الباب الثامن: تجديد اليهودية وعلمنتها
علمنــــــة اليهوديــــــة Secularization of Judaism
«علمنة اليهودية» مصطلح نستخدمه لنصف إعادة صياغة النسق الديني اليهودي من الداخل على يد بعض المفكرين اليهود العلمانيين وشبه العلمانيين، حتى تتكيف اليهودية تماماً مع العلمانية (بعقلانيتها أو لا عقلانيتها المادية)، وتصبح كل منطلقات اليهودية الدينية والفلسفية ذات طابع نسبي تاريخاني.
ولكي ندرس العلاقة بين العلمانية والصهيونية، لابد أن ندرس العلاقة بين الحلولية والعلمانية.والحلولية هي تداخل عناصر الثالوث الحلولي(الإله ـ الإنسان ـ الطبيعة)،إذ يحل الإله تدريجياً في الإنسان والطبيعة حتى يلتصق بهما ويتوحَّد معهما ولا يبقى منه سوى الاسم (مرحلة وحدة الوجود الروحية وشحوب الإله).ثم يسقط الاسم نفسه (مرحلة وحدة الوجود المادية والواحدية المادية الكونية وموت الإله).ومرحلة الواحدية الكونية هي المرحلة التي تختفي فيها تماماً المساحة بين الخالق والمخلوق وبين المطلق والنسبي وبين الإنساني والطبيعي وتَمَّحي كل الثنائيات والخصوصيات،وتصبح كل الأمور مقدَّسة متساوية ومن ثم نسبية،ويصبح كل شيء مرجعاً لذاته وتسقط المرجعية المتجاوزة.
وعلمنة العقيدة اليهودية هي عملية تحويرها (وإفسادها)، عن وعي أو عن غير وعي، على يد المفكرين الدينيين اليهود الذين أسقطوا كثيراً من المعتقدات الدينية اليهودية المحورية الأساسية التي تؤكد ثنائية الواقع ووجود المطلقات المتجاوزة لتحل محلها عقائد حلولية جديدة تنكر الثنائية والتجاوز وتؤكد الواحدية الكونية (الصلبة أو السائلة) بحيث لا تختلف اليهودية في بنيتها عن أية عقيدة علمانية. ولنا أن نلاحظ أن من المألوف أنْ يستخدم المفكرون الذين يقومون بعملية العلمنة المصطلحات والمفردات الدينية نفسها التي استخدمها المفكرون الدينيون التقليديون.
ويمكن القول بأن اليهودية، كنسق ديني، كانت مرشحة للعلمنة من الداخل لعدة أسباب من أهمها:
1 ـ طبيعة اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي يحوي داخله العديد من التناقضات.
2 ـ الطبقة الحلولية القوية داخل هذا التركيب، والتي كانت قد اكتسحت معظم يهود اليديشية في العالم.
3 ـ اضطلاع اليهود بدور الجماعة الوظيفية، وأعضاء هذه الجماعات عادةً من حملة الفكر العلماني.
4 ـ أزمة اليهودية الحاخامية ابتداءً من القرن التاسع عشـر وتَجمُّدها وتصلُّبها الأمر الذي جعلها غير قادرة على الاستجابة لتحديات الثورة العلمانية الشاملة.
وتاريخ الفكر الديني اليهودي منذ عصر النهضة في الغرب هو أيضاً تاريخ علمنة النسق الديني اليهودي. ويمكن العودة للباب المعنون «إشكالية علاقة اليهودية بالصهيونية» ولباب «إشكالية الحلولية اليهودية».
كما يمكن العودة للمداخل التالية:
1 ـ «إسبينوزا، باروخ»، وهو الفيلسوف الذي تتحول على يديه الحلولية الدينية إلى الطبيعية المادية دون إسقاط الديباجات الدينية (الإله هو الطبيعة).
2 ـ «اليهودية الإصلاحية»، وهي الفرقة التي قامت بإعادة صياغة اليهودية لتتفق مع روح العصر (باعتبار أن العصر الحديث موضع الحلول).
3 ـ «اليهودية المحافظة»، وهي الفرقة الدينية التي ترى أن اليهودية تعبير عن روح الشعب اليهودي وعن تاريخه.
وستتناول بقية مداخل هذا القسم بعض المفكرين الدينيين اليهود الذين ساهموا في عملية العلمنة. وكلهم فلاسفة يؤكدون العلاقة الحوارية (الحلولية/ العضوية) بين الشعب اليهودي والخالق، أي حلول الإله في الشعب والأرض. وفي آخر هذا القسم سنتناول اليهودية الليبرالية واليهودية التجديدية باعتبارهما حركتين تدَّعيان أنهما «دينيتان» ولكنهما في واقع الأمر علمانيتان بشكل واضح. فالديباجة الدينية شاحبة، وفكرة الإله تتأرجح بين مرحلة شحوب الإله وموته الكلي بل اخـتفاء ظـلاله البـاقية في مرحـلة ما بعد الحداثة).
فكلاهـما مرجعيته النهـائية هــي الدنيا أو الـتاريخ أو الطبيعة، ولذا فهما يحاولان تكييف العقيدة لتتفق مع الدنيا (والدنيا في حالة اليهودية التجديدية هي الولايات المتحدة)، ولذا فهي تقوم بإعادة صياغة اليهودية لتتفق مع عقيدة التقدم، ومع وضع يهود أمريكا باعتبارهم جزءاً عضوياً من المجتمع الأمريكي.
وقد أدَّى تصاعُد معدلات علمنة النسق الديني من الداخل إلى أن الجو أصبح مهيأً تماماً لاستيلاء العقيدة الصهيونية على العقيدة اليهودية الى أن حلت محلها من خلال عملية الصهينة من الداخل، حتى أصبحت الصهيونية مرادفة لليهودية وظهرت أشكال من اليهودية مثل «اليهودية العلمانية» و«اليهودية الإثنية» و«اليهودية الإلحادية» و«لاهوت موت الإله» (انظر المداخل الخاصة بكل موضوع)، وما شابه ذلك من عقائد علمانية تماماً تستخدم مفردات واصطلاحات وديباجات دينية.
ليــو بايــك (1873-1956) Leo Baeck
مؤرخ وحاخام ليبرالي ألماني الأصل. درس في ألمانيا، ونُصِّب حاخاماً هناك، وعمل حاخاماً في برلين منذ عام 1912. واشتغل بالتدريس في المدارس الدينية، كما عمل حاخاماً في الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى. وانتُخب رئيساً للهيئة التي تمثل كل يهود ألمانيا مع وصول النازي إلى الحكم. ورفض أن يغادر ألمانيا، فأُودع أحد معسكرات الاعتقال.
يرى بايك في كتابه جوهر اليهودية (1905) أن اليهودية أسمى تعبير عن الأخلاق، فهي ديانة من النمط الكلاسيكي تتَّسم بالواقعية والتفاؤل الخلقي والالتزام العميق بحرية الإنسان، ولذا فهو يرى أنها ديانة العقل الكلاسيكية، وذلك على خلاف المسيحية، فهي ديانة العواطف الرومانتيكية التي تحوي داخلها ميلاً (بدءاً ببولس) نحو تأكيد عنصر الرحمة الإلهية، والاتحاد الصوفي بالإله، وكذلك تأكيد أهمية الإيمان على حساب الأفعال، الأمر الذي أدَّى إلى عدم الاكتراث للكفاح ضد الشر (أي أنه يصنف المسيحية باعتبارها عقيدة صوفية تدور في إطار حلولي). ويذهب بايك، أيضاً إلى أن اليهودية ديانة عالمية وشاملة في محتواها ودروسها الأخلاقية. ولم يقرن بايك اليهودية بالعنصر الأخلاقي وحسب، وإنما ذهب إلى أن الواجب اللامتناهي لتحقيق الخير ينبع من السر الذي هو الإله.
والإنسان، بإدراكه السر الإلهي، يدرك أنه خُلق لهدف وغرض ولم يُوجَد صدفة، وكل هذا يدل على أن بايك يحاول أن يفسر اليهودية بأنها ديانة توحيدية تعادي الحلولية. ولكنه، مع هذا، يضيف أن اليهودية رغم عالميتها ديانة خاصة ومرتبطة بأمة بعينها في تعبيرها التاريخي عن نفسها، أي أنه تَراجَع عن العالمية الأخلاقية وسـقط في الخصوصيـة العرْقـية أو العنصرية. ويظهر التراجع عن التوحيد في تصوُّر بايك في واقع أن إدراك الإنسان للوصية الإلهية يؤدي به إلى إدراك أن الإله يُتوقَّع منه أن يقوم هو نفسه بالخلق، أي أن يصبح المخلوق خالقاً. كما أنه، مع إدراك الوصية الإلهية، يدرك أنه يُتوقَّع منه أن يقوم هو نفسه بالخلق.
وفي آخر كتبـه هـذا الشـعب إسـرائيل: معني الوجود اليهودي، ينتقل من تعريف جوهر اليهودية إلى محاولة تحديد المعنى الداخلي للدين اليهودي، فيجد أنها عملية بعث مستمرة تقوم يسرائيل خلالها بإعادة صياغة وتطبيق أوامر الإله على حاضر دائم التغير.
ويظهر في كتابات بايك الكثير من الموضوعات الحلولية الصهيونية مثل: رسالة يسرائيل الخاصة، ومركزية يسرائيل في عملية البعث التاريخي. ومع هذا، فإن من غير المعروف عنه أنه اتخذ موقفاً صهيونياً صريحاً، بل له مواقف تناقض العقيدة الصهيونية صراحةً. والبُعْد اليهودي في فكر بايك واضح تماماً، فهو مفكر ديني كان يعمل حاخاماً. ومع هذا، فثمة تَشابُه عميق بين فكره والفكر الألماني الرومانسي الذي يشكل الأرضية التي نبت فيها والإطار الذي يتحرك داخله.
مــارتن بوبــر (1878-1965) Martin Buber
مفكر ألماني يهودي حلولي، متطرف في حلوليته وجودي النزعة، كان لا يؤمن باليهودية الحاخامية أو بضرورة تطبيق الشريعة، ولم يقرأ التلمود على الإطلاق. ومع هذا، فإنه يُعَدُّ من أهم المفكرين الدينيين اليهود في القرن العشرين. وهو من دعاة التصوف اليهودي. ويُعتبر بوبر أحد كبار مفسري العهد القديم، وأحد أهم مفكري الصهيونية ذات الديباجات الثقافية.
وُلد في فيينا، وأمضى صباه في جاليشيا عند جده حيث اتصل بالحركة الحسيدية التي لعبت دوراً حاسماً في تطوره الديني (الصوفي) والفلسفي والسياسي. وانتقل إلى فيينا عام 1896 لمتابعة دراسته في جامعتها، وتزوج بولا ونكلر (وهي فتاة ألمانية غير يهودية من ميونيخ). انضم بوبر إلى جماعة قديما الصهيونية في فيينا، ثم انضم إلى المنظمة الصهيونية عند تأسيسها عام 1898 وعمل رئيساً لتحرير جريدة دي فيلت الناطقة بلسان الحركة الصهوينة. وبعد فترة قصيرة من التعـاون مع هرتزل، اختلف الاثنان بسـبب اختلاف منطلقـاتهما الفلسفية.
واشترك في تأسيس ما يُسمَّى «العصبة الديموقراطية» مع وايزمان الذي عارض هرتزل خلال المؤتمر الصهيوني الخامس (1901). ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، أسس بوبر اللجنة القومية اليهودية التي تعاونت مع قوات الاحتلال الألمانية في بولندا، وقامت بالدعاية بين يهود اليديشية لضمهم للجانب الألماني ولتجنيدهم لحسابه.
وفي عام 1916، أسس مجلة اليهودي التي كانت تُعَدُّ من أهم المجلات الفكرية اليهودية، والتي شرح بوبر على صفحاتها فلسفة الحوار الحلولية الوجودية وموقفه الصهيوني. وقد اشترك بوبر مع الفيلسوف اليهودي فرانز روزنزفايج في ترجمة التوراة إلى الألمانية في العشرينيات (ولكنه لم يَفرُغ منها إلا عام 1964) وهي ترجمة ذات طابع وجودي. وقد نشر خلال هذه الفترة بضعة كتب عن الحسيدية.
شغل بوبر منصب أستاذ فلسفة الدين اليهودي والأخلاق في جامعة فرانكفورت في الفترة 24 ـ 1933، وأسس معهد الدراسات اليهودية فيها. وقد صَدَر له عام 1923 أهم كتبه أنا وأنت الذي يحوي جوهر فلسفته الحوارية. وفي عام 1933، استولى النازيون على الحكم وصاغوا مفهوم الشعب العضوي (فولك)، ذلك المفهوم الذي يشكل حجر الزاوية في الفكر النازي والصهيوني، وهو ما كان يعني تأسيس نظام تعليمي لليهود مستقل عن النظام التعليمي الألماني. وقد عُيِّن بوبر مديراً للمكتب المركزي لتعليم الكبار.
أما هجرته إلى فلسطين، فقد كانت عام 1938 حيث جرت محاولة لتعيينه أستاذاً للدراسات الدينية. ولكن المؤسسة الأرثوذكسية عارضت ذلك بشدة لأن بوبر، حسب تعريفها، لا يؤمن باليهودية، ومن ثم تم تعيينه أستاذاً للدراسات الاجتماعية في الجامعة حيث شغل المنصب حتى عام 1951. صدر أول كتب بوبر بالعبرية، وهو العقيدة النبوية، عام 1942، وقد طرح بوبر في هذا الكتاب أن وجود الإرادة الإلهية حقيقي تماماً مثل وجود يسرائيل، وهو ما يعني المساواة بين الخالق (الإله) والمخلوق (الشعب).
كما صدر له كتاب موسى عام 1941. أما عام 1949، فقد شهد نشر كتابه طرق اليوتوبيا، وهو كتاب عن تطوُّر الاشتراكية الطوباوية. وتبع ذلك نشر كتابيه نوعان من الإيمان (1951)، و خوف الإله (1953)، ويقارن الكتاب الأول بين الإيمان اليهودي والإيمان المسيحي. أما الثاني، وهو آخر أعمال بوبر المهمة، فيذهب فيه إلى أن الإله لم يمت أو أنه احتجب وحسب!
أسَّس بوبر كلية لتعليم الكبار لإعداد المعلمين من بين المهاجرين، وهي جزء من محاولة المُستوطَن الصهيوني دمج المهاجرين الجدد، وخصوصاً من البلاد الإسلامية، في نسيج المستوطن الصهيوني. وكان بوبر أول رئيس لأكاديمية العلوم الطبيعية والإنسانية في إسرائيل.
وقد أسس بوبر مع يهودا ماجنيس جماعة إيحود التي كانت تطالب بإقامة دولة صهيونية مزدوجة القومية. لكنه تعرَّض لانتقاد شديد في بعض الأوساط اليهودية لقبوله تسلم جائزة جوته من مدينة هامبورج ولاستئناف علاقته بالحياة الفكرية والثقافية الألمانية (مع العلم أن هذا الموقف لا يتناقض البتة مع منطلقاته الفكرية). وقد منحه مجلس ناشري الكتب في ألمانيا جائزة السلام عام 1953 واستقبله رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية باعتباره واحداً من مفكري ألمانيا وفلاسفتها العائدين إلى وطنهم!
ومصادر الفكر الديني والفلسفي السياسي عند بوبر ألمانية (مسيحية علمانية). فقد تأثر بالمتصوفين المسيحيين الألمان مايستر إيكهارت وجيكوب بيمه Jacob Boehme، كما تأثر برؤية وحدة الوجود التي طرحاها وبإيمانهما الكامل بأن الإنسان يمكنه أن يعود إلى التوازن من خلال الحدس والاستماع لصوت التجربة الداخلية والتوحد بالخالق.
وقد تأثر كذلك بالفكر الرومانسي الألماني، وخصوصاً فكر فخته الذي أكد الحدس على حساب التأمل وميَّز بين الجماعة المترابطة بشكل عضوي (جماينشافت) والجماعة المترابطة بشكل آلي (جيسيلشافت)، وأعلى من أهمية الشعب العضوي (فولك). ويُعَدُّ نيتشه من أهم المفكرين الألمان الذين أثروا في بوبر، شأنه في هذا شأن معظم المفكرين اليهود والصهاينة في ذلك الوقت، فتعلَّم من نيتشه فكرة الإرادة المستقلة عن أي حدود وظروف، والإيمان بأهمية الفعل الغريزي المباشر مقابل التأمل والتدبير، والالتزام بالمتعيِّن والمحسوس على حساب المجرد، وتأكيد الحياة والغريزة في مواجهة القيم التقليدية والمثاليات المجردة التي تخنق الحياة والغريزة.
وقد عمَّق جوستاف لانداور (1869 ـ 1919) تأثير فخته وفكرة الشعب العضوي والجماعة العضوية وربطهما بالفكر الاشتراكي أو الجماعية بل بالاتجاهات الصوفية الحلولية، وبهذا يكون لانداور قد ربط بين كل المكونات في النسق الفكري عند بوبر. وإلى جانب المصادر الألمانية، تأثَّر بوبر، شأنه شأن كثير من المفكرين الغربيين الوجوديين، بدوستويفسكي، وخصوصاً في إحساسه بغربة الإنسان في عالم خال من المعنى. كما تأثَّر بكيركجارد، الأب الروحي للوجودية الحديثة، الذي أكد أن العلاقة الحقة بين الإله والإنسان لابد أن تكون مباشرة ودون وسطاء، وطالب الإنسان بأن يصبح شخصاً واحداً كلياً فريداً.
ويُلاحَظ أن المصادر الفكرية (الدينية والفلسفية) عند بوبر معظمها غير يهودية. لقد ظل بوبر، طيلة حياته، يجد الدراسات التلمودية جافة وعقيمة. وقد اكتشف الحسيدية باعتبارها تجربة صوفية وتعبيراً عن الصوت الداخلي من خلال مصادره الألمانية المسيحية الصوفية. وفكر بوبر الديني والسياسي فكر حلولي متطرف تتلاقى فيه وحدة الوجود الروحية بوحدة الوجود المادية، فيصبح الإله والإنسان والطبيعة كلاًّ عضوياً واحداً.
وتتجلى هذه الرؤية الحلولية في فلسفة الحوار التي تشكل أساس الفكرة الدينية في فكرة الشعب العضوي (فولك) التي تشمل أساس فكره السياسي والاجتماعي، ففكره السياسي هو نفسه فكره الديني، وفكره الديني هو نفسه فكره السياسي، وهذا أمر متوقع داخل منظومة فكرية لا تفرق بين الإله والإنسان، أو بين الإنسان والطبيعة، أو بين هذا العالم والعالم الآخر، أو بين التاريخ والوحي، أو بين القومية والدين.
تَصدُر فلسفة الأنا والأنت الحوارية عن رؤية حلولية تتساوى فيها كل العناصر الإنسانية ثم الإلهية، فالإله هنا ليس له وجود حقيقي مستقل متجاوز للطبيعة والتاريخ وإنما هو قوة كامنة في الأشياء ودافعة لها (ومن هنا أهمية الحوار الشفوي، وتفضيله على النص المكتوب. فالحوار الشفوي، مثل الشريعة الشفوية في اليهودية، تفتح المجال على مصراعيه لعمليات التأويل الباطنية حيث يفرض المُفسِّر المعنى الذي يروق له.
أما النص المكتوب فهو لا يعطي كلمة وحسب وإنما يعطي سياقاً وكلاًّ دلالياً يحدد المعنى). والإنسـان بدوره شـريك للإله في عملية خلاص الكون. وحسب هذه الفلسفة، تأخذ العلاقة السوية بين الإنسان وأخيه الإنسان شكل حوار، وهو حوار حقيقي إن كانت أطراف الحوار متساوية بحيث يجد كل طرف نفسه في الآخر، وهذا الحوار حوار حقيقي إن كان بين الأنا والأنت أو بين ذاتين لهما أهمية واحدة.
ولكن الحوار يصبح زائفاً حينما يصبح أحد طرفيه أقوى من الآخر، فيحوِّل محاوره إلى موضوع أو أداة أو مجرد شيء يستخدمه ويستغله ويحوسله لينفذ به أغراضه، وفي هذه الحالة يتحول الحوار إلى علاقة بين الأنا والأنت والهو (أو بين الذات والموضوع)، وهي علاقة قد تثمر معرفة علمية موضوعية قد تكون مفيدة في حد ذاتها ولكنها ليست كافية ولا تغنينا بأية حال عن علاقة أنا/أنت الأساسية (ومع هذا يرى بوبر أن ثمة صلة جدلية بين العلاقتين أنا/أنت وأنا/هو).
وتتَّسم علاقتنا بالإله بالحلولية الحوارية نفسها، فالإله هو ما يسميه بوبر «الأنت الأزلي»، وهو كيان لا يمكننا أن نصل إليه من خلال التأمل الميتافيزيقي المجرد (أنا/هو)، وإنما من خلال علاقة حية تشبه علاقة أنا/أنت، ولذا فيجب أن أتحاور مع الإله بكل كياني ويجب أن أصغي إلى الإله، وأن أعرف ماذا يريد مني. وحيث إن كل حوار لابد أن يؤدي إلى فعل، فالإله سيكشف لي أمره في لحظة الفعل، وسيكشفه لي أنا وحدي. و«الأنت الأزلي» لا يوجد خارج الإنسان وإنما يوجد في كل «أنت إنساني»، وهو مصدر تَعيُّنه. ولذا يكون لزاماً على الإنسان أن يدخل في حوار دائم مع الإله ليحتفظ بتَعيُّنه وهويته المتميزة عن طريق ما يوحى إليه به. والوحي عند بوبر ليس شيئاً حدث في الزمان الغابر والماضي السـحيق، وإنما هـو شـيء متكرر يحـدث دائمـاً و« الآن » و« هنا ». فيحل الإله في التاريخ حلولاً دائماً، وتصبح الأحداث التاريخية النسبية أحداثاً مقدَّسة.
يستخدم بوبر في هذا الجزء من فلسفته خطاباً حلولياً عاماً ينطبق على الوضع الإنساني بأسره. ولكنه، حين يتجه إلى الموضوع اليهودي، يُضيِّق نطاق الحلولية تماماً. فبرغم المساواة الحلولية المبدئية التي انطلق منها، فإن القداسة لا تعبِّر عن نفسها في جميع الأحوال بدرجة واحدة. ولذا، فقد يتم الحوار بين الإله والفرد في حالة البشر العاديين، أما في حالة الشعب اليهودي فإن الحوار يتم بين الشعب ككل والإله من الجهة الأخرى. كما أن الحوار الخاص الدائر بين إسرائيل والإله يأخذ شكل العهد، فالإله (الأنت الأزلي) يطلب من الأمة اليهودية (الأنا الأزلي) أن تصبح أمة مقدَّسة؛ مملكة من الكهنة الإله هو ملكها الوحيد. والمجتمع الديني اليهودي، حسب تصوُّر بوبر، لا يمكنه العيش بدون قومية، ولكن القومية اليهودية ليست قومية عادية (على عكس القوميات الأخرى)، ولذا فإنها لا تستطيع العيش بدون دين، فالدين والقومية في حالة اليهود متزاوجان ملتحمان (كما هو الحال دائماً في المنظومة الحلولية).
وإذا كان هناك (بالنسبة للأغيار) فارق بين التاريخ النسبي والوحي المطلق (بمعنى أن القداسة الإلهية تظل بمعزل عن تاريخ الأغيار)، فإن الوضع مختلف تماماً في حالة التاريخ اليهودي إذ يحل الإله فيه، ومن ثم يصبح التداخل بين المطلق والنسبي والمقدَّس والمدنَّس والأزلي والزمني كاملاً. ومن خلال هذه الصيغة تمت صهينة الدين اليهودي وعلمنته، كما تمت صهينة وضع الجماعات اليهودية ليصبح بذلك شكلاً من أشكال التعبير عن القومية العضوية، أي أن الدين يصبح فولكلور الشعب العضوي (فولك)، ويصبح اليهود لا مجرد أعضاء أقليات ينتمون إلى الأوطان التي يوجدون فيها وإنما يصبحون شعباً عضوياً مقدَّساً منفصلاً. وهنا يجب أن نتذكر أن بوبر كان يؤيد رأي فخته في أن التجربة القومية في العصر الحديث تنجز ما كانت تنجزه التجربة الدينية في الماضي، فهـي تجعل العنـصر الإلهي يسري في الحياة اليومية.
وعند هذه النقطة التي يتحول فيها الدين إلى فلكلور، والجماعات اليهودية إلى شعب مقدَّس، يمكننا أن نتناول الفكر السياسي القومي عند بوبر ورؤيته الصهيونية. ويُلاحَظ أن المراجع الصهيونية الغربية عموماً تحرص على إخفاء هذا الجانب من منظومته المعرفية لأسباب مفهومة، وإن أشارت لها فهي تعرض لها من خلال ديباجات صوفية لا تكشف عن التضمينات الوثنية والنازية والعنصرية الكامنة في فكره. وقد لاحظنا أن القداسة تحل في الشعب وتاريخه. ولكن، كما هو الحال مع المنظومات الحلولية، لابد أن تشمل القداسة الأرض أيضاً (أو الطبيعة) حتى يتحقق الثالوث ويحل الإله أو القداسة في الشعب اليهودي وفي أرضه اليهودية المقدَّسة بحيث يرتبط الإله بالشعب بالأرض ارتباطاً حلولياً عضوياً.
ولكن فكرة الإله تَضمُر وتتراجع بحيث يتحول الإله إلى الرابطة العضوية المقدَّسة بين الشعب (الدم) والأرض (التربة). عند هذه النقطة نكون قد وصلنا في واقع الأمر إلى وحدة الوجود المادية وعالم الحلولية بدون إله؛ عالم النازية ومعسكرات الإبادة والدولة الحديثة التي تدَّعي المطلقية لنفسها فتضم الأراضي وتقضي على الملايين. إن مفهوم بوبر لوضع اليهود واليهودية لا ينبع من أي فكر ديني وإنما من مفهوم الشعب العضوي (الوثني).
وقد بيَّن بوبر في محاضراته عن اليهودية التي ألقاها في الفترة 1909 ـ 1918، والتي تركت أعمق الأثر في الشباب اليهودي في وسط أوربا، أن ثمة عنصرين ماديين هما أهم مكونات القومية اليهودية، أولهما الدم (أي العرْق والخصائص البيولوجية المتوارثة) الذي صنفه باعتباره أعمق مسـتويات الوجـود الإنسـاني، وثانيـهما البـنية أو الطبيــعة أو التــربة، وهـو أهــم عنـصر في تشـكيل الـذات القـومية، وهمـا معـاً يشكلان الوعي القومي اليهودي (ومن ثم الحس الديني) أو الإحسـاس الغـريزي المبـاشر لدى اليهود، والذي يتجاوز العناصر الاجتماعية والسياسية كافة، والذي لا علاقة له بأي إله متجاوز.
ويجب أن نتذكر أن هذا الخطاب العرْقي النيتشوي كان الخطاب السائد في أوربا قبل الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً في ألمانيا التي نشأ فيها بوبر وتَشَّرب ثقافتها، فهو ابن عصره وبلده. وقد كانت الدراسات الألمانية التي تَصدُر عن مفهوم الشعب العضوي تؤكد عدم تَجذُّر اليهود في وطن قومي، وأنهم بدو رُحَّل في صحراء جرداء، ومن ثم فهم شعب مجدب على عكس الألمان المتجذرين في أرضهم ومن ثم يتمتعون بالصحة النفسية والجسمانية وتعبِّر شخصياتهم المبدعة عن الغابات الألمانية المورقة الخضراء التي يلفها الغموض.
لم يرفض بوبر هذه المفاهيم الوثنية الحلولية الحيوية أو العضوية بل دافع عن الشعب العضوي اليهودي انطلاقاً منها. ولذا، فإنه يؤكد أن اليهود لم يكونوا دائماً بدواً رحلاً لا أرض لهم بل كانوا في المراحل الأولى من تاريخهم شعباً زراعياً ملتصقين بالطبيعة ومرتبطين بأرضهم لا يختلفون عن الشعب العضوي الألماني، ولذا فإن بوسعهم أن يصبحوا مرة أخرى في خصوبة وإبداع الشعب الألماني. ويعترف بوبر بأن التماسك الداخلي للروح اليهودية (أي الغريزة الطبيعية) قد ضعف بسبب البعد عن الأرض، وهم يعيشون تحت سماء ليست سماءهم وعلى أرض ليست أرضهم.
بل إن بوبر يجعل مسألة الارتباط بالتربة النموذج التفسيري الأكبر في نسقه الفكري وفي قراءته لتاريخ اليهودية. وعلى هذا، فإن اليهود بسبب بعدهم عن أرضهم أجدبوا دينياً، وبدلاً من الوحدة الصوفية العضوية (أي الحلولية)، وبدلاً من التجذر في الأرض، ضربوا بجذورهم في الشريعة والشعائر والعقائد، ومن ثم تجمدت عقيدتهم الدينية أي أن البُعد عن الأرض (لا الشريعة) هو السبب في أزمة اليهودي، والتمسك بالشريعة هو تعبير عن هذه الأزمة.
ولكن، رغم هذا، ظلت شخصية اليهود كما هي شخصية شرقية آسيوية برانية تفضل الفعل والحركة على التوجه إلى داخل الذات والتأمل والانشغال بالإدراك. بل إن النزعة المشيحانية إن هي إلا تعبير عن هذه العبقرية الآسيوية وعن النزوع نحو الحركة. وشغف اليهود بالموسيقى إن هو إلا تعبير عن الخصائص البيولوجية نفسها، فالعنصر الأساسي في الموسيقى هو الزمن، والزمن يفترض الحركة (على عكس المكان الذي يفترض الثبات وعدم التحول).
ولنُلاحظ أن بوبر حوَّل اليهودية من نسق عقيدي ومجموعة من القيم إلى مجموعة من الخصائص البيولوجية، فاليهود لا يؤمنون بعقيدة وإنما هم جماعة يرتبطون برباط الدم. والواقع أن هذا التعريف لا يختلف من قريب أو بعيد عن التعريفات العرْقية المعادية لليهود والتي تفترض ثبات شخصيتهم رغم تَغيُّر الزمان والمكان (كما أنه لا يختلف في بعض جوانبه عن تعريف الشريعة لليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية). وسنلاحظ كذلك أن فكر بوبر إن هو إلا تطبيق لفكره الغربي العرْقي على يهود اليديشية. فالشرق إن هو إلا شرق أوربا (وآسيا هي بولندا)، ومن المعروف أن التعبير الفني الأساسي عند يهود اليديشية كان الغناء والرقص.
ماذا سيفعل هذا الشعب الآسيوي في أوربا؟ عند هذه النقطة نجد أن ملامح الحل الصهيوني النازي العضوي الحلولي قد اكتملت، إذ يكتشف بوبر أن ثمة علاقة وثيقة بين الشعبين العضويين الألماني واليهودي. فالألمان هم الشعب العضوي الذي سيقود العالم ويسد الفجوة بين الشرق والغرب لأنه أقرب الشعوب الغربية إلى الشرق (ولا يبيِّن بوبر قط الأسباب التي قادته إلى استخلاص هذه النتيجة). إن الألمان عندهم مهارات الغرب ولكنهم لم ينسوا قط حكمة الشرق.
كما أن الألمان أكثر الشعوب تأثيراً في اليهود (وبوبر نفسه شاهد على ذلك، كما أن اللغة اليديشية لغة معظم يهود العالم آنذاك شاهد قوي آخر). بل يذهب بوبر إلى أن الألمان أكثر الشعوب تأثراً باليهودية من خلال العهد القديم (الذي ترجمه لوثر ترجمة ممتازة وحوَّله إلى أهم عمل كلاسيكي في اللغة الألمانية) ومن خلال مجموعة من العبقريات اليهودية مثل إسبينوزا ولاسال وماركس.
وبعد تأكيد هذه العلاقة بين الألمان اليهود، يتحول بوبر نحو اليهود ليكتشف الحسيدية باعتبارها أهم تجسيد للشخصية اليهودية الآسيوية أو الجماعة العضوية المترابطة (جماينشافت) التي تنظم حياتها ووجودها حول أسطورة مقدَّسة لا يشاركها فيها أحد. ومن ثم، فإن الحسيدية، حسب تصوُّر بوبر، استمرار لتقاليد الثورة في اليهودية: تقاليد الأسينيين والأنبياء التي ترفض الالتزام بالقانون والشريعة وتُعلي من شأن الفعل المباشر والغريزي.
والحسيدية حركة متصوفة لا تبتعد عن الدنيا، وإنما تقترب منها، ولذا فهي تصوُّف يترجم نفسه إلى فعل، أي أنها ترجمة لتلاقي وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية. وقد تَغنَّى بوبر بالقائد المحرر والقائد الفنان الذي سيعلم الفولك، ووجد ضالته في التساديك الحسيدي فهو قيادة كاريزمية يدين له أتباعه بالولاء بدون نقاش، تماماً مثلما كان النازيون يدينون للفوهرر، قيادتهم الكاريزمية (ولنُلاحظ أن الأنا والأنت التي كانت تستند إلى علاقة حب، أصبحت هنا تستند إلى علاقة القوة؛ العلاقة الوحيدة الممكنة في المنظومة النيتشوية).
عند هذه الصورة يمكن القول بأن ملامح المجتمع الصهيوني قد اكتملت: جماعة عضوية تجسد القداسة تعيش بطريقة جماعية، ولكن جماعيتها لا تنبع من الفكر الاشتراكي السياسي وإنما من التماسك العضوي الحلولي. ويذهب بوبر إلى ضرورة عودة اليهود إلى صهيون ليؤسسوا مجتمعاً مثالياً مقدَّساً تتداخل فيه القومية والدين، والدين والقومية، والأزلية والزمن، والزمن والأزلية. وتمازُج الديني والقومي والمطلق والنسبي هو أساس نقده لكل من هرتزل والحسيدية، فهرتزل كان ينوي تأسيس مجتمع صهيوني سياسي لحل المسألة اليهودية في وجهيها السياسي والاقتصادي دون أن يتوجه إلى العناصر الأزلية في القومية اليهودية.
أما الحسيدية، فرغم رؤيتها الحلولية التي تؤكد قداسـة اليهود إلا أن العنصر القـومي لم يكن واضحاً في الفـكر الحسيدي، بل كانت علاقة الحسيديين بفلسطين علاقة عارضة، ولم تعبِّر عن نفسها في شكل رغبة في التحرر القومي، كما لم تترجم نفسها إلى تَطلُّع إلى أن يقرر الشعب اليهودي إرادته ومصيره في أرضه داخل جماعة مقدَّسة وقومية. وقد كان الحسيديون من دعاة (الروحية)، وكان هرتزل من دعاة (المادية)، على حين أن الوحدة المثلى من منظور إسبينوزا هي وحدة وجود واحدة (روحية مادية) تتجسد في المجتمع الصهيوني العضوي.
ويرى بوبر أن هذا المجتمع لو تحقق، فسيصبح اليهود مرة أخرى أمة مقدَّسة تلعب دوراً أساسياً في الحضارة العالمية بسبب تاريخهم الفريد وشخصيتهم الفذة، إذ سيلتحم الوحي المقدَّس بالتاريخ مرة أخرى. والواقع أن أمة الكهنة والقديسين (العضوية الحلولية) التي تعمل على هدي الرؤى المشيحانية تزداد أهمية في القرن العشرين لأن الحضارة اليهودية حضارة غربية/شرقية. ولهذا، فبإمكانها أن تكون بمنزلة الجسر بين الحضارات والشعوب كافة. وفي كل هذا، يعود بوبر للرؤية اليهودية الحلولية القديمـة الخاصة بمركزية اليهـود في العالم والتاريخ (وهي مركزية عرْقيـة أضفتـها الشـعوب والديانات القديمة كافة على نفسها).
ودعنا نُلاحظ هنا أن فكرة الشعب العضوي فكرة حوارية في جوهرها، إذ أن الأنا اليهودي يتجاوز الأنت الإلهي، أو يمتزجان معاً. وبدلاً من أن يطيع الإنسان الإله ويمتثل لإرادته، يمتزج الإنسان بالإله بحيث يُطوِّع أحدهما الآخر وتصبح أفعال الشعب اليهودي تعبيراً عن وحي دائم، ويصبح صوت الشعب الصوت الداخلي الذي هو صوت الإله.
لكن هذه الحوارية الدائرية العضوية الحلولية هي في جوهرها منطق استبعادي، فهي تعطي حقوقاً مطلقة لمن يوجد داخل دائرة القداسـة وتهـدر حقـوق من يقع خارجها. وهي تستبعد، على سبيل المثال، الجماعات اليهودية خارج فلسطين حيث وصفهم بوبر، على طريقة بنسكر والنازيين، بأنهم مجموعة من الأشباح المشئومة الذين لا وطن لهم، ولذا فلا مكان لهم داخل المجتمع العضوي الجـديد (وهذا يعني أنهم، باعتبارهم أشباحاً، محكوم عليهم بالموت، الأمر الذي تكفلت به النازية فيما بعد). أما المجموعة الثانية التي تستبعدها القومية العضوية فهي العرب.
وهنا نجد أن الموقف متناقض أكثر من كونه مركباً. وعلى سبيل المثال، فإن بوبر يرى، كما أسلفنا، أن التجربة الدينية الحقة تأخذ شكل حوار بين طرفين متعادلين، وهو تَعادُل ممكن بسبب حلول الخالق في المخلوق، واختلاط الوحي بالتاريخ، وهو ما يعني خَلْع القداسة على أفعال اليهود التاريخية، وخصوصاً أن تجربتهم الدينية جماعية (بينما نجد أن المسئولية الأخلاقية هي، في نهاية الأمر، مسئولية فردية).
وإذا أضفنا إلى هذا تلك الأفكار النيتشوية الخاصة بإعلاء الإرادة، والرابطة المطلقة بين الدم اليهودي والتربة الفلسطينية، فإن مصير العرب قد أصبح واضحاً وهو الطرد أو الإبادة. وهذا هو منطق الرؤية الحلولية. ولكن ثمة تياراً آخر في فلسفة بوبر، هو ما يمكن تسميته بالتيار الأخلاقي، لا ينبع من المنظومة الفكرية نفسها وإنما يضاف إليها بشكل آلي براني. ويحاول بوبر أن يربط عضوياً بين هذا التيار الأخلاقي ومنظومته الفكرية فينتقد المحاولات الصهيونية الرامية إلى تحويل اليهود إلى أمة مثل الأمم كافة تهدف إلى البقاء وحسب وتتسم بالأنانية والاعتداد الأجوف بالذات، مقابل ما يسميه «الإنسانية العبرية»: وهي التمسك بالقيم الأخلاقية اليهودية والإيمان بوحدة واحدة تفصل الصواب عن الخطأ والحقيقة عن الكذب فصلاً حاسماً، أي بضرورة الحكم على الحياة والسلوك السياسي من منظور أخلاقي.
والواقع أن هذين التيارين المتناقضين (اللذين يسودان أيضاً في كتابات آحاد هعام) هما سر تَخبُّط بوبر في موقفه من العرب، فهو يكتب إلى غاندي مدافعاً عن الاستيلاء الصهيوني على الأرض الفلسطينية مستخدماً أسلوبه الحلولي الصوفي، إذ يبيِّن لغاندي أن حق العرب في الأرض ليس مطلقاً، فالأرض هي للإله يعيرها للفاتح الذي أقام عليها، ولكن الإله بانتظار ما سيفعل بها، فإن لم يفلحها هذا الفاتح فإن هذا ولا شك سيفتح المجال أمام المستوطنين الصهاينة في القرن العشرين. ولكل هذا نادى بوبر بالدولة اليهودية. ولكنه بعد عام 1948، بعد طَرْد العرب وتشريدهم، صرح بأنه لا يوجد أي شيء مشترك بينه وبين هؤلاء اليهود الذين يدافعون عما سماه «القومية اليهودية الأنانية»، كما لم يتوقف عن الدفاع عن حقوق العرب والمطالبة بإنشاء دولة مزدوجة القومية تسمح للعرب والإسرائيليين بتحقيق ذاتيهما القوميتين.
ولعل التناقض العميق في موقف بوبر يتضح بكل جلاء في أنه كان يدافع طول حياته عن حقوق العرب ويعيش في الوقت نفسه في بيت عربي جميل في القدس رفض أن يعيده لأصحابه. ولم تترك أفكار بوبر تأثيراً عميقاً في يهود شرق أوربا، كما لم تساهم في تحديد السياسات الصهيونية في الخارج أو في فلسطين قبل أو بعد إعلان الدولة. وقد تركت كتاباته أثراً عميقاً في اللاهوت المسيحي البروتستانتي.
يتبع إن شاء الله...