منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)


IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 الباب الثامن: تيودر هـرتزل

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 51967
العمر : 72

الباب الثامن: تيودر هـرتزل  Empty
مُساهمةموضوع: الباب الثامن: تيودر هـرتزل    الباب الثامن: تيودر هـرتزل  Emptyالإثنين 24 فبراير 2014, 8:54 am

الباب الثامن: تيودر هـرتزل 
هرتزل: حياته (1860-1904) Theodor Herzl: Biography 
هو مؤسِّس الحـركة الصهـيونية. وضع نهاية للصــهيونية التسللية وجهودها الطفولية، ونجح في تطوير الخطاب الصهيوني المراوغ، كما نجح في إبرام العقد الصهيوني الصامت بين العالم الغربي والمنظمة الصهيونية باعتبارها ممثلاً غير منتخب ليهود العالم، وهو ما جعل توقيع وعد بلفور؛ أهم حدث في تاريخ الصهيونية، ممكناً. وقد خرجت كل الاتجاهات الصهيونية من تحت عباءته أو من ثنايا خطابه المراوغ. 
والواقع أن شخصية هرتزل تجعله في وضع مثالي يؤهله لأن يكون جسراً موصلاً بين العالم الغربي والجماعات اليهودية فيه، وبين يهود الغرب المندمجين ويهود اليديشية. فقد كان شخصية هامشية مثل يهود المارانو يقف على الحدود، فهو يهودي غربي مندمج لم يبق من يهوديته سوى قشرة، أي أنه يهودي غير يهودي. ومع هذا، فهو يصنف على أنه يهــودي، ولـذا فهو يملك أن يتحـدث للغرب باعتـباره غربياًـ وأن يتحدث ليهـود اليديشية باعتباره يهودياً. فسطحية انتمائه هو ما جعل منه جسراً مثالياً ومعبراً مريحاً. 
وقد بيَّن المفكر الصهيوني جيكوب كلاتزكين المولود في روسيا أن هرتزل هو ثمرة الوعي الإنساني العالمي (أي الغربي) لا ثمرة وعي ثقافي يهودي منحط (من شرق أوربا)، وكلاتزكين مُحقٌّ في ذلك إلى حدٍّ كبير (مع عدم قبولنا لتقييماته وتحيزاته). ولكنه، على أية حال، أهمل أهمية القشرة اليهودية السطحية في تكوين هرتزل، فهي التي أكسبته الشرعية أمام جماهير شرق أوربا اليهودية وأظهرته بمظهر اليهودي الغربي العائد إليهم، ولهذا فقد اعتبروا عودته إحدى علامات آخر الأيام. ولم يكن هرتزل سوى واحد من جيل طويل من اليهود المغتربين الذين كانوا يتنصرون لإعلان ولائهم الغربي (مثل دزرائيلي ووالد ماركــس وهايني). ولكنهم، مع ازدياد العلمانية في الحضارة الغربية، أصبح بإمكانهم الانتماء إلى الغرب بلا تنصُّر، فالغرب نفسه كان قد بدأ يفقد مسيحيته. ولم تكن هامشية هرتزل وحدها هي التي ترشحه لأن يكون الجسر الموصل، وإنما نرى أن سطحيته الفكرية ساهمت إلى حدٍّ كبير في ذلك. ولأنه كان يظل دائماً على سطح الأشياء، لم يدرك عمق التناقضات بين الصهيونية الغربية وصهيونية شرق أوربا، وهو ما جعله قادراً على أن يصل للصيغة المراوغة التي سترضي الجميع دون أن يضطر أحد للتنازل عن شيء. وأعتقد أن عبقريته التي تتحدث عنها التواريخ الصهيونية تكمن هنا. 
وُلد تيودور هرتزل عام 1860 لأب تاجر ثري. وكان يحمل ثلاثة أسماء، أهمها اسمه الألماني «تيودور»، وثانيها اسمه العبري «بنيامين زئيف»، وثالثها اسمه المجري «تيفا دارا». والتحق تيودور الصغير بمدرسة يهودية وعمره ست سنوات لمدة أربعة أعوام انقطعت بعــدها علاقته بالتعليم اليهودي. ولذا، لم يُقدَّر له أن يَدرُس العبرية، بل لم يكن يعرف الأبجدية نفسها. والتحق بعد ذلك بمدرسة ثانوية فنية، ومنها التحق بالكلية الإنجيلية 1876 وعمره 15 سنة (أي أنه التحق بمدرسة مسيحية بروتستانتية، ولعله تَلقَّى تعليماً دينياً مسيحياً هناك)، وأنهى دراسته عام 1878. وكانت أسرة هرتزل مجرية النسب. إلا أنها، ضمن مجموعة من اليهود، قاومت عملية المجيرة (أي صبغها بالصبغة المجرية) واحتفظت بولائها لألمانيا (مثل كثير من يهود المجر: ماكس نوردو وجورج لوكاش وغيرهما). ولذا، نزحت الأسرة إلى فيينا عام 1878. وكان عدد اليهود في فيينا آنذاك (1881) لا يزيد على عشرة آلاف يهودي، ولكن تَعثُّر التحديث في شرق أوربا أدَّى إلى دَفْع جحافل اليهود إلى وسط وغرب أوربا بحيث بلغ عددهم عام 1899 ما يزيد على 100 ألف، أي أنهم زادوا عشرة أضعاف خلال أقل من عشرة أعوام. 
التحق هرتزل بجامعة فيينا وحصل على دكتوراه في القانون الروماني عام 1884 وعمل بالمحاماة لمدة عام، ولكنه فضل أن يكرس حياته للأدب والتأليف. ومع هذا، ظلت عقليته أساساً عقلية قانونية تعاقدية، فنشر ابتداءً من عام 1885 مجموعة من المقالات، وكتب بعض المسرحيات التي لم تلاق نجاحاً كبيراً من أهمها مسرحية الجيتو الجديد (1894) التي تقدم صورة متعاطفة مع بطلها، إلا أنها تقدم اليهود من خلال الأنماط المعروفة في تراث معاداة اليهود في الغرب. وتنتهي المسرحية بأن يطلب البطل الخروج من الجيتو العقلي المضروب حوله، ولكنه في الوقت نفسه يؤكد استحالة هذه العملية. 
ولعل بطل المسرحية يشبه من بعض الوجوه زعماء الحركة الصهيونية في تلك المرحلة، هرتزل وبنسكر ونوردو وجابوتنسكي وغيرهم ممن حاولوا الاندماج في الحضارة الغربية وحاولوا تَرْك تراثهم تماماً ونسيان هويتهم اليهودية (الإثنية والدينية). ولكنهم تصوروا أنهم لم يوفقوا في مساعيهم ولم يتمكنوا من العودة بسبب بعض مظاهر معاداة اليهود أو بسبب تصنيف المجتمع لهم على أنهم يهود. فهم يهود رغم أنفهم، يهود وغير يهود. وقد وَصَفهم نوردو هم وأمثـالهم وصـفاً دقـيقاً في المؤتمر الصهيوني الأول (1987): "يسرع اليهود المندمجون إلى قَطْع خطوط رجعتهم وذلك بتأثير نشوة وضعهم الجديد. لقد أصبح عندهم الآن بيوت جديدة فلم يعودوا بحاجة إلى عزلتهم. أصبح لديهم الآن معارف جدد، فهم غير مجبرين على العيش مع إخوانهم في الدين، وتحوَّل الشعور بالاختلاف إلى تعمُّد التقليد الأعمى". لقد فقد هؤلاء المندمجون هويتهم الإثنية وهويتهم الدينية "لقد فقدوا ذلك الإيمان الذي قد يساعدهم على تحمُّل العذاب واعتباره مجرد قصاص من الإله، كما فَقَـدوا الأمل في مجـيء الماشيَّح الذي سيوجههم إلى المجد في يوم عجيب". وكلما حاولوا التهرب من اليهودية حتى عن طريق التنصُّر، تدفع بهم معاداة اليهود بعيداً عن هدفهم. ولذا، فإنهم يصبحون "المارانو الجدد" أي مسيحيون من الخارج يهود من الداخل. ولكن منطق نوردو نفسه يجعلنا نعتقد أن يهوديتهم الداخلية ضعيفة هامشية، تماماً مثل يهودية المارانو. 
وفي عام 1889، تزوج هرتزل من جولي نتشاور وكانت من أسرة ثرية كان يأمل هرتزل أن يحل من خلالها بعض مشاكله المالية. ولكن الزواج لم يكن موفقاً بسبب ارتباط هرتزل الشديد بأمه التي غذت أحلامه، فقد قامت نشأته على تصوُّر مَن ينتدب نفسه لتحقيق عظائم الأمور ويحلم بأنه صاحب رسالة في الحياة. ويبدو أن مما عقَّد الأمور، عدم حماس الزوجة للتطلعات الصهيونية لدى زوجها. ولعل مشاكل هرتزل الجنسية لعبت دوراً في ذلك، إذ يبدو أنه أصيب بمرض سري (شأنه شأن نيتشه معاصره) وتنقَّل في عدة مصحات للاستشفاء من هذا المرض. وفي عام 1891، التحق هرتزل بصحيفة نويا فرايا براسا أوسع الصحف النمساوية انتشاراً، وأُرسل إلى باريس للعمل مراسلاً للصحيفة هناك (حتى عام 1895) حينما عُيِّن رئيساً لتحرير القسم الأدبي في الصحيفة وبقى في عمله حتى وفاته. 
وهنا قد يكون من المفيد التوقف قليلاً للتحدث عن هوية هرتزل التي كانت تقف بين عدة انتماءات دينية إثنية متنوعة (ألمانية ـ مجرية ـ يهودية ـ بل مسيحية) دون أن ينتمي لأيٍّ منها أو يُستوعَب فيها. فإذا نظرنا لانتمائه اليهودي، فإننا نجد أنه يرفض الدين اليهودي والتقاليد الدينية اليهودية. والواقع أن زوجته كان مشكوكاً في يهوديتها، وقد رفض حاخام فيينا إتمام مراسم الزواج. كما أن هـرتزل لم يختن أولاده ولم يكن الطـعام الذي يُقــدَّم في بيته «كوشير»، أي مباحاً شرعاً. أما تَصوُّره للإله، فلم يكن يستند إلى العقيدة اليهودية بقدر استناده إلى فلسفة إسبينوزا بنزعته الحلولية التي توحِّد الإله والطبيعة، فهي حلولية وحدة الوجود أو حلولية بدون إله (وقد طُرد إسبينوزا نفسه من حظيرة اليهودية ولم يَتبنَّ ديناً آخر، ولهذا فإنه يُعَدُّ أول يهودي إثني في العصر الحديث). وقد تأثر هرتزل بتعاليم شبتاي تسفي الماشيَّح الدجال وظل مشغولاً به وبأحداث حياته. 
أما من الناحية الثقافية، فإن هرتزل كان ابن عصره، يجيد الألمانية والمجرية والإنجليزية والفرنسية. ويبين أحد مؤرخي الحركة الصهيونية أن اتخاذ هرتزل دور الداندي (أي الوجيه الذي يبالغ في الأناقة) وتَظاهُره بأنه من الأرستقراطيين هو القناع الذي كان يختبئ وراءه ليهرب من هويته اليهودية. وكان هرتزل لا يعرف العبرية، وقد تساءل علناً وبسخرية (في المؤتمر الصهيوني الثالث [1899]) عما يُسمَّى «الثقافة اليهودية». وحينما قرَّر مجاملة حاخامات مدينة بازل، اضطر إلى تأدية الصلاة في كنيس المدينة قبيل افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، كما اضطر إلى تعلُّم بضع كلمات عبرية لتأدية الصلاة. وكان المجهود الذي بذله في تعلُّمها أكبر من المجهود الذي بذله في إدارة جلسات المؤتمر بأسرها (حسب قوله). ومما له دلالة عميقة أن هرتزل كان يرى أنه دزرائيلي يهودي، ودزرائيلي هو اليهودي المُتنصِّر الذي دخل عالم الغرب من خلال باب غربي وبشروط غربية بعد أن تخلَّى عن يهوديته أو الجزء الأكبر منها. أما هرتزل فقـد فعـل مثله تماماً باستـثناء التخلي عن القشرة اليهودية المتبقية. 
ولكن، ورغم ابتعاده عن الثقافة اليهودية، نجده متأثراً بعقيدة الماشيَّح المخلّص، ونجد أن ذكرها يتواتر في مراسلاته ومذكراته بأسلوب ينم عن الإيمان بها وإن كان الأمر لا يخلو من السخرية منها في آن واحد.وكان اهتمامه ينصب على الماشيَّح الدجال شبتاي تسفي. وقد اسـتخدم هرتزل كلمـة «الخروج» التوراتية ليشـير إلى مشروعه الاستيطاني، الأمر الذي يدل على أن الأسطورة التوراتية كانت تشكل جزءاً من إطاره الإدراكي. وتتداخل الأساطير الحديثة مع الأساطير اليهودية، ونجده يعتبر أن فرديناند ديليسبس مَثَله الأعلى في الحياة، ونجده يرى أن الكهرباء هي الماشيَّح المنتظر (وهذا امتداد لرؤية إسبينوزا للإله). لكل ذلك، لا يمكن القول بأنه كان يهودياً حقاً (كما هو الحال مع حاخامات الحسيديين مثلاً) ولا حتى بالمعنى الإثني (كما هو الحال مع وايزمان وآحاد هعام)، ولا هو مندمج تماماً (كما هو الحال مع إدوين مونتاجو وأثرياء يهود إنجلترا)، فهو مُعلَّق في الهواء في منطقة حدودية تلتقي فيها الحلولية الكمونية اليهودية بالحلولية الكمونية العلمانية. 
هذه الهوية الهامشية التي تقف على حافة الهويات الأخرى كانت أمراً مقبولاً حسب تعريف الهوية في الإمبراطورية النمساوية/ المجرية، فهو تعريف لم يكن محدداً أو ضيقاً وإنما كان (كما هو الحال دائماً مع الإمبراطوريات) تعريفاً رحباً سمحاً يسمح بتعايش التناقضات. ولهذا، فقد كان من الممكن أن يسمح بوجود مثل هذه الشخصية التي لا تنتمي لليهودية من الناحية الدينية أو الإثنية. ومع هذا، كان بإمكانه التحدث عن نفسه كيهودي دون أن يثير الضحك، كما كان بإمكانه أن يتحدث عن القومية اليهودية والانفصال اليهودي (وقد كان هو شخصياً يتمتع بالاندماج) ولعل هامشية الانتماء الحضاري هذا يفسر جانباً آخر من شخصية هرتزل وهو ذكاؤه الحاد وسطحيته الشديدة. وقد وَصَفه مؤرخ الصهيونية وولتر لاكير بأن تفكيره يتصف بالتبسيط الشديد. ووَصَفه مؤرخ آخر هو حاييم فيتال، في أكثر من مكان، بأنه ذكي دون أن يكون عميقاً، وأنه لم يكن يدرك كثيراً من الأبعاد السياسية لعصره. أما شلومو أفنيري، فيرى أن كتاباته قد تكون متألقة لامعة ولكنها ينقصها العمق الروحي، كما تحدَّث عن "الجانب الخفيف" في طبيعته، أي سطحيته. 
ويطرح السؤال نفسه: 
كيف تتمكن شخصية هامشية سطحية (رغم كل ذكائها)، شخصية لم يكن عندها مصادر مالية، تقف ضدها كل المؤسسات الدينية والمالية اليهودية ولم يكن لديها تنظيم، أن تفرض نفسها بهذا الشكل؟ 
يفسر أحد مؤرخي الحركة الصهيونية (شلومو أفنيري) هذه الأعجوبة بسـببين أولهما: كفـاح هرتزل البطـولي الذي يكـاد يكون جنونياً، وثانيهما: اكتشافه الرأي العام العالمي وألاعيب الإعلام. بل يضيف قائلاً: "إن المشروع الصهيوني قد نجح إلى حدٍّ كبير، حتى الوقت الحاضر، في الوقوف ضد قوة السياسة والتاريخ"، بسبب الرأي العام. ولعل هذا قد يفسر بعض أسرار نجاح هرتزل، ولكنه لا يصلح بأية حال لتفسير نجاحه في تَخطِّي الحاخامات والأثرياء وجمعيات أحباء صهيون وأن يفرض نفسه فرضاً على الجميع ويتحدث باسم يهود أوربا الذين لم يعطوه الصلاحية لأن يفعل ذلك. 
ولكننا نعتقد أن نجاحه يكمن في نقط قصوره وهامشيته وذكائه السطحي، إذ تضافرت هذه العوامل وجعلته قادراً على أن يصل إلى الصيغة التي تفتح الطريق المسدود الذي كانت الصهيونية (بشقيها اليهودي وغير اليهودي) قد دخلته. فهامشيته جعلته قادراً على أن ينظر مثلاً لليهود من الخارج على طريقة العالم الغربي «كمادة بشرية» (المصطلح الذي اسـتخدمه في دولة اليهود) يجـب التخلـص منها أو توظيفها. ولذا، فإن اهتمامه باليهود كان اهتماماً غربياً. ولعل هذا يفسر أن الحلول الأولى التي طرحها للمشكلة اليهودية تتسم بكثير من السوقية الفظة، كأن يقترح تعميد اليهود في كاتدرائية القديس بول في روما. وكما بيَّنا من قبل، لم يكن هرتزل يعرف شيئاً عن عالم اليهود ولكنه كان يعرف بعض الشيء عن شخصيات الاستعمار الغربي مثل بنجامين دزرائيلي وسيسل روديس وهنري ستانلي، وعن موازين القوى وعن رجل أوربا المريض وعن التشكيل الاستعماري الغربي. 
ورغم كل هـذا ورغم إعجابه الشديد بمؤسسات الحضارة الغربية، ابتداءً من العقلية الألمانية وانتهاءً بالمشروع الاستعماري والتكنولوجيا الغربية، إلا أنه اكتشف أن هذه الحضارة قد أوصدت أبوابها دونه أو على الأقل دون الاندماج التام الذي كان يطمح إليه، فتعرَّض لتمييز عنصري ولسخرية لأنه يهودي، فتذكرة الدخول للحضارة الغربية والاندماج الكامل فيها كان لا يزال اعتناق المسيحية (كما اكتشف هايني). ولعل انتماءه إلى جماعة شبابية للمبارزة، وهي جماعة ذات مُثُل قومية ألمانية عضوية، دليل على حرصه على الانتماء الألماني. ولكن الجمعية اتخذت قراراً عام 1881 بعدم ضم أعضاء يهود جدد فقرر الاستقالة احتجاجاً على القرار (ولكن مما له دلالته أن صاحب الاقتراح كان هو نفسه شخصية هامشية، فهو نمساوي من أصل يهودي).
إن هرتزل بهذا المعنى مثال جيد على «اليهودي غير اليهودي»، ولذا كان بإمكانه أن يلعب دور الجسر الموصل، فينظر إليه الغرب على أنه رسولهم إلى اليهود وينظر إليه اليهود على أنه رسولهم للغرب. وهو شخصية هامشية حدودية يستطيع الغرب أن يراه على أنه اليهودي الذي يحمل مُثلاً غربية لليهود فيُفهِّمهم ويساعدهم، وبإمكان اليهود أن يروه الغربي الذي يفهم المسألة اليهودية من الداخل ويعاني منها معهم ويمكن أن يشرح حالتهم للعالم الغربي. ومما له دلالته أن هرتزل لم يكن يُفرِّق بين صهيونية غير اليهود وصهيونية اليهود، فهو في مذكراته يَقرن موسى هس بدزرائيلي بجورج إليوت كممثلين للفكرة الصهيونية. وإذا قرنَّا كل ذلك بجهله بفكر "رجل يُدعى بنسكر" كان يعيش في أوديسا بل بكل ما هو يهودي، لأصبح من الممكن أن نتحدث عنه باعتباره نتاج صهيونية غير اليهود وأن أصوله اليهودية مسألة عرضية. 
وقد ظهر هرتزل في مرحلة كانت صهيونية غير اليهود وصهيونية شرق أوربا فيها قد دخلت طريقاً مسدوداً، فالفريق الأول كان ينظر لليهود من الخارج وكان الثاني لا ينظر إلى الخارج أبداً، أما هو فيهودي غربي، أو إن أردنا الدقة لا هو من شرقها ولا هو من غربها وإنما من وسطها، يقف بين شرقها المتعثر وغربها المندمج. ورغم أنه يهودي كُتب عليه المصير اليهودي، إلا أنه كان كصحفي نمساوي يتحرك بكفاءة في الأوساط الغربية كما كان يتحدث لغتها. وقد قال هو نفسه إنه "تعلَّم في باريس كيف يدار العالم". وكان قد ذهب إلى باريس وعمره 31 عاماً وتركها وعمره 35 عاماً. 
وقد كانت جماهير شرق أوربا تنظر إليه لا باعتباره من وسط أوربا وإنما باعتباره غربياً، واعتُبرت عودته لها إحدى علامات آخر الأيام. وقد عبَّر وايزمان عن هذا الإحساس خير تعبير، بأسلوبه المتورم دائماً حين قال: "أتى هرتزل من عالم غريب لم نعرفه فركعنا أمام النسر الذي جاء من تلك البلاد [ولنلاحظ الصورة الوثنية هنا، فالنسر علامة القوة ورمز عالم الأغيار بكل تأكيد]. ولو أن هرتزل قد تتلمذ في مدرسة دينية (حيدر) لما تبعه أحد من اليهود [يعني يهود شرق أوربا] لقد سحر اليهود لأنه ظهر في قلب الثقافة الأوربية". ولكن هرتزل عاد إلى الشرق بشروطه الغربية، عاد ليُخرج يهود اليديشية من نطاق يهوديتهم التقليدية، أو كما قال نوردو "ليُخرج كل جهودهم الصهيونية من إطار الكنيس والاجتهادات الدينية"، لقد عاد كما عاد هس من قبله وكما يفعل الصهاينة من بعده. 
ولا ندري بالضبط سبب العودة التي تبدو فجائية، ولكننا نعتقد كما ذكرنا أن الهامشية كانت بكل تأكيد أحد الأسباب التي أهلته للعودة، كما أن تَفاقُم المسألة اليهودية مع عقم الحلول الصهيونية المطروحة كانت سبباً آخر. ولعل رفض إحدى مسرحياته عام 1895 له علاقة ما بالموضوع، وهو أمر يَصعُب البت فيه، ولكننا نعرف أن ملامح الحل الصهيوني كانت قد بدأت تختمر حينذاك في عقله وأنه قرَّر في شتاء ذلك العام أن يبدأ جهوده السياسية أو الدبلوماسية، وهي جهود لم تكن بعيدة على كل حال عن جهوده الأدبية، إذ تبدأ اليوميات بالحديث عن الدولة اليهودية كما لو كانت رواية. 
وما بين ربيع عام 1895 وشتائه، اختمرت فكرة الدولة اليهودية في عقل هرتزل، ثم قرَّر أن يسجل أفكاره في كتيب ففعل ذلك في خمسة أيام ونشر موجزاً في جويش كرونيكل ثم نشرها في 14 فبراير 1896 بعنوان دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية. وقد ألَّف هرتزل الكتيب بالألمانية ونشر منه بين عامي 1896 و1904 خمس طبعات بالألمانية وثلاثاً بالروسية وطبعتين بكلٍّ من العبرية واليديشية والفرنسية والرومانية والبلغارية. وقد أصر هرتزل على أن يضع لقبه العلمي (دكتوراه في القانون) بجوار اسمه (ليؤكد حداثة حله). والكراسة مكونة من 30 ألف كلمة (وتقع في 65 صفحة في طبعتها الأصلية) وأسلوبها واضح بسيط لا يتسم بأي عمق أو تفلسُف. وقد وصف هرتزل كتابه بأنه ليس حلاًّ وحسب، وإنما هو "الحل الوحيد الممكن". وطالب بألا يُنظَر إليه على أنه يوتوبيا، فهو مشروع محدد قوته الدافعة هي مأساة اليهود الذين يُعامَلون كغرباء، أي أنه من البداية حدَّد مجال اهتمامه فهو ليس إيجابياً (هوية التراث اليهودي) وإنما سلبي (اضطهادهم). والواقع أن سيرة هرتزل بعد ذلك التاريخ هي سيرة الحركة الصهيونية التي كانت تدور حوله بالدرجة الأولى. 
وقد اختفى نسل هرتزل نهائياً، فكبرى بناته بولين (1890 ـ 1930) كانت مختلة عقلياً وطُلِّقت من زوجها وأصبحت صائدة للرجال ومدمنة للمخدرات. أما أخوها هانز (1891 ـ 1930) الذي لم يختن طيلة حياته، مخالفة للتعاليم اليهودية، فقد أصيب بخلل نفسي واكتئاب شديد ثم تَحوَّل إلى المسيحية وانتحر يوم وفاة أخته. أما الابنة الصغرى، فقد ترددت على كثير من المصحات حتى ماتت عام 1936. وقد نشأ ابنها ـ وحفيد هرتزل الوحيد ـ في إنجلترا حيث غيَّر اسمه من نيومان (اسم ذو نكهة يهودية) إلى نورمان (اسم ذو نكهة أنجلو ساكسونية)، وكان يعمل ضابطاً في الجيش الإنجليزي. وبعد أن ترك الخدمة عُيِّن مستشاراً اقتصادياً للبعثة البريطانية في واشنطن حيث انتحر بأن ألقى بنفسه من على كوبري في النهر.
أفكارهرتزل Herzl's Ideas 
هرتزل ليـس صاحب فكـر وإنما صاحب أفكار وانطباعات متناثرة في نصوص كثيرة لا يتسم معظمها بالذكاء أو التسلسل المنطقي أو الوضوح أو التماسك، فهو ينتقل من نقطة إلى أخرى ثم يعود إليها، ولا يتعمق في أيٍّ من النقاط التي يطرحها. ولذا فيمكنه أن يطرح حلاًّ للمسألة اليهودية بكل جراءة دون إدراك لتضميناته الفلسفية والعملية. وسنحاول في هذا المدخل أن نجمع شتات أفكاره فيما يشبه النسق المتكامل، وهو نسق ليس فيه ارتباط كبير بين المقدمات والنتائج وإنما يتسم بالترهل والهلامية، وهو مليء بالثغرات لعل هرتزل تركها عمداً كي يملأها كل من يقرأ نصه بالطريقة التي تروق له. والنصوص التي سنستخدمها هي دولة اليهود، والخطاب الذي ألقاه هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، ويومياته. كما سنشير إلى رواية الأرض القديمة الجديدة وبعض تصريحات أصدقاء هرتزل المقربين، أمثال ماكس نوردو، لتوضيح نقطة ما أو مفهوم كامن لم يتضح تماماً في كتابات هرتزل نفسها. 
يَصدُر هرتزل عن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، ولكنه طوَّر الخطاب الصهيوني المراوغ وهو ما فتح الباب لتهويد الصيغة الأساسية. وقد يكون الخطاب المراوغ أحد أهم إسهاماته في عملية تطوير الفكر الصهيوني والحركة الصهيونية، فهرتزل يقدم حله للأطراف المعنية بصياغة مراوغة تجعل من الصعب على أي طرف رفض الصيغة، إذ أنها ستُرضي الجميع وستتعايش داخلها التناقضات، وهي صيغة منفتحة جداً تسمح بكل التحورات والتلونات، كالحرباء كل شيء فيها يتغيَّر إلا عمودها الفقري (يستخدم هرتزل صورة الحرباء المجازية للإشارة إلى يهود الغرب في عصره الذين يتلونون ببيئتهم. وفي العصور الوسطى، كان يشار لليهود بأنهم إسفنجة تمتص أي شيء، وهما صورتان مجازيتان متقاربتان في أنهما يؤكدان عدم وجود حدود صلبة، حيث الداخل والخارج متماثلان أو متداخلان رغم وجود "داخل" و"خارج"). ويمكن القول بأن الصياغة الهرتزلية المراوغة هي محاولة أولية لتهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة حتى تستطيع المادة البشرية المُستهدَفة استيعابها، أو هي على الأقل محاولة لفتح الصيغة الأساسية الشاملة المصمتة حتى يمكن استيعاب الديباجات اليهودية ومن ثم يمكن تهويدها. 
وقد ساعدته الصياغة المراوغة على وضع إطار تعاقدي بين يهود الغرب والعالم الغربي، نشير إليه باعتباره «العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية» الذي يُعبِّر عن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. ولكن المراوغة جزء من اتجاه أهم وأشمل في كتابات هرتزل، فقد قرَّر تحديث فَهْم المسألة اليهودية وتحديث الحلول المطروحة ومحاولة تقديم حل رشيد. والواقع أن المفتاح الحقيقي لفهم كتابات هرتزل هو العنوان الفرعي لكتابه دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية. ولا تتبدَّى حداثة هرتزل في الأفكار وحسب وإنما تتبدَّى كذلك في النبرة الهادئة، 
وهو يَصدُر عن فكرة الشعب العضوي المنبوذ ويفسره ويطرح حلولاً عملية للموضوع: 
1 ـ الشعب العضوي المنبوذ. 
يذهب هرتزل إلى أن معاداة اليهود أساسية في الحضارة الغربية لا مجال للتخلص منها، فهي إحدى الحتميات العلمانية التي تعلَّمها هرتزل من داروين وغيره، 
ولذا فهو يقابل الظاهرة بكثير من الهدوء والتجرد ويفسرها على عدة أسس: 
أ) أساس تاريخي اجتماعي. 
تَطوَّر اليهود داخل الجيتو وأصبحوا جزءاً من الطبقة الوسطى المسيحية التي لن تتردد في أن تلقي بهم للاشتراكية، فاليهود قوة مالية مستقلة ونفوذ اقتصادي رهيب. ولذا، فإن الشعوب المسيحية تدفع عن نفسها هذه السيطرة "فليس بمقدورهم أن يخضعوا لنا في الجيش والحكومة وفي جميع مجالات التجارة". وتتضح حداثة هرتزل في هدوئه وهو يستنتج مشروعية معاداة اليهود، فهي "شكل من أشكال الدفاع عن النفس" والمعادون لليهود بطردهم إياهم كانوا ببساطة يدافعون عن أنفسهم. السبب الكامن وراء معاداة اليهود، إذن، سبب موضوعي اجتماعي بنيوي هو المنافسة التجارية. ولكن هرتزل يضيف سبباً آخر هو "التعصب الموروث"، وهو سبب ذو بُعد تاريخي. ولعل هرتزل كان يعني بذلك أن المنافسة التجارية في المجتمعات الغربية البورجوازية كان يجب ألا تؤدي بالضرورة إلى معاداة اليهود. ولكن بسبب التعصب المـوروث، أو بسـبب أنماط الإدراك التقليدية الموروثة عن العصور الوسطى، أدَّى نجاح اليهودي في المجتمع البورجوازي إلى رفضه. 
ب) أساس عرْقي. 
كان هرتزل يرى أحياناً أن اليهود عرْق مستقل، ولذا فقد تحدَّث عن أنوفهم المعقوفة المشوهة وعيونهم الماكرة المراوغة. وكثيراً ما تحدَّث عنهم من خلال الأنماط العرْقية التقليدية الشائعة في أدبيات اليهود. وقد قرأ هرتزل كلاسيكية دوهرنج عن معاداة اليهود عام 1882 فتركت فيه أثراً عميقاً. ويبدو أنه اعتقد صحة ما جاء فيها أو تقبَّلها بشيء من التحفظ. 
جـ(أساس إثني ثقافي. 
كان هرتزل ينظر لليهودي (في عمله المسرحي الجيتو الجديد) من خلال الأنماط الإثنية لأدبيات معاداة اليهود، فاليهودي متسلق اجتماعياً وتاجر في البورصة وشخص يعقد زيجات من أجل المنفعة والمصلحة المالية. واليهود شخصيات كريهة خارجية طفيلية تشكل خطراً على القوميات العضوية في أوربا. وقد كان هرتزل يرى أن اليهود، بماديتهم الموغلة وألمانيتهم الفاسدة (اليديشية)، يقومون بإفساد الروابط العضوية التي تربط أعضاء الفولك الألماني بعضهم ببعض، وتزخر يومياته بالمقارنات التي يعقدها بين الشخصية الألمانية المنفتحة الصحيحة والشخصية اليهودية العليلة. 
ويبدو أن ادعاء الأرستقراطية كان من قبيل محاولة اللجوء إلى عالم الأغيار الرحب هـرباً مما ســماه «المادية اليهودية المفـــرطة» التي زادت بتَساقُط الدين اليهودي. ومن الطريف أن التواريخ الصهيونية ترى أن واقعة دريفوس هي التي هزت هرتزل وأعادته إلى يهوديته، ولكن المقالات التي كتبها لصحيفته عام 1894 تدل على أنه كان مقتنعاً بأن الضابط اليهودي كان مذنباً، ولعل اقتناعه بوجاهة الاتهامات هو الذي قاده إلى الصهيونية. فالكره العميق لليهود واليهودية هو الأساس العميق الكامن للصهيونية.
وقد أصبحت معاداة اليهود واليهودية الإطار المرجعي الوحيد لفكره وهويته، فمعاداة اليهود هي التي حولت اليهود إلى شعب «شعب واحد» (بالألمانية: أين فولك Ein Volk) "هكذا علمنا أعداؤنا سواء رغبنا في ذلك أم لم نرغب، ولذا فإن مصيبتنا تَربطنا، تُوحِّدنا". إن عداء اليهود هو الرابط الحلولي العضوي وليس الإله أو العقيدة كما هو الحال في الحلولية التقليدية. ولذا، فإن ثمة علاقة عضوية بين هويته اليهودية وبين واقع معاداة اليهود: الأولى تنمو بنمو الثانية. ويجب أن نلاحظ أن هذا الشعب قد نُزعت القداسة عنه تماماً، فهو شعب مثل كل الشعوب، وهو مادة بشرية استيطانية. 
والواقع أن صيغة الشعب العضوي صيغة خروجية تصفوية، إن صح التعبير، فهي تعني حتمية خروج الجسم الغريب (اليهود) من الكيان العضوي الأكبر (الحضارة الغربية) واختفائه تماماً، فالخروج هو "الحل النهائي". وقد بيَّن هرتزل أن ثمة علاقة بين خروج موسى والمشروع الصهيوني، ولكن الخروج على الطريقة الموسوية حل قديم بال. ويُعلمن هرتزل الخروج ويشير إلى طرق غير موسوية لإنجازه. ومع هذا، فهي تؤدي جميعاً إلى الهدف المنشود النهائي: يمكن أولاً أن يتم الخروج عن طريق الزواج المُختلَط، ولكن هذا يتطلب ارتفاع المستوى الاقتصادي. ومن الواضح أن ازدياد قوة اليهود المالية وتزاوجهم مع المسيحيين سيزيد تحكُّم اليهود في الاقتصاد، الأمر الذي سيزيد المسألة اليهودية حدة. وقد اقترح هرتزل كذلك عام 1893 تعميد اليهود وتنصيرهم حلاًّ نهائياً للمشكلة. ولعل انضمام اليهود للحركات الاشتراكية كان يشكل أيضاً أحد الحلول من وجهة نظر البعض. ويشير هرتزل في دولة اليهود إلى إحدى المحاولات في عصره، وهي محاولة تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج عن طريق توجيههم من التجارة الهامشية والربا إلى الأعمال الزراعية بحيث يصبح اليهود فلاحين. ويعترض هرتزل على هذا الاتجاه، فالطبقة الصاعدة هي العمال، كما أن اشتغال اليهود بالزراعة لن يزيل المشكلة فمراكز اشتغال اليهود بالزراعة في روسيا هي مراكز حركة معاداة اليهود. 
وبإمكان اليهود الاختفاء أيضاً عن طريق الخروج الفردي أو الهجرة الفردية. ولعل هرتزل كان يشير هنا إلى ملايين اليهود التي هاجرت إلى الولايات المتحدة، ولكن اعتراضه على الهجرة الفردية يدخل ضمن اعتراضه على الصهيونية التسللية وصهيونية الأثرياء التوطينية، وهي في الواقع جهود فردية، ولا يمكن تحقيق الخروج إلا بشكل جماعي. ولنلاحظ أن كل الحلول "حلول نهائية" تنطوي على فكرة اختفاء اليهود، وقد ظل هذا هو جوهر الحل الصهيوني، فهرتزل (الصهيوني اليهودي غير اليهودي) لم يكن له اعتراض على الاندمـاج والذوبان والانصـهار والاختفاء، فهو يقرر في دولة اليهود ، بشيء من الاستحسان، أن اليهود لو تُركوا وشأنهم لاختفوا ولكنهم لا يُترَكون وشأنهم. كما أن كل الحلول النهائية المطروحة حلول يراها هرتزل غير رشيدة (وقد تَوصَّل النازيون إلى أن أكثر الحلـول رشـداً في مجـــال الخروج أو الترانسفير النهائي هو الإبادة، عن طريق السخرة وأفران الغاز، فهو توظيف للمادة البشرية يؤدي إلى نتائج مذهلة، وهذا ما تَوصَّل إليه صديق هرتزل: ألفريد نوسيج الذي تعاون مع النازيين وقدَّم لهم خطة تؤدي إلى الخروج النهائي من خلال الإبادة). 
2 ـ نَفْع اليهود والحل الإمبريالي. 
إذا كان اليهود شعباً عضوياً منبوذاً، فإن أوربا منذ عصر النهضة اكتشـفت نَفْع اليهود وإمكانية حوسـلتهم لصـالح الحضارة الغربية، وهذا ما يفعله هرتزل في دولة اليهود. فهو أيضاً يكتشف إمكانية نفع اليهود وتوظيفهم لصالح أي راع إمبريالي يقوم بوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ. ويبدو أن هرتزل كان يرفض في بادئ الأمر «الخروج» على الطريقة الصهيونية الاستيطانية، شأنه في هذا شأن يهود الغرب المندمجين. وقد نشر في المجلة التي كان يكتب فيها عام 1892 تقارير تفصيلية عن أحوال الاستيطان اليهودي في الأرجنتين. وقد سافر زميل له مندوباً عن يهود برلين (الذين أخافهم وصول يهود اليديشية، تماماً كما أخاف ذلك يهود فيينا) ليَدرُس احتمالات توطين اليهود في البرازيل. كما كان هرتزل يعرف عن مشروع توطين اليهود في الساحل الشمالي الغربي في الجزيرة العربية (الأحساء)، فكتب مقالاً عام 1892 يرفض فيه فكرة عودة اليهود إلى فلسطين وقال: "إن الوطن التاريخي لليهود لم يَعُد ذا قيمة بالنسبة لهم، ومن الطفولي أن يستمر اليهودي في البحث عن موقع جغرافي لوطنه". كما سخر في مقال له من إحدى مسرحيات ألكسندر دوماس لما تحتويه من أفكار وحلول صهيونية. ولكن هذا كان قبل أن يكتشف الاستعمار الغربي. 
ويجب ألا ننسى أن عملية التحديث في الغرب متلازمة تماماً مع العملية الاستعمارية، ولا يمكن فصل الواحدة عن الأخرى. فتراكم رؤوس الأموال الذي يُسمَّى «التراكم الرأسمالي» الذي جعل تشييد البنية التحتية الهائلة في الغرب ممكناً، هو في واقع الأمر «تراكم إمبريالي»، فهو نتاج العملية الاستعمارية التي بدأت بالاحتكار المركنتالي وانتهت بالتقسيم الإمبريالي للعالم. كما أن كثيراً من مشاكل التحديث الغربية من بطالة وانفجار سكاني وسلع زائدة، تم حلها عن طريق الاستعمار، أي عن طريق تصديرها للشرق، واكتشاف هرتزل الطريقة الغربية الإمبريالية الحديثة لحل المشاكل، أي تصديرها وفَرْضها بالقـوة على الآخر، يشـكل الانتقال النوعي في فكره وحياته. 
قبل أن يطرح هرتزل حله، وجَّه نقداً للمحاولات الاستيطانية الصهيونية في عصره (محاولة التسلليين من شرق أوربا بدعم أثرياء الغرب المندمجين) ووصفها بأنها رومانسية مستحيلة دخلت طريقاً مسدوداً. ثم ينتقل هرتزل بعد ذلك فيرفض الفكر المركنتالي الذي يدَّعي أن هناك قيمة محددة في حالة توزيع دائم، ويؤكد بدلاً من ذلك أن العصر الصناعي الرأسمالي والتقدم الفني يؤدي إلى خلق القيم الجديدة المستمرة ويسمح بالتوسع الدائم. ثم يطرح هرتزل رؤيته القائلة بأن ثمة تقدماً هائلاً ودائماً في جميع مجالات الحياة فهناك "سفن تجارية تحملنا بسرعة وأمان عبر البحار الواسعة" و"القطارات تحمل الإنسان عبر جبال العالم، فالمساحات الشاسعة لا تُشكِّل عائقاً الآن. ومع هذا، فنحن نتذمر من مشكلة تكاثُف السكان (وخصوصاً اليهود). إن الانقلاب الصناعي وحركة المواصلات يمكنها أن تحل مشاكل الإنسان [الغربي] ومن بينها المسألة اليهودية". وعبارة «الانقلاب الصناعي وحركة المواصلات» البريئة تعني في واقع الأمر الانقلاب الإمبريالي الذي هيمن على العالم، والذي أمكنه، من خلال الاستعمار الاستيطاني، حل "مشكلة تكاثف السكان".وبعد أن أكد هرتزل للدول الغربية أن نَقْل الشعب العضوي المنبوذ هو الحل المطروح، فإنه يبين لهم منافع الحل الصهيوني المطروح. فبالنسبة للدولة الراعية، ستكون الهجرة هجرة فقراء وحسب، ولذا فإنها لن تؤثر على اقتصادها. كما أن الخروج سيتم تدريجياً، دون أي تعكير، وستستمر الهجرة من ذلك البلد حسب رغبة ذلك البلد في التخلص من اليهود. 
كما أنه يذكر بشيء من التفصيل الثمن الذي سيدفعه اليهود (الدور الذي سيلعبونه والوظيفة التي سيؤدونها) ومدى نفعهم للراعي الاستعماري الذي سيضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ: 
أ) ومن الجدير بالذكر أن الحكومات المعنية ستستفيد من هذه الهجرة استفادة كبيرة. 
ب) ولو كانت الحكومات المعنية هي السلطان العثماني، فإن الفوائد تكون بالغة الكثرة: 
ـ فلو يعطينا جلالة السلطان فلسطين لكنا نأخذ على عاتقنا مقابل ذلك إدارة مالية تركية كاملة. 
ـ ستستفيد هذه السلطات بالمقابل إذ أنها ستدفع قسطاً من دينها العام وستقيم مشاريع نحتاج إليها نحن أيضاً. 
ـ يمكن وضع النفوذ الصهيوني في خدمة السلطان، كأن تقام حملة صحفية ضد الأرمن الذين كانوا يسببون له المتاعب. 
ـ ويمكن أن يؤسِّس الصهاينة جامعة في إستنبول لإبعاد الشباب التركي عن التيارات الثورية في الغرب. 
ـ وأخيراً، فإن هجرة اليهود ستبعث "القوة في الإمبراطورية العثمانية كلها" وهو مطلب ألماني إنجليزي في ذلك الوقت (ضد الزحف الروسي)
جـ) أما لو تم اختيار الأرجنتين كموقع للاستيطان، فمن مصلحتها أيضاً أن تقبلنا في أراضيها. 
د) وسواءٌ تم التهجير إلى الأرجنتين أو إلى فلسطين أو أية منطقة أخرى، فإن فكرة خَلْق دولة يهودية أمر مفيد للأراضي المجاورة، ذلك لأن استثمار قطعة أرض ضيقة يرفع قيمة المناطق المجاورة، وستبعث هجرة اليهود قوة في تلك الأراضي الفقيرة. 
هـ) ولأن هرتزل كما بيَّنا كان يعرف أن الحكومات المعنية هي في الواقع القوى الغربية، لذلك فهو يقدم لهم قائمة كاملة شاملة: 
ـ بهذا الخروج ستكون نهاية فكرة معاداة اليهود، وبالتالي لن يحس الغرب الليبرالي بالحرج بسبب عنصريته الواضحة. 
ـ ومما لا شك فيه أن الدول الغربية ستجني فوائد أخرى مثل تخفيف حدة الانفجار السكاني، كما ستفيد من كل المشاكل الناجمة عن وجود شعب عضوي غريب. 
ـ وفي تحليله أسباب معاداة اليهود، قال هرتزل: "عندما نسقط نصبح بروليتاريا ثورية، نقود كل حزب ثوري، وعندما نصعد تصعد معنا قوتنا المخيفة"، ولذا فإن الصهيونية ستقوم بتخليص الغرب من أحد العناصر الثورية بتسريب طاقتها الثورية في القنوات الصهيونية. 
و) ولكن أهم منافع الصهيونية أنها ستُحوِّل المادة البشرية اليهودية إلى عملاء للدولة الغربية مانحة السيادة ويأخذ هذا أشكالاً كثيرة: 
ـ فبالنسبة للصهاينة الاستيطانيين: يمكن حل المسألة الشرقية والمسألة اليهودية في آن واحد. وسوف يكون لهذا الحل تأثير في العالم المتحضر [الغربي] بأسره ويكون ذلك بأن "يقام هناك [في فلسطين] حائط لحماية أوربا وآسيا [دولة وظيفية] يكون بمنزلة حصن منيع للحضارة في وجه الهمجية. ويتوجب علينا كدولة محايدة أن نبقى على اتصال مع أوربا التي ستضمن وجودنا بالمقابل". وهو يرجو أن تدرك إنجلترا مدى القيمة والفائدة التي ستعود عليها من وراء كَسْبها الشعب اليهودي. 
ـ ولا ندري هل أدرك هرتزل منذ البداية الإستراتيجية الصهيونية الحالية الرامية إلى تفتيت الشرق العربي إلى جماعات دينية وإثنية، فهو يقول: "إن تَحسُّن وضع اليهود سيساعد على تَحسُّن وضع مسيحيي الشرق". فهو بعد أن ربط مصير اليهود بالغرب، يرى إمكانية طرح السيناريو نفسه بالنسبة لمسيحيي الشرق. 
ـ أما بالنسبة لليهود الذين يمكثون خارج فلسطين (الصهاينة التوطينيون)، فيمكن تحويلهم إلى عملاء للدولة مانحة السيادة، فتحصل إنجلترا على عشرة ملايين عميل يضعون أنفسهم في خدمة جلالها ونفوذها. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الثامن: تيودر هـرتزل  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 51967
العمر : 72

الباب الثامن: تيودر هـرتزل  Empty
مُساهمةموضوع: وانطلاقاً من كل هذا، يطرح هرتزل الحل:   الباب الثامن: تيودر هـرتزل  Emptyالإثنين 24 فبراير 2014, 9:09 am

وانطلاقاً من كل هذا، يطرح هرتزل الحل: "يجب ألا يأخذ الخروج شكل هروب أو تسلُّل، وإنما يجب أن يتم بمراقبة الرأي العام [الغربي]. هذا ويجب أن تتم الهجرة وفقاً للقوانين وبمعاونة صادقة من الحكومات المعنية [الغربية طبعاً] التي يجب أن تضمن وجودنا لأن اليهود لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك بأنفسهم". وهكذا رفض هرتزل تماماً فكرة الانعتاق الذاتي باعتباره حلماً رومانسياً، وطرح حتمية الاعتماد على الإمبريالية (وهذا هو مربط الفرس الذي لم يتنبه إليه أي مفكر صهيوني آخر من قبله). ولذا، فإن القول بأن أفكار هرتزل كانت كلها في كتابات أحباء صهيون قول صادق وكاذب في آن واحد! صادق إذا ما فتَّتنا الأفكار إلى وحدات صغيرة، مثل: فكرة الدولة اليهودية، فكرة وطن قومي لليهود، فكرة الاستيطان... إلخ، ولكنه كاذب إذا ما نظرنا إلى البنية الكامنة أو إلى الإطار الكلي المبتكر. 
وعندما تتضح الأمور عند هرتزل، فإنه يتقدم بمطالبه للحكومات الغربية المعنية.. "امنحونا سلطة على قطعة من الأرض في هذا العالم [غير الغربي] تكـفي حاجاتنا القومـية المشـروعة، ونحن سـنعمل ما يتبقى". ويكرر هرتزل الفكرة نفسها في موضع آخر "متى أظهرت القوى الدولية [الغربية] رغبة في مَنْحنا السلطة فوق قطعة أرض محايدة [أي خارج أوربا] ستعمل جمعية اليهود مع السلطات الموجودة في تلك الأراضي [أي الدولة العثمانية أو الحكومة الأرجنتينية أو غيرها من الدول] وتحت إشراف القوى الأوربية [المصدر الوحيد للسلطة]". وبهذا، يكون هرتزل قد قدَّم الحل: دولة يهودية ذات سيادة تُؤسِّس خارج أوربا، مصدر سيادتها هو العالم الغربي، أي أنه سيحقق السيادة من خلال العمالة للقوى العظمى الغربية صاحبة القرار في العالم في ذلك الوقت. 
وهو بذلك قد توصَّل للآلية الكبرى لتنفيذ المشروع الصهيوني وهي الإمبريالية، وللإطار الأمثل وهو الدولة الوظيفية التي سيتم توظيف اليهود من خلالها لصالح العالم الغربي. بل ستُحل مشكلة الهوية اليهودية حلاًّ عبقرياً، فهو يُخرج اليهود من التشكيل القومي الغربي، ويُخلِّص الغرب منهم، ولكنه يُدخلهم الغرب مرة أخرى عن طريق التشكيل الاستعماري الغربي، إذ يبدو أن الدولة الوظيفية سيتم استيعابها في الحضارة الغربية وتصبح دولة مثل كل الدول الغربية. إن الغرب العنصري (ويهود الغرب المندمجين) لم يكونوا على استعداد لتقبُّل الشعب اليهودي العضوي المنبوذ داخل الغرب، ولكن مَنْ الذي يمكنه أن يرفض الشعب اليهودي العضوي الذي يحقق هويته اليهودية هناك بعيداً عن الغرب، داخل دولة وظيفية تقوم على خدمته وتظل تربطه به علاقة؟ 
قد يُقال إن هذا الحل الاستعماري ليس تحديثاً بقدر ما هو استمرار لوضع اليهود القديم في أوربا منذ العصور الوسطى كجسد غريب من المرابين والتجار، في أوربا وليس منها ويعيشون في مسام المجتمع (على حد قول ماركس). ولكن أن يعيش الإنسان على هامش المجتمـع خير له من أن يعيـش في مسـامه، لأن الحـالة الثانية خطرة جداً. كما أن الغرب الحديث على ما يبدو قد ضاقت مسامه كثيراً، ولذا فقد قام بتصفية معظم الجيوب الإثنية. كما أن عملية التحديث تأخذ أحياناً في الظاهر شكل العودة إلى الوراء، إلى القديم وإلى الأصول، ولكنها في الواقع عملية تغيير شاملة. وهذا أيضاً ما فعله هرتزل، فقد احتفظ بالأشكال القديمة (عقيدة الخروج وأسطورة الشعب والعودة) ولكنه أعطاها مضموناً جديداً أو حديثاً، وهذا مؤشر آخر على براعته.
موقف هرتزل من التيارات الصهيونية قبله 
Herzl's Attitude to Preceding Zionist Trends 
لعل أهمية هرتزل في تاريخ الصهيونية هي أنه حوَّل الصهيونية من مجرد فكرة إلى حركة ومنظمة، وبلور العقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية باعتبارها ممثلة ليهود أوربا وبين الحضارة الغربية، ومن ثم فقد خَلَق الإطار اللازم لعملية التوقيع التي تمت في وعد بلفور. ولكن العقد الصامت لم يُولَد مكتملاً بل استغرق ميلاده مدة طويلة، فقد تعثَّر هرتزل نفسه طويلاً قبل أن يصل إلى هذه الصيغة. وبرغم عصرية حلِّه وحداثته إلا أن بصيرته خانته، إذ بدأ نشاطه السياسي بطريقة تقليدية فتوجَّه للقيادات اليهودية التقليدية (الحاخامات والأثرياء) أصحاب النفوذ التقليدي (الذين نظروا إليه بنوع من الفتور أو الاشمئزاز). ففي يونيه 1895، قام هرتزل بمقابلة هيرش (المليونير والمصرفي الألماني اليهودي) ليقرأ عليه خطاباً يحدد فيه حله للمسألة اليهودية، ولكن هيرش لم يسمح له بالاستمرار في الحديث، فأرسل إليه هرتزل خطاباً في اليوم التالي فقوبل بالفتور نفسه. وبدأ هرتزل في كتابة مذكراته وفي كتابة خطاب لعائلة روتشيلد (في فرنسا) أو إلى مجلس العائلة وأنهى الخطاب في يونيه 1895، ثم طلب من حاخام فيينا موريتز جودمان أن يكـون هـمزة الوصل بينه وبين ألبرت روتشيلد زعيم العائلة في فيينا. وقد كان منطقه أن ثروة روتشيلد محكوم عليها بالهلاك والمصادرة في عالم الأغيار، ولذا فإن عليه أن يتبنَّى المشروع الصهيوني. 
ولكن يجب أن نلاحظ أن هرتزل، حتى في هذه المرحلة، كان قد بدأ في عملية التحديث، فهو لم يتقدم للأثرياء اليهود كشحاذ يهودي يطلب الصدقات من إخوانه في الدين وإنما جاء كمفكر يهودي غربي يطرح قضية حاجة اليهود إلى القيادة، وينبه إلى عُقم الاستعمار التسللي في الأرجنتين وفلسطين. والأهم من ذلك كله أنه يطالب أثرياء اليهود بالتوسط لدى قيصر ألمانيا وأن تقوم القيادة اليهودية بتمويل عملية الخروج وأن تُقنع القيصر بأهميتها، وذلك حتى تتم هذه العملية على نطاق واسع وبشكل منظم ومنهجي ورشيد. 
ولكن روتشيلد رفض اقتراحه لأسباب بيَّنها روتشيلد نفسه في تاريخ لاحق: 
1 ـ أن هرتزل سيثير عداوة البدو (أي العرب). 
2 ـ أنه سيثير شكوك الأتراك (أي الدولة المهيمنة على الشرق)، وخصوصاً أن تركيا معادية لروسيا. وروسيا لن تسمح بسقوط فلسطين في يد اليهود (وهنا يدرك روتشيلد أهمية القوى العظمى).
3 ـ سيثير هرتزل غيرة المستعمرات المسيحية والحجاج (المسيحيين) ـ وربما تكون الإشارة هنا إلى مستعمرات فرسان الهيكل وغيرها من المستعمرات. 
4 ـ قد يؤدي هذا إلى هَدْم المستوطنات اليهودية هناك (أي جهود الإنقاذ التي يقوم بها يهود الغرب والتي تضمن لهم الهيمنة).
5 ـ سيثير هرتزل أعداء اليهود لأن أطروحته الصهيونية ستبين أن اليهود المندمجين منافقون في ادعائهم حب أوطانهم، ولذا سيطالب المعادون لليهود بعودة اليهود لوطنهم القومي. 
6 ـ كما أشار روتشيلد إلى قضية التمويل، فمن سيمول 150 ألف شحاذ من الذين سيصلون إلى فلسطين؟.
وعند هذا الحد أدرك هرتزل أن القيادات اليهودية الغربية غير جادة وغير قادرة. ولكنه مع هذا تعلَّم منها الكثير، ذلك أن اعتراضات روتشيلد مهمة. ولعل هذا ساعده في تطوير الخطاب الصهيوني المراوغ. أما قيادات يهود شرق أوربا (التي لم يكن هرتزل يعرف عنها الكثير)، فقـد كانت غير مطروحة أسـاساً لأنها لم تكـن قد دخـلت العالم الحديث بعد، فكان الشرقيون غارقين في الجيتو وكان الغربيون غارقين في الاندماج، فأخذ هرتزل بزمام الموقف وكتب مباشرةً لبسمارك، ثم أعد مذكرة ليقدمها لقيصر ألمانيا. 
ولكن الدول، بطبـيعة الحـال، لا تتعامل مع أفراد وإنما مع كتل بشرية، ولذا فقد كانت الاستجابات سلبية في كل مكان. ولذا قرر هرتزل (على حد قوله) أن يتوجَّه إلى الشعب. والشعب هنا لا يعني الجماهير اليهودية وإنما يعني حركة أحباء صهيون، التي كانت تضم بضعة آلاف من اليهود، كما يعني الحركات المماثلة المتناثرة ذات الأهداف المماثلة، والتي تدعم موقفه التفاوضي أمام عالم الصهيونية غير اليهودية، عالم الاستعمار الغربي. ويكون هرتزل بهذا قد حطَّم الجيتو، وقام بتحديث قيادة اليهود في الغرب، أو طرح نفسه (وهو الصحفي ذو الثقافة الغربية) بديلاً عن الأثرياء والحاخامات. وقد كان هرتزل أكثر ذكاءً من الآخرين لأنه كان يملك ما لا يملكون: رؤية جديدة للمسألة اليهودية وعقداً جاهزاً للتوقيع مع الحضارة الغربية يرضي جميع الأطراف. لقد اكتشف حتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية.
توجَّه هرتزل، إذن، للشعب ولكنه كان يرفض النزعات الصهيونية السابقة عليه، فصهيونية أثرياء يهود الغرب المندمجين (صهيونية الإنقاذ التي تأخذ شكل صدقات) غير صالحة لأن المشروع الصهـيوني مشروع ضخم يتجاوز الجهود الفردية. أما بالنسبة للتسلل، فقد ساهم الصهاينة التسلليون ولا شك في إلقاء الضوء على فكرة تأسيس الدولة (وهي أحد عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة)، كما أن أخطاء التسلليين أثناء الممارسة قد تفيد في تنفيذ المشاريع الضخمة المقبلة. ولكن التسلل، مع هذا، بَذَر الشك في نفوس الناس بشأن المشروع الصهيوني ككل، كما أنه اتسم بالرومانسية، فالمتسللون من أحباء صهيون يظنون أن خروج اليهود سيتخذ شكل تَرْك الحضارة والسكنى في الصحراء. لكن الأمر ليس كذلك إذ أن كل شيء سيتم في إطار الحضارة (الغربية). وقد شبَّه نوردو وهرتزل التسلليين بالبوكسرز الذين قاموا بثورة رومانسية في الصين وأرادوا التصدي للزحف الغربي بالوسائل التقليدية. وتتجلَّى سطحية هرتزل وبرجماتيته في اعتراضه على التسلل باعتبار أنه سيؤدي إلى رفع أسعار الأراضي (فالسمسار في داخله لا يهدأ له بال)، ثم يبين بعملية حسابية عبث الحلول التسللية قائلاً: "لو افترضنا أن عدد يهود العالم هو تسعة ملايين [كانوا عشرة ملايين في واقع الأمر]، وإذا كان بإمكاننا إرسال عشرة آلاف يهودي كي يستعمروا فلسطين سنوياً، فهذا يعني أن المسألة اليهودية ستُحَّل بعد تسعمائة سنة". ومن هنا، فقد شبه التسلليين بمن يريد نزح المحيط بواسطة دلو. 
ثم يثير هرتزل قضية مهمة أخيرة، هي أن التسلليين ليس عندهم أية سيادة قومية، ولذلك فهم تحت رحمة الباشا العثماني، كما أنهم يفتقدون أساس القوة. ولذا، فلن يمكنهم الحصول على الاسـتقلال، وسوف يظل الاستيطان التسللي استيطاناً "يائساً جباناً". وكتب هرتزل لبودنهايمر يخبره بأنه حتى لو وصل التسلليون إلى مستوى كاف من القوة، وحتى لو وهن الباب العالي إلى الحد الذي يسمح للصهاينة بإعلان استقلالهم، فإن هذه المحاولة لن تنجح لأن القوى العظمى الغربية لن تعترف بالكيان الجديد. ويثير هرتزل أيضاً مشكلة الاستعمار الإحلالي، فمهما بلغ عدد المتسللين، ومهما بلغوا من قوة، فسيأتي حتماً الوقت الذي تبدأ فيه الحكومات المعنية (تحت ضغط السكان الأصليين) في وضع حد لتسلل اليهود. إذن، فالهجرة لا فائدة منها "إلا إذا كانت تأتي ضمن السلطة الممنوحة لنا [من قبَل الدول الغربية[". 
وانطلاقاً من كل هذا، طرح هرتزل رؤيته الصهيونية الجديدة الحديثة التي خرجت بالصهيونية من إطار المعبد اليهودي والاجتهادات الدينية وجو شرق أوربا الخانق ودخلت بها جو الإمبريالية (الحديث)، فطالب بأن يُنظَر إلى المسألة اليهودية كمشكلة سياسية دولية تجتمع كل الأمم المتحضرة لمناقشتها وإيجاد حل لها (كلمة «دولية» أو «متحضرة» تعني في الواقع «غربية»). ومعنى ذلك أن المسألة اليهودية ستصبح مشكلة قومية غربية تحلها الأمم الغربية أو القـوى العظـمى. إن هذه المسألة يمكن حلها من خلال المنظومة الغربية، إذ يجب أن يتحول الاستيطان من «التسلل» ليصبح «الاستيطان القومي». وهذا يتطلب عملية إدراكية، تترجم نفسها إلى حركة استعمارية. أما العملية الإدراكية، فهي أن يُنظَر لليهود لا باعتبارهم أعضاء في طبقة طفيلية منبوذة وإنما باعتبارهم شعباً عضوياً (فولك) ولكن منبوذاً. أما الحركة الاستعمارية فهي الخروج بموافقة الرأي العام (الغربي) وبموافقة الحكومات المعنية التي يجب أن "تضمن وجودنا لتأسيس دولة يهودية ذات سيادة" مصدر سيادتها ليـس القـوة اليهودية الذاتية كما يظن التسلليون وإنما الحكومات الغربية. وفي إطار هذه الدولة، يمكن تحويل أعضاء الشعب العضوي المنبوذ إلى عنصر نافع لا لأنفسهم وحسب وإنما للحضارة الغربية، إذ سيصبحون عنصراً تابعاً للاستعمار الغربي وقاعدة له. بل إن معاداة اليهود (مأساة اليهود)، إذا ما وُظِّفت توظيفاً صحيحاً، ستكون قوة كافية لإدارة محرك كبير يحمل مسافرين وبضائع، وهذا رمز جيد للاستعمار الاستيطاني. 
وقد أدار هرتزل المحرك عن طريق خطابه المراوغ وصياغة العقد الصامت. وقد لاحَظ قيادات أحباء صهيون حتى قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، كيف تحوَّل هرتزل إلى بطل أسطوري، وكيف أن الموقف العام للصهيونية تغيَّر تماماً بعد ظهوره، وأن الاهتمام بالصهيونية والتعاطف معها قد ازداد. وهكذا، وجدوا أنهم إن لم ينضموا إليه لاكتسحهم النسيان، فليس عندهم ما يقدمونه للجماهير سوى «التسلل» المميت. وقد عبَّر أوسيشكين عن هذا الوضع بطريقة بلهاء فقال: "إن هرتزل عنده آمال وبرامج، أما نحن فعندنا برامج وحسب". ولعل ما يريد أن يقوله هو أن هرتزل كان يملك رؤية تجعل بالإمكان وضع البرامج الميتة موضع التنفيذ بسبب اكتشافه حتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية كآلية لتنفيذ المشروع الصهيوني، أما برامجهم التسللية فقد كانت ميتة لأنهم لم يكتشفوا الاستعمار الغربي.
هرتزل والصهيونيتان Herzl and the Two Zionisms 
تتبدَّى براعة هرتزل لا في تطويره الخطاب الصهيوني المراوغ وحسب، ولا في اكتشافه حتمية الاعتماد على الإمبريالية فقط، وإنما في اكتشافه منذ البداية نظرية الصهيونيتين. وقد اكتشف هرتزل الصهيونيتين لأنه صهيوني يهودي غير يهودي ينظر إلى اليهود من الخارج، باعتبارهم مادة بشرية مستهدفة، ولكنه ينظر أيضاً إليهم من الداخل باعتبـارهم كياناً بشرياً يحتاج لأن يجد معنى لحياته وأفعـاله. 
وقد توجَّه هرتزل للطرفين: يهود الغرب المندمجين التوطينيون، ويهود اليديشية الاستيطانيين. ولكنه واجه متاعب مع الطرفين في طرح حله الصهيوني لأسباب مختلفة: 
1 ـ يهود اليديشية: 
يشير هرتزل إلى "هؤلاء المسجونين دوماً، الذين لا يتركون سجنهم برضا". والمسجونون هم يهود اليديشية. والواقع أن مسألة يهود شرق أوربا كانت مسألة متشعبة ومتشابكة.
ويمكن تقسيمها إلى قسمين؛ المشكلة الاقتصادية والمشكلة الثقافية أو الإثنية: 
أ) المشكلة الاقتصادية: 
كان الحل الذي طرحه هرتزل بالنسبة للشق الاقتصادي بسيطاً وهو تحويل الطبقة المضطهدة (أي الجماعات الوظيفية) إلى أمة عن طريق تهجير الفقراء الفائضين، وإتاحة فرص الحراك الاجتماعي أمامهم. ويؤكد هرتزل أن الصهيونية لن تعود بالمستوطنين إلى مرحلة متأخرة، إنما سترتفع بهم إلى مرحلة أعلى "لن نفقد ما نملك إنما سنحافظ عليه... لن يغادر إلا أولئك الذين ستتحسن أوضاعهم بالهجرة... سيذهب أولاً أولئك الذين هم في حالة يأس ثم يتبعهم الفقراء، وبعدهم يذهب الأغنياء. إن الذين يذهبون أولاً سيرفعون أنفسهم إلى مرتبة توازي مرتبة الذين سيلحقون بهم من الأغنياء. وهكذا فإن الخروج سيكون طريقاً للرقي الطبقي"، أي أن جماهير البورجوازية الصغيرة اليهودية في شرق أوربا الذي أدَّى تَعثُّر التحديث إلى القضاء على فرصها في الحراك، سيمكنها مرة أخرى أن تحقق أحلامها عن طريق المشروع الصهيوني. وهناك الكثيرون من الثوريين في صفوف يهود الشرق، ولهذا فإن هرتزل قد وَعَد بتسريب هذه الطاقة الثورية. ولعل فَتْح أبواب الحراك الاجتماعي هو في حد ذاته جزء من عملية التسريب هذه، كما أن عملية نَقْل العنصر الثوري من مجتمعه وطبقته إلى مجتمع جديد ستؤدي إلى تقويض التطلعات الثورية. 
ب) مشكلة الإثنية: 
لعل مواجهة هرتزل مع المدافعين عن الخطاب الإثني (الديني أو العلماني) كانت من أعمق المواجهات. كان هرتزل يرى أن الانتماء اليهودي (يهودية اليهود) مسـألة مفروضـة عليهم من قبَـل أعدائهم، ولذا فهي مسألة فارغة تماماً؛ شكل من أشكال الغياب، وليست تعبيراً عن ثقافة يهودية، فمثل هذه الثقافة ـ حسب تصوُّره ـ غير موجود إطلاقاً. ولذا، فإن الحل الصهيوني بالنسبة إليه ليس مسألة حفاظ على التقاليد أو تعبير عن هوية بقدر ما هو حل لمشكلة اجتماعية تفاقمت عن طريق الصيغة الاستعمارية وهي نَقْل اليهود خارج الغرب، ولا يهم إن كان نَقْلهم إلى فلسطين أم إلى الأرجـنتين. أما بالنسـبة للــغة الدولة، فلكل مواطن أن يتحدث بلغته. وقد لاحظ أحد أعضاء أحباء صهيون (بعد المؤتمر الأول) أن ثمة خيطاً رفيعاً يفصل حزب هرتزل عن حزبه، فالأول كان لا يطلب سوى إفراغ أوربا من اليهود لوضع نهاية لمعاداة اليهود، بينما كان الثاني يرغب في تأسيس مُستوطَن إرتس يسرائيل ليعبِّر عن الأشكال الإثنية التي عرفوها في شرق أوربا. وقد فرَّق وايزمان بين الصهيونية كحركة إنقاذ (ويمكن أن نسميها أيضاً حركة إفراغ) والصهيونية كحركة تعبير عن الذات. وقد رأى المدافعون عن الصهيونية الإثنية أن هرتزل قد أهمل الجانب التعبيري عن الصهيونية، أي أهمل الإثنية اليهودية. 
ولكن هرتزل في الواقع لم يهمل شيئاً، فصيغته المراوغة تسمح بامتصاص أي شيء. ومن هنا كانت أهمية سطحيته وهامشيته في صياغة الحل الصهيوني المقبول للجميع، فحينما كان يتناول قضية مصيرية (على الأقل من وجهة نظر يهود الشرق)، مثل موقع الوطن المقترح، فإنه يتحدث عنها كما لو كانت مسألة عابرة تفصيلية (بسبب خلفيته الغربية غير اليهودية) "أيهما أفضل، فلسطين أم الأرجنتين؟ ستأخذ جمعية اليهود ما يُعطَى لها [من الدول الغربية كما حدث في مشروع شرق أفريقيا] وما يفضله الرأي العام اليهودي. ستقرر الجمعية كلاًّ من هذين الأمرين". وقد ترك هنا مشـكلة الإثنية برمتـها مفـتوحة، فهــي في الواقـع أمر لا يعنيه كثيراً. ولكنه صحفي قادر على كتابة تقارير تتسم بالذكاء وإن كانت لا تتسم بالعمق، وحين يتحدث عن أهمية فلسطين يقول هرتزل "إنها وطننا التاريخي الذي لا يمكننا نسيانه، ومجرد الاسم هو صرخة جامعة عظيمة". ولكنه لا ينسى الأرجنتين، فهي من أخصب بلاد العالم وتمتد فوق مساحات شاسعة، سكانها غير كثيفين، كما أن مناخها معتدل. 
إن الصيغة المقترحة صيغة منفتحة جداً، تركت المجال مفتوحاً لأي شكل من أشكال الإثنية العلمانية أو الدينية أو رفض الإثنية، دينية كانت أم علمانية. ومما سهل الأمور أن الصهيونية الإثنية لا تكترث كثيراً بالنشاطات السياسية أو الاقتصادية أو الاستيطانية، ويقتصر نشاطها على أشكال التعبير، ولذا فإن دعاتها لم يطرحوا برنامجاً سياسياً أو اقتصادياً محدداً. وقد قال آحاد هعام ذات مرة: "إن خلاص إسرائيل سيأتي من خلال الأنبياء وليس من خلال الدبلوماسيين الذين يتفاوضون مع القوى الاستعمارية"، وهي عبارة مضحكة تنم عن جهل المفكر الصهيوني بأبعاد المشروع الصهيوني. فإسرائيل التي يتحدث عنها ليست إسرائيل التي كان يبشر بها هرتزل أو التي يمكن أن تساعد الإمبريالية على بنائها، ولذلك فقد اكتسحه هرتزل تماماً، واضطر هو في نهاية الأمر أن يلحق بالحركة التي أسسها الصحفي النمساوي وأن يقوم بجهود دبلوماسية استعمارية (لا علاقة لها كثيراً بالأنبياء أو حتى الكهنة) وذلك أثناء وجوده في لندن. وفي نهاية الأمر، قدَّم هرتزل لأصحاب الخطاب الإثني أو الصهيونية الإثنية فكرة دولة اليهود، أي الدولة الجيتو.
والواقع أن عبارة «دولة اليهود» (يودين شتات) نفسها كانت تُطلَق على الجيتو في مدينة براغ. وبهذا الشكل، قدَّم لهم هرتزل الإطار الذي يمكن أن تتحقق من خلاله إثنيتهم، وفي هذا إشباع لبعض طموحاتهم. وفكرة الدولة نفسها تتضمن فكرة الشعب العضوي الذي له إثنيته العضوية المستقلة التي تحتاج إلى إطار مستقل للتعبير عنها. وهي على أية حال فكرة مُتضمَّنة في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي كان يتحرك في إطـارها العـالم الغـربي وكـذلك هرتـزل. 
وماذا عن الدين اليهودي؟ لقد فَقَد هرتزل علاقته بالدين اليهــودي وبقىت لديه (في خطـابه) بضعة مصطلحات مثل «الخـروج»، وبضع إشارات مثل «الماشيَّح». ومع هذا، لم يُغلق هرتزل الباب، بل تركه مفتوحاً للإيمان الديني مثلما تركه مفتوحاً أمام الإثنية، ولذا كان دائماً يحاول أن يخطب ود الحاخامات ويقوم ببعض الشعائر دون أن يفهم معناها، كما كان يستخدم ديباجات دينية أحياناً. بل قد كُشف النقاب عن اتصال هرتزل بالحاخام فيشمان (ميمون فيما بعد) عام 1902 لحثه على إنشاء حزب ديني صهيوني ليوازن العصبة الديموقراطية التي اعترضت على أسلوبه في إدارة المنظمة. وقد اتصل فيشمان بالحاخام إسحق راينس وتم تأسيس حركة مزراحي بناءً على هذه الاتصالات. ودفع هرتزل تكاليف المؤتمر الذي أُسِّست فيه حركة مزراحي من ماله الخاص. وقد نجح دعاة الصهيونية الإثنية في إسقاط ديباجاتهم الحلولية العضوية على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة فقاموا بتهويدها، الأمر الذي يسَّر للمادة البشرية المُستهدَفة استبطانها حتى نسى الجميع أصول الصيغة الصهيونية البروتستانتية والعلمانية التي أصبحت صيغة يهودية قلباً وقالباً.
2 ـ يهود الغرب المندمجون: 
واجه هرتزل بعض المتاعب مع يهود الغرب المندمجين. فلم تكن لديهم مسألة يهودية ولكنها عاودت الظهور مع هذا، لا نتيجة تطورات سلبية داخل مجتمعاتهم وإنما بسبب وصول جحافل يهود الشـرق، وهو ما نَجَم عنه التشــابك بين المندمـجين والمنبوذين. ولهذا، فقد اضطر يهود الغرب إلى التنازل الجزئي وليس الكلي عن قيمهم الاندماجية إذ قَبلوا فكرة فشل المُثُل الاندماجية والليبرالية لا بالنسبة لأنفسهم وإنما بالنسبة ليهود الشرق. ولهذا قرروا تقديم يد العون للبؤساء من الشرق، ولكنه عون كان في إطار الصدقات وحسب وخارج أية أطروحات قومية أو أي حديث عن حركة منظمة أو دولة وظيفية، ولذا رفض هؤلاء الأثرياء هرتزل في بداية الأمر. ولكن يهود الشرق استمروا في المجيء بأعداد متزايدة، الأمر الذي زاد تشابكهم وتوترهم. 
وقد تنبَّه هرتزل لذلك الوضع وذكَّرهم بأن صهيونيتهم الخيرية (التوطينية) هي في واقع الأمر ضد اليهود المضطهدين وليس من أجلهم، ولسان حاله يقول "تخلَّصوا من المعوزين بأسرع ما يمكن". وهو يزيل عنهم الحرج بخطابه الزلق المراوغ، ويخبرهم بأنه سيفعل ذلك بالضبط، أي أنه سيخلصهم من المعوزين وبطريقة منهجية لن تهدد مواقعهم وانتماءاتهم "فمن يرغب أن يبقى فليبق، ومن يريد الذهاب معنا فلينضم لرايتنا". ولن يهاجر اليهود جميعاً "فهؤلاء الذين يستطيعون أو الذين يرغبون في أن يندمجوا فليبقوا أو يندمجوا، بل إن الحل الصهيوني سيساعدهم على مزيد من الاندماج لأنهم لن يتعرضوا بعد ذلك إلى ما يزعج عملية تلوُّنهم (كما يقول داروين) بلون المحيط الذي سيندمجون فيه بسلام. وسيُصدِّق المجتمع اندماجهم، وذلك إذا ما فضلوا البقاء فيه حتى بعد قيام الدولة اليهودية". فالصيغة الصهيونية ليست صيغة شمولية كاسحة وإنما هي صيغة مراوغة قادرة على إفراز ما يراد منها "فإذا اعترض أحد يهود فرنسا [أو حتى كل يهود فرنسا] على هذه الخطة لأنهم قد اندمجوا. فردي عليهم بسيط: إن الأمر لا يعنيهم. إنهم إسرائيليون فرنسيون"، فهذا الأمر (الصهيوني القومي) ليس إلا مسألة خاصة بالفائض البشري اليهودي (من يهود اليديشية)
بل إن الصهيونية أخذت خطوة ما كان يحلم بها يهود الغرب المندمجون وهي أنها وعدت بتطبيع اليهود (على حد قول نوردو)، أي وسمهم بميسم غربي وتحويلهم إلى شخصيات مفيدة منتجة لا تسـبب الحـرج ليهـود الغـــرب، وهذا شكل من أشكال الدمج والصهر. وأكثر من ذلك أنه إذا كان هرتزل قد أعلن فشل الاندماج على مستوى الأفراد في الشرق، فقد بيَّن بما لا يقبل الشك أنه فعل ذلك صاغراً. وأنه سيُوطِّن هؤلاء الفائضين في دولة اليهود التي ستكــون دولة عـادية تندمج تماماً في عالم الأغيار مع غيرها من الدول. وهكذا، سيحقق يهود شرق أوربا المتخلفون الفائضون، عن طريق التشكيل الاستعماري الغربي، ما فشلوا في تحقيقه عن طريق التشكيل الحضاري الغربي. 
والصهيونية ستُنقذ يهود الغرب من جحافل يهود اليديشية ولكنها لن تطالبهم بالهجرة ولن تَفرض عليهم هم الشعارات القومية رغم أنها ستطالبهم بدعم المشروع الصهيوني بالمال والنفوذ. ولكن المشروع الصهيوني جزء من المشروع الاستعماري الغربي والغرب هو مصدر السيادة، ولذا فـإن دعـم اليهودي الغربي للمشروع الصهيوني لن يتناقض مع ولائه لوطنه، لأن الولاء للواحد يعني الولاء للآخر. 
والموازنة نفسها التي تؤدي إلى إرضاء الجميع يتسم بها شكل الدولة. فلنأخذ على سبيل المثال قضية السيادة: سيكون الجيب الاستيطاني المُقتَرح دولة ذات سيادة (على الطريقة الغربية) كما كان يتـوق بعـض يهــود اليديشية ممن سيطرت عليهم أفكار القومية العضوية، ولكن مصدر السيادة (كما هو مُتوقَّع) هو الغرب الذي سيرعى الدولة ويحميها، أي أنها ستدور في فلك الغرب، الأمر الذي يَقْبله الغربيون. 
وهكذا سيترك اليهود أصدقاء مكرمين (تحت رعاية الدول الغربية). وعندما يعودون لزيارة البلاد التي تركوها، فسوف يستقبلهم أهلها بحفاوة توازي استقبالهم للزوّار الأجانب. وسيتم الاستيطان على النحو التالي: سيذهب أولاً الأكثر فقراً لتأسيس البنية التحتية لزراعة الأرض، سيبنون الطرق والجسور والسكك الحديدية والخطوط اللاسلكية وسيعملون على تنظيم مياه الأنهار ويهيئون لأنفسهم بيوتاً، كل ذلك وفقاً لخطة مدروسة (تضعها جمعية اليهود). وسيؤدي ذلك إلى تجارة، والتجارة تؤدي بدورها إلى أسـواق، والأسـواق تجذب مسـتوطنين جـدداً. وبالتالي، فسوف يتبع المهاجرين الفقراء الأوائل هؤلاء الذين هم أعلى منهم درجة (أي الطبقة الوسطى والمموِّلون) 
وهناك قضية تتصل بالتوجه الاقتصادي للدولة، فرغم أن الغرب سيرعى المشروع الصهيوني إلا أنه لن يحسم إلا توجُّهه الإستراتيجي. وسيترك للمنظمة الصهيونية (شأنها شأن شركات الاستعمار الاستيطاني) كامل الحرية في الإشراف على الاستيطان، بكل ما يتطلب ذلك من حرية سياسية واقتصادية، حتى يتمكن المستوطنون من التكيف مع وضعهم الفردي. ولذا فإن وصف هرتزل للعملية الاستيطانية وصف شديد التجرد يتجاوز أية تقسيمات طبقية بل يشمل الجميع. 
فهرتزل ـ كما يقول شلومو أفنيري ـ كان ليبرالياً ولكنه في حديثه عن الدولة تخلى عن كثير من مُثُله الليبرالية وتبنَّى مُثُلاً اشتراكية عمالية. ولعل ذلك يعود إلى إدراكه العميق لخصوصية المشروع الصهيوني الذي يهدف إلى تحويل اليهود من طبقة إلى أمة. فمثل هذا التحويل لا يمكن أن يتم من خلال الاقتصاد الحر، ولذا نجده يشير إلى أن ملكية الأراضي في الدولة اليهودية ستكون ملكية عامة، وسيؤجر الفلاحون أرضهم من الصندوق القومي. بل إن عَلَم الدولة اليهودية الذي اقترحه هرتزل علم عمالي صهيوني لونه أبيض "رمزاً لحياتنا الصافية الجديدة، ويتوسطه سبعة نجوم ذهبية رمزاً لساعات العمل السبع. فنحن سندخل أرض الميعاد نحمل شارة العمل". 
ويبدو أن هرتزل كان واعياً بأنه بتبنِّيه "المُثُل الاشتراكية" إنما يتبنَّى لغة كان يفهمها شباب اليهود في شرق أوربا، وأنه بذلك كان يكسبهم لصفه، وأنه وضع بذلك إطار التعامل بين المنظمة الصهيونية التي كانت تُوجَد في الغرب الليبرالي من جهة والمستوطنين الذين عليهم أن يتعاملوا مع الظروف الطبيعية القاسية ومع المواطنين الأصليين من جهة أخرى، وهو إطار يفترض أن لكل فريق توجُّهه العقائدي الذي يخدم مصالحه، وأن كل فريق يجب ألا يتدخل في شئون الآخر. 
وبهذا، يكون هرتزل قد حدد رقعة كل من التوطينيين والاستيطانيين، وقسَّم العمل بينهم وهدَّأ من روعهم. ولهذا، يحق له أن يقول إنه قدَّم شيئاً يكاد يكون مستحيلاً: "الاتحاد الوطيد بين العناصر اليهودية الحديثة المتطرفة [المندمجون في الغرب والثوريون في الشرق] وبين العناصر اليهـودية المحافظـة [الإثنيون الدينيون والعلمانيون في الشرق]. وقد حدث ذلك بموافقة الطرفين دونما أي تنازل من الجانبين ودون أية تضحية فكـرية"، فالخطـاب المراوغ يسـمح بامتصـاص كل شيء.
هرتزل والحركة الصهيونية Herzl and the Zionist Movement 
طوَّر هرتزل الخطاب الصهيوني المراوغ الذي جعل بالإمكان صياغة العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم. وأصبحت كل الأطراف جاهزة للتوقيع. ولكن الاستعمار الغربي لا يتعامل مع أفراد، وإنما مع مؤسسات تمثل المادة البشرية المُسـتهدَفة، أي يجب أن يكـون هناك هيكل تنظيمي يمكن توقيع العـقد معـه. وقد اقــترح هرتزل في دولة اليهود إنشاء مؤسستين: جمعية اليهود (بالإنجليزية: سوسياتي أوف ذا جوز Society of the Jews)، والشركة اليهوديـة (بالإنجليزية: جويش كومباني Jewish Company).
وقد أورد هرتزل هذه التسميات الإنجليزية في النص الألماني لكتابه: 
أ) جمعـية اليهـود: 
وهي القـوة الخالقـة للدولة في نَظَر القانون الدولي، وهي القسم الذي يُعنى بكل شيء ما عدا حقوق الملكية. فتَوجُّهها ـ كما يقول هرتزل ـ علمي وسياسي تضطلع بمسئولية الشئون القومية، وتتعامل مع الحكومات وتحصل على موافقتهم على فَرْض السيادة اليهودية على قطعة أرض تدير المنطقة كحكومة مؤقتة (فهي إذن تقوم بالجانب التوطيني والتفاوض مع القوى الاستعمارية) 
ب) الشركة اليهودية: 
وتقوم بتصفية الأعمال التجارية لليهود المغادرين والعمل على تنظيم التجارة والأعمال المتعلقة بها في البلد الجديد. وستكون هذه الشركة هي الشركة اليهودية ذات الامتياز، وستُؤسَّس كشركة مساهمة تُسجَّل في إنجلترا بموجب القانون الإنجليزي وتحت حمايته وتكون خاضعة للتشريع الإنجليزي (أي أنها ستتكفل بالجانب الاستيطاني).
وقد وضع هرتزل أفكاره موضع التنفيذ وعَقَد المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، فحضره ما بين 200 و250 مندوباً (وهذه مشكلة خلافية باعتبار أن من الصعب تقرير من حضر كمراقب ومن حضر كمندوب). وكان معظم المندوبين من جمعية أحباء صهيون ونصفهم من شرق أوربا (كان ربع المندوبين من الإمبراطورية الروسية). ولكن حتى الذين أتوا من الغرب كانوا هم أيضاً من أصل أوربي شرقي. أما من ناحية التكوين الطبقي، فقد كان معظم المندوبين من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة وكان ربعهم رجال أعمال وصناعة وأعمال مالية. 
وأما الفئات الثلاث التالية (وتكوِّن كل منها سدس المشتركين)، فقد كانت من الأدباء والمهنيين والطلبة. كما كان هناك 11 حاخاماً، والباقون من مهن مختلفة. وكان بينهم المتدين وغير المتدين والملحـد، كما كانوا يضمـون في صفوفــهم بعض الاشتراكيين. ولم يكن هناك أي يهودي يتمتع بشهرة عالمية باستثناء نوردو الذي ما لبث أن خبا نجمه بعد ذلك (ومن الجدير بالملاحظة أن مشاهير اليهود في العالم لا يتولون قيادة الجمعيات اليهودية والتنظيمات الصهيونية، الأمر الذي يجعلها تقع في أيدي عقليات لا يمكن وصفها بسعة الأفق أو المقدرة على تجاوز موازين القوى القائمة لاستشراف الأبعاد التاريخية للواقع). وقد حضر هشلر، الواعظ البروتستانتي، هذا المؤتمر. 
وأعد هرتزل برنامج المؤتمر، وصمم ماكس بودنهايمر الزعيم الصهيوني الألماني شارته، وهي درع أزرق ذو حواف حمراء كُتبت عليه عبارة: "تأسيس الدولة اليهودية هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية"، وفي وسطه أسد يهودا، وحوله نجمة داود واثنتا عشرة نجمة إشارة إلى أسباط إسرائيل. كما تم إصدار طبعة خاصة من مجلة دي فيلت. ووعد رئيس كانتون بازل بأن يحضر أحد اجتماعات المؤتمر. وفي اليوم الذي يسبق المؤتمر، ذهب هرتزل إلى المعبد اليهودي لأداء الصلاة. وقد تم تكريمه بأن طولب بقراءة التوراة، وكان يعرف أن هذا سيحدث، ولذا فقد حفظ في اليوم السابق الدعاء العبري الذي كان عليه أن يلقيه بهذه المناسبة. ودوَّن هرتزل في مذكراته (كملاحظة) أنه يقود جيشاً من الصغار والشحاذين والمغفلين (وهذه هي العبارة التي استخدمها روتشيلد لوصفه حين قابله).
وافتُتح المؤتمر يوم الأحد 29 أغسطس 1897 في صالة الاحتفالات التابعة لكازينو بلدية بازل. وأصر هرتزل أن يرتدي الحاضرون الملابس الرسمية (معطفاً طويلاً ورباط عنق أبيض ربما لتأكيد انتمائهم للحضارة الغربية الحديثة، وابتعادهم عن الجيتو ويهود اليديشية). وألقى نوردو خطاباً وصفه هرتزل بأنه كان المؤتمر، وتم وضع أساس تنظيمي حديث، وأصدر المؤتمر قرارات تُعرَف الآن باسم «برنامج بازل» الذي أصبح الوثيقة النظرية والعملية لأهداف الصهيونية حتى انعقاد المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين (1950).
ولم يكن هناك مفر، بعد تحديد الأطر النظرية والتنظيمية، من تأسيس الأداة التنظيمية التي تتولى تحقيق الأهداف الصهيونية التي جسَّدها برنامج بازل وتكون في الوقت نفسه بمنزلة هيئة رسمية تمثل الحركة الصهيونية في مفاوضاتها مع الدول الاستعمارية الرئيسية آنذاك من أجل استمالة إحداها لتبنِّي المشروع الصهيوني. ولهذه الأغراض، تأسست المنظمة الصهيونية خلال المؤتمر الصهيوني الأول كإطار يضم كل اليهود الذين يقبلون برنامج بازل ويسددون رسم العضوية (شيكل). وقد أُنيطت بالمنظمة مهمة إقامة الدولة الصهيونية لتحقيق الخلاص ليهود العالم أجمع، وانتُخب هرتزل أول رئيس للمنظمة. 
وقد اتسع نشاط المنظمة الصهيونية في السنوات القليلة التالية للمؤتمر الصهيوني الأول. ولكي يتَسنَّى لها تنفيذ مخططها الاستيطاني، عملت المنظمة على إنشاء عدد من المؤسسات المالية لتمويل المشروع الصهيوني، وكانت أبرز هذه المؤسسات: 
ـ صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار. وقد تأسس عام 1899 لتمويل النشاطات الصهيونية الاستيطانية في فلسطين، ولتدبير الموارد المالية التي تحتاج إليها الحركة الصهيونية. وفي عام 1903، أنشأ الصندوق فرعاً مصرفياً في يافا تحت اسم «الشركة البريطانية الفلسطينية» برأسمال قدره 40 ألف جنيه إسترليني، كما أنشأ عدة فروع أخرى في هولندا وألمانيا (وقد سُمِّيت الشركة فيما بعد «البنك البريطاني الفلسطيني»، ثم سُمِّيت «بنك ليئومي ليسرائيل» منذ عام 1951) 
ـ الصندوق القومي اليهودي. وقد تأسَّس عام 1901 بهدف توفير الأموال اللازمة لشراء الأراضي في فلسطين لصالح المستوطنين الصهاينة. ونص قانون النظام الأساسي لهذا الصندوق على اعتبار الأراضي التي يشتريها ملكية أبدية للشعب اليهودي لا يجوز بيعها ولا التصرف فيها. 
وبعد تأسيس المنظمة الصهيونية، انتقل النشاط الصهيوني من مرحلة البداية الجنينية ذات الطابع المحلي إلى مرحلة العمل المنظم على الصعيد الغربي. ولكن هرتزل كان قد بدأ نشاطه قبل ذلك إذ كان قد قام بعدة اتصالات مع بعض الشخصيات الاستعمارية، وساعده على ذلك الصهيوني غير اليهودي هشلر. 
ولكن، حتى بعد تأسيس المنظمة، كان هرتزل يدرك أن منظمته لا تمثل أحداً، أو أنها تمثل أقلية من اليهود لا يُعتدُّ بها، وأن العنصر الحاسم ليس المنظمة وإنما هو الدولة الراعية. ولذا، فقد تَجاهَل منظمته وبدأ بحثه الدائب عن قوة غربية ترعى المشروع. فقد كان يعلم تمام العلم أنه لو حصل على مثل هذه الموافقة فسترضخ له المنظمة وتتبعه، وخصوصاً أنها لم تكن تملك بديلاً، كما أن الصهاينة التسلليين كانوا يعلمون أن المشروع الصهيوني كان قد وصل بقيادتهم إلى طريق مسدود. 
ومن هنا، فإن التفسير التقليدي لسلوك هرتزل بأنه زعيم دكتاتوري وشخصية أوتوقراطية أرستقراطية هو تفسير يحاول تطبيع النسق الصهيوني، أي النظر إليه على أنه نسق طبيعي يتم تفسيره باستخدام القواعد نفسها التي تُستخدَم في تفسير الأنساق المماثلة. وفي هـذا خلل منهجي أسـاسي، فالصهيونية ظاهرة لها قوانينها الخاصة، وأحد قوانينها الأساسية أنها حركة سياسية بلا جماهير. وهذا ما اكتشـفه هـرتزل منذ البداية، ولذا فلا يمكن اتهامه بالدكتاتورية، فقد كان عملياً أكثر من العمليين، مدركاً لما فشل الصهاينة الديموقراطيون في إدراكه، كما كان يعرف كيف يتصل بممثلي الحضارة الغربية ويعرف كيف يتحدث لغتهم وكيف يعرض عليهم العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية. 
وانطلاقاً من هذا، تَخطَّى هرتزل الجميع (الجميع كانوا تقريباً من شرق أوربا). وقد بدأ اتصالاته الدبلوماسية أو فلنقل إنه استمر فيها باعتبار أنه كان قد قام باتصالات قبل ذلك. ومن الشخصيات التي اجتمع بها لعرض مشروعه الصهيوني، ملك إيطاليا (عمانوئيل الثالث) ووزير داخلية روسيا (فون بليفيه) وكان شخصية مكروهة تماماً من يهود روسيا. ولكن هرتزل ركَّز معظم جهوده على القوتين الاستعماريتين العظميين آنذاك: ألمانيا وبريطانيا، وهما أيضاً القوتان اللتان كان لهما تطلعات استعمارية في الشرق الأوسط، وكانتا تتنافسان على حماية ومساعدة الباب العالي. ولم يكن هرتزل مُنظِّراً من الدرجة الأولى، ولكنه كان صحفياً يرصد الأحداث بذكاء ويتسم بحس عملي فائق، ولذلك فإنه بعد أن قضى بضع سنوات يغازل ألمانيا (والباب العالي) اكتشف أن الطريق إلى فلسطين يبدأ في لندن، فحمل أمتعته وذهب إلى هناك حيث وجد جوزيف تشامبرلين (وزير المستعمرات البريطاني في وزارة بلفور) شخصاً متفهماً لمشروعه، متقبلاً للفكرة المبدئية وهي حل مسألة يهود شرق أوربا على الطريقة الاستعمارية، أي نَقْلهم إلى الشرق. ولكن وقت تقسيم الدولة العثمانية لم يكن قد حان بعد، ولذا اقترح وزير المستعمرات على هرتزل أن يبحث عن أي أرض أخرى داخل الإمبراطورية الإنجليزية (قبرص ـ العريش ـ شرق أفريقيا). وبعد عدة دراسات واقتراحات واتصالات، استقر الرأي على شرق أفريقيا بناءً على نصيحة تشامبرلين، ولكن الخطة لم يُكتَب لها النجاح. ومع هذا، يمكن القول بأنه تم من خلالها إجراء أول بروفة لتوقيع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم واتخاذ الإجراءات الأولية لتأسيس مُستوطَن صهيوني. 
جــذور العنـف الصهـيوني في أفكـار هـرتزل 
Roots of Zionist Violence in Herzl's Ideas 
طوَّر هرتزل الخطاب المراوغ ودعا كل الأطراف (العالم الغربي ويهود العالم بشقيه الغربي والشرقي) لتوقيع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية. ولكن هناك طرفاً لم يُدعَ للتوقيع، رغم أنه سيضار حين يُوضَع العقد موضع التنفيذ، ألا وهو العرب. فقد ذكر هرتزل هذا الطرف بشكل عابر أحياناً في معرض نقده للصهيونية التسللية التي لم تدرك أن المستوطنين الأصليين (العرب وربما الهنود في الأرجنتين) سيشعرون بأنهم مهددون فيضغطون على الحكـومات المعـنية فتضـطر هذه الحكومات لإيقاف التسلل. ولا يرد لهم ذكر في دولة اليهود أو في الخطاب الذي ألقاه أمام المؤتمر الأول (1897)، أي في الوثائق العلنية الموجهة للصهاينة. 
ولكن هناك وثائق علنية أخرى موجهة للرأي العام مثل الأرض الجديدة القديمة حيث يُقدِّم هرتزل صورة وردية لمصير العرب من مواطني الدولة اليهودية الذين سيزدادون رخاءً وسينعمون بالهناء. وقد كتب هرتزل عام 1899 خطاباً لأحد القادة الفلسطينيين يبشره بالرفاهية التي ستعم والثروة التي ستزيد. ولكن، مهما كانت رقة قلب هرتزل، فإن العرب والسكان الأصليين لم يُدعَوا لتوقيع العقد، فسيادة الدولة اليهودية مصدرها الغرب، والحكومات المعنية يمكن أن تسبب المضايقات، أما السكان الأصليون فلا أهمية لهم. وهرتزل لم يكن فريداً في هذا، فتحديث الغرب على الطريقة الاستعمارية كان يفترض أن يدفع الشرق فواتير التقدم الغربي. وبالتالي، فإن السكان الأصليين ليسوا ضمن عملية التحديث وإنما يقعون خارجها تماماً. ولذا، فإن الإغفال والتغييب جزء من النظام الإدراكي الغربي الحديث للآخر، ومن ثم يصبح العنف هو الآلية المحضة لتنفيذ المشاريع التي تتحرك في إطار القانون الدولي العام أي القانون الاستعماري الغربي. 
ولكن هرتزل، بمراوغته، لا يتحدث قط عن العنف في الوثائق العامة، إلا من إشارة عابرة للمكابيين في دولة اليهود، وهي إشارة يمكن أن تُفهَم على أن المقصود بعث عسكري وليس بالضرورة عنفاً ضد العرب. والتفسير نفسه يمكن أن ينطبق على خطابه للبارون دي هيرش حين ذكر خطته التي تهدف لأن يخلق من البروليتاريا اليهودية المثقفة (المفكرين المتوسطين الذي يتحدث عنهم في دولة اليهود) شيئاً نافعاً "جنود وكوادر الجيش الذي سيبحث عن الأرض ويكتشفها ثم يستولي عليها". وعلى أية حال، فإن العنف يطل برأسه في كلمة «يستولي». والأمر يختلف قليلاً في اليوميات التي يختلط فيها الإعجاب بالعسكرية البروسية بالحديث عن كيفية الاستيلاء على الملكية الخاصة للسكان الأصليين وكيفية استخدامهم لقَتْل الثعابين وتأمين عمل لهم في بلاد أخرى (كما دوَّن في مذكراته عام 1885). وفي عام 1902، كتب هرتزل لتشامبرلين عن مصير السكان الأصليين في قبرص إن وقعت في الدائرة الصهيونية الحلولية المقدَّسة الفاتكة: "سيُرحَّل المسلمون، أما اليونانيون فسيبيعون أرضهـم بكل سـرور نظـــير سعر جيد ثم يهاجرون إلى أثينا أو كريت"، أي أن الاستيلاء على الأرض وإخلاءها من سكانها هو الافتراض الكامن في كتاباته، فالعنف رابض بين السطور، يتحين الفرصة لكي يتحقق، وينتظر اللحظة المواتية كي ينهمر الرصاص ويسقط النابالم. ومما يجدر ذكره أن هرتزل لا يستبعد استخدام العنف ضد اليهود أنفسهم (إن رفضـوا الخضوع للرؤية الصهـيونية) كما يتضـح في مفـهوم غزو الجاليات. [/font:1


الباب الثامن: تيودر هـرتزل  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب الثامن: تيودر هـرتزل
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الباب الثامن: عصر الآباء
» الباب الثامن والأربعون
» الباب الثامن عشر: الأعياد اليهودية
» الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية
» الباب الثامن عشر في الأدعية المتعلقة بالنكاح

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: مـوسـوعة الـيـهـــود-
انتقل الى: