منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)


IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 العلمانية الشاملة: تعريف

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 51967
العمر : 72

العلمانية الشاملة: تعريف Empty
مُساهمةموضوع: العلمانية الشاملة: تعريف   العلمانية الشاملة: تعريف Emptyالأحد 10 نوفمبر 2013, 11:00 pm

العلمانية الشاملة: تعريف
العلمانية الشاملة: تعريف 82815_large
العلمانية الشاملة (التي يمكن أن نسميها أيضاً «العلمانية المادية» أو «العلمانية العدمية») هي رؤية شاملة للعالم، عقلانية مادية، تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية، التي ترى أن مركز الكون كامن فيه، غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسره مُكوَّن أساساً من مادة واحدة، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات أو التَفرُّد أو المطلقات أو الثوابت. هذه المادة تشكل كلاًّ من الإنسان والطبيعة، فهي رؤية واحدية كونية مادية.

هذه الواحدية المادية تعني في واقع الأمر ما يلي:

1 ـ أن العالم (الإنسان والطبيعة) كيان بسيط متماسك بشكل عضوي مصمت، أحادي البُعد، ليست له أية أبعاد جوانية، وإن وُجدت له مثل هذه الأبعاد فلا أهمية لها، يسري عليها قانون طبيعي مادي واحد يترجم نفسه إلى عدة قوانين مطردة مترابطة لا هدف لها ولا غاية.

2 ـ الإنسان جزء عضوي لا يتجزأ عن الكل المادي، لا توجد مسافة تفصل بينهما، ومن ثم لا يوجد حيز إنساني مستقل يتحرك فيه الإنسان بقدر من الاستقلال والحرية. كل هذا يعني أن الإنسان ليس له حدود مستقلة وليس عنده وعي مستقل أو مسئولية أخلاقية مستقلة، فالعلمانية الشاملة تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان (مقابل النزعة الربانية).

3 ـ العالم المُعطَى لحواسنا يحوي داخله ما يكفي لتفسيره والتعامل معه، وعقل الإنسان قادر على استخلاص المنظومات المعرفية، بل الأخلاقية والجمالية، اللازمة لإدارة حياته العامة والخاصة، وإعادة صياغة البيئة المادية والاجتماعية المحيطة به، بل ذاته من الداخل والخارج، من خلال ملاحظة العالم الطبيعي المادي وقوانين الحركة الكامنة فيه، دون الإهابة بأية مرجعية متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/المادة.

4 ـ هذا ما يُسمَّى «عملية الترشيد» (وأحياناً «التحديث» وربما «التغريب») في ضوء المعايير العقلية المادية والطبيعية المادية، وهي، في واقع الأمر، عملية تدجين للإنسان. والمفروض أن عملية الترشيد هذه ستتزايد على مر الأيام فيتزايد تَحكُّم الإنسان في ذاته وبيئته، فكل شيء في العالم قابل للوصف والتقنين والتوظيف والحوسلة، وضمن ذلك الإنسان نفسه، فهو قابل لأن يتحول إلى مادة استعمالية لا قداسة لها ولا أسرار.

والعلمانية الشاملة، بهذا المعنى، ليست مجرد فصل الدين أو الكهنوت أو هذه القيمة أو تلك عن الدولة أو عما يُسمَّى «الحياة العامة»، وإنما هي فصـل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسـانية (المتجاوزة لقوانين الحركة والحواس) عن العالم، أي عن كلٍّ من الإنسان (في حياته العامة والخاصة) والطبيعة بحيث يصبح العالم مادة نسبية لا قداسة لها.

5 ـ إن أردنا استخدام نموذج الحلولية الكمونية التفسيري قلنا إن العلمانية الشاملة هي وحدة الوجود المادية التي لا تختلف عن وحدة الوجود الروحية إلا في تسمية المبدأ الواحد الكامن، فبينما يُسمَّى هذا المبدأ الواحد «الإله» في وحدة الوجود الروحية، فهو يُسمَّى «الطبيعة/المادة» في وحدة الوجود المادية.

والعلمانية الشاملة تتسم، شأنها شأن كل النظم الحلولية الكمونية المادية، بأنها متتالية تمر بمرحلتين أساسيتين: مرحلة ثنائية صلبة (تَمركُز حول الذات الإنسانية والواحدية الذاتية والإمبريالية وتَمركُز حول الموضوع الطبيعي/المادي والواحدية الطبيعية/المادية)، وهذه هي مرحلة التحديث البطولية الصلبة وحلم التجاوز المادي، مرحلة الذات والموضوع المتماسكين والمركز المادي (الإنساني أو الطبيعي) ومن ثم فهي مرحلة العقلانية المادية. ثم تأتي المرحلة الثانية مرحلة الواحدية الشاملة السائلة (حين تُصفَّى الذات الإنسانية ويُقوِّض نموذج الطبيعة/المادة). وهذه هي مرحلة ما بعد الحداثة البرجماتية واختفاء الذاكرة والرغبة في التجاوز، مرحلة اختفاء الذات والموضوع ومن ثم اختفاء المركز (الإنساني والطبيعي) ومن ثم فهي مرحلة اللاعقلانية المادية.

ونحن نذهب إلى أن العلمانية (الشاملة) والإمبريالية صنوان. فرغم أن الإنسان الغربي بدأ مشروعه التحديثي بالنزعة الإنسانية (الهيومانية) التي همَّشت الإله ووضعت الإنسان في مركز الكون، إلا أنها شأنها شأن أية فلسفة علمانية شاملة (تدور في إطار المرجعية الكامنة المادية) ترى أن الإنسان هو إنسان طبيعي/مادي يضرب بجذوره في الطبيعة/المادة، لا يعرف حدوداً أو قيوداً ولا يلتزم بأية قيم معرفية أو أخلاقية، فهو مرجعية ذاته ولكنه في الوقت نفسه يتبع القانون الطبيعي ولا يلتزم بسواه ولا يمكنه تَجاوُزه. ولذا، فهو في واقع الأمر كائن غير قادر إلا على التمركز حول مصلحته (منفعته ولذته) المادية وبقائه المادي (فالإنسانية مفهوم أخلاقي مطلق متجاوز لقوانين المادة) وغير قادر على الاحتكام لأية أخلاقيات إلا أخلاقيات القوة المادية. 

ولذا، فبدلاً من مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض في الكون، وبدلاً من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض، وبدلاً من ثنائية الإنسان والطبيعة وتأكيد أسبقية الأول على الثاني تظهر ثنائية الإنسان الأبيض مقابل الطبيعة المادية وبقية البشر الآخرين (الذين يصبحون جزءاً لا يتجزأ منها) وتأكيد أسبقيته وأفضليته عليهم، وبدلاً من الاحتكام للقيم الإنسانية تُستخدَم القوة، ويصبح هم هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها وتوظيفها لحسابه واستغلالها بكل ما أوتي من إرادة وقوة.

من هذا المنظور، يمكن القول بأن العلمانية الشاملة هي النظرية وأن الإمبريالية هي الممارسة، ولكن الممارسة أخذت شكلين مختلفين باختلاف المجال (ومن ثم تمت تسميتهما كما لو كانا ظاهرتين منفصلتين لا علاقة للواحدة منهما بالأخرى):

الإمبريالية في الداخل الأوربي التي أخذت شكل الدولة العلمانية الرشيدة (الملكيات المطلقة ـ الدول الديموقراطية منذ الثورة الفرنسية ـ الحكومات الشمولية).

الإمبريالية في بقية العالم التي أخذت أشكالاً كثيرة (الاستعمار الاستيطاني ـ الاستعمار التقليدي ـ الاستعمار الجديد ـ النظام العالمي الجديد).

وفي تصوُّرنا أن أفضل طريقة لتناول قضية العلمانية والعلمنة هي قضية المرجعية (كامنة أم متجاوزة). فالعلمانية (الشاملة) قد لا تكون إلحادية أو معادية للإنسان على مستوى القول والنموذج المعلن (فهي قد لا تنكر وجود الخالق أو مركزية الإنسان في الكون أو القيم المطلقة، الإنسانية أو الأخلاقية أو الدينية، بشكل صريح ومباشر). ولكنها على المستوى النماذجي الفعال ومستوى المرجعية النهائية، تستبعد الإله، وأية مطلقات، من عملية الحصول على المعرفة ومن عملية صياغة المنظومات الأخلاقية، كما تستبعد الإنسان من مركز الكون بشراسة وبحدة وتنكر عليه مركزيته وحريته.

الجزء الخامس: الجماعات الوظيفية
الباب الأول: السـمات الأسـاسية للجماعات الوظيفية
الجماعات الوظيفية: مقدمة

«الجماعات الوظيفية» نموذج تحليلي يمكن أن نصفه بأنه قديم/جديد. فهو "قديم" باعتبار أن كثيراً من المفكـرين في الغرب قد اسـتخدموه دون تسـميته (كارل ماركس وماكـس فيبر وأبراهــام ليون) وفي غيره من المواضع، وباعتبار أنه كامن في كثير من الدراسات التي كُتبت عن الجماعات اليهودية وغيرها من الأقليات (مثل الأرمن). فكاتب مثل شكسبير في تاجر البندقية يصف شيلوك في عبارات تبيِّن أن الكاتب الإنجليزي العظيم قد أدرك بشكل فطري كثيراً من ملامح الجماعة الوظيفية. كما أن كثيراً من الكتابات الصهيونية (وبخاصة كتابات الصهاينة العماليين) قد أدركت ملامح الجماعة الوظيفية. ونحن نذهب إلى أن كلاسيكيات معاداة اليهود مثل بروتوكولات حكماء صهيون حينما تصف "اليهودي" إنما تصف عضو الجماعة الوظيفية.

وأخيراً يمكن القول بأنه مفهوم "قديم" باعتبار أن هناك محاولات في علم الاجتماع الغربي لوصـف "بعـض" الجماعات الوظيفية من خلال مجموعة من المصطلحات، من بينها: «الأقلية الوسيطة» ـ «الشعوب التجارية الوسيطة» ـ «الوسطاء المهاجرون» ـ «الشعوب التجارية الهامشية» ـ «الأقليات الدائمة». 

ورغم أهمية هذه المحاولات ورغم ارتفاع مقدرتها التفسيرية فيمكن ملاحظة ما يلي:

1 ـ ركَّز العلماء والدارسون الغربيون، حبيسو التجربة الغربية، جُلَّ اهتمامهم ـ كما هو مُتوقَّع ـ على جماعتين وظيفيتين أساسيتين:

أ ) الجماعات الإثنية التي تضطلع بدور مالي تجاري من خلال رأس المال البدائي أو الربوي في المجتمعات القديمة والوسيطة. وهذا يشكل جزءاً من اهتمام العلماء والدارسين الغربيين بتاريخ الرأسمالية في العالم الغربي.

المهاجرون بانتمائهم الإثني والوظيفي المتميِّز، وهذا يشكل جزءاً من اهتمام العلماء والدارسين الغربيين بمشكلة أساسية تواجهها المجتمعات الغربية الحديثة.

2 ـ أهمل علماء الاجتماع الغربي الجماعات الوظيفية الأخرى فلم يدرسوها تماماً أو قاموا بدراستها وكأنها لا علاقة لها بالجماعات الوظيفية التجارية والمالية، ولذا فهم يتعاملون مع ظواهر مثل الخصيان والجواري والمماليك والإنكشارية والبغايا باعتبارها ظواهر غير ذات صلة. بل إنهم يتعاملون مع ظواهر تُوجَد في داخل المجتمع الغربي نفسه، مثل المرتزقة والعاهرات، باعتبارها ظواهر لا علاقة لها بظاهرة الجماعات الوظيفية.

3 ـ أهمل علماء الاجتماع الغربيون الجانب غير الاقتصادي من الجماعات الوظيفية (مثل علاقتهم بالعلمانية الشاملة وميلهم نحو الحلولية الكمونية وتمركزهم حول ذاتهم ورؤيتهم للكون) إذ تعرَّضوا لها بشكل سطحي.

لكل هذا لم تظهر دراسة واحدة شاملة لهذا الموضوع تجمع كل ملامحه وتحوُّله إلى نموذج تفسيري يتسم بقدر معقول من الشمول والتركيب كما نفعل في نموذج الجماعات الوظيفية الذي نطرحه. وقد استفدنا في هذه الدراسة ولا شك من كل الدراسات السابقة والنماذج التفسيرية الجزئية (الكامنة والظاهرة) المطروحة. ولكننا حاولنا تجاوزها جميعها لا عن طريق رفضها وإنما عن طريق مزجها وربطها الواحدة بالأخرى. كما ربطنا بينها وبين نماذج تفسيرية أخرى لظواهر أخرى، وجرَّدنا من كل هذا نموذجاً تحليلياً واحداً (نموذج الجماعة الوظيفية)، الذي يتسم ـ في تصوُّرنا ـ بقدر أعلى من المرونة والشمول والتركيب من عائلة النماذج الجزئية التي أشرنا لها من قبل. وبعد ذلك قمنا بوصف الملامح الأساسية لهذا النموذج وأسباب ظهوره وتحولاته وبيَّنا أنه نموذج يتجاوز الأبعاد الاقتصادية والسياسية المباشرة ليصل إلى الأبعاد الحضارية والمعرفية، وأنه يُغطي الأصول الاجتماعية والتاريخية والإثنية للظواهر موضع الدراسة وسماتها البنيوية ومسارها التاريخي ورؤية أعضائها للكون.

ومفهوم الجماعة الوظيفية نموذج تركيبي مكثَّف له مقدرة تفسيرية عالية تفوق المقدرة التفسيرية لكثير من النماذج التفسيرية السابقة (مثل مفهوم الطبقة ومفهوم الجماعة الوسيطة) وذلك للأسباب التالية:

1 ـ تظهر المقدرة التفسيرية لمفهوم الجماعات الوظيفية حينما نتعامل لا مع التشكيلات الكبرى (عمال ـ فلاحين ـ رأسماليين) وإنما مع التشكيلات الأصغر مثل الجماعات الهامشية والأقليات الحرفية. بل نجد أن التعامل مع التشـكيلات الكبرى قـد يصـبح أكثر دقة وتركيبية إن قَسَّمنا الرأسماليين إلى رأسـماليين أجانب ورأسماليين محليين، إذ نجد أن النوع الأول، في أغلب الأحيان، جماعة وظيفية منفصلة عن المجتمع، بينما نجد أن الثاني جزء عضوي منه. والواقع أن هذا الانفصال وذاك الاتصال يحددان خيارات كل فريق وسلوكه. فمفهوم الجماعة الوظيفية، مثله مثل مفهوم الطبقة، يؤكد أهمية العناصر الاقتصادية، ولكنه يتعامل في الوقت نفسه مع عوامل أخرى مثل: المكانة ـ الثقافة ـ الرؤية ـ علاقة الأقلية بالأغلبية ـ النسق القيمي... إلخ.

2 ـ يقوم مفهوم الجماعات الوظيفية بالربط بين الجماعات الوسيطة (المالية والتجارية) وبين كثير من الجماعات الأخرى التي استبعدها مفهوم الجماعات الوسيطة. ومن ثم فهو يربط بين كثير من الظواهر في مجتمعات مختلفة وفي حقب تاريخية مختلفة.

3 ـ يمكن تطويع نموذج الجماعات الوظيفية بحيث يمكن تطبيقه على كثير من المجتمعات الشـرقية والغربية، في الماضي والحاضر.

4 ـ يسترجع مفهوم الجماعات الوظيفية مفهوم الإنسانية المشتركة الذي تم استبعاده إلى حدٍّ كبير من العلوم الإنسانية في الغرب. ونحن نذهب إلى أن ظاهرة الجماعة الوظيفية ظاهرة عالمية، فهي مُتجذِّرة في النزعتين الأساسيتين في الطبيعة البشرية: النزعة الجنينية (النزوع نحو الذوبان في الكل الطبيعي/المادي) والنزعة الربانية (أي النزوع نحو تجاوز حدود الطبيعة/المادة). 

فإذا كانت الجنينية نزعة نحو إسقاط الهوية والحدود ونزع القداسة وإنكار التجاوز ومساواة الإنسان بالمادة حتى يصبح إنساناً طبيعياً/مادياً يُعرَّف في ضوء وظائفه المادية، يفقد استقلاليته عن الطبيعة/المادة ويفقد حريته وتركيبيته ومقدرته على التجاوز، وإذا كانت النزعة الربانية عكس ذلك تماماً (فهي تعبير عن التمسك بالهوية والحدود والقداسة والمقدرة على التجاوز وعن تَميُّز الإنسان في الكون ومقدرته على اتخاذ قرار أخلاقي حر)، فإننا نجد أن كلتا النزعتين تتضحان في الجماعة الوظيفية. فمجتمـع الأغلبيـة يتخلص من النزعات الطبيعيـة والجنينية داخله بأن يسـقطها على الجماعة الوظيفية، والجماعة الوظيفية بدورها تحاول أن تفعل الشيء نفسه.

5 ـ يتجاوز مفهوم الجماعة الوظيفية الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية المباشرة ليصل إلى الجوانب المعرفية وإلى رؤية الإنسان للكون، هذه بعض الجوانب العامة لنموذج الجماعة الوظيفية التي تجعلنا نراه أكثر تفسيرية. 

أما فيما يتصل بالمقدرة التفسيرية لنموذج الجماعات الوظيفية حينما يُطبَّق على الجماعات اليهودية فيمكننا أن نذكر الجوانب التالية:

1 ـ يضع مفهوم الجماعة الوظيفية أعضاء الجماعات الوظيفية في سياقاتهم التاريخية والإنسانية المختلفة، ولكنه في الوقت نفسه يتيح لنا مقارنتهم بأعضاء الأقليات الدينية والإثنية المختلفة.

2 ـ يمكِّننا هذا النموذج من اكتشاف استمرارية تاريخية متعيِّنة (وليس استمرارية ميتافيزيقية وهمية) في تواريخ الجماعات اليهودية، هي اضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية. فالجماعات اليهودية من أهم الجماعات التي اضطلعت بدور الجماعة الوظيفية، وخصوصاً الجماعات الوظيفية المالية (التي يُقال لها «الجماعات الوسيطة»).

3 ـ ظهرت دولة إسرائيل باعتبارها دولة استيطانية قتالية تعمل للدفاع عن المصالح الاقتصادية والإستراتيجية للعالم الغربي، ويقوم هو بالدفاع عنها بالمقابل ـ أي أنها دولة وظيفية تعاقدية مع الغرب. وكل هذا يجعلنا نُعيد النظر في دور أعضاء الجماعات الوظيفية كمرتزقة أو مادة استيطانية أو جامعي ضرائب أو كتجار أو مرابين أو ملتزمي أراض (الأرندا)، فالنمط الذي كان في الماضي كامناً مضمراً أصبح واضحاً ظاهراً في حالة الدولة الصهيونية.

ويمكننا أن نقول إن مفهوم الجماعة الوظيفية يتسم بمقدرته على عدم الذوبان في فكرة القانون العام (الذي يسقط فيه مفهوم الطبقة) وكذلك عدم السقوط في خصوصية الظاهرة وتأيقنها (أي أن تصبح الظاهرة كالأيقونة لا تشير إلا إلى ذاتها). ومن هنا، فهو مفهوم تحليلي يظل مرتبطاً بتموجات الواقع والمنحنى الخاص للظاهرة ولكنه مع هذا يربط بين الظواهر المختلفة، أي أنه لا يسقط في التمركز حول الموضوع العام الذي لا سمات له، ولا يسقط في التمركز حول الذات الخاصة التي لا يمكن الربط بينـها وبين الذوات الأخـرى، فهو يتحـرك في الرقعة التي تلتقي الذات فيـها بالموضوع، والخاص بالعام، دون أن يستبعد الواحد الآخر ويلغيه. 

فهو يرى أن ثمة خصوصية ما تتسم بها الجماعات اليهودية، ولكنها ليست خصوصية مطلقة وإنما هي، في واقع الأمر، خصوصيات مستمدة من المجتمعات التي يعيش أعضاء هذه الجماعات بينها، ومن ثم فهي لا تختلف عن الخصوصيات التي يتسم بها أعضاء الأقليات، كل حسب سياقه، وأنه لا توجد خصوصية يهودية (واحدة) أو جوهر يهودي أو عبقرية يهودية أو جريمة يهودية وإنما خصوصيات يهودية تختلف باختلاف الزمان والمكان، أي أن الخاص لا يجبُّ العام والعام لا يجبُّ الخاص.

و«الجماعات الوظيفية» مصطلح قمنا بوضعه، استناداً إلى مصطلحات قريبة في علم الاجتماع، لوصف مجموعات بشرية تستجلبها المجتمعات الإنسانية من خارجها، في معظم الأحيان، أو تجندها من بين أعضاء المجتمع أنفسهم من بين الأقليات الإثنية أو الدينية، أو حتى من بعض القرى أو العائلات. ثم يوكل لأعضاء هذه المجموعات البشرية أو الجماعات الوظيفية وظائف شتى لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة من بينها رغبة المجتمع في الحفاظ على تراحمه وقداسته، ولذا يوكل لأعضاء الجماعات الوظيفية بعض الوظائف المشينة (الربا ـ البغاء) أو المتميِّزة (القضاء ـ الترجمة ـ الطب) التي تتطلب الحياد والتعاقدية (ولذا يمكن تسمية أعضاء الجماعات الوظيفية «المتعاقدين الغرباء»). 

وقد يلجأ المجتمع إلى استخدام العنصر البشري الوظيفي لملء فجوة أو ثغرة تنشأ بين رغبات المجتمع وحاجاته من ناحية، ومقدرته على إشباع هذه الرغبات والوفاء بها من ناحية أخرى (الحاجة لمستوطنين جدد لتوطينهم في المناطق النائية). كما أنه قد يوكل لأعضاء الجماعات الوظيفية الوظائف ذات الحساسية الخاصة وذات الطابع الأمني (حرس الملك ـ طبيبه ـ السفراء ـ الجواسيس). ويمكن أن تكون الوظيفة مشينة ومتميِّزة حساسة في آن واحد (مثل الخصيان والوظائف الأمنية على وجه العموم). كما أن المهاجرين عادةً ما يتحولون إلى جماعات وظيفية (في المراحل الأولى من اسـتقرارهم في وطنهم الجديد)، ذلك لأن الوظائف الأسـاسية في وطنهم الجـديد عادةً ما يكون قد تم شـغلها من قبَل أعضـاء الأغلبية.

ويجب أن نؤكد أننا، حينما نقول "يستجلب المجتمع"، لا نعني أن هذه عملية واعية يقوم بها أعضاء مجتمع ما، فهي في واقع الأمر عملية غير واعية كما هو الحال مع معظم الظواهر الاجتماعية. وكثيراً ما تكون هذه العملية غير مفهومة لمن يقومون بها، سواء أكان المجتمع المضيف أم الجماعة الوظيفية. بل إن هذه العملية الاجتماعية قد تتم رغم الرفض الواعي لها من قبَل المجتمع والجماعة. وكل ما نرمي إليه هنا هو أن نشير مجرد إشارة إلى أن هذه عملية اجتماعية مركبة إلى أقصى حد تتداخـل فيها الأسـباب بالنتائج، ونحـاول فهـم بعض جوانبها وتفسيرها قدر استطاعتنا. ولكننا، لقصور لغتنا البشرية، نضطر إلى الإشارة إلى المجتمع وأعضائه كما لو كان ذاتاً واعية ينجز عملياته بشكل واع.

ويتوارث أعضاء الجماعة الوظيفية الخبرات في مجال تخصصهم الوظيفي عبر الأجيال ويحتكرونها، بل يتوحدون بها، وفي نهاية الأمر يكتسـبون هـويتهم ورؤيتهم لأنفسـهم منها بحيث يتم تعريف الإنسان من خلال الوظيفة وحسب لا من خلال إنسانيته الكاملة، فيصبح عضو الجماعة الوظيفية إنساناً ذا بُعد واحد يمكن اختزال إنسانيته إلى هذا البُعد أو المبدأ الواحد، وهو وظيفته.

أسباب ظهور وتطور الجماعات الوظيفية:
قد يكون من المفيد عرض بعض الأسباب التي تؤدي إلى ظهور الجماعات الوظيفية، فمعرفة الأسباب تلقي ضوءاً كاشفاً على السمات الأساسية:

1 ـ من المعروف أن المجتمعات التقليدية تتسم بأن العلاقات بين أعضائها قوية ومباشرة (ربما لدرجة خانقة من منظورنا الفردي الحديث). فكل فرد يعرف بقية أعضاء المجتمع معرفة وثيقة إذ تربطهم علاقات تراحمية تستند إلى القرابة والجوار والانتماء المشترك والمصالح المعنوية والمادية المشتركة. ويجب أن نتذكر أن معظم الوحدات الاجتماعية في المجتمعات التقليدية كانت في الماضي وحدات صغيرة جداً، تتسم بقدر عال من التماسك، ويسيطر على أعضائها إحساس عميق بقداسة المجتمع الذي ينتمون إليه (فهو عادةً يستند إلى إيمان بمطلق متجاوز أو حالّ كامن). وكانت المدن الكبرى نفسها مقسمة إلى وحدات صغرى. وكان أسلوب الإدارة في المجتمعات التقليدية، وضمن ذلك الإمبراطوريات العظمى، لا يتعامل مع الأفراد مباشرةً ولا مع الوحدات الكبرى وإنما مع وحدات ومؤسسات وسيطة. 

ويظهر الإحساس بقداسة المجتمع وبأعضائه في عدد كبير من الشعائر الخاصة بالمحرَّم والمباح، والتي تشكل إطاراً يتحرك المجتمع داخله ويتماسك من خلاله. وداخل مثل هذا الإطار، يصبح من المستحيل تقريباً التحلي بالموضوعية والحياد تجاه بقية أعضاء المجتمع، ويصبح من الصعب بمكان نزع القداسة عنهم والتصرف نحوهم بحرية كاملة وإخضاعهم للقوانين (الواحدية المادية) العامة مثل قوانين العرض والطلب وتعظيم المنفعة واللذة وتغليب المصلحة الشخصية المادية على الهدف الاجتماعي والأخلاقي الأكبر.

ولكن هناك وظائف تتطلب قدراً عالياً من الحياد والموضوعية وتتطلب إخضاع الآخر لقوانين العرض والطلب والحسابات الرياضية الرشيدة الصارمة المحايدة (ولقوانين الواحدية المادية الأخرى التي لا تُفرِّق بين الإنسان والآخر، أو حتى بين الإنسان والأشياء). ومن الواضح أن من السهل التعامل مع الغرباء (مع من لا نعرف) بهذه الموضوعية والحياد والواحدية، فنحن لا نكترث بهم ولا يهمنا مصيرهم، وهم ليسوا جزءاً من نسيج المجتمع. 

وهم بدورهم لا يكترثون بأعضاء المجتمع أو بمصير المجتمع أو قيمه. ولذا، ينظر كل طرف إلى الطرف الآخر لا باعتباره إنساناً مركباً له حقـوق وعليه واجبات، موضـعاً للحب والكره، وإنما باعتباره مصدراً للنفع أو اللذة (أي باعتباره شيئاً مادياً ذا بُعد واحد). ولذا، فبإمكان كل طرف أن ينزع القداسـة عن الطرف الآخر (فهـو يقـع خارج دائرة المحرَّم ويقع في دائرة المباح)، ويمكن تَجاهُل عواطفه وأحاسيسه، ويمكن تشييئه وتسليعه وتحييده وحوسلته والقضاء عليه والدخول معه في علاقة تعاقدية نفعية واحدية رشيدة.

وإذا أردنا ضرب المثل بالنشاطات التجارية والمالية، فيمكننا أن نقول إن من الأيسر على الإنسان أن يتعامل بحياد مع بشر لا يكترث بهم، إذ يمكن أن تسري عليهم الحسابات المالية الصارمة التي لا تعرف الضحك أو البكاء، أو الخير والشر، حسابات المكسب والخسارة التي لا قلب لها. وتصبح العملية التجارية والمالية حينذاك مفرغة تماماً من أي مضمون اجتماعي أو إنساني أو أخلاقي أو عاطفي. 

أما إذا كانت هناك اعتبارات عاطفية أو أخلاقية (كأن يُقرض الإنسان أخته الصغيرة التي يحبها، أو عمه العجوز الذي استولى على ثروة أبيه، أو حتى جاره المريض الذي يسعل في المساء)، فإن عملية التبادل المحايد ستكون مرهقة جداً من الناحية العصبية والنفسية، وستؤدي إلى أن يفقد المجتمع إحساسه بقدسيته وطهارته ونقائه وإلى تصعيد التنافس داخله وزيادة حرراته وهو ما يهدد تماسكه. لكل هذا، كان المجتمع يُوكل وظائف معيَّنة (مثل وظيفة التاجر أو المرابي أو جامع الضرائب) تتطلب الموضوعية والحياد والقسوة إلى متعاقدين وافدين يتم عزلهم عن المجتمع والاستفادة منهم في أداء هذه الوظائف.

ويمكن أن نقول نفس الشيء عن العنصر الوظيفي القتالي (المرتزقة)، فهذا العنصر كي يؤدي وظيفته، وهي قتل أعداء سيده الذي يدفع أجره، عليه أن يتسم بالحياد والموضوعية والقسوة، وعليه ألا يمارس تجاههم أي إحساس بقدسيتهم وحرمتهم حتى يمكن له أن يقتلهم بشكل آلي محايد بارد. فهو إن مارس تجاه ضحيته بعض مشاعر الحب أو البغض وأحس بأنها تقع داخل نطاق المحرَّم وتتمتع بشيء من القداسة، فإنه لن يقوم بعمله بشكل آلي وهو ما قد يؤدي إلى تدمـير جهازه العصـبي إما لأنه سـيحاول أن يكبح مشاعر الحب والشـفقة أو لأنه سينغمس في مشاعر الكره والانتقام. 

كما أن المرتزق، لو كان عضواً في المجتمع، سيؤدي إلى تفكُّكه لأنه سيكون موضع حب من يكرهون الضحية وموضع كره من يحبونها، وهي درجة من الحرارة لا يستطيع المجتمع أن يحتفظ بتماسكه معها. ويسري نفس المنطق على المهن المشينة، مثل مهنة البغاء. فمهنة، كهذه، تتطلب ولا شك قدراً كبيراً من الموضوعية والحياد والانفصال عن المجتمع حتى يتمكن الإنسان من تحويل جسد إنسان آخر إلى مجرد آلة أو أداة، وهذا أمر عسـير جداً في إطـار الترابـط الاجتماعي والألفة والإيمان بقداسة الجماعة التي ينتمي إليها المرء، فالآلة لابد أن تكون الغريب الذي لا حرمة له ولا قداسة حتى يمكن استخدامها واستعمالها والانتفاع بها (أي حوسلتها). 

كما أن البغي إن مارست عواطف الحب والكره أثناء ممارستها وظيفتها فإنها تُستهلَك تماماً، ومن ثم كانت البغايا في معظم المجتمعات التقليدية يتم استيرادهن من الخارج (الإثيوبيات في معظم بلاد أفريقيا ـ اليونانيات والإيطاليات في مصر ـ اليهوديات من منطقة الاستيطان في روسيا القيصرية). وحتى حين كانت البغايا يجندن من العنصر السكاني المحلي، فإنهن عادةً ما كنّ يرتدين أزياء خاصة ويَقْطن أحياءً خاصة حتى يتم الحفاظ على المسافة بينهن وبين المجتمع ككل. 

بل من الطريف أن البغايا في السودان مثلاً، حتى إن كنّ من أصل سوداني، عادةً ما يدعين أنهن إثيوبيات، وذلك حتى تظل المسافة اللازمة لأداء الوظيفة قائمة. وأصبحت كلمة «إثيوبية» تعني «بغيّ»، فالكلمة نفسها تخلق المسافة النفسية وتضمن الحوسلة، تماماً كما حدث في أوربا حين أصبحت كلمتا «تاجر» و«مرابي» مرادفتين لكلمة «يهودي» (وأحياناً «يوناني»)، في فترات تاريخيـة مختلفة، وكما حـدث في الدولة العثمانية حين أصـبحت كلمة «تاجر» مرادفـة لكلمة «أرمني»، وكما حدث في أمريكا اللاتينية حين أصبحت كلمة «توركوس» (أي «تركي»، التي كانت تشير إلى كلٍّ من اليهود والعرب) مرادفة لكلمة «تاجر».

ومن أهم الأمثلة التي تشرح هذه الفكرة ما حدث للقوات البريطانية في الهند في نهاية القرن التاسع عشر، إذ اجتذبت هذه القوات عدداً من البغايا البريطانيات، ويبدو أن هذا قد أنقص هيبة هذه القوات أمام نفسها وربما أمام السكان المحليين. كما بدأ بعض الجنود البريطانيين يرتبطون عاطفياً بالبغايا من بنات جلدتهم وهو ما أدَّى إلى حالة من التنافس بين الذكور وزيادة حرارة هذه الجماعة العسكرية. وقد أَخلَّ هذا بالضبط والربط، فتم إرجاع البغايا البريطانيات واستيراد بعض البغايا اليهوديات الروسيات من منطقة الاستيطان في روسيا القيصرية، وبالتالي تم التخلص من فائض الطاقة الجنسية بطريقة محايدة رشيدة لا تدخل فيها أية عواطف حب أو كره، وذلك دون الإخلال بالتماسك الداخلي للمجتمع ودون تصعيد للتوتر الاجتماعي بين أعضائه.

والأمر نفسه يسري على المشتغلين بمهن متميِّزة، فالإنسان المتميِّز يتمتع برهبة غير عادية تحيط به الهالات. والخبرات النادرة التي يمتلكها الإنسان المتميِّز تجعله يقترب من السحرة والكهنة الذين يقفون على حدود الطبيعة على علاقة بعالم الغيب وما وراء الطبيعة، يحاولون الحصول على المعرفة من خلال هذه العلاقة للسيطرة على الطبيعة. وإن تَحوَّل المشتغلون بمثل هذه الوظائف إلى مثل يُحتذَى، فإنهم سيُولِّدون قدراً عالياً من التوتر في المجتمع، الذي يتطلب دورانه اليومي وجود عدد من الناس يدخلون في علاقة تتسم بحد أدنى من التراحم والمساواة. ولذا لابد من عزلهم. والإنسان المتميِّز (الطبيب ـ الكاهن ـ الساحر)، إن أصبح إنساناً عادياً مساوياً للآخر، لن يحتفظ بهيبته ولن يتمكن من أداء وظيفته التي تتطلب قدراً من الانفصال عن مجتمع الأغلبية والتعالي عليه.

ومن أطرف الأمثلة على الجماعات الوظيفية المهنية المتميِّزة لجوء بعض المدن الإيطالية لاستجلاب قضاة غرباء لضمان حيادهم وموضوعيتهم. ولعل استمرار رجال القضاء في إنجلترا (وغيرها من الدول) في ارتداء الشعر المستعار هو محاولة من جانبهم لأن يحتفظوا بمسافة بينهم وبين المجتمع، شأنهم شأن الجماعة الوظيفية التي تتمتع بالحياد والتجرد والموضوعية. ولا يزال حكام مباراة كرة القدم غرباء متعاقدين، فالحكم المحايد أداة أساسية لا يمكن أن تتم المباراة بدونها، مع أنه هامشي إذ لا تمس قدماه الكرة.

وباختصار شديد، يمكن القول بأن تَركُّز الحياد والدنس والتعاقد في جماعة بشرية هامشية يعني أن بقية أعضاء المجتمع المضيف يمكنهم التمتع بالدفء والتراحم، وأن تَركُّز التَميُّز في مجموعة هامشية أخرى يعني خفض حدة التوتر الاجتماعي، وأن تَركُّز الشين في مجموعة ثالثة يعني أن المجتمع سيتمتع بطهره الأخلاقي والفعلي المادي.

يتبع إن شاء الله...


العلمانية الشاملة: تعريف 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 51967
العمر : 72

العلمانية الشاملة: تعريف Empty
مُساهمةموضوع: رد: العلمانية الشاملة: تعريف   العلمانية الشاملة: تعريف Emptyالأحد 10 نوفمبر 2013, 11:06 pm

2 ـ عادةً ما يتم استجلاب عنصر بشري من الخارج لملء فجوة أو ثغرة قد تنشأ بين رغبات المجتمع وحاجاته من ناحية ومقدرته على إشباع هذه الرغبات والوفاء بهذه الحاجات من ناحية أخرى.

أ ) فقد تنشأ حاجة إلى الغزو والتوسع داخل مجتمع ما، الأمر الذي يتطلب مادة بشرية مُدرَّبة تدريباً خاصاً على القتال ولها كفاءات معينة (مثل استخدام سلاح معيَّن وركوب الخيل) لا تجدها النخبة الحاكمة متوافرة في أعضاء المجتمع، فتقرر النخبة استجلاب مرتزقة من الخارج يمكنهم أداء المهمة دون تهديد هيمنتها.

كما أن دولة من الدول قد تتوسع وتصبح إمبراطورية مترامية الأطراف وتود التحكم في المناطق الإستراتيجية التي ضمتها أو تعمير بعض المناطق النائية، ولكنها لا تمتلك الكثافة البشرية اللازمة. وهنا يتم استجلاب أعضاء الجماعة الوظيفية ليسدوا هذه الثغرة وليصبحوا مستوطنين مقاتلين أو رواداً.

جـ) وقد تقرر النخبة الحاكمة تشجيع التجارة أو الصناعة، فتحتاج إلى خبرة معيَّنة وأدوات خاصة ورأس مال كبيراً سائلاً وشبكة علاقات محلية أو دولية قد لا تتوافر لدى أي قطاع بشري داخل المجتمع، فتُستجلب جماعة بشرية تتوافر لديها هذه المواصفات لتسد الثغرة.

د ) وأحياناً ما تجد النخبة الحاكمة أن من الضروري صيانة ما يُسمَّى «ثغرة المكانة»، وهي ثغرة تفصل بين الحاكم والمحكوم وتضمن للنخبة الحفاظ على هيبتها ومهابتها، لكن التعامل المباشر بين الحاكم والمحكوم يهدد استمرار مثل هذه الثغرة. وهنا تقوم الجماعة الوظيفية بملء الثغرة وتكون بمنزلة المنطقة العازلة والأداة المُوصِّلة بين النخبة والجماهير.

هـ) قد تريد النخبة الحاكمة استغلال الجماهير، ولكنها لا تتمكن من القيام بهذه المهمة مباشرة إما لانشغالها بالحروب أو لتواجدها في العاصمة مركز السلطة، وهنا يقوم أعضاء الجماعة الوظيفية بالمهمة.

و ) ويحدث أحياناً أن تكون النخبة الحاكمة مختلفة تماماً عن المحكومين من الناحية الثقافية، الأمر الذي يجعل دخولها علاقة مباشرة معهم أمراً مستحيلاً. وفي هـذه الحـالة، يقوم أعـضاء الجـماعة الوظيفية بسد الثغرة.

ز ) قد تكون الوظيفة مشينة بغيضة من وجهة نظر أعضاء المجتمع، فتضطر النخبة الحاكمة إلى استيراد عنصر بشري للاضطلاع بها.

ح) وقد لاحظنا في دراستنا للعلمانية الشاملة أنه، أثناء عملية علمنة المجتمع، تتم علمنة الأفكار والرغبات والوجدان والأحلام في بداية الأمر، ثم تتصاعد الرغبات وتزداد حدتها، ولكن علمنة سلوك أعضاء المجتمع لا يتم بنفس السرعة أو بنفس القدر (لأنها مسألة أكثر صعوبة)، ومن ثم تُوجَد مثلاً فجوة زمنية بين الرغبات الجنسية المستعرة وبين إمكانية إشباعها. 

ولسد الثغرة، يتم استيراد البغايا كجماعة وظيفية من المتعاقدين الغرباء لاستحالة تجنيد مثل هذه العناصر من بين أعضاء مجتمع لا يزال يحتفظ ببقايا القيم الدينية والتقليدية وبقايا الإحساس بقداسة الجسد الإنساني. وحينما تتم علمنة المجتمع، تُجنَّد البغايا من سكان المجتمع نفسه إذ تتم علمنة السلوك تماماً ويصبح الجسد مجرد مادة ويصبح من اليسير الحصول على المادة البشرية اللازمة. ويظهر هذا الوضع نفسه مع الممثلات والعاملات في الملاهي الليلية، إذ تنشأ رغبة في المجتمع للترفيه عن أعضائه عن طريق المسرحيات والكباريهات. ولكن أعضاء المجتمع يجدون هذه مهناً مشينة، فيتم استيراد المادة البشرية اللازمة إما من الخارج أو من بين أعضاء الأقليات إلى أن يتم تحديث المجتمع تماماً، فيبدأ تجنيد العاملين في مثل هذه الأماكن من بين أعضاء مجتمع الأغلبية.

3 ـ من أهم أسباب ظهور الجماعات الوظيفية حاجة أعضاء النخبة الحاكمة إلى جماعة بشرية ليست لها قاعدة من القوة (بسبب عزلتها عن الجماهير) يمكن استخدامها (لتنفيذ مخططاتها ولخدمة مصالحها) دون أن يكون لهذه الجماعة المقدرة على المشاركة في السلطة بسبب افتقادها القاعدة الجماهيرية، وهي لهذا السبب ستلتصق تماماً بالنخبة الحاكمة وستقوم على خدمتها بولاء أعمى، إذ أن بقاءها الجسدي نفسه منوط بمدى رضا النخبة الحاكمة. وعادةً ما تكون قوات الحرس الملكي (وأحياناً كل من يعمل داخل البلاط الملكي) من المتعاقدين الغرباء. 

بل يُلاحَظ أن النخبة الحاكمة قد تَستجلب جماعة وظيفية لضرب طبقة صاعدة. ففي بولندا، لاحظت النخبة الحاكمة الإقطاعية أن ظهور بورجوازية محلية قد يهدد سلطتها وقد يُسرِّب كثيراً من فائض القيمة (التي تود أن تحتكره لنفسها) إلى أعضاء هذه الطبقة الجديدة المنافسة، فاستجلبت الطبقة الإقطاعية (شلاختا) عدداً من التجار الألمان (من بينهم اليهود) ووطنتهم في مدن خاصة بهم (الشتتل) وقامت بحمايتهم بالقوة العسكرية البولندية. وقامت هذه الجماعة الوظيفية الجديدة بتنشيط التجارة في إطار خطة النخبة والخاصة بضرب العناصر التجارية المحلية ومنعها من مشاركتها السلطة.

4 ـ ومن الأسباب الأخرى المؤدية إلى ظهور الجماعة الوظيفية وصول المهاجرين. فالمهاجرون لا يمكنهم الانخراط في كل الحرف والنشاطات الاقتصادية، ولذا فإن علىهم اختيار حرف أخرى. وعلى أية حال، فإن هذا أمر حتمي فحينما يصل المهاجرون أو الوافدون إلى مجتمع ما فإنهم عادةً ما يصلون بعد أن يكون هرمه الاجتماعي قد تَشكَّل وتم شغل الأرض الزراعية (ملكيةً وعمالة)، وبعد أن تكون القطاعات الأولية قد امتلأت، بعد أن يكون جزء كبير من رأس المال قد استُثمر في تشييد البنية التحتية. 

ولذا، يقوم المهاجرون بالبحث إما عن وظائف قديمة لكنها هامشية أو عن وظائف جديدة تتطلب قدراً من الجسارة ونوعاً من الخبرة التي لا تتوافر لأعضاء المجتمع، وهى عادةً وظائف تُوجَد في قمة الهرم الإنتاجي ولا علاقة لها بالأرض أو الصناعات الثقيلة أو بالمؤسسات الأساسية المستقرة في المجتمع. ويحاول المهاجرون ارتياد آفاق جديدة مجهولة يحجم عن ارتيادها أعضاء المجتمع المضيف المستقرون، كما يحاولون استغلال الإمكانات التي لم تُستغَل بعد، ويحاولون كذلك توسيع الثغرات الموجودة بالفعل حتى تتاح لهم فرص جديدة للعمل ووظائف لهم بها خبرة (ومن ثم يمكنهم احتكارها). ومن العناصر التي تساهم في تحويل بعض المهاجرين إلى جماعة وظيفية ميراثهم الاقتصادي والوظيفي في وطنهم الأصلي.

بعض أهم الجماعات الوظيفية:
لإلقاء الضوء على نموذج الجماعات الوظيفية قد يكون من المفيد أن نذكر بعض أهم هذه الجماعات:

1 ـ الجماعات الوظيفية المالية (ويُطلَق علىها عادةً في المصطلح الغربي «الجماعات الوسيطة»). وهي جماعات يقوم أعضاؤها بالتجارة وأعمال الربا وجَمْع الضرائب، وبنشاطات مالية مختلفة أخرى مثل السمسرة والبورصة وتغيير العملة والمزايدات وأعمال الريادة التجارية في المناطق النائية أو في القطاعات الصناعية والتجارية والمالية التي لم يطرقها أعضاء المجتمع المضيف، كما يعمل أعضاء هذه الجماعات كوكلاء ماليين ومقاولي أعمال وملتزمين. 

ومن أهم الجماعات الوظيفية المالية ما يلي:

أ ) الأرمن في الدولة العثمانية أو في بعض مناطق أوربا (بولندا مثلاً).

اليونانيون في مصر. وهو دور يعود إلى أيام الإمبراطورية الهيلينية، فقد كان اليوناني هيلينياً في وسط يؤمن بالعبادة الوثنية المصرية. ثم حينما تنصَّر المصريون وأصبحوا أقباطاً، أصبح مسيحياً يونانياً أرثوذكسياً، أي أنه احتفظ بعزلته الدينية في محيط قبطي مصري ثم في محيط إسلامي مصري.

جـ) الزرادشتيون في الهند ثم في الولايات المتحدة.

د) الصينيون في جنوب شرق آسيا (إندونيسيا وماليزيا والفلبين وغيرها من الدول).

هـ) اللبنانيون والهنود في شرق أفريقيا.

2 ـ الجماعات الوظيفية القتالية. وهي من أقدم الجماعات الوظيفية يضطلع أعضاؤها بدور القتال، مثل المماليك والإنكشارية والساموراي والجنود السويسريين (الحرس السويسري) في أوربا، والجنود الهنود (وخصوصاً السيخ) في القوات البريطانية.

3 ـ الجماعات الوظيفية الاستيطانية. وهي جماعات بشرية تُوطِّنها الإمبراطوريات في مناطق نائية أو إستراتيجية بهدف تعميرها أو التحكم فيها أو قمع سكانها، مثل بعض سكان كريت واليونان الذين وُطِّنوا في الشرق في العصر الهيليني. ويمكن أن نضيف إلى هذا العناصر البشرية "الروسية" التي وُطِّنت في الخانات الإسلامية التركية بعد ضمها لروسيا القيصرية (ثم للاتحاد السوفيتي). وكان من بين هذه العناصر عدد كبير من يهود اليديشية. ويمكن القول بأن الاستعمار الاستيطاني الغربي هو تعبير عن نفس الظاهرة، فهو استعمار قام بتحويل الفائض البشري الغربي إلى جماعات وظيفية قتالية استيطانية يتم توطينها في بعض الأماكن ذات الأهمية الإستراتيجية في آسيا وأفريقيا لتقوم بالدفاع عن المصالح الغربية.

4 ـ الجماعات الوظيفية الحرفية والمهنية المتميِّزة التي يتطلب العمل فيها مهارة خاصة، مثل الطب وقطع الماس وصنع التحف والاتجار فيها. ونميِّز في هذه الموسوعة بين المهن والحرف: أما المهن، فهي عادةً الممارسات الفنية التي تتطلب تدريباً خاصاً وطويلاً ويكون الجهد العضلي والمهارة اليدوية فيها مجرد عنصر في بناء أكثر تركيباً (التدريس ـ الطب ـ الإدارة)، وأما الحرف فهي الممارسات اليدوية كالخياطة والتي تتطلب جهداً عضلياً ومهارة يدوية خاصة أو الأعمال التي تتطلب مهارة مثل الصاغة. وقد كان الأرمن واليهود يعملون بحرفة الصاغة في مصر، وكان بعض أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي يضطلعون بمهنة الطبيب.

5 ـ الجماعات الوظيفية التي يعمل أعضاؤها في وظائف يرى المجتمع لسبب أو لآخر أنها مشينة، مثل نزح المجاري ودباغة الجلود والجزارة وجمع القمامة ودفن الموتى والبغاء وتنفيذ أحكام الإعدام، أو في أية حرفة أخرى تكتسب بُعداً رمزياً مشيناً يتجاوز حقيقة الوظيفة (ومن ثم يعتبرها المجتمع مشينة) مثل العاملين بالحلاقة أو البقالة أو صناعة الأحذية أو في محلات الغسيل، بل العاملين في الزراعة أحياناً في بعض المجتمعات. ويلعب الغجر دور الجماعة الوظيفية التي تقوم بأعمال مشينة في كثير من أنحاء أوربا.

6 ـ الجماعات الوظيفية الأمنية التي يعمل أعضاؤها في وظائف حساسة بسبب طابعها الأمني أو بسبب قربها من الحاكم وحياته الخاصة (الوزراء والأقزام والخصيان والجواسيس والطهاة).

وحتى نوضح المفهوم الذي نستخدمه، سنضرب مثلاً ببعض الأمثلة المتطرفة على تحويل عنصر إنساني إلى عنصر وظيفي. ولنبدأ بالكهنة والسحرة. يتسم الكاهن والساحر بأنهما صاحبا قدرات خارقة، فهما تعبير عن الصلة بين الإنسان والخالق، وبين هذا العالم والعالم الآخر، وبين المعلوم والمجهول. وهما أداة يستخدمها المجتمع ليتواصل مع القوة الخارقة للطبيعة. وكانت بعض المجتمعات القديمة تستورد الكهنة والسحرة من خارج حدودها أو تجندهم من صفوف السكان المحليين (من أسر معينة يُفترَض أن القداسة أو المقدرات العجائبية تسري في أعضائها) ثم يتم عزل الكهنة والسحرة تماماً عن طريق فرض أزياء عليهم ومنعهم من التزاوج، وإن تزاوجوا فلابد أن يتزاوجوا فيما بينهم، ويتم وضعهم داخل نسق خاص من الرموز والشعائر، ويُقدَم لهم طعام خاص بهم (ومن المهم أن نلاحظ هنا أن الكتب الدينية اليهودية تشير إلى أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم شعباً من الكهنة، كما يُلاحَظ ارتباطهم بالسحر).

وتُعدُّ أقدم مهنة في التاريخ (كما يُقال لها) من المهن التي تُوكَل إلى جماعة وظيفية، فالبغي هي مجرد جسد محض يتحول إلى آلة لامتصاص فائض الطاقة الجنسية في المجتمع خارج نطاق المحرمات والمطلقات. ويمكن الربط بين البغايا والكهنة في حالة البغاء المقدَّس حيث لم تكن البغي مجرد أداة لامتصاص فائض الطاقة الجنسية وإنما أداة للتواصل مع قوى ما وراء الطبيعة. وسواء أكانت البغي مباحة تماماً أم مقدَّسة تماماً، فقد كان يتم عزلها عن بقية أعضاء المجتمع ليستمر مجتمعهم في الإحساس بقداسته وإنسانيته المُتعيِّنة.

ومن الحالات المتطرفة الأخرى للجماعة الوظيفية الخصيان الذين يتم عزلهم عن المجتمع عن طريق قطع عضـو الذكـورة، وبذلك يتم فصلهم (حرفياً) عن الجنس البشري ليصبحوا إما نوعاً مختلفاً من البشر أو نوعاً ناقصاً. وبسبب وضعهم الجديد، يمكن أن تُوكَل إليهم وظائف أمنية حساسة (إذ أنهم بلا قاعدة جماهيرية) مثل حراسة الحريم أو القيام بمهام خاصة، أو قد يصبحون مجرد علامة على الأبهة وقوة الحاكم.

ومن أهم الجماعات الوظيفية العبيد، حيث يتم تحويلهم إلى عنصر وظيفي نافع عن طريق أسرهم بالعنف من المجتمعات الأخرى (وفي أحيان نادرة من المجتمع نفسه)، وتتم حوسلتهم تماماً ليصبحوا أداة، ولذا سماهم أرسطو «الآلة الناطـقة» (باللاتينية: إنسترومنتم فوكالي instrumentum vocale) مقابل الحيوانات «الآلة المتحركة» (باللاتينية: إنسترومنتم موبيلي instrumentum mobile). 

والعبيد مادة بشرية خالصة تُعامَل بحياد كامل وتُوظَّف بشكل رشيد إلى أقصى حد يضمن حُسن استغلالهم وضمان العائد المرجو وتحويلهم إلى طاقة إنتاجية دون أي تَراحُم أو تَعاطُف من جانب صاحب العبد، ودون أي ولاء من قبَل العبد نفسه، فهو بلا إرادة. ويمكن النظر للعبيد باعتبارهم حالة متطرفة جداً من الجماعة الوظيفية يتسمون بكل سماتها من حياد ونفعية (بدون تعاقدية في هذه الحالة) وحركية (فيمكن نقل العبد ببساطة من مكان إلى آخر) وعزلة وعجز (فهو يُوطَّن في أقفاص أو رقعة مقصورة عليه). ولابد أن النسق القيمي للعبد مخيف، فهو لا يؤمن بشيء؛ يمقت صاحبه ويكره المجتمع المضيف، ويُدمِّر ما يأتي في طريقه إن سنحت له الفرصة. 

ومن المعروف أن النظام العبودي في الجنوب الأمريكي قد انهار بسبب ضعف إنتاجية العبيد وانصرافهم عن العمل وتباطؤهم فيه، إذ لا توجد أية حوافز داخلية لديهم. وقد استمر النظام العبودي بعض الوقت بسبب اعتبارات المكانة والمهابة (فقد كانت ملكية العبيد من علامة الأرستقراطية) وليس لأية اعتبارات اقتصادية. وانعدام القيم عند العبد هو ما يشير إليه الشاعر بقوله: "لا تشتر العبد إلا والعصا معه". ونحن ـ هنا ـ نتحدث عن انعدام القيم لا عن ازدواجها، وهو أمر راجع إلى غياب التعاقد. والتعاقد يعني طرفين، ومن ثم نسقين أخلاقيين، أما "امتلاك" صاحب العبيد لعبيده فيعني طرفاً واحداً، فذات العبد تختفي وتختفي معه أية قيم أخلاقية. ولعل هذا يفسر فشل ثورات العبيد دائماً، لأنهم لم يطرحوا قط نظاماً قيمياً جديداً وإنما كانوا يهدفون إلى القضاء على النظام السائد بشكل انتقامي، فهو نظام قضى على ذاتيتهم ثم حوسلهم إلى درجة القضاء على كل إنسانيتهم!

ويمكن، في محاولة وضع إطار موحد يشمل كل الجماعات الوظيفية، أن نتخيل متصلاً واحداً آخر أطرافه العبيد (حيث يصبح الإنسان أداة محضة؛ مادة بشرية متحوسلة تتحول إلى طاقة لا إرادة لها ولا أخلاق ولا ولاء). وفي الطرف الآخر يوجد المجاهدون (حيث يصبح الإنسان ذا إرادة محضة ترفض الخضوع أو التحوسل يشعر بالولاء الكامل لمثله الخلقي الأعلى). وبين الطرفين المتطرفين، يمكن أن تُوضَع الفئات الأخرى، مثل البغايا والمرابين والمرتزقة والوزراء والخصيان ومثقفي العالم الثالث ممن يدينون بالولاء للغرب. كما يمكن أن نضع بعض الحرفيين والمهنيين من أصحاب الحرف والمهن المتميِّزة. ويمكن تصنيف كل هذه الجماعات الوظيفية من منظور مدى التَحوسُّل وافتقاد الإرادة، وهي عملية مركبة جداً تحتاج إلى كثير من البحث الإمبريقي.

وقد نشرت إحدى الصحف مؤخراً خبراً مؤداه أن بعض تجار المخدرات في مصر طوَّروا أسلوباً جديداً لتقديم المخدرات في "الغرزة" باستخدام القرد. فالأسلوب التقليدي هو أن يمر الغرزجي (أي الشخص الذي يخدم داخل الغرزة) "بالجوزة" على جماعة المدمنين. والغرزجية جماعة وظيفية لها شعائرها وسماتها المحددة، فهم يقضون معظم ساعات اليوم في محل عملهم، أي أن الجيتو الخاص بهم هو مكان الإقامة والعمل في آن واحد. وتأخذ عملية العزل في حالتهم وضعاً بيولوجياً متطرفاً، إذ لابد لهم أن يتناولوا طاجناً يحتوي على قطع كبيرة من اللحوم مخلوطـة بالخـضر في مزيج من بقايا الحشيش. ومهمـة هذا الطـاجن هو إطــعامهم، مثلهم في ذلك مثل البشر كافة، إلا أنه يزودهم بما يكفيهم من المخدر حتى لا يكونوا في حاجـة إلى المشـاركة في التــدخين، فالطعام الذي يتناولونه له جانبه الفسيولوجي الواضح، ولكنه إلى جانب هذا يرمز إلى ناحية شعائرية ورمزية. 

فالطاجن يعني التضامن (وأكل العيش والملح) ويُقوِّي الأواصر بين أعضاء الجماعة الوظيفية. وهو يعني أيضاً إدمانهم هذا الطعام واعتمادهم الكامل عليه وضمان استمرارهم كجماعة وظيفية. فالطعام هنا بديل الوطن الأصلي (أو صهيون)، فهو يفكِّك الأواصر التي تربط عضو الجماعة الوظيفية مع المجتمع المضيف ويُقوِّي صلاته مع أعضاء جماعته. وهو يشبه الطعام الشرعي عند اليهود الذي يجعل تناول الطعام مع الآخر أمراً شبه مستحيل تقريباً، ولذا تزداد غربة اليهودي عن المجتمع ويزداد ارتباطه بجماعته. والطاجن يشبه أيضاً عملية الخصي والمرتبات المرتفعة التي يتقاضاها بعض مثقفي العالم الثالث من المنظمات الدولية أو الدول الأجنبية أو النظم الحاكمة، فهذه المرتبات تمكِّنهم من العيش حسب أسلوب حياة معينة لا يمكنهم الاستغناء عنه (فهو كالطاجن الذي يدمنه الغرزجي) وبعد قليل يفقد هؤلاء الإرادة الحرة المستقلة (أي أنها عملية تشبه الخصي تماماً) فيعتمدون اعتماداً كاملاً على ولي نعمتهم وينفذون أوامره دون تساؤل. 

إن الطاجن، مثله مثل الخصي أو صهيون أو المرتبات المرتفعة، كلها آليات للعزل عن المجتمع ولتقوية التضامن من الداخل. ولكن، رغم كل محاولات العزل الكاملة هذه، فإن الغرزجية يستبطنون أسلوب مرتادي الغرز تماماً ويتوحدون بهم، ولذا فإن أجورهم المرتفعة تغريهم باقتفاء أثر المدخنين فيدمنون أنواعاً أخرى من المخدرات ويتركون أعمالهم أياماً لينفقوا فيها مدخراتهم مقلدين الزبائن في منح البقشيش ودعوة الآخرين للتدخين على نفقتهم، أي أن عملية العزل الكاملة تؤدي إلى الانصهار الكامل في نمط حياة المدمنين، فيتحول الغرزجي إلى مدمن ويبدد نفسه، رغم أن المُفترَض فيه أنه هو نفسه أداة التبديد (وهذا مثل جيد على التمركز حول الذات الذي يؤدي إلى ذوبانها ومن ثم التمركز حول الموضوع).

ولتلافي هذا الوضع، قام بعض تجار المخدرات من أصحاب الغرز بتدريب القرود على وظيفة الغرزجية بدلاً من البشر، وقد توصلوا بهذا إلى أداة كاملة ليست لها أية تطلعات إنسانية أو نقائص بشرية، فالقرود (عادةً) لا تتعاطى الحشيش ولا تدمنه، كما أنها ليست في حاجة إلى الطاجن الخاص ولا تتقاضى أجوراً، ومن ثم فإن تكاليفها بسيطة. وإلى جانب كل هذا، نجد أن القردة تلزم نفس المكان/الجيتو بطبيعتها ولا تُوجَد عندها رغبة في مغادرته لإنفاق مدخراتها وتبديد ذاتها. بل تم تدريبها على القيام بأعمال الري في زراعة المخدرات، بينما يتفرغ العنصر البشري لأعمال الحراسة التي قد تتطلب قدراً أعلى من الذكاء. واستخدام القرود كجماعة وظيفية يبيِّن مدى ذكاء تجار المخدرات وإدراكهم الغريزي لقانون الجماعة الوظيفية إذ أن القرد كائن ذو بُعد واحد، يمكن توظيفه من أجل المنفعة الاقتصادية (وهو يتجاوز تماماً مبدأ اللذة الذي يسبب التوترات في المجتمعات العلمانية ويضعف تماسكها). 

والقرد إنسان وظيفي طبيعي ومادة محايدة تماماً ولا تؤرقه تطلعات أو محاولة لتجاوز ذاته المادية أو الطبيعة/المادة، فهو يعيش في المادة وبها وعليها، ومن ثم فهو تحقيق كامل لنبوءة داروين وتحقيق لنبوءة فيبر عن دخول القفص الحديدي (وهو يكاد يكون حرفياً في هذه الحالة، وإن كان مثل هذا النوع من القردة لا يكون في حاجة إلى القفص الحديدي إذ تم استئناسهم وترشيدهم تماماً في ضوء الطبيعة/المادة من الداخل والخارج). وإن قبلنا اعتبار القرود جماعة وظيفية (مرتبطة ولا شك بصناعات اللذة الحديثة)، فيمكننا أن نضمها لمتصلنا. وبدلاً من العبد والمجاهد كطرفين، يمكن لنا أن نضع القرد والمجاهد أي الحوسلة الكاملة متمثلة في الحيوان الذي هو ضرب من ضروب الإنسان الطبيعي الوظيفي المادي الاقتصادي الآلي مقابل الإرادة الكاملة والإنسان الرباني متمثلةً في المجاهد.

وقد يكون من المفيد ملاحظة أن جماعة وظيفية ما قد تضطلع في وقت واحد بوظيفة مالية واستيطانية، أو مالية وقتالية، أو مالية واستيطانية وقتالية، كما يمكن أن تتحول وظيفتها من مالية إلى قتالية. ولنضرب مثلاً على ذلك بالجماعات اليهودية في الغرب، فقد كانوا جماعة وظيفية استيطانية قتالية في المجر في القرن العاشر، ولكنهم فقدوا دورهم القتالي وأصبحوا جماعة وظيفية مالية، ولكن العثمانيين بعد فتحهم المجر حوَّلوهم إلى جماعة وظيفية استيطانية تدين لهم بالولاء. أما في بولندا، فقد توطن اليهود كجماعة وظيفية مالية. وبعد ضم أوكرانيا، تحولوا إلى جماعة استيطانية مالية شبه قتالية يساعدها الجيش البولندي. 

وقد اضطلع أعضاء الجماعة اليونانية في مصر بدور الجماعة الوظيفية المشينة (بغايا ومغنيات) أو مالية (مستثمرون صناعيون وبقالون). ولكنهم، في فلسطين، اضطلعوا بوظيفة شبه أمنية إذ يبدو أن حكومة الانتداب البريطاني هناك قررت تجنيدهم داخل الجهاز الحكومي كموظفين حتى يمكنها أن تبقيهم بمعزل عن الفريقين المتصارعين (العرب والمستوطنين الصهاينة) وحتى يمكنها التحكم فيهم وضمان أدائهم لوظيفتهم بطريقة كفء. ويبدو أن الفرنسيين حولوا بعض أعضاء الجماعات الوظيفية المالية اليهودية إلى جماعة وظيفية قتالية بضمهم إلى الفرقة الأجنبية. وبإنشاء الدولة الصهيونية، حوَّلت الحضارة الغربية الملايين من اليهود إلى مادة بشرية وظيفية قتالية استيطانية.

والساموراي، وهم جماعة وظيفية قتالية، تحوَّلوا إلى رأسماليين قامت على سواعدهم الرأسمالية اليابانية ذات الطابع الخاص شبه الإقطاعي. ويمكن أن تتعاون جماعة وظيفية قتالية مع جماعة وظيفية مالية كما حدث في مصر حينما تعاون المماليك مع التجار الأجانب من الإيطاليين والمالطيين وغيرهم. ومن المعروف أن بعض المموِّلين اليهود في الدولة العثمانية كانوا يتعاونون مع الإنكشارية بل مولوا تمردهم ضد السلطان العثماني.

ويمكن أن تكون وظيفة واحدة متميِّزة ومشينة ونافعة في آن واحد، فالمرابي يقوم بوظيفة متميِّزة، فهو يمتلك رأس المال ويحقق أرباحاً طائلة دون أن يبذل جهداً عضلياً (أو فكرياً) كبيراً. ولكنها وظيفة مشينة، فالمرابي شخصية طفيلية موضع كره الجميع. ولنضرب مثلاً آخر بوظيفة الحداد، فالحداد لابد أن يمتلك أسرار مهنته التي توارثها أباً عن جد. وهي مهنة غريبة، فهو يستخدم النار (التي لا جسد لها) فيطوع الحديد (الصلب) وهو ما يكسبه هيبة ومهابة. ولكنه، أثناء ممارسـته مهنته، قد تحترق أطراف أصـابعه، كما يعلو وجهه السـواد، فهي مهنة خطرة وغير نظيفة. ولذا، كانت بعض المجتمعات تربط بين مهنة الحداد وبين السحر. وغني عن القول أن مهنة الحداد كانت دائماً مفيدة، بل أساسية وحيوية لكل المجتمعات. والبغاء أيضاً يتسم بنفس الازدواجية، فمن تقوم به أنثى متميزة (فهي محط رغبة الرجال) ومشينة (لأنهم يستخدمونها).

ويمكن أن تصبح مهنة مشينة مع التطور التاريخي (ومع تصاعد معدلات العلمنة) مهنة متميِّزة. فمهنة التمثيل في المجتمعات التقليدية والانتقالية مهنة مشينة لا يقوم بها سوى الغرباء ومن هنا كانت ممثلات مصر حتى عهد قريب مجندات من الخارج أو من بين صفوف الأقليات. وبالتدريج، بدأ يتم تجنيدهن من بين صفوف المجتمع (ومن بين خريجات المعهد العالي للسينما). ثم تحَّولت المهنة المشينة إلى أكثر المهن تَميُّزاً، وأصبحت النجومية حلم كثير من الفتيات، وهو حلم كل فتاة في العالم الغربي، فالنجم هو قديس الحضارة العلمانية ورمزها الأكبر. وقل نفس الشيء عن وظيفة الدبلوماسي والمضيفة.

الجماعات الوظيفية العميلة

«الجماعة الوظيفية العميلة» هي جماعة وظيفية لا تقوم على خدمة أعضاء المجتمع كافة، فهي ترتبط ارتباطاً شبه عضوي بالطبقة الحاكمة التي تستخدمها كأداة لقمع المحكومين واستغلالهم. ولعل من أهم الأمثلة على الجماعة الوظيفية العمـيلة جماعات المرابين (من اليهـود وغير اليهود) في العصور الوسـطى في الغرب (وخصـوصاً بعد القرن الخامس عشر). فلم يكن المرابي، مثل التاجر، أداة توصيل للسلع بين المنتج والمستهلك، وإنما كان أداة استغلال في يد الحاكم. وكذلك الجنود المرتزقة حينما كانوا يضطلعون بوظيفة حماية الحاكم (مثل الحرس السويسري في فرنسا قبل الثورة الفرنسية)، فهم أيضاً جماعة وظيفية عميلة لا يدافع أعضاؤها عن المجتمع المضيف (كالمماليك) وإنما يقومون بقمع الجماهير لصالح النخبة الحاكمة.

ويُلاحَظ أن الجماعة العميلة لا تبدأ بالضرورة كذلك، فقد تبدأ كجماعة وظيفية ثم تصبح من خلال الظروف التاريخية جماعة عميلة. ولتوضيح هذه الفكرة سنضرب مثلاً بالزرادشتيين، وهم عبدة نار هاجروا من إيران إلى الهند بعد الفتح الإسلامي واستقروا فيها، فقد كانوا يتحدثون الجوجورات ويلبسون أزياء الهنود وكانوا جماعة وظيفية تعمل بالزراعة والتجارة وتجارة الخمور، كما كان منهم الحرفيون. ورغم عزلتهم، فقد كانوا يضطلعون بوظيفة يحتاج إليها المجتمع، ولذا لم يكن هناك أي تحريض ضدهم. 

وبعد الاحتلال البريطاني للهند تحوَّل الزرادشتيون إلى جماعة عميلة، فأصبحوا ممثلين للشركات الأجنبية وتعاونوا مع ممثلي الاستعمار الإنجليزي. وبحلول عام 1864، أصبحت بومباي مركز نشاط الزرادشتيين وازداد تركُّزهم فيها وأصبحوا من أكثر الجماعات في الهند تركُّزاً في المدن، واشتغلت أعداد كبيرة منهم بالتجارة وتبادل العملات والمزايدات والعقارات، كما أصبحوا رواداً في تأسيس مصانع النسيج والصحف والمدارس على النظام الغربي. وقد قاموا بتحديث دينهم نفسه وخدموا في الحكومة الهندية كمساعدين للإنجليز. وكانوا يرون أن وظيفتهم تتوقف أساساً على مدى ولائهم للنخبة الحاكمة، وكانوا أيضاً يعتبرون أن الحكم البريطاني قد أتى لهم بالاستقرار والأمن والسلام.

ومع بدايات الحركة القومية الهندية في أواخر القرن التاسع عشر، حينما كانت هذه الحركة لا تزال تتسم بما يُسـمَّى «الاعتدال»، أي عدم المواجـهـة مع الاسـتعمار الإنجـليزي، انخـرطت أعـداد منهم في صفـوف قيادتها. ولكن، مع حدة المواجهة، انسحب الزرادشتيون وبدأت تظهر بينهم اتجاهات معادية للهنود، ثم تَنصَّـل الزرادشتيون من هويتهم "الشرقية" وعرَّفوا أنفسهم باعتبارهم من "الجنس الأبيض". ومع اقتراب استقلال الهند، حاولوا أن يحصلوا على دويلة مستقلة ولكن حزب المؤتمر عارض هذا الاتجاه. وبعد إعلان استقلال الهند، هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى الولايات المتحدة. وهناك دياسبورا زرادشتية في الولايات المتحدة، وهي أقلية تشبه الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة في كثير من الوجوه، فهم يتمتعون بدرجة عالية من التعليم وقد جرت علمنتهم ودمجهم وأمركتهم، لكنهم (مع هذا) يقاومون الاندماج ويتحدثون عن الهوية الزرادشتية المستقلة!

وقد حاول الاستعمار الغربي في العالم العربي أن يحقق شيئاً من هذا القبيل مع أعضاء الأقليات الدينية والإثنية، فحاول استقطابهم وتحويلهم إلى جماعات وظيفية عميلة تدين له بالولاء. فقامت جماعة الأليانس بنشر اللغة والثقافة الفرنسيتين بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي، في مصر والجزائر وفي غيرهما من البلدان، كما أُتيحـت لهم فرصة الحـصول على الجـنسيات الأوربية ومن ثم الاسـتفادة من المزايا الممنوحة للأجـانب. ويمكننا أن ننظر لهذه العملية باعتبارها عملية مُكمِّلة للاستعمار الاستيطاني الغربي الذي وصل إلى قمته في تأسيس الدولة الصهيونية في فلسطين والجيب الاستيطاني في الجزائر. 

والاستعمار الاستيطاني هو وصول عنصر سكاني غريب يغرس نفسه غرساً في البلد المستعمر ويدين بالولاء للوطن الأم ويرتبط به ثقافياً ويدين له بالولاء ويدافع عن مصالحه. وهذه العملية لا تختلف عن ذلك كثيراً، ولكن بدلاً من استيراد عنصر بشري غريب يقوم الاستعمار بالبحث عن عنصر بشري محلي فيغويه ويستوعبه ويُحوِّله إلى عنصر غريب عميل يرتبط ثقافياً به ويدين له بالولاء ويدافع عن مصالحه. وقد نجح الاستعمار نجاحاً كبيراً حتى أن معظم يهود العالم العربي، عند إنشاء الدولة الصهيونية، كانوا قد أصبحوا (ثقافياً واقتصادياً) جزءاً من التشكيل الاستعماري الغربي، وحصلت أعداد كبيرة منهم على الجنسيات الأوربية (كل يهود الجزائر ومعظم يهود تونس والمغرب وأكثر من نصف يهود مصر... وهكذا)، أي أنهم تحولوا إلى جماعة وظيفية عميلة، ومن ثم كان من السهل عليهم الهجرة والانضمام إلى الدولة الوظيفية الاستيطانية والقتالية في إسرائيل.

والملاحظ أن يهود مصر كانوا مندمجين في مجتمعهم المصري اندماج أقباطها، إلا أن الاستعمار فشل في استقطاب أعضاء الجماعة القبطية وفي تحويلهم إلى جماعة وظيفية عميلة يتم حوسلتها لصالحه. ولعل هذا يعود إلى أن الجماعة القبطية في المجتمع المصري لم تتحول إلى جماعة وظيفية تتسم بسمات الجماعات الوظيفية (التعاقدية ـ العزلة والغربة والعجز ـ الانفصال عن المكان والزمان والهوية الوهمية ـ الحركية ـ ازدواجية المعايير والنسبية الأخلاقية).

وظلت جزءاً من نسيج المجتمع المصري للأسباب التالية:

1 ـ لم يكن أقباط مصر عنصراً مُستجلَباً وإنما كانوا من سكان مصر الأصليين وكانت غالبيتهم من الفلاحين وكان من بينهم ملاك الأراضي والصناع والكتبة والمهنيون، أي أنهم كانوا يشغلون مختلف مواقع الهرم الإنتاجي، بل إنهم لم يكونوا مُمثَّلين في النخبة الحاكمة اليونانية والمغتصبة. وبعد الفتح الإسلامي، وفي إطار مفهوم أهل الذمة، لم يُحظَر عليهم الاشتغال بالزراعة أو الحرف (كما هو الحال في الحضارة الغربية الوسيطة)، بل أصبح الهرم الإنتاجي مفتوحاً أمامهم، ولذا فإنهم لم يخضعوا لأي تمييز وظيفي أو مهني ولم يتم عزلهم نفسياً أو جسدياً ولم تتم حوسلتهم وترشيدهم إلا بالقدر المألوف في المجتمعات التقليدية واللازم لإدارة المجتمع، والذي يُطبَّق على كل قطاعات المجتمع البشرية.

2 ـ تغيَّرت لغة أقباط مصر من القبطية إلى العربية، وهو ما يعني أنهم تبنوا الخطاب الحضاري الجديد دون أن يفقدوا بالضرورة هويتهم الدينية المتميِّزة، بل إن هذه الهوية الدينية نفسها تم تعريبها. أي أن أقباط مصر أمكنهم الاستمرار في الإبداع الحضاري وفي التعبير عن هويتهم من خلال الخطاب الحضاري القائم، وقد قلل هذا عزلتهم وغربتهم وعمَّق من انتمائهم إلى المجتمع.

3 ـ الدين الإسلامي والمسيحي دينان مختلفان لهما رؤيتان مختلفتان للإنسان والكون، ومع هذا فإن ثمة رقعة مشتركة واسعة بينهما سواء في رؤية الخلق (قصة آدم) أو رؤية الإله باعتباره منزَّهاً عن التاريخ والطبيعة وباعتباره إله العالمين. ولكن ما يهمنا في السياق الحالي هو أن الرؤية الأخلاقية أو النسق القيمي مشترك بين الدينين، فهما لا يعترفان بازدواج القيم (معيار للمؤمنين وآخر لغير المؤمنين) ويدعوان إلى مجموعة من القيم المطلقة المشتركة، وباب الخلاص مفتوح أمام الجميع. ولا يوجد إحساس بأنهم الشعب المختار. ولعل هذه السمة البنيوية في كل من الإسلام والمسيحية كانت مسألة حاسمة في الحيلولة دون ظهور الأخلاقيات المزدوجة والنسبية الأخلاقية التي تسم أعضاء الجماعة الوظيفية، وهذا على عكس اليهودية التي تطرح رؤية أخلاقية مزدوجة في بعض صياغاتها.

4 ـ الوطن القومي لأقباط مصر هو مصر وليس لهم وطن قومي آخر حقيقي أو وهمي. والأماكن المقدَّسة المسيحية تقع داخل الدولة الإسلامية في فلسطين التي تربطها علاقة خاصة بمصر والتي كانت تابعة إدارياً لها، وهي أماكن مقدَّسة وحسب وليست المكان الذي سيعود له الأقباط في آخر الأيام كما هو الحال مع اليهود. والكنيسة القبطية كنيسة مصرية لها هويتها الدينية والحضارية المستقلة عن كل الكنائس الأخرى. وقد ساهم ذلك ولا شك في تعميق ولاء الأقباط لمصر وتَجذُّرهم في أرضها وتاريخها (أي في المكان والزمان).

5 ـ لم تتكون دياسبورا قبطية خارج مصر تحاول تجنيد أعضاء الأقلية القبطية وتخلق بينهم لوبي يعمل لصالحها ويُولِّد الرغبة في الخروج والهجرة (الحركية)، هـذا على عكـس اليهود حيث تُوجَد دياســبورا يهودية ضخمة في العالم. ويُلاحَظ، مع نهاية القرن التاسع عشر، أن أعداداً كبيرة من اليهود الأشكناز هاجرت إلى مصر فصبغت أعضاء الجماعة اليهودية فيها بالصبغة الغربية، وولَّدت لديهم قابلية للانخراط في الحضارة الغربية.

6 ـ لعل قضية العدد هنا قضية مهمة، فبينما كان عدد يهود مصر صغيراً، كان عدد أقباطها كبيراً، فهم يُكوِّنون نسبة مئوية لها وزنها. وهذا يعني أن أعدادهم كافية لأن يُمثَّلوا في كل مستويات الهرم الإنتاجي وفي كل المجالات الثقافية. كما يعني أيضاً أنهم في احتكاك يومي فعلي بمعظم أعضاء الأغلبية، الأمر الذي جعل من العسير فرض صورة إدراكية عنصرية بسيطة عليهم أو عزلهم وجدانياً عن أعضاء الأغلبية. وأخيراً، أدَّى العدد الكبير إلى إفشال الخطة الاستعمارية الرامية إلى تغريب الأقباط عن طريق منحهم الامتيازات الأجنبية، وعن طريق فتح المدارس الأجنبية أمامهم وإكسابهم الخبرات اللازمة للانخراط في القطاع الاقتصادي الغربي الجديد. فإذا كانت هناك نسبة ما من أقباط مصر قد استفادت من هذا الوضع، فإن السواد الأعظم من الفلاحين وأعضاء الطبقة المتوسطة المصرية من الأقباط ظلوا بمنأى عنه لا يتمتعون بالمزايا ولا يعانون من الاقتلاع، وظلوا داخل التشكيل الحضاري المصري العربي الإسلامي "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".

7 ـ لكل هذه الأسباب، قاوم الأقباط حملات الاستعمار الرامية إلى فصلهم عن مجتمعاتهم العربية الإسلامية (ومن ذلك الحملات التبشيرية المسيحية التي حاولت إلحاقهم بالمسيحية الأوربية، وخصوصاً البروتستانتية، وفصلهم عن تراثهم الديني). ولذا، فقد ساهم الأقباط في الثورات القومية المختلفة وظهر من بينهم مفكرون يبدعون من خلال المعجم الحضاري العربي الإسلامي ويثرونه، كما ساهموا في الهرم الإنتاجي وأحرزوا التقدم مع مجتمعهم وتخلفوا معه وانتصروا وانكسروا بانتصاره وانكساره. ولعل موقف الكنيسة القبطية في مصر من الصراع العربي الإسرائيلي تعبير عن هذه الظاهرة في المجال السياسي.

ولا يختلف موقف المسيحيين العرب كثيراً عن موقف أقباط مصر، فهم أيضاً مواطنون أصليون لم يُستجلَبوا من الخارج وليس لهم وطن قومي آخر ولا يحنون إلى صهيون بعيدة أو في آخر الزمان. فعلى سبيل المثال، كانت قبائل الغساسنة في الشام قبل الفتح الإسلامي، تتحدث العربية الفصحى وكان لها قبل الفتح الإسلامي وبعده شعراؤها وأدباؤها الذين ساهموا في هذا الفتح وساندوه. وقد استمرت هذه القبائل في نمط حياتها، ولم ينقطع الإبداع الحضاري لأبنائها قط لأن الحضارة الإسلامية لم تفرض عليهم وظيفة متميِّزة أو مشينة ولم تحوسلهم بأي شكل كان. 

ولا شك في أن مفهوم أهل الذمة حدَّد وضعهم منذ البداية وحدَّد أن لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات إلا فريضة الجهاد باعتبارها فريضة دينية، وقد أُعفوا منها نظير البدل العسكري أو الجزية. والنظام القيمي عند المسيحيين العرب المُستمَد من الدين المسيحي، لا يعاني من أية ازدواجية، ويُلاحَظ أن معظم المسيحيين العرب من الأرثوذكس وأقلية منهم كاثوليك، كما أن إرساليات التبشير البروتستانتية لم تنجح كثيراً في تجنيد أعداد كبيرة منهم، وكل هذا يدل على أن هويتهم المسيحية العربية قوية. والكثافة السكانية للمسيحيين العرب كبيرة، ولذا كان بوسعهم أن ُيمثَّلوا في كل درجات الهرم الإنتاجي، كما أنهم لا يعيشون محميين ومعزولين داخل جيتو مقصور عليهم وإنما يعيشون مع أعضاء الأغلبية يحتكون بهم في كل المجالات ويعيشون معهم في السراء والضراء وبالقدر الإنساني المعقول من الحب والكره.


العلمانية الشاملة: تعريف 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
العلمانية الشاملة: تعريف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» قائمة تفسيرية نقدية بأهم الأعمال باللغتين العربية والإنجليزية
» الجزء الرابع: العلمانية الشاملة
» الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية
» الباب التاسع: العلمانية الشاملة: تاريخ موجز وتعريف
» الباب الرابع: صهيونية غير اليهود العلمانية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: مـوسـوعة الـيـهـــود-
انتقل الى: