ولذا بدلاً من الغائية التقليدية التي ترى أن التاريخ يسير بتوجيه إلهي، طُرحت فكرة جديدة تماماً على الفكر البشري وهي أن التاريخ يتحرك إما دون غائية، فهو حركة دون هدف (تماماً مثل الطبيعة/المادة)، أو أن غائيته مثل معياريته مستمدة من الطبيعة/المادة. وغني عن القول أن الرؤية الأولى تنسف فكرة التاريخ تماماً.
أما الرؤية الثانية فقد ترجمت نفسها إلى رؤية للتاريخ باعتباره عملية تَقدُّم دائمة، ولكنه تَقدُّم مرجعيته النهائية الطبيعة/المادة، وهدفه النهائي تَحقُّق قوانينها في التاريخ، ومن ثم يصبح التقدم تزايد تطبيق القوانين الطبيعية إلى أن تسود هـذه القـوانين تماماً (ويصبح المجتمع الإنساني في بساطة عالم الطبيعة ويحل التاريخ الطبيعي محل التاريخ الإنساني).
وقد عبَّرت هذه الرؤية الاستنارية عن نفسها في كل من الهيجلية والفلسفات التي ثارت على الهيجلية. ولنبدأ بالفلسفات المعادية للهيجلية فرفضها للتاريخ أمر واضح، فهي فلسفات تنكر فكرة الجوهر والكل والمركز والسببية وأي شكل من أشكال اليقينية أو الثبات، بل تنكر الغائية نفسها، فيصبح العالم في حالة حركة دائمة خالية من المعنى والهدف والغاية، ومن ثم لا يمكن أن تقوم للتاريخ قائمة.
وإذا كان عداء الفلسفات المعادية للهيجلية للتاريخ أمراً واضحاً، فالأمر مختلف بعض الشيء بالنسبة للهيجلية التي تتحدث كثيراً عن التاريخ وحتمياته وقوانينه ومراحله وأنماطه. ولكنها مع هذا، في تصوُّرنا، لا تقل في عدائها للتاريخ عن المدارس المعادية للهيجلية. فالفلسفة الهيجلية تفترض أن ثمة فكرة ليس لها وجود مادي أو نسبي، هي التي تحرك التاريخ والمجتمع والإنسان والطبيعة. ويُطلَق على هذه الفكرة عدة أسماء: الفكرة المطلقة ـ العقل المطلق ـ الروح بشكل عام (جايست) ـ الروح اللامتناهي. ولكن المطلق ليس سكونياً، فهو لن يُدرك نفسـه إدراكاً كاملاً ولـن يتحقـق تحققاً كاملاً إلا في الطبيعة والزمان والتاريخ، وذلك عبر عملية جدلية تتداخل فيها المتناقضات وتتحدد من خلالها الأضداد، إلى أن يصبح الفكر طبيعة، وتصبح الطبيعة فكراً.
وهذه الوحدة الكونية النهائية ممكنة لأن قـوانين الفـكر هي في واقـع الأمـر قوانين المادة، وقوانين المنطق (العقل) هي في واقع الأمر قوانين الطبيعة. كل هذا يعني أن الفلسفة الهيجلية، رغم كل حديثها عن التاريخ والجدل والتناقض، فلسفة واحدية تسد الثغرة التي تفصل بين الإنساني والطبيعي وتلغى ثنائية الفكر والمادة والحضارة والطبيعة، ومن ثم تمحو الإنسان كظاهرة متفردة مستقلة عن الطبيعة.
ولهذا قيل عن حق إن الهيجلية فلسفة لا تعرف الثنائيات ولا تفصل بين المادي والمثالي، أو بين الطبيعي والإنساني، أو بين المقدَّس والزمني، إذ سيُردُّ كل شيء إلى عنصر واحد، مادي فعلاً روحي اسماً. والفكر الهيجلي لا ينظر إلى الواقع إلا من منظور نهاية التاريخ حين يتجسد العقل الكلي ويتحقق القانون العام في التاريخ، في لحظة ينتهي فيها الجدل والمعاناة الإنسانية، إذ يصل الإنسان إلى الحل النهائي لكل مشاكله، ويُحكم السيطرة على كل شيء. ولكن من المفارقات أن لحظة السيطرة الكاملة هذه هي أيضاً لحظة انتصار البسيط على المركب والطبيعي على الإنساني.
وقد استخدَمتُ مصطلح «نهاية التاريخ» لأول مرة عام 1965 حينما كنت أكتب رسالتي للدكتوراه عن الشاعر الأمريكي وولت ويتمان الذي وصفته بأنه شاعر حلولي صوفي مادي يعادل بين الروح والمادة ويقرن بينهما (على طريقة هـيجل). وهو يتغنى بالمـادة والجـنس والكهرباء والجاذبية الأرضية التي يرى أنها تشبه الجاذبية الجنسية. فالإنسان ما هو إلا جزء لا يتجزأ من الكون ووعيه لا يتجاوز الطبيعة، بل عليه أن يتكيف معها ويذعن لها.
كما أن إيمان ويتمان المطلق بالطبيعة (وعداءه للإنسان المركب التاريخي) يترجم نفسه إلى عداء للتاريخ يتضح في محاولته الوصول إلى نهاية التاريخ وإلى اليوتوبيا التكنولوجية. كان ويتمان يرى أن أمريكا هي هذا الفردوس الأرضي الذي يبدأ فيه التاريخ الطبيعي وتسود فيه قوانين الطبيعة/المادة، قمة كل التطور التاريخي السابق، فهي دولة العلم والتكنولوجيا التي ستهدم التاريخ وتعلن نهايته (وذلك قبل أن يتحـدث فوكوياما في نهاية الثمانينيات عن التلاقي الكامل أو عن انتصـار الليبرالية التي تؤدي إلى نهاية التاريخ).
وكما يقول ويتمان "جوهر المثالية [الأمريكية] هو علموة to scientize الروح والشرائع اليونانية"، أي صبغها بالصبغة العلمية أو فرض قوانين علمية (تم استخلاصها من عالم الطبيعة) عليها حتى يدير الإنسان حياته من خلالها بطريقة علمية (وهذا هو أساس فكرة وحدة العلوم واليوتوبيا التكنولوجية). ويظهر التاريخ كجثة هامدة في شعر ويتمان الذي تسـود فيه رؤية واحـدية يُردُّ فيـها التاريخ بأسـره إلى مبـدأ واحد هـو الطبيعة/المادة ـ "القـانون الذي لا يتـغيَّر"؛ "الحتمي مثل قوانين الشتاء والصيف، والنور والظلام!".
وشعر ويتمان مفعم بهذه "الرغبة في العودة"، الحرفية والمادية والدائمة، إلى الطبيعة. وكثير من قصائد ويتمان تبدأ بالابتعاد التدريجي عن الحضارة والاقتراب المتزايد من الطبيعة إلى أن يلتحم بها تماماً، ويصل إلى اللحظة النماذجية، لحظة ذوبان الذات الإنسانية في الطبيعة المادية، وهي عادة ما تكون لحظة قذف جنسية (مع محب من جنسه) يُعلن فيها تحرُّره من عبء التاريخ ومن التدافع ومن الحضارة والهوية، فهي لحظة نهاية التاريخ وتحقُّق الفردوس الأرضي.
ثم استخدَمتُ مصطلح «نهاية التاريخ» بشكل أكثر شمولاً في كتابي نهاية التاريخ (عام 1972)، لوصف النماذج الحلولية الواحدية المادية الشاملة التي تترجم نفسها في عالم السياسة إلى نظم طوباوية شمولية فاشية. وبيَّنت أن مثل هذه النماذج تحوي داخلها دائماً " قابلية لإعلان نهاية التاريخ، فما هو مجهول ليس بغيب وإنما هو أمر غير معروف بشكل مؤقت. إذ من المتوقع أن يكتشف الإنسان بالتدريج قوانين الحركة خلال عشرات السنين من المحاولة والخطأ، وستنكمش رقعة المجهول تدريجياً وتتسع رقعة المعلوم.
وسينحسر الجهل بالتدريج مع تزايد الترشيد والاستنارة إلى أن نصل في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر والتاريخ " إلى نقطة التوهج الأخيرة والرشد الكامل بحيث يصبح كل شيء واضحاً، وتوضع الحلول النهائية لجميع المشاكل ويتم التحكم في كل شيء، ويتم تفسير كل شيء في ضوء القانون العام فتُمحَى الثنائيات والمطلقات ويختفي الإنسان. ومن ثم، فإن نقطة التوهج هي في الواقع نقطة الاحتراق، وهي أيضاً نقطة نهاية التاريخ ونهاية الإنسان باعتبـاره كائناً مركباً متعدد الأبعاد لا يمكن رده إلى الطبيعة/المادة، وهي أيضاً النقطة التي سيظهر فيها إنسان جديد رشيد يعيش حسب قوانين الطبيعة المادية العلمية، ومن ثم فهو خاضع للتحكم العلمي.
وقد تناولتُ الموضوع مرة أخرى في مقدمة كتاب الفردوس الأرضي (1979)، حيث تحدثت عن الإنسان الطبيعي والإنسان التاريخي، وبيَّنت أن الإنسان الطبيعي إنسان لا حدود له، يرفض الحدود التاريخية، هو إنسان روسو الحر الفرح الآمن الذي يتحول إلى إنسان داروين المتجهم الذي تأكله الذئاب من الحيوانات الطبيعية أو من البشر الطبيعيين (وقد تحوَّل أخيراً إلى كلب بافلوف المسكين، القابع في المعمل، لا باطن له، لا يتحرك إلا بعد تلقِّي الإشارات البرانية).
وقد أشرت إلى أن الإنسان التاريخي يتسم بالثنائية "فالإنسان يعيش في التاريخ، يفصل بين المطلق والنسبي ويبحث عن المطلق خارج التاريخ، إذ أن التاريخ لا نهاية له، ولن نصل بتاتاً إلى لحظة السكون التي يتحقق فيها الفردوس الأرضي وينتفي فيها الجدل ويتداخل فيها المطلق والنسبي ويصبح التاريخ دائرياً مثل الطبيعة". وقد ربطت هذه النزعة الفردوسية اللاتاريخية بما سميته حينذاك «الغيبية العلمية» التي تدَّعي لنفسـها احتكار الحـقيقة المطـلقة وتنسب لنفـسها القـدرة على تحقـيق الفردوس "الآن وهنا" بإشباع كل رغبات البشر، ذلك إن استسلم الناس لها "وأسلموا لها القياد، متبعين آخر الأساليب العلمية التي لا يعرفها بطبيعة الحال إلا العلماء".
وهذه الرؤية الفردوسية العلمية رؤية "ميكانيكية بسيطة تفترض أن الإنسان كمٌ محض لا يختلف عن الكائنات الطبيعية الأخرى" يعكس بيئته بشكل مباشر وبسيط. وقد وجدت أن هذا التيار ليس مقصوراً على العالم الرأسمالي بل يوجد أيضاً في العالم الاشتراكي. حيث عبَّرت كل هذه المفاهيم "عن نفسها في فكرة «التقدم» السريع والدائم نحو الفردوس العلمي المنظم (اليوتوبيا التكنولوجية) الذي يعيش فيه الإنسان كالأطفال في تناسق تام مع الطبيعة وكأنه آدم قبل السـقوط وقبل أن يكتـسب معرفة الخـير والشـر".
ويرى بعض المؤرخين أن العصر الحديث هو عن حق عصر نهاية التاريخ، فالحضارة الحديثة المرتبطة بآليات السوق، وبالعرض والطلب، هي حضارة مرتبطة بآليات بسيطة لا تعرف تركيبية الإنسان وتنكر مقدرته على التجاوز، فهو إنسان ذو بُعد واحد (يعيش في مجتمعات أحادية الخط)، وعقله عقل أداتي (يغرق في التفاصيل والإجراءات، ولا يمكنه إدراك الأنماط التاريخية ولا تطوير وعيه التاريخي). فالسوق (والمصنع) بآلياتهما البسيطة يتطلبان إنساناً طبيعياً مادياً بسيطاً، لا علاقة له بالإنسان الإنسان، الإنسان المركب. والمجتمعات الاستهلاكية التي لا تحكمها إلا آليات العرض والطلب والاستهلاك والإنتاج تزعم أنها قادرة على إشباع جميع رغبات الإنسان المادية والروحية من خلال مؤسساتها الإنتاجية والتسويقية والترفيهية.
ويُلاحَظ في العصر الحديث تَزايُد هيمنة البيروقراطية والتكنوقراطية والتحكم في البشر من خلال الهندسة الوراثية والبيولوجيا الاجتماعية وعمليات الترشيد المتحررة من القيمة، وهذه علامة على شيوع فكرة نهاية التاريخ. وكما قال ألدوس هكسلي متهكماً، واصفاً إمكانيات تكنولوجيا اليوتوبيا والفردوس الأرضي: "في عام 5200 سيحكم الأرض عالم جديد شجاع، مبادئه المساواة والتماثل والاستقرار. وسيكون علم البيولوجيا العلم الأساسي في هذا العالم، سيُمكِّن الإنسان من الحصول (من الحاضنة) على كائنات بشرية متشابهة وفق معايير موحدة.
وسيعمل آلاف من التوائم على الآلات نفسها، ويقومون بالأعمال نفسها...". ويُعلق علي عزت بيجوفيتش (المفكر المسلم رئيـس جمهورية البوسـنة) على ذلك بقولـه: "في هذا العالم الرائع لن يوجد أناس خاطئون، قد يوجد بعض الأفراد المعاقين، ولكنهم لا يكونون مسئولين عن إعاقتهم، ولا يُعاقَبون عليها [ولذا] سيتم فكهم من الآلة ببساطة. في عالم كهذا، لن يكون هناك خير ولا شر... ولن يكون هناك إلهام ولا مشكلات ولا شكوك ولا عصيان. هنا يتم القضاء على الدراما وعلى الإنسان وتاريخه، ويرتفع صرح اليوتوبيا".
بل إن نهاية التاريخ أصبحت لأول مرة في تاريخ البشرية إمكانية قائمة بالمعنى الحرفي، فالتلوث الكوني يتزايد إلى درجة تهـدد الحياة على وجـه الأرض، وقد تراكم لدى البشر كمٌ من الأسلحة يكفي لتدمير العالم أكثر من عشرين مرة. وهذه آلية تكنولوجية رائعة لإنهاء كل من التاريخ والجغرافيا بطريقة رشيدة بسيطة شاملة حديثة لا تسبب ألماً كبيراً ولا تستغرق سوى لحظات، وهي من ثم تحقق حلم الإنسـان العلماني الشـامل بالتأله الكامل والتحكم الشامل في كل شيء، وضمن ذلك يوم القيامة!
ورغم مركزية فكرة نهاية التاريخ (والحلول النهائية والفردوس الأرضي واليوتوبيا التكنولوجية) في الفكر الغربي الحديث عامة فإن حدة الحمى الطوباوية المشيحانية التكنولوجية تختلف من عقيدة لأخرى. فهي خافتة مثلاً في الفكر الليبرالي، ولكنها ولا شك كامنة فيه، فهو فكر يدور حول فكرة التقدم والإيمان بأن ما هو مجهول لابد أن يصبح معروفاً (فلا مجال للمجهول أو للغيب)، الأمر الذي يعني تَزايُد التحكم (الإمبريالي) في الواقع، إلى أن يصل الإنسان إلى قدر عال من المعرفة العلمية بقوانين الطبيعة، بحيث يمكن تحقيق ما يشبه السعادة الكاملة المخططة المُبرمَجة، أي الفردوس الأرضي.
وإذا كانت الحمى المشيحانية التكنولوجية خافتة في النموذج النفعي العقلاني الديموقراطي الليبرالي، فهي تزداد سخونة في الفكر الماركسي لدى حديثه عن المجتمع الشيوعي، حيث تزول كل الحدود ويتطابق الداخل والخارج ويتحقق الفردوس الأرضي. وتصل السخونة إلى درجة الغليان والانصهار في الستالينية حيث يتم إصلاح العالم بقرارات وزارية وعسكرية مادية جدلية علمية رصينة تطرح الحلول النهائية التي تكفل إزالة جميع العناصر المُقاومة للتقدم وسائر الانحرافات عن المسار الحتمي الواضح المؤدي إلى السعادة الكاملة وإلى تحقيق المجتمع الشيوعي العادل (وقد شبَّه أحدهم نهاية التاريخ بأنه بوليس سري يطرق باب المعارضين).
وفي ألمانيا النازية، كان الرايخ الثالث الترجمة المباشرة للعقيدة الألفية ذات الطابع المشيحاني (وكان المفترض فيه أن يستمر لمدة ألف عام). ففي الرايخ الثالث كان سيتم القضاء على كل آلام الشعب الألماني ويتم تحقيق الرخاء الأزلي، الأمر الذي كان يتطلب إزالة بضعة ملايين من الأطفال المـعوقين والعـجزة والغـجر والسـلاف واليهود ممن لا نفع لهم، فنهـاية التاريخ تتطلب بطبيعة الحال الحل النهائي.
النظام العالمى الجديد وما بعد الحداثة ونهاية التاريخ:
يمكن القول بأن النموذج الكامن وراء معظم الأيديولوجيات العلمانية الشاملة (النازية ـ الماركسية ـ الليبرالية ـ الصهيونية) هو ما يُسمَّى «التطوُّر أحادي الخط» (بالإنجليزية: يوني لينيار unilinear)، أي الإيمان بأن ثمة قانوناً علمياً وطبيعياً واحداً للتطور تخضع له المجتمعات والظواهر والبشرية كافةً، وأن التقدم هو في الواقع عملية متصاعدة من الترشيد المادي، أي إعادة صياغة الواقع الإنساني في إطار الطبيعة/المادة فتُستبعد كل العناصر الكيفية والمركبة والغامضة والمحفوفة بالأسرار، بحيث يتحول الواقع إلى مادة استعمالية بسيطة ويتحول الإنسان إلى كائن وظيفي أحادي البعد.
ومن ثم يمكن توظيف كل من الواقع المادي والإنساني بكفاءة عالية. ثم تتصاعد عمليات الترشيد (والتنميط والتسوية) إلى أن يتحقق حلم اليوتوبيا التكنولوجية، حين تتم برمجة كل شيء، والتحكم في كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، ظاهره وباطنه (ومن ثم يمكن استنساخه ببساطة). وعمليات الترشيد تأخذ شكل مراحل تمر بها كل المجتمعات البشرية (ومن هنا ولع الفكر الغربي بتقسيم التاريخ إلى مراحل محددة).
وتصاعُد عمليات الترشيد على مستوى العالم هو العولمة بحيث يصبح العالم كله مادة استعمالية ويصبح كل البشر كائنات وظيفية أحادية البعد يمكن التنبؤ بسلوكها. وتتصاعد معدلات الترشيد إلى أن تصل سائر المجتمعات البشرية إلى نقطة تتلاقى عندها ويسود التجانس الكامل بينها، وهذا ما يُسمَّى أيضاً «نظرية التلاقي» (بالإنجليزية: كونفيرجانس ثيري convergence theory).
والتلاقي هو تَوحُّد النماذج كلها بحيث تتبع نمطاً واحداً وقانوناً عاماً واحداً هو قانون التطور والتقدم بحيث يصبح العالم مُكوَّناً من وحدات متجانسـة؛ ما يحـدث في الواحدة يحدث في الأخرى. وقد أشار أحد المعلقين إلى أن ما يحدث الآن في العالم هو سقوط الماركسية وبدلاً من الماركسية، ماركسيزم Marxism، ظهرت عبادة السوق ماركتزم Marketism. وعبادة السوق هذه وهيمنتها على العالم بأسره، بشماله وجنوبه وشرقه وغربه، هي في واقع الأمر نقطة التلاقي التي تحدَّث عنها علم الاجتماع الغربي.
وقد تنبأ ماكس فيبر بأن عمليات الترشيد ستؤدي إلى تحويل المجتمع إلى حالة المصنع وإلى إدخاله القفص الحديدي. ونحن نتفق معه تماماً في صورة القفص الحديدي، ولكننا نذهب إلى أن العالم سيحكمه إيقاع ثُلاثيّ: المصنع (حيث ينتج الإنسان) ـ والسوق (حيث يشتري ويبيع) ـ وأماكن الترفيه (حيث يفرغ ما فيه من طاقة وتوترات وعُقد وأبعاد)، أي أنه إيقاع يستوعب كلاً من الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني ويشبع جميع رغباتهم البسيطة الطبيعية أحادية البُعْد، التي لا علاقة لها بأي تركيب إنساني.
وحينما يسيطر هذا الإيقاع الثلاثي على العالم بأسره يظهر النظام العالمي الجديد وأيديولوجيات نهاية التاريخ وما بعد الحداثة. وهي أيديولوجيات نابعة من الموقف المزدوج لعصر الاستنارة من التاريخ: موقف هيجلي يُقدِّس التاريخ ويؤكد أنه ذا غاية محددة وأنه يصل إلى نهايته حين تتحقق هذه الغاية، وقسم معاد لهيجل يرى أن التاريخ لا غاية له ولا هدف. والتياران، كما سنبين، في تقديسهما وفي عدائهما للتاريخ، ينكرانه.
1 ـ التاريخ يصل إلى نهايته عند تَحقُّق غايته: فوكوياما وهنتجتون:
فوكوياما ونهاية التاريخ:
يرى فرانسيس فوكوياما أن كلاًّ من هيجل وماركس كانا يريان أن التاريخ سيصل إلى نهايته حينما تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع الذي يشبع الاحتياجات الأساسية والرئيسية للبشر، فهو عند هيجل الدولة الليبرالية وعند ماركس المجتمع الشيوعي. ولكن العالم بأسره قد وصل إلى ما يشبه الإجماع بشأن الديموقراطية الليبرالية كنظام صـالح للحكم بعد أن ألحـقت الهزيمة بالأيديولوجيات المنافسة. وهذا يعود إلى أن الديموقراطية الليبرالية خالية من تلك التناقضات الأساسية الداخلية التي شابت أشكال الحكم السابقة.
ويستخدم فوكوياما نموذج العلوم الطبيعية (المادية) لتفسير التاريخ. فالعلوم الطبيعية الحديثة تمثل النشاط الاجتماعي المهم الوحيد الذي يُجمع الناس على أنه يتسم بالنمو والتراكم والغائية، ومن ثم يقرر فوكوياما أن منطق العلوم الطبيعية الحديثة يبدو كأنه يفرض على العالم (الطبيعة والإنسان) تطوراً شاملاً يتجه صوب الرأسمالية والسوق الحر، أي أن ما تمكن تسميته «الرأسمالية العلمية»، الممثل الوحيد والحقيقي للمبدأ الطبيعي/المادي الواحد، قد حلت محل ما كان يُسمَّى «الاشتراكية العلمية»، التي كانت تدَّعي لنفسها شرف تمثيل المبدأ الطبيعي.
وبذا، تَحوَّل الإنسان في الشرق والغرب إلى الإنسان الاقتصادي (المادي) الذي يمكنه إدارة حياته على أسس علمية رشيدة.
ولكن يبدو أن فوكوياما، بعد أن استخدم نموذج العلوم الطبيعية/المادية بهذه السوقية والفجاجة، وبعد أن أكد أسبقية المادة على الإنسان بشكل مطلق، يحاول أن يراجع نفسه ويقرر أن يُدخل عنصراً إنسانياً غير مادي (وهذا نمط متكرر في الأيديولوجيات المادية العلمانية كافة، فهي لا تستطيع أن تواجه وحشية ماديتها، ومن هنا فإنها تُدخل مُحسِّنات روحية معرفية).
والعنصر الإنساني غير المادي الذي يُدخله فوكوياما هو سعي البشر إلى نيل الاعتراف بقدرهم أو الاعتراف بقدر الأشخاص أو الأشياء أو المبادئ التي يعتقدون أن لها قدراً كبيراً (وهو ما يُسمَّى «عزة النفس»). والديموقراطية الليبرالية ستحقق كل ما يريده الإنسان على المستويين الاقتصادي (المادي) والإنساني (غير المادي). ولكن رغم كل هذه المحسنات، نجد أن فوكوياما يثير الشكوك حول إمكان أن يؤدي التطـور التاريخي العلمي إلى سـعادة الإنسان، فالتـأثير النهائي لهذا التطور على سعادة البشر أمر غامض.
بل إن فوكوياما يورد، بقدر من الاستحسان، عبارة من كتابات كوجيف (مفسر هيجل الذي يعتمد عليه فوكوياما) يقول فيها: "إن اختفاء الإنسان بانتهاء التاريخ ليس بكارثة كونية [طبيعية/مادية]. فالعالم الطبيعي [المادي] سيبقى كما كان عليه منذ البداية. ولا هو بكارثة بيولوجية، فالإنسان سيبقى حياً كالحيوانات منسجماً مع الطبيعة/المادة". أما ما سيختفي، فهو الإنسـان بمعناه الشـائع؛ والإنسـان بمعـناه الشـائع أمر حضاري تاريخي مُركَّب لا يهتم به الماديون الطبيعيون كثيراً.
إن إعلان فوكوياما نهـاية التاريخ هـو إعلان نهاية الإنسـان وانتصار الطبيعة/المادة، أي الموضوع (اللاإنساني) على الذات (الإنسانية)، ومعناه تَحوُّل العالم بأسره إلى كيان خاضع للقوانين الواحدية المادية (التي تجسدها الحضارة الغربية) التي لا تُفرِّق بين الإنسان والأشياء والحيوان والتي تُحوِّل العالم بأسره إلى مادة استعمالية، فنهاية التاريخ هي في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي.
صموئيل هنتنجتون وصدام الحضارات:
أشار بعض المحللين السياسيين إلى أن أطروحة هنتنجتون هي عكس أطروحة فوكوياما، فبينما يعلن الأول تَصاعُد الصراع بين الحضارات يعلن الثاني انتهاء الجدل والتدافع والتاريخ. والأمر هو بالفعل كذلك لو قنعنا بالمستوى التحليلي السياسي وبنقل الأفكار، أما إذا تعمقنا وحاولنا الوصول إلى المستوى المعرفي فإننا سنجد أن الأمر مختلف تماماً.
يبدأ هنتنجتون بتأكيد أن دور الدولة القومية كفاعل أساسي في الصراعات الدولية قد تَراجَع (ولم يختف كليةً)، وظهر بدلاً من ذلك الصراع بين الحضـارات والثـوابت الحضارية. وقد نشب هذا الصراع نتيجة دخول الحضارات غير الغربية كعناصر فاعلة في صياغة التاريخ، أي أن الغرب لم يَعُد القوة الوحيدة في هذه العملية. فالصراع ليس حتمياً وإنما هو نتيجة دخول لاعبين جدد!
واستخدام هنتنجتون لكلمة «حضارة» يعادل تقريباً استخدام كلمة «معرفي» عندنا. فلكل حضارة ـ حسب رؤية هنتنجتون ـ رؤية للكون تدور حول العلاقة بين الإنسان والإله (الفرد والمجتمع ـ الجزء والكل)، وتُؤسَّس على هذه الرؤية للكون منظومات معرفية وأخلاقية تحدد تراتب المسئوليات والحقوق (المساواة والسلطة ـ الفرد والأسرة ـ المواطن والدولة ـ الصراع والاتساق).
هذه الرؤية للكون أمر متجذر في البشر عبر قرون طويلة ولا يمكن أن يُمحَى أثرها في سنوات قليلة، وما يراه أهل حضارة معينة أمراً أساسياً قد يراه آخرون هامشياً. ويؤكد هنتنجتون أن أساس اختلاف الحضارات هو التاريخ واللغة والحضارة والتقاليد، ولكن أهم العناصر طراً هو الدين (نلاحظ بشكل جانبي أن طريقة هنتنجتون في التصنيف ليست جيدة، فهو يورد عناصر متداخلة مثل التقاليد والتاريخ باعتبارها عناصر مستقلة تمام الاستقلال، كما أنه يذكر العناصر بشكل رأسي وكأنها جميعاً متساوية، ولكن يجب أن نذكر أنه يعطي مركزية سببية للدين).
فكأن هناك صراعاً حضارياً في العالم هو في واقع الأمر صراع ديني. وبعد أن يبلور هنتنجتون أطروحته بهذا الشكل (الحضارة الغربية مقابل الحضارات غير الغربية) يعطي انطباعاً بأن ثمة تنوعاً حضارياً هائلاً في العالم (ومن هنا حديثه عن الحضارة الغربية الأرثوذكسية مقابل البروتستانتية والكاثوليكية، والحضارة الكونفوشيوسية والحضارة الإسـلامية اللتين يرى أنهما يمارسـان نوعـاً من التعاون في اكتسـاب القوة والثروة).
ولكننا لو دققنا النظر لوجدنا أن التعددية التي يطرحها هنتنجتون واهية زائفة إذ تطل الثنائية الصلبة بوجهها، فالعالم ينقسم إلى قسمين اثنين: الغرب من ناحية وبقية العالم من ناحية أخرى (أو كما يقولون بالإنجليزية: ذا ويست آند ذا رست the West and the rest)، ولوجدنا أن العالم بأسره يتحرك في واقع الأمر نحو الغرب (تماماً مثلما بشَّر فوكوياما). وسنكتشف أن كلمة «الغرب» تعني في واقع الأمر «الحداثة»، فثمة تَرادُف بين هاتين الكلمتين عند هنتنجتون (وهـناك كلمات أخـرى مثل «السـوق الحرة» و«الديموقراطية» و«الفردية» تؤكد هذا الترادف).
أو كما يقول هنتنجتون "إن الحضارة الغربية حديثة وغربية"، أي أن التحديث هو التغريب، ومن ثم فإن "من يود أن يُحدَّث فليُغرَّب". وهو يقتبس باستحسان بالغ كلمات نايبول (الكاتب الجامايكي الذي تَخصَّص في تأليه الغرب وتجريح العالم الثالث، ومنه وطنه الأم، الهند، كما تَخصَّص في الهجوم على الإسلام): "إن الحضارة الغربية هي الحضارة العالمية التي تناسب كل الناس"، ومعنى ذلك أن الحضارة الغربية حالة طبيعية، صفة لصيقة بطبيعة الإنسان، ومن ينحرف عنها فهو إنسان غير طبيعي وشاذ! وهذا يعني أن التاريخ يتبع مسـاراً واحـداً وأن هنتنجتون يؤمن بالنمـوذج أحـادي الخط، رغم كل حديثه عن التعددية والصراع.
ويتضح هذا الإيمان بالنموذج أحادي الخط في الأمثلة التي يسوقها في مقاله. فهو يذكر أنه اكتشف، أثناء مقابلة له مع رئيس جمهورية المكسيك، أن هذا الأخير يود أن يحوِّل بلده من بلد أمريكي لاتيني إلى بلد أمريكي شمالي (أي يحاول أن يجعلها تلحق بركب الحضارة الغربية والطبيعية!)، ولا يملك هنتنجتون إلا أن يُعبِّر عن إعجابه العميق بعملية التطبيع هذه، التي ستجعل المكسيك متسقة مع قوانين الطبيعة وأمريكا الشمالية، وتقوِّم إنحرافها عن الصراط المستقيم. هذ هو الإيمان المستقر.
ولكن رئيس جمهورية المكسيك، هذا الذي يعرف أمور السياسة، يحذره من الإفصاح عن هذا الإيمان ويقول: "لا يمكن أن نقول ذلك علناً"، إذ أن السيد الرئيس يعرف أن جماهير الشعب تتمسك بالخصوصية والأصالة ولا تدرك، كما يدرك هو وكما يدرك هنتنجتون بطبيعة الحال، أن الخصوصية زخرفة يمكن الاستغناء عنها، وأن الهوية إضافة لا مبرر لها. ولحل هذه الإشكالية لابد من الحديث عن الخصوصية والأصالة ذراً للرماد في العيون مع الاسـتمرار في عملـيات التحـديث والتغريب والتطبيع. وهذا ما فعله أوزال رئيس جمهورية تركيا، هذا الذي يؤمن بالتحديث كتغريب وتطبيع، ومع هذا أدى فريضة الحج إلى مكة.
هؤلاء هم أبطال هنتنجتون، رجال يؤمنون بأن الحضارة الغربية حضارة عالمية تناسب كل الناس في كل زمان ومكان، ولذا فبطله الأساسي هو أتاتورك الذي قام بأشمل وأسرع عملية تحديث وتغريب (انطلاقاً من إيمانه بضرورة التخـلص من الهـوية والخصوصية والماضي) حـتى يصل بمجتمعـه إلى الحالة الغـربية الطبيعية/المادية الحديثة، وهي حالة ـ على كلٍّ ـ سيصل إليها المجتمع في نهاية الأمر، شاء أم أبى، من خلال قوانين التقدم التاريخية الطبيعية العلمية الحتمية.
ولكن كل حضارة، كما يؤكد هنتنجتون، تستند إلى رؤية دينية ، فما البُعد الديني للحضارة الغربية؟. يعلن هنتنجتون أن قيم الحضارة الغربية هي الديموقراطية والاقتصاد الحر وفصل الدين عن الدولة والليبرالية والدستورية وحقوق الإنسان. وفي الواقع، فإن ما يود هنتنجتون أن يقوله هو أن الأساس الديني الثابت للحضارة الغربية هو فصل الدين عن الدولة (وهو يُظهر هنا مرة أخرى عدم مقدرته على التصنيف الذكي والترتيب الدال، ولكن ما يهمنا هنا هو أن النموذج الفكري كامن وواضح).
ولابد أن إعجابه بأتاتورك ينبع من هذا الإيمان الحار بالعلمانية، وليس من قبيل الصدفة أن يقتبس كلمات المستشرق الأمريكي اليهودي العنصري برنارد لويس حين يتحدث عن نشوب ثورة من جانب الحضارة غير الغربية "ضد التراث اليهودي/المسيحي وضد حاضرنا العلماني وضد انتشارهما عالمياً"، فالعنصر اليهودي/المسيحي ينتمي للماضي (مجرد تراث)، أما الحاضر فهو العلمانية، أما الوعد فهو الانتشار.
أي أن ثمة ترادفاً بين الغربي والعلماني والإمبريالي التوسعي (يفترض فؤاد عجمي هذا الترادف في مقاله الذي رد به في مجلة الشئون الخارجية على هنتنجتون، فهو يتحدث عن عمليات العلمنة في الهند وتركيا باعتبارها عمليات تغريب وتحديث). والواقع أن مفهوم الدولة الممزقة أو المتمزقة (بالإنجليزية: تورن ستيت torn state) الذي يستخدمه هنتنجتون يفترض هذا الترادف، فهي دولة ممزقة بين الحديث والغربي والعلماني من جهة، وبين تراثها وهويتها وقيمها من جهة أخرى.
ثمة ثنائية حادة واستقطاب متطرف في عالم هنتنجتون بين الأنا الغربي (الحديث العلماني) من جهة، والآخر (غير الغربي غير الحديث غير العلماني) من جهة أخرى، وهي ثنائية لابد أن تُمحَى، وهذا هو في واقع الأمر صراع الحضارات، أي صراع الحضارة الغربية الحديثة العلمانية ضد الحضارات الأخرى. وهي نفس الثنائية الكامنة في عالم فوكوياما وفؤاد عجمي.
ولكن نقطة الاختلاف الأساسية بين الثلاثة تكمن في الاختلاف حول سرعة الوصول، ففوكوياما زادت حرارته المشيحانية فتَعجَّل وأعلن أننا قد "وصلنا" و"عدنا" ولذا فهو يُعلن نهاية الآخـر وانتصار الذات ونهاية التـاريخ وبداية الفـردوس الأرضي، بينما يرى فؤاد عجمي أننا قد بدأنا كلنا نستحث الخطى ولكننا لم نصل بعد. أما هنتنجتون فهو أقل تفاؤلاً من كليهما، فهو يرى أن الطريق إلى النهاية الفردوسية الطبيعية في لحظة الوصول ليست بهذه البساطة.
وحتى يوضح وجهة نظره، فإنه يشير إلى تلك الأيام الجميلة حينما كان الغرب يهيمن على المؤسسات السياسية والأمنية الدولية والاقتصادية ثم تغيَّر الأمر بعد ذلك إذ ظهر لأول مرة بعد إعلان حقوق الإنسان (وهو إعلان علماني تماماً يستند إلى فكرة القانون الطبيعي) دول لا تؤمن لا بالتراث المسيحي/اليهودي (أي تراث الحضارة الغربية) ولا بالقانون الطبيعي (التحديث على الطريقة الغربية والعلمانية). وقد زادت هذه الدول عدداً وأصبحت الآن في المقدمة.
وهذه الدول التي لا تنضوي تحت المنظومة الغربية لا تحث الخطى نحو النهاية الموعودة (والاستسلام للآخر لمحو الثنائية) إذ أن بعضها بدأ (على حد قول جورج ويجيل الذي يقتبس هنتنجتون كلماته) يتراجع عن عمليات العلمنة والتغريب في العالم وبدأت تقاوم، بل قد تتحالف مع بعضها ضد الفردوس الأرضي ونهـاية التاريخ وحالة الطبيعـة. ويُعَدُّ هذا التراجع الحقيقة الاجتماعية الأساسـية في الحيـاة في نهاية القرن العشرين.
والدين (كما قال هنتنجتون) أساس الهوية والخصوصية الحضارية التي تتجاوز الحدود القومية وتُوحِّد الحضارات، فالصراع ليس صراعاً بين حضارات (لكلٍّ قيمتها وقيمها) وإنما هو صراع بين منظومة قيمية غربية علمانية تدور في إطار المرجعية المادية وتستند إلى فكرة القانون الطبيعي (المادي) بكل ما يتضمنه ذلك من إنهاء للتاريخ والإنسان والهوية من جهة، ومن جهة أخرى كل من يقاوم ذلك ولا يوافق عليه ويرى أن الإنسان ليس مجرد مادة (وهذه هي الصلة الحقيقية بين الإسلام والكنفوشيوسية).
ولكن هنتنجتون موقن تماماً أن ذلك صراع مـؤقت، فثمة نقطة أسـاسـية واحـدة يتجه نحوها العالم فيتحقق فيها القانون الطبيعي (والعقل الكلي الغربي، الطبيعي/المادي الحديث)؛ نقطة انتصار الحضارة الغربية الحديثة الطبيعية/المادية العلمانية، وهي نقطة وصلت إليها بعض البلاد بالفعل.
ويقين هنتنجتون بشأن الحضارة الغربية باعتبارها حالة الطبيعة أمر يثير الخوف. فمن يقاوم حالة الطبيعة لابد من تقويمه بطبيعة الحال ووضعه على المسار الطبيعي، فهو المسار الوحيد والصحيح، الأمر الذي يتطلب طبعاً اتخاذ بعض الإجراءات الطبيعية غير السارة وطرح بعض الحلول الطبيعية الجذرية النهائية مثل إسقاط الحكومات القومية (التي تتمسك بأهداب خصوصية زائفة) ودك العواصم المقاومة (التي تدافع عن قيم لا جدوى لها مثل الكرامة والعزة الوطنية) واسـتباحة المدن والقرى العـاصية التي تقـاوم قانون الطبيعة والتطور الغربي!
2 ـ التاريخ لا هدف له ولا غاية: ما بعد الحداثة:
ما بعد الحداثة هي الرؤية الفلسفية التي أحرزت مؤخراً شيوعاً لا نظير له في العالم الغربي، وهي رؤية تنطلق من عدة أطروحات فلسفية متداخلة ومصطلحات صاخبة رنانة (تتغيَّر بمعدل مرة كل أسبوع تقريباً) كلها تؤكد غياب المرجعيات وتآكل الذات وفقدانها حدودها، وتآكل الموضوع وفقدانه حدوده، وهيمنة النسبية المعرفية الأخلاقية، ومن ثم استحالة الوصول إلى فكرة الكل، سواء كانت هي فكرة الإله أو الأخلاق المطلقة أو الطبيعة البشرية (أساس الأنطولوجيا الغربية) (تُعتبَر فلسفة ما بعد الحداثة قمة الثورة ضد الهيجلية، وهي تَبلور للاتجاه الفلسفي الغربي المعادي للفلسفة).
ولكن هذا يعني في واقع الأمر اختفاء العقل، أي الملكة التي يقوم الإنسان من خلالها بمراكمة المعنى والإنجازات، ويظهر ما سماه أحدهم «ذاكرة الكلمات المتقاطعة»، أي معلومات متناثرة لا يربطها رابط وينشأ الإحساس بأننا في الحاضر الأزلي، تَغيُّر مستمر بلا ماض ولا مستقبل، تجارب دائمة بلا عمق ولا معنى. ويتحول التاريخ إلى مجرد لحظات جامدة، وزمن مسطح لا عمق له، ملتف حول نفسه لا قسمات له ولا معنى.
ويتزامن الحاضر والماضي والمستقبل تتساوى تماماً مثل تَساوي الذات والموضوع والإنسان والأشياء، ولكنه تَزامُن دون استمرار، فثمة انقطاع كامل. ومن هنا، يتحدث أنصار ما بعد الحداثة عن إحلال القصص الصغيرة (أو الجزئية أو الذاتية) محل القصة الكبيرة (أو الشاملة أو الكلية)، أي أن الإنسان غير قادر على الوصول إلى رؤية تاريخية شاملة تضم البشر كافة ولكنه قادر على خوض تجارب جزئية يمكنه أن يقصها بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل، ولكنها لا ترقى البتة إلى مستوى تاريخ عام للبشر، فليست لها أية شرعية خارج نطاق تجربته.
وقد لا تطرح رؤية ما بعد الحداثة نماذج خطية تطورية أو حلولاً نهائية، وقد لا تبشر بالفردوس الأرضي أو باليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية، ولكنها هي الأخرى إعلان لنهاية التاريخ ونهاية الإنسان ككائن مركب اجتماعي قادر على الاختيار الأخلاقي الحر، ليحل محله إنسان ذو بُعد واحد يدور في إطار المرجعية الكامنة أو دون أية مرجعيات، فالإنسان يعيش منكفئاً إما على ذاته الطبيعية التي لا علاقة لها بما هو خارجها، فهي مرجعية نفسها، أو على كليات لاإنسانية مجردة لا علاقة لها بالإنسان كما نعرفه.
وهذا الإنسان لا ذاكرة له فهو يعيش في اللحظة دائماً، في قصته الصغرى. ولذا لخص أحدهم ما بعد الحداثة بأنها نسيان نشط للذاكرة التاريخية، وهي طريقة متضخمة متورمة للقول بنهاية التاريخ. ويمكننا القول بأنه إذا كان فوكوياما قد اكتشف نهاية التاريخ فإن ما بعد الحداثة تقوم بقتله.
ما علاقة نهاية التاريخ وصراع الحضارات وما بعد الحداثة بواقعنا وبالنظام العالمي الجديد؟
إن كل آليات الإغواء التي يستخدمها النظام العالمي الجديد تصب في هدف واحد أو حل نهائي واحد هو ضرورة ضرب الخصوصيات القومية والمرجعيات الأخلاقية حتى يفقد الجميع أية خصوصية وأية منظومة قيمية ليصبحوا آلة إنتاجية استهلاكية، لا تكف عن الإنتاج والاستهلاك دون أية تساؤلات، ومن هنا تظهر نهاية التاريخ كمفهوم أساسي، فالنظام العالمي الجديد لا يشير إلا للحظة الراهنة وحسب، ولا يتحدث إلا عن المستقبل، ولكنه لا يتحدث قط عن الماضي فهو نظام يدَّعي أنه هو نفسه لا ماضي له، وأن كل البشر لا ماضي لهم، وإن كان لهم ماض فهو ليس مهماً فكل شيء جديد طازج مثل صفحة لوك البيضاء (باللاتينية: تابيولا رازا tabula rasa).
داخل هذا الإطار، يصبح الإنسان إنساناً طبيعياً أحادي البُعْد لا عمق له ولا ذاكرة ولا قيم، يبدأ دائماً من نقطـة الصفر وينتهي فيها، يعيش في عالم بلا دنس ولا خطيئة ولا حياة، عالم مغسول في الرشد المادي والإجرائي، كل ما فيه يتحرك بشكل هندسي متناسق، معقم من التدافع والجدل.
ولنلاحظ أن ما تَساقَط هنا ليست خصوصية قومية بعينها وإنما مفهوم الخصوصية نفسه، وليس تاريخاً بعينه وإنما فكرة التاريخ نفسها، وليس هوية بعينها وإنما كل الهويات، وليس منظومة قيمية بعينها وإنما فكرة القيمة نفسها، وليس نوعاً بشرياً بعينه وإنما فكرة الإنسان المطلق نفسها، الإنسان ككيان مركب لا يمكن رده إلى ما هو أدنى منه. لقد اختفت المرجعية، أية مرجعية، وظهر عالم لا خصوصيات فيه ولا مركز له.
هذا العالم الذي لا مركز له، يسير فيه بشر لا مركز لهم ولا هدف، لا يمكنهم التواصل أو الانتماء لوطن أو أسرة، كل فرد جزيرة منعزلة أو قصة صغيرة، فيظهر إنسان استهلاكي أحادي البُعد يُحدِّد أهدافه كل يوم، ويُغيِّر قيمه بعد إشعار قصير يأتيه من الإعلانات والإعلام، إنسان عالم الاسـتهلاكية العالمية الذي ينتج بكفاءة ويسـتهلك بكفاءة ويُعظِّم لذته بكفاءة حسـب ما يأتيه من إشـارات وأنماط! هذا هو الحل النهائي في عصر التسوية الذي حل محل الحل النهائي لعصر التفاوت، فبدلاً من الإبادة من الخارج، يظهر التفكيك من الداخل.
إن ما بعـد الحداثة، فى واقع الأمر، هي الإطار المعرفي الكـامن وراء النظام العالمي الجديد، فهى رؤية تنكر المركز والمرجعية، وترفض أن تعطى التاريخ أي معنى أو أن تجعل للإنسان أىة قيمة أو مركزية أو إطلاق، وتُسقط كل الأيديولوجيات (عصر ما بعد الأيديولوجيات)، وتنكر التاريخ (عصر نهاية التاريخ)، وتنكر الإنسان (عصر ما بعد الإنسان). فالعالم حسب هذه الرؤية يفتقر إلى المركز، فكل الأمور مادية، وكل الأمور متساوية، وكل الأمور نسبية، فهو عالم في حالة سيولة كاملة (تماماً مثل التناص textuality حين يحيلك نص إلى نص قبله ونص بعده، فيختفي المعنى وتختفي الحدود والهوية والمسئولية).
وكما يقول فريدريك جيمسون، الناقد الأمريكي الماركسي، إن روح ما بعد الحداثة تعبِّر عن روح رأسمالية عصر الشركات متعددة القوميـات حـيث قام رأس المال (هـذا الشيء المجـرد المتحرك الذي لا يكترث بالحدود أو الزمان أو المكان) بإلغـاء كل الخصوصيات، كما ألغى الذات المتماسـكة التى يتحد فيها التاريخ والعمـق والذاتية، وحلت القـيمة التبادلية العامة محل القيمة الأصيلة للأشياء.
ونحن نقبل بتحليل جيمسون لفكر ما بعد الحداثة وإن كنا نستبدل بكلمة «رأسمالية» عبارة «علمانية شاملة». والحديث عن القيمة التبادلية العامة التي تُلغي الخصوصيات ليس، فى واقع الأمر، حديثاً عن رأس المال باعتباره شأناً اقتصادياً وإنما عن رأس المال باعتباره آلية ذات بُعد معرفي تؤدي إلى تفكيك وهدم كل ما هو فريد وخاص وعميق ومقدَّس ومحمل بالأسرار، ومن ثم فهي آلية معادية للإنسان لأنها معادية لكلٍّ من التاريخ والحضارة، إذ أن التاريخ والحضارة ـ كما أسلفنا ـ هما مصدر التفرد الإنساني.
ورأس المال هنا آلية دفع الإنسـان من عالم الحضارة والتاريخ المركب إلى عالم الطبيعة الأحادي البسـيط، هو آلية سـيادة القانون الطبيعى المادي الواحدي، فهو أهم آليات نزع القداسة عن الإنسان. ولكنه ليس الآلية الوحيـدة، إذ تُوجَد آليات أخرى أعتقد أن من أهمها (فى عصر ما بعد الحداثة) الإباحية وصناعة اللذة المتمثلـة فى هـوليود وأفلامها.
ويمكننا الآن أن نعود مرة أخرى إلى موضوع إلغاء التاريخ وإلغاء الإنسان: الموضوعين الأساسيين في كتابات فوكوياما وهنتنجتون وكُتَّاب ما بعد الحداثة. فمع وصول التاريخ إلى نهايته، ينتهي الصراع وتختفي كل المنحنيات وتنبسط كل النتوءات، ويظهر بشر ذوو بُعد واحد وتختفى الذاتية والعمق والحضارة والإنسان، عالم موت الإنسان بعد أن مات الإله.
وهكذا، ورغم اختلاف المنطلقات، تتفق النتائج. والنظام العالمي الجديد، بهذا المعنى، نظام معاد للإنسان ومعاد للتاريخ، وهو عداء نابع من العداء الذي يحس به ذوو الاتجاه الطبيعي/ المادي نحو كل الظواهر المركبة بكل ما تحوي من قداسة أو أسرار، وهو أيضاً نابع من رغبتهم العارمة في فرض الواحدية المادية وفي تسوية الإنسان بما حوله، حتى يذوب في الطبيعة/المادة ويختفي ككيان مركب مستقل.
ومحاولة التسوية هذه تفسر سبب اتصاف خطاب النظام العالمي الجديد بالاعتدال الشديد، بل نجده "ثورياً" أحياناً حين يرفض مركزية الغرب وينادي بالمساواة. ولكن المساواة في هذا السياق هي في واقع الأمر تسوية (وليست مساواة) ورفض لكل الخصوصيات والمركزيات والمطلقات، على أن يصبح الجميع (ومنهم الغرب) مادة استعمالية، ولذا يحلو لي أن أقارن النظام العالمي الجديد بالآلة الضخمة التي تدور بكفاءة فتفرم الجميع، ومنهم أصحابها، رغم أنهم يستفيدون منها ويوظفون العالم من خلالها لصالحهم (فهى تشبه فرانكنشتاين من بعض الوجوه).
وفي وسط هذه السيولة يظل الغرب صلباً، فهو المطلق العلماني الشامل الجديد، النموذج الذي يُحتذى، ولذا فرغم حالة العولمة السائلة الشاملة، يظل الغرب مركز العالم، الأمر الذي يعطيه حقوقاً مطلقة وقدراً من الصلابة.
كما أنه في حالة النسبية الشاملة السائلة ومع اختفاء الحقائق المطلقة فإن الغرب بأسلحته وأجهزته الإعلامية يصبح هو مركز العالم الذي لا مركز له، ولكنه مع هذا يظل مختبئاً وراء آليات الإغواء وخطاب السيولة والنسبية والتعددية.
وبهذا المعنى، يمكن القول بأن النظام العالمي الجديد هو إمبريالية عصر ما بعد الحداثة، إذ يجد الإنسان نفسه في عالم بلا تاريخ تتفكك فيه علاقة الدال بالمدلول وينزلق فيه الإنسان من الخصوصية الإنسانية والتاريخية إلى عالم الطبيعة/المادة تحيط به إمبريالية شرسة لا تُسمِّي نفسها «إمبريالية» وإنما «النظام العالمي الجديد».
الفردوس الأرضى:
حال الدنيا عند نهاية التاريخ، وهو الطوبيا (اليوتوبيا) عند علي عزت بيجوفيتش، وهي لحظة نماذجية وتعبير عن النزوع الجنيني (انظر: «نهاية التاريخ»).