وعندما أصبح يهودا ليب جوردون سكرتيراً للجمعية عام 1872، أدخل بعض التعديلات على الجانب التنفيذي وقام بنشر هذه التعديلات في الصحافة العبرية حيث تضمنت الدعوة إلى ضرورة العمل على تطوير التعليم المهني والفني والمؤسسات الخاصة بها. وأعلنت الجمعية عن استعدادها لمساعدة الحرفيين اليهود على الاستيطان في جميع أنحاء الإمبراطورية الروسية، وطالبت الجمعية بإدخال تعديلات وتغييرات في الأطر الإدارية للجماعات اليهودية، والتأكيد على مبدأ دعاة التنوير الخاص بأن انعتاق اليهود سيتحقق فقط بعد أن يحقق اليهود تقدماً وتحسناً في المجال الروحي والأخلاقي.
وتركزت أنشطة الجمعية في مجالات النشر والتعليم. ففي مجال النشر، اهتمت الجمعية بتوفير المراجع التي تساعد على تعليم اللغة الروسية، كما قامت بترجمة ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» إلى الروسية حتى يتعرف إليه القارئ الروسي، وخصصت منحاً للكُتَّاب اليهود لتشجيعهم على الكتابة بالروسية. وتم التخطيط لإصدار نشرة فكرية وأدبية سنوية تضم أعمالهم، غير أنها لم تُصدر سوى نشرة واحدة نتيجة عدد من الصعوبات من بينها عدم وجود عدد كاف من الكتابات والمواهب الأدبية، بالإضافة إلى القيود الرقابية والمخاوف الداخلية من توجيه أية انتقادات للعقيدة اليهودية. كما قامت الجمعية بدعم عدد من الجرائد الأسبوعية وبتمويل إصدار ملحق باللغة الروسية لجريدة هاكارميل الأسبوعية. وكان من أهم إنجازات الجمعية القيام بتجميع آراء الحاخامات الواردة في التلمود وإصدارها باللغة العبرية عام 1871 ثم بالروسية عامي 1874 و1876. وكان الغرض من هذا العمل توفير مرجع للحاخامات لتحضير خطبهم بلغة البلاد، بالإضافة إلى تعريف الجمهور غير اليهودي بالقواعد والمبادئ الأساسية في التلمود. كما قامت الجمعية بترجمة العهد القديم إلى الروسية، وذلك أملاً في تحقيق النتائج الإيجابية التي حققتها هذه الخطوة في ألمانيا لحركة الاستنارة اليهودية.
وفي عام 1873، قامت الجمعية بإصدار ترجمة جديدة للتوراة، كما خصَّصت أموالاً كثيرة لترجمة كتب الصلوات اليهودية (سدور) وكتب صلوات الأعياد (محزور)، وكذلك لتأليف عدد من الكتب المدرسية بالروسية ولدعم المفكرين اليهود لإجراء بحوث حول ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، كما خصَّصت الجمعية منحاً لمؤلفي الكتب باللغة العبرية في الرياضيات والفيزياء والطبيعة والكيمياء والجيولوجيا. وقامت الجمعية أيضاً بدعم الدوريات العبرية، وهي دوريات كانت مهتمة بشكل خاص بالعلوم الطبيعية وبالتاريخ والسير الذاتية اليهودية. وإلى جانب ذلك، ساهمت الجمعية في إصدار كتابين في الجغرافيا والتاريخ الروسي.
وكانت الجمعية،سواء بجناحها المؤيد للغة الروسية أو جناحها المؤيـد للغة العبرية،معـارضة للغة اليديشية باعتبار أنها تمثل مرحلة بائدة. ورغم ذلك، أظهرت الجمعية استعدادها لدعم مجلة أسبوعية يديشية باعتبار أن ذلك سيساعد على توصيل المعرفة والمعلومات إلى قطاع أوسع من الجماهير اليهودية. كما خصصت بعض الموارد المالية لإصدار كتب باليديشية حول التاريخ اليهودي والروسي، ولكنها تراجعت عن ذلك عقب الانتقادات التي وُجِّهت لهذه الخطوة في كلٍّ من الصحافة الروسية والصحافة الروسية ـ اليهودية.
أما بالنسبة للأنشطة التعليمية، فقد خصصت الجمعية جزءاً كبيراً من ميزانيتها لدعم ومساعدة الطلبة اليهود في مؤسسات التعليم العالي الروسية، وبخاصة في سانت بطرسبرج، حيث اعتبرهم دعاة التنوير أفضل المرشحين لقيادة الجماعة اليهودية. كما ساعدت الجمعية الطلبة على الدراسة في الجامعات والمعاهد الأجنبية، ولكن الحكومة الروسية منعت ذلك عام 1879 باعتبار أنه مخالف للوائح الجمعية. وفي أعقاب الإصلاحات التي طُبِّقت على شبكة المدارس اليهودية الحكومية والتي أدَّت إلى إغلاق كثير من هذه المدارس، قرَّرت الجمعية إقامة صندوق خاص لسد احتياجات المدارس الثانوية والابتدائية. كما اقترحت إدخال تعليم اللغة الروسية كمادة إجبارية في هذه المدارس، وإقامة قسم خاص للمواد العبرية، ودعم فصول الحرف الملحقة بالمدارس، والمساعدة في تأسيس معاهد للمعلمين داخل منطقة الاستيطان، والسماح بإلحاق عدد من الطلبة بهذه المدارس على نفقة الجمعية. كما شاركت الجمعية في تأسيس المكتبات العامة.
وزاد حجم العضوية في الجمعية من 175 عام 1864 إلى 287 عام 1873 ثم إلى 740 عام 1888. وكان المصدر الأساسي لتمويل الجمعية، وبخاصة في السنوات العشر الأولى، عائلتا جونزبورج وليو روزنتال. وخلال سنوات وجودها الـ 25 أنفقت 286 ألف روبل على الطلبة اليهود في المدارس العامة والتعليم العالي.
وشهدت التسعينيات من القرن التاسع عشر بعض التجديدات في الجمعية حيث انضم إليها عدد من الشباب المتعلم والمثقف الذي جاء بأفكار ومشاريع جديدة. فقامت الجمعية عام 1891 بتأسيس لجنة تاريخية للبحث في تاريخ الجماعة اليهودية في روسيا. وتحوَّلت هذه اللجنة عام 1908 إلى الجمعية التاريخية والإثنوغرافية اليهودية. وفي عام 1894، تأسست لجنة للتعليم الشعبي اهتمت بالمدارس اليهودية، خصوصاً تلك التي تضم مناهج عبرية. كما اهتمت بتدريب معلمي العبرية، فانعقد مؤتمر للمعلمين عام 1903 في روسيا البيضاء.
وتم افتتاح فروع جديدة للجمعية في موسكو (1894) وريجا (1898) وكييف (1908). وفي عام 1900، وصل حجم العضوية إلى 3010 عضو. وفي عام 1906، تم تعديل قوانين الجمعية بحيث أصبح من حقها افتتاح المدارس والمكتبات وتنظيم المحاضرات والحلقات الدراسية لتدريب المعلمين، كما تقرَّر فتح فروع لها في المناطق التي تزيد العضوية فيها على 25 عضواً. وفي عام 1912، وصل عدد الفروع 30 فرعاً في كل أنحاء روسيا تضم 7000 عضو. كما كان للجمعية عام 1910 عشرة مدارس، إلى جانب 98 مدرسة تشرف عليها بشكل جزئي. وفي العام نفسه، بدأت الجمعية في إصدار جريدتها الخاصة التي تتناول قضايا التعليم والثقافة والمكتبات. وفي عام 1912، تأسست لجنة لدراسة كيفية إصلاح وتطوير المدارس اليهودية التقليدية مثل المدرسة الأولية الخاصة (الحيدر).
ونظراً لأن الجمعية كانت المؤسسة اليهودية الوحيدة المسموح لها بمزاولة الأنشطة التعليمية والثقافية، فقد انضم إليها في أوائل القرن العشرين عدد من الزعماء الصهاينة والمنادين بالقومية اليهودية مثل آحاد هعام وبياليك. وبعد فشل ثورة 1905، انضمت إلى هذه الجمعية عناصر من الأحزاب الاشتراكية اليهودية، ونتج عن ذلك وجود ثلاثة تيارات متصارعة داخل الجمعية: التيار المطالب بالاندماج والارتباط الوثيق بالثقافة الروسية، والتيار الصهيوني العبري، ثم التيار اليديشي الممثَّل في عناصر حزب البوند. وافتتحت الجمعية خلال الحرب العالمية الأولى 215 مدرسة تضم 130 ألفاً من الأطفال اليهود واللاجئين، وبعد ثورة فبراير الروسية اتَّجه الصهاينة لتأسيس اتحادهم التعليمي والثقافي الخاص تحت اسم «تاربوت»، كما أقام مؤيدو اليديشية جمعية خاصة بهم. وبعد الثورة البلشفية، تمت تصفية جميع أفرع الجمعية في الأقاليم وإغلاق مدارسها وإنهاء أنشطتها التعليمية. وظل المركز الرئيسي في بتروجراد يعمل، ثم تم حل الجمعية بشكل نهائي عام 1930 وألحقت مكتبتها التي ضمت 50 ألف كتاب و1000 مخطوطة إلى معهد الثقافة اليهودية البروليتارية في كييف.
صالونات النسـاء الألمانيات اليهوديات
Salons of German Jewish Women
«صالونات النساء اليهوديات» صالونات فكرية أقامتها بعض بنات أثرياء اليهود في فيينا وبرلين في بداية القرن التاسع عشر، وأصبحت مركزاً يلتقي فيه أعضاء النخبة الثقافية والسياسية في أوربا مع بعضهم البعض، ومع البارزين من أعضاء الجماعة اليهودية. وظاهرة الصالونات ظاهرة مرتبطة تماماً بحركة التنوير اليهودية ثم بداية انفتاح الجماعة اليهودية على عالم غير اليهود وبداية علمنة أعضائها ودمجهم بل صهرهم وأحياناً تنصيرهم.
ولعل قيام النساء بهذا الدور القيادي في عملية التقارب بين الجماعة اليهودية وعالم غير اليهود يعود إلى مُركَّب من الأسباب الثقافية والاقتصادية. وأهم الأسباب بطبيعة الحال هو أن المجتمع الغربي بأسره كان قد بدأ يتحول من مجتمع تقليدي مبني على الفصل بين الطبقات والجماعات إلى مجتمع حديث تديره دولة قومية علمانية مركزية. ولم يكن هناك مفر من القضاء على كل الجيوب الإثنية والدينية والجماعات الوظيفية بحيث يتم دمجها في بنية المجتمع ككل. والجماعة اليهودية كانت إحدى هذه الجماعات، كما أن الصالونات كانت آلية من آليات الدمج إذ أن احتكاك أعضاء القيادة اليهودية بالثقافة غير اليهودية كان يسهم ولا شك في زيادة اقترابهم منها واستيعابهم لها ومن ثم وصولها إلى كل أعضاء الجماعة، ذلك أنه، مع تحوُّل النخبة، يَسهُل تحوُّل الجماهير.
وقبل أعضاء الأرستقراطية الألمانية، رغم ما عرف عنهم من عنصرية، ارتياد هذه الصالونات لأنها كانت تتسم بقدر كبير من الحرية والانفتاح، ومن ثم كانت مجالاً لتبادل الأفكار غير متاح في المجتمع. ولابد أن نتذكر أن الفكر العقلاني وجد طريقه إلى أعضاء الأرستقراطية الغربية وعبَّر عن نفسه في ظاهرة الحكومات المطلقة المستنيرة التي كانت تبغي إصلاح المجتمع من أعلى، ومن خلال تشريعات حكومية. كما أن انتشار الرؤية النفعية والمركنتالية في المجتمع، جعل بالإمكان تقبُّل اليهودي أو أي شخص آخر ما دام أثبت نفعه.
أما من الناحية الاقتصادية المباشرة، فيعود ظهور الصالونات إلى حرب الأعوام السبعة (1756 ـ 1763)، إذ أعطى فريدريك الأكبر مجموعة من العقود للمتعهدين العسكريين اليهود، الذين أثبتوا كفاءتهم في سد حاجاته من السلع والمواد المختلفة ونفعهم لبروسيا. وتمكَّن هؤلاء المتعهدون من مراكمة الثروات إبَّان هذه الحرب، وكثير من المزايا التي منحها إياهم الإمبراطور مكافأة لهم على الخدمات التي أدوها لوطنهم بروسيا. وقد اضطر كثير من أعضاء الأرستقراطية الألمانية إلى اقتراض المال من المموِّلين اليهود في هذه الفترة. ولكل هذا، ازداد اختلاط أعضاء الأرستقراطية الألمانية بأثرياء اليهود.
وفي إطار هذا، يمكن القول بأن الصالونات كانت تمثل مرحلة انتقالية في تاريخ الجماعات اليهودية، فهي مرحلة كانت الجماعات اليهودية لا تزال تلعب فيها دور الجماعة الوظيفية، ولكن قوة الدولة المركزية كانت آخذة في التزايد، ومن ثم بدأت عملية الاستغناء عن الجماعات الوظيفية. كما أن الجماعة الوظيفية اليهودية ذاتها كانت قد بدأت تراكم الثروات وهو ما جعلها مستعدة لارتياد قطاعات اقتصادية جديدة داخل الاقتصاد الوطني وفي صلبه. وعلى المستوى الثقافي، نجد الوضع نفسه، فأعضاء النخبة في الجماعة اليهودية كانوا لا يزالون (يهوداً) يتَّسمون بشيء من الخصوصية التي يتمتع بها أعضاء الجماعات الوظيفية. ولكنهم كانوا في الوقت نفسه قد بدأوا يتحركون في عالم الألمان، ويتشربون شيئاً من ثقافتهم، ويتطلعون إلى فقدان ما تبقى لديهم من خصوصية، ويندمجون تماماً في عالم ثقافة الأغلبية.
ويظل سؤال أخير: لماذا النساء اليهوديات دون الرجال؟ وللإجابة على هذا السؤال، لابد من الإشارة إلى مفارقة غريبة وهي أن التراث الديني اليهودي كان يحرم على المرأة المشاركة في الحياة العامة (الدينية) والدراسة الدينية، وكان هذا يعني أن كثيراً من الفتيات اليهوديات من أبناء الأسر الثرية بدأن يتلقين تعليماً غربياً علمانياً، فأصبحن أكثر إلماماً بالعلوم والثقافة الغربية وأكثر كفاءة في التعامل مع العالم الغربي وأكثر تملكاً لناصية خطابه الحضاري. ولذا، كان بمقدورهم أن يلعبن دور الوسيط بين أعضاء الجماعة اليهودية والنخبة الألمانية. كما أن ثراء أسرهن حررهن من الدور التقليدي للمرأة، فأصبح لديهن الوقت والثقافة والثراء الكافي لمثل هذه الصالونات.
وبدأ مندلسون تقليد الصالونات هذا حين خصص ليلة يلتقي فيها المثقفون اليهود مع غير اليهود ليتبادلوا الأفكار. وكان أول صالون تفتحه مثقفة يهودية هو صالون هنريتا هرتز (1764 ـ 1847) وهي زوجة ماركوس هرتز أحد تلاميذ مندلسون، الذي كان يكبرها سناً، فتولى إكمال عملية تعليمها. وكانت تجيد عشر لغات من بينها العبرية، وكان صالونها ملتقى لمعظم المفكرين والأدباء مثل جوته وميرابو وأعضاء الأرستقراطية الألمانية. وتزوجت هنريتا هرتز من أحد رواد الصالون بعد موت زوجها، وتنصَّرت. ومن أهم الصالونات الأخرى صالون دوروثيا فايت (1763 ـ 1879) وهي ابنة مندلسون التي تزوجت مصرفياً يهودياً، ولكنها طلقت زوجها وتزوجت من الكاتب الألماني فريدريك فون شليجيل واعتنقت المسيحية البروتستانتية، ثم تكثلكا معاً. وكان صالون راحيل ليفين فارنهاجن (1771 ـ 1833) أهم الصالونات جميعاً، وكان ملتقى النخبة. وبعد زيجتين فاشلتين، التقت بضابط يهودي يصغرها سناً بأربعة عشر عاماً فتزوجا. وحينما استقرت في فيينا، فتحـت صالونها هـناك، فكان مندوبو بروسيا لمؤتمر فيينا يلتـقون فيه. وكانت الصالونات نقطة تجمُّع للحركة الرومانتيكية ولحركة ألمانيا الفتاة.
وكانت ظاهرة صالون النساء اليهوديات ظاهرة مؤقتة، فمع نمو عدد أعضاء النخبة الثقافية والسياسية في المجتمع، ومع تنوُّع حاجاتها الفكرية، بدأت تظهر مؤسسات متخصصة للوفاء بهذه الحاجات، مثل الجماعات المهنية والنادي الثقافي والمجلات والصحف. كما أن تزايُد النزعة القومية الألمانية، وما صاحبها من معاداة اليهود، ساهم في تشجيع أعضاء النخبة على الانصراف عن هذه الصالونات. ولعل تنصُّر كثير من القائمات على مثل هذه الصالونات ساهم أيضاً في القضاء عليها إذ أن ذلك يعني أنها عجزت عن مد أية جسور بين الجماعة اليهـودية وحضـارة الأغيار. وأخـيراً، مع تزايد معـدلات الاندماج والعلمنة، بدأت أعداد أكبر من الرجال تمتلك ناصية الخطاب الحضاري الغربي وتتحرك بكفاءة أكبر في المجتمع وتعقد صلات مع المجتمع المضيف دون حاجة إلى صالونات النساء اليهوديات.
دوروثيــا شــليجـل (1764 – 1839)
Dorothea Schlegel
كبرى بنات موسى مندلسون، تزوجت في سن العشرين من المصرفي الألماني سيمون فيت (من أسرة فيت الشهيرة في عالم المصارف) وأنجبت منه أربعة أولاد، وكان ينعقد في منزلها واحد من أشهر الصالونات الأدبية. وقد صوَّرها الفيلسوف والكاتب الرومانسي الألماني فريدريش فون شليجل (1772 - 1829 ) في روايته التي لم يكملها لونسيد على أنها المثل الأعلى للمرأة. وتقبلت دوروثيا مبدأه الخاص بالحب الحر (أي ممارسة الجنس بلا أية حدود أو قيود أخلاقية) وذهبت وعاشت معه وكتبت رواية رومانسية تحت تأثيره (وتحت تأثير جوته) تُسمَّى فلورنتين كما ترجمت رواية مدام دي ستايل كورنين. وفي عام 1802، تنصَّرت على المذهب البروتستانتي، وبعد ستة أعوام تكثلكلت مع شليجل، وعندها تزوجا زواجاً شرعياً واستقرا في فيينا حيث أصبح منزلهما مركزاً اجتماعياً وثقافياً. وقد أقنعت ابنيها فيليب وجوناس بأن يتكثلكا، وعاشت بقية حياتها مع ابنها فيليب في فرانكفورت.
وحياة دوروثيا شليجل حياة مثيرة، ولكنها مع هذا تنتمي إلى نمط آخذ في الشيوع وهو نمط اليهودي غير اليهودي.وإذا كان الجيل الأول هو موسى مندلسون الذي بدأ يترك عالم اليهودية الحاخامية وراءه، فإن ابنته بدأت تُسرع الخطى نحو عالم أوربا للحصول على تأشيرة دخول فتنصَّرت، ومع الجيل الثالث يصبح التنصُّر حدثاً عادياً. ولذا تنصَّر كل أولاد مندلسون وتيودور هرتزل. كما أن صالونها الأدبي تعبير عن الظاهرة نفسها، أي رغبة كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في أن يتركوا عالمهم اليهودي لينضموا لعالم الأغيار، فكان الصالون هو الأرضية التي يلتقون فيها بأقرانهم من الأغيار.
راحـيل فارنهاجـن (1771-1833)
Rahel Varnhagen
سيدة صالون ألمانية وُلدت لعائلة يهودية ثرية في برلين، واسمها الأصلي راحيل ليفاين. نشأت راحيل في بيئة يهودية أرثوذكسية، ولكنها كانت تخجل من أصلها اليهودي الذي اعتبرته «كالخنجر الذي غُرس في قلبها » وسعت للهروب منه. وقد تنصَّر أخوها بعد وفاة والدهما، ولم تمانع راحيل، هي الأخرى، فكرة التنصُّر، ولكنها لم تقدم على ذلك بسبب اعتمادها مالياً على والدتها. وأتاحت لها خطبتها لنبيل بروسي الدخول في دائرة الأرستقراطية الألمانية. وبرغم أن هذه الخطبة فُسخت بعد أربع سنوات بسبب رفض عائلة النبيل الألماني زواجه من يهودية، إلا أن بيتها كان قد تحوَّل إلى ملتقى للأدباء والمفكرين والسياسيين وغيرهم من الشخصيات اللامعة آنذاك يمثلون مختلف التيارات والاتجاهات الفكرية والأدبية والسياسية. وكان من بين راود صالونها الأديب الألماني الكبير جوته.
وفي عام 1801 خُطبت راحيل للمرة الثانية لسكرتير المفوضية الإسبانية لدى بروسيا وفُسخت الخطبة مرة أخرى عام 1804. وفي عام 1810، اتخذت راحيل اسم روبرتس بدلاً من اسم ليفاين وهو نفسه الاسم الذي اتخذه أخوها بعد أن تنصَّر. وفي عام 1814، تزوجت من دبلوماسي بروسي يصغرها بأربعة عشر عاماً اسمه كارل أوجست فارنهاجن، واعتنقت المسيحية البروتستانتية. وبعد زواجها، تحوَّل بيتها مرة ثانية إلى ملتقى للشخصيات الفكرية والسياسية، وغلب على صالونها هذه المرة الطابع السياسي حيث ضم كثيراً من المتعاطفين مع حركة ألمانيا الفتاة أمثال هنريش هايني. واكتسبت راحيل بفضل شخصيتها وذكائها إعجاب الكثيرين من رواد صالونها، وتمتعت بنفوذ واسع، وتعتبر راحيل إحدى ألمع السيدات اليهوديات الأوربيات في عصرها. وظلت راحيل طوال حياتها رافضة ليهوديتها، واعتبرتها نوعاً من البلاء ابتليت به وأحد أسباب تعاستها. ومع هذا، يُقال إنها اتجهت في أواخر أيامها لقبول أصلها اليهودي، ويبدو أن هذا التحول بدأ عقب اندلاع مظاهرات معادية لليهود في ألمانيا أثار تعاطفها مع اليهود.
علْــــــم اليهوديـــــــــة
Wissenchaft des Judentums (Science of Judaism)
«علْم اليهودية» علم أسسه في القرن التاسع عشر المفكرون الألمان اليهود ذوو التوجه العلماني والاهتمام التاريخي، بهدف دراسة اليهودية واليهود دراسةً تاريخية وعلمية لاكتشاف الخصوصية اليهودية. وكلمة «علم» ترجمة للكلمة الألمانية «فيزنشافت» وهي تشير إلى الدراسة المنهجية في العلوم الإنسانية والتاريخ والتي تتبنَّى طريقة علمية تعتمد كل وسائل البحث الدقيق وتنطوي على احترام الحقائق والخصوصية التاريخية. ويُلاحَظ أن ثمة تناقضاً كامناً في الأهداف، فهي من ناحية موضوعية متطرفة فيما يتعلق بناحية البحث العلمي، ولكنها ذاتية ذات قصد محدَّد فيما يتعلق بالبحث عن الخصوصية التاريخية.
ويعود هذا التناقض الأساسي إلى ذلك التناقض الكامن في فكر حركة الاستنارة آنذاك. فهي حركة عقلانية تؤكد أهمية الموقف العلمي والموضوعي والتجريدي والحقائق العامة والعالمية. ولكن هناك أيضاً جانباً آخر وهو الجانب التجريبي الحسي الذي يؤكد أهمية التجربة المباشرة والخصوصية. ودعَّم ذلك ظهور الحركة الرومانسية التي تهتم بالعاطفة والماضي واللون المحلي والخصوصية والتطور. وتأثر أعضاء النخبة المثقفة اليهودية بحضارتهم الغربية، فمندلسون مثلاً يرى أن اليهودية دين عام عقلاني ولكن شعائرها خاصة مقصورة على اليهود. ونتيجةً للتطور التاريخي، يُلاحَظ تناقص رقعة العام واتساع مساحة الخصوصية حتى تصبح هي الرقعة الأساسية بين أعضاء الجيل الثاني من دعاة التنوير اليهودي الذين دعوا من الناحية النظرية إلى دراسة اليهودية لاكتشاف الماضي وليس رفضه أو تقديسه.
وأحد الافتراضات الأساسية الكامنة وراء علْم اليهودية أن المؤسسات والأفكار اليهودية تطوَّرت بحسب قوانين تطوُّر المجتمعات التي وُجدت فيها، وأن هذه المؤسسات لم تكن أحسن أو أسوأ حالاً من أية مؤسسات اجتماعية أو ثقافية غير يهودية أخرى. ولكن هناك افتراضاً آخر يتناقض تماماً مع الأول وهو أن ثمة خصوصية يهودية تُعبِّر عن نفسها من خلال هذه المؤسسات.
وينعكس هذا التناقض في أهداف علْم اليهودية على النحو التالي:
1 ـ ستؤدي عملية اكتشاف اليهودية إلى اكتشاف جوهرها الحقيقي، وبالتالي يمكن التخلص من التراكمات الخرافية التلمودية التي علقت بها. ومن ثم يمكن القول بأن علم اليهودية هو جزء من حركة الإصلاح الديني اليهودي. وقد حاول هذا العلم أن يبين دنيوية وتاريخية التراث الديني اليهودي، أي أنه نتاج ظروف تاريخية محددة، وبالتالي نزع عنه أية قداسة أو مطلقية وهو ما فتح الطريق أمام إمكانية التحرر منه ورفضه واكتشاف سوابق تاريخية داخله تبرر الإصلاح. فعلى سبيل المثال، تمكَّن ليوبولد زونز، من خلال الدراسة العلمية التاريخية، أن يبيِّن أن لغة الصلوات اليهودية لم تكن دائماً العبرية، ومن ثم لا يوجد أي مبرر للسلطات الألمانية لأن تغلق معبداً يهودياً كانت تُقام فيه الصلوات بالألمانية على أساس أن هذا مناف للتراث اليهودي كما ادعى اليهود الأرثوذكس، أي أن اليهودي أصبح بوسعه التحرر من قبضة تراثه الذي كان يكرس عزلته المقدَّسة وأن يندمج في مجتمعه. كما أن تدهور وتخلُّف المؤسسات اليهودية، وهي جزء من تشكيلات حضارية أكبر، لا يمكن أن يُستخدَم مسوغاً للتمييز ضد اليهود باعتبار أن هذا التخلف جزء من كل أكبر غير يهودي. وإذا كان التخلف نتيجةً لاعتبارات تاريخية وبيئية، فإن من الممكن تجاوزه من خلال عملية الإصلاح.
