منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:14 pm


[139] {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}.
استئناف عن قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] كما تقدم هنا لك، و {تحاجوننا} خطاب لأهل الكتاب لأنه جواب كلامهم السابق ولدليل قوله الآتي: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 140].
والاستفهام للتعجب والتوبيخ، ومعنى المحاجة في الله الجدال في شئونه بدلالة الاقتضاء إذ لا محاجة في الذات بما هي ذات والمراد الشأن الذي حال اهـل الكتاب على المحاجة مع المؤمنين فيه وهو ما تضمنته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أن الله نسخ شريعة اليهود والنصارى وأنه فضله وفضل أمته، ومحاجتهم راجعة إلى الحسد واعتقاد اختصاصهم بفضل الله تعالى وكرامته.
فلذلك كان لقوله: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} موقع في تأييد الإنكار أي بلغت بكم الوقاحة إلى أن تحاجونا في إبطال دعوة الإسلام بلا دليل سوى زعمكم أن الله اختصكم بالفضيلة مع أن الله ربنا كما هو ربكم فلماذا لا يمن علينا بما من به عليكم.
فجملة {وَهُوَ رَبُّنَا} حالية أي كيف تحاجوننا في هاته الحالة المعروفة التي لا تقبل الشك، وبهذه الجملة حصل بيان لموضوع المحاجة، وكذلك جملة {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وهي عطف على الحال ارتقاء في إبطال مجادلتهم بعد بيان أن المربوبية تؤهل لإنعامه كما اهـلتهم، ارتقى فجعل مرجع رضي الله تعالى على عبادة أعمالهم فإذا كان قد أكرمكم لأجل الأعمال الصالحة فلعله أكرمنا لأجل صالحات أعمالنا فتعالوا فانظروا أعمالكم وانظروا أعمالنا تجدوا حالنا أقرب إلى الصلاح منكم.
قال البيضاوي كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوءة إما تفضل من الله على من يشاء فالكل فيه سواء وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها فلنا أيضا أعمال.
وتقديم المجرور فيه {لَنَا أَعْمَالُنَا} للاختصاص أي لنا أعمالنا لا أعمالكم فلا تحاجونا في أنكم أفضل منا، وعطف {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} احتراس لدفع توهم أن يكون المسلمون مشاركين للمخاطبين في أعمالهم وأن لنا أعمالنا يفيد اختصاص المتكلمين بما عملوا مع الاشتراك في أعمال الآخرين وهو نظير عطف قوله تعالى {وَلِيَ دِينِ} على قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون: 6].
وهذا كله من الكلام المصنف مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]
وجملة {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} عطف آخر على جملة الحال وهي ارتقاء ثالث لإظهار أن المسلمين أحق بإفاضة الخير فإنهم وإن اشتركوا مع الآخرين في المربوبية وفي الصلاحية لصدور الأعمال الصالحة فالمسلمون قد أخلصوا دينهم لله ومخالفوهم قد خلطوا عبادة الله بعبادة غيره، أي فلماذا لا نكون نحن أقرب إلى رضى الله منك إليه.
والجملة الاسمية مفيدة الدوام على الإخلاص كما تقدم في قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:14 pm


[140] {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140].
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}
أم منقطعة بمعنى بل وهي إضراب للانتقال من غرض إلى غرض وفيها تقدير استفهام وهو استفهام للتوبيخ والإنكار وذلك لمبلغهم من الجهل بتاريخ شرائعهم زعموا أن إبراهيم وأبناءه كانوا على اليهودية أو على النصرانية كما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} ولدلالة آيات أخرى عليه مثل: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [آل عمران: 67] ومثل قوله: {يَا اهـلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65] والأمة إذا انغمست في الجهالة وصارت عقائدها غرورا ومن دون تدبر اعتقدت ما لا ينتظم مع الدليل واجتمعت في عقائدها المتناقضات، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في الكعبة صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام في الكعبة فتلا قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ} - إلى قوله-: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: من الآية67] وقال والله إن استقسم بها قط، وقال تعالى في شأن اهـل الكتاب: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} فرماهم بفقد التعقل.
وقرأ الجمهور وأبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب بياء الغائب وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بتاء الخطاب على أن أم متصلة معادلة لقوله: {أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: من الآية139] فيكون قوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أمرا ثانيا لاحقا لقوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} وليس هذا المحمل بمتعين لأن في اعتبار الالتفات مناصا من ذلك.
ومعنى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} التقدير، وقد أعلمنا الله أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وهذا كقوله في سورة آل عمران {يَا اهـلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65] وقد استفيد من التقرير في قوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أنه أعلمهم بأمر جهلته عامتهم وكتمته خاصتهم ولذلك قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} يشير إلى خاصة الأحبار والرهبان الذين تركوا عامة أمتهم مسترسلين على عقائد الخطأ والغرور والضلالة وهم ساكتون لا يغيرون عليهم إرضاء لهم واستجلابا لمحبتهم وذلك أمر إذا طال على الأمة تعودته وظنت جهالتها علما فلم ينجع فيها إصلاح بعد ذلك لأنها ترى المصلحين قد أتوا بما لم يأت به الأولون فقالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
هذا من جملة المقول محكي بقوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ذلك تذكيرا لهم بالعهد الذي في كتبهم عسى أن يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر إن كانوا مترددين أو أن يفيئوا إلى الحق إن كانوا متعمدين المكابرة.
ومن في قوله: {مِنَ اللَّهِ} ابتدائية أي شهادة عنده بلغت من جانب الله على لسان رسله.
والواو عاطفة جملة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً} على جملة: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} وهذا الاستفهام التقريري كناية عن عدم اغترار المسلمين بقولهم إن إبراهيم وأبناءه كانوا هودا أو نصارى وليس هذا احتجاجا عليهم.
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بقية مقول القول وهو تهديد لأن القادر إذا لم يكن غافلا لم يكن له مانع من العمل بمقتضى علمه وقد تقدمت نظائر هذا في مواضع.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:15 pm


[141] {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134].
تكرير لنظيره الذي تقدم آنفا لزيادة رسوخ مدلوله في نفوس السامعين اهـتماما بما تضمنه لكونه معنى لم يسبق سماعه للمخاطبين فلم يقتنع فيه بمرة واحدة ومثل هذا التكرير وارد في كلام العرب، قال لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ضلالة  . . .  كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج  . . .  كدخان نار ساطع أسنامها1
فإنه لما شبه الغبار المتطاير بالنار المشبوبة واستطرد بوصف النار بأنها هبت عليها ريح الشمال وزادتها دخانا وأوقدت بالعرفج الرطيب لكثرة دخانه، أعاد التشبيه ثانيا لأنه غريب مبتكر.

-----------------------------------------------
1 الضمير المثنى لحمار الوحش وإتانه المذكورين في قوله قبله "أو ملمع وسقت لا حقب لاحه" ومعنى تنازعا تسابقا في غبار ممتد والسبط الطويل يعلو ظله في الشمس والمشعلة صفة موصوف محذوف أي نار والمشمولة التي هبت عليها ريح الشمال ونابت العرفج الجديد نباته, والعرفج نبت معروف.
-----------------------------------------------

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:16 pm


المجلد الثاني
تابع سورة البقرة. . .
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
[142] {سَيَقُوؤلُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].
قد خفي موقع هذه الآية من الآي التي بعدها لأن الظاهر منها أنها إخبار عن أمر يقع في المستقبل وأن القبلة المذكورة فيها هي القبلة التي كانت في أول الهجرة بالمدينة وهي استقبال بيت المقدس وأن التولي عنها هو نسخها باستقبال الكعبة فكان الشأن أن يترقب طعن الطاعنين في هذا التحويل بعد وقوع النسخ أي بعد الآيات الناسخة لاستقبال بيت المقدس لما هو معلوم من دأبهم من الترصد للطعن في تصرفات المسلمين فإن السورة نزلت متتابعة، والأصل موافقة التلاوة للنزول في السورة الواحدة إلا ما ثبت أنه نزل متأخرا ويتلى متقدما.
والظاهر أن المراد بالقبلة المحمولة القبلة المنسوخة وهي استقبال بيت المقدس أعني الشرق وهي قبلة اليهود ولم يشف أحد من المفسرين وأصحاب أسباب النزول الغليل في هذا على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلف إبدائها.
والذي استقر عليه فهم أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبة بديعة، وهي أن الآيات التي قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته والكعبة وأن من يرغب عنها قد سفه نفسه، فكانت مثارا لأن يقول المشركون، ما ولي محمدا وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة أي استقبال الكعبة مع أنه يقول أنه على ملة إبراهيم ويأبى عن اتباع اليهودية والنصرانية، فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس، ولأنه قد تكررت الإشارة في الآيات السابقة إلى هذا الغرض بقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115].
وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] كما ذكرنا هنالك، وقد هلم الله ذلك منهم فأنبأ رسوله بقولهم وآتى فيه بهذا الموقع العجيب وهو أن جعله بعد الآيات المشيرة له وقبل الآيات التي أنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة، لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلا بعد مقالة المشركين ويشمخ بأنوفهم يقولون غير محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه فكان لموضع هذه الآية هنا أفضل تمكن وأوثق ربط، وبهذا يظهر وجه نزولها قبل آية النسخ وهي قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } [البقرة: 144] الآيات لأن مقالة المشركين أو توقعها حاصل قبل نسخ استقبال بيت المقدس وناشئ عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة.
فالمراد بالسفهاء المشركون ويدل لذلك تبينه بقوله: {مِنَ النَّاسِ} فقد عرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ الناس يراد به المشركون كما روي ذلك عن ابن عباس ولا يظهر أن يكون المراد به اليهود أو اهـل الكتاب لأنه لو كان ذلك لناسب أن يقال سيقولون بالإضمار لأن ذكرهم لم يزل قريبا من الآي السابقة إلى قوله: {وَلا تُسْأَلونَ} [البقرة: 134] الآية ويعضدنا في هذا ما ذكر الفخر عن ابن عباس والبراء بن عازب والحسن أن المراد بالسفهاء المشركون وذكر القرطبي أنه قول الزجاج، ويجوز أن يكون المراد بهم المنافقين وقد سبق وصفهم بهذا في أول السورة فيكون المقصود المنافقين الذين يبطنون الشرك، والذي يبعثهم على هذا القول هو عين الذي يبعث المشركين عليه وقد روي عن السدي أن السفهاء هنا هم المنافقون.
أما الذين فسروا {السُّفَهَاءُ} باليهود فقد وقعوا في حيرة من موقع هذه الآية لظهور أن هذا القول ناشئ عن تغيير القبلة إلى بيت المقدس وذلك قد وقع الأخبار به قبل سماع الآية الناسخة للقبلة لأن الأصل موافقة التلاوة للنزول فكيف يقول السفهاء هذا القول قبل حدوث داعي إليه لأنهم إنما يطعنون في التحول عن استقبال بيت المقدس لأنه مسجدهم وهو قبلتهم في قول كثير من العلماء، ولذلك جزم أصحاب هذا القول بأن هذه الآية نزلت بعد نسخ استقبال بيت المقدس ورووا ذلك عن مجاهد وروى البخاري في كتاب الصلاة1 من طريق عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء حديث تحويل القبلة ووقع فيه فقال السفهاء وهم اليهود، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وأخرجه في كتاب الإيمان2 من طريق عمرو بن خالد عن زهير عن أبي إسحاق عن البراء بغير هذه الزيادة.

-----------------------------------------------
1 انظر: "فتح الباري لابن حجر "1/502" دار المعرفة- كتاب الصلاة "31 باب التوجه نحو القبلة حيث كان.
2 المصدر السابق"1/95" دار المعرفة، كتاب الإيمان "30" باب الصلاة من الإيمان.
-----------------------------------------------

ولكن قال عوضها وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلى قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلمَّا ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، وأخرجه في كتاب التفسير1 من طريق أبي نعيم عن زهير بدون شئ من هاتين الزيادتين، والظاهر أن الزيادة الأولى مدرجة من إسرائيل عن أبي إسحاق، والزيادة الثانية مدرجة من عمرو بن خالد لأن مسلما والترمذي والنسائي قد رووا حديث البراء عن أبي إسحاق من غير طريق إسرائيل ولم يكن فيه إحدى الزيادتين، فاحتاجوا إلى تأويل حرف الاستقبال من قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} بمعنى التحقيق لا غير أي قال السفهاء ما ولاهم.
ووجه فصل هذه الآية عما قبلها بدون عطف اختلاف الغرض عن غرض الآيات السابقة فهي استئناف محض ليس جوابا عن سؤال مقدر.
والأولى بقاء السين على معنى الاستقبال إذ لا داعي إلى صرفه معنى المضي وقد علمتم الداعي إلى الإخبار به قبل وقوعه منهم وقال في الكشاف فائدة الإخبار به قبل وقوعه أن العلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه وذكر ابن عطية عن ابن عباس أنه من وضع المستقبل موضع الماضي ليدل على استمرارهم فيه وقال الفخر إنه مختار القفال.
وكأن الذي دعاهم إلى ذلك أنهم ينظرون إلى أن هذا القول وقع بعد نسخ استقبال بيت المقدس وأن الآية نزلت بعد ذلك وهذا تكلف ينبغي عدم التعويل عليه، والإخبار عن أقوالهم المستقبلة ليس بعزيز في القرآن مثل قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} [الإسراء: 51] وإذا كان الذي دعاهم إلى ذلك ثبوت أنهم قالوا هذه المقالة قبل نزول هذه الآية وشيوع ذلك كان لتأويل المستقبل بالماضي وجه وجيه، وكان فيه تأييد لما أسلفناه في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة: 120].
والسفهاء جمع سفيه الذي هو صفة مشبهة من سفه بضم الفاء إذا صار السفه له سجية وتقدم القول في السفه عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].

-----------------------------------------------
1 المصدر السابق "8/171، كتاب التفسير سورة البقرة "12" باب {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} إلخ.
-----------------------------------------------

وفائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلوما هو التنبيه على بلوغهم الحد الأقصى من السفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء فإذا قسم نوع الإنسان أصنافا كان هؤلاء صنف السفهاء فيفهم أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة، والمعنى أن كل من صدر منه هذا القول هو سفيه سواء كان القائل اليهود أو المشركين من اهـل مكة.
وضمير الجمع في قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في اللفظ حكاية لقول السفهاء، وهم يريدون بالضمير أو بما يعبر عنه في كلامهم أنه عائد على المسلمين.
وفعل "ولاهم" أصله مضاعف ولى إذا دنا وقرب، فحقه أن يتعدى إلى مفعول واحد بسبب التضعيف فيقال ولاه من كذا أي قربه منه وولاه عن كذا أي صرفه عنه ومنه قوله تعالى هنا {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ}، وشاع استعماله في الكلام فكثر أن يحذفوا حرف الجر الذي يعديه إلى متعلق ثان فبذلك عدوه إلى مفعول ثان كثيرا على التوسع فقالوا ولى فلانا وجهه مثلا دون أن يقولوا ولى فلان وجهه من فلان أو عن فلان فأشبه أفعال كسا وأعطى ولذلك لم يعبأوا بتقديم أحد المفعولين على الآخر قال تعالى: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [لأنفال: 15] أصله فلا تولوا الأدبار منهم، فالأدبار هو الفاعل في المعنى لأنه لو رفع لقيل ولي دبره الكافرين، ومنه قوله تعالى: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] أي نجعله واليا مما تولى أي قريبا له أي ملازما له فهذا تحقيق تصريفات هذا الفعل.
وجملة {مَا وَلَّاهُمْ} الخ هي مقول القول فضمائر الجمع كلها عائدة على معاد معلوم من المقام وهم المسلمون ولا يحتمل غير ذلك لئلا يلزم تشتيت الضمائر ومخالفة الظاهر في أصل حكاية الأقوال.
والاستفهام في قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} مستعمل في التعريض بالتخطئة واضطراب العقل.
والمراد بالقبلة في قوله: {عَنْ قِبْلَتِهِمُ} الجهة التي يولون إليها وجوههم عند الصلاة كما دل عليه السياق وأخبار سبب نزول هذه الآيات.
والقبلة في أصل الصيغة أسم على زنة فعلة بكسر الفاء وسكون العين، وهي زنة المصدر الدال على هيئة فعل الاستقبال أي التوجه اشتق على غير قياس بحذف السين والتاء ثم أطلقت على الشيء الذي يستقبله المستقبل مجازا وهو المراد هنا لأن الانصراف لا يكون عن الهيئة قال حسان في رثاء أبي بكر رضي الله عنه:
أليس أول من صلى لقبلتكم
والأظهر عندي أن تكون القبلة أسم مفعول على وزن فعل كالذبح والطحن وتأنيثه باعتبار الجهة كما قالوا: ما له في هذا الأمر قبلة ولا دبرة أي وجهة.
وإضافة القبلة إلى ضمير المسلمين للدلالة على مزيد اختصاصها بهم إذ لم يستقبلها غيرهم من الأمم لأن المشركين لم يكونوا من المصلين وأهل الكتاب لم يكونوا يستقبلون في صلاتهم، وهذا مما يعضد حمل "السفهاء" على المشركين إذ لو أريد بهم اليهود لقيل عن قبلتنا إذ لا يرضون أن يضيفوا تلك القبلة إلى المسلمين، ومن فسر السفهاء باليهود ونسب إليهم استقبال بيت المقدس حمل الإضافة على أدنى ملابسة لأن المسلمين استقبلوا تلك القبلة مدة سنة وأشهر فصارت قبلة لهم.
وضمير الجمع في قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور الفظ حكاية لقول السفهاء وهم يريدون بالضمير أو بمساويه في كلامهم عوده على المسلمين.
و قوله: {الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أي كانوا ملازمين لها فعلى هنا للتمكن المجازي وهو شدة الملازمة مثل قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]، وفيه زيادة توجيه للإنكار والاستغراب أي كيف عدلوا عنها بعد أن لا رموها ولم يكن استقبالهم إياها مجرد صدفة فإنهم استقبلوا الكعبة ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة.
واعلم أن اليهود يستقبلون بيت المقدس وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم لأن بيت المقدس إنما بني بعد موسى عليه السلام بناه سليمان عليه السلام، فلا تجد في أسفار التوراة الخمسة ذكرا لاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء، ولكن سليمان عليه السلام هو الذي سن استقبال بيت المقدس ففي سفر الملوك الأول أن سليمان لما أتم بناء بيت المقدس جمع شيوخ إسرائيل وجمهورهم ووقف أمام المذبح في بيت المقدس وبسط يديه ودعا الله دعاء جاء فيه: "إذا انكسر شعب إسرائيل أمام العدو ثم رجعوا واعترفوا وصلوا نحو هذا البيت فأرجعهم إلى الأرض التي أعطيت لآبائهم وإذا خرج الشعب لمحاربة العدو وصلوا إلى الرب نحو المدينة التي اخترتها والبيت الذي بنيته لا سمك فأسمع صلاتهم وتضرعهم", الخ، وذكر بعد ذلك أن الله تجلى لسليمان وقال له: قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعت به أمامي، وهذا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة، فلعل بني إسرائيل التزموه لا سيما بعد خروجهم من بيت المقدس أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحي من الله.
وقد قال ابن عباس ومجاهد: كان اليهود يظنون أن موافقة الرسول لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية، وجرى كلام ابن العربي في "أحكام القرآن" على الجزم بأن اليهود كانوا يستقبلون بيت المقدس بناءا على كلام ابن عباس ومجاهد، ولم يثبت هذا من دين اليهود كما علمت، وذكر الفخر عن أبي مسلم ما فيه أن اليهود كانوا يستقبلون جهة المغرب وأن النصارى يستقبلون المشرق، وقد علمت آنفا أن اليهود لم تكن لهم في صلاتهم جهة معينة يستقبلونها وأنهم كانوا يتيمنون في دعائهم بالتوجه إلى صوب بيت المقدس على اختلاف موقع جهته من البلاد التي هم بها فليس لهم جهة معينة من جهات مطلع الشمس ومغربها وما بينهما فلما تقرر ذلك عادة عندهم توهموا من الدين وتعجبوا من مخالفة المسلمين في ذلك.
وأما النصارى فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة ولا تعيين جهة معينة ولكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل على الصنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل عكسوا ذلك فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب وبذلك يكون المذبح إلى الغرب والمصلون مستقبلين الشرق، وذكر الخفاجي أن بولس الذي أمرهم بذلك، فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معينة فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه وكذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة.
وأما استقبال الكعبة في الحنيفية فالظاهر أن إبراهيم عليه السلام لما بنى الكعبة استقبلها عند الدعاء وعند الصلاة لأنه بناها للصلاة حولها فإن داخلها لا يسع الجماهير من الناس وإذا كان بناؤها للصلاة حولها فهي أول قبلة وضعت للمصلي تجاهها وبذلك اشتهرت عند العرب ويدل عليه قول زيد بن عمروا بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهم  . . .  مستقبل الكعبة وهو قائم
أما توجهه إلى جهتها من بلد بعيد عنها فلا دليل على وقوعه فيكون الأمر بالتزام الاستقبال في الصلاة من خصائص هذه الشريعة ومن جملة معاني إكمال الدين بها كما سنبينه.
وقد دلت هذه الآية على أن المسلمين كانوا يستقبلون جهة ثم تحولوا عنها إلى جهة أخرى وليست التي تحول إليها المسلمون إلى جهة الكعبة فدل على أنهم كانوا يستقبلون بيت المقدس وبذلك جاءت الآثار.
والأحاديث الصحيحة في هذا ثلاث، أولها وأصحها حديث "الموطأ" عن ابن دينار عن ابن عمر: "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة [قرآن]1 وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة", ورواه أيضا البخاري من طريق مالك، ومسلم من طريق مالك ومن طريق عبد العزيز بن مسلم وموسى بن عقبة، وفيه أن نزول آية تحويل القبلة كان قبل صلاة الصبح وأنه لم يكن في أثناء الصلاة وأنه صلى الصبح للكعبة وهذا الحديث هو أصل الباب وهو فصل الخطاب.
ثانيها: حديث مسلم عن أنس بن مالك وفيه: "فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة".
الثالث: حديث البخاري ومسلم واللفظ للبخاري في كتاب التفسير عن البراء بن عازب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] فتوجه نحو الكعبة ثم قال: فصلى مع النبي رجل ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله وأنه توجه نحو الكعبة فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة" ، وحمل ذكر صلاة الصبح في رواية ابن عمر وأنس بن مالك وذكر صلاة العصر في رواية البراء كل على اهـل مكان مخصوص، وهنالك آثار أخرى تخالف هذه لم يصح سندها ذكرها القرطبي.
فتحويل القبلة كان في رجب سنة اثنتين من الهجرة قبل بدر بشهرين وقيل يوم الثلاثاء نصف شعبان منها.
واختلفوا في أن استقباله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس هل كان قبل الهجرة أو بعدها، فالجمهور على أنه لما فرضت عليه الصلاة بمكة كان يستقبل الكعبة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس تألقا لليهود قاله بعضهم وهو ضعيف.

-----------------------------------------------
1 زيادة من "الموطأ" "1/195" تحقيق عبد الباقي،"كتاب القبلة" باب ما جاء في القبلة، ومن صحيح البخاري"، انظر فتح الباري" "1/506"، دار المعرفة، كتاب الصلاة "32" باب ما جاء في القبلة، وهذه الزيادة ليست في "صحيح مسلم" وهو من رواته كما سيذكر المصنف.
-----------------------------------------------

وقيل كان يستقبل بيت المقدس وهو في مكان يجعل الكعبة أمامه من جهة الشرق فيكون مستقبلاً الكعبة وبيت المقدس معاً، ولم يصح هذا القول.
واختلفوا هل كان استقبال بيت المقدس بأمر من الله، فقال ابن عباس والجمهور أوجبه الله عليه بوحي ثم نسخة باستقبال الكعبة ودليلهم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143] الآية، وقال الطبري كان مخيرا بين الكعبة وبيت المقدس واختار بيت المقدس استئلافا لليهود، وقال الحسن وعكرمة وأبو العالية، كان ذلك عن اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القول يكون قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] دالا على أنه أجتهد فرأى أن يتبع قبلة الدينين الذين قبله ومع ذلك كان يود أن يأمره الله باستقبال الكعبة، فلما غيرت القبلة قال السفهاء وهم اليهود أو المنافقون على اختلاف الروايات المتقدمة وقيل كفار قريش قالوا اشتاق محمد إلى بلده وعن قريب يرجع إلى دينكم ذكره الزجاج ونسب إلى البراء بن عازب وابن عباس والحسن، وروي القرطبي أن أول من صلى نحو الكعبة من المسلمين أبو سعيد بن المعلي وفي الحديث ضعف.
وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} جواب قاطع معناه أن الجهات كلها سواء في أنها مواقع لبعض المخلوقات المعظمة فالجهات ملك لله تبعا للأشياء الواقعة فيها المملوكة له، وليس مستحقة للتوجه والاستقبال استحقاقا ذاتيا.
وذكر المشرق والمغرب مراد به تعميم الجهات كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115]، ويجوز أن يكون المراد من المشرق والمغرب الكناية عن الأرض كلها لأن اصطلاح الناس أنهم يقسمون الأرض إلى جهتين شرقية وغربية بحسب مطلع الشمس ومغربها، والمقصود أن ليس لبعض الجهات اختصاص بقرب من الله تعالى لأنه منزه عن الجهة وإنما يكون أمره باستقبال بعض الجهات لحكمة يريدها كالتيمن أو التذكر فلا بدع في التولي لجهة دون أخرى حسب ما يأمر به الله تعالى، فقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} إشارة إلى وجه صحة التولية إلى الكعبة، وقوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إشارة إلى وجه ترجيح التولية إلى الكعبة على التولية إلى غيرها لأن قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} تعريض بأن الذي أمر الله به المسلمين هو الهدي دون قبلة اليهود إلا أن هذا التعريض جيء به على طريقة الكلام المنصف من حيث ما في قوله: {مَنْ يَشَاءُ} من الإجمال الذي يبينه المقام فإن المهدي من فريقين كانا في حالة واحدة وهو الفريق الذي أمره من بيده الهدي بالعدول عن الحالة التي شاركه فيها الفريق الآخر إلى حالة اختص هو بها، فهذه الآية بهذا المعنى فيها إشارة إلى ترجيح أحد المعنيين من الكلام الموجه أقوى من آية: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] وقد سلك في هذا الجواب لهم طريق الإعراض والتبكيت لأن إنكارهم كان عن عناد لا عن طلب الحق فأجيبوا بما لا يدفع عنهم الحيرة ولم يتبين لهم حكمة تحويل القبلة ولا أحقية الكعبة بالاستقبال وذلك ما يعلمه المؤمنون.
فأما إذا جربنا على قول الذين نسبوا إلى اليهود استقبال جهة المغرب وإلى النصارى استقبال جهة المشرق من المفسرين فيأتي على تفسيرهم أن نقول إن ذكر المشرق والمغرب إشارة إلى قبلة النصارى وقبلة اليهود، فيكون الجواب جوابا بالإعراض عن ترجيح قبلة المسلمين لعدم جدواه هنا، أو يكون قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إيماء إلى قبلة الإسلام، والمراد بالصراط المستقيم هنا وسيلة الخير وما يوصل إليه كما تقدم في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فيشمل ذلك كل هدي إلى خير ومنه الهدى إلى استقبال أفضل جهة.
فجملة {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} حال من اسم الجلالة ولا يحسن جعلها بدل اشتمال من جملة {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} لعدم وضوح اشتمال جملة {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} على معنى جملة {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إذ مفاد الأولى أن الأرض جميعها لله أي فلا تتفاضل الجهات ومفاد الثانية أن الهدى بيد الله.
واتفق علماء الإسلام على أن استقبال الكعبة أي التوجه إليها شرط من شروط صحة الصلاة المفروضة والنافلة إلا لضرورة في الفريضة كالقتال والمريض لا يجد من يوجهه إلى جهة القبلة أو لرخصة في النافلة للمسافر إذا كان راكبا على دابة أو في سفينة لا يستقر بها.
فأمَّا الذي هو في المسجد الحرام ففرض عليه استقبال عين الكعبة من أحد جوانبها ومن كان بمكة في موضع يعاين منه الكعبة فعليه التوجه إلى جهة الكعبة التي يعاينها فإذا طال الصف من أحد جوانب الكعبة وجب على مَنْ كان من اهـل الصف غير مقابل لركن من أركان الكعبة أن يستدير بحيث يصلون دائرين بالكعبة صفاً وراء صف بالاستدارة، وأمَّا الذي تغيب ذات الكعبة عن بصره فعليه الاجتهاد بأن يتوخَّى أن يستقبل جهتها فمن العلماء مَنْ قال يتوخَّى المُصلّي جهة مصادفة عين الكعبة بحيث لو فرض خط بينه وبين الكعبة لوجد وجهه قبالة جدارها، وهذا شاقٌ يعسر تحققه إلا بطريق إرصاد علم الهيئة1ويعبر بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك ونحن لم نكلف الإجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها" انظر هذه المسألة أيضا في "الإحياء" للغزالي"2/265"، دار المعرفة، "كتاب آداب السفر" ما يتجدد من الوظيفة بسبب السفر.

-----------------------------------------------
1 قاله ابن رشد في البداية" "1/111"، دار المعرفة، وفيه: "إن إصابة العين شيء لا يدرك إلا
عن هذا باستقبال العين وباستقبال السمت وهذا قول ابن القصار وأختاره أحد أشياخ أبي الطيب عبد المنعم الكندي ونقله المالكية عن الشافعي، ومن العلماء من قال يتوخى المصلي أن يستقبل جهة أقرب ما بينه وبين الكعبة بحيث لو مشى باستقامة لوصل حول الكعبة ويعبر عن هذا باستقبال الجهة أي جهة الكعبة وهذا قول أكثر المالكية واختاره الأبهري والباجي وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وهو من التيسير ورفع الحرج، ومن كان بالمدينة يستدل بموضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لأن الله أذِنَ لرسوله بالصلاة فيه، وروى أبن القاسم عن مالك أن جبير هو الذي أقام للنبي صلى الله عليه وسلم قبلة مسجده.
وبَيَّنَ المازري معنى المسامتة بأن يكون جزء من سطح وجه المصلى وجزء من سمت الكعبة طرفي خط مستقيم وذلك ممكن بكون صف المصلين كالخط المستقيم الواصل بين طرفي خيطين متباعدين خرجا من المركز إلى المحيط من جهته لأن كل نقطة منه ممر لخارج من المركز إلى المحيط اهـ، واستبعد عز الدين بن عبد السلام هذا الكلام بأن تكليف البعيد استقبال عين البيت لا يُطاق، وبإجماعهم على صحة صلاة ذوي صف مائة ذراع وعرض البيت خمسة أذرع فبعض هذا الصف خارج عن سمة البيت قطعاً ووافقه القرافي ثم أجاب بأن البيت لمستقبليه كمركز دائرة لمحيطها والخطوط الخارجة من مركز لمحيطه كلما قربت منه اتسعت ولا سيما في البعد.
فإذا طالت الصفوف فلا حرج عليهم لأنهم إنما يجب عليهم أن يكونوا متوجهين نحو الجهة التي يعبرون عنها بأنها قبلة الصلاة.
ومن أخطأ القبلة أو نسى الاستقبال حتى فرغ من صلاته لا يجب عليه إعادة صلاته عند مالك وأبي حنيفة وأحمد إلا أن مالكاً استحبَّ له أن يُعيدها ما لم يخرج الوقت ولم ير ذلك أبو حنيفة وأحمد وهذا بناء على أن فرض المكلف هو الاجتهاد في استقبال الجهة وأمَّا الشافعي فأوجب عليه الإعادة أبداً بناءً على أنه يرى أن فرض المكلف هو إصابة سمت الكعبة.
-----------------------------------------------


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:17 pm


{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.
هذه الجملة معترضة بين جملة {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 142] الخ، وجملة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} الخ، اعتراضية وهي من قبيل الواو الاستئنافية، فالآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون وأن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أخرى لهم هي خير مما تقدم وهي فضيلة كون المسلمين عدولا خيارا ليشهدوا على الأمم لأن الآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة وهذه الآية لا تتعلق بأمر القبلة.
وقوله: {كَذَلِكَ} مركب من كاف التشبيه واسم الإشارة فيتعين تعرف المشار إليه وما هو المشبه به قال صاحب "الكشاف" أي مثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا فاختلف شارحوه في تقرير كلامه وتبين مراده: فقال البيضاوي "الإشارة إلى المفهوم أي ما فهم من قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] أي كما جعلناكم أمة وسطا أو كما جعلنا قبلتكم أفضل قبلة جعلناكم أمة وسطا اهـ أي أن قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} يومئ إلى أن المهدي هم المسلمون وإلى أن المهدي إليه هو استقبال الكعبة وقت قول السفهاء {مَا وَلَّاهُمْ} [البقرة: 142] على ما قدمناه وهذا يجعل الكاف باقية على معنى التشبيه ولم يعرج على وصف "الكشاف" الجعل بالعجيب كأنه رأى أن اسم الإشارة لا يتعين للحمل على أكثر من الإشارة وإن كان إشارة البعيد فهو يستعمل غالبا من دون إرادة بعد وفيه نظر، والمشار إليه على هذا الوجه معنى تقدم في الكلام السابق فالإشارة حينئذ إلى مذكور متقرر في العلم فهي جارية على سنن الإشارات.
وحمل شراح "الكشاف" الكاف على غير ظاهر التشبيه، فأما الطيب والقطب فقالا الكاف فيه اسم بمعنى مثل منتصب على المفعولية المطلقة لجعلناكم أي مثل الجعل العجيب جعلناكم فليس تشبيها ولكنه تمثيل لحالة والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله: {يَهْدِي} وهو الأمر العجيب الشأن أي الهدى التام، ووجه الإتيان بإشارة البعيد التنبيه على تعظيم المشار إليه وهو الذي عناه في "الكشاف" بالجعل العجيب، فالتعظيم هنا لبداعة الأمر وعجابته ثم أن القطب ساق كلاما نقض به صدر كلامه.
وأما القزويني صاحب "الكشف" والتفتزاني فبيناه بأن الكاف مقحمة كالزائدة لا تدل على تمثيل ولا تشبيه فيصير اسم الإشارة على هذا نائبا مناب مفعول مطلق لجعلناكم كأنه قيل ذلك الجعل جعلناكم أي فعدل عن المصدر إلى اسم إشارته النائب عنه لإفادة عجابة هذا الجعل بما مع اسم الإشارة من علامة البعد المتعين فيها لبعد المرتبة.
والتشبيه على هذا الوجه مقصود منه المبالغة بإيهام أنه لو أراد المشبه أن يشبه هذا في غرابته لما وجد له إلا أن يشبهه بنفسه وهذا قريب من قول النابغة والسفاهة كاسمها فليست الكاف بزائدة ولا هي للتشبيه ولكنها قريبة من الزائدة والإشارة حينئذ إلى ما سيذكر بعد اسم الإشارة، وكلام "الكشاف" أظهر في هذا المحمل فيدل على ذلك بتصريحه في نظائره إذ قال في قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء: 59] الكاف منصوبة على معنى مثل أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم وأورثناها.
واعلم أن الذي حدا صاحب الكشاف إلى هذا المحمل أن استعمال اسم الإشارة في هذا وأمثاله لا يطرد فيه اعتبار مشار إليه مما سبق من الكلام ألا ترى أنه لا يتجه اعتبار مشار إليه في هذه الآية وفي آية سورة الشعراء ولكن صاحب الكشاف قد خالف ذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} فقال: "كما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم" اهــ وما قاله في هذه الآية منزع حسن ؛ لكنه لم يضرب الناظرون فيه بعطن.
والتحقيق عندي أن أصل {كذلك} أن يدل على تشبيه شيء بشيء والمشبه به ظاهر مشار إليه أو كالظاهر ادعاء، فقد يكون المشبه به المشار إليه مذكورا مثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] إشارة إلى قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود: 101] الآية.
وكقول النابغة:
فألفيت الأمانة لم تخنها  . . .  كذلك كان نوح لا يخون
وقد يكون المشبه به المشار إليه مفهوما من السياق فيحتمل اعتبار التشبيه ويحتمل اعتبار المفعولية المطلقة كقول أبي تمام:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر  . . .  فليس لعين لم يفض دمعها عذر
قال التبريزي في "شرحه" 1 الإشارة للتعظيم والتهويل وهو في صدر القصيدة لم يسبق له ما يشبه به فقطع النظر فيه عن التشبيه واستعمل في لازم معنى التشبيه اهـ، يعني أن الشاعر أشار إلى الحادث العظيم وهو موت محمد بن حميد الطوسي، ومثله قول الأسدي في شعراء "الحماسة" يرثي أخاه*.
فهكذا يذهب الزمان ويف  . . .  نى العلم فيه ويدرس الأثر
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} على ما فسر به البيضاوي من هذا القبيل.
وقد يكون مرادا منه التنويه بالخير فيجعل كأنه مما يروم المتكلم تشبيهه ثم لا يجد إلا أن يشبهه بنفسه وفي هذا قطع للنظر عن التشبيه في الواقع ومثله قول أحد شعراء فزارة في الأدب من الحماسة:
كذاك أدبت حتى صار من خلقي  . . .  أني رأيت ملاك الشيمة الأدبا
أي أدبت هذا الأدب الكامن العجيب، ومنه قول زهير:
كذلك خيمهم ولكل قوم  . . .  إذا مستهم الضراء خيم
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} من هذا القبيل عند شراح "الكشاف" وهو الحق، وأوضح منه في هذا المعنى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] فإنه لم يسبق ذكر شيء غير الذي سماه الله تعالى فتنة أخذا من فعل {فَتَنَّا}.
والإشارة على هذا المحمل المشار إليه مأخوذ من كلام متأخر عن اسم الإشارة كما علمت آنفا لجعل المأخوذ من {جَعَلْنَاكُمْ} ، وتأخير المشار إليه عن الإشارة استعمال بليغ في مقام التشويق كقوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] أو من كلام متقدم عن اسم الإشارة كما للبيضاوي إذ جعل المشار إليه هو الهدي المأخوذة من قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 142] ولعله رأى لزوم تقدم المشار إليه.

-----------------------------------------------
1 من كتب التبريزي: شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، 2 شرح المشكل من ديوان أبي تمام.
والتبريزي: هو يحيى بن علي محمد الشيباني التبريزي، أبو زكريا، من أئمة اللغة والأدب.
توفي سنة 502هـ "الأعلام" "8/157"
* وقيل البيت لابن كناسة في رثاء حماد الرواية، وقال الجاحظ هو لبعض الشعراء في رثاء بعض العلماء.
-----------------------------------------------

والوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به وليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفا ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة: طبعا كوسط الوادي لا تصل إليه الرعاة والدواب إلا بعد أكل ما في الجوانب فيبقي كثير العشب والكلأ، ووضع كوسط المملكة يجعل محل قاعدتها ووسط المدينة يجعل موضع قصبتها لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفا فأطلقوه على الخيار النفيس كناية قال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم  . . .  إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل
وقال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] ويقال أوسط القبيلة لصميمها.
وأما إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط كالشجاعة بين الجبن والتهور، والكرم بين الشح والسرف والعدالة بين الرحمة والقساوة، فذلك مجاز بتشبيه الشيء الموهوم بالشيء المحسوس فلذلك لروي حديث: "خير الأمور أوسطها" وسنده ضعيف وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صار حقيقتين عرفيتين.
فالوسط في هذه الآية فسر بالخيار لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وفسر بالعدول والتفسير الثاني رواه الترمذي في "سننه" عن حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال حسن صحيح، والجمع في التفسيرين هو الوجه كما قدمناه في المقدمة التاسعة.
ووصفت الأمة بوسط بصيغة المذكر لأنه اسم جامد فهو لجموده يستوي فيه التذكير والتأنيث مثل الوصف بالمصدر في الجمود والإشعار بالوصفية بخلاف نحو رأيت الزيدين هذين فإنه وصف باسم مطابق لعدم دلالته على صفة بل هو إشارة محصنة لا تشعر بصلة في الذات.
وضمير المخاطبين هنا مراد به جمع المسلمين لترتبه على الاهتداء لاستقبال الكعبة فيعم كل من صلى لها، ولأن قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} [البقرة: 143] قد فسر في الحديث الصحيح بأنها شهادة الأمة كلها على الأمم فلا يختص الضمير بالموجودين يوم نزول الآية.
والآية ثناء على المسلمين لأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطا بما هيأ لهم من أسبابه في بيان الشريعة بيانا جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروج عليهم الظلالات التي راجت على الأمم، قال فخر الدين يجوز أن يكونوا وسطا بمعنى أنه متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا المسيح أبن الله، ولم يقصروا كما قصرت اليهود فبدلوا الكتب واستخفوا بالرسل.
واستدل اهـل أصول الفقه بهذه الآية على أن إجماع علماء الأمة أي المجتهدين حجة شرعية فيما أجمعوا عليه1، وفي بيان هذا الاستدلال طرق:
الأول قال الفخر إن الله أخبر عن عدالة الأمة وخيريتها فلو أقدموا على محظور لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت ذلك وجب كون قولهم حجة اهـ، أي لأن مجموع المجتهدين عدول بقطع النظر عن احتمال تخلف وصف العدالة في بعض أفرادهم، ويبطل هذا أن الخطأ لا ينافي العدالة ولا الخيرية فلا تدل الآية على عصمتهم من الخطأ فيما أجمعوا عليه وهذا رد متمكن، وأجيب عنه بأن العدالة الكاملة التي هي التوسط بين طرفي إفراط وتفريط تستلزم العصمة من وقوع الجميع في الخطأ في الأقوال والأفعال والمعتقدات،
الطريق الثاني قال البيضاوي لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت عدالتهم اهـ، يعني أن الآية اقتضت العدالة الكاملة لاجتماع الأمة فلو كان إجماعهم على أمر باطل لانثلمت عدالتهم أي كانت ناقصة وذلك لا يناسب الثناء عليهم بما في هذه الآية، وهذا يرجع إلى الطريق الأول.
الطريق الثالث قال جماعة الخطاب للصحابة وهم لا يجمعون على خطأ فالآية حجة على الإجماع في الجملة، ويرد عليه أن عدالة الصحابة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد وقد يكون إجماعهم عن اجتهاد أما إجماعهم على ما هو من طريق النقل فيندرج فيما سنذكره.
والحق عندي أن الآية صريحة في أن الوصف المذكور فيها مدح للآمة كلها لا لخصوص علمائها فلا معنى للاحتجاج بها من هاته الجهة على حجية الإجماع الذي هو من أحوال بعض الأمة من أحوال جميعها، فالوجه أن الآية دالة على حجية إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل لشريعة وهو المعبر عنه بالتواتر وبما علم من الدين بالضرورة وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبي صلى الله عليه وسلم مما هو تشريع مؤصل أو بيان مجمل مثل أعداد الصلوات والركعات وصفة الصلاة والحج ومثل نقل القرآن، وهذا من أحوال إثبات الشريعة، به فسرت المجملات وأسست الشريعة.

-----------------------------------------------
1 ذكر هذا في المفسرين القرطبي في "2/156"، الألوسي في "2/4، القاسمي في "2/286".
-----------------------------------------------

وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه1، وهو الذي اعتبر فيه أبو بكر الباقلاني وفاق العوام واعتبر فيه غيره عدد التواتر، وهو الذي يصفه كثير من قدماء الأصوليين بأنه مقدم على الأدلة كلها2.
وأمَّا كون الآية دليلاً على حجية إجماع المجتهدين عن نظر واجتهاد فلا يؤخذ من الآية إلا بأن يقال إن الآية يستأنس بها لذلك فإنها لما أخبرت أن الله تعالى جعل هذه الأمة وسطا وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفي إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمل عقول هذه الآمة بما تنشأ عليه عقولهم من الاعتياد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمم، ومن الاعتياد بتلقي الشريعة من طرق العدول وإثبات أحكامها بالاستدلال استنباطا بالنسبة للعلماء وفهما بالنسبة للعامة، فإذا كان كذلك لزم من معنى الآية أن عقول أفراد هاته الأمة عقول قيمة وهو معنى كونها وسطا، ثم هذه الاستقامة تختلف بما يناسب كل طبقة من الأمة وكل فرد، ولما كان الوصف الذي ذكر أثبت لمجموع الأمة قلنا إن هذا المجموع لا يقع في الظلال لا عمدا ولا خطأ، أما التعمد فلأنه ينافي العدالة وأما الخطأ فلأنه ينافي الخلقة على استقامة الرأي فإذا جاز الخطأ على آحادهم لا يجوز توارد جميع علمائهم على الخطأ نظرا، وقد وقع الأمران للأمم الماضية فأجمعوا على الخطأ متابعة لقول واحد منهم لأن شرائعهم لم تحذرهم من ذلك أو لأنهم أساءوا تأويلها، ثم إن العامة تأخذ نصيبا من هذه العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط وبهذا ينتظم الاستدلال.
وقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} علة لجعلهم وسطا فإن أفعال الله تعالى كلها منوطة بحكم وغايات لعلمه تعالى وحكمته وذلك عن إرادة واختيار لا كصدور المعلول عن العلة كما يقول بعض الفلاسفة، ولا بوجوب وإذ جاء كما توهمه عبارات المعتزلة وإن كان مرادهم منها خيراً فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته تعالى لكمال حكمته.

-----------------------------------------------
1 انظر "حاشية العطار على جمع الجوامع" "2/238"، دار الكتب العلمية، و"تيسير التحرير" "3/259"، ط مصطفى الحلبي.
2 قال الغزالي: " يجب على المجتهد أن ينظر أول شيء في الإجماع فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لا يقبله، فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ"انضر المستصفى" مع "مسلم الثبوت" "2/392، دار صادر.
-----------------------------------------------

و"الناس" عام والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون وهذه الشهادة دنيوية وأخروية.
فأما الدنيوية فهي حكم هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم برسلهم والمكابرين في العكوف على مللهم بعد مجيء ناسخها وظهور الحق، وهذا حكم تأريخي ديني عظيم إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعود عرض الحوادث كلها على معيار النقد المصيب.
والشهادة الأخروية هي ما رواه البخاري1 والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فتسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول الله من شهودك فيقول محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال عدلا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا} اهــ.
فقوله "ثم قرأ" يدل على أن هذه الشهادة من جملة معنى الآية لا أنها عين معنى الآية، والظاهر من التعليل هو الشهادة الأولى لأنها المتفرعة عن جعلنا أمة وسطا، وأما مجيء شهادة الآخرة على طبقها فذلك لما عرفناه من أن أحوال الآخرة تكون على وفق أحوال الدنيا قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126].
ومن مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دعوتنا الأمم للإسلام، ليقوم ذلك مقام دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين.
والشهادة على الأمم تكون لهم وعليهم، ولكنه اكتفى في الآية بتعديتها بعلى إشارة إلى أن معظم شهادة هذه الأمة وأهمها شهادتهم على المعرضين لأن المؤمنين قد شهد لهم إيمانهم فالاكتفاء بعلى تحذير للأمم من أن يكونوا بحيث يشهد عليهم وتنويه بالمسلمين بحالة سلامتهم من وصمة أن يكونوا ممن يشهد عليهم وبحالة تشريفهم بهاته المنقبة وهي إثقاف المخالفين لهم بموجب شهادتهم.

-----------------------------------------------
1 انظر "فتح الباري" "13/316"، كتاب الاعتصام "19" باب {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}.
-----------------------------------------------

وقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} معطوف على العلة وليس علة ثانية لأنه ليس مقصوداً بالذات بل هو تكميل للشهادة الأولى لأن جعلنا وسطاً يناسبه عدم الاحتياج إلى الشهادة لنا وانتفاء الشهادة علينا، فأمَّا الدنيوية فشهادة الرسول علينا فيها هي شهادته بذاته على معاصريه وشهادة شرعه على الذين أتوا بعده إمَّا بوفائهم ما أوجبه عليهم شرعه وإمَّا بعكس ذلك، وأمَّا الأخروية فهي ما روي في الحديث المتقدم من شهادة الرسول بصدق الأمَّة فيما شهدت به، وما روي في الحديث الآخر في "الموطأ" و "الصحاح ": "فليذادن أقوامٌ عن حوضي فأقول يا رب أمَّتِي فيُقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم بدَّلوا وغيَّروا فأقول سُحقاً سُحقاً لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي".
وتعدية شهادة الرسول على الأمة بحرف على مشاكلة لقوله قبله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وإلا فإنها شهادة للأمة وقيل بل لتضمين {شَهِيداً} معنى رقيبا ومهيمنا في الموضعين كما في "الكشاف".
وقد دلت هذه الآية على التنويه بالشهادة وتشريفها حتى أظهر العليم بكل شيء أنه لا يقضى إلا بعد حصولها ويؤخذ من الآية أن الشاهد شهيد بما حصل له من العلم وإن لم يشهده المشهود عليه وأنه يشهد على العلم بالسماع، والأدلة القاطعة وإن لم ير بعينيه أو يسمع بأذنيه، وأن التزكية أصل عظيم في الشهادة، وأن المزكي يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكى، وأن المزكى لا يحتاج التزكية، وأن الأمة لا تشهد على النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان يقول في حجة الوداع ألا هل بلغت فيقولون نعم فيقول اللهم اشهد فجعل الله هو الشاهد على تبليغه وهذا من أدق النكت.
وتقديم الجار والمجرور على عامله لا أراه إلا لمجرد الاهتمام بتشريف أمر هذه الأمة حتى أنها تشهد على الأمم والرسل وهي لا يشهد عليها إلا رسولها، وقد يكون تقديمه لتكون الكلمة التي تختم بها الآية في محل الوقف كلمة ذات حرف مد قبل الحرف الأخير لأن المد أمكن للوقوف وهذا من بدائع فصاحة القرآن، وقيل تقديم المجرور مفيد لقصر الفاعل على المفعول وهو تكلف ومثله غير معهود في كلامهم.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:18 pm


{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143].
الواو عاطفة على جملة {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142] وما اتصل بها من الجواب بقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} قصد به بيان الحكمة من شرع استقبال بيت المقدس ثم تحويل ذلك إلى شرع استقبال الكعبة وما بين الجملتين من قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} إلى آخرها اعتراض.
والجعل هنا جعل التشريع بدليل أن مفعوله من شؤون التعبد لا من شؤون الخلق وهو لفظ القبلة، ولذلك ففعل جعل هنا متعد إلى مفعول واحد لأنه بمعنى شرعنا، فهذه الآيات نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة فيكون المراد بيت المقدس، وعدل عن تعريف المسند باسمه إلى الموصول لمحاكاة كلام المردود عليهم حين قالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} مع الإيماء إلى تعليل الحكمة المشار إليها بقوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي ما جعلنا تلك قبلة مع إرادة نسخها فألزمناكها زمنا إلا لنعلم إلخ.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} استثناء من علل وأحوال أي ما جعلنا ذلك لسبب وفي حال إلا لنظهر من كان صادق الإيمان في الحالتين حالة تشريع استقبال بيت المقدس وحالة تحويل الاستقبال إلى الكعبة.وذكر عبد الحكيم1 أنه قد روي أن بعض العرب ارتدوا عن الإسلام لما استقبل رسول الله بيت المقدس حمية لقبلة العرب، واليهود كانوا تأولوا لأنفسهم العذر في التظاهر بالإسلام كما قررناه عند قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] فنافقوا وهم يتأولون للصلاة معه بأنها عبادة لله تعالى وزيادة على صلواتهم التي هم محافظون عليها إذا خلوا إلى شياطينهم مع أن صلاتهم مع المسلمين لا تشتمل على ما ينافي تعظيم شعائرهم إذ هم مستقبلون بيت المقدس فلما حولت القبلة صارت صفة الصلاة منافية لتعظيم شعائرهم لأنها استدبار لما يجب استقباله فلم تبقى لهم سعة للتأويل فظهر من دام على الإسلام وأعرض المنافقون عن الصلاة.
وجعل علم الله تعالى بمن يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه علة هذين التشريعين يقتضي أن يحصل في مستقبل الزمان من التشريع كما يقتضيه لام التعليل وتقدير أن بعد اللام وأن حرف استقبال مع أن الله يعلم ذلك وهو ذاتي له لا يحدث ولا يتجدد لكن المراد بالعلم هنا علم حصول ذلك وهو تعلق علمه بوقوع الشيء الذي علم في الأزل أنه سيقع فهذا تعلق خاص وهو حادث لأنه كالتعلق التنجيزي للإرادة والقدرة وإن أغفل المتكلمون عده في تعلقات العلم2.

-----------------------------------------------
1 أي السيالكوتي
2 بعد أن كتبت هذه بسنين وجدت في الرسالة الخاقانية للمحقق عبد الحكيم السلكوتي في تحقيق المذاهب في علم الله تعالى قوله: "وقيل إن علم الله تعالى له تعلقات أزلية بكل ما يصلح أن يعلم"، وتعلقات متجددة بالمتجددات من حيث تجددها ووقوعها في أزمنة متغيرة والتغيير في التعلقات والإضافات لا يضر بكماله، لأن ذلك التجدد ليس بنقصان في ذاته بل لأن كماله التام يقتضي أن =
-----------------------------------------------

ولك أن تجعل قوله: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} كناية عن أن يعلم بذلك كل من لم يعلم على طريق الكناية الرمزية فيذكر علمه وهو يريد علم الناس كما قال إياس بن قبيصة الطائي:
وأقدمت والخطى يخطر بيننا  . . .  لأعلم من جباؤها من شجاعها
أراد ليظهر من جبانها من شجاعها فأعلمه أنا ويعلمه الناس فجاء القرآن في هذه الآية ونظائرها على هذا الأسلوب، ولك أن تجعله كناية عن الجزاء للمتبع والمنقلب كل بما يناسبه ولك أن تجعل "نعلم" مجازا عن التحيز ليظهر للناس بقرينة كلمة "من" المسماة بمن الفصلية كما سماها ابن مالك وابن هشام وهي في الحقيقة من فروع معاني من الابتدائية كما استظهره صاحب "المغني"، وهذا لا يريبك إشكال يذكرونه، كيف يكون الجعل الحادث علة لحصول العلم القديم إذ يتبين لك أنه راجع لمعنى كنائي.
والانقلاب الرجوع إلى المكان الذي جاء منه، يقال انقلب إلى الدار، وقوله: {عَلَى عَقِبَيْهِ} زيادة تأكيد في الرجوع إلى ما كان وراءه لأن العقبين هما خلف الساقين أي انقلب على طريق عقبيه وهو هنا استعارة تمثيلية للارتداد عن الإسلام رجوعا إلى الكفر السابق.
ومن موصولة وهي مفعول نعلم والعلم بمعنى المعرفة وفعله يتعدى إلى مفعول واحد.
وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} عطف على جملة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} والمناسبة ظاهرة لأن جملة {وَإِنْ كَانَتْ} بمنزلة العلة لجملة نعلم {نَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} فإنها ما كانت دالة على الاتباع والانقلاب إلا لأنها أمر عظيم لا تساهل فيه فيظهر به المؤمن الخالص من المشوب والضمير المؤنث عائد للحادثة أو القبلة باعتبار تغيرها.
وإن مخففة من الثقيلة.
والكبيرة هنا بمعنى الشديدة المحرجة للنفوس.
تقول العرب كبر عليه كذا إذا كان شديدا على نفسه كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35].

-----------------------------------------------
لا يكون المتجدد حاصلاً له في الأزل لنقصانه، كما أن الممتنع لا تتعلق به القدرة لنقصانه لا لنقصان في ذاته وقدرته"اهـ ولم ينسب هذا القول إلى معين من الحكماء أو المتكلمين وهو تحقيق دقيق.
-----------------------------------------------

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
الجملة في موضع الحال من ضمير {لِنَعْلَمَ} أي لنظهر من يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه ونحن غير مضيعين إيمانكم.
وذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار للتعظيم.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال: "[و]1 كان [الذي] مات على القبلة قبل أن تحول [قبل البيت] رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وفي قوله: "قتلوا" إشكال لأنه لم يكن قتال قبل تحويل القبلة وسنبين ذلك، وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال لما وجه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنول الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية قال هذا حديث حسن صحيح.
والإضاعة إتلاف الشيء وإبطال آثاره وفسر الإيمان على ظاهره، وفسر أيضا بالصلاة نقله القرطبي عن مالك.
وتعلق "يضيع" بالإيمان على تقدير مضاف فإن فسر الإيمان على ظاهره كان التقدير ليضيع حق إيمانكم حين لم تزلزله وساوس الشيطان عند الاستقبال إلى قبلة لا تودونها، وإن فسر الإيمان بالصلاة كان التقدير ما كان الله ليضيع فضل صلاتكم أو ثوابها، وفي إطلاق اسم الإيمان على الصلاة تنويه بالصلاة لأنها اعظم أركان الإيمان، وعن مالك: "إني لأذكر بهذا قول المرجئة الصلاة ليست من الإيمان".
ومعنى حديث البخاري والترمذي أن المسلمين كانوا يظنون أن نسخ حكم، يجعل المنسوخ باطلا فلا تترتب عليه آثار العمل به فلذلك توجسوا خيفة على صلاة إخوانهم الذين ماتوا قبل نسخ استقبال بيت المقدس مثل أسعد بن زرارة بن معرور وأبي أمامة، وظن السائلون أنهم سيجب عليهم قضاء ما صلوه قبل النسخ ولهذا أجيب سؤالهم بما يشملهم ويشمل من ماتوا قبل، فقال: {إِيمَانِكُمْ}، ولم يقل إيمانهم على حسب السؤال.
والتذييل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} تأكيد لعدم إضاعة إيمانهم ومنة وتعليم بأن الحكم المنسوخ إنما يلغي العمل في المستقبل لا في ماضي.
والرءوف الرحيم صفتان مشبهتان مشتقة أولاهما من الرأفة والثانية من الرحمة.

-----------------------------------------------
1 زيادة من "صحيح البخاري" انظر "فتح الباري" "8/171".
-----------------------------------------------

والرأفة مفسرة بالرحمة في إطلاق كلام الجمهور من اهـل اللغة وعليه درج الزجاج وخص المحققون من اهـل اللغة الرأفة بمعنى رحمة خاصة، فقال أبو عمرو بن العلاء الرأفة أكثر من الرحمة أي أقوى أي هي رحمة قوية، وهو معنى قول الجوهري الرأفة أشد الرحمة، وقال في "المجمل" الرأفة أخص من الرحمة ولا تكاد تقع في الكراهية والرحمة تقع في الكراهية للمصلحة، فاستخلص القفال من ذلك أن قال: الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضر كقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] وأما الرحمة فاسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام اهـ.
وهذا أحسن ما قيل فيها واختاره الفخر وعبد الحكيم وربما كان مشيرا إلى أن بين الرأفة والرحمة عموماً وخصوصاً مطلقاً وأياماً كان معنى الرأفة فالجمع بين رءوف ورحيم في الآية يفيد توكيد مدلول أحدهما بمدلول الآخر بالمساواة أو بالزيادة.
وأما على اعتبار تفسير المحققين لمعنى الرأفة والرحمة فالجمع بين الوصفين لإفادة أنه تعالى يرحم الرحمة القوية لمستحقها ويرحم مطلق الرحمة من دون ذلك.
وتقدم معنى الرحمة في سورة الفاتحة.
وتقديم "رءوف" ليقع لفظ رحيم فاصلة فيكون أنسب بفواصل هذه السورة لانبناء فواصلها على حرف صحيح ممدود يعقبه حرف صحيح ساكن ووصف رءوف معتمد ساكنه على الهمز والهمز شبيه بحروف العلة فالنطق به غير تام التمكن على اللسان وحرف الفاء لكونه يخرج من بطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا أشبه حرف اللين فلا يتمكن عليه سكون الوقف.
وتقديم {بِالنَّاسِ} على متعلقه وهو رءوف رحيم للتنبيه على عنايته بهم إيقاظا لهم ليشكروه مع الرعاية على الفاصلة.
وقرأ الجمهور "لرءوف" بواو ساكنه بعدها همزه وقرأه أبو عمرو وحمزه والكسائي ويعقوب وخلف بدون واو مع ضم الهمزة بوزن عضد وهو لغة على غير قياس.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:19 pm


[144] {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144].
استئناف ابتدائي وإفضاء لشرع استقبال الكعبة ونسخ استقبال بيت المقدس فهذا هو المقصود من الكلام المفتتح بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]بعد أن مهد الله بما تقدم من أفانين التهيئة وإعداد الناس إلى ترقبه ابتداء من قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ثم قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ} [البقرة: 120] ثم قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} [البقرة: 125] ثم قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ}.
و"قد" في كلام العرب للتحقيق ألا ترى اهـل المعاني نظروا هل في الاستفهام بقد في الخبر فقالوا من أجل ذلك إن هل لطلب التصديق فحرف قد يفيد تحقيق الفعل فهي مع الفعل بمنزلة إن مع الأسماء ولذلك قال الخليل إنها جواب لقوم ينتظرون الخبر ولو اخبروهم لا ينتظرونه لم يقل قد فعل كذا اهــ.
ولما كان علم الله بذلك مما لا يشك فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحتاج لتحقيق الخبر به كان الخبر به مع تأكيده مستعملا في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه وأن يطمئنه لأن النبي كان حريصا على حصوله ويلزم ذلك الوعد بحصوله فتحصل كنايتان مترتبتان.
وجيء بالمضارع مع "قد" لدلالة على التجدد والمقصود تجدد لازمه ليكون تأكيدا لذلك اللازم وهو الوعد، فمن أجل ذلك غلب على قد الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل.
قال عبيد بن الأبرص:
قد أترك القرن مصفرا أنامله  . . .  كأن أثوابه مجت بفرصاد1
وستجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] في سورة الأنعام.
والتقلب مطاوع قلبه إذا حوله وهو مثل قلبه بالتخفيف، فالمراد بتقليب الوجه الالتفات به أي تحويله من جهته الأصلية فهو هنا ترديده في السماء، وقد اخذوا من العدول إلى صيغة التفعيل الدلالة على معنى التكثير في هذا التحويل، وفيه نظر إذ قد يكون ذلك لما في هذا التحويل من الترقب والشدة فالتفعيل لقوة الكيفية، قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقع في روعه إلهاما أن الله سيحوله إلى مكة فكان يردد وجهه في السماء فقيل ينتظر نزول جبريل بذلك، وعندي أنه إذا كان كذلك لزم أن يكون تقليب وجهه عند تهيأ نزول الآية وإلا لما كان يترقب جبريل فدل ذلك على أنه لم يتكرر منه هذا التقليب.

-----------------------------------------------
1 البيت في: "شرح شواهد المغني" "169" للهذلي، وقيل: لعبيد بن الأبرص.
هذا وليس في "أشعار الهذليين" هذا البيت وانظر "اللسان" "قدد" قال ابن بري: البيت لعبيد بن أبرص، والشاهد أيضا في "الصحاح"، وهو في "ديوان عبيد" "64".
-----------------------------------------------

والفاء في {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فاء التعقيب لتأكيد الوعد بالصراحة بعد التمهيد لها بالكتابة في قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ}، والتولية تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، فمعنى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} لنوجهنك إلى قبلة ترضاها.
فانتصب قبلة على التوسع بمنزلة المفعول الثاني وأصله لنولينك من قبلة وكذلك قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والمعنى أن تولية وجهه للكعبة سيحصل عقب هذا الوعد.
وهذا وعد اشتمل على أداتي تأكيد وأداة تعقيب وذلك غاية اللطف والإحسان.
وعبر بترضاها للدلالة على أن ميله إلى الكعبة ميل لقصد الخير بناء على أن الكعبة أجدر ببيوت الله بأن يدل على التوحيد كما تقدم فهو أجدر بالاستقبال من بيت المقدس، ولأن في استقبالها إيماء إلى استقلال هذا الدين عن دين اهـل الكتاب، ولما كان الرضي مشعرا بالمحبة الناشئة عن تعقل اختير في هذا المقام دون تحبها أو تهواها أو نحوهما فإن مقام النبي صلى الله عليه وسلم يربو عن أن يتعلق ميله بما ليس بمصلحة راجحة بعد انتهاء المصلحة العارضة لمشروعية استقبال بيت المقدس، ألا ترى أنه لما جاء في جانب قبلتهم بعد أن نسخت جاء بقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ اهـوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} الآية.
وقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} تفريع على الوعد وتعجيل به والمعنى ول وجهك في حالة الصلاة وهو مستفاد من قرينة سياق الكلام على المجادلة مع السفهاء في شأن قبلة الصلاة.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأمر متوجه إليه باعتبار ما فيه من إرضاء رغبته، وسيعقبه بتشريك الأمة معه في الأمر بقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} والشطر بفتح الشين وسكون الطاء الجهة والناحية وفسره قتادة بتلقاء، وكذلك قرأه أبي بن كعب، وفسر الجبائي وعبد الجبار الشطر هنا بأنه وسط الشيء، لأن الشطر يطلق على نصف الشيء فلما أضيف إلى المسجد مكان اقتضى أن نصفه عبارة عن نصف مقداره ومساحته وذلك وسطه، وجعلا شطر المسجد الحرام كناية عن الكعبة لأنها واقعة من المسجد الحرام في نصف مساحته من جميع الجوانب "أي تقريبا" قال عبد الجبار ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان أحدهما أن المصلى لو وقف بحيث يكون متوجها إلى المسجد ولا يكون متوجها إلى الكعبة لا تصح صلاته، الثاني لو لم نفسر الشطر بما ذكرنا لم يبقى لذكر الشطر فائدة إذ يغني أن يقول: "فول وجهك المسجد الحرام" ولكان الواجب التوجه إلى المسجد الحرام لا إلى خصوص الكعبة.
فأن قلت ما فائدة قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قبل قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} وهلا قال: في السماء فول وجهك الخ، قلت فائدته إظهار الاهتمام برغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها بحيث يعتني بها كما دل عليه وصف القبلة بجملة {تَرْضَاهَا}.
ومعنى نولينك نوجهنك، وفي التوجيه قرب معنوي لأن ولى المعتدي بنفسه إذا لم يكن بمعنى القرب الحقيقي فهو بمعنى الارتباط به، ومنه الولاء والولي، والظاهر أن تعديته إلى مفعول ثان من قبيل الحذف والتقدير ولى وجهه إلى كذا ثم يعدونه إلى مفعول ثالث بحرف عن فيقولون ولى عن كذا وينزلونه منزلة اللازم بالنسبة للمفعولين الآخرين فيقدرون ولى وجهه إلى جهة كذا منصرفا عن كذا أي الذي كان يليه من قبل، وباختلاف هاته الاستعمالات تختلف المعاني كما تقدم.
فالقبلة هنا اسم للمكان الذي يستقبله المصلي وهو إما مشتق من اسم الهيئة وإما من اسم المفعول1 كما تقدم.
والمسجد الحرام المسجد المعهود عند المسلمين والحرام المجعول وصفا للمسجد هو الممنوع أي الممنوع منع تعظيم وحرمة فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه.
وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام أي الممنوع من الجبابرة والظلمة والمعتدين ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [ابراهيم: 37] أي المعظم المحترم وسمي الحرم قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص: 57] فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علما على حريم الكعبة المحيط بها وهو محل الطواف والاعتكاف ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل الهجرة وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية.

-----------------------------------------------
1 وهو الذي استظهره المصنف. انظر شرح الآية ما قبل السابقة.
-----------------------------------------------

والجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال هذه القبلة، قال ابن العربي وذكر المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت1 بما يجاوره أو بما يشتمل عليه وعن ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب.
قال الفخر وهذا قول مالك، وأقول لا يعرف هذا عن مالك في كتب مذهبه.
وأنتصب {شطر المسجد} على المفعول الثاني لول وليس منصوبا على الظرفية.
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} تنصيص على تعميم حكم استقبال الكعبة لجميع المسلمين بعموم ضميري {كُنْتُمْ} و {وُجُوهَكُمْ} لوقوعهما في سياق عموم الشرط بحيثما وحينما لتعميم أقطار الأرض لئلا يظن أن قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن قوله فول وجهك شطر المسجد الحرام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم اقتضى الحال تخصيصه بالخطاب به لأنه تفريع على قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} ليكون تبشيرا له ويعلم أن أمته مثله لأن الأصل في التشريعات الإسلامية أن تعم الرسول وأمته إلا إذا دل دليل على تخصيص أحدهما، ولما خيف إيهام أن يكون هذا الحكم خاصا به أو أن تجزي فيه المرة أو بعض الجهات كالمدينة ومكة أريد التعميم في المكلفين وفي جميع البلاد، ولذلك جيء بالعطف بالواو لكن كان يكفي أن يقول وولوا وجوهكم شطره فزيد عليه ما يدل على تعميم الأمكنة تصريحا وتأكيدا لدلالة العموم المستفاد من إضافة {شَطْرَ} إلى ضمير {لْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أن شطر نكرة أشبهت الجمع في الدلالة على أفراد كثيرة فكانت إضافتها كإضافة الجموع، وتأكيدا لدلالة الأمر التشريعي على التكرار تنويها بشأن هذا الحكم فكأنه أفيد مرتين بالنسبة للمكلفين وأحوالهم أولاهما إجمالية والثانية تفصيلية.
وهذه الآيات دليل على وجوب هذا الاستقبال وهو حكمة عظيمة ذلك أن المقصود من الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى وبمقدار استحضار المعبود يقوي الخضوع له فتترتب عليه آثاره الطبية في إخلاص العبد لربه وإقباله على عبادته وذلك ملاك الامتثال والاجتناب.

-----------------------------------------------
1 في "أحكام القرآن" لابن العربي "الشيء" "1/43"، دار المعرفة.
-----------------------------------------------

ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "لإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ولما تنزه الله تعالى عن أن يحيط به الحس تعين لمحاول استحضار عظمته أن يجعل له مذكرا به من شيء له انتساب خاص إليه، قال فخر الدين: "إن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمقولات، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقل مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم لابد من أن يستقبله بوجهه ويبالغ في الثناء عليه بلسانه وفي الخدمة له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلا للملك، والقرآن والتسبيحات تجري في مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة اهــ.
فإذا تعذر استحضار الذات المطلوبة بالحس باستحضارها يكون بشيء له انتساب إليها مباشرة كالديار أو بواسطة كالبرق والنسيم ونحو ذلك أو بالشبه كالغزال عند المحبين، وقديما ما استهترت الشعراء بآثار الأحبة كالأطلال في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وأقوالهم في البرق والريح، وقال مالك بن الريب:
دعاني الهوى من اهـل ودي و جيرتي  . . .  بذي الطيسين فالتفت ورائيا
والله تعالى منزه عن أن يحيط به الحس فوسيلة استحضار ذاته هي استحضار ما فيه مزيد دلالة عليه تعالى.
لا جرم أن أولى المخلوقات بأن يجعل وسيلة لاستحضار الخالق في نفس عبده هي المخلوقات التي كان وجودها لأجل الدلالة على توحيد الله وتنزيهه ووصفه بصفات الكمال مع تجردها عن كل ما يوهم أنها المقصودة بالعبادة وتلك هي المساجد التي بناها إبراهيم عليه السلام وجردها من أن يضع فيها شيئا يوهم أنه المقصود بالعبادة، ولم يسمها باسم غير الله تعالى فبنى الكعبة أول بيت، وبنى مسجدا في مكان المسجد الأقصى، وبنى مساجد أخرى ورد ذكرها في التوراة بعنوان مذابح، فقد بنت الصابئة بعد نوح هياكل لتمجيد الأوثان وتهويل شأنها في النفوس فأضافوها إلى أسماء أناس مثل ود وسواع، أو إلى أسماء الكواكب، وذكر المسعودي في "مروج الذهب" عدة من الهياكل التي أقيمت في الأمم الماضية لهذا الشأن ومنها هيكل سندوساب ببلاد الهند.
وهيكل مصلينا في جهة الرقة بناها الصابئة قبل إبراهيم وكان آزر أبو إبراهيم من سدنته، وقيل أن عاد بنوا هياكل منها جلق هيكل بلاد الشام.
فإذا استقبل المؤمن بالله شيئا من البيوت التي أقيمت لمناقضة اهـل الشرك وللدلالة على توحيد الله وتمجيده كان من استحضار الخالق بما هو أشد إضافة إليه، بيد أن هذه البيوت على كثرتها لا تفاضل إلا بإخلاص النية من إقامتها، وبكون إقامتها لذلك وبأسبقية بعضها على بعض في هذا الغرض، وأن شئت جعلت كل هذه المعاني ثلاثة في معنى واحد وهو الأسبقية لأن السابق منها قد امتاز على اللاحق بكونه هو الذي دل مؤسس ذلك اللاحق على تأسيسه قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] وقال في ذكر مسجد الضرار: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} أي لأنه أسس بنية التفريق بين المؤمنين، وقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] فجعله هدى للناس لأنه أول بيت فالبيوت التي أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهـتداء اهـتداه بانوها بالبيت الأول.
وقد قال بعض العلماء إن الكعبة أول هيكل أقيم للعبادة وفيه نظر سيأتي عند قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} في سورة آل عمران، ولا شك أن أول هيكل أقيم لتوحيد الله وتنزيهه وإعلان ذلك وإبطال الإشراك هو الكعبة التي بناها إبراهيم أول من حاج الوثنيين بالأدلة وأول من قاوم الوثنية بقوة يده فجعل الأوثان جذاذا، ثم أقام لتخليد ذكر الله وتوحيده ذلك الهيكل العظيم ليعلم كل أحد يأتي أن سبب بنائه إبطال عبادة الأثان، وقد مضت على هذا البيت العصور فصارت رؤيته مذكرة بالله تعالى، ففيه مزية الأولية، ثم فيه مزية مباشرة إبراهيم عليه السلام بناءه بيده ويد ابنه إسماعيل دون معونة أحد، فهو لهذا المعنى أعرق في الدلالة على التوحيد وعلى الرسالة معا وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره.
ثم سن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى ولتعميمها في الأمم الأخرى، فلا جرم أن يكون أولى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة وما بنيت بيوت الله مثل المسجد الأقصى إلا بعده بقرون طويلة، فكان هو قبلة المسلمين.
قدما آنفا أن شرط استقبال جهة معينة لم يكن من أحكام الشرائع السالفة وكيف يكون كذلك والمسجد الأقصى بنى بعد موسى بما يزيد على أربعمائة سنة وغاية ما كان من استقباله بعد دعوة سليمان أنه استقبال لأجل تحقق قبول الدعاء والصلاة لا لكونه شرطا، ثم إن اختيار ذلك الهيكل للاستقبال وإن كان دعوة فهي دعوة نبي لا تكون إلا عن إلهام إلهي فلعل حكمة ذلك حينئذ أن الله أراد تعمير البلد المقدس كما وعد إبراهيم ووعد موسى فأراد زيادة تغلغل قلوب الإسرائيليين في التعلق به فبين لهم استقبال الهيكل الإيماني الذي أقامه فيه نبيه سليمان ليكون ذلك المعبد مما يدعو نفوسهم إلى الحرص على بقاء تلك الأقطار بأيديهم.
ويجوز أن يكون قد شرع الله لهم الاستقبال بعد ذلك على ألسنة الأنبياء بعد سليمان وفيه بعد لأن أنبياءهم لم يأتوا بزيادة على شريعة موسى وإنما أتوا معززين.
فتشريع الله تعالى استقبال المسلمين في صلاتهم لجهة معينة تكميل لمعنى الخشوع في صلاة الإسلام فيكون من التكملات التي ادخرها الله تعالى لهذه الشريعة لتكون تكملة الدين تشريفا لصاحبها صلى الله عليه وسلم ولأمته إن كان الاحتمال الأول، فإذا كان الثاني فلأمر لنا بالاستقبال لئلا تكون صلاتنا أضعف استحضارا لجلال الله تعالى من صلاة غيرنا.
ولذلك اتفق علماؤنا على أن الاستقبال لجهة معينة كان مقارنا لمشروعية الصلاة في الإسلام فإن كان استقباله جهة الكعبة عن اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم فعلته أنه المسجد الذي عظمه اهـل الكتابين والذي لم يداخله إشراك ولا نصبت فيه أصنام فكان ذلك أقرب دليل لاستقبال جهته ممن يريد استحضار وحدانية الله تعالى.
وإن كان استقبال بيت المقدس بوحي من الله تعالى فلعل حكمته تأليف قلوب اهـل الكتابين وليظهر بعد ذلك للنبي وللمسلمين من أتبعهم من اهـل الكتاب حقا ومن أتبعهم نفاقا لأن الأخيرين قد يتبعون الإسلام ظاهرا ويستقبلون في صلاتهم قبلتهم القديمة فلا يرون حرجا على أنفسهم في ذلك فإذا تغيرت القبلة خافوا من قصدهم لاستدبارها فأظهروا ما كانوا مستنبطنيه من الكفر كما أشار له قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143] الآية.
ولعل العدول عن الأمر باستقبال الكعبة في صدر الإسلام كان لخضد شوكة مكابرة قريش وطعنهم في الإسلام فإنه لو استقبل مكة لشمخوا بأنوفهم وقالوا هذا بلدنا ونحن اهـله واستقباله حنين إليه وندامة على الهجرة منه، كما قد يكون قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة: 114] وقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] إيماء إليه كما قدمنا، وعليه ففي تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ذلك بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال وأن وقعت بدر ستكون الفيصل بين المسلمين وبينهم، ثم أمر الله بتحويل القبلة إلى البيت الذي هو أولى بذلك وإلى جهته للبعيد عنه.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:20 pm


{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144].
اعتراض بين جملة: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وجملة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 149] الآية. والأظهر أن المراد بالذين {أُوتُوا الْكِتَابَ} أحبار اليهود وأحبار النصارى كما روى عن السدى كما يشعر به التعبير عنهم بصلة {أوتوا الكتب} دون أن يقال وإن اهـل الكتاب.
ومعنى كونهم يعلمون أنه الحق أن علمهم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم حسب البشارة به في كتبهم يتضمن أن ما جاء به حق.
والأظهر أيضا أن المراد بالذين أوتوا الكتاب هم الذين لم يزالوا على الكفر ليظهر موضع قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} فإن الإخبار عنهم بأنهم يعلمون أنه الحق مع تأكيده بمؤكدين، يقتضي أن ظاهر حالهم إذ أنكروا استقبال الكعبة أنهم أنكروه لاعتقادهم بطلانه وأن المسلمين يظنونهم معتقدين ذلك، وليظهر موقع قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} الذي هو تهديد بالوعيد.
وقد دل التعريف في قوله: {أَنَّهُ الْحَقُّ} على القصر أي يعلمون أن الاستقبال للكعبة هو الحق دون غيره تبعا للعلم بنسخ شريعتهم بشريعة الإسلام، وقيل إنهم كانوا يجدون في كتبهم أن قبلتهم ستبطل ولعل هذا مأخوذ من إنذارات أنبيائهم مثل أرميا وأشعيا المنادية بخراب بيت المقدس فإن استقباله يصير استقبال للشيء المعدوم.
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأه الجمهور بياء الغيبة والضمير للذين أوتوا الكتاب أي عن علمهم بغير ما علموا فالمراد بما يعملون هذا العمل ونحوه من المكابرة والعناد والسفه.
وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلا عدم العلم فلذلك كان وعيدا لهم ووعيدهم يستلزم في المقام الخطابي وعدا للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يغفل عن عمل هؤلاء فيجازى كلا بما يستحق.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروح عن يعقوب بتاء الخطاب فهو كناية عن وعد المسلمين على الامتثال لاستقبال الكعبة.
ويستلزم وعيدا للكافرين على عكس ما تقتضيه القراءة السابقة؛ وعلى القراءتين فهو تذييل إجمالي ليأخذ كل حظه منه وهو اعتراض بين جملة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا} وجملة: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 145] الآية.
وفي قوله: {لَيَعْلَمُونَ} و قوله: {عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96]الجناس التام المحرف على قراءة الجمهور والجناس الناقص المضارع على قراءة ابن عامر ومن وافقه.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى



عدد المساهمات : 52644

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:20 pm


[145] {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ اهـوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ} عطف على قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ} [البقرة: 114] والمناسبة أنهم يعلمون ولا يعلمون فلما أفيد أنهم يعلمون أنه الحق على الوجه المتقدم في إفادته التعريض بأنهم مكابرون ناسبت أن يحقق نفي الطمع في اتباعهم القبلة لدفع توهم أن يطمع السامع باتباعهم لأنهم يعلمون أحقيتها، فلذا أكدت الجملة الدالة على نفي اتباعهم بالقسم واللام الموطئة، وبالتعليق على أقصى ما يمكن عادة.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب عين المراد من قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ} على ما تقدم فأن ما يفعله أحبارهم يكونوا قدوة لعامتهم فإذا لم يتبع أحبارهم قبلة الإسلام فأجدر بعامتهم أن لا يتبعوها.
ووجه الإظهار في مقام الإضمار هنا الإعلان بمذمتهم حتى تكون هذه الجملة صريحة في تناولهم كما هو الشأن في الإظهار في موقع الإضمار أن يكون المقصود منه زيادة العناية والتمكن في الذهن.
والمراد {بِكُلِّ آيَةٍ}: آيات متكاثرة والمراد بالآية الحجة والدليل على أن استقبال الكعبة هو قبلة الحنيفية.وإطلاق لفظ كل على الكثرة شائع في كلام العرب قال امرؤ القيس:
فيالك من ليل كأن نجومه  . . .  بكل مغار الفتل شدت بيذبل
وأصله مجاز لجعل الكثير من أفراد شيء مشابها لمجموع عموم أفراده، ثم كثر ذلك حتى ساوى الحقيقة فصار معنى من معاني كل لا يحتاج استعماله إلى قرينته ولا إلى اعتبار تشبيه العدد الكثير من أفراد الجنس بعموم جميع أفراده حتى إنه يرد فيما لا يتصور فيه عموم أفراد، مثل قوله هنا: {بِكُلِّ آيَةٍ} فإن الآيات لا يتصور لها عدد يحاط به، ومثله قوله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل: 69] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96] وقال النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي  . . .  إلى كل رجاف من الرمل فارد
وتكرر هذا ثلاث مرات في قول عنتره:
جادت عليه كل بكر حرة  . . .  فتر كن كل قرارة كالدرهم
سحا وتسكابا فكل عشية  . . .  يجري إليها الماء لم يتصرم
وصاحب "القاموس" قال في مادة كل وقد جاء استعمال كل بمعنى بعض ضد فأثبت الخروج عن معنى الإحاطة ولكنه جازف في قوله "بمعنى بعض" وكان الأصوب أن يقول بمعنى كثير.
والمعنى أن إنكارهم أحقية الكعبة بالاستقبال ليس عن شبهة حتى تزيله الحجة ولكنه مكابرة وعناد فلا جدوى في إطناب الاحتجاج عليهم.
وإضافة قبلة إلى ضمير الرسول لأنها أخص به لكونها قبلة شرعه، ولأنه سألها بلسان الحال.
وإفراد القبلة في قوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} مع كونهما قبلتين، إن كان لكل من اهـل الكتاب قبلة معينة، وأكثر من قبلة إن لم تكن لهم قبلة معينة وكانوا مخيرين في استقبال الجهات، فإفراد لفظ "قبلتهم" على معنى التوزيع لأنه إذا اتبع قبلة إحدى الطائفتين كان غير متبع قبلة الطائفة الأخرى.
والمقصود من قوله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} إظهار مكابرتهم تأييسا من إيمانهم، ومن قوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} تنزيه النبي وتعريض لهم باليأس من رجوع المؤمن إلى استقبال بيت المقدس، وفي قوله: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} تأنيس للنبي بأن هذا دأبهم وشنشنتهم من الخلاف فقديما خالف بعضهم بعضا في قبلتهم حتى خالفت النصارى قبلة اليهود مع أن شريعة اليهود هي أصل النصرانية.
وجملة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ اهـوَاءَهُمْ} معطوفة على جملة {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} وما بينهما اعتراض وفائدة هذا العطف بعد الإخبار بأنهم لا يتبع قبلتهم زيادة تأكيد الأمر باستقبال الكعبة، والتحذير من التهاون في ذلك بحيث يفرض على وجه الاحتمال أنه لو اتبع اهـواء اهـل الكتاب في ذلك لكان كذا وكذا، ولذلك كان الموقع لإن لأن لها مواقع الشك والفرض في وقوع الشرط.
وقوله: {مِنَ الْعِلْمِ} بيان لما جاءك أي بعد الذي جاءك والذي هو العلم فجعل ما أنزل إليه هو العلم كله على وجه المبالغة.
والأهواء جمع هوى وهو الحب البليغ بحيث يقتضي طلب حصول الشيء المحبوب ولو بحصول ضر لمحصلة، فلذلك غلب إطلاق الهوى على حب لا يقتضيه الرشد ولا العقل ومن ثم أطلق على العشق، وشاع إطلاق الهوى في القرآن على عقيدة الضلال ومن ثم سمي علماء الإسلام اهـل العقائد المنحرفة بأهل الأهواء وقد بولغ في هذا التحذير باشتمال مجموع الشرط والجزاء على عدة مؤكدات أو ما إليها صاحب الكشاف وفصلها صاحب "الكشف" إلى عشرة وهي: القسم المدلول عليه باللام، واللام الموطئة للقسم لأنها تزيد القسم تأكيدا، وحرف التوكيد في جملة الجزاء، ولام الابتداء في خبرها، واسمية الجملة، وجعل حرف الشرط الحرف الدال على الشك وهو "إن" المقتضي إن أقل جزء من اتباع اهـوائهم كاف في الظلم، والإتيان بأذن الدالة على الجزائية فإنها أكدت ربط الجزاء بالشرط، والإجمال ثم التفصيل في قوله: {مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} فأنه يدل على الاهتمام والاهتمام بالوازع يؤول إلى تحقيق العقاب على الارتكاب لانقطاع العذر، وجعل ما نزل عليه هو نفس العلم.
والتعريف في {الظَّالِمِينَ} الدال على أنه يكون من المعهودين بهذا الوصف الذين هو لهم سجية.
ولا يخفى أن كل ما يؤول إلى تحقيق الربط بين الجزاء والشرط أو تحقيق سببه أو تحقيق حصول الجزاء أو تهويل بعض متعلقاته، كل ذلك يؤكد المقصود من الغرض المسوق لأجله الشرط.
والتعبير بالعلم هنا عن الوحي واليقين الإلهي إعلان تنويه شأن العلم ولفت لعقول هذه الأمة إليه لما يتكرر من لفظه على أسماعهم.
وقوله: {لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أقوى دلالة على الاتصاف بالظلم من إنك لظالم كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: من الآية67].
والمراد بالظالمين الظالمون أنفسهم وللظلم مراتب دخلت كلها تحت هذا الوصف والسامع يعلم إرجاع كل ضرب من ضروب اتباع اهـوائهم إلى ضرب من ضروب ظلم النفس حتى ينتهي إلى عقائدهم الضالة فينتهي ظلمهم أنفسهم إلى الكفر الملقى في خالد العذاب.
قد يقول قائل إن قريبا من هذه الجملة تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ اهـوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] فعبر هنالك باسم الموصول "الذي" وعبر هنا باسم الموصول "ما"، وقال هنالك "بعد" وقال هنا "من بعد"، وجعل جزاء الشرط هنالك انتفاء ولي ونصير، وجعل الجزاء هنا أن يكون من الظالمين، وقد أورد هذا السؤال صاحب "درة التنزيل وغرة التأويل1" وحاول إبداء خصوصيات تفرق بين ما اختلفت فيه الآيتان ولم يأت بما يشفى، والذي يرشد إليه كلامه أن نقول إن "الذي" و"ما" وإن كانا مشتركين في أنهما اسما موصول إلا أنهما الأصل في الأسماء الموصولة، ولما كان العلم الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم في غرض الآية الأولى هو العلم المتعلق بأصل ملة الإسلام ويبطلان ملة اليهود وملة النصارى بعد النسخ، وبإثبات عناد الفريقين في صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك ابتداء من قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} [البقرة: 116] إلى قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] فلا جرم كان العلم الذي جاء في ذلك هو أصرح العلم وأقدمه، وكان حقيقا بأن يعبر عنه باسم الموصول الصريح في التعريف.
وأما الآية الثانية التي نحن بصددها فهي متعلقة بإبطال قبلة اليهود والنصارى، لأنها مسبوقة ببيان ذلك ابتداء من قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] وذلك تشريع فرعي فالتحذير الواقع بعده تحذير من اتباع الفريقين في أمر القبلة وذلك ليس له اهـمية مثل ما للتحذير من اتباع ملتهم بأسرها فلم يكن للعلم الذي جاء النبي في أمر قبلتهم من الأهمية ما للعلم الذي جاءه في بطلان أصول ملتهم، فلذلك جيء في تعريفه باسم الموصول الملحق بالمعارف وهو "ما" لأنها في الأصل نكرة موصوفة نقلت للموصولية.
وإنما أدخلت "من" في هذه الآية الثانية على "بعد" بقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} لأن هذه الآية وقعت بعد الآية الأولى في سورة واحدة وليس بينهما بعيد فصل فكان العلم الذي جاءه فيها من قوله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} وهو جزئي من عموم العلم الذي جاء في إبطال جميع ملتهم، فكان جديرا بأن يشار إلى كونه جزئيا له بإيراد "من" الابتدائية.
-----------------------------------------------
1 وهو الإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة "606هـ" تكلم فيه على الآيات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة التي يقصد الملحدون التطلاق منها إلى عيبها، وأجاب عنها.
----------------------------------------------


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:21 pm


[146] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
جملة معترضة بين جملة: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 145] الخ، وبين جملة {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} [البقرة: 148] الخ اعتراض استطراد بمناسبة ذكر مطاعن اهـل الكتاب في القبلة الإسلامية، فإن طعنهم كان عن مكابرة مع علمهم بأن القبلة الإسلامية حق كما دل عليه قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] فاستطرد بأن طعنهم في القبلة الإسلامية ما هو إلا من مجموع طعنهم في الإسلام وفي النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على الاستطراد قوله بعده: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] فقد عاد الكلام إلى استقبال القبلة.
فالضمير المنصوب في {يَعْرِفُونَهُ} لا يعود إلى تحويل القبلة لأنه لو كان كذلك لصارت الجملة تكريرا لمضمون قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، بل هو عائد إما إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر لمعاد مناسب لضمير الغيبة، لكنه قد علم من الكلام السبق وتكرر خطابه فيه من قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]، وقوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، وقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} [البقرة: 144]، وقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 144] فالإتيان بالضمير بطريق الغيبة من الالتفات، وهو على تقدير مضاف أن يعرفون صدقه، وإما أن يعود إلى {الْحَقَّ} في قوله السابق: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} فيشمل رسالة الرسول وجميع ما جاء به، وإما إلى العلم في قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145].
والتشبيه في قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} تشبيه في جلاء المعرفة وتحققها فإن معرفة المرء بعلائقه معرفة لا تقبل اللبس، كما قال زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم  . . .  تشبيها لشدة القرب البين.
وخص الأبناء لشدة تعلق الآباء بهم فيكون التملي من رؤيتهم كثيرا فتتمكن معرفتهم فمعرفة هذا الحق ثابتة لجميع علمائهم.
وعدل عن أن يقال يعلمونه إلى يعرفونه لأن المعرفة تتعلق غالبا بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24].
وقال زهير:
فلأيا عرفت الدار بعد توهم وتقول عرفت فلانا ولا تقول عرفت علم فلان، إلا إذا أردت أن علمه صار كالمشاهد عندك، ولهذا لا يعدى فعل العرفان إلى مفعولين كما تعدى أفعال الظن والعلم، ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيُقال العليم، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يُقال الله يعرف كذا، فالمعنى يعرفون صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاماته المذكورة في كتبهم، ويعرفون الحق كالشيء المشاهد.
والمراد بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أحبار اليهود والنصارى ولذلك عرفوا بأنهم أوتوا الكتاب أي علموا علم التوراة وعلم الإنجيل.
وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} تخصيص لبعض الذين أوتوا الكتاب بالعناد في أمر القبلة وفي غيره مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وذم لهم بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمونه وهؤلاء معظم الذين أوتوا الكتاب قبل ابن صوريا وكعب بن الأشرف فبقى فيق آخر يعلمون الحق ويعلنون به وهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود قبل عبد الله بن سلام، ومن النصارى مثل تميم الداري، وصهيب.
أما الذين لا يعلمون الحق فضلا عن أن يكتموه فلا يعبأ بهم في هذا المقام ولم يدخلوا في قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} ولا يشملهم قوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}.



تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:21 pm


[147] {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
تذييل لجملة: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة: 146]، على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحق، وحذف المسند إليه في مثل هذا مما جرى على متابعة الاستعمال في حذف المسند إليه بعد جريان ما يدل عليه مثل قولهم بعد ذكر الديار ربع قواء وبعد ذكر الممدوح فتى ونحو ذلك كما نبه عليه صاحب "المفتاح".
وقوله {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} نهى عن أن يكون من الشاكين في ذلك والمقصود من هذا.
والتعريف في {الْحَقُّ} تعريف الجنس كما في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وقولهم الكرم في العرب هذا التعريف لجزئي الجملة الظاهر والمقدر يفيد قصر الحقيقة على الذي يكتمونه وهو قصر قلب أي لا ما يظهرونه من التكذيب وإظهار أن ذلك مخالف للحق.
والامتراء افتعال من المراء وهو الشك، والافتعال فيه ليس للمطاوعة ومصدر المرية لا يعرف له فعل مجرد بل هو دائما بصيغة الافتعال، والمقصود من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ} وقوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} تحذير الأمة وهذه عادة القرآن في كل تحذير مهم ليكون خطاب النبي بمثل ذلك وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى وأولاهم بكرامته دليلا على أن من وقع في مثل ذلك من الأمة قد حقت عليه كلمة العذاب، وليس له من النجاة باب، ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: {مِنْ رَبِّكَ} وقوله: {فَلا تَكُونَنَّ} خطابا لغير معين من كل من يصلح لهذا الخطاب.



تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:25 pm


[148] {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
عطف على جملة: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، فهو من تمام الاعتراض، أو عطف على جملة {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجمل، ذلك أنه بعد أن لقن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجيب به عن قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأيأسهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية، طيا لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة، كما يقال في المخاطبات دع هذا أو عد عن هذا ، والمعنى أن لكل فريق اتجاها من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق.
وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة اهـل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق.
وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم، وفي معناه قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177] الآية، ولذلك أعقبه بقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [ البقرة: 148]، فقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا} [النساء: 78] في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات.
فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخطب بذكر مقدمة ومقصد وبيان له وتعليل وتذييل.
و"كل" اسم دال على الإحاطة والشمول، وهو مبهم بتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين كل وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه.
وحذف ما أضيف إليه"كل" هنا لدلالة المقام عليه وتقدير هذا المحذوف "أمة" لأن الكلام كله في اختلاف الأمم في أمر القبلة، وهذا المضاف إليه المحذوف يقدر بما يدل عليه الكلام من لفظه كما في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 285] أو يقدر بما يدل عليه معنى الكلام المتقدم دون لفظ تقدمه كما في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] في سورة النساء، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة، فالتقدير ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116].
والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما في فعلة بمعنى المصدر.
وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيها بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس، ولفظ: {وِجْهَةٌ} في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن، وقريب منه قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48].
وضمير هو عائد للمضاف إليه {كل} المحذوف.
والمفعول الأول لموليها محذوف إذ التقدير هو موليها نفسه أو وجهه على نحو ما بيناه في قوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} [البقرة: 142] والمعنى هو مقبل عليها وملازم لها.
وقراه الجمهور {مُوَلِّيهَا} بياء بعد اللام وقرأه ابن عامر "هو مولاها" بألف بعد اللام بصيغة ما لم يسم فاعله أي يوليه إياها مول وهو دينه ونظره، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من الوجهة القبلة فاستبقوا أنتم إلى الخير وهو استقبال الكعبة، وقيل المراد لكل أمة قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم فإنكم على الخيرات، وقيل المراد هيكل قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم، فإنكم على الخيرات، وقيل المراد لكل قوم قبلة فلا يضركم خلافهم واتركوهم واستبقوا إلى الخيرات إلى الكعبة، وقيل المراد لكل طائفة من المسلمين جهة من الكعبة سيستقبلونها.
ومعاني القرآن تحمل على أجمع الوجوه وأشملها.
وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} تفريع للأمر على ما تقدم أي لما تعددت المقاصد.
فالمنافسة تكون في مصادفة الحق.
والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلا أنه توسع فيه فعدى بنفسه كقوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ } [يوسف: 25] أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا.
فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه والخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات.
والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هادم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10-12] ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] وقال موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
وقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات ولذلك فصلت لأن العلة لا تعطف إذ هي بمنزلة المفعول لأجله، والمعنى فاستبقوا إلى الخير لتكونوا مع الذين يأتي بهم الله للرفيق الحسن لأن الله يأتي بالناس جميعا خيرهم وشرهم و"كان" تامة أي في أي موضع توجدون من مواقع الخير ومواقع السوء.
والإتيان بالشيء جلبه وهو مجاز في لازم حقيقته فمن ذلك استعماله في القرب والطاعة.
قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك بن مروان:
أتاك بي الله الذي نور الهدى  . . .  ونور وإسلام عليك دليل
أراد سخرني إليك، وفي الحديث: "اللهم اهـد دوسا وأت بها" أي اهـدها وقربها للإسلام ويستعمل في القدرة على الشيء وفي العلم به كما في قوله تعالى: { إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] وتجيء أقوال في تفسير: {أَيْنَمَا تَكُونُوا} على حسب الأقوال في تفسير: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} بأن يكون المعنى تقبل الله أعمالكم في استباق الخيرات فإنه المهم، لا استقبال الجهات أو المعنى إنكم إنما تستقبلون ما يذكركم بالله فاسمعوا في مرضاته بالخيرات يعلم الله ذلك من كل مكان، أو هو ترهيب أي في أية جهة يأت الله بكم فيثيب ويعاقب، أو هو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح أي فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت.إلى غير ذلك من الوجوه.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} تذييل يناسب جميع المعاني المذكورة.



تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150   تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 Emptyالأحد 10 نوفمبر 2024, 8:25 pm


[149, 150] {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[البقرة: 149] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
عطف قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} على قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] عطف حكم على حكم من جنسه للإعلام بأن استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة لا تهاون في القيام به ولو في حالة العذر كالسفر، فالمراد من حيث خرجت من كل مكان خرجت مسافر لأن السفر مظنة المشقة في الاهتداء لجهة الكعبة فربما يتوهم متوهم سقوط الاستقبال عنه، وفي معظم هاته الآية مع قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} زيادة اهـتمام بامر القبلة يؤكد قوله في الآية السابقة: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 147].
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} زيادة تحذير من التساهل في أمر القبلة.
وقوله بعده: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} عطف على الجملة التي قبله، وأعيد لفظ الجملة السالفة ليبنى عليه التعليل بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}.
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} عطف على قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} الآية.والمقصد التعميم في هذا الحكم في السفر للمسلمين لئلا يتوهم تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وسلم.وحصل من تكرير معظم الكلمات تأكيد للحكم ليترتب عليه قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}.
وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبة مرتين. وتكرر أنه الحق ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات، والقصد من ذلك كله التنويه بشان استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريرا للحق في نفوس المسلمين، وزيادة في الرد على المنكرين التأكيد، من زيادة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}، ومن جعل معترضة، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال: وهي جملة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ} الآيات، وجملة: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وجملة: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} الآيات، وفيه إظهار أحقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلا تصميما، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقق في معنى الكلام.
وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حف به، ما يدفع قليل السامة العارضة لسماع التكرار، فذكر قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ} الخ، وذكر قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ} الخ.
والضمير في: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} راجع إلى مضمون الجملة وهو حكم التحويل فهو راجع إلى ما يؤخذ من المقام، فالضمير هنا كالضمير في قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة: 146].
وقرأ الجمهور: {عما تعلمون} بمثناة فوقية على الخطاب، وقراه أبو عمرو بياء الغيبة.
وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} علة لقوله: {فَوَلُّوا} الدال على طلب الفعل وامتثاله، أي شرعت لكم ذلك لندحض حجة الأمم عليكم، وشان تعليل صيغ الطلب أن يكون التعليل للطلب باعتبار الإتيان بالفعل المطلوب. فأن مدلول صيغة الطلب هو إيجاد الفعل أو الترك لا الإعلام بكون الطالب طالبا وإلا لما وجب الامتثال للآمر فيكتفي بحصول سماع الطلب لكن ذلك ليس مقصودا.
والتعريف في "الناس" للاستغراق يشمل مشركي مكة فغن من شبهتهم أن يقولوا لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبل قبلة اليهود والنصارى، وأهل الكتاب، والحجة أن يقولوا إن محمدا اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه. ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم، أي ليكون هذا الدين مخالفا في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي اهـل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه.
ولا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فضل بها الإسلام غيره لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلا الذين أوتوا العلم، وعلى هذا يكون قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ناظرا إلى قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} [البقرة: 144]،وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة: 146].
وقد قيل في معنى حجة الناس معان أخر أراها بعيدة.
والحجة في كلام العرب ما يقصد به إثبات المخالف، بحيث لا يجد منه تفصيا، ولذلك يقال للذي غلب مخالفه بحجته قد حجه، وأما الاحتجاج فهو إتيان المحتج بما يظنه حجة ولو مغالطة يقال احتج ويقال حاج إذا أتى بما يظنه حجة قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258]، فالحجة لا تطلق حقيقة إلا على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف، وأما إطلاقها على الشبهة فمجاز لأنها تورد في صورة الحجة ومنه قوله تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16]، وهذا هو فقه اللغة كما أشار إليه الكشاف، وأمَّا ما خالفه من كلام بعض اهـل اللغة فهو من تخليط الإطلاق الحقيقي والمجازي، وإنما أرادوا التفصى من ورود الاستثناء وأشكل عليهم الاستثناء لأن المستثنى محكوم عليه بنقيض حكم المستثنى منه عند قاطبة اهـل اللسان والعلماء، إلا خلافا لا يلتفت إليه في علم الأصول، فصار هذا الاستثناء مقتضيا أن: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} لهم عليكم حجة، فأجاب صاحب الكشاف، بأنه إنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مساق البرهان أي فاستثناء {الَّذِينَ ظَلَمُوا} يقتضي أنهم يأتون بحجة أي بما يشبه الحجة، فحرف "إلا" يقتضي تقدير لفظ حجة مستعملا في معناه المجازي، وإطلاق اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ليس ببدع لا سيما مع الإتيان بلفظ يخالف الأول على أنه قد يجعل الاستثناء منقطعا بمعنى لكن الذين ظلموا يشغبون عليكم فلا تخشوهم.
وجملة: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي} تعليل ثان لقوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} معطوف على قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} بذلك الاعتبار الذي بيناه آنفا وهو أنه تعليل الامتثال فالمعنى أمرتكم بذلك لأتم نعمتي عليكم باستيفاء أسباب ذلك الإتمام ومنها أن تكون قبلتكم إلى أفضل بيت بنى لله تعالى، ومعلوم أن تمام النعمة بامتثال ما امرنا به وجماع ذلك الاستقامة وبها دخول الجنة.
أي غاية إتمام النعمة علينا دخول الجنة ولم يكن ذلك في تفسير هذه الآية ولكنه من جملة معناها1 فالمراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافرا من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصا، فهو قريب من قوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124] أي امتثلهن امتثالا تاما وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضا آخر، فمعنى الآية ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال.
وقوله {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} عطف على {وَلِأُتِمَّ} أي أمرتكم بذلك رجاء امتثالكم فيحصل الاهتداء منكم إلى الحق.
وحرف لعل في قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} مجاز في لازم معنى الرجاء وهو قرب ذلك وتوقعه.
ومعنى جعل ذلك لقرب علة أن استقبالهم الكعبة مؤذن بأنهم يكونون معتدين في سائر أمورهم لأن المبادئ تدل على الغايات فهو كقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] كما قدمناه وقال حبيب:
إن الهلال إذا رأيت نماءه  . . .  أيقنت أن سيصير بدراً كاملاً



تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150 - صفحة 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
تفسير سورة البقرة من الآية 121 - 150
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090
» تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120
» تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030
» تفسير سورة البقرة من الآية 031 - 060
» تفسير سورة البقرة (02)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: جــديـد المـوضـوعـــات بالمنتـدى :: تفســيـر التحـــريـر والتنــــويـر-
انتقل الى: