الطبقة العاملة اليهودية أو البروليتاريا اليهودية
Jewish Working Class or Proletariat
مصطلح «الطبقة العاملة اليهودية» أو «البروليتاريا اليهودية» مصطلح يشبه مصطلحات أخرى مثل «الرأسمالية اليهودية» أو «البورجوازية اليهودية». ويتمثَّل وجه الشبه في افتراض أن ثمة استقلالاً يهودياً، وأن اليهود يشكلون طبقات خاصة مستقلة عن طبقات المجتمع. ونحن نفضل استخدام مصطلحات مثل: «العمال من أعضاء الجماعات اليهودية» أو «العمال الأمريكيون اليهود» وذلك باعتبار أن اليهود يشكلون جزءاً من كل، ويخضعون إلى حدٍّ كبير لحركيات هذا الكل وآلياته وقوانينه.
العمـال من أعضــاء الجماعـات اليهوديـة
Jewish Members of the Working Class
يستخدم كثير من الدارسين مصطلحات مثل «البروليتاريا اليهودية» و«الطبقة العاملة اليهودية». وتشير كلمة «البروليتاريا» في اللغات الأوربية إلى طبقة من السكان لا تملك شيئاً بما في ذلك وسائل الإنتاج التي تستخدمها، وتكسب رزقها من عمل يدها، وتُستخدَم هذه الكلمة مرادفة لكلمة «طبقة عاملة». والبروليتاري هو العامل (مقابل الرأسمالي الذي يمتلك وسائل الإنتاج والفلاح الذي يعمل في الزراعة). ويشكل مفهوم البروليتاريا اليهودية أو الطبقة العاملة اليهودية إشكالية أساسية في الأدبيات التي تتناول وضع الجماعات اليهودية في أوربا. وقد عبَّر عن هذه القضية المفكر الصهيوني بوروخوف في فكرة الهرم الإنتاجي المقلوب، والتي تتلخص في أن اليهود يتركزون في المهن والحرف ويندُر وجودهم في صفوف الفلاحين والعمال على عكس معظم الشعوب الأخرى. وهو بطبيعة الحال مفهوم قيمته التفسيرية والتصنيفية ضعيفة إلى أقصى حد.
فاليهود ليسوا شعباً، وإنما جماعات يهودية تضطلع بدور الجماعات الوظيفية وتعيش بين مختلف الشعوب، وتتحدَّد طبيعة وظيفتها ووجودها في الهرم الإنتاجي بين المهنيين وبالقرب من أعضاء الطبقة الحاكمة باعتبارهم أداة في يدها لامتصاص فائض القيمة من المجتمع ولإنجاز أغراض أخرى. وقد تحوَّل بعض أعضاء هذه الجماعات إلى عمال انخرطوا في صفوف الطبقات العاملة المختلفة. ولكل هذا، فإننا نفضل استخدام مصطلحات مثل «العمال من أعضاء الجماعات اليهودية» أو «العمال الأمريكيون اليهود» أو أية صيغة أخرى تؤكد أن العمال من أعضاء الجماعات اليهودية ليس لهم وجود يهودي مستقل وأنهم جزء من كل، وذلك لأن القيمة التفسيرية والتصنيفية لمثل هذه المصطلحات أعلى بكثير من مصطلح «البروليتاريا اليهودية».
وقد انخرطت أعداد كبيرة من يهود اليديشية في شرق أوربا في صفوف الطبقة العاملة ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، مع تزايُد معدلات تحديث اقتصاد الإمبراطورية الروسية التي كانت تضم أكبر كتلة بشرية يهودية في العالم. كما انخرطت أعداد من أعضاء الجماعات اليهودية بنسبة أصغر في الطبقة العاملة في الإمبراطورية النمساوية. أما في البلاد الأخرى، مثل الولايات المتحدة وإنجلترا وإلى حدٍّ ما فرنسا، فإن تاريخ العمال من أعضاء الجماعات اليهودية مرتبط بالهجرة من شرق أوربا ولا علاقة له بالحركيات الداخلية للمجتمع في أيٍّ من هذه البلاد.
وقد تركت التحولات الاجتماعية الضخمة في روسيا والنمسا أثرها في أعضاء الجماعات اليهودية، إذ فقد كثير من الحرفيين اليهود وظائفهم بظهور الصناعة الحديثة، وكذا التجار والمرابون اليهود الذين كانوا مرتبطين بالاقتصاد الزراعي. كما أن البورجوازيات الصاعدة والدولة القومية المطلقة التي كانت تريد السيطرة على كل جوانب الإنتاج، حرَّمت على اليهود العمل في بعض الوظائف التي كانوا يضطلعون بها كجماعة وظيفية، مثل صناعة الكحول والاتجار فيها. وأدَّى هذا الوضع إلى وجود عمالة يهودية ضخمة لا تمتلك وسائل الإنتاج وليس لديها رأس مال كاف الأمر الذي جعلها تنخرط في صفوف الطبقات العاملة، وكانت هذه العملية صعبة بعض الشيء في أوربا الشرقية بسبب الميراث الاقتصادي والتقاليد السائدة.
أما العناصر المهاجرة، وهي عناصر أكثر حركية في العادة، فلم تجد صعوبة شديدة في التحول إلى عمال بسبب عدم وجود عوائق نفسية أو حضارية أو قانونية، وإن كان الميراث الاقتصادي ووضعهم كمهاجرين قد وجههم نحو قطاعات معينة دون غيرها. ومن الأمور التي تستحق التسجيل أن الصناعات التي كان يملكها يهود داخل منطقة الاستيطان استفادت في بداية الأمر من العمالة اليهودية. أما في الولايات المتحدة، فقد نجح أصحاب مصانع النسيج من اليهود من أصل ألماني في أن يستفيدوا من العمالة اليهودية الوافدة واستغلوها استغلالاً كاملاً فيما يُسمَّى «ورش العَرَق». وقد بلغ عدد العمال من أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا، قبل الحرب العالمية الثانية، مليوناً ونصف المليون من مجموع يهود العالم البالغ عددهم نحو ستة عشر مليوناً، منهم: 400 ألف في الولايات المتحدة، و300 ألف في الاتحاد السوفيتي، و300 ألف في بولندا، و100 ألف في فلسطين، و400 ألف في البلاد الأخرى مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا والمجر ورومانيا وبلدان أمريكا اللاتينية. ويُلاحَظ أن هذه الأرقام تشير إلى العمال وحسب، ولا تشير إلى كل العاملين في الصناعة من موظفين إداريين.
وقد ترك الميراث الاقتصادي لليهود أثره في العمال من أعضاء الجماعات اليهودية. فيُلاحَظ تركُّزهم في صناعات بعينها دون غيرها مثل صناعة الملابس والخياطة. وهذا يعود في الواقع إلى اشتغال اليهود بالربا وأعمال الرهونات. وكان من أكثر أعمال الرهونات الملابس المستعملة التي كان اليهودي يُعيد ترقيعها وبيعها. كما أن عدم كفاءة العمال اليهود، بسبب انخراطهم المتأخر في سلك الطبقة العاملة، ساهم في توجيههم نحو صناعات بعينها دون غيرها. وتتسم الصناعات التي تركَّز فيها اليهود بصغر حجمها وقربها من المراحل النهائية للإنتاج مثل إنتاج السلع المُصنَّعة أو نصف المُصنَّعة مقابل إنتاج وسائل الإنتاج، وهي صناعات لا تتطلب كفاءات عالية، بل تستند أحياناً إلى الصناعات المنزلية.
وتدل إحصاءات عام 1897 في روسيا على صدق هذا القول، إذ بلغ عدد العمال اليهود الذين تركزوا في النشاطات الصناعية الأساسية أو الأولية، مثل سبك المعادن، نحو 7.7%. أما في صناعات المرحلة الوسطى أو المرحلة الثانية، مثل صناعات المعادن والنسيج والبناء، فقد بلغت نسبتهم 19,7%، وبلغت نسبة العاملين في صناعات المرحلة النهائية أو صناعات المرحلة الثالثة، مثل الأطعمة والمشروبات والتبغ والملابس، نحو 45,5%.
أما في جاليشيا، ففي المجموعة الأولى الأساسية نجد 9و5%، وفي المجموعة الوسيطة الثانية 14,5%، وفي المجموعة النهائية الثالثة 47,7%. والنمط نفسه يوجد في بولندا، ففي إحصاء عام 1921 نجد أن 1,5% من العمال اليهود يُوجَد في المناجم، و3,4% في صناعة المعـادن، و0,8% في صـناعات الآلات، و2,9% في الصـناعات الكيميائية، و2,9% في صناعة البناء، و5,9% في صناعة الأخشاب، و13,7% في صناعة النسيج، و43,6% في صناعة الملابس، و12,5% في صناعة الأغذية. وقد وُزِّعت البقية على كل الفروع الأخرى. ومعنى ذلك أن العمال اليهود يوجدون أساساً في الصناعات الاستهلاكية. وربما كان الاستثناء الوحيد للقاعدة هو فلسطين، حيث كان العمــال من المسـتوطنين الصهــاينة يعملــون في الصـناعات كافة، وكان هذا جزءاً من المخطط الإحلالي الذي أخذ شكل اقتصاد صهيوني منفصل يكتفي بالعمالة اليهودية. كما يُلاحَظ أنه في الاتحاد السوفيتي، بعد عام 1928، بدأ يتواجد العمال اليهود في جميع الصناعات بما في ذلك الصناعات الثقيلة. ولكن، مع هذا، ظل النمط الأساسي الذي أشرنا إليه سائداً.
وحيث إن العمال من أعضاء الجماعات اليهودية كانوا يتركزون في صناعات خفيفة، لذا نجد أن هذا انعكس على نفوذهم وثقلهم الذي ظل ضئيلاً، فمارسوا ضغطهم من خلال الاتحادات والأحزاب العمالية المختلفة القائمة، أي أنهم لم يشكلوا حركة عمالية يهودية مستقلة. ومع هذا، ظهر حزب البوند الذي حاول تنظيم العمال اليهود من المتحدثين باليديشية. ويُلاحَظ أن حزب البوند لم يكن يتحدث عن طبقة عاملة يهودية عالمية، وإنما كان يتحدث عن عمال يهود في شرق أوربا لهم ظروفهم الثقافية (وربما الاقتصادية) الخاصة، وهو الرأي الذي رفضه البلاشفة. ومع اختفاء الثقافة اليديشية، اختفى تماماً أي أساس لوجود تنظيم عمالي يهودي (يديشي) مستقل. وعلى كلٍّ لم يَعُد هناك عمال يهود في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أي أن أحفاد العمال من أعضاء الجماعات اليهودية دخلوا الجامعات وانخرطوا في صفوف المهنيين والطبقة الوسطى وحققوا حراكاً اجتماعياً ابتعد بهم عن إطار العمال والعمل اليدوي.
الحركة الشعبوية الروسية (نارودنكي)
Narodnichestvo (Narodniki)
«الحركة الشعبوية الروسية» حركة ظهرت بين فئة المثقفين الروس في الستينيات من القرن التاسع عشر وعُرفت باسم «نارود نيشيتفو»، وعُرف أتباعها باسم «النارودنيك» نسبة إلى «النارود» أو «الشعب العضـوي» (فولك) وسـنشير إليهم بمصطلح «الشعبويون الروس». وقد اشتد نشاط هذه الجماعة خلال السبعينيات ووصلت إلى ذروتها حينما قام جناحها الإرهابي باغتيال ألكسندر الثاني، قيصر روسيا، عام 1881. وعبَّرت هذه الحركة عن نفسها بالدعوة إلى « العودة إلى الشعب » حيث كان الشعبويون يسعون إلى الاختلاط والاندماج مع الشعب الكادح والعمل على تثويره وخدمة الفلاحين في مطالبهم ومصالحهم اليومية. وجمعت هذه الحركة بين الفكر الاشتراكي الغربي والفكر الماركسي ومفاهيمه حول فائض القيمة ورفض الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج من جهة، ومن جهة أخرى النزعة السلافية المشيحانية وإيمانها بالشعب الروسي، وخصوصاً جماهير الفلاحين، وبالفضائل الكامنة فيه. وفي حين كانت النزعة السلافية ترى أن سرَّ الحياة والحقيقة الدينية مستترة وكامنة في هذا الشعب، كان الشعبويون يؤمنون بأن الحقيقة الاجتماعية كامنة فيه، وأن هذه الحقيقة محجوبة عن الطبقات الحـاكمة المثقـفة التي تقـوم حيـاتها وثقافتها على استغلال عمل الشعب، وبالتالي فيجب على فئة الإنتليجنسيا (المثقفين) التي انفصلت عن الشعب، الذي يعيش ملتصقاً بالأرض، أن تعود إلى الشعب وإلى الأرض. كما آمن الشعبويون بطريق خاص لتطوُّر روسيا وأن بإمكانها الإفلات من مرحلة الرأسمالية البورجوازية وفظائعها والانتقال مباشرة إلى الاشتراكية الحديثة، خصوصاً أن حياة الفلاح تدور حول «الكوميون» أو القرية المشاعية التي مجَّدها الشعبويون مثلما مجَّدها قبلهم أنصار النزعة السلافية واعتبروها نتاجاً أصيلاً للتاريخ الروسي، والنمط المثالي أو الأعلى الذي يجب أن يحتذيه المجتمع بأسره في عمليات الإنتاج والتوزيع.
وانضم كثير من أعضاء الجماعات اليهودية من المثقفين إلى هذه الحركة، وكانوا من دعاة الاندماج الذين يؤمنون بأن حل المسألة اليهودية يأتي من خلال تحرير الجماهير الروسية أولاً، وبالتالي أعطوا أولوية للعمل الثوري داخل الإطار الروسي على العمل من أجل حل مشاكل اليهود. كذلك اعتبروا أن الجماعة اليهودية في روسيا في أغلبها طبقة بورجوازية من التجار والحرفيين المستغلين. وأكد بانيل أكسيلرود (1850 ـ 1928) ـ وهو من أهم المثقفين الروس اليهود من الشعبويين، إيمانه بأن المسألة اليهودية لن تُحَل إلا بتحرير الجماهير الروسية. ومن هذا المنطلق، شارك الثوريون اليهود الشباب الروسي في حركة «الذهاب إلى الشعب الروسي» والعمل الدعائي والتنويري بين جماهير الفلاحين.
وكما قال أحد الثوريين اليهود آنذاك: « نحن شعبويون روس، والفلاحون هم إخواننا الطبيعيون ». ولكي يكسبوا ثقة الفلاحين، قام الشعبويون من اليهود وغير اليهود بتعلُّم الزراعة والحرف والتعرف على التقاليد الشعبية للفلاحين وأسلوب حديثهم وارتدوا ملابسهم. بل ذهب بعض اليهود إلى أبعد من ذلك حيث اعتنق بعضهم المسيحية الأرثوذكسية (وذلك رغم أن فلسفة الحركة الشعبوية كانت فلسفة إلحادية ووضعية) حتى يوجدوا رابطة روحية بينهم وبين الفلاحين المتدينين، فالمسيحية الأرثوذكسية بالنسبة للشعبويين الروس كانت جزءاً من الفلكلور أو الميراث الثقافي الشعبي الروسي. ومن أبرز الشعبويين الروس اليهود جوزيف أبتكمان الذي اعتنق المسيحية، وكذلك ليف ديتش اليهودي المتروِّس الذي ارتدى ثياب الفلاحين وعمل بينهم في القرى الروسية. ولكن جهود الشعبويين لم تنجح في نهاية الأمر، فهم من ناحية تعرضوا للمطاردة والاعتقال والمحاكمات السياسية من قبَل السلطات. ومن ناحية أخرى، لم تتجاوب معهم جماهير الفلاحين التي وجدت أفكار المثقفين القادمين من المدن غريبة عليهم، كما كان افتقار الشعبويين إلى الدين من دواعي نفور الشعب الروسي المتدين منهم، والذي قام أفراده أنفسهم بتسليمهم إلى أيدي السلطات.
وتُعَدُّ سيرة حياة أكسيلرود وتأرجُحه بين الحلول الشعبوية والثورية من جهة والحل الصهيوني من جهة أخرى نمطاً متكرراً بين كثير من المثقفين الروس اليهود الثوريين. وأكسيلرود هو أحد مؤسسي الحزب الاشتراكي الروسي، وُلد في إقليم شيرنيجون وعاش طفولته في فقر شديد. وقد بدأ أكسيلرود نشاطه الثوري عام 1872 حينما كان طالباً في كييف، وانضم للحركة الشعبوية الروسية. ولكنه اضطر تحت وطأة الاضطهاد القيصري إلى الفرار عام 1874 إلى الخارج حيث عاش لفترة في برلين درس خلالها الحركة الاشتراكية الألمانية، ثم استقر في جنيف حيث واصل نشاطه الثوري. وكان على اتصال وثيق بمنظمة «الأرض والحرية» وقام بتحرير جريدتها. وقد تكونت هذه المنظمة السرية عام 1876 كرد فعل للمطاردة الحكومية.
وعلى صعيد العمل السياسي، اختلف الشعبويون فيما بينهم، إذ اجتمعت آراء الجناح المعتدل على أهمية العمل التنويري والدعائي بين جماهير الفلاحين من أجل تقويض النظام القيصري وفرض نظام ديموقراطي. ولكنهم اختلفوا حول كيفية تنفيذ ذلك المخطط، فآمن الفوضوي باكونين بأنه يكفي تحريض الشعب على الثورة دون أن تسبق ذلك مرحلة تعليم للشعب، وأن قوة الانتفاضات الفلاحية ستنتج عنها تحولات سياسية. أما لافروف، فكان يرى ضرورة تنوير الشعب وتعليم جماهير الفلاحين أولاً على أن تَعقُب ذلك الإصلاحات السياسية والثورة. أما الجناح الراديكالي، فدعا إلى الإطاحة بالنظام القيصري بالقوة واستيلاء أقلية ثورية على السلطة تفرض سلطانها على جماهير الشعب وتقوم بتعليمه وتنويره إلى أن يصل إلى مرحلة كافية من الثقافة والتعليم تسمح له بالمشاركة في الحكم.
وبعد أن أخفقت حركة المثقفين المتجهة صوب الشعب وتبددت أوهام الشعبويين الروس في الفلاحين، بدأت عودتهم إلى المدن. ومن هنا، بدأ التحول من النشاط السلمي إلى العنف والإرهاب. وقد عمَّق هذا التطور الخلافات بين الجناح المعتدل والجناح الراديكالي داخل الحركة وانتهى بانشقاقها عام 1879 حيث اتجه المعتدلون بقيادة أكسيلرود (الذي عارض اللجوء إلى العنف) وبليخانوف إلى تأسيس منظمة كانت تهـدف إلى توزيع أراضـي النبلاء على الفلاحـين. أما الجنـاح الراديكالي، فاتجه إلى تأسيس منظمة «إرادة الشعب» التي كانت تهدف إلى حل المشكلة السياسية بالقضاء على الملكية المطلقة والاستيلاء على السلطة بأقلية ثورية (عن طريق الإرهاب)، وقامت بتنفيذ سلسلة من الاغتيالات السياسية انتهت باغتيال ألكسندر الثاني في مارس 1881.
ولعب الشعبويون اليهود دوراً نشيطاً في هذه المرحلة أيضاً، خصوصاً في المجال التنظيمي والإداري، حيث ساهموا في تأسيس الحلقات الثورية وتوزيع المنشورات والمطبوعات السرية وتنفيذ عمليات الاغتيال. وكان من بينهم أعرون جوبيت الذي أُعدم عام 1879 بتهمة محاولة اغتيال ألكسندر الثاني، ومارك نيثانسون وأهارون زوندبليفيتش اللذان شاركا في تأسيس منظمة «الأرض والحرية»، وقد كان زوندبليفيتش عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة «إرادة الشعب». وكان من بين طلبة المعهد الحاخامي في فيلنو أولئك الذين انضموا إلى الحركة مثل أهرون ليبرمان وفلاديمير أيوخيلسون (وكان من دعاة استخدام الإرهاب كسلاح سياسي، وشارك في تنفيذ عمليتين إرهابيتين). كذلك شارك جريجوري جولدنبرج الذي كان عضواً في «إرادة الشعب» في العمليات الإرهابية ومات منتحراً عام 1880 بعد اعتقاله وبعد أن اعترف على رفاقه. أما هيسي هيلفمان، فأُدينت بالاشتراك في اغتيال ألكسندر الثاني عام 1881 وتوفيت في السجن.
وأعقب اغتيال ألكسندر الثاني عملية قمع واسعة للحركة أسرعت بأفولها وتمزُّقها. ومع ذلك، نجد أن كثيراً من ملامح الحركة الشعبوية الروسية وجدت طريقها إلى المنظمات اليهودية ذات النزعة القومية أو الصهيونية والتي بدأت تتشكل في تلك الفترة، وذلك في أعقاب ما شهدته أعوام 1881 - 1883 من تزايُد الاضطهاد والهجمات ضد الجماعات اليهودية نتيجة تعثُّر التحديث في روسيا (وهو ما أصاب جميع الأقليات أيضاً)، وقد آمنت هذه المنظمات ومن أهمها جمعيات أحباء صهيون بالنارود، أى الشعب العضوي الكادح، ولكنه في هذه الحالة، في تصوُّرهم، هو « الشعب اليهودي » فدعت إلى ضرورة الذهاب إلى هذا الشعب اليهودي، كما نادت بالعودة إلى الأرض (أي فلسطين) والعمل الزراعي والمشاعية.
ويُعتبَر الحزب الاشتراكي الثوري، الذي تأسَّس عام 1901، وريث الحركة الشعبوية وحزب «إرادة الشعب» الذي ساهم في تأسيسه حاييم جيتلويسكي. وقد حدثت تطورات في فكر أكسيلرود حيث وجد نفسه منجذباً نحو أفكار حركة أحباء صهيون ونحو ضرورة دعوة الشباب والمثقفين اليهود إلى " الذهاب إلى الشعب العضوي " (اليهودي) والعمل بين الجماهير اليهودية. وفي أوائل عام 1882، بدأ في تحضير منشور حمل عنوان "حول مهام الشباب اليهودي الاشتراكي" أعرب فيه عن تبدُّد أوهام الشباب الثوري اليهودي تجاه موقف الحركة الثورية الروسية بالنسبة لمشاكل الجماعة اليهودية في روسيا (وكان بعض زعماء الحركة قد أيَّدوا الهجمات ضد اليهود)، وأكد أن هذه الجماعة تشكل «أمة» وأنها تواجه كراهية قطاع واسع من الجماهير المسيحية بغض النظر عن الانتماءات الطبقية لأعضاء الجماعة.
ولكنه فسَّر هذه الكراهية في ضوء الوضع الاجتماعي والاقتصادي الخاص بالجماعة اليهودية في روسيا والذي تكَّون داخل سياق تاريخي معيَّن، حيث يشتغل قطاع واسع من أعضاء الجماعة في الأعمال الوسيطة غير المنتجة التي تنطوي على قدر كبير من استغلال الجماهير الروسية. وقد رأى أكسيلرود صعوبة تحـولهم إلى قطاعات منتجـة في ظل الأوضاع التي كانت قائمةً في روسيا، كذلك رأى صعوبة اندماجهم بين الجماهير الروسية الريفية أو العمالية التي اعتبرها أكثر تخلُّفاً من الناحية الثقافية بالمقارنة باليهود. ومن ثم، شجَّع فكرة الهجرة إلى الخارج سواء إلى الولايات المتحدة حيث يمكنهم التحول إلى طبقة منتجة، أو الانصهار مع السكان المحليين، أو الهجرة إلى فلسطين التي يمكن أن تكون « بفضل الميراث التاريخي، وطن اليهود الحقيقي ودولتهم الصغيرة الخاصة بهم ».
وهنا نلاحظ ميلاد الصهيونية الاشتراكية (على طريقة بوروخوف) من رحم الأفكار الشعبوية والثورية الروسية، تماماً كما وُلدت الصهيونية التنقيحية من رحم الفاشية الأوربية، والصهيونية الدبلوماسية من رحم الليبرالية الغربية، وكما وُلدت مدارس الصهيونية كلها من رحم الإمبريالية الغربية والاستعمار الاستيطاني الغربي. وواجهت آراء أكسيلرود هذه معارضة شديدة من رفاقه ومن بينهم رفاقه اليهود، وخصوصاً ليف رايتش الذي أكد أولوية العمل الثوري الاشتراكي على أية اعتبارات إثنية أو قومية أخرى، ونجح في إقناع أكسيلرود بالعدول عن موقفه، والذي حسم أمره في نهاية الأمر لصالح الاتجاه الثوري الاندماجي وتحوَّل تماماً إلى الماركسية وأصبح من المعارضين لكل من حزب البوند والصهيونية.
وفي عام 1883، شارك أكسيلرود في تأسيس حركة تحرير العمل التي تحوَّلت بعد ذلك إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي، وشارك في تحرير جريدة الحزب (إيسكرا). وبعد انشقاق الحزب عام 1903، انضم أكسيلرود إلى المناشفة وأصبح أحد زعمائهم، وعاد إلى روسيا عقب ثورة فبراير عام 1917. وبعد قيام الثورة البلشفية، اعتزل أكسيلرود العمل السياسي واستقر في برلين حيث ظل معارضاً للنظام البلشفي واتهمه بأن «ديكتاتورية البروليتاريا» التي زعم أنه أقامها ما هي إلا ديكتاتورية مفروضة على البروليتاريا. وقد أصدر عدداً من الأعمال حول الفكر الاشتراكي الديموقراطي إلى جانب مذكراته التي صدرت عام 1922 تحت عنوان حياتي وأفكاري.
البوند (حزب)
The Bund
«بوند» كلمة يديشية معناها «الاتحاد»، وهي الكلمة الأولى في عبارة « الاتحاد العام للعمال اليهود في روسيا وبولندا وليتوانيا ». وهو أهم التنظيمات الاشتراكية اليهودية في شرق أوربا. وقد تأسَّس الحزب داخل منطقة الاستيطان في مقاطعات ليتوانيا وروسيا البيضاء التي كانت تتميَّز بوجود عمال يهود متركزين بأعداد كبيرة نسبياً في الصناعات. كما أن الكثافة السكانية اليهودية ككل كانت عالية إلى حدٍّ ما، الأمر الذي كان يعني عزلة اليهود عن بقية السكان. وعُقد الاجتماع التأسيسي للحزب سراً في فلنا في أكتوبر عام 1897، أي بعد مرور أقل من شهرين على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول. وحضر الاجتماع ثلاثة عشر مندوباً كان من بينهم ثمانية عمال. وكان الحزب يُعَدُّ أكبر الأحزاب اليهودية وأكثرها جماهيرية، فكان يضم في صفوفه جماهير يهودية يفوق عددها عدد أعضاء المنظمة الصهيونية في شرق أوربا بل في العالم كله. فقد كان عدد أعضاء حزب البوند في الفترة 1903 ـ 1905 ما بين 25 و35 ألفاً، وقيل إن العدد قد وصل إلى 40 ألفاً عام 1905.
ويُقسَّم تاريخ حزب البوند في العادة إلى مرحلتين. ويمكن تقسيم المرحلة الأولى بدورها إلى فترتين، وقد سيطرت في الفترة الأولى من المرحلة الأولى عناصر ثورية من المثقفين على قيادات الحزب. ويُلاحَظ أن برنامج الحزب في سنواته الأولى لم يكن له توجُّه محلي أو يهودي واضح، فكانت قيادته ترى أنه حزب اشتراكي روسي يضطلع بمهمة التجنيد الثوري في القطاع اليهودي للطبقة العاملة. وتقبَّل الحزب يهودية العمال اليهود ولغتهم اليديشية بوصفها مجرد حقائق تؤخذ في الاعتبار. ولذا، أكد الحزب في برنامجه أهمية اللغة اليديشية باعتبارها إحدى الوسائل العملية للوصول إلى الجماهير اليهودية. ولكنه رفض من البداية أية تصورات صهيونية لقومية يهودية عالمية، وطرح بدلاً من ذلك مفهوماً كان يُشار إليه بكلمة «دوإكييت» اليديشية والتي تعني «هنا»، أي الاهتمام بأوضاع أعضاء الجماعة اليهودية (هنا) في شرق أوربا خارج أي إطار يهودي عالمي وهمي. ولذا، كان البوند يعارض التعاون مع الحركات العمالية اليهودية في البلاد الأخرى (وقد ظل الالتزام بهذا المفهوم أحد ثوابت النظرية البوندية). بل إن حزب البوند كان يرى أن وجود حركة عمالية يهودية مستقلة هو مرحلة مؤقتة انتقالية، وأن الهدف النهائي هو الاندماج في الشعب الروسي (أو البولندي).
وفي هذا الإطار، أكد الحزب التزامه بالماركسية واهتمامه بالمصالح العامة للطبقة العاملة ككل بصفة أساسية وبالمصالح الخاصة بالعمال اليهود بالدرجة الثانية، وانضم إلى الحزب العمالي الديموقراطي الاشتراكي الروسي عام 1898، وكان البوند أحد مؤسسي هذا الحزب. وقد كان عدد المندوبين في اللجنة التأسيسية للحزب تسعة من بينهم ثلاثة من أعضاء البوند. وقام الحزب بنشاطات واسعة ذات طابع سياسي في صفوف العمال من أعضاء الجماعات اليهودية الذين كانت تتزايد أعدادهم بسبب تزايُد معدلات التحديث الاقتصادية والتصنيع في روسيا وتعثُّرها من الناحية الاجتماعية مع نهاية القرن. وأدَّى نجاحه في نشاطه إلى تأليب النظام الروسي القيصري ضده.
وفي هذه الآونة، كان المفكران الروسيان اليهوديان سيمون دبنوف وحاييم جيتلوسكي قد صاغا نظريتهما عن قومية الدياسبورا (أو بتعبير أدق قوميات الجماعة اليهودية، وربما أيضاً: القومية اليديشية). وتذهب هذه النظرية إلى أن ثمة ثقافات يهودية مستقلة عن بعضها البعض وعن الحضارات التي يتواجد داخلها اليهود، وأن استقلال اليهود الثقافي النسبي عن محيطهم الحضاري لا يعني ارتباطهم جميعاً على مستوى يهودي عالمي. وأكد دبنوف أن الجماعة اليهودية في شرق أوربا (أي يهود اليديشية) لها هوية ثقافية مختلفة عن الهويات اليهودية الأخرى التي نشأت في أماكن وأزمنة أخرى، وأن هذه الهوية تستحق الحفاظ عليها وتطويرها على أرض شرق أوربا ذاتها دون الحاجة إلى الهجرة إلى فلسطين، وهي الهجرة التي كانت تتم في إطار تصوُّر وجود هوية يهودية عالمية واحدة.
ووجدت هذه النظرية صدى لدى قيادات البوند، خصوصاً أن التأكيد على الخصوصية اكتسب شيئاً من الشرعية الماركسية من القرار الذي اتخذه الحزب الديموقراطي الاشتراكي في النمسا، والذي بمقتضاه غيَّر الحزب بنيته من حزب مركزي إلى حزب فيدرالي قومي يتفق بناؤه مع التعددية القومية التي كانت تسم النمسا آنذاك. كما أن الواقع الفعلي لكثير من أعضاء الحزب كان يؤكد أنهم أقلية قومية شرق أوربية (يديشية) لها لغتها وهويتها الثقافية الخاصة. وقد ساهم التحديث المتعثر في روسيا القيصرية في هذه الآونة في دعم هذه الهوية وفي تعميق كثير من أبعادها، ولعل هذا يُفسِّر سبب تَرعرُع الثقافة اليديشية وازدهارها. وقد أعلن البوند في مؤتمره الرابع عام 1901 أن اليهود يشكلون أقلية إثنية لا دينية وأن مصطلح أمة (كما هو مستخدم في روسيا) ينطبق عليهم.
وهنا تبدأ الفترة الثانية من المرحلة الأولى، حيث دعا الحزب إلى إعادة تأسيس روسيا كاتحاد فيدرالي من القوميات مع إدارة ذاتية قومية كاملة لكل أمة دون إشارة إلى الإقليم الذي تسكنه. ومع هذا، تقرر ألا يقوم البوند بحملة من أجل الإدارة الذاتية اليهودية حتى لا يتضخم الشعور القومي لدى أعضــاء الجـماعة اليهودية، الأمر الذي قد يمُـيِّع الوعي الطبـقي للعمـال. ولكن هـذا التحفظ الأخير لم يُطبَّق، وأُلغي رسمياً في المؤتمر السادس (عام 1905). وكان البوند قد أكد في مؤتمره الخامس (عام 1903) حقه كممثل للعمال اليهود في أن يضيف إلى برنامج الحزب الاشتراكي الديموقراطي العام مواد لا تتعارض مع ذلك البرنامج، وتتوجه في الوقت نفسه إلى مشاكل العمال اليهود الخاصة. واقترح البوند على مؤتمر الحزب الاشتراكي عام 1903 الاعتراف بأعضاء الجماعة كأقلية قومية روسية لها حق الإدارة الذاتية مثل بقية الأقليات. لكن الطلب رُفض، فانسحب ممثلو البوند.
ويُلاحَظ تذبذب البونديين بين نظرتين إلى أعضاء الطبقة العاملة من اليهود، إحداهما ترى أنهم يشكلون طبقة عاملة يهودية ذات هوية يهودية شرق أوربية محلية أي يديشية، ولذا لا يمكن دمجها بشكل كامل في الطبقة العاملة الروسية. ويرى الموقف الآخر (البلشفي) أن ثمة طبقة عاملة روسية، وأن العمال اليهود هم جزء لا يتجزأ منها، ومن ثم يكون حل مشكلة اليهود القومية والطبقية هو الاندماج. ويدل تذبذب قيادة البوند على مدى ذكائهم الحضاري ومدى التصاقهم بجماهيرهم التي كانت لها هوية مستقلة آخذة في التبلور.
فهذه الجماهير كانت كتلة بشرية كبيرة تَصلُح أساساً لتطوير شخصية قومية شرق أوربية يديشية مستقلة. ولكن، لأن هذه الهوية ليست متبلورة وإنما آخذة في التبلور، طرح فلاديمـير ميـديم (1879ـ 1923)، أحـد منظـري الحزب، فكـرة " الحياد " التي تذهب إلى أنه لا يمكن تحديد الشكل الذي سيحقق من خلاله أعضاء الجماعة اليهودية في شرق أوربا بقاءهم، فهم قد يحتفظون بهويتهم وقد يندمجون في محيطهم الثقافي.
وتصبح مهمة البوند بالتالي هي أن يحارب من أجل التوصل إلى إطار سياسي يضمن حرية التطور لكل من الاتجاهين، وألا يتخذ أية خطوات من شأنها أن تساعد على الاستمرارية الإثنية أوعلى عمليات التذويب. ولذا، لم تستمر القطيعة طويلاً مع الحزب الديموقراطي الاشتراكي وعاد البوند إلى التحالف معه عام 1906. وبعد أن مارس الحزب نشاطه بشكل علني بعد ثورة 1905، وسَّع نشاطاته ووصل إلى قطاعات كبيرة من أعضاء الطبقة العاملة من اليهود. ولكنه بدأ ينتكس بعد عام 1908 (وهي الفترة التي شـهدت المـد الرجعي في روسـيا) حيث قُبض على رؤسـاء الحزب وتم نفيهم، وانحصر اهتمام الحزب لبعض الوقت في الأمور الثقافية مثل اليديشية، واشترك في عدة مؤتمرات ومؤسسات ثقافية ذات طابع يهودي روسي عام مثل جمعية تنمية الثقافة بين يهود روسيا.
ورغم تأكيد البوند الهوية اليديشية، وربما بسبب هذا، نجده يقف في حزم ضد الرؤية الصهيونية للقومية اليهودية العالمية التي تضم اليهود في كل زمان ومكان. وقد بيَّن البوند أن المشروع الصهيوني لن يؤدي إلى حل المسألة اليهودية لأن الدولة الصهيونية لن تستوعب كل يهود العالم، كما أنها تُفقد يهود العالم حقهم في المطالبة بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والمدنية حيثما وجدوا. ذلك بالإضافة إلى أن إنشاء هذه الدولة يجعل الصراع بين اليهود والعرب أبدياً، كما أن بقاءها يعتمد على رضا يهود الغرب. وقد بيَّن البوند أن الافتراض الصهيوني بأزلية معاداة اليهود بين الأغيار يهدف إلى تمييع الصراع الطبقي وإعاقة تطوُّر شعور المواطنة لدى اليهود وإلى تقوية عقلية الجيتو.
وتبدأ المرحلة الثانية في تاريخ الحزب بحدوث تغيير أساسي في صفوف الحزب في تلك الآونة، إذ انسحب المثقفون من قيادته، وأصبحت أغلبية أعضائه وقياداته من العمال. وزاد التركيز على خصوصية العمال اليهود وعلى خصوصية وضعهم. ولذا، كانت لغة المؤتمر العاشر للحزب (عام 1910) هي اليديشية، كما اتُخذت قرارات تدعو إلى استخدام هذه اللغة في المدارس والمؤسسات وإلى اشتراك الحزب في انتخابات الدوما (البرلمان) لعام 1912. وحينما حدث الانشقاق بين البولشفيك والمنشفيك، انضم البوند إلى المنشفيك لقبولهم مبدأ الإدارة الذاتية، ولأن لينين والبلاشفة بشكل عام رفضوا فهم البوند للمسألة اليهودية (أو المسألة اليديشية) ولخصوصية وضع العمال من يهود اليديشية.
وبعد اندلاع الثورة عام 1917، زادت عضوية البوند بسرعة ووصلت إلى خمسة وأربعين ألف عضو. ولكن أعداداً كبيرة منهم انضمت إلى الحزب الشيوعي، وكوَّن بعض أعضاء الحزب في أوكرانيا حزباً بوندياً شيوعياً، ولكن أعضاءه انضموا أيضاً إلى الحزب الشيوعي بعد تصاعُد الهجمات ضد أعضاء الجماعة اليهودية. وتم القضاء على ما تبقى من البوند عام 1919.
وهاجرت شرذمة صغيرة من البوند إلى برلين بعد الثورة، واستمرت في نشاطها الحزبي وأصدرت مجلة.ولم يبق من الحزب سوى أرشيفه الذي نُقل إلى جنيف عام 1927 ثم إلى باريس عام 1933.
وكانت هناك أحزاب بوند في أماكن أخرى من بينها جاليشيا ورومانيا، ولكن أهم هذه الأحزاب هو حزب البوند في بولندا الذي استقل في نشاطاته حين عُزل عن روسيا نتيجة اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد ازداد الحزب راديكالية في بولندا، وانضم إلى الحزب الاشتراكي اليهودي في جاليشيا عام 1919. ثم انضم الحزبان إلى الكومنترن، الأمر الذي تسبَّب في قمع الحكومة لهما. واختفى حزب البوند بين عامي 1920 و1924،ولكنه حينما عاود الظهور في عام 1924 أصبح أكبر حزب عمالي يهودي في بولندا، فأصدر مجلة أسبوعية وأخرى شهرية وجريدة يومية وبلغت عضويته سبعة آلاف (ويُقال 12 ألفاً) إلى جانب منظمة شبابية كانت تضم عشرة آلاف عضو.
ولعب حزب البوند دوراً مؤثراً في الحياة السياسية في بولندا. فاستمر في حربه ضد الصهيونية واليهودية الأرثوذكسية، وكان يحصل على أغلبية الأصوات في انتخابات اتحادات نقابات العمال اليهـود التي كانت تضـم نحـو تسـعة وتسـعين ألف عامل في عام 1939. وساهم الحزب في تأسـيـس منظـمة المدارس اليديشية المركزية، كما كان يسيطر على نحو 80% من كل المؤسسات التعليمية اليديشية. واستمر البوند في معارضته للعبرية.
ووصل البوند في بولندا إلى قمة نفوذه السياسي بين عامي 1936 و1939، حين حصل على أغلبية أصوات اليهود في انتخابات البلديات، نظراً لأنه كان ينظم الجماهير اليهودية وغير اليهودية في الحرب ضد معاداة اليهود. وبعد الاحتلال النازي، اشترك البوند في المقاومة ضده. وقد تم القضاء على البوند مع تصفية معظم أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا على يد النازيين.
ويُلاحَظ أن حزب البوند لايزال له فروع في الولايات المتحدة وبريطانيا تضم كبار السن من نشطاء الحزب السابقين في بولندا وروسيا. وقد كوَّنت البقية الباقية من أعضائه وفروعه اتحاداً عالمياً له هيئة تنفيذية مقرها نيويورك، وقد عقدت هذه الهيئة مؤتمراً عاماً في أبريل عام 1965، والمنظمة عضو في الاشتراكية الدولية. ولا يزال الحزب يرفض الفكر الصهيوني ويحاول أن يأخذ موقفاً محايداً من الصراع العربي الإسرائيلي. ورغم الجماهيرية الواضحة للبوند أثناء فترة نشاطه، سواء في روسيا أو في بولندا، فإن أثره في تواريخ أعضاء الجماعات كان محدداً.
ولعل هذا يعود إلى عدة أسباب:
1 ـ ارتبط البوند من البداية بثقافة اليديشـية التي ازدهـرت لفترة محدَّدة، بسبب تعثُّر التحديث في شرق أوربا بعد عام 1880، وحتى في هذه الفترة كان عدد المتحدثين باليديشية آخذاً في التناقص.
2 ـ يحوي برنامج حزب البوند جوانب اندماجية عديدة، ولذا فإن الاختفاء هو في واقع الأمر جزء من البرنامج وتحقق له.
3 ـ أدَّت عملية التصنيع والتحديث، بعد الثورة البلشفية، إلى تصفية التجمعات اليهودية الكثيفة وإلى انتشار أعضاء الجماعات في روسيا، كما أدَّت الإبادة النازية إلى الشيء نفسه بالنسبة لبولندا، الأمر الذي أدَّى إلى تصفية القاعدة الجماهيرية للحزب في البلدين.
4 ـ تولت الدولة السوفيتية، بنفسها، تنفيذ الجانب الثقافي لبرنامج البوند. فاعترفت باللغة اليديشية بوصفها إحدى اللغات الرسمية، وشجعت دراستها، وأنشأت العديد من المؤسسات الثقافية اليديشية، ثم أنشأت أخيراً مقاطعة بيروبيجان وهي التنفيذ العملي للبرنامج البوندي. وإذا كانت اليديشية آخذة في الاختفاء وإذا كان مشروع بيروبيجان لم ينجح، فإن هذا يعود إلى الطبيعة المؤقتة للنهضة الثقافية اليديشية وإلى أن أعضاء الجماعة آثروا الاندماج وما يتبعه من حراك اجتماعي سريع على الاحتفاظ بخصوصيتهم اليديشية. وعلى كلٍّ، فقد كان منظرو البوند غير متأكدين منذ البداية من أن الهوية اليديشية ستنمو وتزدهر، ولذا طالبوا بإطار منفتح يسمح بتطوُّر هوية أعضاء الجماعة إما نحو مزيد من الاندماج أو نحو مزيد من الضمور ثم الاختفاء، وتركوا النتيجة ليحددها مسار التاريخ نفسه. ويبدو أن البديل الثاني هو الذي كتب له أن يتحقق.
يتبع إن شاء الله...