الباب الرابع: صهيونية غير اليهود العلمانية
صهيونية غير اليهود العلمانية Gentile Secular Zionism
«صهيونية غير اليهود» اصطلاح نستخدمه للإشارة لما يُسمَّى «صهيونية الأغيار» ونضيف أحياناً كلمة «علمانية» حتى نميِّزها عن صهيونية غير اليهود ذات الديباجة المسيحية، وإن كنا عادةً لا نفعل ذلك ونكتفي بالحديث عن «صهيونية غير اليهود» من قبيل إطلاق العام والشائع على الخاص. وقد تدثرت الصيغة الصهيونية الأساسية بديباجات مسيحية عندما ظهرت في الغرب في القرن السابع عشر. ومع تزايد معدلات العلمنة، ابتداءً من القرن الثامن عشر، ومع انتشار الفلسفات النفعية والعقلانية، بدأت الديباجة المسيحية في الضمور والتواري وتم تسويغ الصهيونية انطلاقاً من الرؤية المعرفية الإمبريالية وأطروحاتها المادية. ومع هذا، فعادةً ما كانت الديباجات العلمانية والدينية تختلط، ولذا كانت تطرح ضرورة توطين اليهود في فلسطين لتحقيق الخلاص ولحماية الطريق إلى الهند.
ويُلاحَظ أنه في الفترة الممتدة من القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، بدأت صهينة الوجدان الغربي فبلور الفكر الألماني الرومانسي فكرة الشعب العضوي (الفولك)، وأصبح هناك «شعب عضوي ألماني» و «شعب عضوي إنجليزي» و «شعب عضوي يهودي». ويرد اليهود في كتابات هردر وكانط وفخته باعتبارهم شعباً عضوياً. كما تتواتر الفكرة نفسها في كتابات المؤلفين الرومانسيين الغربيين، وخصوصاً في بريطانيا (مثل بايرون وولتر سكوت مثلاً). ولكن الشعب العضوي اليهودي لا ينتمي إلى أوربا ولا للحضارة الغربية، فهو شعب عضوي منبوذ لابد من نَقْله. وقد تبلورت في أوائل هذه المرحلة فكرة نَفْع اليهود وإمكانية إصلاحهم وتوظيفهم، أي أن الصيغة الصهيونية الأساسية زادت تبلوراً ووضوحاً. وقد عبَّر فلاسفة حركة الاستنارة، مثل جون لوك وإسحق نيوتن، عن نزعة صهيونية أساسية في كتاباتهم.
وفي كتاب له صدر عام 1749 صنَّف الفيلسوف ديفيد هارتلي اليهود ضمن الهيئات السياسية باعتبارهم "كياناً سياسياً موحداً ذا مصير قومي مشترك رغم تَشتتُّهم الحالي". وقد تبنَّى الحجج الدينية النبوئية الشائعة وأضاف لها تفسيرات دنيوية. كما أن جوزيف بريستلي صوَّر فلسطين أرضاً "غير مأهولة بالسكان، أهملها مغتصبوها الأتراك ولكنها مشتاقة ومستعدة لاستقبال اليهود العائدين". ولم يكن الفكر الرومانسي أقل حماسة من الفكر الاستناري، بل يمكن القول بأن الفكر الرومانسي أعطى دفعة جديدة للصهيونية فتزايد الحديث عن العبقرية اليهودية والعرْق اليهودي. وقد نادى روسو (الذي ينحدر من أسرة بروتستانتية) بإعادة اليهود لدولتهم الحرة. وكان الفكر الألماني الرومانسي، الذي وُلدت في أحضانه فكرة الشعب العضوي، يتسم بنزعة صهيونية (معادية لليهود) كما يتضح في كتابات هردر وكانط وفخته. كما توجد أصداء صهيونية في أشعار بايرون وروايات وولترسكوت.
ويُلاحَظ تزايد الاهتمام باللغة العبرية، كما بدأ الفنانون الغربيون يتناولون الموضوعات اليهودية والعبرية بكثير من الألفة لم تكن معروفة من قبل. وقد نشر دزرائيلي روايتيه ديفيد الراوي (1833) وتانكرد (1847)، وهما روايتان لهما نزعة صهيونية واضحة. وقد ظهرت رواية جورج إليوت دانيل ديروندا (1876) أهم وثيقة أدبية صهيونية غير يهودية وهي التي تُعدُّ أهم وثيقة أدبية صهيونية غير يهودية والتي وُصفت بأنها مقدمة أدبية لوعد بلفور. ونُشر في الفترة بين 1840 و1880 ما يزيد على 1600 كتاب من كُتب أصحاب الرحلات إلى فلسطين، وقد ساهمت هذه الكتب في تدعيم صورة فلسطين كأرض مُهَملة، وصورت العرب (المسلمين أو البدو) كمسئولين عن هذا الخراب. وأُسِّس صندوق استكشاف فلسطين عام 1865 وكان مركزاً لمؤيدي الاستيطان الصهيوني. ومن أهم العلماء الأثريين فيه سير تشارلز وارن الذي قام بالعديد من الاكتشافات الأثرية وتنبأ بقيام حكم اليهود في فلسطين. كما قام كلود كوندر (1848 ـ 1910) بكتابة دراساته الجغرافية التي كانت تنشرها الصحافة الصادرة بالعبرية.
وقد ظلت النزعة الصهيونية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر تأخذ طابعاً فكرياً تأملياً أو عاطفياً لأن أوربا كانت في حالة انتقال. كما أن المشاريع الاستعمارية المختلفة كانت متوقفة أو لا تزال في حالة التفاف حول الدولة العثمانية التي كانت قد بدأت في التآكل من الداخل، وإن كانت لا تزال قوية قادرة على حماية رعاياها.
ويمكن القول بأن ظهور محمد علي وقَلْبه موازين القوى وتهديده للمشروع الاستعماري الغربي ووضعه حداً لآمال الدول الغربية التي كانت تترقب اللحظة المؤاتية لاقتسام تركة رجل أوربا المريض، أي الدولة العثمانية، يُشكِّل نقطة تحوُّل في تاريخ فلسطين وتاريخ الصيغة الصهيونية الأساسية، إذ تساقطت الأردية الدينية وظهر الواقع المادي النفعي. ويشرح الزعيم الصهيوني حاييم سوكولوف الموقف فيقول إن أوربا عام 1840 اضطرت محمد علي إلى التوقيع على «معاهدة لندن لتهدئة الشرق»، وبعد ذلك أصبح المنطق السائد في أوربا آنذاك على النحو التالي:
"إذا اتفقت الدول العظمى الخمس على تسوية المسألة الشرقية على أساس استقلال سوريا... واسترجاع اليهود لها... حاملين معهم عُدة الحضارة وأجهزتها، بحيث يكونون نواة لخلق مؤسسات أوربية... تحت رعاية القوى الأوربية الخمس... فإن ذلك سيساهم في أن تسترجع الدولة العثمانية قوتها... ومما لا شك فيه أن حالة سوريا محفوفة بعديد من المصاعب نظراً لانقسام سكانها إلى قبائل منفصلة. ولكن هذا لا يُثبت سوى ضرورة إدخال «مادة جديدة». حتى يتم صَهْر الطبقات كلها في جماعة مترابطة متوازنة. وإذا ما سلمنا بضرورة إدخال مادة جديدة في نسيج سوريا الاجتماعي، فإننا سنسلِّم بالتالي بأن هجرة اليهود إلى سوريا ستزودنا بأكثر المواد قبولاً. وسيتبع ذلك إقامة مؤسسات أوربية. وستجد إنجلترا حليفاً جديداً سيثبت أن الصداقة معه في نهاية الأمر ذات نفع لها في التعامل مع المسألة الشرقية".
ويُلاحَظ أن البُعد الجغراسي (الجيوبوليتيكي) الكامن للفكر الصهيوني بين غير اليهود أخذ يزداد حدة وتحدداً، بل أصبح البُعْد الرئيسي. ولم يعد الحل الصهيوني مجرد فكرة فلسفية أو تطلُّع عام. "فالتطورات السياسية [على حد قول سوكولوف] أدَّت إلى ظهور خلفية جديدة للصهيونية. إن قضية استرجاع إسرائيل التي كانت قضية أثيرة لدى العاطفيين وكُتَّاب المقالات والأدباء... وكل مؤمن بالإنجيل وكل صديق للحرية، أصبحت قضية حقيقية مطروحة [على المستوى السياسي]".
وكما قالت التايمز عام 1840، فإن المسألة أصبحت مطروحة بشكل جدي، بمعنى أن الصهيونية لم تَعُد فكرة هامشية تُتداوَل في الأوساط التبشيرية الإنجيلية وحسب، فعام 1840 هو عام ولادة المسألة الشرقية وهو أيضا عام ولادة الحل الصهيوني للمسألة اليهودية! وقد طُرحت مشاريع صهيونية عديدة في كل مكان في أوربا (في روسيا وبولندا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا)، فمع بدايات المشروع الاستعماري الألماني قام مولتكه (الضابط في الحرس الملكي البروسي) عام 1939 بنشر كتاب ألمانيا وفلسطين يقترح فيه إنشاء مملكة صليبية هناك لتشجيع اليهود والمسيحيين. وقد وضع بندتو موسولينو، الإيطالي الجنسية، خطة في عام 1851 لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وشهد منتصف القرن التاسع عشر بعثاً مؤقتاً للمشروع الاستعماري الفرنسي المستقل إبّان حكم نابليون الثالث.
فقد حصلت فرنسا على امتياز شق قناة السويس عام 1854 ثم جردت حملة عسكرية فرنسية عام 1860 ـ 1861 إلى جبل لبنان عقب الحرب الأهلية بين الدروز والموارنة، وهي الحرب التي كانت في واقع الأمر حرباً على النفوذ بين الإنجليز والفرنسيين. ويُقال إن الهدف من الحملة كان الضغط على السلطان العثماني للموافقة على امتياز قناة السويس. وفي هذا الإطار، ظهرت عدة كتابات فرنسية في الموضوع، أهمها دعوة لاهارن (سكرتير نابليون الثالث) لليهود بالعودة إلى فلسطين حتى يكونوا بمنزلة الوسطاء الذين سيفتحون الشرق للغرب لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وكان هنري دوتان (1820 ـ 1910)، مؤسس الصليب الأحمر الدولي، مهتماً بالمشروع الصهيوني، حيث حاول منذ عام 1863 حتى عام 1876 إثارة اهتمام الجماعات اليهودية باقتراحاته دون جدوى. وقد أسَّس جمعية الاستعمار الفلسطينية في لندن، واتصل بنابليون الثالث والحكومة العثمانية لعرض فكرته، كما حضر المؤتمرات الدولية للدفاع عنها واشترك في بعض المؤتمرات الصهيونية.
ويُلاحظ سوكولوف أن الكتابات الفرنسية في موضوع الصهيونية تتسم بأنها مجردة أكثر من اللازم. وبدلاً من أن يبيِّن أصحـاب هـذه الكـتابات بشـكل محـدد الإجراءات التي يجب اتخاذها، فإنهم يكتفون بالتعبير عن الآمال الفارغة ويصوغون اقتراحات ودعاوى غامضة. ولعل هذا يعود إلى أن الفكر الصهيوني في فرنسا لم يكن وراءه لا تاريخ طويل ولا مصالح محددة كما كان الحـال مع الفـكر الصهيوني في إنجلترا. كما أن فرنسا الكاثوليكية، برفضها التفسير الحرفي للعهد القديم، لم تكن متعاطفة مع هذه الرؤية لليهود.
ويُلاحَظ أن صهيونية غير اليهود صهيونية غربية بمعنى الكلمة (روسي ـ بولندي ـ ألماني ـ فرنسي ـ هولندي ـ إنجليزي) وقد أصدرت معظم هذه الدول وعوداً بلفورية أو ما يشبه الوعود البلفورية، ولكن صهيونية غير اليهود تظل ظاهرة بريطانية وبروتستانتية بالدرجة الأولى. والواقع أن أكبر عدد من الصهاينة غير اليهود ظهر بين صفوفهم، مثل الكولونيل جورج جاولر وجيمس فين ووليام بلاكستون وجوزيف تشامبرلين وإيان سمطس وجوسيا ودجوود، ولكن لورد شافتسبري ولورانس أوليفانت يعتبران أهم هؤلاء. وفي محاولة تفسير ذلك، يمكن القول بأن إنجلترا كانت أكبر قوة استعمارية، وأنها البلد الذي انتشر فيه التفسير الحرفي للكتاب المقدَّس، وأنها أخيراً البلد الذي لم يكن فيه يهود حتى أواخر القرن السابع عشر، فكان من الممكن ـ لكل هذه الأسباب ـ تجريد اليهود وتحويلهم عقلياً (ثم فعلياً) إلى وسيلة. كما يُلاحَظ أن هجرة أعضاء الجماعات اليهودية كانت تتم في إطار الاستعمار الاستيطاني الغربي ككل، والأنجلو ساكسوني على وجه الخصوص، ولذا نجد أن معظم المهاجرين اليهود استوطنوا في بلاد مرتبطة بالمشروع الاستيطاني الأنجلو ساكسوني (الولايات المتحدة ـ نيوزيلندا ـ جنوب أفريقيا ـ إسرائيل) .
وازدادت الفكـرة الصهيونيـة مركزية في الوجـدان السـياسي الغربي، ولعل أكبر دليل على هذا أن المفكرين الصهاينة من غير اليهود أصبحوا قريبين من صانع القرار. ويمكن أن نذكر في هذا المضمار وزير البحرية البريطانية هنري إنس (الذي كتب مذكرة عام 1839 موجهة إلى كل دول شمال أوربا وأمريكا البروتستانتية، قام اللورد بالمرستون، رئيس الوزراء، برفعها إلى الملكة فيكتوريا). كما يمكن أن نذكر في هذا المجال، جورج جولر حاكم جنوب أستراليا. وقد نشرت جريدة جلوب اللندنية (القريبة من وزارة الخارجية) مجموعة مقالات عام 1839/1840 تؤيد فيها مسألة تحييد سـوريا (وضمنها فلسـطين) وتوطين أعـداد كبـيرة من اليهـود فيها. وقد حازت المقالات موافقة اللورد بالمرستون. وقد نوقش في مؤتمر القوى الخمس الذي عُقد في لندن عام 1840 مسألة تحديد مستقبل مصر. وفي ذلك العام، كتب بالمرستون خطابه إلى سفير إنجلترا في الأستانة يقترح فيه إنشاء دولة يهودية حماية للدولة العثمانية ضد محمد علي. وقدَّم الكولونيل تشرشل عام 1841 مذكرة لموسى مونتفيوري يقترح تأسيس حركة سياسية لدعم استرجاع اليهود لفلسطين لإقامة دولة محايدة (أي في خدمة الدول الغربية).
وفي عام 1845، ظهر كتاب جورج جولر تهدئة سوريا والشرق حيث طرح خطوات عملية لعملية توطين اليهود في فلسطين. كما أن جولد سميد صاحب موسى مونتفيوري في رحلته إلى فلسطين عام 1849، بل أسَّس عام 1852 واحدة من المنظمات الصهيونية الأولى وهي منظمة تشجيع الاستيطان اليهودي في فلسطين التي قدمت المساعدة للقنصل الإنجليزي في القدس في عملية تدريب اليهود المحليين على الزراعة. كما نشر أيضاً اقتراحات عملية تتصل بتأسـيس صناعـات ترمي إلى زيادة النفـوذ الإنجـــليزي في سوريا. وبعد انتهاء حرب القرم (1853 ـ 1856)، قُدِّمت إلى مؤتمر القوى العظمى الذي عُقد في باريس مذكرة بشأن توطين اليهود في فلسطين. وقدَّم بنجامين دزرائيلي (الذي تقلَّد رئاسة الوزارة عام 1874) مذكرة غفلاً من اسم واضعها موجهة إلى المندوبين في مؤتمر برلين 1878 تتضمن اقتراحاً ذا طابع صهيوني لحل المسألتين اليهودية والشرقية، ولكن لم يتم توزيعها بسبب معارضة بسمارك (وقد قام المفكر الصهيوني الروسي بيرتس سمولنسكين بترجمة المذكرة إلى العبرية ونشرها).
وفي عام 1887، قدم إدوارد كازالت اقتراحاً بتوطين اليهود تحت حماية إنجلترا، وقد دافع عن الفكرة في كتابه وخطبه أثناء حملته الانتخابية حينما رشَّح نفسه للبرلمان. ويمكن القول بأن المشروع الصهيوني كانت ملامحه وأجزاؤه قد تكاملت في عقل كازالت، ولذا نجده يتوجـه للتفاصيل الدقيقـة وإلى الطابع اليهودي الإثني للاستيطان اليهودي، وإلى قضية الوعي اليهودي ككل، فكان أول من فكَّر في إنشاء جامعة عبرية. وفي نهاية السبعينيات، قام هو وأوليفانت، وانضم إليهما ممثلون عن جماعة البيلو، بالتفاوض مع الدولة العثمانية بشأن مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.
وفي ذلك الحين، كانت الولايات المتحدة (بتوجُّهها البروتستانتي الحرفي) تمور بالمفكرين الصهاينة غير اليهود مثل مانويل نواه (صاحب مشروع أرارات) ووليام بلاكستون. كما ظهرت فيها جماعات صهيونية مسيحية بعضها متعاطف مع اليهود والبعض الآخر يُكِّن له الحقد والاحتقار من أهمها جماعة شهود يهوه والمورمون. كما كانت توجد جماعة صهيونية مسيحية كان لها مشروعها الاستيطاني المستقل هي جماعة فرسان الهيكل الألمانية.
ومن الأمور المهمة والجديرة بالذكر أن كل هؤلاء الصهاينة غير اليهود توصلوا إلى الصيغة الصهيونية الأساسية، وأضافوا لها الديباجات لتبريرها، وخططوا المشروعات لوضعها موضع التنفيذ دون أية مؤثرات يهودية (فكرية أو غيرها). وفي كثير من الأحيان، كان ذلك يتم دون أيِّ احتكاك باليهود أو أية معرفة بهم، ففكرهم وُلد من داخل النموذج الحضاري الغربي، وهو ثمرة بنية الحضارة الغربية نفسها ونتاج حركياتها وتطوُّر مصالحها الإستراتيجية. وقد أعلن أحد المؤتمرات الصهيونية أن أبا الصهيونية (الحقيقي) هو الصهيوني غير اليهودي بلاكستون، وهو وصف دقيق ومباشر وليس فيه أية أبعاد مجازية. ولنا أن نلاحظ أن معظم المفكرين الصهاينة غير اليهود كانوا شخصيات غريبة الأطوار، إن لم تكن شاذة ومهزوزة، ومع هـذا فإن أفكـارهم كانت تجد صدى في الأوساط السياسية الغربية، وهو ما يدل على أن هذه الأفكار تعبِّر عن شيء أصيل وكامن في الحضارة الغربية آنذاك، يتجاوز شذوذ وغرابة أطوار حَمَلة هذا الفكر.
ورغم كل هذه النشرات والمقالات والمذكرات، إلا أن هناك إشكالية أساسية كامنة في صهيونية غير اليهود وهي أنها مهما بلغت من تحدُّد وتبلور وحدّة فهي لا تكترث بيهودية اليهود، فما يهمها هو المصالح الإستراتيجية للعالم الغربي (المسيحي) والاعتبارات العملية والنتائج الملموسة. ولذا، كان الصهاينة من غير اليهود ينظرون إلى اليهود من الخارج كأداة تُستخدَم وحسب، وكانوا يتحركون في العالم الغربي لا داخل المحيط اليهودي، ولم يكن بوسعهم بالتالي الوصول إلى المادة البشرية المستهدفة التي كانت تنظر بكثير من الشك إلى عـالم الأغـيار الذي كان يحـاول أن يقضي عليها في الماضي بالذبح، ويحاول الآن القضاء عليها بالإعتاق والعلمانية.
وحديث هؤلاء الصهاينة غير اليهود عن عودة اليهود لم يلق صدىً لدى أعضاء المادة المُستهدَفة إذ أن اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية قامت بتحويل فكرة العودة إلى أمر يتحقق في آخر الأيام، أي إلى ضرب من الحلم الديني الذي لا يتحقق إلا في مجال التاريخ المقدَّس لا على مستوى التاريخ الزمني. ولذا، كان اليهود ـ وبخاصة يهود العالم الغربي ـ يرفضون التورط في مشاريع العودة التي تطلق على نفسها اسم «مشاريع قومية». ولم تلق دعوة نابليون إلى يهود الشرق بالاستيطان آذاناً صاغية. وقد رفض مجلس مندوبي يهود إنجلترا الاقتراح الذي تقدَّم به الكولونيل تشارلز تشرشل لتوطين اليهود في فلسطين والذي حمله السير موسى مونتفيوري إلى المجلس نيابة عنه.
وقد شهد منتصف القرن التاسع عشر ظهور اليهودية الإصلاحية بتأكيدها المُثُل الاندماجية ورفضها فكرة العودة الفعلية إلى فلسطين رفضاً تاماً. وعُقد عام 1845 مؤتمر فرانكفورت الشهير الذي حذف من كتب الصلوات جميع التوسلات للعودة إلى أرض الآباء وإحياء دولة يهودية. وحينما عُقد المؤتمر اليهودي الأول عام 1872 لبحث مشكلة يهود رومانيا، لم يتطرق هذا المؤتمر إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين باعتبارها حلاًّ للمسألة اليهودية.
ومن أطرف التعليقات اليهودية على المشاريع الصهيونية غير اليهودية ما نشرته مجلة يهودية ألمانية (ذات طابع اندماجي) إذ قارنت المشاريع الصهيونية الإنجليزية التي نُشرت في الجلوب والتايمز بالمشاريع الفرنسية، وبينت أن الشاعر لامارتين (1790 ـ 1869) الذي كان يشغل منصباً حكومياً آنذاك يقترح تأسيس مملكة مسيحية عند منابع نهر الأردن، وأنه ينوي، إذا ما وقعت القدس تحت الهيمنة الفرنسية، أن يترك العالم بأسره لإنجلترا. ولكن الغريب في الموضوع ـ كما تقول المجلـة ـ أن اللـورد بالمرسـتون قد اختار البقعة نفسها لإنشاء دولة يهودية، فبينما كان الشاعر الشهير يحلم بإقامة دولة مسيحية في القدس كان اللـورد بالمرسـتون ينوي إقامة جمهـورية يهـودية فيها (وحولها)، وقد حذَّرت المجلة الشباب اليهودي من مثل هذه الدعاوى الصهيونية.
ويبدو أن الصهاينة غير اليهود أدركوا أن المادة البشرية المستهدفة لمشاريعهم ترفض مثل هذه المشاريع التي تهدف إلى اقتلاعهم من أوطانهم، ولذا فقد بذلوا جهداً في التوجه إلى الجماعات اليهودية وفي التقارب معها. فكتب الكولونيل كلود كوندر يشجع جهود أحباء صهيون على التسلل إلى فلسطين. ونشر هنري ونتورث مونك (كندي الجنسية) عدة مقالات صهيونية ظهرت في جويش كرونيكل بين عامي 1859 و 1896، وأسهم في تأسيس أولى المستوطنات اليهودية في فلسطين. وعقد مؤتمر للمسيحيين البارزين في مايو 1882 لمناقشة مسألة توطين المهاجرين اليهود من رومانيا وروسيا في فلسطين. وشهدت الفترة نفسها كتابات الأب إغناطيوس التي نُشرت على صفحات مجلة دي فيلت الصهيونية والتي ناشد فيها اليهود الانضمام إلى الحركة الصهيونية.
وكان شافتسـبري (أهـم الصـهاينة غير اليهود) صديقاً لمونتفيوري، أما أوليفانت (أكثرهم دينامية ونشاطاً) فقد اتصل ببعض الجمعيات اليهودية الاستيطانية لتشجيعها، وذهب بنفسه إلى فلسطين للاستيطان فيها بصحبة سكرتيره اليهودي نفتالي هرتز إمبر (مؤلف نشيد الهاتيكفاه). وبدأت تظهر شخصيات تقف بين الجماعتين اليهودية والمسيحية: مثل دزرائيلي (اليهودي الذي تنصَّر ليدخل الحضارة الغربية). ويمكننا الإشارة إلى الواعظ البروتستانتي هشلر الذي كان من أكثر الناس حماسة لإرجاع اليهود، فقدَّم العون لهرتزل وساهم في تقديمه للدوق بادن الذي قدَّمه بدوره إلى قيصر ألمانيا.
ولكن، ومهـما ازداد التـقارب بين الصـهاينة غير اليهود واليهود، فإن ذلك لم يكن له جدوى وكان ضرورياً أن يحدث شيء تاريخي ضخم يتجاوز حركات الأفراد، وقد كان هذا الشيء هو تعثُّر التحديث في شرق أوربا وتَوافُد الآلاف من يهود اليديشية على غرب أوربا، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور هرتزل الذي طوَّر الخطاب الصهيوني المراوغ وجعل بإمكان يهود الغرب قبول العقد الصهيوني الصامت وهو الأمر الذي كُلِّل بإصدار وعد/عقد بلفور.
ويمكن تلخيص إسهام صهيونية غير اليهود كما يلي:
1 ـ تمت صياغة الفكرة الصهيونية بمعظم أبعادها وديباجاتها. ولذا، فإن المفكرين الصهاينة من اليهود حينما ظهروا كانت الصياغات الأساسية جاهزة، وكذلك معظم الديباجات والمشاريع.
2 ـ صهيونية غير اليهود ذات الديباجة المسيحية والرومانسية حوَّلت فلسطين ومن عليها إلى مكان خارج التاريخ، فهي مجرد أرض ليس فيها أي أثر للتاريخ الحقيقي. وبالتالي، فقد أهدرت حقوق سكان فلسطين الفعليين، وأصبحت فلسطين في الوجدان الغربي مكاناً خاوياً ينتظر سكانه الأصليين.
3 ـ خلقت صهيونية غير اليهود (الدينية والعلمانية) المناخ السياسي الملائم لرؤية الأهمية الجغراسية لفلسطين.
4 ـ وضعت صهيونية غير اليهود الأساس للحل الاستعماري الغربي للمسألة اليهودية في شرق أوربا.
5 ـ طرحت صهيونية غير اليهود تفسيراً حرفياً لأحداث التاريخ وافترضت استمراراً حيث لا استمرار. وقد أثَّر ذلك في رؤية اليهود لفلسطين وأسهم في تحويل المفاهيم اليهودية الدينية التقليدية (المجازية) إلى مفاهيم استيطانية استعمارية.
6 ـ حينما ظهرت مشكلة المهاجرين اليهود من روسيا وبولندا ورومانيا في أواخر القرن التاسع عشر لم يُنظَر إليها باعتبارها مشكلة إنسانية تتطلب عملية التحديث السريعة، وإنما نُظر إليها باعتبارها مشكلة شعب عضوي مختار أو كتلة بشرية مستقلة أو مادة بشرية فعالة يمكن توظيفها في عملية الخلاص المسيحية أو المشاريع التجارية والاستعمارية الغربية المختلفة.
7 ـ ربطت صهيونية غير اليهود بين المسألتين الشرقية واليهودية وطرحت تصوراً مفاده أن إحدى المشكلتين يمكن حلها من خلال الأخرى.
وأهم الصهاينة غير اليهود هو اللورد بلفور (صاحب الوعد المشهور) الذي كان يستخدم كلاًّ من الديباجات الدينية والديباجات العلمانية. ومن الأمـور الجـديرة بالذكر أن تيـودور هرتزل، مؤسِّس الصهيونية، لم يكن يميِّز بين الصهاينة اليهود وغير اليهود، بل كان يرى الجميع جزءاً من التاريخ الغربي. ولذا، فهو يشير إلى دزرائيلي وجورج إليوت وموسى هس وليو بنسكر باعتبارهم صهاينة دون تمييز أو تفرقة بين اليهود منهم وغير اليهود.
صندوق استكشاف فلسطين Palestine Exploration Fund
جمعية أُسِّست عام 1864 تحت رعاية الملكة فكتوريا ملكة إنجلترا، وكان رئيس الجمعية أسقف يورك. وساهمت وزارة الحرب البريطانية بخدمات بعض الضباط، وخصوصاً من المهندسين مثل الكابتن كلود كوندر والكابتن تشارلز وارين (الذي اشتهر فيما بعد في جنوب أفريقيا) والملازم هـ. كتشنر (وهو اللورد كتشنر الذي عُيِّن فيما بعد معتمداً بريطانياً في مصر واشتهر في السودان)، وت. إ. لورنس.
وقد أعلن الصندوق أنه مؤسسة تهتم بالبحث الدقيق والمنظم في الآثار والطوبوجرافيا والجيولوجيا والجغرافية الطبيعية والتاريخ الطبيعـي وعـادات وتقاليـد الأرض المقدَّسة بهدف «التوضيح التوراتي»، والعبارة الأخيرة مبهمة إلى أقصى حد ولكنها تعني في نهـاية الأمر أن البحـث العلمـي قد وُظِّف في خـدمة الأهـداف التوراتية، أي «الأهداف الإسترجاعية العسكرية». وهذا ما وضحه كتاب المدنية والأرض الذي أصدره الصندوق، وهو يتألف من مجموعة من الدراسات كان من أهمها دراسة لوولتر بيسانت بيَّن فيها أن هدف الصندوق هو "الاستعادة": استعادة مجد فلسطين في عهد هيرود، واستعادة بلاد داود بحيث يمكن استعادة أسماء المدن التي دمرها القائد العظيم يوشع بن نون. وكذلك استعادة مكانة القدس ومجدها وأبهتها، واستعادة أسماء الأماكن المذكورة في التوراة (وكل هذا يبين مدى قوة العقيدة الاسترجاعية).
ويظهر تلاقي البُعْد التوراتي والبُعْد العسكري في الإشارة إلى يوشع بن نون وفي قول المؤلف: "عندما وُضعت الأسماء في أماكنها، أصبح في وسعنا تتبُّع سير الجيوش في زحفها" (ويمكن أن نضيف: وأصبح بإمكان جيوش الغزو الإمبريالي ـ البريطاني والصهيوني ـ أن تعرف طريقها). وقد ساهم كوندر بمقال في الكتاب نفسه ذي طابع صهيوني ديني عسكري.
وقد لَعب الصندوق بالفعل دوراً عظيم الأهمية في مجال تزويد الساسة والعسكريين البريطانيين بالمعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسية التي كانوا يحتاجون إليها لمد نفوذهم الاستعماري في المنطقة ولدراسة جدوى المشروع الاستعماري في فلسطين. وقد اعتمد الصندوق في ذلك على العديد من خبراء الآثار والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والمناخ. وكانت غالبية التقارير والدراسات الصادرة عن الصندوق ذات طابع صهيوني إذ كانت تشير إلى أهمية فلسطين وضرورة عودة اليهود إليها وإقامة كيان استيطاني لهم فيها تحت الحماية البريطانية. فالكابتن وارين نشر عدة مجلدات من أهمها إحياء القدس ومذكرات عملية مسح فلسطين، وذلك بالإضافة إلى كتاب أرض الوعد الذي دعا فيه إلى أن تتولَّى شركة الهند الشرقية تنمية موارد فلسطين، وخصوصاً مواردها الزراعية والتجارية، كما دعا إلى تدريب المستوطنين اليهود على إدارة شئونهم تمهيداً لتَسلُّمهم حكم فلسطين وإدارة شئونها (وهو المخطط الذي نُفِّذ فيما بعد من خلال حكومة الانتداب والوكالة اليهودية). وشارك الكابتن ويلسون في عدة عمليات بَحْث وتنقيب في بعض المناطق السورية واللبنانية، ولكن جهود الصندوق تركزت في النهاية على مرج ابن عامر ونابلس والقدس والخليل باعتبارها الأماكن التي شهدت تنقلات واستقرار "شعب إسرائيل" (كما ورد في تقريره للصندوق).
وقد أصدر الصندوق، بالإضافة إلى العدد الكبير من الكتب والتقارير، خريطتين دقيقتين: إحداهما لفلسطين الغربية (1880) والثانية لفلسطين الشرقية (1884). وقد حملت الخرائط الأسماء الحـديثة والقـديمة بالإضـافة إلى إبراز تضـاريس البلاد وطبيعتها المناخية. وقد بلغت الخريطتان من الدقة حداً كبيراً حتى سَهُل استعمالهما في عملية تحريك الجيوش البريطانية وانتقالها عبر تلك الأراضي في الحرب العالمية الأولى. وللصندوق متحف في لندن، وهو ينشر مجلة علمية ربع سنوية منذ عام 1869 (أصبحت سنوية منذ عام 1904)، كما نشر مؤلفات كتشنر وكوندر وغيرهما.
ولم يكن صندوق استكشاف فلسطين الوحيد من نوعه، فبعد خمس سنوات من تأسيسه أسَّس الأمريكيون الجمعية الأمريكية لاستكشاف فلسطين. وفي العام نفسه، أُسِّست جمعية الآثار التوراتية في إنجلترا. وأنشأ الألمان جمعيتين: الجمعية الألمانية للدراسات الشرقية (1897) والجمعية الألمانية للأبحاث الفلسطينية (1877). وأسس الفرنسيون أيضاً مدرسة لدراسة الآثار. وقد كان الحافز وراء الدراسة في كل هذه الجمعيات توراتياً (صهيونياً).
هنري فينش (1558 ـ 1625) Herny Finch
صهيوني غير يهودي استخدم ديباجات مسيحية. عضو في البرلمان البريطاني، وقانوني بارع. كان مهتماً جداً بالدراسات الدينية ودرس العبرية بتعمُّق. من كتاباته غير المتصلة بالقانون كتاب شرح نشيد الأنشاد (عام 1615) الذي ناقش فيه ما أسماه «أورشليم الجديدة». وكتب في عام 1621 أحد كلاسيكيات الصهيونية المسيحية وهو كتابه المعنون بـ الاستعارة العظيمة للعالم أو دعوة لليهود حيث دعا اليهود إلى التمسك بحقهم في الأرض الموعودة وطالب الملوك المسيحيين بأن يصغوا إلى مطالبهم ويرسلوهم إليها. واشترط لتحقيق هذا أن يتحول اليهود إلى المسيحية.
وقدَّم فنش تفسيراً حرفياً لنصوص العهد القديم وأعاد تعريف إسرائيل، فتخلى عن التفسير المسيحي بأن إسرائيل هي مفهوم روحي وطرح مفهوماً عرْقياً ("إسرائيل التي انحدرت من صلب يعقوب"). وقد أثارت تلك الآراء انتقاداً شديداً وأدَّت إلى سجنه مع ناشر الكتاب حتى تنصلا من هذه الآراء واعترفا بخطئهما. وقد اعتبر الملك جيمس الأول أن هذا الكتاب إهانة للذات الملكية. ولنا أن نلاحظ أن بنية أفكاره قبَّالية تماماً وتبحث في كيفية تخليص العالم من اليهود من أجل خلق العالم الجديد والتمهيد لعودة المسيح والعهد الألفي الثاني.
فيليب دي لانجالري (1656-1717) Philippe De Langallerie
صهيوني غير يهودي استخدم ديباجات مسيحية وعلمانية، وهو جنرال فرنسي مغامر كان يحلم بإقامة دولة يهودية. وقد تقلَّب دي لانجالري في الجيوش الأوربية فخدم تحت إمرة النمساويين ثم البولنديين بعد أن عمل في جيش فرنسا، ثم قدَّم عام 1716 عرضاً للأتراك (من خلال سفيرهم في لاهاي بهولندا) بأن يقود جيشاً من الحجاج المتنكرين إلى روما ثم يقتحم الفاتيكان ويلقي القبض على البابا ويسلم روما للأتراك. ومقابل ذلك، يأخذ أحد جزر البحر المتوسط التي كانت تحت سيطرة الأتراك (أو فلسطين الأرض المقدَّسة إن أمكن) من أجل توطين القبائل اليهودية المبعثرة والتائهة في هذه الأرض.
وقد ناشد دي لانجالري التجمعات اليهودية في أمستردام وهامبورج والطونا وغيرها من المدن التجارية في أوربا تعبئة وتجهيز جيش من 10 آلاف رجل . وقد أُعجب القبَّالي ألكسندر سوسكند المتزي بهذا المشروع وعرض على دي لانجالري أن يصير أمين خزانة مشروعه المسمَّى «الحكومة الدينية للكلمة المقدَّسة». وفي 1716، أُلقي القبض على دي لانجالري بالقرب من هامبورج، وحوكم في فيينا حيث مات في سجنه. وتوضح سيرة حياة هذا الرجل فكرة الارتباط بين الأفكار القبَّالية والمشيحانية من جهة والنزعات الاستعمارية والمادية التي كانت قد بدأت تسود أوربا في تلك الفترة من جهة أخرى.
جوزيف سلفادور (1796-1873) Joseph Salvador
طبيب ومفكر فرنسي ذي أب من أصل يهودي إسباني وأم كاثوليكية فرنسية. وُلد في مونبييه حيث درس الطب، لكنه استقر في باريس حيث اشتهر بدراساته في تاريخ الأديان. استخدم سلفادور المنهج النقدي التاريخي في دراساته الدينية الكثيرة، وخصوصاً في دراساته عن المسيح. وقد حاول سلفادور في دراسته المعنونة باريس وروما والقدس أو المسائل الدينية في القرن التاسع عشر أن يضع فكراً تصالحياً يجمع بين اليهودية والمسيحية في نسق ديني إصلاحي تقدُّمي. وقد حرَّمت الكنيسة الكاثوليكية كلا الكتابين. وكان سلفادور يحلم بأن تكون القدس مركز ديانته التجميعية الجديدة. وقد أدَّى تأكيده أهمية القدس ومركزيتها إلى أن يعتبره عدد من المؤرخين الصهاينة، مثل ناحوم سوكولوف وغيره، من أسلاف الصهيونية. بيد أن سلفادور كان يعتقد في قدس روحية سماوية تمثل مركزاً دينياً لحضارة كونية لا بؤرة استقطاب لشعب منبوذ/مختار في آن واحد. وقد تأثر سلفادور في أفكاره بأفكار سان سيمون. من بين كتبه الأخرى: شريعة موسى أو النسق الديني والسياسي للعبرانيين (1822) و تاريخ السيطرة الرومانية على يهوذا وتدمير القدس (1846(.
جورج جاولر (1796-1869) George Gawler
صهيوني غير يهودي يستخدم ديباجات مسيحية وعلمانية. وهو قائد عسكري بريطاني أخذ على عاتقه نشر الأفكار المرتبطة باستقرار اليهود في فلسطين. شارك في معركة ووترلو وصار بعدها حاكماً لمستعمرة جنوب أستراليا (1838 ـ 1841). وكان الخطاب الديني يختلط بالخطاب السياسي والعسكري في وجدانه، فقد كان يرى أن فلسطين ملك لرب إسرائيل وأن اليهود هم شعبه القومي، وكان يذهب إلى أن العناية الإلهية وضعت سوريا ومصر بين إنجلترا من جهة وبين أعظم مناطق إمبراطوريتها ومراكز تجارتها في الهند والصين، أي أن الوضع الجغراسي (الجغرافي السياسي) المتميز لسوريا ومصر والذي يُمكِّن الإمبراطورية الإنجليزية من توظيفه والاستفادة منه هو جزء من المخطط الإلهي، وكأن الإمبراطورية الإنجليزية امتداد للتاريخ التوراتي المقدَّس. والوضع نفسه ينطبق على الشعب المختار إذ سيتحول إلى مادة استيطانية أو حرس يهودي قومي "ثم يقف على جبال إسرائيل في مستوطنات زراعية عسكرية مزدهرة تحميها ضد المعتدين".
وكان جاولر يعتقد أن توطين اليهود ("أبناء الأرض الحقيقيين") في فلسطين يمثل الحل الأمثل لمشكلة عدم الاستقرار في الشرق الإسلامي، وهو الأمر الذي تنبهت له بريطانيا بشدة بعد الحروب النابليونية، كما يمثل الحل الأمثل للمشكلة اليهودية في أوربا. وقد ربط جاولر بين هذه المستوطنات وبين المصالح البريطانية في المنطقة في كتيبه تهدئة سوريا والشرق: ملاحظات واقتراحات عملية للإسراع بإقامة مستعمرات يهودية في فلسطين وهو العلاج الناجع والمعقول لمآسي تركيا الآسيوية (1845). وفي كتيبه الآخر تحرير اليهود ضرورة لحفظ الطبيعة البروتستانتية للإمبراطورية ومن أهم دعائم الأمة البريطانية (1847).
وكان جاولر يعتقد، بسبب تجربته الأسترالية، في إمكانية توطين فلسطين (التي كان يراها أرضاً بلا شعب) في غضون بضعة أعوام. وسافر مع السير موسى مونتفيوري إلى فلسطين عام 1849 ونجح في الحث على المشروع وفي بناء مستوطنات زراعية قرب يافا، وقد رفض معظم اليهود البريطانيين أفكار جاولر الاستيطانية. ويُعتبَر جاولر مثالاً كلاسيكياً للصهيونية غير اليهودية التي انتشرت في أوربا مع بداية عصر الاستعمار، وخصوصاً مع نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. ومن الواضح أنه كان يهدف لحماية المصالح البريطانية في الهند وفي المستعمرات الجديدة عن طريق خَلْق منطقة دفاع من المستوطنين اليهود الموالين للإمبراطورية لمواجهة أعداء الإمبراطورية.
يتبع إن شاء الله...