الباب الثالث: الفنون التشكيلية والجماعات اليهودية
الفن اليهودي
Jewish Art
من الصعب الحديث عن «الفن اليهودي» بشكل عام، ولذلك فإننا نجد أن الحديث عن «فنون الجماعات اليهودية» أكثر دقة وتفسيرية. فعبارة «الفن اليهودي»، شأنها شأن عبارات أخرى، مثل «الثقافة اليهودية» و«الأدب اليهودي»، تفترض وجود هوية يهودية محدَّدة مستقلة وثابتة ومنفصلة عن التشكيلات الحضارية التي تُوجَد فيها، وتفترض وجود شخصية يهودية لها خصوصيتها المتميِّزة.
فنــــون الجمــــاعات اليهوديـــة
Arts of the Jewish Communities
نحن نذهب إلى أنه لا توجد هوية يهودية واحدة، وإنما هناك هويات عديدة تختلف باختلاف الزمان والمكان وباختلاف التشكيلات الحضارية التي يعيش أعضاء الجماعات اليهودية في كنفها. ومن ثم، لا يوجد فن يهودي ولا حتى فنون يهودية بشكل عام، وإنما يوجد فنانون عبرانيون وفنانون يهود تختلف طرقهم في الإبداع باختلاف التشكيلات الحضارية التي ينتمون إليها. ويظهر هذا في فن العمارة على سبيل المثال، فهيكل سليمان يتبع النماذج المصرية والفينيقية والآشورية. أما هيكل هيرود، فيتبع النمط الروماني السائد في ذلك العصر. وكانت مباني العبرانيين تتبع النمط السائد، ولذا كانت كنعانية في البداية ثم هيلينية ورومانية. وفي العالم الإسلامي، شُـيِّدت المعابد اليهودية حسب الطراز المعماري الإسلامي، كما تُشيَّد الآن في العالم الغربي حسب الطرز المعمارية السائدة فيه.
وقد أثار اكتشاف معبد ديورا أوروبوس، الذي بُني في العصر الهيليني، قضية تحريم التصوير والتماثيل في اليهودية (كما وردت في الوصية الثانية من الوصايا العشر). ويبدو أن هذا التحريم لم يُنفَّذ إبان حكم الممالك العبرانية. فتماثيل الكروب (الملائكة) فيه تدل لا على تقبُّل التصوير وحسب، وإنما تدل على بناء التماثيل أيضاً. كما أن تماثيل العجول التي كانت في هيكل المملكة الشمالية تدل على أن الكروب لم تكن استثناء فريداً، وإنما كانت نمطاً متكرراً. ولكن، بعد العودة من بابل، حدثت محاولة لتنفيذ هذا الحظر، وإن تم الاحتفاظ بتماثيل الكروب. وبمرور الوقت، ازداد تشبُّع اليهود بالحضارة الهيلينية، وبالتالي بدأ الاهتمام بالتماثيل إلى أن نُسي الحظر الديني تماماً، فنجد أن معبد ديورا أوروبوس تظهر فيه لوحات فسيفساء تمثل أنبياء العهد القديم وبعض الشخصيات الأخرى. وهناك لوحة تمثل ميلاد موسى وقد حملته أفرودَيت (فينوس) إلهة الجمال، في حين ظهر هارون في لوحة أخرى، وقد تبعه أحد الكهنة اللاويين، ويسير وراءهما عبد.
ولكن، ومن خلال التأثر بالحضارة الإسلامية، اكتسب الحظر شرعية جديدة، وتزايد ابتعاد يهود الحضارة الإسلامية عن التصوير. أما في إيطاليا، مثلاً، حيث ازدهر فن النحت، فإننا نجد أن جيتو روما كان يزينه تمثال نصفي لموسى. وكل هذا يبين أن عبارة «فن يهودي» بغير مضمون، والصحيح أن هناك فناً يبدعه فنانون يهود، أو فناً ذا مضمون يهودي، أو فناً موجهاً إلى جمهور يهودي يتبع التقاليد الحضارية السائدة في المجتمع المضيف.
ويمكن القول بأن مساهمة اليهود في الفن الغربي ظلت ضئيلة حتى القرن التاسع عشر، باعتبار أنهم كانوا جماعة وظيفية وسيطة منعزلة عن أعضاء المجتمع، لها لغتها الخاصة على الصعيدين اللغوي والحضاري. كما أن الدين كان مرتبطاً بالفن في المجتمعات التقليدية، ارتباطه بمعظم نشاطات الإنسان الأخرى، وهو ما كان يعني استبعاد اليهود كمنتجين لهذه الفنون، وضمور إبداعهم في مثل هذه المجالات.
وتغيَّر هذا الوضع تماماً، مع القرن التاسع عشر، بعد الإعتاق والانعتاق، وبعد علمنة المجتمع الغربي. ويُلاحَظ منذ ذلك التاريخ ظهور عدد من الفنانين الغربيين من أصل يهودي، ولكن إبداعهم كان يتم من خلال المصطلح واللغة الفنية السائدة في مجتمعهم وزمانهم ومكانهم. ومن أهم الفنانين من أعضاء الجماعات اليهودية الفنان الانطباعي كاميل بيسارو (الفرنسي) والفنان مارك شاجال (الروسي) وبن شان (الأمريكي) وأماديو مودلياني (الفرنسي)، وكلهم من الرسامين. وأهم النحاتين من أعضاء الجماعات اليهودية جاك ليبشيتس (الأمريكي). ويُوجَد عدد كبير من تجار الأعمال الفنية ونقاد الفنون من أصل يهودي. ولكن تظل نشاطات أعضاء الجماعات اليهودية، كفنانين مبدعين أو ناقدين للفن أو متاجرين فيه، نابعة من محيطها الحضاري، فهي تعبير عن المجتمعات التي ينتمي إليها أعضاء الجماعات اليهودية وعن تفاعلهم معها، وهذه المجتمعات هي التي تحدِّد موضوعات هذه الفنون ولغتها الفنية.
ولننظر الآن إلى بعـض الأعـمال الفنية التي تُوصَف بأنها «يهودية»، وهي أعمال محفوظة في المتحف اليهودي في نيويورك باعتبارها نماذج من «الفن اليهودي». من هذه الأعمال ستار يُستخدَم في أكثر الأماكن قداسة في المعبد اليهودي، أي تابوت العهد الذي تُحفَظ فيه مخطوطات التوراة. والستار من تركيا وهو على الطراز العثماني في القرن الثامن عشر، تتوسطه صورة للمسجد الأزرق بمآذنه المُدبَبة، ويحيط بها عمودان ملفوفان على تاج كل منهما آنية للزهور، وهي طريقة للزخرفة شائعة في الفن العثماني آنذاك. ويظهر فيها تأثُّر الفن العثماني بالفن الأوربي. والواقع أنه لا يوجد شيء يهودي في هذا الستار سوى الكتابة العبرية في وسطه، وإن كانت هناك يد وسط الكتابة العبرية، هي كف عائشة (خمسة وخميسة عند المصريين)، وهذا يُشكِّل جزءاً من فلكلور المنطقة. ولننظر إلى هذا الوعاء النحاسي من العصر المملوكي، وهو مُطعَّم بالفضة والذهب. والوعاء مُقسَّم إلى مساحات طولية عليها كتابة بالعربية تقطعها أشكال دائرية تحوي زخارف. وداخـل هـذه الزخارف يُلاحَظ وجـود نجمة داود وكتابات بالعبرية. ويبدو أن هذه الآنية صمَّمها حرفي عربي يهودي من سوريا (ومن هنا معرفته بالحروف العبرية). ولكن طريقة الصناعة والطراز والبنية الجمالية كلها إسلامية، أي أن صانع هذا الوعاء قد يكون حرَفياً يهودياً ولكن ذوقه إسلامي مملوكي.
ومن بين مقتنيات المتحف اليهودي في نيويورك ميدالية من طراز إيطالي تعود إلى منتصف القرن السادس عشر، ونُحت عليها رأس دونا جراسيا ناسي. ولكن صانع الميدالية نفسه هو باستور ينو دي جيوفان ميشيل دي باستوريني (1508 ـ 1592)، وهو فنان إيطالي مشهور قام بصك عدة ميداليات، من أشهرها ميدالية لفرانسيسكو ميديتشي. وفن الميداليات هو فن انتشر في إيطاليا في عصر النهضة، وهو محاولة لتقليد العملات القديمة (الرومانية وغيرها) بحيث يظهر الشخص المُحتفَى به، والذي تظهر صورته على الميدالية على هيئة أحد أبطال الرومان. وكانت الصورة تهدف إلى إبراز السمة الأساسية في الشخصية (باللاتينية: «فيرتو vertu») وتمجِّدها. ولكن الميدالية، مثل كل أنواع الفن الكلاسيكي، لم تكن تهدف إلى إبراز الشخصية كما هي، وإنما كما ينبغي أن تكون في أكثر لحظاتها سمواً ونبلاً. وتوجد حول رأس المُحتفَى به نقوش. وربما كان العنصر اليهودي الوحيد هنا أن هذه النقوش كُتبت بالعبرية. وفن الميداليات، والمفهوم الكامن وراءه، هو فن يحاكي الفن الروماني، وله أبعاد وثنية عميقة كما هو الحال مع فن عصر النهضة وبدايات علمنة العقل الأوربي وكذلك علمنة رغبات وقيم الإنسان الغربي. فإذا كان الفن أوربياً (عصر النهضة) والفنان إيطالياً، والقيم الجمالية والخلقية وثنيةً، فبأي معنى يمكن تسمية هذا الفن «يهودياً»؟
ومن المقتنيات الأخرى، لوحة رمبرانت «اليهود في المعبد اليهودي». وهذه اللوحة الرائعة (وهي حفر على الورق) تبيِّن رؤية رمبرانت للجماعة اليهودية في عصره. فرغم أن اليهود كانوا أقلية صغيرة، فإنه هو نفسه كان يعيش في حارة اليهود. ويقول النقاد الفنيون إن رمبرانت في هذه اللوحة يدرس موضوع الغربة، وهو موضوع إنساني عام، فمركز اللوحة هو اليهودي الجالس على قطعة من الحجر، وقد أعطى المشاهد ظهره. ويُلاحَظ أن كل الأشخاص الآخرين في الصورة يتحدث الواحد منهم مع الآخر وجميعهم غير مكترث بوجوده، بل نجد أنهم ينظرون بعيداً عنه. ورغم أنه يُوجَد في بقعة التوتر (في الوسط تماماً)، فإن وجهه متجه نحو الظلمة. ويبدو أن أزياء اليهود قد اجتذبت انتباه رمبرانت (وهي أزياء لم تكن هـولندية، فقـد جاء الإشـكناز من بولندا، أما السـفارد فمن إسبانيا)، وأحضرت كل جماعة منهما أزياءها المحلية.
ومن الأعمال الفنية الأخرى، شمعدان المينوراه، وهو الشمعدان الذي يُشعَل في منازل اليهود وفي معابدهم. وهو على الطراز الألماني (من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر). ومن الحقائق التي ينبغي ذكرها أن شمعدان المينوراه كان يُوجَد في بعض الكنائس في العصور الوسطى أيضاً (لأن الكنيسة كانت ترى نفسها إسرائيل الحقيقية التي حلَّت محل إسرائيل غير الحقيقية، أي الشعب اليهودي). ويُلاحَظ في المينوراه الألمانية وجود موضوعات ونقوش ألمانية مثل القاعدة التي اتخذت شكل أُسود، والتي تظهر في كثير من المينورات في الكنائس، وكذلك الفروع التي زُيِّنت بأوراق.
ويُوجَد في المتحف اليهودي قسم خاص بما يُسمَّى «كتوباه»، أي عقود الزواج. والكتوباه، شأنها شأن الأعمال الفنية اليهودية الأخرى، نابعة من التشكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه. ومن أشهر عقود الزواج التي يحتفظ بها المتحف، عقد زواج من ليفورنو (إيطاليا) في القرن الثامن عشر، وكانت المدينة قد اختارت النحات إيزيدور باراتا (من كرارا) ليزِّين المعبد اليهودي بالزخارف، ويبدو أن صانع هذه الكتوباه تأثر بسفينة العهد التي صنعها الفنان الإيطالي، فاستخدمها إطاراً للكتوباه، وأضاف إليها ملاكين، أخذهما من إحدى اللوحات التي نقشها باراتا على الرخام، وهي لوحة «صلب بطرس الرسول». وزيَّن الكتوباه بعد ذلك بورود رائعة. وفي وسط الخرطوشة (شكل بيضاوي أو مستدير في وسطه اسم شخص مشهور)، يوجد منظر ذو مضمون ديني: يظهر إبراهيم وهو يُضحِّي بإسحق (بحسب رؤية اليهود)، ثم يصل الملاك بالرسالة من الخالق في اللحظة المناسبة.
ولكن أبطال العهد القديم يصبحون، في هذا العمل الفني، مثل الأبطال الوثنيين. ولذا، نجد أن التركيز يتجه نحو ملامحهم الجسدية. فصورة إبراهيم وإسحق تشبه صور أو تماثيل زيوس وأوربا مثلاً، ولا تعطي أي إحساس بالرهبة الدينية. والكتوباه خليط من فن الباروك والروكوكو. ويجب أن نذكِّر القارئ هنا بأن اليهودية تُحرِّم التصوير أساساً، فما بالك بتصوير أبي الأنبياء والأمم بهذه الطريقة (لفظة إبراهيم تعني في العبرية «أبو الأمم»)؟ ولعل أهمية هذه اللوحة بالنسبة لنا أنها تعطينا صورة عن كيفية إنتاج الفن الذي يُقال له «يهودي» من خلال اللغة الفنية والحضارية السائدة. فقد قام فنان مسيحي إيطالي في عصر النهضة الذي سادته الاتجاهات الوثنية بتزيين معبد يهودي، ثم تأثر حرفي يهودي بزخارفه فنقلها إلى الكتوباه. ويُلاحَظ أيضاً أن الحرفي أضاف زخارف أخرى قام الفنان الإيطالي نفسه بإبداعها لعمل فن مسيحي. وهكذا، لا يبقى سوى الكتابة العبرية في هذه الكتوباه. ولا ندري، هل كانت كتابة الخط شكلاً فنياً قائماً بين يهود إيطاليا، كما كان الحال ومازال عند العرب المسلمين، وعند كل المسلمين الذين يستخدمون الحرف العربي؟ في غالب الأمر سنجد أن الخط لم يكن مما يُعَدُّ من الفنون الجميلة في أوربا آنذاك.
وإذا تركنا عصر النهضة والباروك والركوكو ووصلنا إلى عصر العقل والفن الذي يُشار إليه باسم «نيو كلاسيكي»، فإننا سنجد لوحة لفنان أمريكي يهودي يُسمَّى توماس سللي (1783 ـ 1872)، واللوحة عبارة عن بورتريه لسالي إتينج، أي صورة شخصية لها. والفن النيو كلاسيكي يحاكي الفنون الرومانية واليونانية بشكل واع، وهو بهذا يُعَدُّ امتداداً لفن عصر النهضة الغربي. وهنا، فإن بطلة الصورة قد رُسمت على هيئة إحدى بطلات الرومان، فهي ترتدي زياً رومانياً، بل نجد أن تسريحة شعرها على الطريقة الرومانية. ومن الواضح أن انعكاس الضوء على وجهها وجسدها يهدف إلى تأكيد جمالها الجسدي ومثاليتها الخلقية، وستظل هذه هي أهم معالم الفن العلماني، حيث يحاول أن يصل إلى قيم مطلقة من خلال الجسد الإنساني والظاهرة الإنسانية.
وقد كانت مثل هذه المحاولات مشُوبة دائماً بالتوتر، فهي تعبير عن نزعة مثالية ولكنها تظل حبيسة الجسد والمادة. ولا ندري هل نجح الفنان هنا في حفظ التوازن بين الحسي والمثالي؟ ولكن، وأياً ما كانت نتيجة المحاولة، إيجاباً أو سلباً، فالفن الذي نشاهده فن غربي نيو كلاسيكي، كما أن المشكلة التي يواجهها الفنان هي على وجه الحصر مشكلة لا يمكن أن تُوصَف بأنها يهودية. وإلى جانب ذلك، فإن المعالجة الجمالية الأخلاقية تنتمي إلى قواعد ذلك العصر. بل إننا، ابتداءً من الميدالية والكتوباه، نلاحظ بداية القيم العلمانية والموضوعات الوثنية في الفنون الغربية. ومن هنا، يمكننا القول بأنه، مع شيوع الفن النيو كلاسيكي، انتصر العنصر الوثني، وهو ما أفضى إلى اختفاء القيم المسيحية والدينية. وقد حدث الشيء نفسه بالنسبة للفنان اليهودي، إذ اختفت الحروف العبرية. كما توقفت أية محاولات، مهما كانت واهية واهنة، تتعلق بإقحام عنصر يهودي على العمل الفني. فنحن هنا في حضرة عمل فني غربي خالص، لا يُوجَد فيه حتى ادّعاء اليهودية.
ومن أشهر اللوحات التي وُصفت بأنها «يهودية»، اللوحة المسماة «عودة المتطوع اليهودي من حروب التحرير إلى أسرته التي لا تزال تعيش حسب التقاليد القديمة» للفنان موريتز دانيال أوبنهايم (1800 ـ 1882)، وهي تنتمي إلى الأسـلوبين الرومانتيكي والواقـعي في القـرن التاسع عشر. فأسلوب اللوحة رومانتيكي من حيث تأكيده العواطف والبُعد المثالي للمنظر، ولكنه واقعي من حيث اهتمامه المفرط بالتفاصيل. واللوحة تُعبِّر عن هذه النقطة التي بدأت فيها اليهودية التقليدية (الأرثوذكسية) تتفكَّك، وتحل محلها الصيغ اليهودية الجديدة المُخفَّفة، والتي لا يعترف بها الأرثوذكس، وهو ما أدَّى إلى طرح مشكلة من هو اليهودي؟ فالأسرة لا تزال أرثوذكسية، تقيم شعائر السبت كما هو واضح من الكأس والخبز على المائدة، والأب يقرأ من كتاب هو في الغالب كتاب أدعية وصلوات. ولكن الأسرة، مع هذا، بدأت تفقد شيئاً من أرثوذكسيتها، ويدل على ذلك وجود صورة في المنزل. ووصول الابن في ذلك اليوم يعني أنه سمح لنفسه بالسفر في يوم السبت، وهو الأمر الذي تُحرِّمه الشريعة اليهودية. ومن الواضح أن هؤلاء اليهود بدأوا يفقدون هويتهم الإثنية الدينية ويتحولون إلى مواطنين ألمان، ومن هنا فخرهم بقوميتهم. وربما كان وجه الأب الذي ينظر بشغف وزهو وحيرة إلى صدر ابنه هو رمز هذه اللحظة، فالأب ينظر إلى الصليب الحديدي، وهو رمز مسيحي قومي. وموضوع «رحيل المتطوعين» موضوع أساسي في الفن الرومانتيكي في القرن التاسع عشر، وإن كان أوبنهايمر جعله «عودة» المتطوع، ربما متأثراً بلوحة «عودة الأبناء» للفنان الألماني فيليب أوتو رانج.
وقد كان النقاد الفنيون اليهود يتحدثون، حتى عهد قريب، عن يهودية حاييم سوتين، ولكن الاتجاه الآن نحو دراسة صوره يتم داخل إطار تاريخ الفن في القرن العشرين ومشاكل الحداثة. وقد كوَّن مع موديلياني وأوتريللو وياسين جماعة تُسمَّى «الملاعين» أو «سيِّئو الحظ» (بالفرنسية: «مودي maudit») وكلهم يهود ماعدا ياسين. ولكن، هل لعبت يهوديتهم دوراً في تحديد رؤيتهم وأسلوبهم؟ أم أن تجربتهم تجربة أفراد يشعرون بالضياع والغربة في عالم القرن العشرين العلماني؟ (ولعل يهوديتهم تزيد حدة هذا الإحساس بالاغتراب، فمعدلات العلمنة بين اليهود، خصوصاً المثقفين، كانت أعلى منها بين بقية المجتمع). وقد رسم سوتين لوحته «وعاء زهور» عام 1930، واشتهر باللون الأحمر الذي استخدمه في هذه اللوحة وفي لوحاته الأخرى التي رسم فيها لحم حيوانات مخضباً بالدماء، (ويُقال إن هذه اللوحات احتجاج على قوانين الطعام اليهودية). ويتضح توتُّر سوتين وجرأته في هذه اللوحة التي تُعَدُّ إرهاصاً للتعبيرية التجريدية.
ومن أهم الأعمال الفنية التي يُقال لها «يهودية»، النصب التذكاري الذي نفذه جورج سيجال المولود عام 1924 لضحايا الهولوكوست أو الإبادة النازية، بناء على طلب بلدية سان فرانسيسكو. وتماثيل النصب مصنوعة من قالب جصى بالحجم الطبيعي لعدة جثث مرتبة على هيئة نجمة داود. وتمسك إحدى الجثث بتفاحة رمزاً لحواء، كما أن جثة أخرى تمد ذراعيها رمزاً للمسيح المصلوب. وهناك رجل عجوز وبجواره صبي، وهو يرمز إلى إبراهيم وإسحق. أما الرجل الواقف، فهو رمز البقاء (بقاء الشعب اليهودي)، ولكنه في حالة ذهول. ولذا، فهو يمسك بالسلك الشائك دون أن يشعر بالوخز، وربما كان ذلك رمزاً آخر للمسيح. والموضوع هنا يهودي بالمعنى الإثني لا الديني، لكن التناول صهيوني، وهو يؤكد بلا شك مركزية واقعة الإبادة النازية، ويتحدث عن تاريخ يهودي، عن معاناة يهودية. ولكن العمل مع هذا يظل عملاً أمريكياً غربياً حديثاً، لا يمكن فهم قيمه الجمالية إلا بالعودة إلى اللغة الفنية السائدة في الولايات المتحدة، وهي لغة تدخلها الرموز المسيحية. وهـذا أمر طبيعي، فقد صاغه فنان أمريكي ليعرضه على جمهور أمريكي. وإذا كان الموضوع يهودياً والفنان الذي تناوله يهودياً، فإن هذا لا يقلِّل من أمريكية العمل، إذ تظل اللغة الفنية لغة أمريكية غربية حديثة.
وفي عرضنا حتى الآن لما يُسمَّى «الفن اليهودي»، وجدنا أنفسنا ننتقل من الحضارة الإسلامية إلى الحضارة الغربية. ولو انتقلنا إلى الحضارة الصينية لندرس معمار المعبد اليهودي هناك، لوجدنا أنه لا يختلف كثيراً عن معمار المعابد الكونفوشيوسية. وفي دراستنا للأعمال الفنية اليهودية المختلفة، وجدنا أنفسنا نشير إلى فن عصر النهضة، وفن عصر العقل، وفن عصر الرومانسية، وفن العصر الحديث. وفي محاولة فهم هذه الأعمال، كان علينا أن نعود دائماً إلى تطوُّر الفكر والفن الغربيين، ونحن لم نجد عناصر يهودية إلا في الموضوع، وهو عنصر فرعي لا يحدِّد القيم الجمالية أو طريقة التناول. ومن هنا، نجد أن من الصعب التحدث عن «فن يهودي»، بينما يمكننا أن نتحدث عن فن غربي في محاولة لتصنيف الأعمال التي نشاهدها.
وإذا نظرنا إلى الفن الإسرائيلي، فإننا نجد أن الأمر لا يختلف كثيراً عما يُسمَّى «الفن اليهودي»، فهو فن ليست له شخصيته المستقلة، ولا معجمه الخاص. وقد يتبلور فن إسرائيلي له شخصية فنية مستقلة، ولكننا، حتى الآن، لا يمكن أن نزعم وجود مثل هذا الفن. وللدلالة على هذا القول، يمكننا أن ننظر إلى لوحة الفنان الإسرائيلي ريوفين روبين (1893 ـ 1974) المولود في رومانيا والذي هاجر إلى فلسطين واستوطن فيها. واللوحة من مقتنيات المتحف اليهودي في نيويورك، ولها عنوانان: «بائع السمك الملون»، و«الصياد العربي». والواقع أن إعطاء اسمين للوحة أمر ذو دلالة عميقة في السياق الصهيوني، فعنوان «الصياد العربي» محاولة أولية لتجريد العربي بحيث يصبح جزءاً من الطبيعة.
ويظهر هذا في تشكيل اللوحة ذاته. فالصياد تحوَّل إلى شكل هندسي يقف متوازناً بين السمكة التي في يده والسمك الذي في الوعاء الذي يحمله، وعيونه ذاتها تشبه عيون السمك وتجعله هو نفسه يشبه السمك. ويداه: إحداهما تمسك بسمكة ملتوية بحيث تصبح متوازية مع جسده، والأخرى ممسكة بالوعاء، أما أصابعه فتكاد تسبح في الماء كالسـمك. وذراعـاه يشبهان الإطار، بحيث يأخذ الصياد شكل المربع، ولكنه مربع مليء بتموجات تذوب وتندمج في الخلفية المتموجة بحيث يندمج الفرد في الطبيعة تماماً. وثمة غنائية عميقة في اللوحة رغم ألوانها، ولكنها على أية حال ألوان أرض فلسطين التي يسميها الصهاينة «إرتس يسرائيل». والعربي موضوع أساسي في الفن الصهيوني، وقد طرح الصهـاينة فكرة «أرض بلا شـعب»، أي فكـرة أن العرب لا وجود لهم.
ولتفسير هذا التناقض، لابد أن نشير إلى عنصرين:
1 ـ المستوطنون الصهاينة الذين عاشوا في هذه الأرض وجدوا العربي في كل مكان، يسير حولهم ويعمل في الأرض قبل وبعد اسـتيلائهم عليها، آثاره في كل مكان حتى بعد أن طُرد منها. ولذا، لم يكن هناك مفر من أن يظهر العربي على شاشة الوجدان الصهيوني، مهما حاولت الأيديولوجيا المجردة أن تغيِّبه.
2 ـ يرفض الفكر الصهيوني يهود المنفى (أي كل يهود العالم ما عدا المستوطنين الصهاينة) على أساس أنهم شخصيات هامشية هزيلة تعمل بالربا والتجارة ولا يمكنها أن تقوم بالأعمال اليدوية المنتجة. وكانوا يضعون العربي مقابل يهودي المنفى باعتباره شخصية حيوية منتجة تعيش في وئام مع الطبيعة، فالعربي هنا هو نقيض يهودي المنفى، وعلى المستوطن الصهيوني أن يعيد صياغة شخصيته بحيث يكون مثل هذا العربي. ومن هنا، كُتبت مسرحيات وقصص كثيرة تدافع عن هذه الرؤية حتى اشتكى أحد النقاد الصهاينة في أوائل القرن من أنه لا يوجد عمل أدبي واحد يكتب في فلسطين إلا وفيه تمجيد للعرب. وقد كان الصهاينة يرتدون زي العرب ويحاولون أن يتصرفوا مثلهم.
ولوحة «الصياد العربي» هي نتاج هذا الموقف الذي استمر حتى أواخر العشرينيات، ثم اختفى بعد ذلك مع بداية انتفاضات العرب، الأمر الذى حوَّلهم من شخصيات رومانسية مندمجة في الطبيعة ملتحمة معها، ومن موضوع للتأمل، إلى شخصيات حقيقية تدافع عن أرضها. ولم يَعُد العربي مجرد مربع يشبه السمكة، ينظر في السمك، ويحمل الأسماك ويذوب في الأمواج، إذ أصبح من الصعب تجريده. ولعل هذا هو ما أدَّى إلى اختيار العنوان الثاني «بائع السمك الملون»، فهنا تتحوَّل عملية التجريد إلى تغييب كامل، فيصبح العربي مجرد بائع سمك مُلوَّن، وتصبح فلسطين أرضاً بلا شعب. واللوحة متأثرة بفن مودلياني والفن الساذج أو البدائي. وتحليلنا لمضمونها العقائدي العنصري لا ينفي عنها أنها عمـل فني جميل، لكن الجمال على كلٍّ ليس له علاقة كبيرة بالأخلاق، فالأعمال العنصرية والإباحية يمكن أن تكون على مستوى عال من الجمال والإبداع الفني.
أما العمل الثاني الذي سنختاره للتحليل، فهو للفنان الإسرائيلي جوشوا نيوشتاين، المولود في دانزيج بألمانيا، وهو بعنوان «سلسلة فايمار رقم 2»، وهو جزء من مجموعة لوحات عن جمهورية فايمار (1919 ـ 1933) في ألمانيا، والتي كان يحكمها نظام ليبرالي، وحقَّق فيها الألمان من اليهود بروزاً كبيراً، واتسم حكمها بالاضطرابات الاجتماعية والتضخم وعدم الاستقرار السياسي والبطالة والتنازلات المستمرة للحلفاء (إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة) الذين حققوا الانتصارات وأذلوا ألمانيا بمعاهدة فرساي. وقد أدَّى كل هذا إلى تحلُّل وسقوط هذا النظام، ثم ظهر هتلر والحكم الشمولي. وموضوع اللوحات هو التحلل والتآكل.
وينتمي نيوشتاين إلى حركة فنية تُسمَّى «التجريد المعرفي» ظهرت في الولايات المتحدة، وكانت لها أصداؤها في إسرائيل في أواخر الستينيات. ويشير اسم الحركة إلى نوع من الفن يتعامل مع طبيعة المعرفة والإدراك وكيفية فَهْم وإدراك الحقائق الفيزيقية الأساسية. ويتعين على مشاهد هذه الصورة أن يحاول رؤية عملية ثني الورق وتَشقُّقه ومحاولة إصلاحه، بل وأن يحاول أن يخمن ما تحت الورقة، هذا على الأقل هو رأي الناقد الفني روبرت بنكوس ويتن. كانت كل لوحات نيوشتاين، في البداية، رمادية خالية من اللون. ولكن، مع سلسلة فايمار هذه، لجأ نيوشتاين إلى الألوان الصاخبة وإلى ضربات الفرشاة ليعبر عن إحساسه بالإحباط، فهي محاولة لرسم صورة اللوحات، وهي على هيئة الحطام ذاتها. وكثيراً ما تُستخدَم ألفاظ، مثل: «هشّ»، و«مُمزَّق»، و«غير ثابت»، لوصف أعمال نيوشتاين. ويلجأ أعضاء هذه المدرسة في إسرائيل إلى عمليات تجريبية مادية، مثل تمزيق الورق ومسح الألوان والخربشة. والاختلاف العميق بين عدمية الفنانين الإسرائيليين واتجاه زملائهم الأمريكيين تبيِّن الفرق بين الاهتمامات القومية لكل من الفريقين، فهدم الإسرائيليين للمادة التي يستخدمونها هو تعبير عن وضع الدولة الصهيونية التي تخرج من حرب لتدخل أخرى. وهذه الحركات الفنية داخل المُستوطَن الصهيوني تبدو كما لو كانت تنبع من حركة فنية أمريكية وجدت أصداء لها بين الفنانين الإسرائيليين. وقد يمكن القول بأنهم أضافوا نغمة إسرائيلية خاصة إلى أعمالهم، وأنهم جزء من حركة فنية عالمية هي حركة الحداثة (والتجريد والتجريب)، وأنهم في هذا لا يختلفون عن معظم فناني العالم في العصر الحديث.
الكنيســـة والمعـــبد
Ecclesia et Synagoga
موضوع أساسي في الفنون الكنسيَّة في العصور الوسطى في الغرب، وشكل متكرِّر متواتر أصبح جزءاً من اللغة الأيقونية. وكان هذا الشكل يمثل الكنيسة المسيحية المنتصرة على هيئة امرأة تنظر منتصرة إلى ما حولها وتحمل صليباً، أما اليهودية أو المعبد اليهودي فكان يُمثَّل على هيئة امرأة تشبه الأولى تماماً إلا أنها معصوبة العينين (رمز عدم إدراك اليهود المغزى الحقيقي للعهد القديم) تحمل عصا مكسورة (رمز الهزيمة) أو أحيـاناً لوحين كُتبت عليهما الوصايا العشر (رمز العهد القديم). وكان هذا الشكل الأيقوني يظهر إما بالحفر البارز أو على هيئة تماثيل، ومن أشهر هذه التماثيل ذلك التمثال الموجود في كاتدرائيات ستراسبورج وبامبرج. كما تُوجَد مثل هذه التماثيل في باريس وبوردو. أما في إنجلترا، فتُوجَد تماثيل الكنيسة والمعبد في روتشستر ولنكولن. ومن الطريف أن الفنانين من أعضاء الجماعات اليهودية قد تأثروا بهذه اللغة الأيقونية المسيحية لدرجة أنهم هم أنفسهم كانوا يستخدمون الرموز المسيحية في المخطوطات اليهودية.
نجمــــة داود
Magen David; Star of David
«نجمة داود» ترجمة لعبارة «ماجن ديفيد»، وهي عبارة عبرية معناها الحرفي «درع داود». ونجمة داود عبارة عن شكل مُكوَّن من مثلثين كل منهما متساوي أضلاع، ولهما مركز واحد، وهذان المثلثان رأس أحدهما إلى أعلى ورأس الآخر إلى أسفل. ويشكِّل المثلثان المتداخلان نجمة سداسية ذات ستة رؤوس تلمسها جميعاً محيط دائرة افتراضية.
ويمكن دراسة تاريخ هذا الشكل على مستويات ثلاثة، أي باعتباره:
1 ـ شكلاً هندسياً زخرفياً.
2 ـ علامة أو شارة دنيوية دالة على اليهود.
3 ـ رمزاً دينياً لليهودية.
أولاً: النجمة السداسية بوصفها شكلاً هندسياً زخرفياً:
وُجدت النجمة السداسية في النقوش المصرية القديمة والهندوكية والصينية وفي نقوش حضارات أمريكا الجنوبية. وكانت أيضاً رمز خصب كنعانياً. كما وُجدت هذه النجمة على ختم عبراني يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، وعلى قبر عبراني في القرن الثالث، وعلى معبد يهودي في الجليل في القرن نفسه، وفي مقابر اليهود بالقرب من روما، وعلى حوائط القدس، وفي أحجبة عربية من القرن التاسع، وفي نصوص سـحرية بيزنطية، وفي كتب سـحر من العصـور الوسـطى الغربية، وفي الفلكلور الألماني، وفي آثار فرسان المعبد المسيحيين. ونجمة داود هي أيضاً إحدى شارات الماسونيين الأحرار، وقد وُجدت على مبنى المدينة القديمة في فيينا، وعلى كثير من الكنائس في ألمانيا. كما كانت تُوضَع على الحانات في جنوبي ألمانيا، إذ يُقال إن أتباع فيثاغورث كانوا يستخدمون هذه النجمة السداسية حين يتسولون لينبهوا رفاقهم إلى أنهم وجدوا في هذا المكان أهل سخاء وكرم. ولا يزال الشكل يظهر في زخرفة بعض المباني، وإن كان هذا نادراً الآن، لأن الشكل الهندسي المجرد فَقَد براءته الزخرفية واكتسب مضموناً دنيوياً أو دينياً محدداً. وغني عن القول أن استخدام النجمة السداسية بوصفها شكلاً هندسياً، ليس ذا مضمون يهودي أو غير يهودي.
ثانياً: النجمة السداسية بوصفها علامة دنيوية:
مما تقدَّم، يمكن القول بأن النجمة السداسية لم تكن رمزاً يهودياً بل كانت شكلاً هندسياً وحسب. وهي حين ظهرت على بعض المباني اليهودية، لم تكن لها دلالة رمزية، وإنما كان الغرض منها أداء وظيفة زخرفية. وفي القرن الرابع عشر، سمح تشارلز الرابع للجماعة اليهودية في براغ بأن يكون لها علمها الخاص، فصُوِّرت علىه النجمة السداسية. ومن ثم أصبحت النجمة رمزاً رسمياً دنيوياً لليهود. واتخذها بعض طابعي الكتب اليهود في براغ علامة لهم وانتشرت منها إلى إيطاليا وهولندا. ويُلاحَظ أن النجمة السداسية كانت، حتى ذلك الوقت، مجرد علامة، لا رمزاً دينياً أو قومياً. وانتشر استخدام هذه العلامة من براغ إلى الجماعات اليهودية الأخرى. واستخدمها أعضاء الجماعة اليهودية في فيينا سنة 1655، وحينما طُردوا منها حملوها إلى مورافيا ووصلت منها إلى أمستردام. ويُلاحَظ أنها لم تنتشر في شرقي أوربا إلا مع بدايات القرن الثامن عشر، ففي هذا التاريخ بدأت النجمة السداسية تتحول إلى شارة لليهود. وفي أوائل القرن التاسع عشر، بدأت تظهر هذه النجمة في أدبيات معاداة اليهود رمزاً دالاً علىهم. وفي عام 1822، تبنت عائلة روتشيلد في النمسا هذه النجمة رمزاً لها، بعد أن رُفع بعض أعضائها إلى مرتبة النبلاء. كما استخدمها هايني، الشاعر الألماني المتنصِّر، للتوقيع على خطاباته. ولم تحمل النجمة بالنسبة إلى كل هؤلاء أية دلالة دينية أو قومية أو إثنية، فليس لها امتدادات في تواريخ الجماعات اليهودية. ومن ثم، يمكن اعتبارها علامة ازدادت ارتباطاً ببعض الجماعات اليهودية في الغرب، وكان اختيار عائلة روتشيلد لها هو الذي منحها مكانة وشرعية.
ثالثاً: النجمة السداسية باعتبارها رمزاً دينياً:
يبدو أن عبارة «درع داود» لا تُستخدَم للإشارة إلى النجمة السداسية إلا في المصادر اليهودية، إذ تستخدم المصادر غير اليهودية عبارة «خاتم سليمان». ويبدو أن التسمية الأخيرة من أصل عربي إسلامي حيث كان يُشار إلى النجمة الخماسية (وهي المنافس الأكبر للنجمة السداسية) باعتبارها أيضاً «خاتم سليمان». ولكن كيف ارتبطت عبارة «درع داود» بالنجمة السداسية؟ يبدو أن النجمة كانت تُذكَر في الكتابات السحرية اليهودية (في الأحجبة والتعاويذ) جنباً إلى جنب مع أسماء الملائكة. وبالتدريج، أُسقطت الأسماء وبقيت النجمة درعاً ضد الشرور. واكتسبت النجمة السداسية هذه الصفة الرمزية كدرع ابتداءً من القرن الثالث عشر. ومع هذا، استمر استخدام عبارتي «درع داود» و«خاتم سليمان» للإشارة إلىها في الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر، كما كانت تُستخدَم عبارة «درع داود» للإشارة إلى شمعدان المينوراه. ولكن، بمرور الوقت، اقتصر استخدام هذه العبارة على الإشارة إلى النجمة السداسية وحدها.
وكانت النجمة تُستخدَم في تميمة الباب (ميزوزاه)، فكانت تُكتَب علىها أسماء سبعة ملائكة، ويصحب اسم كل ملاك النجمة السداسية. وتتحدث القبَّالاه عن العالم العلوي والسفلي المتقابلين. وبهذا يصبح المثلثان (ورأس أحدهما إلى أعلى ورأس الآخر إلى أسفل) رمزاً لهذا التقابل ولحركة الصعود والهبوط، ومعادلاً رمزياً لعلاقة عالم الظاهر بعالم الباطن. وأصبحت النجمة كذلك رمزاً للتجليات النورانية العشرة (سفيروت) حينما تأخذ هيئة شجرة الحياة. وهي ترمز أيضاً إلى ظهور العالم الأصغر الميكروكوزم (أي الإنسان) من العالم الأكبر الماكروكوزم (أي الكون) وزائير أنبين من أبا وأما أي الأب والأم في القبَّالاه.
وكانت النجمة ترمز أيضاً إلى ظهور الماشيَّح من صدر إبراهيم. ولذا، كان يشار أحياناً إلى النجمة السداسية باعتبارها درع داود وإبراهيم. وكانت أطرافها الستة، ترمز إلى أيام الأسبوع الستة. أما المركز فهو السبت. وكانت النجمة أيضاً رمزاً مشيحانياً يمثل برج الحوت (21 فبراير ـ 20 مارس)، وهو الوقت الذي كان يُفترَض أن يظهر فيه الماشيَّح. وأصبح درع داود رمز درع ابن داود، أي الماشيَّح. واستخدمه أتباع شبتاي تسفي وأصبح رمزاً سرياً للخلاص. وكانت النجمة السداسية مرسومة على الحجاب الشهير الذي كتبه يوناثان ايبيشويتس (الذي أثار ضجة بين يهود شرقي أوربا فيما يُسمَّى «المناظرة الشبتانية الكبرى») وكُتبَت عليه الأحرف الأولى لعبارة «درع ابن داود».
ولعل اكتساب الرمز لبعض الإيحاءات الدينية كان سبب انتشاره في زخارف المعابد اليهودية، مع بداية القرن السادس عشر، في الوقت نفسه الذي بدأ فيه انتشار القبَّالاه اللوريانية.
ولكن النجمة السداسية لم تتحوَّل إلى رمز ديني يهودي إلا بتأثير المسيحية وتقليداً لها. وهذه ظاهرة عامة عند كل من اليهود ومعظم الأقليات: أنهم يكتسبون هويتهم من خلال الحضارة التي يوجدون فيها. وتبنِّي نجمة داود مثل جيد على ذلك. فاليهودية باعتبارها نسقاً دينياً، على الأقل في إحدى طبقاتها الجيولوجية المهمة والرئيسية، معادية للأيقونات وللرموز، تماماً مثل الإسلام. ولكن يهود عصر الإعتاق أخذوا يبحثون عن رمز لليهودية يكون مقابلاً لرمز المسيحية (الصليب) الذي كانوا يجدونه في كل مكان. وحينما بدأت حركة بناء المعابد اليهودية على أسس معمارية حديثة، اتبع المهندسون، الذين كانوا في أغلب الأحيان مسيحيين، ذات الطرز المعمارية المتبعة في بناء الكنائس. ولذا، كان لابد من العثور على رمز ما، ومن هنا كان تبنِّي النجمة السداسية. ثم بدأت تظهر النجمة على الأواني التي تُستخدَم في الاحتفالات الدينية مثل كؤوس عيد الفصح. ولأن النجمة السداسية كانت شائعة في الأحجبة والتعاويذ السحرية، لم يعارض الأرثوذكس استخدام الرمز. ومن ثم، يمكن أن نقول إن انتشار الرمز في القرن التاسع عشر كان دليلاً على أن اليهودية الحاخامية بدأت تَضعُف وتفقد تماسكها الداخلي. ولذا، فإنها كانت تبحث عن رمز حتى يمكنها أن تعيد صياغة نفسها على أسس مسيحية.
وهنا ظهرت الصهيونية بوصفها أهم تعبير عن أزمة اليهودية الحاخامية. وحاولت هذه العقيدة السياسية أن تطرح نفسها بديلاً للعقيدة الدينية، فتبنَّت النجمة السداسية رمزاً لها، ذلك الرمز الذي ظهر على العدد الأول من مجلة دي فيلت التي أصدرها هرتزل في 4 يونيه 1897، ثم اختير رمزاً للمؤتمر الصهيوني الأول ولعَلَم المنظمة الصهيونية. والواقع أن اختيار الصهاينة للنجمة السداسية كان اختياراً ذكياً يُعبِّر عن غموض موقف الصهيونية من اليهودية. فالصهيونية ترفض العقيدة اليهودية ولكنها تريد في الوقت نفسه أن تحل محلها وتستولي على جماهيرها. ولإنجاز هذا الهدف، احتفظت الصهيونية بالخطاب الديني والرموز الدينية بعد أن أعطتها مضموناً دنيوياً قومياً. وقد احتفظت الصهيونية بفكرة القداسة الدينية، ولكنها خلعتها على الدولة والشعب وعلى تاريخ الأمة، أي أن ثمة تداخُلاً كاملاً بين الدنيوي والمقدَّس. والنجمة السداسية تتسم أيضاً بهذا التداخل، فهي رمز شائع بين اليهود وعلامة علىهم، أي أنها رمز قومي. ولكن هذا الرمز اكتسب إيحاءات دينية لا ترقى إلى مستوى المضمون الديني المُحدَّد، فهو يحمل قداسة ما ولكنها قداسة مرتبطة بالرمز الدنيوي. وقد يكون غموض مصدر القداسة عيباً من المنظور الديني، ولكنه من منظور صهيوني يشكِّل مصدر قوة، إذ كان الصهاينة يبحثون عن رمز يجسد فكرة قداسة اليهود لا قداسة اليهودية، وهذا ما أنجزته لهم نجمة داود.
وتبنَّى النازيون أيضاً نجمة داود رمزاً لليهود. وكان على اليهود ارتداؤها رمزاً للفولك أو الشعب اليهودي العضوي، ولتمييزهم عن الفولك الألماني العضوي. ولهذا، أصبحت النجمة مرتبطة في الوجدان اليهودي بالإبادة. ويري بعض اليهود أن العلامة التي ارتبطت في الأذهان بذُلّ اليهود وإبادتهم لم تَعُد تصلح لأن تكون رمزاً لهم، في حين يرى البعض الآخر أنها (لذلك) أصبحت رمزاً لتاريخ الشعب. ومهما كان الأمر، فإن الدولة الصهيونية اتخذت شمعدان المينوراه شعاراً لها، ولم تَعُد النجمة تظهر إلا على العَلَم. ويستخدم الإسرائيليون نجمة داود حمراء مقابلاً للصليب الأحمر، أو الهلال الأحمر، وتُسمَّى هذه النجمة بالعبرية «ماجن ديفيد أدوم». وترفض منظمة الصليب الأحمر الدولي الاعتراف بالنجمة السداسية الحمراء رمزاً، ولذا فإنها لم تقبل إسرائيل عضواً في المنظمة الدولية، إذ أن إسرائيل تجعل انضمامها مشروطاً بذلك.
يتبع إن شاء الله...