائماً يحاول أن يخطب ود الحاخامات ويقوم ببعض الشعائر دون أن يفهم معناها، كما كان يستخدم ديباجات دينية أحياناً. بل قد كُشف النقاب عن اتصال هرتزل بالحاخام فيشمان (ميمون فيما بعد) عام 1902 لحثه على إنشاء حزب ديني صهيوني ليوازن العصبة الديموقراطية التي اعترضت على أسلوبه في إدارة المنظمة. وقد اتصل فيشمان بالحاخام إسحق راينس وتم تأسيس حركة مزراحي بناءً على هذه الاتصالات. ودفع هرتزل تكاليف المؤتمر الذي أُسِّست فيه حركة مزراحي من ماله الخاص. وقد نجح دعاة الصهيونية الإثنية في إسقاط ديباجاتهم الحلولية العضوية على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة فقاموا بتهويدها، الأمر الذي يسَّر للمادة البشرية المُستهدَفة استبطانها حتى نسى الجميع أصول الصيغة الصهيونية البروتستانتية والعلمانية التي أصبحت صيغة يهودية قلباً وقالباً.
2 ـ يهود الغرب المندمجون:
واجه هرتزل بعض المتاعب مع يهود الغرب المندمجين. فلم تكن لديهم مسألة يهودية ولكنها عاودت الظهور مع هذا، لا نتيجة تطورات سلبية داخل مجتمعاتهم وإنما بسبب وصول جحافل يهود الشـرق، وهو ما نَجَم عنه التشــابك بين المندمـجين والمنبوذين. ولهذا، فقد اضطر يهود الغرب إلى التنازل الجزئي وليس الكلي عن قيمهم الاندماجية إذ قَبلوا فكرة فشل المُثُل الاندماجية والليبرالية لا بالنسبة لأنفسهم وإنما بالنسبة ليهود الشرق. ولهذا قرروا تقديم يد العون للبؤساء من الشرق، ولكنه عون كان في إطار الصدقات وحسب وخارج أية أطروحات قومية أو أي حديث عن حركة منظمة أو دولة وظيفية، ولذا رفض هؤلاء الأثرياء هرتزل في بداية الأمر. ولكن يهود الشرق استمروا في المجيء بأعداد متزايدة، الأمر الذي زاد تشابكهم وتوترهم.
وقد تنبَّه هرتزل لذلك الوضع وذكَّرهم بأن صهيونيتهم الخيرية (التوطينية) هي في واقع الأمر ضد اليهود المضطهدين وليس من أجلهم، ولسان حاله يقول "تخلَّصوا من المعوزين بأسرع ما يمكن". وهو يزيل عنهم الحرج بخطابه الزلق المراوغ، ويخبرهم بأنه سيفعل ذلك بالضبط، أي أنه سيخلصهم من المعوزين وبطريقة منهجية لن تهدد مواقعهم وانتماءاتهم "فمن يرغب أن يبقى فليبق، ومن يريد الذهاب معنا فلينضم لرايتنا". ولن يهاجر اليهود جميعاً "فهؤلاء الذين يستطيعون أو الذين يرغبون في أن يندمجوا فليبقوا أو يندمجوا، بل إن الحل الصهيوني سيساعدهم على مزيد من الاندماج لأنهم لن يتعرضوا بعد ذلك إلى ما يزعج عملية تلوُّنهم (كما يقول داروين) بلون المحيط الذي سيندمجون فيه بسلام. وسيُصدِّق المجتمع اندماجهم، وذلك إذا ما فضلوا البقاء فيه حتى بعد قيام الدولة اليهودية". فالصيغة الصهيونية ليست صيغة شمولية كاسحة وإنما هي صيغة مراوغة قادرة على إفراز ما يراد منها "فإذا اعترض أحد يهود فرنسا [أو حتى كل يهود فرنسا] على هذه الخطة لأنهم قد اندمجوا. فردي عليهم بسيط: إن الأمر لا يعنيهم. إنهم إسرائيليون فرنسيون"، فهذا الأمر (الصهيوني القومي) ليس إلا مسألة خاصة بالفائض البشري اليهودي (من يهود اليديشية)
بل إن الصهيونية أخذت خطوة ما كان يحلم بها يهود الغرب المندمجون وهي أنها وعدت بتطبيع اليهود (على حد قول نوردو)، أي وسمهم بميسم غربي وتحويلهم إلى شخصيات مفيدة منتجة لا تسـبب الحـرج ليهـود الغـــرب، وهذا شكل من أشكال الدمج والصهر. وأكثر من ذلك أنه إذا كان هرتزل قد أعلن فشل الاندماج على مستوى الأفراد في الشرق، فقد بيَّن بما لا يقبل الشك أنه فعل ذلك صاغراً. وأنه سيُوطِّن هؤلاء الفائضين في دولة اليهود التي ستكــون دولة عـادية تندمج تماماً في عالم الأغيار مع غيرها من الدول. وهكذا، سيحقق يهود شرق أوربا المتخلفون الفائضون، عن طريق التشكيل الاستعماري الغربي، ما فشلوا في تحقيقه عن طريق التشكيل الحضاري الغربي.
والصهيونية ستُنقذ يهود الغرب من جحافل يهود اليديشية ولكنها لن تطالبهم بالهجرة ولن تَفرض عليهم هم الشعارات القومية رغم أنها ستطالبهم بدعم المشروع الصهيوني بالمال والنفوذ. ولكن المشروع الصهيوني جزء من المشروع الاستعماري الغربي والغرب هو مصدر السيادة، ولذا فـإن دعـم اليهودي الغربي للمشروع الصهيوني لن يتناقض مع ولائه لوطنه، لأن الولاء للواحد يعني الولاء للآخر.
والموازنة نفسها التي تؤدي إلى إرضاء الجميع يتسم بها شكل الدولة. فلنأخذ على سبيل المثال قضية السيادة: سيكون الجيب الاستيطاني المُقتَرح دولة ذات سيادة (على الطريقة الغربية) كما كان يتـوق بعـض يهــود اليديشية ممن سيطرت عليهم أفكار القومية العضوية، ولكن مصدر السيادة (كما هو مُتوقَّع) هو الغرب الذي سيرعى الدولة ويحميها، أي أنها ستدور في فلك الغرب، الأمر الذي يَقْبله الغربيون.
وهكذا سيترك اليهود أصدقاء مكرمين (تحت رعاية الدول الغربية). وعندما يعودون لزيارة البلاد التي تركوها، فسوف يستقبلهم أهلها بحفاوة توازي استقبالهم للزوّار الأجانب. وسيتم الاستيطان على النحو التالي: سيذهب أولاً الأكثر فقراً لتأسيس البنية التحتية لزراعة الأرض، سيبنون الطرق والجسور والسكك الحديدية والخطوط اللاسلكية وسيعملون على تنظيم مياه الأنهار ويهيئون لأنفسهم بيوتاً، كل ذلك وفقاً لخطة مدروسة (تضعها جمعية اليهود). وسيؤدي ذلك إلى تجارة، والتجارة تؤدي بدورها إلى أسـواق، والأسـواق تجذب مسـتوطنين جـدداً. وبالتالي، فسوف يتبع المهاجرين الفقراء الأوائل هؤلاء الذين هم أعلى منهم درجة (أي الطبقة الوسطى والمموِّلون)
وهناك قضية تتصل بالتوجه الاقتصادي للدولة، فرغم أن الغرب سيرعى المشروع الصهيوني إلا أنه لن يحسم إلا توجُّهه الإستراتيجي. وسيترك للمنظمة الصهيونية (شأنها شأن شركات الاستعمار الاستيطاني) كامل الحرية في الإشراف على الاستيطان، بكل ما يتطلب ذلك من حرية سياسية واقتصادية، حتى يتمكن المستوطنون من التكيف مع وضعهم الفردي. ولذا فإن وصف هرتزل للعملية الاستيطانية وصف شديد التجرد يتجاوز أية تقسيمات طبقية بل يشمل الجميع.
فهرتزل ـ كما يقول شلومو أفنيري ـ كان ليبرالياً ولكنه في حديثه عن الدولة تخلى عن كثير من مُثُله الليبرالية وتبنَّى مُثُلاً اشتراكية عمالية. ولعل ذلك يعود إلى إدراكه العميق لخصوصية المشروع الصهيوني الذي يهدف إلى تحويل اليهود من طبقة إلى أمة. فمثل هذا التحويل لا يمكن أن يتم من خلال الاقتصاد الحر، ولذا نجده يشير إلى أن ملكية الأراضي في الدولة اليهودية ستكون ملكية عامة، وسيؤجر الفلاحون أرضهم من الصندوق القومي. بل إن عَلَم الدولة اليهودية الذي اقترحه هرتزل علم عمالي صهيوني لونه أبيض "رمزاً لحياتنا الصافية الجديدة، ويتوسطه سبعة نجوم ذهبية رمزاً لساعات العمل السبع. فنحن سندخل أرض الميعاد نحمل شارة العمل".
ويبدو أن هرتزل كان واعياً بأنه بتبنِّيه "المُثُل الاشتراكية" إنما يتبنَّى لغة كان يفهمها شباب اليهود في شرق أوربا، وأنه بذلك كان يكسبهم لصفه، وأنه وضع بذلك إطار التعامل بين المنظمة الصهيونية التي كانت تُوجَد في الغرب الليبرالي من جهة والمستوطنين الذين عليهم أن يتعاملوا مع الظروف الطبيعية القاسية ومع المواطنين الأصليين من جهة أخرى، وهو إطار يفترض أن لكل فريق توجُّهه العقائدي الذي يخدم مصالحه، وأن كل فريق يجب ألا يتدخل في شئون الآخر.
وبهذا، يكون هرتزل قد حدد رقعة كل من التوطينيين والاستيطانيين، وقسَّم العمل بينهم وهدَّأ من روعهم. ولهذا، يحق له أن يقول إنه قدَّم شيئاً يكاد يكون مستحيلاً: "الاتحاد الوطيد بين العناصر اليهودية الحديثة المتطرفة [المندمجون في الغرب والثوريون في الشرق] وبين العناصر اليهـودية المحافظـة [الإثنيون الدينيون والعلمانيون في الشرق]. وقد حدث ذلك بموافقة الطرفين دونما أي تنازل من الجانبين ودون أية تضحية فكـرية"، فالخطـاب المراوغ يسـمح بامتصـاص كل شيء.
هرتزل والحركة الصهيونية Herzl and the Zionist Movement
طوَّر هرتزل الخطاب الصهيوني المراوغ الذي جعل بالإمكان صياغة العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم. وأصبحت كل الأطراف جاهزة للتوقيع. ولكن الاستعمار الغربي لا يتعامل مع أفراد، وإنما مع مؤسسات تمثل المادة البشرية المُسـتهدَفة، أي يجب أن يكـون هناك هيكل تنظيمي يمكن توقيع العـقد معـه. وقد اقــترح هرتزل في دولة اليهود إنشاء مؤسستين: جمعية اليهود (بالإنجليزية: سوسياتي أوف ذا جوز Society of the Jews)، والشركة اليهوديـة (بالإنجليزية: جويش كومباني Jewish Company).
وقد أورد هرتزل هذه التسميات الإنجليزية في النص الألماني لكتابه:
أ) جمعـية اليهـود:
وهي القـوة الخالقـة للدولة في نَظَر القانون الدولي، وهي القسم الذي يُعنى بكل شيء ما عدا حقوق الملكية. فتَوجُّهها ـ كما يقول هرتزل ـ علمي وسياسي تضطلع بمسئولية الشئون القومية، وتتعامل مع الحكومات وتحصل على موافقتهم على فَرْض السيادة اليهودية على قطعة أرض تدير المنطقة كحكومة مؤقتة (فهي إذن تقوم بالجانب التوطيني والتفاوض مع القوى الاستعمارية)
ب) الشركة اليهودية:
وتقوم بتصفية الأعمال التجارية لليهود المغادرين والعمل على تنظيم التجارة والأعمال المتعلقة بها في البلد الجديد. وستكون هذه الشركة هي الشركة اليهودية ذات الامتياز، وستُؤسَّس كشركة مساهمة تُسجَّل في إنجلترا بموجب القانون الإنجليزي وتحت حمايته وتكون خاضعة للتشريع الإنجليزي (أي أنها ستتكفل بالجانب الاستيطاني).
وقد وضع هرتزل أفكاره موضع التنفيذ وعَقَد المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، فحضره ما بين 200 و250 مندوباً (وهذه مشكلة خلافية باعتبار أن من الصعب تقرير من حضر كمراقب ومن حضر كمندوب). وكان معظم المندوبين من جمعية أحباء صهيون ونصفهم من شرق أوربا (كان ربع المندوبين من الإمبراطورية الروسية). ولكن حتى الذين أتوا من الغرب كانوا هم أيضاً من أصل أوربي شرقي. أما من ناحية التكوين الطبقي، فقد كان معظم المندوبين من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة وكان ربعهم رجال أعمال وصناعة وأعمال مالية.
وأما الفئات الثلاث التالية (وتكوِّن كل منها سدس المشتركين)، فقد كانت من الأدباء والمهنيين والطلبة. كما كان هناك 11 حاخاماً، والباقون من مهن مختلفة. وكان بينهم المتدين وغير المتدين والملحـد، كما كانوا يضمـون في صفوفــهم بعض الاشتراكيين. ولم يكن هناك أي يهودي يتمتع بشهرة عالمية باستثناء نوردو الذي ما لبث أن خبا نجمه بعد ذلك (ومن الجدير بالملاحظة أن مشاهير اليهود في العالم لا يتولون قيادة الجمعيات اليهودية والتنظيمات الصهيونية، الأمر الذي يجعلها تقع في أيدي عقليات لا يمكن وصفها بسعة الأفق أو المقدرة على تجاوز موازين القوى القائمة لاستشراف الأبعاد التاريخية للواقع). وقد حضر هشلر، الواعظ البروتستانتي، هذا المؤتمر.
وأعد هرتزل برنامج المؤتمر، وصمم ماكس بودنهايمر الزعيم الصهيوني الألماني شارته، وهي درع أزرق ذو حواف حمراء كُتبت عليه عبارة: "تأسيس الدولة اليهودية هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية"، وفي وسطه أسد يهودا، وحوله نجمة داود واثنتا عشرة نجمة إشارة إلى أسباط إسرائيل. كما تم إصدار طبعة خاصة من مجلة دي فيلت. ووعد رئيس كانتون بازل بأن يحضر أحد اجتماعات المؤتمر. وفي اليوم الذي يسبق المؤتمر، ذهب هرتزل إلى المعبد اليهودي لأداء الصلاة. وقد تم تكريمه بأن طولب بقراءة التوراة، وكان يعرف أن هذا سيحدث، ولذا فقد حفظ في اليوم السابق الدعاء العبري الذي كان عليه أن يلقيه بهذه المناسبة. ودوَّن هرتزل في مذكراته (كملاحظة) أنه يقود جيشاً من الصغار والشحاذين والمغفلين (وهذه هي العبارة التي استخدمها روتشيلد لوصفه حين قابله).
وافتُتح المؤتمر يوم الأحد 29 أغسطس 1897 في صالة الاحتفالات التابعة لكازينو بلدية بازل. وأصر هرتزل أن يرتدي الحاضرون الملابس الرسمية (معطفاً طويلاً ورباط عنق أبيض ربما لتأكيد انتمائهم للحضارة الغربية الحديثة، وابتعادهم عن الجيتو ويهود اليديشية). وألقى نوردو خطاباً وصفه هرتزل بأنه كان المؤتمر، وتم وضع أساس تنظيمي حديث، وأصدر المؤتمر قرارات تُعرَف الآن باسم «برنامج بازل» الذي أصبح الوثيقة النظرية والعملية لأهداف الصهيونية حتى انعقاد المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين (1950).
ولم يكن هناك مفر، بعد تحديد الأطر النظرية والتنظيمية، من تأسيس الأداة التنظيمية التي تتولى تحقيق الأهداف الصهيونية التي جسَّدها برنامج بازل وتكون في الوقت نفسه بمنزلة هيئة رسمية تمثل الحركة الصهيونية في مفاوضاتها مع الدول الاستعمارية الرئيسية آنذاك من أجل استمالة إحداها لتبنِّي المشروع الصهيوني. ولهذه الأغراض، تأسست المنظمة الصهيونية خلال المؤتمر الصهيوني الأول كإطار يضم كل اليهود الذين يقبلون برنامج بازل ويسددون رسم العضوية (شيكل). وقد أُنيطت بالمنظمة مهمة إقامة الدولة الصهيونية لتحقيق الخلاص ليهود العالم أجمع، وانتُخب هرتزل أول رئيس للمنظمة.
وقد اتسع نشاط المنظمة الصهيونية في السنوات القليلة التالية للمؤتمر الصهيوني الأول. ولكي يتَسنَّى لها تنفيذ مخططها الاستيطاني، عملت المنظمة على إنشاء عدد من المؤسسات المالية لتمويل المشروع الصهيوني، وكانت أبرز هذه المؤسسات:
ـ صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار. وقد تأسس عام 1899 لتمويل النشاطات الصهيونية الاستيطانية في فلسطين، ولتدبير الموارد المالية التي تحتاج إليها الحركة الصهيونية. وفي عام 1903، أنشأ الصندوق فرعاً مصرفياً في يافا تحت اسم «الشركة البريطانية الفلسطينية» برأسمال قدره 40 ألف جنيه إسترليني، كما أنشأ عدة فروع أخرى في هولندا وألمانيا (وقد سُمِّيت الشركة فيما بعد «البنك البريطاني الفلسطيني»، ثم سُمِّيت «بنك ليئومي ليسرائيل» منذ عام 1951)
ـ الصندوق القومي اليهودي. وقد تأسَّس عام 1901 بهدف توفير الأموال اللازمة لشراء الأراضي في فلسطين لصالح المستوطنين الصهاينة. ونص قانون النظام الأساسي لهذا الصندوق على اعتبار الأراضي التي يشتريها ملكية أبدية للشعب اليهودي لا يجوز بيعها ولا التصرف فيها.
وبعد تأسيس المنظمة الصهيونية، انتقل النشاط الصهيوني من مرحلة البداية الجنينية ذات الطابع المحلي إلى مرحلة العمل المنظم على الصعيد الغربي. ولكن هرتزل كان قد بدأ نشاطه قبل ذلك إذ كان قد قام بعدة اتصالات مع بعض الشخصيات الاستعمارية، وساعده على ذلك الصهيوني غير اليهودي هشلر.
ولكن، حتى بعد تأسيس المنظمة، كان هرتزل يدرك أن منظمته لا تمثل أحداً، أو أنها تمثل أقلية من اليهود لا يُعتدُّ بها، وأن العنصر الحاسم ليس المنظمة وإنما هو الدولة الراعية. ولذا، فقد تَجاهَل منظمته وبدأ بحثه الدائب عن قوة غربية ترعى المشروع. فقد كان يعلم تمام العلم أنه لو حصل على مثل هذه الموافقة فسترضخ له المنظمة وتتبعه، وخصوصاً أنها لم تكن تملك بديلاً، كما أن الصهاينة التسلليين كانوا يعلمون أن المشروع الصهيوني كان قد وصل بقيادتهم إلى طريق مسدود.
ومن هنا، فإن التفسير التقليدي لسلوك هرتزل بأنه زعيم دكتاتوري وشخصية أوتوقراطية أرستقراطية هو تفسير يحاول تطبيع النسق الصهيوني، أي النظر إليه على أنه نسق طبيعي يتم تفسيره باستخدام القواعد نفسها التي تُستخدَم في تفسير الأنساق المماثلة. وفي هـذا خلل منهجي أسـاسي، فالصهيونية ظاهرة لها قوانينها الخاصة، وأحد قوانينها الأساسية أنها حركة سياسية بلا جماهير. وهذا ما اكتشـفه هـرتزل منذ البداية، ولذا فلا يمكن اتهامه بالدكتاتورية، فقد كان عملياً أكثر من العمليين، مدركاً لما فشل الصهاينة الديموقراطيون في إدراكه، كما كان يعرف كيف يتصل بممثلي الحضارة الغربية ويعرف كيف يتحدث لغتهم وكيف يعرض عليهم العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية.
وانطلاقاً من هذا، تَخطَّى هرتزل الجميع (الجميع كانوا تقريباً من شرق أوربا). وقد بدأ اتصالاته الدبلوماسية أو فلنقل إنه استمر فيها باعتبار أنه كان قد قام باتصالات قبل ذلك. ومن الشخصيات التي اجتمع بها لعرض مشروعه الصهيوني، ملك إيطاليا (عمانوئيل الثالث) ووزير داخلية روسيا (فون بليفيه) وكان شخصية مكروهة تماماً من يهود روسيا. ولكن هرتزل ركَّز معظم جهوده على القوتين الاستعماريتين العظميين آنذاك: ألمانيا وبريطانيا، وهما أيضاً القوتان اللتان كان لهما تطلعات استعمارية في الشرق الأوسط، وكانتا تتنافسان على حماية ومساعدة الباب العالي. ولم يكن هرتزل مُنظِّراً من الدرجة الأولى، ولكنه كان صحفياً يرصد الأحداث بذكاء ويتسم بحس عملي فائق، ولذلك فإنه بعد أن قضى بضع سنوات يغازل ألمانيا (والباب العالي) اكتشف أن الطريق إلى فلسطين يبدأ في لندن، فحمل أمتعته وذهب إلى هناك حيث وجد جوزيف تشامبرلين (وزير المستعمرات البريطاني في وزارة بلفور) شخصاً متفهماً لمشروعه، متقبلاً للفكرة المبدئية وهي حل مسألة يهود شرق أوربا على الطريقة الاستعمارية، أي نَقْلهم إلى الشرق. ولكن وقت تقسيم الدولة العثمانية لم يكن قد حان بعد، ولذا اقترح وزير المستعمرات على هرتزل أن يبحث عن أي أرض أخرى داخل الإمبراطورية الإنجليزية (قبرص ـ العريش ـ شرق أفريقيا). وبعد عدة دراسات واقتراحات واتصالات، استقر الرأي على شرق أفريقيا بناءً على نصيحة تشامبرلين، ولكن الخطة لم يُكتَب لها النجاح. ومع هذا، يمكن القول بأنه تم من خلالها إجراء أول بروفة لتوقيع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم واتخاذ الإجراءات الأولية لتأسيس مُستوطَن صهيوني.
جــذور العنـف الصهـيوني في أفكـار هـرتزل
Roots of Zionist Violence in Herzl's Ideas
طوَّر هرتزل الخطاب المراوغ ودعا كل الأطراف (العالم الغربي ويهود العالم بشقيه الغربي والشرقي) لتوقيع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية. ولكن هناك طرفاً لم يُدعَ للتوقيع، رغم أنه سيضار حين يُوضَع العقد موضع التنفيذ، ألا وهو العرب. فقد ذكر هرتزل هذا الطرف بشكل عابر أحياناً في معرض نقده للصهيونية التسللية التي لم تدرك أن المستوطنين الأصليين (العرب وربما الهنود في الأرجنتين) سيشعرون بأنهم مهددون فيضغطون على الحكـومات المعـنية فتضـطر هذه الحكومات لإيقاف التسلل. ولا يرد لهم ذكر في دولة اليهود أو في الخطاب الذي ألقاه أمام المؤتمر الأول (1897)، أي في الوثائق العلنية الموجهة للصهاينة.
ولكن هناك وثائق علنية أخرى موجهة للرأي العام مثل الأرض الجديدة القديمة حيث يُقدِّم هرتزل صورة وردية لمصير العرب من مواطني الدولة اليهودية الذين سيزدادون رخاءً وسينعمون بالهناء. وقد كتب هرتزل عام 1899 خطاباً لأحد القادة الفلسطينيين يبشره بالرفاهية التي ستعم والثروة التي ستزيد. ولكن، مهما كانت رقة قلب هرتزل، فإن العرب والسكان الأصليين لم يُدعَوا لتوقيع العقد، فسيادة الدولة اليهودية مصدرها الغرب، والحكومات المعنية يمكن أن تسبب المضايقات، أما السكان الأصليون فلا أهمية لهم. وهرتزل لم يكن فريداً في هذا، فتحديث الغرب على الطريقة الاستعمارية كان يفترض أن يدفع الشرق فواتير التقدم الغربي. وبالتالي، فإن السكان الأصليين ليسوا ضمن عملية التحديث وإنما يقعون خارجها تماماً. ولذا، فإن الإغفال والتغييب جزء من النظام الإدراكي الغربي الحديث للآخر، ومن ثم يصبح العنف هو الآلية المحضة لتنفيذ المشاريع التي تتحرك في إطار القانون الدولي العام أي القانون الاستعماري الغربي.
ولكن هرتزل، بمراوغته، لا يتحدث قط عن العنف في الوثائق العامة، إلا من إشارة عابرة للمكابيين في دولة اليهود، وهي إشارة يمكن أن تُفهَم على أن المقصود بعث عسكري وليس بالضرورة عنفاً ضد العرب. والتفسير نفسه يمكن أن ينطبق على خطابه للبارون دي هيرش حين ذكر خطته التي تهدف لأن يخلق من البروليتاريا اليهودية المثقفة (المفكرين المتوسطين الذي يتحدث عنهم في دولة اليهود) شيئاً نافعاً "جنود وكوادر الجيش الذي سيبحث عن الأرض ويكتشفها ثم يستولي عليها". وعلى أية حال، فإن العنف يطل برأسه في كلمة «يستولي». والأمر يختلف قليلاً في اليوميات التي يختلط فيها الإعجاب بالعسكرية البروسية بالحديث عن كيفية الاستيلاء على الملكية الخاصة للسكان الأصليين وكيفية استخدامهم لقَتْل الثعابين وتأمين عمل لهم في بلاد أخرى (كما دوَّن في مذكراته عام 1885). وفي عام 1902، كتب هرتزل لتشامبرلين عن مصير السكان الأصليين في قبرص إن وقعت في الدائرة الصهيونية الحلولية المقدَّسة الفاتكة: "سيُرحَّل المسلمون، أما اليونانيون فسيبيعون أرضهـم بكل سـرور نظـــير سعر جيد ثم يهاجرون إلى أثينا أو كريت"، أي أن الاستيلاء على الأرض وإخلاءها من سكانها هو الافتراض الكامن في كتاباته، فالعنف رابض بين السطور، يتحين الفرصة لكي يتحقق، وينتظر اللحظة المواتية كي ينهمر الرصاص ويسقط النابالم. ومما يجدر ذكره أن هرتزل لا يستبعد استخدام العنف ضد اليهود أنفسهم (إن رفضـوا الخضوع للرؤية الصهـيونية) كما يتضـح في مفـهوم غزو الجاليات. [/font:1