وذلك للأسباب التالية:
1 ـ كانت اليهودية، في الجزء الأول من تاريخها، ديانة تؤمن، رغم الطبقة الحلولية التي تراكمت داخلها، بشكل من أشكال التوحيد، في وسط وثني مشرك: آشوري أو مصري قديم أو يوناني أو روماني. وقد حاولت اليهودية آنذاك أن تُوسِّع الهوة بينها وبين أصحاب الديانات الوثنية الأولى بقدر المستطاع. ولذا، فإننا نجدها ترفض تماماً الفكر الأسطوري وقصص الخلق المستفيضة الموجودة في ديانات الشرق الأدنى القديم، وذلك رغم تأثرها بهذه الديانات في كثير من الوجوه، ورغم أن النسق الديني اليهودي (كتركيب جيولوجي) قد احتفظ بكثير من التراكمات الوثنية. ولكن، ومع ظهور الديانتين التوحيديتين الأخريين (الإسلام والمسيحية)، وسيطرتهما على المحيط الحضاري الذي كانت تتحرك فيه اليهودية، وجدت اليهودية نفسها دون وظيفة خاصة أو هوية مستقلة. ورغم هذا، وربما بسببه، استمر الحاخامات في توسيع الهوة بين اليهود وأصحاب الديانات التوحيدية الأخرى، فتبنوا الأسطورة كوسيلة لاكتشاف الواقع وبدأوا من خلال التلمود، ثم من خلال التراث القبَّالي، في نسج الأساطير. وتُعتبَر القبَّالاه، من هذا المنظور، استجابة اليهود لتغلغل الفكر العقلي والتوحيدي، وتعبيرهم عن محاولات الحفاظ على التماسك وعدم التفكك في وجه التحدي الذي أفقدها تميزها ووظيفتها. وقد أنجزت القبَّالاه ذلك عن طريق التخلي (إلى حدٍّ كبير) عن كثير من العقائد اليهودية الحاخامية، ومن خلال تأكيد بعض الأفكار التي كانت تشغل مكانة هامشية في النسق الديني اليهودي، وعن طريق الأساطير التي نسجها القبَّاليون من خلال منهج تفسيري تأويلي فريد.
2 ـ لم تكن هناك مؤسسات دينية يهودية شاملة تضم كل يهود العالم، كما لم يكن هناك جهاز تنفيذي يضمن شيوع أفكار هذه المؤسسات ويقضي على النزعات الحلولية الوثنية الشعبية ويكبح جماح الهرطقة. وهذا ما سمح للقبَّالاه، بكل ما تشتمل عليه من هرطقات غنوصية، أن تنمو بهذا الشكل المتضخم.
3 ـ كما أن تركيب اليهودية الجيولوجي جعل من اليسير على أي مفكر ديني، مهما كانت درجة تطرفه، أن يجد سنداً وسوابق لآرائه. وقد فتحت فكرة الشريعة الشفوية باب التفسير والتأويل على مصراعيه بحيث أصبح في مقدور كل يهودي أن يفرض رؤيته.
4 ـ ومما لاشك فيه أن اضطلاع أعضاء الجماعات بدور الجماعات الوظيفية عَمَّق الاتجاهات الصوفية. فالجماعات الوظيفية تعيش خارج العملية الإنتاجية في المجتمع. ولكنها، لأنها ليست منه، نمت لديها عقلية مجردة لا علاقة لها بما هو متعيِّن. كما أن اضطلاع اليهود بدور التاجر ساعد في تعميق هذه الاتجاهات، والتجارة الدولية تُحطم فكرة الحدود وتُشجِّع النزعات الصوفية (والواقع أن العلاقة بين التجارة والصوفية أمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة). وتستند رؤية الجماعة الوظيفية إلى العالم إلى مركب حلولي، فتجعل من ذاتها مركز القداسة ومصدر المطلقية (مقابل مجتمع الأغلبية المباحة النسبية). وقد لعبت عقيدة الماشيَّح (الذي سيأتي في نهاية الأيام ليحرر اليهود ويعود بهم إلى صهيون) دوراً في تعميق هذا الاتجاه، فهي عقيدة تفصل اليهودي عن الزمان والمكان وتجعله ينتظر آخر الأيام بحيث يركز عيونه على البدايات والنهايات متجاهلاً التاريخ وتركيبيته. ولذا، يمكن القول بأن ثمة علاقة ما بين تحول الجماعات اليهودية التدريجي إلى جماعات وظيفية وذيوع القبَّالاه التدريجي بينها.
5 ـ والقبَّالاه هي أيضاً رد فعل أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي إزاء تدهور وضعهم وفقدانهم دورهم كجماعات وظيفية. فكلما ازدادوا بُعْداً عن مركز السلطة وصنع القرار، وكلما ازدادوا هامشية وطفيلية ازدادوا التصاقاً بالقبَّالاه التي كانت تعطيهم دوراً مركزياً في الدراما الكونية، وتجعل الذات الإلهية مرتبطة بهم ومعتمدة عليهم. والقبَّالاه، بذلك، هي تعبير عن حالة مرضية، ولكنها في الوقت نفسه استجابة لهـذه الحـالة أخذت شـكل الانسحاب من العالم إلى داخل القوقعة. ولذا، فبينما كان بعض الفلاسفة اليهود يؤكدون العناصر المشتركة بين اليهودية والديانات التوحيدية الأخرى (وعلى سبيل المثال، حاول ابن موسى بن ميمون، في مصر، أن يُطهِّر اليهودية من كثير من العنـاصر الغريبة فيـها بإدخال عناصر إسلامية على العبادة اليهودية، مثل السجود)، كان القبَّاليون يحاولون أن يبينوا الاختلافات العميقة بين الدور الذي يلعبه اليهود في عملية الخلاص ودور أصحاب الديانات الأخرى. وهكذا، بررت القبَّالاه لليهود ذلك العذاب، الذي كانوا يتصورون أنه يحيق بهم في كل مكان، باعتباره أمراً منطقياً ينجم عن مركزيتهم.
6 ـ كان طَرْد اليهود السفارد من إسبانيا كارثةً عظمى رجت اليهودية رجاً، وبينت مدى هشاشة موقف أعضاء الجماعات اليهودية. وقد انتشر اليهود السفارد ونشروا معهم تعاليم القبَّالاه في مختلف أنحاء العالم، وبدأت الأيدي تتداول المخطوطات التي كانت مقصورة على العالمين بأسرار القبَّالاه، وخصوصاً أن كتب القبَّالاه تشبه من بعض الوجوه الكتب الإباحية، الأمر الذي زاد شعبيتها.
7 ـ انتقل مركز اليهودية، بعد طرد اليهود من إسبانيا، إلى العالم المسيحي. ومع القرن السادس عشر، استقر أغلبية اليهود فيه. كما أن السفارد أنفسهم كانوا يعيشون، قبل طردهم، في بيئة كاثوليكية ثرية وتشربوا كثيراً من أفكارها. وثمة نظرية تذهب إلى أن اليهودية التي انتشرت في شبه جزيرة أيبريا كانت ذات طابع شعبي صوفي حلولي لا يُفرِّق بين الأنساق الدينية المختلفة كما هي عادة الديانات الشعبية. وقد أدَّى هذا إلى تسرُّب أفكار مسيحية كثيرة إلى الفكر الديني اليهودي. ولعل أخطر ما يمكن أن يحدث لنسق ديني هو أن يتبنى أفكار دين آخر وصُوَره المجازية، فهذه الأفكار مرتبطة بأفكار أخرى، ولها دلالات مختلفة داخل نسقها، ولكنها حينما تُنقَل تصبح مثل الخلية السرطانية. وهذا ما حدث لليهودية، إذ تأثر الفكر القبَّالي بفكرة التثليث المسيحية وتحولت إلى فكرة التعشير، إن صح التعبير، أي أن يتحول الإله إلى عشرة أجزاء في واحد وواحد في عشرة، وهي التجليات النورانية العشرة (سفيروت). كما أن الفكر الديني اليهودي بدأ يتأثر بالمسيحية الشعبية بكل ما تحمل من أساطير واتجاهات غنوصية (وقد لاحَظ أتباع إبراهيم أبو العافية التشابه الشديد بين فكره القبَّالي والمسيحية، فتنصروا).
8 ـ تزامن انتشار القبَّالاه مع ظهور المطبعة العبرية في القرن السادس عشر، فطُبعت من الزوهار طبعتان كاملتان بين عامي 1558 و1560، في كريمونا ومانتوا في إيطاليا، ثم تبعتهما طبعات أخرى في أزمير وسالونيكا وألمانيا وبولندا. وقد أدَّى كل ذلك إلى انتشار القبَّالاه على نطاق واسع يفوق انتشار التلمود. ومع حلول القرن السادس عشر، احتلت كتب القبَّالاه مكان الصدارة بين كل الكتب الدينية.
كل هذه الأسباب المتصلة بأعضاء الجماعات اليهودية (وخصوصاً في الغرب) ساعدت على انتشار الرؤية الحلولية القبَّالية بينهم وهيمنتها عليهم. والرؤية الحلولية القبَّالية هي في جوهرها وحـدة وجود روحـية كاملة تحمل استعداداً للتحول لوحدة وجود مادية. وهذا ما حدث مع تَزايُد نزعات العلمنة في المجتمع الغربي وما واكب ذلك من انتشار الفكر الحلولي وتحوُّله إلى وحدة وجود مادية، وهو الأمر الذي أنجزه إسبينوزا في إطار الفلسفة الغربية. وقد حدث شيء مماثل داخل الفكر الديني اليهودي إذ بدأت وحدة الوجود الروحية تتحول إلى وحدة وجود مادية (من خلال مرحلة شحوب الإله والفكر الربوبي ثم مرحلة موت الإله). وقد دخلت القبَّالاه مرحلة وحدة الوجود الروحية الكاملة في حركات مشيحانية مثل الشبتانية والفرانكية التي تحولت تدريجياً إلى وحدة وجود مادية وبالتالي اختفت الديباجات الروحية ومعها الأساطير والصور المجازية القبَّالية وحلت محلها الأساطير والصور المجازية العلمانية فبدلاً من الصور المجازية الجنسية ظهر فرويد حيث تحل الإيد Id محل اليسود، وظهرت النزعة الطبيعية المادية حيث تحل قوانين الحركة وقوانين العود الأبدي محل الدورات الكونية، وظهرت الصهيونية حيث يحل الاستيطان في الأرض محل الالتصاق بالإله (ديفيقوت)، وظهرت ما بعد الحداثة حيث يحل الاخترجلاف محل تبعثر الشرارات وانفصال الدال عن المدلول محل الجماتريا.
الموضوعـات الأساسـية الكامنـة في القبَّالاه وبنيـة الأفكـار Major Themes of the Kabbalah and Structure of Ideas
تطورت القبَّالاه وتراثها، عبر مراحل تاريخية عديدة، من قبَّالاة الزوهار إلى القبَّالاه اللوريانية، وانقسمت إلى أشكال مختلفة من قبَّالاه نظرية أو تأملية إلى قبَّالاه عملية. وحفلت هذه الاتجاهات والحركات على اختلافها بمفكرين عديدين، لكلٍّ إسهاماته وتفسيراته. وهذا الأمر ليس غريباً على حركة ذات طابع حلولي غنوصي إذ تلفح المفسر لفحة من الحلول الإلهي فيصبح مقدَّساً وتكتسب تفسيراته قدراً من القداسة. ومع ذلك، تظل هناك موضوعات أساسية وبنية عامة كامنة (نموذج كامن) تعبِّر عن نفسها من خلال الكتابات القبَّالية. والواقع أن وجود مثل هذه الموضوعات وتلك البنية هو ما يبرر لنا استخدام كلمة «قبَّالاه» للإشارة إلى هذه الكتابات كلها.
وتوجد في القبَّالاه رؤية فيضية للخلق، ورؤية للشر وللإنسان، ولعلاقة الإله بالإنسان، وللشعب اليهودي ووضعه في العالم. كما أن التراث القبَّالي يستخدم مجموعة من الصور المجازية ذات دلالات فلسفية ونفسية وكونية عميقة. وسنحاول في هذا المدخل أن نبين تلك الموضوعات والصور المجازية التي تشكل نسيج البنية العامة. ويمكننا، منذ البداية، أن نقول إن القبَّالاه تَصدُر عن رؤية واحدية كونية تستند إلى ركيزة نهائية غير متجاوزة للنسق وإنما كامنة فيه. والبنية العامة للفكر القبَّالي بنية حلولية عضوية دائرية مغلقة حتى أن كل ما يظهر فيها من تعدُّد وتنوُّع أمر ظاهري، فداخل البنية الحلولية المغلقة تُردُّ كل الظواهر إلى مستوى واحد وتُلغى كل الثنائيات وتصبح كل الأشياء متقابلة ومتساوية بعضها مع البعض الآخر، ومع المطلق الكامن وراء كل شيء والذي يحل فيه ويتجسد من خلاله. فإذا كانت هذه البنية مُكوَّنة من (أ) و(ب) و(جـ) و (د)، على سبيل المثال، فإننا سنكتشف أن (أ) هي، في نهاية الأمر، (ب)، وأن (ب) هي مقابل (جـ) ومساوية لها، تماماً كما أن (جـ) و(د) متصلان ومتقابلان ومتساويان. ومن ثم، فإننا نكتشف أن (أ) هي (ب) و(ب) هي (جـ) و(جـ) هي (د)، وهكذا، رغم كل التغيرات والتحولات. ولكن يُلاحَظ أن العكس يمكن أن يحدث أيضاً، فبدلاً من اختفاء الثنائيات وتَوحُّدها قد تتصلب وتتحول إلى ثنائية صلبة أي ثنوية. وهنا بدلاً من أن تكتسح دائرة القداسة الجميع نجد أنها تنغلق على نفسها تماماً ويتم تقسيم العالم على أساس قطبين متعارضين: الطاهر المقدَّس مقابل المدنَّس المباح.
ويتبدَّى النسق المغلق في الرؤية القبَّالية لخلق العالم، فهذا الخلق لم يكن من العـدم، ولم يتم دفعـة واحدة كما هو الحال في الديانات التوحيدية، وإنما عن طريق الفيض الإلهي. وقد ذكر رفائيل باتاي أن رؤية القبَّالاه للإله تطورية، أي أن الإله وُجد، أو أوجَد نفسه على مراحل داخل الزمان. وقد تم خَلْق العالم من خلال عملية صيرورة مركبة بحيث يتحـول اللاشـيء الإلهي إلى الكيـان الإلهي، ويتجه من الداخل إلى الخارج. وتبدأ هذه العملية في جذر الجذور، أي في «الإين سوف» التي يمكن أن تُترجَم إلى «اللانهائي» (أو «اللامحدود» أو «العلة الأولى» أو «الذي لا نظير له») الذي لا يستطيع العقل الإحاطة به. ولكن «الإين سوف» هو أيضاً «الآيين» (أو «اللاشيء» أو «العدم» أو «التخفي الإلهي»). ولذا، فإنه يُسمَّى «الإله الخفي» الذي لا يمكن أن يكون إلهاً بالمعنى المألوف للكلمة، كما لا يستطيع الإنسان أن يصل إليه. وقد أشارت إليه القبَّالاه بأنه «المطلق» الذي يقطن في أعماق العدم، وقد انبثق الآني (أي الأنا الإلهية) عن الآيين. ويشير القبَّاليون إلى أن الآيين والآني يضمان الحروف الساكنة نفسها وهو ما يشي بأن العدم والإله هما شيء واحد.
وقد تمت عملية التحول هذه على شكل تطوُّر من الهو إلى الأنت إلى الأنا، على النحو التالي:
الهو: الإله المتخفي المنفصل عن العالمين.
الأنت: الإله الذي يعبِّر عن كيانه والذي يدركه الناس.
الأنا: الإله المكتمل المتجلي الذي عبَّر عن كماله المطلق.
وهذه هي المرحلة التي يمكن أن يقول فيها الإله لنفسه أنا، وأنا هذه هي الشخيناه، أي جماعة يسرائيل، وهي المرحلة التي يجد فيها الإله نفسه (وهذه الأفكار لها صداها في فلسفة مارتن بوبر الذي لم يكن يعرف التلمود، بل درس الفكر الحسيدي فقط وبالتالي الفكر القبَّالي). وهكذا انبثق الإله من ذاته وظهر الآني من الآيين، أي من العدم، وظهرت هذه الخاصية العلوية السماوية التي تشكل بداية الفيض الإلهي، وكان يُقال لها «الفكر الإلهي» (محشفاه)، ثم أُطلق عليها فيما بعد اسم «الإرادة الإلهية»، الأمر الذي يبين تحوُّل القبَّالاه عن العقل والتأمل الفكري إلى الإرادة والرغبة. عند هذه النقطة، تبدأ سلسلة الفيض التي تنبثق من الإرادة الإلهية (سفيروت)، وهي القدرات الإلهية الكامنة التي تتحول إلى القداسة المتجلية، والتي تأخذ شكل إشعاعات صادرة من النور الذاتي للإله على هيئة تجليات، وهذه الإشعاعات هي التي أوجدت العالم. ولذا، فإن السفيروت هي القوى الكامنة والتجليات النورانية نفسها، وهي أيضاً مراحل التجلي والبؤر والصفات الإلهية ودرجات الوجود الإلهي. لكن هذه الأشياء تشكل، أولاً وأخيراً، الوساطة بين الكون والإله وتكون بمنزلة حلقة الوصل بينهما، ولذا فإننا نترجمها بعبارة «التجليات النورانية العشرة».
وإذا كان الإين سوف يَصعُب إدراكه، فإن التجليات النورانية العشرة (سفيروت) على خلاف ذلك تماماً، فهي في مجموعها تشكل الإله الشخصي الذي يمكن إدراكه والذي يتوجه إليه المصلون (ويمكننا أن نرى الواحدية والازدواجية والتعددية). ولتأكيد الواحدية والتعددية في وقت واحد، يُشبِّه القبَّاليون السفيروت بالألوان التي يراها الإنسان في قمم ألسنة اللهب، ويقرِّرون أن عملية الفيض هذه هي الطريقة التي خلق الإله بها ذاته ثم خلق بها العالم.
ودرجات السفيروت، أو التجليات النورانية العشر، هي:
1 ـ كيتر (أو كيثر) عليون، أي التاج الأعلى، وهو أيضاً الإرادة المقدَّسة أو الرغبة المقدَّسة، ويشار إليه أحياناً بالتاج وحسب، ويساوي بعض القبَّاليين بين التاج والإله الخفي (ديوس أبسكوندتيوس deus absconditus) فهو الإين سوف وهو أحياناً الآيين.
2 ـ حوخمه، أي الحكمة، أول التجليات المتعيِّنة، وهي الفكر الإلهي الكوني الذي يسبق الخلق، والذي لا يقبل التقسيم، وهي تحتوي على النمـاذج المُـثلى التي وضعها الخـالق لكل العوالم، وهي العلة الذكرية الأولى.
3 ـ بيناه، أي الفهم، وهو عكس الحكمة، فهو العقل الذي يميز بين الأشياء، ولذا فهو المرحلة التي يتحقق فيها النموذج الخفي ويأخذ شكلاً محدداً وهي العلة الأنثوية الأولى.
4 ـ جيدولاه، أي العظمة، وأحياناً يشار إليها بلفظ «حسيد»، وهي الحب الفائض للإله أو الرحمة.
5 ـ جبوراه، أي القوة أو السلطة، وغالباً ما يشار إليها بلفظ «دين»، أي الحكم الصارم، وهي مصدر الحكم الإلهي والشريعة.
6 ـ تفئيريت، أي الجمال أو الجلال، ويُشار إليه أيضاً بلفظ «رحاميم» أي التعاطف، وهو الوسيط بين التجلي الرابع والتجلي الخامس ليأتي بالتناسق والرحمة للعالم. ويُقال إن هذا التجلي أهم التجليات، ربما لتوسُّطه كل التجليات ولدوره في عملية الخلق.
7 ـ نيتسح، أي التحمل أو الأزلية (أو النصر).
8 ـ هود، أي الجلالة أو المجد أو العظمة.
9 ـ يسود عولام، أي أساس العالم، ويُشار إليه أحياناً بلفظ «يسود» وحسب، أي الأساس، وكذلك على «التساديك»، أي الصديق، أو الرجل التقي، وهو الذي ترتكز عليه كل التجليات السابقة.
10 ـ ملكوت، أي المملكة، أو عتاراه أي الجوهرة.
وتفترض فكرة الفيض ثلاثة مفاهيم متناقضة: الواحدية والتعددية (أو الثنوية) والتقابلية. فالفيض يتم على مراحل تنتهي بجماعة يسرائيل ثم العالم. ولكل مرحلة من مراحل الفيض استقلالها وحيويتها ووظيفتها. ولكن فكرة الفيض تفترض أيضاً العكس، أي وجود وحدة تنتظم كل المخلوقات، وضمنها الإنسان، بل تنتظم الإله نفسه، بحيث يصبح الإله ومخلوقاته (أي الإله من جهة والإنسان والطبيعة من جهة أخرى) عناصر في وحدة متكاملة لها المصير نفسه ولا يفصلها فاصل. بل إن كل مراحل الفيض، رغم اختلافها، تصبح على مستوى من المستويات الشيء نفسه، وتحمل الصفات نفسها. ويرى القبَّاليون كذلك أن ثمة اتحاداً متوازياً، متقابلاً بين الإله وكل مخلوقاته، وأن السماء تشبه الأرض، والإله يشبه الإنسان، والتاريخ يشبه الطبيعة. وتقول إحدي أفكار التراث القبَّالي الأساسية:«كما في السماء كذلك في الأرض، كما في الداخل كذلك في الخارج». ومعنى ذلك أن أجزاء البنية متوازية ومتساوية متعادلة، فهي إذن بنية مغلقة لا ثغرات فيها. وتظهر التقابلية في جميع الرموز المتواترة في التراث القبَّالي، والذي يصوِّر الإله وعملية الخلق والتجليات العشرة على هيئة شجرة، وعلى هيئة إنسان.
ويُشار إلى التجليات العشرة باعتبارها «آدم قدمون»، أي «الإنسان الأصلي» و«الإنسان الأزلي» الذي يُتوِّجه التاج، ويوجد الملكوت عند قدميه، وتشكل أعضاء جسمه التجليات العشرة. كما تشكل التجليات الثلاثة الأولى رأسه، والرابع والخامس ذراعاه، والسادس صدره، والسابع والثامن ساقاه، والتاسع عضوه الجنسي (عادةً المذكر)، والعاشر إما يشير إلى الصورة كلها أو يشير إلى الأنثى التي تصاحب الذكر أو يشير إلى عضو التأنيث. كما كان يُصوَّر الآدم قدمون وإلى يساره كل الصفات السلبية، مثل الصرامة والاحتمال، وإلى يمينه الصفات الإيجابية. والإنسان، من هذا المنظور، صورة مصغرة (ميكروكوزم) للعالم الأكبر (ماكروكوزم)، يكمن فيه كل من العالم السفلي المادي والعالم السامي الروحي وهو كذلك صورة مصغرة للإله.
وتتكون الروح من ثلاث درجات يُطلَق عليها ما يلي:
1 ـ «نيفيش»، أي «الحيوية»، وهي مصدر القوة الحيوانية والحيوية، وتقابل الحياة المادية.
2 ـ «رُوَّح»، أي «الروح»، وهي مصدر السمات الأخلاقية.
3 ـ« نيشماه»، أي «النفس»، أعلى الدرجات الثلاث، وهي تلك الدرجة التي تجعل الإنسان قادراً على دراسة التوراة وإدراك كنه الإله. ويرى القبَّاليون أنها شرارة من بيناه (الفهم)، وأنها غير قادرة على الخطيئة. وهذه الدرجة الروحية لا يصل إليها سوى التساديك (الصديق).
وقد حاول القبَّاليون إماطة اللثام عن الروح، وفك القيود التي تربطها، بحيث يمكنها أن تتصل بالتيار المقدَّس الذي يجري في الكون كله. ويرى القبَّاليون أن العذاب في الجحيم سيحل بالنيفيش وحسب، وليس بالنيشماه. ويرى بعض القبَّاليين أن جسم الإنسان ما هو إلا رداء للشرارة الإلهية، ويرى البعض الآخر أنه جزء من الجانب الآخر، بينما يرى فريق ثالث أن وظائفه الجنسية هي الطقوس المقدَّسة التي تصوِّر ما يدور في العالم العلوي. ويظهر التقابل في نهاية الأمر في فكرة التماثل بين الإله وروح الإنسان والكون وفي تَداخُل هذه الأشياء، وهو تَداخُل ينم عن حلولية النسق.
وقد تَعرَّض القبَّاليون لفكرة الشر، وحاولوا حلها من خلال إطارهم الحلولي الواحدي أو التعددي (الثنوي)، ثم من خلال فكرة التقابل. وكان القبَّاليون يقتربون من رؤية ثنوية للخير والشر، فالشر هو «السترا أحرا» (الجانب الآخر). بل إن بعض القبَّاليين يتحدثون عن تجليات اليسار، وهي تجليات مضادة؛ قوى مظلمة دنسة تعادي قوى القداسة والخير، وتدخل في صراع شديد معها للسيطرة على العالم. ومن هنا كان اهتمام القبَّاليين بالجن سمائيل (الشيطان) وزوجته ليليت في القبَّالاه.
وتوجد شجرتان في التصور القبَّالي: شجرة الحياة المقدَّسة التي هي خير خالص لا يختلط بها أي شر أو دنس أو موت، وهي الشجرة التي كانت تحكم العالم قبل السقوط. وهناك أيضاً شجرة المعرفة (معرفة الخير والشر، والطهارة والدنَّس، والفضيلة والرذيلة) وهي الشجرة التي تحكم هذا العالم، ولذا فإن الموت مرتبط بها. وترتبط بهاتين الشجرتين رؤية ما يُسمَّى بالتوراتين: توراة الفيض وتوراة الخلق. فهناك توراة واحدة (مكتوبة) لها معنى ظاهري مرتبط بهذا العالم ويشمل الأوامر والنواهي والوصايا والشرائع والتشريعات، وهذه الأشياء مرتبطة بشجرة المعرفة. أما التوراة الثانية، فهي توراة نورانية، توراة العالم الخالي من الدنَّس، ولذا فهي لا تحوي أي أوامر أو نواه بل تدعو إلى الحرية الكاملة وإلى خَرْق الشرائع، وهي مرتبطة بشجرة الحياة المقدَّسة، وهي توراة غير مكتوبة لا تدركها سوى عيون الماشيَّح والواصلون والعارفون بأسرار القبَّالاه. ويُلاحَظ أن الرؤية هنا رؤية ثنوية حادة تشبه من بعض الوجوه كتب الرؤى (أبوكاليبس).
ولكن القبَّاليين حاولوا أيضاً الاحتفاظ بإطار من الواحدية يُفسِّر الشر باعتباره القشرة الخارجية لشجرة التجليات النورانية والمحارة الخارجية التي تلف أشكال الوجود الدنيوي أو النمو المتطرف للحكم الصارم (دين) حينما ينفصل عن تجلِّي الحب الخالص. فالحكم الصارم داخل الذات الإلهية هو مجرد قوة محايدة، ولكنه حينما ينفصل عنها يصبح قوة مدمِّرة. وفي إطار الواحدية، تذهب القبَّالاه إلى أن التجليات المظلمة والقوى الشيطانية نفسها نبعت من الإله ولكنها انفصلت عنه، وهي بانفصالها أصبحت قوى شريرة، أي أن الشر هو تحطيم مؤقت وعارض للواحدية الكونية والمطلقة (وهو، من هذا المنظور، ليس له وجود حقيقي، وهو فقط انفصال شـجرة الحيـاة عن شـجرة المعرفة).
ومن هذا المنظور، يصبح الشر مجرد نتيجة جانبية وليس الجانب الآخر للقداسة الإلهية نفسها (مثل النفاية التي تبقى بعد تنقية الذهب أو الثُّفْل الذي يبقى بعد عصر الخمرة الجيدة). ولما كان الشر تفرعاً عن التجليات الإلهية، فقد كان القبَّاليون يعتقدون أن ثمة شرارة مقدَّسة حتى في الجانب الآخر. ويُلاحَظ أن الرؤيتين الثنوية والواحدية للشر (باعتبار أن الأولى ترى أن الشر له وجود مستقل ومساو للخير، والثانية لا ترى أي وجود حقيقي له) متصلتان تماماً ومتشابهتان، فكلتاهما تخلع حتمية على الشر، بل نوعاً من القداسة! وقد أدَّى هذا في نهاية الأمر إلى شيوع الفكرة القائلة بالوصول إلى الخير عن طريق الرذيلة، في أوساط الشبتانيين والحسيديين، وهذا تعبير عن البنية المغلقة على المستوى الأخلاقي.
وإلى جانب الإطار الثنوي والواحدي، حاول القبَّاليون حل مشكلة الشر انطلاقاً من صورة التقابل المجازية: فالعالم السفلي يتأثر بالعالم العلوي وبالتجليات المختلفة، فيأتي السلام والخير بتأثير الحسيد أو سفيروت الرحمة، والحرب والجوع بتأثير سفيروت (جبوراه).
ولكن العالم العلوي يتأثر بدوره بالعالم السفلي، فهما متقابلان. وثمة تفسير قبَّالي لقصة الشجرة التي أكل منها آدم وحواء باعتبارها الواقعة التي أدَّت إلى فصل التجليات السفلى (الملكوت) عن التجليات العليا، وإلى انفصال الإله عن الإنسان، ومن هنا تكون الخطيئة الأولى هي الانفصال الذي أدَّى إلى نفي الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) مع جماعة يسرائيل، أي أن خطيئة الإنسان قد أثَّرت في مصير الإله نفسه تأثيرها في مصير الإنسان.
ومن هنا عظَم جُرم الإنسان الذي أدَّى إلى تَفتُّت الإله، ومن هنا أيضاً تأتي أهمية ممارسة الشعائر الدينية التي تجد صداها في العالم العلوي وتؤثر فيه. ولذا، يحاول أتقياء اليهود، من خلال صلواتهم وأفعالهم، أن يصلحوا الكون وأن يعيدوا الشخيناه من المنفى، وهذه هي الفكرة التي أصبحت أساسية في القبَّالاه اللوريانية ويُطلَق عليها عملية التيقون (الإصلاح)، أي إصلاح الانفصال ورأب الصدع الذي حدث بين الإله والإنسان نتيجة خطيئة قطع الشجرة.
وهذه الفكرة هي أدق تعبير عن الحلولية القبَّالية. وقد وردت في الأجاداه فكرة أن الإله يعتمد على الإنسان، بل إن الإنسان شريك الإله في عملية الخلق (ولهذا، فبوسعه التحكم في الأشياء الصالحة، ومن هنا ارتباط القبَّالاه بالسحر). وفي القبَّالاه، تصبح مهمة الإنسان استعادة تناسق حياة الإله الداخلية التي تعتمد على إرادة الإنسان (ومرة أخرى، يبدو كلٌ من الإله والإنسان شريكاً في عملية الخلاص). والواقع أن هناك تقابلاً بين الإله والإنسان وامتزاجاً كاملاً بينهما في الرؤية القبَّالية.
ولعملية السقوط والانفصال أصداء مختلفة، فهي سقوط آدم وهي أيضاً سقوط أو هدم الهيكل، بل هي سقوط الكون كله. لكن جماعة يسرائيل، كما تقدَّم، هي جزء من الإله تُوجَد داخله، فهي التجلي أو السفيروت العاشر الذي هو الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) التي يتم نفىها مع الشعب اليهودي، ولذا، فإن نفي اليهود خارج أرض الميعاد له دلالات خاصة تفوق حالة النفي الكونية العامة، فنفيهم يعني تفتُّت الإله وتبعثره بل نفيه. ولهذا، فإن اليهود لهم مكانة مركزية في عملية الخلاص، إذ أن عليهم أن يحيوا حياة القداسة، والتركيز الصوفي وتنفيذ التعاليم الإلهية والتمسك بالشريعة. وبذلك يأتي الخلاص لليهود وللعالم بأسره، بل للإله نفسه، إذ أن الشخيناه، وهي وجه من أوجه الإله، لن تعود إلا بعودتهم، ولن يتم اكتمال وحدة الإله إلا بهذه العودة. وبذا، فإن وجود اليهود، وكذا أفعالهم، تُشكل أساساً لاتزان الكون ولعملية الخلاص الإلهية والبشرية. بل إن رحمة الإله لا تفيض إلا بسبب أفعالهم الخيرة، فتتحول حياة اليهود العادية إلى عملية مقدَّسة يستند إليها خلاص الكون نفسه.
ويظهر التقابل، بل التطابق الكامل، بين الإله والإنسان وبين العالمين العلوي والسفلي، في استخدام القبَّاليين صورة مجازية جنسية عند الحديث عن الإله أو عن عملية الخلق. فالابن ـ وهو رمز ذكري واضح ـ (السفيروت السادس) يفيض بالرحمة الإلهية التي تنزل على التجلي العاشر الذي هو الشخيناه أو التعبير الأنثوي عن الإله، وهي أيضاً جماعة يسرائيل التي يُشار إليها بتعبير «بنت صهيون» (بات تسيون). ومن خلال التفاعل بين عناصر الذكورة وعناصر الأنوثة، تفيض الرحمة على العالمين، وتتحد الذات الإلهية، وبذلك يصبح سر وحدة الإله والكون هو نفسه الوحدة الكونية. وتُستخدَم صورة الزواج المجازية للحديث عن علاقة الإله بالشعب (ونشيد الأنشاد هو نشيد زفاف الشعب إلى الإله!). والواقع أننا نتحدث عن هذه الأفكار بوصفها صوراً مجازية، ولكن قد يكون من الأدق الحديث عنها باعتبارها مقولات إدراكية أو حتى وجوداً أنطولوجياً أكثر منها صوراً مجازية بالمعنى المألوف، إذ أن بعض القبَّاليين كانوا يدركون الإله على هذه الهيئة. والصورة المجازية الجنسية القذفية الفيضية تعبير عن البنية المغلقة.
وقد ورد في إحدى الدراسات أن الصورة المجازية الجنسية تُستخدَم لمعرفة كنه علاقات التجليات، الواحدة بالأخرى، وبالتالي فهي لا تَصدُق على علاقة الإنسان بالإله. وبناء على ذلك، يصل المؤلف إلى أن التصوف اليهودي حسب هذا الرأي يختلف عن التصوف المسيحي الذي يرمي إلى تحقيق الاتحاد بالإله، في حين تهدف التجربة الصوفية اليهودية إلى التواصل مع الإله والالتصاق به. ولكن، كما بيَّنا، تمثل الشـخيناه حلقـة وصل عضوية بين التجليـات المختلفة الإلهية والعالم السفلي، بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، كما أن فكرة التقابل بين الإله والإنسـان تجعل الوحـدة والحلولية الكاملة أمراً بيِّناً. وعلى كلٍّ، أثبتت التطورات اللاحقة في الحركات المشيحانية أن الصورة المجازية الجنسية كانت أساسية في تفكير القبَّاليين، وفي إدراك علاقة الإنسان بالإله.
وإذا كانت الحلولية التلمودية قد أدَّت إلى العزلة والتعالي، فإن الحلولية القبَّالية المتطرفة أدَّت إلى عزلة وتعال متطرفين، فزادت عزلة اليهود عن العالمين، ولم يَعُد الاختلاف بينهم وبين الأغيار مسألة عقيدة وإنما أصبح مسألة أصول ميتافيزيقية مختلفة، فأرواح اليهود مستمدة من الكيان المقدَّس في حين تَصدُر أرواح الأغيار عن المحارات الشيطانية والجانب الآخر. وأعضاء الشخيناه هم أعضاء الجماعة اليهودية، أما الأغيار فهم أبناء الشيطان (نتيجة اغتصاب الشيطان الابنة/الماترونت/الملكة). (يُلاحَظ أن الماترونيت هي مؤنث متاترون). والخيِّرون من الأغيار هم في الواقع أجساد أغيار لها أرواح يهودية ضلت سبيلها. وإذا كان اليهود يعيشون في الظاهر بفضل الأغيار، فإن العكس في الواقع هو الصحيح، فاليهود هم وحدهم القادرون على التأثير في قنوات الرحمة التي عن طريقها سيرسل الإله رحمته إلى العالم، وهم وحدهم الذين يقفون كوسيط بين الإله والعالم، فأعمالهم الطيبة هي التي تجعل الخير يعم الجميع، وذنوبهم هي التي تأتي بغضب الإله عليهم. ويوجد في القبَّالاه أيضاً ذلك الإحساس الذي يسري في كثير من صفحات التلمود، بأن نهاية التاريخ ستشهد عُلو جماعة يسرائيل على العالمين ودمار أعدائهم من الشعوب الأخرى.
وقد وصف الحاخامات الأرثوذكس النزعة القبَّالية بأنها تخلت عن التوحيد اليهودي، وأحلت محل الإله الواحد عشرة آلهة (التجليات النورانية العشرة). وهم محقون تماماً في هذا، فالخلق عن طريق الفيض يفترض عشرة تجليات يحمل كل منها قداسة إلهية، كما أن كلاًّ منها منفصل عن الآخر، فهي تكاد تكون عدة آلهة أو إله واحد قابل للانقسام إلى أجزاء. ويمكن القول بأن التجسد في المسيحية يحدث مرة واحدة عند نزول المسيح (ابن الإله) ثم صلبه (وهو ما نسميه «الحلول الشخصي المؤقت النهائي»). أما التجسد في حالة القبَّالاه، فهو حالة حلولية دائمة لا تنتهي وتستمر عبر التاريخ، كما أن الفكر القبَّالي يفترض الشراكة بين الإنسان والإله وينطوي على ضرب من المساواة والتعادل والتقابل بينهما.
ولكن التنوع والتعدد في السياق القبَّالي هما في واقع الأمر من قبيل الوهم، فهما مجرد مراحل وحلقات تؤدي إلى الوحدة والواحدية المطلقة النهائية، وهي وحدة تنكر الثنائية (وليس الثنوية) التي تسم الديانات التوحيـدية كافة وتتمـثل في ثنائية الجسـد والروح، والدين والدنيا. وأكثر من ذلك، فإن القبَّالاه تنكر انفصال الإله عن الكون، وتنتهي إلى وحدة مغلقة لا يتجاوز الإله فيها مخلوقاته. لكن هذه الوحدة المطلقة النهائية تنطوي على إنكار أية دلالة تاريخية وأي وجود إنساني متعَيِّن، ذلك لأن كل الظواهر المادية والروحية والمعنوية تدخل في إطار هندسي جامد وتخضع للقوانين الصوفية أو الميكانيكية أو الرياضية نفسها، أي أن التفكير القبَّالي تفكير غير جدلي ولا يرى أي تناقض حقيقي بين الأشياء، فهو يذيب حدودها تماماً، ويذيب الهويات كافة، ومنها هوية اليهود كأفراد، ولا يُبقي سوى هوية (وحقوق) جماعة يسرائيل كمركز للكون والجنس البشري والوجود الإلهي.
ولكل هذا، فإن التفكير القبَّالي يحوي داخله نقيضين: تعدُّداً من ناحية، يرى الإله أجزاء وتجليات مختلفة، ومن ناحية أخرى واحدية متطرفة لا ترى أي وجود للإله خارج مخلوقاته المادية، وهذه إحدى سمات الأنساق الدينية الحلولية المتطرفة.
يتبع إن شاء الله...