2 ـ ستؤدي عملية اكتشاف اليهودية إلى اكتشاف خصوصيتها وقوانينها العضوية. وسيؤدي اكتشاف الخصوصية إلى إظهار الشخصية اليهودية المستقلة وإنجازاتها الحضارية، الأمر الذي سيعيد لليهود هويتهم واحترامهم أمام الشعوب الأوربية. كما أن اكتشاف هذه الخصوصية سيقوي وعي اليهود بأنفسهم وتراثهم وهويتهم المستقلة ووعيهم بذاتهم القومية.
فكأن الهدف الثاني مناقض تماماً للهدف الأول. وقد اكتسب الهدف الثاني إلحاحاً غير عادي نظراً لتزايد انصراف الشباب من اليهود عن اليهودية بعد حركة الإعتاق والدمج ونظراً لبعدهم عن تراثهم الديني بل احتقارهم اليهودية (وهذا أمر لم يكن مقصوراً على الشباب من اليهود فالموقف نفسه كان شائعاً بين كل شباب أوربا مع تزايد معدلات العلمـنة). وأدَّى كل ذلك إلى تراجُـع اليهـودية وإلى انصـهار اليهود، ومن ثم أصبح اكتشاف التراث ضرورة ملحة لوقف هذا التراجع وهذا الانصهار، أي أن هذه العملية كانت، من هذا المنظور، تصدياً لحركة الإصلاح الديني ولليهودية الإصلاحية.
وبالتدريج، أصبح الهدف الأساسي من الاكتشاف ليس الدراسة وإنما تقديس التراث. وبالتالي، نجد أن علم اليهودية مرتبط باليهودية المحافظة. ومع هذا، كان لمفكري اليهودية الإصلاحية بعض الإسهامات في هذا الحقل (والفكر الديني الإصلاحي اليهودي تعبير عن الجانب العقلي العقلاني في فكر حركة الاستنارة). ولم يكن من الممكن أن تنشأ حركة علم اليهودية من داخل المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، حيث إن خريجي هذه المعـاهد الدينية لـم يكونوا مُعَـدِّين الإعـداد الثقـافي اللازم لكتـابة دراسـات تاريخيــة أو اجتماعية في التراث الديني. ومن هنا نجد أن كل المشتغلين في حقـل علـم اليهـودية من خريجـي المـدارس التي أسستها الحكومات الغربية التي كانت مقرراتها غير دينية أو مُختلَطة (أي دينية دنيوية).
وقد قام ليوبولد زونز، وصديقه إدوارد جانز (1798 ـ 1839)، وهو قانوني من أتباع هيجل، وموسى موزر (1796 ـ 1838)، وهو تاجر مثقف، وآخرون، بتأسيس رابطة الثقافة اليهودية وعلم اليهودية. وكان من أعضاء هذه الجماعة الشاعر هايني. وكانت الجماعة تهدف إلى اكتشاف الثقافة اليهودية، ونشرها بين الشباب، وتشجيعهم على الاشتغال بالزراعة والحرف اليدوية والإنتاجية. وقد حُلَّت الرابطة عام 1824 بعد أن تنصَّر رئيسها جانز وتبعه هايني. ولكنها، مع هذا، كانت قد أسست هذا النوع من الدراسة وجمعت تحت مظلتها كثيراً من الدارسين، مثل: المؤرخ كروكمال والمؤرخ جرايتز وجايجر وفرانكل وصموئيل ولوتساتو وستاينشنايدر وغيرهم. كما أصدرت حولية نشرت عشرات الدراسات المهمة. وتفرَّع علم اليهودية إلى كثير من المجالات والموضوعات، مثل: نقد العهد القديم ودراسة التلمود والأعمال الأدبية التي كتبها مؤلفون يهود والتاريخ والآثار والفلسفة الدينية. وكان يُشار إلى علم اليهودية في بعض بلدان أوربا بعبارة «الدراسات اليهودية»، أو بالكلمة اللاتينية «جودايكا».
وكان التركيز الأساسي على تاريخ الأفكار والأدب، حتى أصبح ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» تاريخ أفكار أساساً، في حين احتل التاريخ الاقتصادي والاجتماعي مكاناً ثانوياً تحت تأثير الفلسفة الألمانية المثالية، كما أن الدراسات اليهودية كانت تحتوي على قدر كبير من الاعتذاريات.وأدَّت هذه الدراسات إلى تراكُم قدر كبير من المعلومات والحقائق عن التجارب التاريخية للجماعات اليهودية، وبالتالي ساهمت في الترويج لمفهوم وجود هوية يهودية تاريخية إثنية مستقلة. واستمرت الدراسات العلمية لليهودية وأُسِّست كراسٍيّ في الجامعات وأنشئت معاهد مستقلة لهذا الغرض. ولم يعد يُستخدَم مصطلح «علم اليهودية» في الوقت الحاضر، ويُستخدَم بدلاً منه مصطلح «الدراسات اليهودية».
صمـوئيل لوتسـاتو (1800-1865)
Samuel Luzzatto
ويُعرَف أيضاً باسم «شادال» المكوَّن من الحروف الأولى لاسمه، فصموئيل هو شموئيل بالعبرية، وهو مفكر إيطالي يهودي وُلد في تريسته لأسرة سفاردية إيطالية. وهو من نسل موشيه حاييم لوتساتو الشاعر القبَّالي الإيطالي مؤسس الآداب المكتوبة بالعبرية في العصر الحديث. كان أبوه عاملاً عارفاً بالقبَّالاه، حيث تلقَّى تعليماً دينياً، كما درس هو في إحدى المدارس التي أسسها نفتالي فيسيلي بناء على براءة التسامح التي أصدرها جوزيف الثاني. وكانت ثمة مقررات مُختلَطة، دينية ودنيوية، تدرس في هذه المدارس. تعلم في المدرسة اللغات الحديثة والجغرافيا والعلوم الطبيعية، وعُيِّن أستاذاً في أول كلية حاخامية حديثة في العالم في بادوا، وظل في هذا المنصب طيلة حياته. ووفر له منصبه إمكانية التفرغ للبحث العلمي، فنشر ديوان يهوذا اللاوي عام 1864، كما كتب أول تعليق نقدي على الكتاب المقدَّس وترجم أسفار موسى الخمسة والصلوات العبرية إلى الإيطالية، وكتب العديد من الكتيبات بالإيطالية والعبرية عن النحو والفلسفة والدراسات اللاهوتية، ونُشرت رسائله بعد موته في تسعة أجزاء.
تأثر لوتساتو بكل من الاتجاهات الرومانسية في عصره وبقيم العقلانية النقدية. وينعكس هذا في أعماله التي تتأرجح بين قبول كل من العقل والوحي وبين النقد والنقل، فقد هاجم القبَّالاه وتقاليدها. ويُعدُّ لوتساتو أحد كبار المساهمين في علم اليهودية النقدي، كما تناول كتب العهد القديم تناولاً نقدياً، فأكد أن سفر الجامعة أُلف في تاريخ متأخر عن التاريخ الذي يُفترَض أنه تم تأليفه فيه، بل وعارض رؤيته التشاؤمية العدمية. ولكنه، مع هذا، أصر على أن سفر أشعياء من تأليف مؤلف واحد استخدم أساليب مختلفة، في حين يذهب معظم علماء العهد القديم إلى أن الجزء الذي يلي الإصحاح الأربعين من تأليف أنبياء آخرين. وبرغم موقفه هذا، فإنه لم يتردد في إدخال بعض التعديلات على هذا السفر وعلى أسفار العهد القديم باستثناء أسفار موسى الخمسة التي كان يرى أنها وحدها من وحي إلهي. وبيَّن لوتساتو أن كتاب الزوهار لا يمكن أن يكون قد تم تأليفه في القرن الثاني الميلادي كما كان الزعم. ويتجلى تأرجحه، بين الموقف العقلي والعاطفي والإيماني والعلمي والعقلاني واللاعقلاني، في إصراره على أن العهد القديم لا يخاف النور أو النقد، ومع هذا فقد أصر في الوقت نفسه على ضرورة عدم توجيه النقد إليه.
ومن بعض الوجوه، فإن لوتساتو يشبه مندلسون. فهو يحاول المزج بين العقل والوحي، كما يُعرِّف اليهودية بأنها عقيدة لا تتنافى مع العقل، مع أن شعائرها مُرسَلة من الإله. ويرى لوتساتو أن العقيدة الوحيدة المطلقة في اليهودية هي الإيمان بالإله الواحد، فهي وحدها الملزمة لليهودي، أما ما عداها فيمكن الأخذ والرد بشأنه، كما أن بوسع اليهود أن يختلفوا فيما بينهم بشأن كل القضايا الدينية الأخرى دون أن يُعَدُّوا مهرطقين.وضرب مثلاً بالفيلسوف قريشقش وتلميذه يوسف ألبو اللذين اختلفا مع موسى بن ميمون لأنه لم يميِّز في عقائده الثلاث عشرة بين العقائد الأساسية والعقائد الفرعية.ورفض قريشقش مفهوم حرية الإرادة،وآمن جيرونيدس بقدم العالم،ولم يشك أحد في إيمانهما،ذلك أن جوهر اليهودية العقائدي عقلاني عالمي،فهي ديانة العدالة وحب الخير،وهي ديانة تهدف من هذا المنظور إلى حماية المجتمع الإنساني والإنسانية جمعاء.
ولكن البحث عن الحقائق العامة المطلقة هو مجال الفلسفة. فالإله لا يتواصل مع الإنسان من خلال الحقيقة المجردة المطلقة إذ أن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يؤسَّس على مثل هذه الحقيقة. ومن هنا، كان هجوم لوتساتو على ابن ميمون وبن عزرا وإسبينوزا، ومن هنا أيضاً تَبرُز أهمية الدين وحتمية الوحي، فالدين لا يهدف إلى نشر الحقيقة المجردة وإنما إلى نشر الفضيلة وهداية الناس إلى طريق الخير. وهو يؤمن بالمعجزات التي وردت في التوراة، وبأنها حقائق ليست عقلية إذ شاهدها ستمائة ألف يهودي في سيناء. كما يؤمن بمعجزات الأنبياء، فهي أحداث تتجاوز العقل والزمان والمكان والسبب والنتيجة التي تقع في عالم المحسوسات.
وتتضح ازدواجية العقل والوحي في تمييزه بين الروح الهيلينية والروح العبرانية، وهو نمط إدراكي كان يشكل أساساً فكرياً للحضارة الغربية في القرن التاسع عشر (ثم للعنصرية الغربية بعد ذلك). فالروح الهيلينية هي روح الجمال والشكل والعقل والاتزان والعلم، وهي الروح التي أدَّت إلى تَراكُم المعلومات، ولكنها أيضاً أدَّت إلى عقلانية لا معنى لها وعالم متقدم بلا روح. أما الروح العبرانية، كما أسلفنا، فلها جانبها العالمي متمثلاً في دعوتها إلى العدل والحق والخير. ولكن ثمة جانباً آخر لليهودية. ويذهب لوتساتو، شأنه في هذا شأن مندلسون، إلى أن الجانب العقائدي العام في اليهودية ليس مهماً على الإطلاق، فالمهم هو الجانب الشعائري الخاص. بل إنه يذهب إلى أنها دين يُركِّز على الممارسة والشعائر وسلوك الإنسان بالدرجة الأولى، فالتوراة لا تهدف إلى ضمان انتشار الحقيقة الصحيحة المجردة مثل النزعة الهيلينية وإنما إلى إصلاح أخلاق الإنسان من خلال طاعة الشريعة وتنفيذ الأوامر والنواهي بشكل متعيِّن كما في النزعة العبرانية. ولكن هذا ليس الهدف الوحيد للشعائر، فهي تهدف أيضاً إلى الحفاظ على الهوية اليهودية وعلى تَفرُّد اليهود وعلى تقوية وعيهم القومي وعلى عزلهم عن الشعوب الأخرى. ومن هنا تسمية اليهودية «الإبراهيمية» (نسبة إلى إبراهيم) لتأكيد خصوصيتها ولتأكيد الجانب الإثني فيها.
ثم يربط لوتساتو بين الخاص والعام في اليهودية إذ يقول: إن اليهودي، بحفاظه على يهوديته وإثنيته وتَفرُّده، إنما يدافع عن القيم العالمية العامة في دينه، وبالتالي فحفاظه على هويته فيه خدمة للإنسانية وتخليه عنها لا يخدم الإنسانية قط وإنما يشكل تخلياً عنها لأن اليهودية هي قلب العالم الذي يمكنه أن يأتي بالتوازن له، ومن ثم يتحول اليهود إلى مركز عملية الخلاص الكونية، وهذا أحد المفاهيم القبَّالية الأساسية. وهكذا يحدث التداخل بين القومية والدين. وقد كان لوتساتو يرى أن العبرية ليست لغة مقدَّسة وحسب وإنما لغة قومية أيضاً،وكذا الكتاب المقدَّس، فهو كتاب مقدَّس وكتاب قومي. وهذه الصيغة تشبه الصيغة الصهيونية الحلولية التي يتداخل فيها المقدَّس مع القومي.ويُلاحَظ أن نقد لوتساتو للعقل ليس نقداً لحدوده وحسب وإنما يشكل انسحاباً مما هو إنساني وعالمي وعام إلى ما هو يهودي ومحلي وخاص.ولذا، كان لوتساتو يرى أن النضال الحديث من أجل الحقوق المدنية لليهود يشكل خطراً قد يؤدي إلى الإبادة، لأن اليهـودية ليسـت ديناً وحسـب وإنمـا هي وعي قومي أيضاً.
موريــتز سـتاينشـنايـدر (1816-1907)
Moritz Steinschneider
أحد مؤسـسي علم اليهـودية، وبخـاصة في حـقل البيبليوجرافيا. وُلد في مورافيا، ودرس دراسات دينية ودنيوية، وأتقن عدداً من اللغات الأوربية من بينها الفرنسية والإيطالية كما أتقن العبرية. وذهب إلى برلين حيث تعرَّف إلى زونز وجايجر واستقر في برلين عام 1845.
انصب اهتمامه على دراسة علاقة اليهود بالحضارات الأخرى، واهتم بشكل خاص بعلاقة اليهود بالحضارة العربية، ودورهم باعتبارهم مترجمين وناقلين للحضارة العربية والهيلينية في العصور الوسطى في الغرب. وكان موقفه رافضاً تماماً للصهيونية إذ كان يرى أن اليهودية قد ماتت، وأن علم اليهودية هو العلم الذي سيقوم بعملية دفنها.
سولومون سـتاينهايم (1789-1866)
Solomon Steinheim
مفكر ديني ألماني يهودي كان يعمل طبيباً. حاول في كتاباته أن يبيِّن الفرق بين الوحي والعقل وأن يبيِّن أن الحقيقة (من ثم) ثنائية. والوحي، في رأيه، يفوق العقل منزلةً، والشعب اليهودي هو حامل عبء رسالة مُوحى بها من الإله، وهذا هو سرّ بقائه. ويُلاحَظ تأثره بالفلسفة الرومانسية الألمانية وبفكرة الشعب العضوي بعد ربطها بالديباجات الدينية.