رقصـــات الجماعــــات اليهوديــــة
Dances of the Jewish Communities
يُعتبَر الرقص واحداً من أقدم الفنون على الإطلاق. عرفته جميع الأقوام والشعوب على مر العصور كجزء من طقوسها الدينية أو احتفالاتها الاجتماعية. ويوضح لنا كلٌّ من العهد القديم والتلمود ارتباط كثير من الرقصات باحتفالات وطقوس العبرانيين في التاريخ القديم، وهي رقصات لم تختلف كثيراً في شكلها أو حركاتها أو أسلوب أدائها عن الرقصات السائدة بين الشعوب المحيطة بهم في تلك العصور. وبالنسبة إلى الجماعات اليهودية، فإننا نجد أن هناك أهمية خاصة للرقص في حياتها سواء من الناحية الدينية أو من الناحية الاجتماعية، كما نجد أن أشكال الرقصات التي انتشرت بينهم وأسلوب أدائها تختلف من جماعة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر وأنها اعتمدت بالدرجة الأولى على تقاليد المجتمعات التي عاش أعضاء الجماعات اليهودية بينها وعلى التراث الفني الثقافي لهذه المجتمعات.
وعرف اليهود القدامى الرقص كجزء من طقوسهم وشعائرهم الدينية وللاحتفال بالمناسبات العديدة، مثل الانتصارات العسكرية والزواج ومواسم الحصاد. ويضم العهد القديم أحد عشر جذراً من جذور الأفعال التي تُستخدَم لوصف الرقصات والحركات الخاصة بها وأسلوب أدائها مثل الوثب والركض والدوران وغيرها. وقد استُخدمت الأفعال المأخوذة من هذه الجذور في وصف المواكب والرقصات التي كانت تتم أمام تابوت العهد. كما كانت هناك رقصات تتم في شكل حلقات، ويُرجَّح أنها كانت خاصة بالنساء. وكما أن كلمة «الرقص» كانت تحمل عند الآشوريين معنى الابتهاج، كذلك ارتبطت كلمة «حاج» العبرية التي تعني أيضاً «الابتهاج أو الاحتفال» بثلاثة أعياد يشكل الرقص فيها جزءاً أساسياً من مراسم الاحتفال، وهي: عيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد الحصاد.
والرقص، مثل الغناء، كان يُستخدَم لتمجيد الرب أو الإله، فكان داود يدعو شعبه لتمجيد الرب « بالدفوف والرقص ». كما أن كثيراً من أنبياء جماعة يسرائيل كانوا يقومون بالدعوة إلى الإله وهم يضربون الدفوف ويرقصون رقصات تتميَّز بالحركات الدائرية التي تزداد سرعة واندفاعاً إلى أن يصل الراقصون إلى حالة من النشوة والابتهاج الغامر. وكان الأنبياء يعتقدون أن هذا الرقص يعمل على إنعاش الروح الربانية التي تتحدث نيابةً عنهم، وهم في هذا يشبهون الدراويش.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت هناك الرقصات الخاصة بالانتصارات العسكرية التي كانت تقوم بأدائها النساء على أنغام الدفوف والآلات الموسيقية. ومثل سائر الشعوب البدائية، كانت تُقام رقصات احتفالاً بمواسم الحصاد، فكانت تُقام في عيد المظال مواكب يومية حول المذبح (داخل المعبد) بعد تقديم القرابين، وفي ثاني أيام العيد كانت تُقام رقصة بالمشاعل يصاحبها مواكب من النساء يحملن أغصان النخيل والصفصاف. كما كانت جميع حقول الكروم تضم أماكن للرقص مخصصة للنساء فقط، ويبدو أن كثيراً من هذه الرقصات كانت من أصل كنعاني (ومن احتفالات بالإله بعل).
ولابد أن العبرانيين قد تأثروا بالمحيط الحضاري البابلي والآشوري حينما دخلوا في نطاق هذه الحضارة، كما تأثروا بالمحيط الفارسي من بعد ذلك (ولكننا لا نملك الدليل التاريخي على ذلك). أما في العصر الهيليني، فنحن نعرف أنه رغم معارضة الحاخامات للرقص، فإن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية داخل وخارج فلسطين كانوا يتبنون كثيراً من رقصات اليونانيين والرومانيين ذات الطابع الوثني، والتي كان يقوم بأدائها رجال ونساء دُربوا خصيصاً لهذا الغرض، وهذا يدل على تجذُّر العادات الهيلينية بين يهود حوض البحر الأبيض المتوسط في تلك الفترة. وقد ظهرت بين أعضاء الجماعات اليهودية رقصة ذات طابع وثني واضح كانت تُؤدَّى أمام كبار الشخصيات (ولعلها كانت تشمل حركات تعبِّر عن السجود وتدل على انعدام الذات أمام الشخصية المتألهة).
وتشير المشناه إلى وجود مراسم واحتفالات خاصة بانتقاء العرائس كانت تتم في أيام الخامس عشر من آب، وفي يوم الغفران عندما تخرج الفتيات للرقص في حقول الكروم. أما بالنسبة لاحتفالات الزفاف نفسها، فإن العهد القديم يضم إشارة واحدة فقط لإحدى الرقصات المصاحبة لهذه الاحتفالات، ويُعتَقد أن هذه الرقصة كانت تقوم بها العروس وهي تحمل في يدها سيفاً (رمزاً لرفضها أي رجل سوى عريسها الذي اختارته). أما التلمود، فيضم وصفاً أكثر تفصيلاً لمراسم ومواكب الزواج.
وكان الرقص على شرف العروس يُعَدُّ عملاً من أعمال التقوى الدينية يتنافس عليه الحاخامات، كما كان يتم أحياناً إحضار الراقصين المحترفين للمشاركة في احتفلات الزواج، فكانوا يقدمون رقصات تجمع بين حركات الأيدي والأرجل والوسط. واندثرت أغلب هذه الرقصات واختفت تماماً مع انتهاء الوجود العبراني في فلسطين كتجمُّع بشري ديني حضاري، لكن بعض هذه الرقصات بقيت لتؤدَّى بشكل شديد الاختصار داخل المعابد أو البيوت اليهودية. واتخذت الجماعات اليهودية التي استقرت ونشأت في مختلف أنحاء العالم أشكالاً جديدة من فنون الرقص نبعت من التراث الثقافي والفني السائد في التشكيلات الحضارية التي انتموا إليها والتي تشكلت تقاليدهم الحضارية في إطارها.
وقبل أن نستمر في العرض التاريخي، يمكننا أن ننظر إلى الرقص من منظور التحريم. لقد كانت العقيدة اليهودية تمنع الرقص المُختلَط بين الرجال والنساء، ووضع الحاخامات خلال العصور الوسطى في أوربا قواعد صارمة بالنسبة للرقص المُختلَط بحيث أصبح يُسمَح به فقط بين الرجل وزوجته وبين الأخ وأخته وبين الأب وابنته، وأدَّى ذلك إلى تصميم رقصات مُعقَّدة يتم فيها الاختلاط بين الجنسين ولكن مع مراعاة القاعدة التي وضعها الحاخامات. وفي أحيان أخرى، كان يتم تجاهُل هذه القواعد كليةً. ومع تصاعُد معدلات العلمنة داخل المجتمعات الغربية، ومن ثم بين أعضاء الجماعات اليهودية، بدأ التراخي في تطبيق التحريمات الدينية يتزايد بما في ذلك التحريمات المتصلة بالرقص المُختلَط. وحاول الحاخامات الحد من ذلك بفرض الغرامات على المخالفين ولكن دون جدوى، خصوصاً أن الرقص المُختلَط بدأ يكتسب قبولاً وشعبية كبيرة بين الجماهير اليهودية، وذلك (دون شك) تحت تأثير البيئة المحيطة بهم.
وفي العصور الوسطى اكتسب الرقص في أوربا شعبية بين أعضاء الجماعات اليهودية كنشاط اجتماعي وترفيهي شأنها في هذا شأن أعضاء مجتمع الأغلبية. وأُقيمت في كثير من الجيتوات اليهودية في فرنسا وألمانيا وبولندا دور للمناسبات تُقام فيها الحفلات الراقصة والغنائية في أيام الأعياد وأيام السبت وللاحتفال بالزواج. ويبدو أن هذه الدور أقيمت أساساً للاحتفال بالزواج وتحوَّلت تدريجياً إلى أماكن للترفيه. وكانت الرقصات التي اشتُهرت في هذه الدور رقصات شبيهة أو مماثلة للرقصات المنتشرة بين الشعوب الأوربية آنذاك. وإن كان يُرجَّح أن أصولها ترجع إلى رقصات الشعوب الأوربية المحيطة. وقد كان لكل دار من هذه الدور قائد للرقص يتميَّز بتفوُّقه في الرقص والغناء والقدرة على الارتجال، وكان يقوم بإدارة الرقصات كما كان معنياً بإدخال التنويعات الجديدة عليها. أما الجماعات اليهودية في إسبانيا والعالم العربي الإسلامي فلم تنشأ بينهم مثل هذه الدور. وعلى عكس يهود أوربا الذين عاشوا في الجيتوات الضيقة، كانت بيوت يهود الشرق من السعة بحيث تسمح بإقامة جميع الاحتفالات بداخلها.
وتنوعت واختلفت أشكال وأنواع الرقصات التي تقام احتفالاً بالأعياد الدينية والمناسبات الاجتماعية من جماعة إلى أخرى. فقد ارتبط بعيد النصيب نوع من الرقصات انتشرت بين كثير من الجماعات اليهودية وإن تنوعت تفاصيلها ومظاهرها من جماعة إلى أخرى، وهي رقصة تتضمن حرق تمثال يرمز إلى هامان والقفز فوق النار والغناء. وهذه الأنواع من الرقصات تعود جذورها إلى الطقوس السائدة بين الشعوب البدائية التي كانت ترمز إلى حرق الشيطان في النار. ويشير التلمود إلى أن هذا التقليد كان سائداً بين يهود بابل، كما يبدو أن هذه الرقصات كانت موجودة بين يهود مدينة بيزنطة وكذلك بين يهود إيطاليا خلال القرنين الثاني عشر والرابع عشر، وكذلك بين يهود بولندا خلال القرن الثامن عشر حيث كان عيد النصيب شبيهاً بالكرنفال. ويُقال إن هذا التقليد كان موجوداً أيضاً بين الجماعات اليهودية في القوقاز والجزيرة العربية وشرق الهند.
وكانت هناك رقصات عديدة مخصصة للاحتفال بالزواج، ففي العصور الوسطى في أوربا ظهرت رقصات كانت أقرب إلى الطقوس السرية أو الصوفية، وفي أحيان كثيرة كان الموت يُتَخذ موضوعاً لها، وفي بعض الأحيان يسقط أحد الحاضرين في حفل الزواج على الأرض كأنه ميت ويرقص من حوله الرجال والنساء وهم يغنون، ثم يقوم الرجل (من مماته) وينضم إلى الآخرين في رقصة مرح وابتهاج. وهي رقصة ترمز إلى البعث. وانتشرت مثل هذه الرقصات والأغاني بين شعوب أوربا في تلك الآونة، ومن أهمها أغنية الأطفال « رينج أروند روزيز Ring around rosies» أي «فلتلتفوا» والتي تنتهي بغناء جماعي للأطفال حيث يقولون بالإنجليزية: « آشز آشز، وي أول فول داون ashes, ashes, we all fall down » وتعني « رماد في رماد، كلنا سنَسقُط ». وهناك رقصة أخرى تُسمَّى «رقصة الموت» ظهرت في أعقاب اجتياح الأوبئة لأوربا والتي هلك فيها الملايين حيث كان يتم زواج الأيتام الفقراء في حفل يُقام في المقابر بحضور أعضاء الجماعة اليهودية.
ومن الرقصات التي ارتبطت بشكل خاص بحفلات الزواج، رقصات الوصايا (متزفاه)، وهي رقصة جماعية يقوم فيها الرجال بالرقص مع العريس والنساء مع العروس، وذلك احتراماً للقواعد الدينية الخاصة بعدم اختلاط الجنسين في الرقص. ولكن، مع تآكل احترام هذه القيود، أصبح الرجال يرقصون مع العروس ولكن مع تغطية أيديهم بشيء رمزاً للانفصال. ومع أوائل القرن التاسع عشر، أصبح التقليد المتبع هو أن يرقص الرجال مع العروس ويفصلهما منديل تمسك العروس بأحد أطرافه والرجل بطرفه الآخر. وفي بعض الأحيان، كان يُدعَى إلى حفلات الزواج المتسولون من اليهود، وكان يُسمَح لهم بالرقص مع العروس وكذلك أداء بعض الرقصات الخاصة بهم التي عُرفَت باسم «رقصة المتسولين». أما في الأفراح الحسيدية، فكان أحد التقاليد المتبعة هو الرقص بملابس الفلاحين أو بارتداء جلد الحيوان أو زي جنود القوزاق. كما كانت الفتيات يرقصن حول العروس، والفتيان يرقصون حول العريس.
أما بالنسبة للجماعات اليهودية في العالم العربي والإسلامي، فإننا نجد أنهم كانوا يحيون حفلات الزفاف بإحضار راقصات ومغنيات محترفات (عوالم) يرقصن على أنغام الطبول. وفي اليمن، كانت النساء من الضيوف يقمن بالرقص بالمزهرة أو الصحن الذي يحوي صبغة الحنة التي سيتم صبغ أيدي العروس بها. وفي مصر، كان سلوك المدعوين يتنوع بتنوُّع الخطاب الحضاري السائد. فحتى نهاية القرن التاسع عشر، قبل أن يتم تغريب أعضاء الجماعات اليهودية، كانت السيدات يقمن بالرقص مع العروس رقصات شرقية، كما كانت العروس ترقص معهن. ومع تزايُد معدلات التغريب والعلمنة، بدأت أفراح أعضاء الجماعات اليهودية تصبح غربية تماماً، فيختلط الجنسان ويرقصان التانجو أو غيرها من الرقصات الغربية الذائعة.
وهناك رقصات خاصة أيضاً بيوم السبت. وقد اعتاد الحسيديون الرقـص، مـع انتهاء نهار السـبت، حول مائدة الحاخام. وفي شرق أوربا، اعتاد الشباب اليهودي في المجر ومورافيا ورومانيا على الرقص في أيام السبت خارج المعبد على مرأى من النساء. وكانت رقصاتهم من الرقصات المنتشرة في المجتمع المحيط، مثل رقصة الحوراhora ذات الأصل الروماني (والتي أصبحت فيما بعد الرقصة الشعبية الأولى في إسرائيل)، وكان الحاخامات ينظرون باستياء لمثل هذه الرقصات. أما بين يهود اليمن فإن الراقصين كانوا يقومون بالرقص في يوم السبت على أطراف أصابعهم مع هز الكاحل ومفصل الركبة إلى أن يصل الراقص إلى حالة من النشوة والانجذاب الديني.
كما كانت تُقام رقصات احتفالاً بعملية الختان، وخصوصاً بين الجماعات اليهودية في العالم العربي والإسلامي. وأحياناً، كانت هذه الرقصات تهدف إلى إبعاد الأرواح الشريرة عن الأم والطفل، ففي صفد كانت الراقصات يرقصن مساء كل يوم عقب الولادة وحتى يوم الختان. وفي المغرب، كانت النساء يرقصن بالسيوف، وكان الرقص يجري (أحياناً) حول فراش الأم طوال الأسبوع الذي يسبق عملية الختان. أما في إيران، فكان الأب يقوم بإحضار راقصات محترفات لإحياء الليلة التي تسبق عملية الختان. وفي المغرب العربي، كان يتم إحضار صينية إلياهو التي تُستخدَم في عملية الختان في موكب من الشموع يتخلله الغناء والرقص. وفي سوريا ولبنان، يقوم سبعة من الضيوف بالرقص بالصينية كلٌّ في دوره. وفي عدن، كان الضيوف يقومون بالرقص مع كرسي إلياهو كأنهم يرقصون مع النبي إلياهو نفسه. وفي جميع الحالات، سيُلاحَظ أن الرقصات وطريقة أدائها ينبع من التقاليد الثقافية للمجتمع الذي يعيش أعضاء الجماعة اليهودية في كنفه.
وهناك رقصات تذكارية تُقام إحياءً لذكرى أحد الأنبياء أو الحاخامات، فقد جرت العادة على إحياء ذكرى وفاة الحاخام سيمون بن يوحان الذي يُعتبر أبا القبَّالاه، وإليه ينسب كتابة الزوهار، حيث يجتمع الحجاج عند مقبرته في صفد للرقص والغناء. أما الحاخام الحسيدي نحمان البرتسلافي، فأمر أتباعه بإحياء ذكراه عند وفاته عن طريق دراسة المشناه والرقص عند مقبرته. وقام أتباعه لأجيال متعاقبة بتلبية رغبته وإقامة احتفال راقـص إحيـاءً لذكراه في مـقابر أومـان في أوكرانيا.
أما يهود جبال كروستاف في شمال العراق، فيُقال إنهم يحتفلون بعيد الأسابيع بإحياء ذكرى النبي ناحوم والاجتماع عند مقبرته والطواف حول ضريحه والغناء، في حين تقوم النساء بالرقص. وفي ثاني أيام العيد، يصعد الرجال إلى قمة أحد التلال القريبة لقراءة التوراة ثم ينزلون التل في موكب شبيه بالمواكب العسكرية حاملين السلاح ويقومون بتمثيل المعركة الكبرى التي ستؤذن بقدوم الماشيَّح، أما النساء فيستقبلن الرجال بالرقص والغناء على نغمات الدفوف. وقبل الانتقال إلى الرقص بين أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث، قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن الحركات الحلولية المشيحانية ساعدت على انتشار الرقص بينهم. وساهمت في هذا الاتجاه حركة شبتاي تسفي بشكل خاص، ثم الحركة الفرانكية، إذ أن النزعة الترخيصية شجعت على إسقاط الحدود، بما في ذلك الحدود الخاصة بالرقص. بل إن الشعائر السرية ذات الطبيعة الجنسية لهذه الجماعات كانت تتضمن دائماً الرقص المحموم.
واكتسب الرقص، مع ظهور الحركة الحسيدية في القرن الثامن عشر، أهمية كبيرة بالنسبة إلى الجماعات اليهودية في شرق أوربا، وأصبح يشكل جزءاً من حياتهم اليومية. فقد اعتبر بعل شيم طوف، مؤسس الحسيدية، الرقص شكلاً من أشكال الصلاة والعبادة أمام الرب وأداة للوصول إلى حالة من النشوة الدينية والالتصاق بالرب والتوحد به (ديفيقوت). وهذا يتفق تماماً مع النزوع الحلولي نحو التجسد (مقابل النزوع التوحيدي نحو التبليغ) الذي يتضح أيضاً في مفاهيم مثل الخلاص بالجسد (عفودا بجاشيموت). وبالتالي، أصبح الرقص الحسيدي نوعاً من الطقس الديني يصل من خلاله الراقص إلى حالة من النشوة والابتهاج الديني. والرقص الحسيدي كان يتم في شكل دائري، أو في حلقات، رمزاً للفلسفة الحسيدية الحلولية القائلة بأن « الكل متساو والكل عبارة عن حلقات في سلسة، والدائرة ليس لها جهة أمامية أو خلفية وليس لها بداية أو نهاية » (والنسق الحلولي العضوي في رأينا يأخذ دائماً شكل دائرة مغلقة).
والرقص الحسيدي يبدأ بطيئاً ثم يزداد إيقاعه تدريجياً إلى أن يصل إلى حالة النشوة وتصاحبه حركة التمايل وحركات الأيدي والأرجل والقفز في الهواء والتصفيق. وقد عَلَّم الحاخام نحمان البرتسلافي أتباعه أن الرقص مع الصلاة من الفروض المقدَّسة وأن كل جزء من الجسد له إيقاعه الخاص، وقام بتأليف صلاة خاصة يقوم بتلاوتها قبل الرقص مباشرةً كما دعا مع غيره من الحاخامات الحسيديين إلى ضرورة الرقص في جميع المناسبات والأعياد، حتى تلك التي تتَّسم بالوقار إحياءً لذكرى حزينة، مثل: التاسع من آب ورأس السنة ويوم الغفران، وكذلك في احتفال بهجة التوراة (سمحات توراه). فإلى جانب المواكب المعتادة لهذا الاحتفال كان الحاخام الحسيدي يقوم بالرقص في نشوة روحية مع التوراة مرتدياً شال الصلاة (طاليت) ومحاطاً بدائرة من الحسيديين الذين يقومون بالغناء والتصفيق. وثمة نظريات مختلفة تحاول الوصول إلى أصول رقصات الحسيديين، فتذهب بعضها إلى أن أصل هذه الرقصات يعود إلى الرقصات الكنعانية البعلية التي تعلَّمها العبرانيون القدامى بعد تسلُّلهم في كنعان (وفي رأينا أن هذا الرأي بعيد عن الصواب، وينبع من رؤية اليهود ككيان حضاري مستقل له أصوله الحضارية المستقلة). وهناك رأي يذهب إلى أن الرقصات الحسيدية تعود إلى أصل تركي، ومن ثم فهي تشبه رقصات الدراويش العثمانيين (في قونيه) حيث يدورون حول أنفسهم. ويشير أصحاب هذا الرأي إلى أن الحسيدية انتشرت في مقاطعات كانت تحت السيطرة العثمانية أو قريبة من الأثر العثماني، وأن الحركة الحسيدية تأثرت بالحركة الفرانكية التي تأثر صاحبها بالثقافة العثمانية، وأن الحسيديين ككل متأثرون بتراث المارانو السفاردي الذي كان قد دخله عنصر عثماني. كما أن أطروحة كوستلر الخاصة بأصول يهود بولندا الخزرية (التركية) يدعمها هذا الرأي. ولكن ثمة رأياً ثالثاً يرى أن رقصات الحسيديين تأثرت برقصات جماعات المنشقين المسيحيين الأرثوذكس (مثل الدوخوبور والسكوبتسي والخليستي) الذين تركوا أثراً عميقاً في فكر الحسيديين.
ومما سبق، نرى أن فنون الرقص تنوعت وتعدَّدت من جماعة يهودية إلى أخرى ومن عصر إلى آخر وارتبطت في المقام الأول بالتشكيل الحضاري الذي انتمت إليه كل جماعة على حدة. ومن ثم، فإن من الصعب الحديث عن «الرقص اليهودي» باعتباره فناً له سماته وشكله وحركاته وأسـلوب أدائه الخـاص. والواقـع أن رقصات الجماعات اليهودية، سواء بين الإشكناز أو السفارد أو الشرقيين، تجد جذورها إما في المجتمعات الأوربية (سواء في شرق أو وسط أو جنوب أوربا) أو في المجتمعات العربية والشرق أوسطية. وخير دليل على ذلك هو تعدُّد وتنوُّع الرقصات التي جاء بها المستوطنون اليهود إلى إسرائيل وهي الدولة الصهيونية التي تدَّعي «وحدة الشعب والتراث والثقافة اليهودية »، فكانت هناك الرقصات البولندية والروسية والرومانية والرقصات العربية اليمنية. بل إن الرقصة الشعبية الأولى في إسرائيل، وهي الحورا، ما هي إلا رقصة رومانية الأصل. وليس هذا فحسب بل إن إسرائيل اتجهت، في محاولة لخلق « رقص شعبي إسرائيلي » للأخذ من تراث الرقص العربي الفلسطيني، خصوصاً رقصة الدبكة الشهيرة. ومعنى ذلك أن عملية السلب لم تقتصر على الأرض بل امتدت أيضاً إلى تراث أصحاب الأرض وفنونهم ورقصاتهم.
وشهدت العصور الوسطى، وعصر النهضة في أوربا، ظهور العديد من الراقصين ومعلمي الرقص اليهود المحترفين، وكان أغلبهم من اليهود الإيطاليين أو من يهود المارانو. واكتسب الرقص في تلك الفترة أهمية كبيرة بالنسبة إلى طبقة الأمراء والنبلاء الأوربيين وأصبح يُشكّل جزءاً مهماً من تقاليدهم الاجتماعية وظهرت العديد من الرقصات الخاصة ببلاط الأرستقراطية التي أصبحت تتميَّز عن الرقصات الشائعة بين عامة الشعب. وساعد على هذا التطور ظهور معلمي الرقص، خصوصاً في إيطاليا. ويبدو أن اليهود لعبوا دوراً ريادياً في هذا المجال (ربما نتيجة ميراثهم كجماعات وظيفية) فيعود أول ذكر لمعلم رقص إلى الحاخام هاسن بن سالومو Hacen ben Salomo الذي قام عام 1313 بتعليم المسيحيين رقصة كورالية تؤدَّى أمام المذبح في الكنيسة. ويبدو أن كثيراً من اليهود اشـتغلوا بهذه المهنة في إيطاليا خلال القرن الخامس عشر، الأمر الذي يدل على الأهمية التي أعطاها اليهود للرقص آنذاك أن مدرس العبري الذي كان يعلِّم أبناء الأسر اليهــودية في إيطــاليا العهـد القديم والتلمود كان يعلمهم الموسيــقى والرقص أيضــاً. ومن أشهــر معلمي الرقص في ذلك العصر على الإطلاق، اليهودي جوليلمو إبريو الذي كتب عام 1463 واحداً من أهم الكتب المخصصة لأصول وقواعد الرقص والذي ظل لفترة طويلة دليلاً مهماً للأرستقراطية الأوربية في هذا الشأن. وفي القرن السادس عشر، اكتسب اليهودي جاكينيو مارسانو شهرة واسعة كمعلم رقص في روما. وفي عام 1775،منـح البــابا حق تدريس الرقص والغناء لاثنين من يهود أنكونا،كما وُجد كثير من مدرسي الرقص اليهود في إنجلترا وفرنسا.
كما انتـشر في ألمانيا، خلال القرنين السـادس عشر والسابع عشر، المغنون والمهرجون المتجولون من اليهود الذين كانوا يُقدِّمون الرقصات والتمثيليات الإيمائية والحركات البهلوانية في الأفراح وفي غيرها من المناسـبات،وكانــوا يشتـهرون برقصتي المشاعل والسيوف. ولم يختلف الوضع كثيراً في الشرق، فكان سلاطين آل عثمان يستخدمون الموسيقيين والراقصين اليهود في بلاطهم لإحياء احتفالاتهم. ويُلاحَظ ظهور كثير من الراقصات من أصل يهودي في العالم العربي (حتى منتصف القرن العشرين) لأداء ما يُسمَّى «الرقص الشرقي».
أما في العصر الحديث، ومع تزايُد اندماج أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات المحيطة بهم وانخراطهم في حياتها الثقافية والفنية، فقد ظهر بينهم مصممو الرقصات والمرموقون من الراقصين والراقصات. ففي القرن التاسـع عـشر، قام آرثر ميشـيل سـان ليون (1815 ـ 1870)، وهو راقص ومصمِّم رقصات فرنسي، بتصميم باليه كوبيليا الشهير بالإضافة إلى العديد من الباليهات الرومانسية الأخرى والتي عُرضت في مختلف دول أوربا. كما وضع كتاب ستينو كوريوجرافي أي ( التدوين المختزل للرقص ) عام 1852، وهي طريقة سريعة لكتابة وتسجيل الرقص، وتُعدُّ من أوائل النظم التي وُضعت في هذا المجال. ويُعَدُّ سان ليون من أهم أساتذة الباليه ومصممي الرقصات في عصره، وقد اعتنق الكاثوليكية عندما تزوج من إحدى راقصات الباليه.
أما في القرن العشرين، وعندما زاد الاهتمام في الغرب بفن الباليه، فقد ظهر كثير من راقصي وراقصات الباليه بين أعضاء الجماعات اليهودية الذين حققوا شهرة واسعة بل وساهموا في نشر هذا الفن في إنجلترا والولايات المتحدة. فقدَّمت فرقة الباليه الروسي دياجليف عدداً من الراقصات والراقصين اليهود اللامعين أمثال إيدا روبنشتاين وإليشيا ماركوفا، وكذلك ماري رامبيرت التي أسَّست فيما بعد أول فرقة للرقص الكلاسيكي في إنجلترا وتُعتبَر بالتالي من مؤسسي الباليه الإنجليزي الحديث. كما أن مصمِّم هذه الفرقة التي قدَّمت عروضها بنجاح كبير في أوربا بين عامي 1909و1929 هو ليون باسكت اليهودي الأصل. وبعد قيام الدولة السوفيتية، أُتيحت فرصة أكبر لأعضاء الجماعة اليهودية للعمل في المجال الفني وظهر عدد من الراقصات والراقصين البارزين مثل مايا بليستسكايا التي أصبحت الباليرينا الأولى في فرقة باليه البولشوي واختيرت فنانة الشعب للاتحاد السوفيتي، وهي من أعظم راقصات هذا الجيل.
أما في الولايات المتحدة، فلم يتميَّز أعضاء الجماعات اليهودية بالإبداع في مجال الرقص، ولكن كانت لهم إسهامات مهمة كراقصين أو مصممي رقصات أو مؤسسي فرق باليه. بل كان لهم دور ريادي في نشر هذا الفن في الولايات المتحدة، فقد أسس ليفكون كيرستاين فرقة مدرسة الباليه الأمريكية (1934) وفرقة مدينة نيويورك، ويُعتبَر ذلك بداية ميلاد الباليه الأمريكي. كما قام معلمو الرقص الأمريكيون اليهود بتدريب كثير من راقصي الفرق الجديدة للباليه الكلاسيكي والتي تكونت في الثلاثينيات والأربعينيات. ومن مصممي الرقص المتميِّزين جيروم روبينز الذي اكتسب شهرة عالمية من خلال تصميمه رقصات «قصة الحي الغربي». ومن بين الراقصات المتميِّزات ميلسيا هايدن ونورا كاي. وقد قامت هذه الأخيرة بتصميم رقصات باليه «الديبوك» المأخوذة عن مسرحية الكاتب اليديشي آن سكي. ومما يُذكَر أن كثيراً من اليهود وغير اليهود وضعوا باليهات من الرقص الحديث تتناول مواضيع أو قضايا تخص الجماعات اليهودية أو تستمد بعض رقصاتها من الرقصات الحسيدية مثل باليه «القرية التي عرفته» التي وضعته صوني مازلو، ويتناول حياة اليهود في روسيا القيصرية، وباليه «ذكريات» لهيلين تاميريس والذي يتناول حياة أسرة يهودية، وباليه «أحلام» الذي صممته آنا سوكولون وفيه إدانة لألمانيا النازية.
كما صممت مارثا جراهام، وهي مصممة رقص غير يهودية وصاحبة واحدة من أهم فرق الرقص في الولايات المتحدة، عملين يتناولان مواضيع يهودية هما: «بعل شيـم» و«نيجون» وذلك عام 1928. ولكن تناول مواضيع يهودية لا يعطي هذه الأعمال صفة اليهودية، فالشكل الفني لهذه الرقصات وأسلوب أدائها وحركاتها تنتمي كلها إلى مدرســة الفن الحـديث، وهي مدرسة تميل أكثر ناحية التعبير واستعمال الحركات الطبيعيــة وتعتبر جزءاً من تراث فن الرقص في الغرب. وقد ظهرت في بداية القرن الحالي في العالم العربي راقصات من أعضاء الجماعات اليهودية يقمن بما يُسمَّى «الرقص الشرقي»، ولا يزال يُوجَد عدد كبير منهن في الولايات المتحدة. وتُوجَد مدرسة لتعليم الرقص الشرقي في إسرائيل.
جوليــلـمو إبريـــو (النصف الثاني من القرن الخامس عشر)
Guglielmo Ebreo
أستاذ رقص إيطالي من القرن الخامس عشر، وربما يكون قد وُلد في إسبانيا قبل عام 1440، لكنه على أية حال ارتبط بمدينة بيسارو الإيطالية. ويشكِّك بعض الباحثين في أصله اليهودي، ولكن الإشارة إليه بلقب «إبريو» أو «العبري» تؤكد هذا الأصل بشكل شبه قاطع. تتلمذ على يد دومينيشينو دا بياسترا مؤسِّس إحدى مدارس الرقص الجديدة في إيطاليا. وكان الرقص يُعتبَر فناً رفيعاً للغاية في عصر النهضة، كما كان جزءاً مهماً من الحياة الاجتماعية للنبلاء والأرستقراطية الأوربية، والدليل على هذا ذلك الكمّ الكبير من الأبحاث والدراسات التي صدرت خلال هذه الفترة حول فن الرقص. وقد كتب جوليلمو بحثاً عن فن الرقص في عصر النهضة شرح فيه أهم قواعده الأساسية إلى جانب شرح مفصَّل لكثير من رقصات عصر النهضة الإيطالية.
وقام بتدريس الرقص في قصور الأمراء والنبلاء الإيطاليين، كما قام بالإشراف على كثير من الاحتفالات الراقصة في المدن الإيطالية المختلفة، وأشرف عام 1475 على تنظيم الاحتفالات الضخمة بمناسبة زواج أحد نبـلاء بيسـارو وقام أيضاً بتصميم رقصات خاصة لهذه المناسبة. وصمم جوليلمو كثيراً من الرقصات وأعمال الباليه التي كانت تُعَدُّ متطورة للغاية بالنسبة إلى عصره. ويبدو أن جوليلمو اعتنق المسيحية فيما بعد واتخذ اسم جيوفاني أمبروجيو. ولكنه، سواء اعتنق المسيحية أم لا، فقد ظل في وظيفته كأستاذ رقص لا يعبِّر عن أية هوية يهودية بقدر ما يعبِّر عن انتمائه إلى جماعة وظيفية يضطلع أعضاؤها بوظائف هامشية أو متميِّزة أو رائدة مثل الربا أو البغاء، وهي في حالة جوليلمو «الرقص».