| تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:42 am | |
| [91] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} معطوف على قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 89] المعطوف على قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] وبهذا الاعتبار يصح اعتباره معطوفا على {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} على المعروف في اعتبار العطف على ما هو معطوف وهذا كله من عطف حكايات أحوالهم في معاذيرهم عن الإعراض عن الدعوة الإسلامية فإذا دعوا قالوا قلوبنا غلف، وإذا سمعوا الكتاب أعرضوا عنه بعد أن كانوا منتظريه حسدا أن نزل على رجل من غيرهم، وإذا وعظوا وأنذروا ودعوا إلى الإيمان بالقرآن وبأنه أنزله الله وأن ينظروا في دلائل كونه منزلا من عند الله أعرضوا وقالوا نؤمن بما أنزل علينا أي بما أنزله الله على رسولنا موسى، وهذا هو مجمع ضلالاتهم ومنبع عنادهم فلذلك تصدى القرآن لتطويل المحاجة فيه بما هنا وما بعده تمهيدا لقوله الآتي: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الآيات. وقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} علموا أنهم إن امتنعوا امتناعا مجردا عدت عليهم شناعة الامتناع من الإيمان بما يدعي أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه. وهذا وجه التعبير في الحكاية عنهم بلفظ المضارع {نؤمن} أي ندوم على الإيمان بما أنزل علينا وقد عرضوا بأنهم لا يؤمنون بغيره لأن التعبير بنؤمن بما أنزل علينا في جواب من قال لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقد علم أن مراد القائل الإيمان بالقرآن مشعر بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم فقط لأنهم يرون الإيمان بغيره مقتضيا الكفر به فهاهنا مستفاد من مجموع جملتي: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وجوابها بقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}. وقوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} جيء بالمضارع محاكاة لقولهم نؤمن بما أنزل علينا وتصريح بما لوحوا إليه ورد عليهم أي يدومون على الإيمان بما أنزل عليهم ويكفرون كذلك بما وراءه فهم يرون أن الإيمان به مقتض للكفر بغيره على أن للمضارع تأثيرا في معنى التعجب والغرابة. وفي قرنه بواو الحال إشعار بالرد عليهم وزاد ذلك بقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} والوراء في الأصل اسم مكان للجهة التي خلف الشيء وهو عريق في الظرفية وليس أصله مصدرا.جعل الوراء مجازا أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص واستعمل أيضا مجازا عن المجاوز لأن الشيء إذا كان أمام السائر فهو صائر إليه فإذا صار وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه قال النابغة: وليس وراء الله للمرء مطلب واستعمل أيضا بمعنى الطلب والتعقب تقول ورائي فلان بمعنى يتعقبني ويطلبني ومنه قول الله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] وقول لبيد: أليس ورائي أن تراخت منيتي . . . لزوم العصا تحنى عليها الأصابع فمن ثم زعم بعضهم أن الوراء يطلق على الخلف والأمام إطلاق اسم الضدين واحتج ببيت لبيد وبقرآن وكان أمامهم ملك وقد علمت أنه لا حجة فيه ولذلك أنكر الآمدي في الموازنة كونه ضدا. فالمراد بما وراءه في الآية بما عداه وتجاوزه أي بغيره والمقصود بهذا الغير هنا خصوص القرآن بقرينة السياق لتقدم قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ولتعقيبه بقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} وجملة {وَهُوَ الْحَقُّ} حالية واللام في الحق للجنس والمقصود اشتهار المسند إليه بهذا الجنس أي وهو المشتهر بالحقية المسلم ذلك له على حد قول حسان: وإن سنام المجد من آل هاشم . . . بنو بنت مخزوم ووالدك العبد لم يرد حسان انحصار العبودية في الوالد وإنما أراد أنه المعروف بذلك المشتهر به فليست اللام هنا مفيدة للحصر لأن تعريف المسند باللام لا تطرد إفادته الحصر على ما في دلائل الإعجاز. وقيل يفيد الحصر باعتبار القيد أعني قوله: {مصدقا} أي هو المنحصر في كونه حقا مع كونه مصدقا فإن غيره من الكتب السماوية حق لكنه ليس مصدقا لما معهم ولعل صاحب هذا التفسير يعتبر الإنجيل غير متعرض لتصديق التوراة بل مقتصرا على تحليل بعض المحرمات وذلك يشبه عدم التصديق. ففي الآية صد لبني إسرائيل عن مقابلة القرآن بمثل ما قابلوا به الإنجيل وزيادة في توبيخهم. وقوله {مصدقا} حال مؤكدة لقوله {وَهُوَ الْحَقُّ} وهذه الآية علم في التمثيل للحال المؤكدة وعندي أنها حال مؤسسة لأن قوله {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} مشعر بوصف زائد على مضمون {وَهُوَ الْحَقُّ} إذ قد يكون الكتاب حقا ولا يصدق كتابا آخر ولا يكذبه وفي مجيء الخال من الحال زيادة في استحضار شؤونهم وهيئاتهم. وقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبياء دأب لهم وأن قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} كذب إذ لو كان حقا لما قتل أسلافهم الأنبياء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق اهـواءهم. وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل الأنبياء. والإتيان بالمضارع في قوله: {تقتلون} مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة ذلك قوله: {من قبل} فذلك كما جاء الحطيئة بالماضي مرادا به الاستقبال في قوله: شهد الحطيئة يوم يلقى ربه . . . أن الوليد أحق بالعذر بقرينة قوله يوم يلقى ربه. والمراد بأنبياء الله الذين ذكرناهم عند قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61].
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:43 am | |
| [93,92] {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} عطف على قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [البقرة: 91] والقصد منه تعليم الانتقال في المجادلة معهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم خاصة وذلك أنه بعد أن أكذبهم في ذلك بقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} كما بينا ترقى إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما جاءهم به فإنهم مع ذلك قد قابلوا دعوته بالعصيان قولا وفعلا فإذا كانوا أعرضوا عن الدعوة المحمدية بمعذرة أنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم فلماذا قابلوا دعوة أنبيائهم بعد موسى بالقتل ولماذا قابلوا دعوة موسى بما قابلوا. فهذا وجه ذكر هذه الآيات هنا وإن كان قد تقدم نظائرها فيما مضى فإن ذكرها هنا في محاجة أخرى وغرض جديد، وقد بينت أن القرآن ليس مثل تأليف في علم يحال فيه على ما تقدم بل هو جامع مواعظ وتذكيرات وقوارع ومجادلات نزلت في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة فلذلك تتكرر فيه الأغراض لاقتضاء المقام ذكرها حينئذ عند سبب نزول تلك الآيات. وفي الكشاف أن تكرير حديث رفع الطور هنا لما نيط به من الزيادة على ما في الآية السابقة معنى في قوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الآية وهي نكتة في الدرجة الثانية. وقال البيضاوي إن تكرير القصة للتنبيه على أن طريقتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم طريقة أسلافهم مع موسى وهي نكتة في الدرجة الأولى وهذا إلزام لهم بعمل أسلافهم بناء على أن الفرع يتبع أصله والولد نسخة من أبيه وهو احتجاج خطابي. والقول في هاته الآيات كالقول في سابقتها وكذلك القول في البينات. إلا أن قوله {واسمعوا} مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} يتضمنه ابتداء لأن المراد من الأخذ بالقوة الاهتمام به وأول الاهتمام بالكلام هو سماعه والظاهر أن قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} لا يشتمل الامتثال فيكون قوله {واسمعوا} دالا على معنى جديد وليس تأكيدا، ولك أن تجعله تأكيدا لمدلول {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} بأن يكون الأخذ بقوة شاملا لنية الامتثال وتكون نكتة التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي ففي هذه الآية زيادة بيان لقوله في الآية الأولى {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63]. واعلم أن من دلائل النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات التي نطق بها موسى في بني إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطبات موسى لملأ بني إسرائيل بقوله اسمع يا إسرائيل فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد. وقوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جوابا لقوله {واسمعوا} وإنما أجابوه بأمرين لأن قوله اسمعوا تضمن معنيين معنى صريحا ومعنى كنائيا فأجابوا بامتثال الأمر الصريح وأمَّا الأمر الكنائي فقد رفضوه وذلك يتضمن جواب قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أيضا لأنه يتضمن ما تضمنهوفي هذا الوجه بعد ظاهر إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم بالعزم على المعصية وقيل إن قوله: {سمعنا} {واسمعوا} جواب لقوله {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ} أي سمعنا هذا الكلام. وقوله {وعصينا} جواب لقوله: {واسمعوا} لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه ويبعده أن الإتيان في جوابهم بكلمة سمعنا مشير إلى كونه جوابا لقوله: {اسمعوا} لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به وقوله ليكون كل كلام قد أجيب عنه قد علمت أن جعل سمعنا وعصينا جوابا لقوله: {واسمعوا} يغني عن تطلب جواب لقوله {خذوا} ، ففيه إيجاز، فالوجه في معنى هذه الآية هو ما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم: {عصينا} كان بلسان الحال يعني فيكون {قالوا} مستعملا في حقيقته ومجازه أي قالوا سمعنا وعصوا فكأن لسانهم يقول عصينا. ويحتمل أن قولهم: {عصينا} وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم ادخلوا القرية: {لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً} [المائدة: 24] وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول. وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 64]. والإشراب هو جعل الشيء شاربا، واستعير لجعل الشيء متصلا بشيء وداخلا فيه ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره ولذا يقول الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن فلذلك استعاروا الإشراب لشدة التداخل استعارة تبعية قال بعض الشعراء: تغلغل حب عثمة في فؤادي . . . فباديه مع الخافي يسير1 تغلغل حيث لم يبلغ شراب . . . ولا حزن ولم يبلغ سرور ومنه قولهم أشرب الثوب الصبغ، قال الراغب من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب وبغض أن يستعيروا لذلك اسم الشراب اهـ.وقد اشتهر المعنى المجازي فهجر استعمال الإشراب بمعنى السقي وذكر القلوب قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه العجل.وإنما جعل حبهم العجل إشرابا لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أولع بكذا وشغف. والعجل مفعول {أشربوا} على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها إلى الذوات مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي أكل لحمها. وإنما شغفوا به استحسانا واعتقادا أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب. وقد قوى ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى {بكفرهم} فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلا في حب معتقده. ----------------------------------------------- 1 ذكر هذه الأبيات القرطبي في "تفسيره" وقال إنها لأحد النابغتين أي النابغة الذبياني أو النابغة الجعدي في زوجته عثمة كأن عتب عليها في بعض الأمر فطلقها وكان مُحِبًّا لها. وبعدها: أكاد إذا ذكرت العهد منها . . . أطير لو أن إنسانا يطير ----------------------------------------------- وإسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله: {في قلوبهم} مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة.وقريب منه قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: من الآية10] وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصرا في البطن بخلاف الإشراب فلا اختصاص له بالقلوب. وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تذييل واعتراض ناشئ عن قولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} و وهو خلاصة لإبطال قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} بعد أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} وقوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ولذلك فصله عن قوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله، والمعنى قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلا، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فالجملة الشرطية كلها مقول {قل} والأمر هنا مستعمل مجازا في التسبب. وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادى بأنهم لا يفعلون فعلا إلا وهو مأذون فيه من كتابهم هذا وجه الملازمة وأمَّا كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمى بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]. ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور فلا جرم أن يكون مرتكبوا هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك كونهم {مؤمنين} وهو المقصود فقوله: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} جواب الشرط مقدم عليه أو {قل} دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضا كما يفرض الحال وهو المراد هنا؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم {مؤمنين} إلا منفيا ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالا لطائرهم. وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} وإلى هذا أشار صاحب الكشاف كما قاله التفتزاني وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت. ولا معنى لجعل {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ابتداء كلام وجوابه محذوفا تقديره فإيمانكم ل يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل إلخ لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} إلخ يتطلبه مزيد تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة. على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمرهم بهذه المذام فكيف ينفي بعد ذلك أن يكون إيمانهم يأمرهم. و {بئسما} هنا نظير بئسما المتقدم في قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: من الآية90] سوى أن هذا لم يؤت له باسم مخصوص بالذم لدلالة قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادة العجل. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:44 am | |
| [95,94] {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. إبطال لدعوى قارة في نفوسهم اقتضاها قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم اهـل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة وأن من خالقها لا يكون له حظ في الآخرة، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في ذلك فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي اهـم ما يتعلق به المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم. وقد قيل إن هذه الآية رد لدعوى أخرى صدرت من اليهود تدل على أنهم يجعلون الجنة خاصة بهم مثل قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً} [البقرة: 111] وإلى هذا مال القرطبي والبيضاوي وعليه فيكون ذكر الرد عليهم بينا لمجرد المناسبة في رد معتقد لهم باطل أيضا لا في خصوص الغرض المسوق فيه الآيات المتقدمة بناء على أن الآيات لا يلزم أن تكون متناسبة تمام المناسبة ونحن لا نساعد على ذلك فعلى هذا الوجه تكون هاته الآية هنا نزلت مع سوابقها للرد على أقوالهم المتفرقة المحكية في آيات أخرى وإنما اتصلت مع الآيات الراجعة إلى رد دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم للمناسبة بجمع رد جميع دعاويهم ولكن فيما ذكرناه غنية. وأياما كان فهذه الآية تحدت اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: من الآية23] وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب كان محسنا للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج بقل. والكلام في {لكم} مشعر بأن المراد من الدار الآخرة نعيمها و {لكم} خبر {كانت} قدم للحصر بناء على اعتقادهم كتقديمه في قول الكميت يمدح هشاما بن عبد الملك حين عفا عنه من قصيدة: لكم مسجدا الله المزوران والحصى لكم قبضة من بين أثري وأقترا و {عند الله} ظرف متعلق بكانت والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم عند الله وفي ذلك إيذان بأن الدار الآخرة مراد بها الجنة. وانتصب {خالصة} على الحال من اسم كان ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء الحال من اسم "كان". ومعنى الخالصة السالمة من مشاركة غيركم لكم فيها فهو يؤول إلى معنى خاصة بكم. وقوله: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} دون في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر غير متصرف وهو مجاز في المفارقة فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال، تقول هذا لك دون زيد أي لا حق لزيد فيه فقوله: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر ومن قوله: {خالصة} لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم. والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً} [البقرة: 111]. وقوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط -وهو أن الدار الآخرة لهم وجزائه وهو تمني الموت أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح حين تفارق جسده ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عمير بن الحمام رضي الله عنه: جريا إلى الله بغير زاد . . . إلا التقي وعمل المعاد وارتجز جعفر بن أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله: يا حبذا الجنة واقترابها . . . طيبة وبارد شرابها وقال عبد الله بن رواحة عند خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين: لكنني أسأل الرحمان مغفرة . . . وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة من يدي حران مجهزة . . . بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي . . . أرشدك الله من غاز وقد رشدا وجملة {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} إلى آخره معترضة بين جملة {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} وبين جملة {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إعلاما لهم ليزدادوا يقينا وليحصل منه تحد لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم. وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة كشأن عقائد الجهلة المغرورين فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91]، وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ثم يعترفون بأنهم اجترأوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما سطر ذلك عليهم في التوراة وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أياما معدودة ولذلك يخافون الموت فرارا من العذاب. والمراد بما قدمت أيديهم ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازا كما في قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: من الآية195] وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد اهـم آلات العمل. وقيل أريد بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها وهو كناية عن جميع الأعمال قاله الواحدي ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد فالأجمع هو تحريف التوراة والأفظع هو قتل الأنبياء لأنهم بذلك حرموا الناس من هدى عظيم. وإسناد التقديم للأيدي على الوجه الأول حقيقة وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي. وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته فهذا كقول زهير: فمهما يكتم الله يعلم وقد عدت هذه الآية في دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة فسكوتهم يدل على عدم وقوعه وإن كان التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء وتقدم في قوله {إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: من الآية78] أن الأمنية ما يقدر في القلب. وهذا بالنسبة إلى اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية وهي أيضا من أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية. ويفيد بذلك إعجازا عاما على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله. على أن الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد يهود عصر النزول إذ لا يعرف أن يهوديا تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة وجملة {والله عليم بالظالمين} في موضع الحال من ضمير الرفع في {يتمنوه} أي علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت، والمراد بالظالمين اليهود من وضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:44 am | |
| [96] {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} معطوف على قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة: 95] للإشارة إلى أن عدم تمنيهم الموت ليس على الوجه المعتاد عند البشر من كراهة الموت ما دام المرء بعافية بل هم تجاوزوا ذلك إلى كونهم أحرص من سائر البشر على الحياة حتى المشركين الذين لا يرجون بعثا ولا نشورا ولا نعيما فنعيمهم عندهم هو نعيم الدنيا وإلى أن تمنوا أن يعمروا أقصى أمد التعمير مع ما يعتري صاحب هذا العمر من سوء الحالة ورذالة العيش. فلما في هذه الجمل المعطوفة من التأكيد لمضمون الجملة المعطوف عليها أخرت عنها ولما فيها من الزيادة في وصفهم بالأحرصية المتجاوزة الحد عطف عليه ولم يفصل لأنه لو كان لمجرد التأكيد لفصل كما يفصل التأكيد عن المؤكد. وقوله {ولتجدنهم} من الوجدان القلبي المتعدى إلى مفعولين. والمراد من الناس في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر فهم أحرصهم على الحياة فإن الحرص على الحياة غريزة في الناس إلا أن الناس فيه متفاوتون قوة وكيفية وأسبابا قال أبو الطيب: أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه . . . حريصا عليها مستهاما بها صبا فحب الجبان النفس أورده التقى . . . وحب الشجاع النفس أورده الحربا ونكر "الحياة" قصدا للتنويع أي كيفما كانت تلك الحياة وتقول يهود تونس ما معناه الحياة وكفى. وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} عطف على {الناس} لأن المضاف إليه أفعل التفضيل تقدر معه من التفضيلية لا محالة فإذا عطف عليه جاز إظهارها ويتعين الإظهار إذا كان المفضل من غير نوع المفضل عليه لأن الإضافة حينئذ تمتنع كما هنا فإن اليهود من الناس وليسوا من الذين أشركوا. وعند سيبويه أن إضافته على تقدير اللام فيكون قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} على قوله- عطفا بالحمل على المعنى أو بتقدير معطوف محذوف تقديره أحرص هو متعلق من {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} وإليه مال في الكشاف. وقوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} بيان لأحرصيتهم على الحياة وتحقيق لعموم النوعية في الحياة المنكرة لدفع توهم أن الحرص لا يبلغ بهم مبلغ الطمع في الحياة البالغة لمدة ألف سنة فإنها مع تعذرها لو تمت لهم كانت حياة خسف وأرذل عيش يظن بهم أن لا يبلغ حبهم الحياة إلى تمنيها، وقد قال الحريري: والموت خير للفتى . . . من عيشه عيش البهيمة فجيء بهاته الجملة لتحقيق أن ذلك الحرص يشمل حتى هاته الحياة الذميمة ولما في هاته الجملة من البيان لمضمون الجملة قبلها فصلت عنها. والود المحبة و"لو" للتمني وهو حكاية للفظ الذي يودون به والمجيء فيه بلفظ الغائب مراعاة للمعنى ويجوز أن تكون "لو" مصدرية والتقدير يود أحدهم تعمير ألف سنة. وقوله: {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} بيان ليود أي يود ودا بيانه لو يعمر ألف سنة، وأصل لو أنه حرف شرط للماضي أو للمستقبل فكان أصل موقعه مع فعل يود ونحوه أنه جملة مبينة لجملة {يَوَدُّ} على طريقة الإيجاز والتقدير في مثل هذا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة لما سئم أو لما كره فلما كان مضمون شرط لو ومضمون مفعول {يَوَدُّ} واحدا استغنوا بفعل الشرط عن مفعول الفعل فحذفوا المفعول ونزل حرف الشرط مع فعله منزلة المفعول فلذلك صار الحرف مع جملة الشرط في قوة المفعول فأكتسب الاسمية في المعنى فصار فعل الشرط مؤولا بالمصدر المأخوذ منه ولذلك صار حرف لو بمنزلة أن المصدرية نظرا لكون الفعل الذي بعدها صار مؤولا بمصدر فصارت جملة الشرط مستعملة في معنى المصدر استعمالا غلب على لو الواقعة بعد فعل {يَوَدُّ} وقد يلحق به ما كان في معناه من الأفعال الدالة على المحبة والرغبة. هذا تحقيق استعمال لو في مثل هذا الجاري على قول المحققين من النحاة ولغلبة هذا الاستعمال وشيوع هذا الحذف ذهب بعض النحاة إلى أن لو تستعمل حرفا مصدريا وأثبتوا لها من الواقع ذلك موقعها بعد {يَوَدُّ} ونحوه وهو قول القراء وأبي علي الفارسي والتبريزي والعكبري وابن مالك فيقولون لا حذف ويجعلون لو حرفا لمجرد السبك بمنزلة أن المصدرية والفعل مسبوكا بمصدر والتقدير يود أحدهم التعمير وهذا القول أضعف تحقيقاً وأسهل تقديراً. وقوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} يجوز أن يكون الضمير لأحدهم ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره المصدر بعده على حد قول زهير: وما الحرب ألا ما علمتم وذقتم . . . وما هو عنها بالحديث المرجم ولم يجعل ضمير شأن لدخول النفي عليه كالذي في البيت لكنه قريب من ضمير الشأن لأن المقصود منه الاهتمام بالخبر ولأن ما بعده في صورة الجملة وقيل هو عائد على التعمير المستفاد من {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}. وقوله: {أَنْ يُعَمَّرَ} بدل منه وهو بعيد. والمزحزح المبعد. وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} البصير هنا بمعنى العليم كما في قول علقمة الفحل: فإن تسألوني بالنساء فإنني . . . بصير بأدواء النساء طبيب وهو خبر مستعمل في التهديد والتوبيخ لأن القدير إذا علم بما يجترحه الذي يعصيه وأعلمه بأنه علم منه ذلك علم أن العقاب نازل به لا محالة ومنه قول زهير: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم . . . ليخفي فمهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر . . . ليوم الحساب أو يعجل فينتقم فجعل قوله يعلم بمعنى العلم الراجع للتهديد بدليل إبداله منه قوله يؤخر البيت وقريب من هذا قول النابغة في النعمان: علمتك ترعاني بعين بصيرة . . . وتبعث حراسا علي وناظرا |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:45 am | |
| [97، 98] {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}. موقع هاته الجملة موقع الجمل قبلها من قوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: من الآية93] وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} [البقرة: 94] فإن الجميع للرد على ما تضمنه قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] لأنهم أظهروا به عذراً عن الإعراض عن الدعوة المحمدية وهو عذر كاذب ستروا به السبب في الواقع وهو الحسد على نزول القرآن على رجل من غيرهم فجاءت هاته المجادلات المصدرة بقل لإبطال معذرتهم وفضح مقصدهم. فأبطل أولا ما تضمنه قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} من أنهم إنما يقبلون ما أنزل على رسلهم بأنهم قد قابلوا رسلهم أيضا بالتكذيب والأذى والمعصية وذلك بقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ} وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا} الخ. وأبطل ثانيا ما تضمنه من أنهم شديدو التمسك بما أنزل عليهم حريصون على العمل به متباعدون عن البعد عنه لقصد النجاة في الآخرة بقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} وأبطل ثالثا أن يكون ذلك العذر هو الصارف لهم عن الإيمان مع إثبات أن الصارف لهم هو الحسد بقوله هنا: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} الخ. ويؤيد هذا الارتباط وقوع الضمير في قوله نزله عائدا على: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في الآية المجابة بهاته الإبطالات، ولذلك فصلت هذه كما فصلت أخواتها ولأنها لا علاقة لها بالجمل القريبة منها فتعطف عليها فجاءت لذلك مستأنفة. والعدو المبغض وهو مشتق من عدا عليه يعدو بمعنى وثب، لأن المبغض يثب على المبغوض لينتقم منه ووزنه فعول. وجبريل اسم عبراني للمَلَكِ المُرسل من الله تعالى بالوحي لرسله مركب من كلمتين. وفيه لغات أشهرها جبريل كقطمير وهي لغة اهـل الحجاز وبها قرأ الجمهور. وجبريل بفتح الجيم وكسر الراء وقع في قراءة ابن كثير وهذا وزن فعليل لا يوجد له مثال في كلام العرب قاله الفراء والنحاس. وجبرئيل بفتح الجيم أيضا وفتح الراء وبين الراء والياء همزة مكسورة وهي لغة تميم وقيس وبعض اهـل نجد وقرأ بها حمزة والكسائي. وجبرائيل بفتح الجيم والراء بينها وبين اللام همزة مكسورة قرأ بها أبو بكر عن عاصم وفيه لغات أخرى قرئ بها في الشواذ. وهو اسم مركب من كلمتين كلمة جبر وكلمة إيل. فأما كلمة جبر فمعناها عند الجمهور نقلا عن العبرانية أنها بمعنى عبد والتحقيق أنها في العبرانية بمعنى القوة. وأمَّا كلمة إيل فهي عند الجمهور اسم من أسماء الله تعالى. وذهب أبو علي الفارسي إلى عكس قول الجمهور فزعم أن جبر اسم الله تعالى وإيل العبد وهو مخالف لما في اللغة العبرانية عند العارفين بها. وقد قفا أبو العلاء المعري رأي أبي علي الفارسي في صدر رسالته التي خاطب بها علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح وهي المعروفة برسالة الغفران فقال قد علم الجبر الذي نسب إليه جبريل وهو في كل الخيرات سبيل أن في مسكني حماطة الخ. أي قد علم الله الذي نسب جبريل إلى اسمه أي اسمه جبر يريد بذلك القسم وهذا إغراب منه وتنبيه على تباصره باللغة. وعداوة اليهود لجبريل نشأت من وقت نزوله بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل لأنه ينزل على الأمم التي كذبت رسلها بالعذاب والوعيد، نقله القرطبي عن حديث خرجه الترمذي. وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} شرط عام مراد به خاص وهم اليهود. قصد الإتيان بالشمول ليعلموا أن الله لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل إن كان له معاد آخر. وقد عرف اليهود في المدينة بأنهم أعداء جبريل ففي البخاري عن أنس بن مالك قال سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله وهو في أرض يخترف فأتى النبي فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام اهـل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه? قال رسول الله أخبرني بهن جبريل آنفا قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة فإنهم أبغضوه لأنه يجيء بما فيه شدة وبالأمر بالقتال الحديث وفي سفر دانيال من كتبهم في الإصحاحين الثامن والتاسع ذكروا أن جبريل عبر لدانيال رؤيا رآها وأنذره بخراب أورشليم. وذكر المفسرون أسبابا أخرى لبغضهم جبريل. ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه مَلَكٌ مُرْسَلٌ من الله ويبغضونه وهذا من أحط دركات الأنحطاط في العقل والعقيدة ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تظافر آرائهم على الخطأ والأوهام. وقوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الضمير المنصوب بـ"نزله" عائد للقرآن إما لأنه تقدم في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: من الآية91} وإما لأن الفعل لا يصلح إلا له هنا على حد {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ: 32] {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83] وهذه الجملة قائمة مقام جواب الشرط. لظهور أن المراد أن لا موجب لعداوته لأنه واسطة أذنه الله بالنزول بالقرآن فهم بمعاداته إنما يعادون الله تعالى فالتقدير من كان عدواً لجبريل فلا يُعاده وليُعاد الله تعالى. وهذا الوجه أحسن مما ذكروه وأسعد بقوله تعالى {بِإِذْنِ اللَّهِ} وأظهر ارتباطا بقوله بعد من كان عدوا لله وملائكته كما ستعرفونه ويجوز أن يكون التقدير فإنه قد نزله عليك سواء أحبوه أم عادوه فيكون في معنى الإغاظة من باب {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]، كقول الربيع بن زياد: من كان مسرورا بمقتل مالك . . . فليأت ساحتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا يندبنه . . . بالليل قبل تبلج الإسفار أي فلا يسر بمقتله فإنا قد قتلنا قاتله قبل طلوع الصباح فإن قاتله من أولياء من كان مسرورا بمقتله.ويجوز أن يكون المراد فإنه نزل به من عند الله مصدقا لكتابهم وفيه هدى وبشرى، وهذه حالة تقتضي محبة من جاء به فمن حمقهم ومكابرتهم عداوتهم لمن جاء به فالتقدير فقد خلع ربقة العقل أو حلية الإنصاف. والإتيان بحرف التوكيد في قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} لأنهم منكرون ذلك. والقلب هنا بمعنى النفس وما به الحفظ والفهم، والعرب تطلق القلب على هذا الأمر المعنوي نحو {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [قّ: 37] كما يطلقونه أيضا على العضو الباطني النوبري كما قال: كان قلوب الطير رطبا ويابسا و {مصدقا} حال من الضمير المنصوب في {أنزله} أي القرآن الذي هو سبب عداوة اليهود لجبريل أي أنزله مقارنا لحالة لا توجب عداوتهم إياه لأنه أنزله مصدقا لما بين يديه من الكتب وذلك التوراة والإنجيل. والمصدق المخبر بصدق أحد. وأدخلت لام التقوية على مفعول {مصدقا} للدلالة على تقوية ذلك التصديق أي هو تصديق ثابت محقق لا يشوبه شيء من التكذيب ولا التخطئة فإن القرآن نوه بالتوراة والإنجيل ووصف كلا بأنه هدى ونور كما في سورة المائدة. وتصديق الرسل السالفين من أول دلائل صدق المصدق لأن الدجاجلة المدعين النبوات يأتون بتكذيب من قبلهم لأن ما جاءوا به من الهدى يخالف ضلالات الدجالين فلا يسعهم تصديقهم ولذا حذر الأنبياء السابقون من المتنبئين الكذبة كما جاء في مواضع من التوراة والأناجيل. والمراد بما بين يديه ما سبقته وهو كناية عن السبق لأن السابق يجيء قبل المسبوق ولما كان كناية عن السبق لم يناف طول المدة بين الكتب السابقة والقرآن ولأن اتصال العمل بها بين أممها إلى مجيء القرآن فجعل سبقهما مستمرا إلى وقت مجيء القرآن فكان سبقهما متصلا. والهدى وصف للقرآن بالمصدر لقصد المبالغة في حصول الهدى به. والبشرى الإخبار بحصول أمر سار أو بترقب حصوله فالقرآن بشر المؤمنين بأنهم على هدى وكمال ورضى من الله تعالى وبشرهم بأن الله سيؤتيهم خير الدنيا وخير الآخرة. فقد حصل من الأوصاف الخمسة للقرآن وهي أنه منزل من عند الله بإذن الله. وأنه منزل على قلب الرسول. وأنه مصدق لما سبقه من الكتب. وأنه هاد أبلغ هدى. وأنه بشرى للمؤمنين، الثناء على القرآن بكرم الأصل. وكرم المقر. وكرم الفئة. ومفيض الخير على أتباعه الأخيار خيراً عاجلاً. وواعد لهم بعاقبة الخير. وهذه خصال الرجل الكريم محتده. وبيته. وقومه. السخي بالبذل الواعد به وهي خصال نظر إليها بيت زياد الأعجم: إن السماحة والمروءة والندى . . . في قبة ضربت على ابن الحشرج وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ} الخ قد ظهر حسن موقعه بما علمتموه من وجه معنى {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي لما كانت عداوتهم جبريل لأجل عداوتهم الرسول ورجعت بالآخرة إلى إلزامهم بعداوتهم الله المرسل، لأن سبب العداوة هو مجيئه بالرسالة تسنى أن سجل عليهم أنهم أعداء الله لأنه المرسل، وأعداء رسله لأنهم عادوا الرسول، وأعداء الملائكة لذلك، فقد صارت عداوتهم جبريل كالحد الوسط في القياس لا يلتفت إليه وإنما يلتفت للمقدمتين الصغرى والكبرى فعداوتهم الله بمنزلة المقدمة الكبرى لأنها العلة في المعنى عند التأمل. وعداوتهم الرسول بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها السبب الجزئي المثبت له فلا يرد أنه لا وجه لذكر عداوة الله تعالى هنا حتى يجاب بأن عداوة الملائكة والرسل عداوة لله على حد {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: من الآية80] فإن ذلك بعيد. وقد أثبت عداوة الملائكة والرسل مع أنهم إنما عادوا جبريل ومحمدا لأنهم لما عادوهما عادوا جبريل لأجل قيامه بما هو من خصائص جنسه الملكي وهو تبليغ أمر الله التكليفي فإن ذلك خصيصتهم قال تعالى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الانبياء: من الآية27] كانت عداوتهم إياه لأجل ذلك آيلة إلى عداوة جنس الملائكة إذ تلك طريق ليس جبريل فيها بأوحد وكذلك لما عادوا محمدا لأجل مجيئه بالرسالة لسبب خاص بذاته، كانت عداوتهم إياه آيلة إلى عداوة الوصف الذي هو قوام جنس الرسول فمن عادى واحدا كان حقيقا بأن يعاديهم كلهم وإلا كان فعله تحكما لا عذر له فيه. وخص جبريل بالذكر هنا لزيادة الاهتمام بعقاب معاديه وليذكر معه ميكائيل ولعلهم عاودهما معا أو لأنهم زعموا أن جبريل رسول الخسف والعذاب وأن ميكائيل رسول الخصب والسلام وقالوا نحن نحب ميكائيل فلما أريد إنذارهم بأن عداوتهم الملائكة تجر إليهم عداوة الله وأعيد ذكر جبريل للتنويه به وعطف عليه ميكائيل لئلا يتوهموا أن محبتهم ميكائيل تكسب المؤمنين عداوته. وفي ميكائيل لغات إحداها ميكائيل بهمزة بعد الألف وياء بعد الهمزة وبها قرأ الجمهور. الثانية ميكائل بهمزة بعد الألف وبلا ياء بعد الهمزة وبها قرأ نافع. الثالثة ميكال بدون همز ولا ياء وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة اهـل الحجاز. وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} جواب الشرط. والعدو مستعمل في معناه المجازي وهو ما يستلزمه من الانتقام والهلاك وأنه لا يفلته كما قال النابغة: فإنك كالليل الذي هو مدركي.. (البيت) وقوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] وما ظنك بمن عاداه الله. ولهذا ذكر اسم الجلالة بلفظه الظاهر ولم يقل فإني عدو أو فإنه عدو لما يشعر به الظاهر هنا من القدرة العظيمة على حد قول الخليفة أمير المؤمنين يأمر بكذا حثا على الامتثال. والمراد بالكافرين جميع الكافرين وجيء بالعام ليكون دخولهم فيه كإثبات الحكم بالدليل. وليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن تلك العداوة كفر. ولتكون الجملة تذييلا لما قبلها. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:45 am | |
| [99 - 101] {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}. عطف على قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] عطف القصة على القصة لذكر كفرهم بالقرآن فهو من أحوالهم. وهاته الجملة جواب لقسم محذوف فعطفها على {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً} من عطف الإنشاء على الإنشاء وفيه زيادة إبطال لقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91]. وفي الانتقال إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إقبال عليه وتسلية له عما لقي منهم وأن ما أنزل إليه لا يكذب به إلا من لا يؤبه بتكذيبه لكون هذا المنزل دلائل واضحة لا تقصر عن إقناعهم بأحقيتها ولكنهم يظهرون أنفسهم أنهم لم يوقنوا بحقيتها. واللام موطئة لقسم محذوف فهنا جملة قسم وجوابه حذف القسم لدلالة اللام عليه. وقوله: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} عطف على: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا} فهو جواب للقسم أيضاً. والفاسق هو الخارج عن شيء من فسقت التمرة كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: من الآية26] وقد شاع إطلاقه على الخارج عن طريق الخير لأن ذلك الوصف في التمرة وصف مذموم وقد شاع في القرآن وصف اليهود به والمعنى ما يكفر بهاته الآيات إلا من كان الفسق شأنه ودأبه لأن ذلك يهيئه للكفر بمثل هذه الآيات فالمراد بالفاسقين المتجاوزون الحد في الكفر المتمردون فيه.والإخبار وقع بالمضارع الدال على التجدد. والتوصيف وقع باسم الفاعل المعرف باللام وقوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} استفهام مستعمل في التوبيخ معطوف على جملة القسم لا على خصوص الجواب وقدمت الهمزة محافظة على صدارتها كما هو شأنها مع حروف العطف. والقول بأن الهمزة للاستفهام عن مقدر محذوف والواو عاطفة ما بعدها على المحذوف علمتم إبطاله عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} وتقديم كلما تبع لتقديم حرف الاستفهام وقد تقدم توجيهه عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87]. والنبذ إلقاء الشيء من اليد وهو هنا استعارة لنقض العهد شبه إبطال العهد وعدم الوفاء به بطرح شيء كان ممسوكا باليد كما سموا المحافظة على العهد والوفاء به تمسكا قال كعب: ولا تمسك بالوعد الذي وعدت والمراد بالعهد عهد التوراة أي ما اشتملت عليه من أخذ العهد على بني إسرائيل بالعمل بما أمروا به أخذا مكررا حتى سميت التوراة بالعهد، وقد تكرر منهم نقض العهد مع أنبيائهم ومن جملة العهد الذي أخذ عليهم، أن يؤمنوا بالرسول المصدق للتوراة. وأسند النبذ إلى فريق إما باعتبار العصور التي نقضوا فيها العهود كما تؤذن به كلما أو احتراسا من شمول الذم للذين آمنوا منهم. وليس المراد أن ذلك الفريق قليل منهم فنبه على أنه أكثرهم بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وهذا من أفانين البلاغة وهو أن يظهر المتكلم أنه يوفي حق خصمه في الجدال فلا ينسب له المذمة إلا بتدرج وتدبر قبل الإبطال. ولك أن تجعلها للانتقال من شيء إلى ما هو أقوى منه في ذلك الغرض لأن النبذ قد يكون بمعنى عدم العمل دون الكفر والأول أظهر. وقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} إلخ معطوف على قوله: {أو كلما} عطف القصة على القصة لغرابة هاته الشئون. والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} والنبذ طرح الشيء من اليد فهو يقتضي سبق الأخذ. وكتاب الله ظاهر في أنه المراد به القرآن لأنه الأتم في نسبته إلى الله. فالنبذ على هذا مراد به تركه بعد سماعه فنزل السماع منزلة الأخذ ونزل الكفر به بعد سماعه منزلة النبذ. وقيل المراد بكتاب الله التوراة وأشار في الكشاف إلى ترجيحه بالتقديم لأن النبذ يقتضي سابقة أخذ المنبوذ وهم لم يتمسكوا بالقرآن، والأصل في إطلاق اللفظ المفرد أنه حقيقة لفظا ومعنى وقيل المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى وفيه نظر لأن ذلك في إعادة الاسم المعرف باللام. أو تجعل النبذ تمثيلا لحال قلة اكتراث المعرض بالشيء فليس مرادا به معناه. وقوله: {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} تمثيل للإعراض لأن من أعرض عن شيء تجاوزه فخلفه وراء ظهره وإضافة الوراء إلى الظهر لتأكيد بعد المتروك بحيث لا يلقاه بعد ذلك فجعل للظهر وراء وإن كان هو هنا بمعنى الوراء. فالإضافة كالبيانية وبهذا يجاب عما نقله ابن عرفة عن الفقيه أبي العباس أحمد بن عبلون أنه كان يقول مقتضى هذا أنهم طرحوا كتاب الله أمامهم لأن الذي وراء الظهر هو الوجه وكما أن الظهر خلف للوجه كذلك الوجه وراء للظهر قال ابن عرفة وأجيب بأن المراد أي بذكر الظهر تأكيد لمعنى وراء كقولهم من وراء وراء. وقوله: {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} تسجيل عليهم بأنهم عالمون بأن القرآن كتاب الله أو كأنهم لا يعلمون التوراة وما فيها من البشارة ببعثة الرسول من ولد إسماعيل. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:47 am | |
| [102] {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. قوله: {واتبعوا} عطف على جملة الشرط وجوابه في قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 101] الآية بذكر خصلة لهم عجيبة وهي أخذهم بالأباطيل بعد ذكر خصلة أخرى وهي نبذهم للكتاب الحق فذلك هو مناسبة عطف هذا الخبر على الذي قبله. فإن كان المراد بكتاب الله في قوله: {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة: 101] القرآن فالمعنى أنهم لما جاءهم رسول الله مصدقا لما معهم نبذوا كتابه بعلة أنهم متمسكون بالتوراة فلا يتبعون ما خالف أحكامها وقد اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وهو مخالف للتوراة لأنها تنهي عن السحر والشرك فكما قيل لهم فيما مضى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة: 85] يقال لهم أفتؤمنون بالكتاب تارة وتكفرون به تارة أخرى. وإن كان المراد بكتاب الله التوراة فالمعنى لما جاءهم رسول الله نبذوا ما في التوراة من دلائل صدق هذا الرسول وهم مع ذلك قد نبذوها من قبل حين: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} مع أن ذلك مخالف لأحكام التوراة. قال القرطبي قال ابن إسحاق لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سليمان في الأنبياء قالت اليهود إن محمدا يزعم أن سليمان نبي وما هو بنبي ولكنه ساحر فنزلت هذه الآية و {الشياطين} يحتمل أن يكونوا شياطين من الجن وهو الإطلاق المشهور. ويحتمل أن يراد به ناس تمردوا وكفروا وأتوا بالفظائع الخفية فأطلق عليهم الشياطين على وجه التشبيه كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] وقرينة ذلك قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فإنه ظاهر في أنهم يدرسونه للناس وكذلك قوله بعده: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} إذ هذا الاستدراك في الإخبار يدل على أنهم من الإنس لأن كفر الشياطين من الجن أمر مقرر لا يحتاج للإخبار عنه. وعن ابن إسحاق أيضا أنه لما مات سليمان عليه السلام عمدت الشياطين فكتبوا أصنافا من السحر وقالوا من أحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا لأصناف من السحر وختموه بخاتم يشبه نقش خاتم سليمان ونسبوه إليه ودفنوه وزعموا أن سليمان دفنه وأنهم يعلمون مدفنه ودلوا الناس على ذلك الموضع فأخرجوه فقالت اليهود ما كان سليمان إلا ساحرا وما تم له الملك إلا بهذا. وقيل كان آصف ابن برخيا1 كاتب سليمان يكتب الحكمة بأمر سليمان ويدفن كتبه تحت كرسي سليمان لتجدها الأجيال فلما مات سليمان أغرت الشياطين الناس على إخراج تلك الكتب وزادوا في خلال سطورها سحرا وكفرا ونسبوا الجميع لسليمان فقالت اليهود كفر سليمان. والمراد من الآية مع سبب نزولها إن نزلت عن سبب أن سليمان عليه السلام لما مات انقسمت مملكة إسرائيل بعده بقليل إلى مملكتين إحداهما مملكة يهوذا وملكها رحبعام ابن سليمان جعلوه ملكا بعد أبيه وكانت بنو إسرائيل قد سئمت ملك سليمان لحمله إياهم على ما يخالف هواهم فجاءت أعيانهم وفي مقدمتهم يربعام بن نباط مولى سليمان ليكلموا رحبعام قائلين إن أباك قاس علينا وأمَّا أنت فخفف عنا من عبودية أبيك لنطيعك فأجابهم إذهبوا ثم ارجعوا إلى بعد ثلاثة أيام واستشار رحبعام أصحاب أبيه ووزراءه فأشاروا عليه بملاينة الأمة لتطيعه. واستشار أصحابه من الفتيان فأشاروا عليه أن يقول للأمة ان خنصرى أغلظ من متن أبي فإذا كان أبي قد أدبكم بالسياط فأنا أؤدبكم بالعقارب فلما رجع إليه شيوخ بني إسرائيل في اليوم الثالث وأجابهم بما أشار به الأحداث خلعت بنو إسرائيل طاعته وملكوا عليهم يربعام ولم يبق على طاعة رحبعام إلا سبطا يهوذ وبنيا من واعتصم رحبعام بأورشليم وكل أمته لا تزيد على مائة وثمانين ألف محارب يعني رجالا قادرين على حمل السلاح وانقسمت المملكة من يؤمئذ إلى مملكتين مملكة يهوذا وقاعدتها أورشليم. ومملكة إسرائيل ومقرها السامرة. وذلك سنة 975 قبل المسيح كما قدمناه عند الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} [البقرة: من الآية62] الآية. ----------------------------------------------- 1 آصف بن برخيا يعده مؤرخو المسلمين وزيرا لسليمان حكيما كبيرا ولذلك ضربوا به الأمثال للسياسيين الناصحين ولكن هذا ليس بمعروف في كتب الإسرائيليين والمعروف عندهم آسف بن برخيا أحد أئمة المغنين عند داود الملك وينسب إليه وضع بعض المزامير والأغاني المقدسة. فلعله قد عاش إلى زمن سليمان فاتخذه وزيرا لأنه من خواص أبيه وإٍن لم يكن هذا "لاروس" ولا "البستاني". ----------------------------------------------- ولا يخفي ما تكون عليه حالة أمة في هذا الانتقال فإن خصوم رحبعام لما سلبوا منه القوة المادية لم يغفلوا عما يعتضد به من القوة الأدبية وهي كونه ابن سليمان بن داود من بيت المُلك والنبوءة والسمعة الحسنة فلم يأل أعداؤه جهدهم من إسقاط هاته القوة الأدبية وذلك بأن اجتمع مدبرو الأمر على أن يضعوا أكاذيب عن سليمان يبثونها في العامة ليقضوا بها وطرين أحدهما نسبة سليمان إلى السحر والكفر لتنقيص سمعة ابنه رحبعام كما صنع دعاة الدولة العباسية فيما وضعوه من الأخبار عن بني أمية والثاني تشجيع العامة الذين كانوا يستعظمون ملك سليمان وابنه على الخروج عن طاعة ابنه بأن سليمان ما تم له الملك إلا بتلك الأسحار والطلاسم وأنهم لما ظفروا بها فإنهم يستطيعون أن يؤسسوا ملكا يماثل ملك سليمان كما صنع دعاة انقلاب الدول في تاريخ الإسلام من وضع أحاديث انتظار المهدي وكما يفعلونه من بث أخبار عن الصالحين تؤذن بقرب زوال الدولة. ولا يخفي ما تثيره هذه الأوهام في نفوس العامة من الجزم بنجاح السعي وجعلهم في مأمن من خيبة أعمالهم ولحاق التنكيل بهم فإذا قضي الوطر بذلك الخبر التصق أثره في الناس فيبقى ضر ضلاله بعد اجتناء ثماره. والاتباع في الأصل هو المشي وراء الغير ويكون مجازا في العمل بقول الغير وبرأيه وفي الاعتقاد باعتقاد الغير تقول اتبع مذهب مالك واتبع عقيدة الأشعري، والاتباع هنا مجاز لا محالة لوقوع مفعوله مما لا يصح اتباعه حقيقة. والتلاوة قراءة المكتوب والكتاب وعرض المحفوظ عن ظهر قلب وفعلها يتعدى بنفسه {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ1} [الزمر: من الآية71] فتعديته بحرف الاستعلاء يدل على تضمنه معنى تكذب أي تتلو تلاوة كذب على ملك سليمان كما يقال تقول على فلان أي قال عليه ما لم يقله، وإنما فهم ذلك من حرف "على". والمراد بالملك هنا مدة الملك أو سبب الملك بقرينة أن التلاوة لا تتعلق بنفس الملك وحذف المضاف مع ما يدل على تعيين الوقت شائع في كلام العرب كقولهم وقع هذا في حياة رسول الله أو في خلافة عمر بن الخطاب وقول حميد ابن ثور: وما هي إلا في إزار وعلقة . . . مغار ابن همام على حي خثعما2 يريد أزمان مغار ابن همام. ----------------------------------------------- 1 في المطبوعة {آياتي} وهو خطأ. "مصححه". 2 العلقة بكسر العين قميص بلا كمين وهو أول ثوب يتخذ للصبيان. ----------------------------------------------- وكذلك حذف المضاف إذا أريد به الحوادث أو الأسباب كما تقول تكلم فلان على خلافة عمر أو هذا كتاب في ملك العباسيين وذلك أن الاسم إذا اشتهر بصفة أو قصة صح إطلاقه وإرادة تلك الصفة أو القصة بحيث لو ظهرت لكانت مضافة إلى الاسم، قال النابغة: وليل أقاسيه بطيء الكواكب أراد متاعب ليل لأن الليل قد اشتهر عند اهـل الغرام بأنه وقت الشوق والأرق. والشياطين قيل أريد بها شياطين الإنس أي المضللون وهو الظاهر. وقيل أريدت شياطين الجن وأل للجنس على الوجهين. وعندي أن المراد بالشياطين اهـل الحيل والسحرة كما يقولون فلان من شياطين العرب وقد عد من أولئك ناشب الأعور أحد رجال يوم الوقيط. وقوله {تتلوا} جاء بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية على ما قاله الجماعة. أو هو مضارع على بابه على ما اخترناه من أن الشياطين هم أحبارهم فإنهم لم يزالوا يتلون ذلك فيكون المعنى أنهم اتبعوا أي اعتقدوا ما تلته الشياطين ولم تزل تتلوه. وسليمان هو النبي سليمان بن داود بن يسي من سبط يهوذا ولد سنة 1032 اثنتين وثلاثين وألف قبل المسيح وتوفي في أورشليم سنة 975 خمس وسبعين وتسعمائة قبل المسيح وولى ملك إسرائيل سنة 1014 أربع عشرة وألف قبل المسيح بعد وفاة أبيه داود النبي ملك إسرائيل، وعظم ملك بني إسرائيل في مدته وهو الذي أمر ببناء مسجد بيت المقدس وكان نبيا حكيما شاعرا وجعل لمملكته أسطولا بحريا عظيما كانت تمخر سفنه البحار إلى جهات قاصية مثل شرق إفريقيا. وقوله {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} جملة معترضة أثار اعتراضها ما أشعر به قوله {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من معنى أنهم كذبوا على سليمان ونسبوه إلى الكفر فهي معترضة بين جملة {واتبعوا} وبين قوله {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} إن كان {وَمَا أُنْزِلَ} معطوفا على {ما قتلوا} وبين {اتبعو} وبين {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} الخ إن كان {وَمَا أُنْزِلَ} معطوفا على السحر، ولك أن تجعله معطوفا على واتبعوا إذا كان المراد من الشياطين أحبار اليهود لأن هذا الحكم حينئذ من جملة أحوال اليهود لأن مآله واتبعوا وكفروا وما كفر سليمان ولكنه قدم نفي كفر سليمان لأنه الأهم تعجيلا بإثبات نزاهته وعصمته ولأن اعتقاد كفره كان سبب ضلال للذين اتبعوا ما كتبته الشياطين فلا شك أن حكم الأتباع وحكم المتبوعين واحد فكان خبرا عن اليهود كذلك. وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان في كتبهم فقد جاء في سفر الملوك الأول أن سليمان في زمن شيخوخته أمالت نساؤه المصريات والصيدونيات والعمونيات قلبه إلى آلهتهن مثل "عشتروت" إله الصيدونيين "ومولوك" إله العمونيين "الفينيقيين" وبني لهاته الآلهة هياكل فغضب الله عليه لأن قلبه مال عن إله إسرائيل الذي أوصاه أن لا يتبع آلهة أخرى. وقوله {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} حال من ضمير {كفروا} والمقصد منه تشنيع حال كفرهم إذ كان مصحوبا بتعليم السحر على حد قوله كفر دون كفر فهي حال مؤسسة. والسحر الشعوذة وهي تمويه الحيل بإخفائها تحت حركات وأحوال يظن الرائي أنها هي المؤثرة مع أن المؤثر خفي قال تعالى {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15] ولذلك أطلق السحر على الخديعة تقول سحرت الصبي إذا عللته بشيء. قال لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننا . . . عصافير من هذا الأنام المسحر ثم أطلق على ما علم ظاهره وخفي سببه وهو التمويه والتلبيس وتخييل غير الواقع واقعا وترويج المحال تقول العرب عنز مسحورة إذا عظم ضرعها وقل لبنها وأرض مسحورة لا تنبت قال أبو عطاء: فو الله ما أدري وإني لصادق . . . أداء عراني من حبابك أم سحر أي شيء لا يعرف سببه. والعرب تزعم أن الغيلان سحرة الجن لما تتشكل به من الأشكال وتعرضها للإنسان. والسحر من المعارف القديمة التي ظهرت في منبع المدينة الأولى أعني ببلاد المشرق فإنه ظهر في بلاد الكلدان والبابلين وفي مصر في عصر واحد وذلك في القرن الأربعين قبل المسيح مما يدل على أنها كانت في تينك الأمتين من تعاليم قوم نشأوا قبلهما فقد وجدت آثار مصرية سحرية في عصر العائلة الخامسة من الفراعنة والعائلة السادسة 3951- 3703 ق. م. وللعرب في السحر خيال واسع وهو أنهم يزعمون أن السحر يقلب الأعيان ويقلب القلوب ويطوع المسحور للساحر ولذلك كانوا يقولون إن الغول ساحرة الجن ولذلك تتشكل للرائي بأشكال مختلفة.وقالت قريش لما رأوا معجزات رسول الله: إنه ساحر، قال الله تعالى {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] وقال الله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15] وفي حديث البخاري عن عمران ابن حصين أن القوم عطشوا في سفر مع رسول الله فطلبوا الماء فوجدوا امرأة على بعير لها مزاداتان من ماء فأتيا بها رسول الله فسقي رسول الله جميع الجيش ثم رد إليها مزادتيها كاملتين فقالت لقومها: فو الله إنه لأسحر من بين هذه وهذه، تعني السماء والأرض وفي الحديث "إن من البيان لسحرا". ولم أر ما يدل على أن العرب كانوا يتعاطون السحر فإن السحر مستمد من خصائص الأمور الطبيعية والتركيب ولم يكن للعرب ضلاعة في الأمور اليدوية بل كانت ضلاعتهم فكرية محضة، وكان العرب يزعمون أن أعلم الناس بالسحر اليهود والصابئة وهم اهـل بابل، ومساق الآية يدل على شهرة هؤلاء بالسحر عند العرب. وقد اعتقد المسلمون أن اليهود في يثرب سحروهم فلا يولد لهم فلذلك استبشروا لما ولد عبد الله بن الزبير وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة كما في صحيح البخاري. ولذلك لم يكثر ذكر السحر بين العرب المسلمين إلا بعد أن هاجروا إلى المدينة إذ قد كان فيها اليهود وكانوا يوهمون بأنهم يسحرون الناس. ويداوي من السحر العراف ودواء السحر السلوة وهي خرزات معروفة تحك في الماء ويشرب ماؤها.وورد في التوراة النهي عن السحر فهو معدود من خصال الشرك وقد وصفت التوراة به اهـل الأصنام فقد جاء في سفر التثنية في الإصحاح 18 إذا دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يزج ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جانا أو تابعة ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:48 am | |
| وفي سفر اللاويين الإصحاح 20 6 والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى التوابع لتزني وراءهم أجعل وجهي ضد تلك النفس وأقطعها من شعبها 27 وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه دمه عليه. وكانوا يجعلونه أصلا دينيا لمخاطبة أرواح الموتى وتسخير الشياطين وشفاء الأمراض وقد استفحل أمره في بلد الكلدان وخلطوه بعلوم النجوم وعلم الطب. وأرجع المصريون المعارف السحرية إلى جملة العلوم الرياضية التي أفاضها عليهم طوط الذي يزعمون أنه إدريس وهو هرمس عند اليونان. وقد استخدم الكلدان والمصريون فيه أسرارا من العلوم الطبيعية والفلسفية والروحية قصدا لإخراج الأشياء في أبهر مظاهرها حتى تكون فاتنة أو خادعة وظاهرة، كخوارق عادات، إلا أنه شاع عند عامتهم وبعد ضلالهم عن المقصد العلمي منه فصار عبارة عن التمويه والتضليل وإخراج الباطل في صورة الحق، أو القبيح في صورة حسنة أو المضر في صورة النافع. وقد صار عند الكلدان والمصريين خاصية في يد الكهنة وهم يومئذ اهـل العلم من القوم الذين يجمعون في ذواتهم الرئاسة الدينية والعلمية فاتخذوا قواعد العلوم الرياضية والفلسفية والأخلاقية لتسخير العامة إليهم وإخضاعهم بما يظهرونه من المقدرة على علاج الأمراض والاطلاع على الضمائر بواسطة الفراسة والتأثير بالعين وبالمكائد. وقد نقلته الأمم عن هاتين الأمتين وأكثر ما نقلوه عن الكلدانيين فاقتبسه منهم السريان الأشوريون واليهود والعرب وسائر الأمم المتدينة والفرس واليونان والرومان. وأصول السحر ثلاثة: الأول: زجر النفوس بمقدمات توهيمية وإرهابية بما يعتاده الساحر من التأثير النفساني في نفسه ومن الضعف في نفس المسحور ومن سوابق شاهدها المسحور واعتقدها فإذا توجه إليه الساحر سخر له وإلى هذا الأصل الإشارة بقوله تعالى في ذكر سحرة فرعون: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116] الثاني: استخدام مؤثرات من خصائص الأجسام من الحيوان والمعدن وهذا يرجع إلى خصائص طبيعية كخاصية الزئبق ومن ذلك العقاقير المؤثرة في العقول صلاحاً أو فساداً والمفترة للعزائم والمخدرات والمرقدات على تفاوت تأثيرها وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى في سحرة فرعون: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69]. الثالث: الشعوذة واستخدام خفايا الحركة والسرعة والتموج حتى يخيل الجماد متحركا وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]. هذه أصول السحر بالاستقراء وقد قسمها الفخر في التفسير إلى ثمانية أقسام لا تعدو هذه الأصول الثلاثة وفي بعضها تداخل. ولعلماء الإفرنج تقسيم آخر ليس فيه كبير جدوى. وهذه الأصول الثلاثة كلها أعمال مباشرة للمسحور ومتصلة به ولها تأثير عليه بمقدار قابلية نفسه الضعيفة وهو لا يتفطن لها، ومجموعها هو الذي أشارت إليه الآية، وهو الذي لا خلاف في إثباته على الجملة دون تفصيل، وما عداها من الأوهام والمزاعم هو شيء لا أثر له وذلك كل عمل لا مباشرة له بذات من يراد سحره ويكون غائبا عنه فيدعى أنه يؤثر فيه، وهذا مثل رسم أشكال يعبر عنها بالطلاسم، أو عقد خيوط والنفث عليها برقيات معينة تتضمن الاستنجاد بالكواكب أو بأسماء الشياطين والجن وآلهة الأقدميين، وكذا كتابة اسم المسحور في أشكال. أو وضع صورته أو بعض ثيابه وعلائقه وتوجيه كلام إليها بزعم أنه يؤثر ذلك في حقيقة ذات المسحور، أو يستعملون إشارات خاصة نحو جهته أو نحو بلده وهو ما يسمونه بالأرصاد وذكر أبو بكر ابن العربي في القبس أن قريشا لما أشار النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه في التشهد قالوا هذا محمد يسحر الناس، أو جمع أجزاء معينة وضم بعضها إلى بعض مع نية أن ذلك الرسم أو الجمع لتأثير شخص معين بضر أو خير أو محبة أو بغضة أو مرض أو سلامة، ولا سيما إذا قرن باسم المسحور وصورته أو بطالع ميلاده، فذلك كله من التوهمات وليس على تأثيرها دليل من العقل ولا من الطبع ولا ما يثبته من الشرع، وقد انحصرت أدلة إثبات الحقائق في هذه الأدلة، ومن العجائب أن الفخر في التفسير حاول إثباته بما ليس بمقنع. وقد تمسك جماعة لإثبات تأثير هذا النوع من السحر بما روى في الصحيحين عن قول عائشة أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أن ملكين أخبراه بذلك السحر، وفي النسائي عن زيد بن أرقم مثله مختصرا، وينبغي التثبت في عباراته ثم في تأويله، ولا شك أن لبيدا حاول أن يسحر النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان اليهود سحرة في المدينة وأن الله أطلع رسوله على ما فعله لبيد لتكون معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في أبطال سحر لبيد وليعلم اليهود أنه نبي لا تلحقه أضرارهم وكما لم يؤثر سحر السحرة على موسى كذلك لم يؤثر سحر لبيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرض للنبي صلى الله عليه وسلم عارض جسدي شفاه الله منه فصادف أن كان مقارنا لما عمله لبيد بن الأعصم من محاولة سحره وكانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم إنباء من الله له بما صنع لبيد، والعبارة عن صورة تلك الرؤيا كانت مجملة فإن الرأي رموز ولم يرد في الخبر تعبير ما اشتملت عليه فلا تكون أصلا لتفصيل القصة. ثم إن لتأثير هاته الأسباب أو الأصول الثلاثة شروطا وأحوالا بعضها في ذات الساحر وبعضها في ذات المسحور، فيلزم في الساحر أن يكون مفرط الذكاء منقطعا لتجديد المحاولات السحرية جسورا قوي الإرادة كتوما للسر قليل الاضطراب للحوادث سالم البنية مرتاض الفكر خفي الكيد والحيلة، ولذلك كان غالب السحرة رجالا ولكن كان الحبشة يجعلون السواحر نساء وكذلك كان الغالب في الفرس والعرب قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]. فجاء بجمع الإناث وكانت الجاهلية تقول إن الغيلان عجائز من الجن ساحرات فلذلك تستطيع التشكل بأشكال مختلفة، وكان معلمو السحر يمتحنون صلاحية تلامذتهم لهذا العلم بتعريضهم للمخاوف وأمرهم بارتكاب المشاق تجربة لمقدار عزائمهم وطاعتهم. وأمَّا ما يلزم في المسحور فخور العقل، وضعف العزيمة، ولطافة البنية، وجهالة العقل، ولذلك كان أكثر الناس قابلية له النساء والصبيان والعامة ومن يتعجب في كل شيء. ولذلك كان من أصول السحر إلقاء أقوال كاذبة على المسحور لاختبار مقدار عقله في التصديق بالأشياء الواهية والثقة بالساحر، قال تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7] فجعلوا ذلك القول الغريب سحرا. ثم تحف بالسحر أعمال القصد منها وهذه الأعمال أنواع. نوع: الغرض منه تقوية اعتقاد الساحر في نجاح عمله لتقوى عزيمته فيشتد تأثيره على النفوس وهذا مثل تلقين معلمي هذا الفن تلامذتهم عبادة كواكب ومناجاتها لاستخدام أرواحها والاستنجاد بتلك الأرواح على استخدام الجن والقوى المتعاصية ليعتقد المتعلم أن ذلك سبب نجاح عمله فيقدم عليه بعزم، وفي ذلك تأثير نفساني عجيب ولذلك يسمون تلك الأقوال والمناجاة عزائم جمع عزيمة ويقولون فلان يعزم إذا كان يسحر، ثم هو إذا استكمل المعرفة قد يتفطن لقلة جدوى تلك العزائم وقد لا يتفطن وعلى كلتا الحالتين فمعلموه لا يتعرضون له في نهاية التعليم بالتنبيه على فساد ذلك لئلا يدخلوا عليه الشكوك في مقدرته، فلذلك بقيت تلك الأوهام يتلقاها الأخلاف عن أسلافهم، ومن هذا النوع ضروب هي في الأصل تجارب لمقدار طاعة المتعلم لمعلمه بقيت متلقاة عندهم عن غير بصيرة مثل ارتكاب الخبائث وإهانة الصالحات والأمور المقدسة إيهاما بأنها تبلغ إلى مرضاة الشياطين وتسخيرها، وذلك في الواقع اختبار لمقدار خضوع المتعلم، لأن أكبر شيء على النفس نبذ أعز الأشياء وهو الدين، ولأن السحرة ليسوا من المليين فهم يبلغون بمريديهم إلى مبالغهم السافلة، وقد سمعنا أن كثيرا ممن يتعاطون السحر في المسلمين يزعمون أنهم لا يتأتى لهم نجاح إلا بعد أن يلطخوا أيديهم بالنجاسات أو نحو من هذا الضلال. ونوع: الغرض منه إخفاء الأسباب الحقيقية لتمويهاتهم حتى لا يطلع الناس على كنهها، فيستندون في تعليل أعمالهم إلى أسباب كاذبة كندائهم بأسماء سموها لا مسميات لها ووضعهم أشكالا على الورق أو في الجدران يزعمون أن لها خصائص التأثير، واستنادهم لطوالع كواكب في أوقات معينة لا سيما القمر، ومن هذا تظاهرهم للناس بمظهر الزهد والهمة. ونوع: يستعان به على نفوذ السحر وهو التجسس والتطلع على خفايا الأشياء وأسرار الناس بواسطة السعي بالنميمة وإلقاء العداوات بين الأقارب والأصحاب والأزواج حتى يفشي كل منهم سر الآخر فيتخذ الساحر تلك الأسرار وسيلة يلقي بها الرعب في قلوب أصحابها بإظهار أنه يعلم الغيب والضمائر، ثم هو يأمر أولئك الذين أرهبهم ويستخدمهم بما يشاء فيطيعونه فيأمر المرأة بمغاضبة زوجها وطلب فراقه ويأمر الزوج بطلاق زوجته وهكذا، وفي هذا القسم تظهر مقدرة الساحر الفكرية وبه تكثر أضراره وأخطاره على الناس وجرأته على ارتكاب المرعبات والمطوعات باستئصال الأموال بالسرقة يسرقها من لا يتهمه المسروق، ومنه أنه يفعل ذلك من خاصته وأبنائه وزوجه الذين يستهويهم السحرة ويسخرونهم للإخلاص لهم، وينتهي فعل السحرة في هذا إلى حد إزهاق النفوس التي يشعرون بأنها تفطنت لخديعتهم أو التي تعاصت عن امتثال أوامرهم يغرون بها من هي آمن الناس منه، ثم استطلاع ضمائر الناس بتقريرات خفية وأسئلة تدريجية يوهمه بها أنه يسأله عنها ليعلمه بمستقبله. ونوع: يجعل اختبار لمقدار مراتب أذهان الناس في قابلية سحره وذلك بوضع أشياء في الأطعمة خيفة الظهور ليرى هل يتفطن لها من وضعها، وبإبراز خيالات أو أشباح يوهم بها الناظر أنها جن أو شياطين أو أرواح، وما هي إلا أشكال مموهة أو أعوان من أعوانه متنكرة، لينظر هل يقتنع رائيها بما أخبره الساحر عنها أم يتطلب كشف حقيقتها أو استقصاء أثرها. فكان السحر قرين خباثة نفس، وفساد دين، وشر عمل، وإرعاب وتهويل على الناس، من أجل ذلك ما فتئت الأديان الحقة تحذر الناس منه وتعد الاشتغال به مروقا عن طاعة الله تعالى لأنه مبني على اعتقاد تأثير الآلهة والجن المنسوبين إلى الآلهة في عقائد الأقدمين، وقد حذر موسى قومه من السحر وأهله ففي سفر التثنية الإصحاح 18 أن مما خاطب به موسى عليه السلام قومه متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يجيز1 ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جانا أو تابعة ولا من يستثير الموتى. وجعلت التوراة جزاء السحرة القتل ففي سفر اللاويين الإصحاحين 20 - 27 "وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة فإنه يقتل" وذكروا عن مالك أنه قال الأسماء التي يكتبها السحرة في التمائم أسماء أصنام. وقد حذر الإسلام من عمل السحر وذمه في مواضع وليس ذلك بمقتضى إثبات حقيقة وجودية للسحر على الإطلاق ولكنه تحذير من فساد العقائد وخلع قيود الديانة ومن سخيف الأخلاق. وقد اختلف علماء الإسلام في إثبات حقيقة السحر وإنكارها وهو اختلاف في الأحوال فيما أراه فكل فريق نظر إلى صنف من أصناف ما يدعى بالسحر. وحكى عياض في إكمال العلم أن جمهور اهـل السنة ذهبوا إلى إثبات حقيقته. قلت وليس في كلامهم وصف كيفية السحر الذي أثبتوا حقيقته فإنما أثبتوه على الجملة. وذهب عامة المعتزلة إلى أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تمويه وتخييل وأنه ضرب من الخفة والشعوذة ووافقهم على ذلك بعض اهـل السنة كما اقتضته حكاية عياض في الإكمال، قلت وممن سمي منهم أبو إسحاق الاستر ابادي من الشافعية. والمسألة بحذافرها من مسائل الفروع الفقهية تدخل في عقاب المرتدين والقاتلين والمتحيلين على الأموال، ولا تدخل في أصول الدين. وهو وإن أنكره الملاحدة لا يقتضي أن يكون إنكاره إلحادا. وهذه الآية غير صريحة. وأمَّا الحديث فقد علمته آنفا. وشدد الفقهاء العقوبة في تعاطيه. قال مالك: يقتل الساحر ولا يستتاب إن كان مسلما وإن كان ذميا لا يقتل بل يؤدب إلا إذا أدخل بسحره أضرارا على مسلم فإنه يقتل لأنه يكون ناقضا للعهد لأن من جملة العهد أن لا يتعرضوا للمسلمين بالأذى قال الباجي في المنتقى2 رأى مالك أن السحر كفر وشرك ودليل عليه وإنه لما كان يستتر صاحبه بفعله فهو كالزندقة لأجل إظهار الإسلام وإبطان الكفر ولذلك قال ابن عبد الحكم وابن المواز وأصبغ هو كالزنديق إن أسر السحر لا يستتاب وإن أظهره استتيب وهو تفسير لقول مالك لا خلاف له قال الباجي فلا يقتل حتى يثبت أن ما يفعله من السحر هو الذي وصفه الله بأنه كفر قال أصبغ يكشف ذلك من يعرف حقيقته ويثبت ذلك عند الإمام. ----------------------------------------------- 1 "المنتقى" للباجي 7/117. جامع العقل. قتل الغيلة "مصححه". 2 كذا ولعل المراد من يرج أو يجوز به. ----------------------------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:49 am | |
| وفي الكافي لابن عبد البر إذا عمل السحر لأجل القتل وقتل به قتل وان لم يكن كفرا، وقد أدخل مالك في الموطأ السحر في باب الغيلة، فقال ابن العربي في القبس وجه ذلك أن المسحور لا يعلم بعمل السحر حتى يقع فيه، قلت لا شك أن السحر الذي جعل جزاؤه القتل هو ما كان كفرا صريحا مع الاستتار به أو حصل به اهـلاك النفوس وذلك أن الساحر كان يعد من يأتيه للسحر بأن فلانا يموت الليلة أو غدا أو يصيبه جنون ثم يتحيل في إيصال سموم خفية من العقاقير إلى المسحور تلقى له في الطعام بواسطة أناس من اهـل المسحور فيصبح المسحور ميتا أو مختل العقل فهذا هو مراد مالك بأن جزاءه القتل أي إن قتل ولذلك قال لا تقبل توبته وبدون هذا التأويل لا يصح فقه هذه المسألة، فقول مالك في السحر ليس استنادا لدليل معين في خصوص السحر ولكنه من باب تحقيق المناط بتطبيق قواعد التعزير والإضرار، ولبعض فقهاء المذهب في حكاية هذه المسألة إطلاقات عجيب صدورها من أمثالهم، على أن السحر أكثر ما يتطلب لأجل تسخير المحبين محبوبيهم فهو وسيلة في الغالب للزنا أو للانتقام من المحبوب أو الزوج. سئل مالك عمن يعقد الرجال عن النساء وعن الجارية تطعم رجلا شيئا فيذهب عقله فقال لا يقتلان فأما الذي يعقد فيؤدب وأمَّا الجارية فقد أتت أمراً عظيماً قيل أفتقتل فقال لا قال ابن رشد في البيان رأى أن فعلها ليس من السحر اهـ. وقال أبو حنيفة يقتل الرجل الساحر ولا يستتاب وأمَّا المرأة فتحبس حتى تتركه فجعل حكمه حكم المرتد ووجه أبو يوسف بأنه جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد. وعن الشيخ أبي منصور أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا، وما ليس بكفر وفيه اهـلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب ومن قال لا تقبل فقد خلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم اهـ. وهذا استدلال بشرع من قبلنا. وقال الشافعي يسأل الساحر عن سحره فإن ظهر منه ما هو كفر فهو كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل وإن ظهر منه تجويز تغيير الأشكال لأسباب قراءة تلك الأساطير أو تدخين الأدوية وعلم أنه يفعل محرما فحكمه حكم الجناية فإن اعترف بسحر إنسان وأن سحره يقتل غالبا قتل قودا يعني إذا ثبت أنه مات بسببه وإن قال إن سحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد، وإن كان سحره لغير القتل فمات منه فهو قتل خطأ تجب الدية فيه مخففة في ماله. ويجب أن يستخلص من اختلافهم ومن مفترق أقوالهم ما يكون فيه بصيرة لإجراء أعمال ما يسمى بالسحر وصاحبه بالساحر مجرى جنايات أمثاله ومقدار ما أثره من الاعتداء دون مبالغة ولا أوهام، وقد يطلق اسم الساحر اليوم على اللاعب بالشعوذة في الأسمار وذلك من أصناف اللهو فلا ينبغي عد ذلك جناية. {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} يتعين أن "ما" موصولة وهو معطوف على قوله: {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي وما تتلوا الشياطين على ما أنزل على الملكين، والمراد بما أنزل ضرب من السحر لكنه سحر يشتمل على كفر عظيم وتعليم الخضوع لغير الله مع الاستخفاف بالدين ومع الإضرار بالناس كما بيناه آنفا فيكون عطفا على {مَا تَتْلُوا} الذي هو صادق على السحر فعطف ما أنزل عليه لأنه نوع منه أشد مما تتلوه الشياطين الذين كانوا يعلمونه الناس مع السحر الموضوع منهم، فالعطف لتغاير الاعتبار أو للتنبيه على أن أصل السحر مقتبس مما ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين وعطف شيء على نفسه باعتبار تغاير المفهوم والاعتبار وارد في كلامهم كقول الشاعر وهو من شواهد النحو: إلى الملك القرم وابن الهمام . . . وليث الكتيبة في المزدحم وقيل أريد من السحر أخف مما وضعته الشياطين على عهد سليمان لأن غاية ما وصف به هذا الذي ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين أنه يفرق بين المرء وزوجه وذلك ليس بكفر وفيه ضعف. والقراءة المتواترة الملكين بفتح لام الملكين وقرأه ابن عباس والضحاك والحسن وابن أبزي بكسر اللام. وكل هاته الوجوه تقتضي ثبوت نزول شيء على الملكين ببابل وذلك هو الذي يعنيه سياق الآية إذا فصلت كيفية تعليم هذين المعلمين علم السحر. فالوجه أن قوله: {وَمَا أُنْزِلَ} عطف على {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فهو معمول لتتلوا الذي هو بمعنى تكذب فيكون المراد عدم صحة هذا الخبر أي ما تكذبه الشياطين على ما أنزل على الملكين ببابل، أي ينسبون بعض السحر إلى ما أنزل ببابل. قال الفخر وهو اختيار أبي مسلم وأنكر أبو مسلم أن يكون السحر نازلا على الملكين إذ لا يجوز أمر الله به وكيف يتولى الملائكة تعليمه مع أنه كفر أو فسق، وقيل "ما" نافية معطوفة على "ما كفر سليمان" أي وما كفر سليمان بوضع السحر كما يزعم الذين وضعوه، ولا أنزل السحر على الملكين ببابل. وتعريف الملكين تعريف الجنس أو هو تعريف العهد بأن يكون الملكان معهودين لدى العارفين بقصة ظهور السحر، وقد قيل إن "هاروت وماروت" بدل من "الشياطين" وأن المراد بالشياطين شيطانا وضعا السحر للناس هما هاروت وماروت على أنه من إطلاق الجمع على المثنى كقوله: {قلوبكما} وهذا تأويل خطأ إذ يصير قوله: {عَلَى الْمَلَكَيْنِ} كلاما حشوا. وعلى ظاهر هذه الآية إشكال من أربعة وجوه: أحدها كون السحر منزلا إن حمل الإنزال على المعروف منه وهو الإنزال من الله، الثاني كون المباشر لذلك ملكين من الملائكة على القراءة المتواترة، الثالث كيف يجمع الملكان بين قولهما {نَحْنُ فِتْنَةٌ} وقولهما: {فَلا تَكْفُرْ} فكيف يجتمع قصد الفتنة مع التحذير من الوقوع فيها. الرابع كيف حصرا حالهما في الاتصاف بأنهما فتنة فما هي الحكمة في تصديهما لذلك لأنهما إن كانا ملكين فالإشكال ظاهر وإن كانا ملكين بكسر اللام فهما قد علما مضرة الكفر بدليل نهيهما عنه وعلما معنى الفتنة بدليل قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} فلماذا تورطا في هذه الحالة. ودفع هذا الإشكال برمته أن الإنزال هو الإيصال وهو إذا تعدى بعلى دل على إيصال من علو واشتهر ذلك في إيصال العلم من وحي أو إلهام أو نحوهما، فالإنزال هنا بمعنى الإلهام وبمعنى الإيداع في العقل أو في الخلقة بأن يكون الملكان قد برعا في هذا السحر وابتكرا منه أساليب لم يسبق لهما تلقيها من معلم شأن العلامة المتصرف في علمه المبتكر لوجوه المسائل وعللها وتصاريفها وفروعها، والظاهر عندي أن ليس المراد بالإنزال إنزال السحر إذ السحر أمر موجود من قبل ولكنه إنزال الأمر للملكين أو إنزال الوحي أو الإلهام للملكين بأن يتصديا لبث خفايا السحر بين المتعلمين ليبطل انفراد شرمذة بعلمه فيندفع الوجهان الأول والثاني. ثم إن الحكمة من تعميم تعليمه أن السحرة في بابل كانوا اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ثم تطلعوا منه إلى تأسيس عبادة الأصنام والكواكب وزعموا أنهم أي السحرة مترجمون عنهم وناطقون بإرادة الآلهة فحدث فساد عظيم وعمت الضلالة فأراد الله على معتاد حكمته إنقاذ الخلق من ذلك فأرسل أو أوحى أو ألهم هاروت وماروت أن يكشفا دقائق هذا الفن للناس حتى يشترك الناس كلهم في ذلك فيعلموا أن السحرة ليسوا على ذلك ويرجع الناس إلى صلاح الحال فاندفع الوجه الثالث. وأمَّا الوجه الرابع فستعرف دفعه عند تفسير قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} الآية. وفي قراءة ابن عباس والحسن: {الملكين} بكسر اللام وهي قراءة صحيحة المعنى فمعنى ذلك أن ملكين كانا يملكان ببابل قد علما علم السحر. وعلى قراءة فتح اللام فالأظهر في تأويله أنه استعارة وأنهما رجلان صالحان كان حكما مدينة بابل وكانا قد اطلعا على أسرار السحر التي كانت تأتيها السحرة ببابل أو هما وضعا أصله ولم يكن فيه كفر فأدخل عليه الناس الكفر بعد ذلك. وقيل هما ملكان أنزلهما الله تعالى تشكلا للناس يعلمانهم السحر لكشف أسرار السحرة لأن السحرة كانوا يزعمون أنهم آلهة أو رسل فكانوا يسخرون العامة لهم فأراد الله تكذيبهم ذباً عن مقام النبوءة فأنزل ملكين لذلك. وقد أجيب بأن تعلم السحر في زمن هاروت وماروت جائز على جهة الابتلاء من الله لخلقه فالطائع لا يتعلمه والعاصي يبادر إليه وهو فاسد لمنافاته عموم قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ} قالوا كما امتحن الله قوم طالوت بالنهر إلخ ولا يخفى فساد التنظير. وبابل بلد قديم من مدن العالم وأصل الاسم باللغة الكلدانية باب إيلو أي باب الله ويرادفه بالعبرانية باب إيل وهو بلد كائن على ضفتي الفرات بحيث يخترقه الفرات يقرب موضعه من موقع بلد الحلة الآن على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة. كانت من أعظم مدن العالم القديم بناها أولا أبناء نوح بعد الطوفان فيما يقال ثم توالى عليها اعتناء أصحاب الحضارة بمواطن العراق في زمن الملك النمروذ في الجيل الثالث من أبناء نوح ولكن ابتداء عظمة بابل كان في حدود سنة 3755 ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وخمسين قبل المسيح فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيين وهي أعظمها وأشهرها ولم تزل همم ملوك الدولتين الكلدانية والأشورية منصرفة إلى تعمير هذا البلد وتنميقه فكان بلد العجائب من الأبنية والبساتين ومنبع المعارف الأسيوية والعجائب السحرية وقد نسبوا إليها قديما الخمر المعتقة والسحر قال أبو الطيب: سقى الله أيام الصبا ما يسرها . . . ويفعل فعل البابلي المعتق1 ولاشتهار بابل عند الأمم القديمة بمعارف السحر كما قدمنا في تعريف السحر صح جعل صلة الموصول قوله {أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} إشارة إلى قصة يعلمونها. و"هاروت وماروت" بدل من "الملكين" وهما اسمان كلدانيان دخلهما تغيير التعريف لإجرائهما على خفة الأوزان العربية، والظاهر أن هاروت معرب "هاروكا" وهو اسم القمر عند الكلدانيين وأن ماروت معرب "ما روداخ" وهو اسم المشتري عندهم وكانوا يعدون الكواكب السيارة من المعبودات المقدسة التي هي دون الآلهة لا سيما القمر فإنه أشد الكواكب تأثيرا عندهم في هذا العالم وهو رمز الأنثى، وكذلك المشتري فهو أشرف الكواكب السبعة عندهم ولعله كان رمز الذكر عندهم كما كان بعل عند الكنعانيين الفنيقيين. ومن المعلوم أن إسناد هذا التقديس للكواكب ناشئ عن اعتقادهم أنهم كانو من الصالحين المقدسين وأنهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب فيكون هاروكا و ماروداخ قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر ولعل هذا وجه التعبير عنهما في القصة بالملكين بفتح اللام ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن عرفة إلى كذبها وأنها من مرويات كعب الأحبار وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى كيف أخرجها مسندة للنبي صلى الله عليه وسلم ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد أو أنه غره فيها ظاهر حال رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما رووا وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عرفة في تفسيره وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكا رحمه الله أنكر ذلك في حق هاروت وماروت. ----------------------------------------------- 1 الذي ذكره الواحدي والمعري في تفسير البيت أنه أراد بالبابلي الخمر وكنت رأيت في بعض كتب الأدب أن بعض من ناظر المتنبي انتقد هذا الإطناب مع أنه كان يستطيع أن يقول سقاها خمرا لا سيما وقد قال ما يسرها قلت: وقرينة كونه المراد وصفه بالمعتق وهو من أوصاف الخمر والعذر للمتنبي أنه أراد سقاها الله خمرا كخمر بابل فلا ضير في ذلك. ----------------------------------------------- وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} جملة حالية من {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وما نافية والتعبير بالمضارع لحكاية الحال إشارة إلى أن قولهما لمتعلمي السحر: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} قول مقارن لوقت التعليم لا متأخر عنه.وقد علم من هذا أنهما كانا معلمين وطوى ذلك للاستغناء عنه بمضمون هاته الجملة فهو من إيجاز الحذف أو هو من لحن الخطاب مفهوم للغاية. وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} الفتنة لفظ يجمع معنى مرج واضطراب أحوال أحد وتشتت باله بالخوف والخطر على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام وقد تخصص وتعمم بحسب ما تضاف إليه أو بحسب المقام يقال فتنة المال وفتنة الدين. ولما كانت هذه الحالة يختلف ثبات الناس فيها بحسب اختلاف رجاحة عقولهم وصبرهم ومقدرتهم على حسن المخارج منها كان من لوازمها الابتلاء والاختبار فكان ذلك من المعاني التي يكنى بالفتنة عنها كثيرا ولذلك تسامح بعض علماء اللغة ففسر الفتنة بالابتلاء وجرأه على ذلك قول الناس فتنت الذهب أو الفضة إذا أذابهما بالنار لتمييز الرديء من الجيد وهذا الإطلاق إن لم يكن مولدا فإن معنى الاختبار غير منظور إليه في لفظ الفتنة وإنما المنظور إليه ما في الإذابة من الاضطراب والمرج وقد سمي القرآن هاروت وماروت فتنة وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: من الآية10] وقال: {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: من الآية27] والإخبار عن أنفسهم بأنهم فتنة إخبار بالمصدر للمبالغة وقد أكدت المبالغة بالحصر الإضافي والمقصد من ذلك أنهما كانا يصرحان أن ليس في علمهما شيء من الخير الإلهي وأنه فتنة محضة ابتلاء من الله لعباده في مقدار تمسكهم بدينهم وإنما كانا فتنة لأن كل من تعلم منهما عمل به. فلا تكفر كما كفر السحرة حين نسبوا التأثيرات للآلهة وقد علمت سرها. وفي هذا ما يضعف أن يكون المقصد من تعليمهما الناس السحر إظهار كذب السحرة الذين نسبوا أنفسهم للألوهية أو النبوة. والذي يظهر في تفسير هذه الجملة أن قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} قصر ادعائي للمبالغة فجعلا كثرة افتتان الناس بالسحر الذي تصديا لتعليمه بمنزلة انحصار أوصافهما في الفتنة ووجه ابتدائهما لمن يعلمانه بهذه الجملة أن يبينا له أن هذا العلم في مبادئه يظهر كأنه فتنة وشر فيوشك أن يكفر متعلمه عند مفاجأة تلك التعاليم إياه إذا كانت نفسه قد توطنت على اعتقاد أن ظهور خوارق العادات علامة على ألوهية من يظهرها، وقولهما {فَلا تَكْفُرْ} أي لا تعجل باعتقاد ذلك فينا فإنك إذا توغلت في معارف السحر علمت أنها معلولة لعلل من خصائص النفوس أو خصائص الأشياء فالفتنة تحصل لمن يتعلم السحر حين يرى ظواهره وعجائبه على أيدي السحرة ولمن كان في مبدأ التعليم فإذا تحقق في علمه اندفعت الفتنة فذلك معنى قولهما: {فَلا تَكْفُرْ} فالكفر هو الفتنة وقولهما: {فَلا تَكْفُرْ} بمنزلة فلا تفتتن وقد اندفع الإشكال الرابع المتقدم. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} تفريع عما دل عليه قوله {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا} المقتضى أن التعليم حاصل فيتعلمون، والضمير في {فَيَتَعَلَّمُونَ} راجع لأحد الواقع في حيز النفي مدخولا لمن الاستغراقية في قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} فإنه بمعنى كل أحد فصار مدلوله جمعاً. قوله: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} إشارة إلى جزئي من جزئيات السحر وهو أقصى تأثيراته إذ فيه التفرقة بين طرفي آصرة متينة إذ هي آصرة مودة ورحمة قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. فإن المودة وحدها آصرة عظيمة وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما: والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين وكانت بجعل الله تعالى وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان وقد كان يشير إلى هذا المعنى شيخنا الجليل سالم أبو حاجب في قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وهذا التفريق يكون إما باستعمال مفسدات لعقل أحد الزوجين حتى يبغض زوجه وإما بإلقاء الحيل والتمويهات والنميمة حتى يفرق بينهما. وقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} جملة معترضة. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:50 am | |
| وضمير {هم} عائد إلى أحد من قوله {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} لوقوعه في سياق النفي فيعم كل أحد من المتعلمين أي وما المتعلمون بضارين بالسحر أحداً. وهذا تنبيه على أن السحر لا تأثير له بذاته وإنما يختلف تأثير حيله باختلاف قابلية المسحور، وتلك القابلية متفاوتة ولها أحوال كثيرة أجملتها الآية بالاستثناء من قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي يجعل الله أسباب القابلية لأثر السحر في بعض النفوس فهذا إجمال حسن مناسب لحال المسلمين الموجه إليهم الكلام لأنهم تخلقوا بتعظيم الله تعالى وقدرته وليس المقام مقام تفصيل الأسباب والمؤثرات ولكن المقصود إبطال أن تكون للسحر حالة ذاتية وقواعد غير مموهة فالباء في قوله {بِإِذْنِ اللَّهِ} للملابسة. وأصل الإذن في اللغة هو إباحة الفعل، واستأذن طلب الإذن في الفعل أو في الدخول للبيت وقد استعمله القرآن مجازا في معنى التمكين إما بخلق أسباب الفعل الخارقة للعادة نحو قوله {بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: 110] وإما باستمرار الأسباب المودعة في الأشياء والقوى كقوله تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166] فقوله {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي إلا بما أعد الله في قابل السحر من استعداد لأن يضر به فإن هذا الاستعداد وإمكان التأثر مخلوق في صاحبه فهو بإذن الله ومشيئته كذا قرره الراغب وهو يرجع إلى استعمال مما تستعمل فيه كلمة إذن ومن هذا القبيل ونظيره لفظة الأمر في قوله تعالى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] أي مما خلق الله من الأشياء التي تلحق أضرارها للناس وقد اشتهر هذا الاستعمال في لسان الشرع حتى صار حقيقة عرفية في معنى المشيئة والإرادة فينبغي أن يلحق بالألفاظ التي فرق المتكلمون بين مدلولاتها وهي الرضا والمحبة والأمر والمشيئة والإرادة. فليس المعنى أن السحر قد يضر وقد لا يضر بل المعنى أنه لا يضر منه إلا ما كان إيصال أشياء ضار بطبعها وقوله {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} يعني ما يضر الناس ضرا آخر غير التفرقة بين المرء وزوجه فضمير يضرهم عائد على غير ما عاد عليه ضمير يتعلمون والمعنى أن أمور السحر لا يأتي منها إلا الضر أي في الدنيا فالساحر لا يستطيع سحر أحد ليصير ذكيا بعد أن كان بليدا أو ليصير غنيا بعد الفقر وهذا زيادة تنبيه على سخافة عقول المشتغلين به وهو مقصد الآية وبهذا التفسير يكون عطف قوله {وَلا يَنْفَعُهُمْ} تأسيسا لا تأكيدا والملاحظ في هذا الضر والنفع هو ما يحصل في الدنيا وأمَّا حالهم في الآخرة فسيفيده قوله {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} وقد أفادت الآية بجمعها بين إثبات الضر ونفي النفع الذي هو ضده مفاد الحصر كأنه قيل ويتعلمون ما ليس إلا ضرا كقول السموأل وعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي: تسيل على حد الظبات نفوسنا . . . وليس على غير الظبات تسيل وعدل عن صيغة القصر لتلك النكتة المتقدمة وهي التنبيه على أنه ضر. وإعادة فعل يتعلمون مع حرف العطف لأجل ما وقع من الفصل بالجملة المعترضة. {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} عطف على قوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} أي اتبعوا ذلك كله وهم قد علموا إلخ والضمير لليهود تبعا لضمير {واتبعوا}، أو الواو للحال أي في حال أنهم تحقق علمهم. واللام في {لَقَدْ عَلِمُوا} يجوز أن تكون لام القسم وهي اللام التي من شأنها أن تدخل على جواب القسم لربطه بالقسم ثم يحذفون القسم كثيرا استغناء لدلالة الجواب عليه دلالة التزامية لأنه لا ينتظم جواب بدون مجاب. ويجوز أن تكون لام الابتداء، وهي لام تفيد تأكيد القسم ويكثر دخولها في صدر الكلام فلذلك قيل لها لام الابتداء والاحتمالان حاصلان في كل كلام صالح للقسم وليس فيه قسم فإن حذف لفظ القسم مشعر في المقام الخطابي بأن المتكلم غير حريص على مزيد التأكيد كما كان ذكر إن وحدها في تأكيد الجملة الاسمية أضعف تأكيدا من الجمع بينها وبين لام الابتداء لأنهما أداتا تأكيد. قال الرضي إن مواقع لام القسم في نظر الجمهور هي كلها لامات الابتداء. والكوفيون لا يثبتون لام الابتداء ويحملون مواقعها على معنى القسم المحذوف والخلاف في هذا متقارب. واللام في قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} يجوز كونها لام قسم أيضا تأكيدا للمعلوم أي علموا تحقيق أنه لا خلاق لمشتري السحر ويجوز كونها لام ابتداء والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره فالمعنى أنهم اكتسبوه ببذل إيمانهم المعبر عنه فيما يأتي بقوله أنفسهم. والخلاق الحظ من الخير خاصة. ففي الحديث إنما يلبس هذا من لا خلاق له وقال البعيث بن حريث: ولست وإن قربت يوما ببائع . . . خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب ونفي الخلاق وهو نكرة مع تأكيد النفي بمن الاستغراقية دليل على أن تعاطي هذا السحر جرم كفر أو دونه فلذلك لم يكن لمتعاطيه حظ من الخير في الآخرة وإذا انتفى كل حظ من الخير ثبت الشر كله لأن الراحة من الشر خير وهي حالة الكفاف وقد تمناها الفضلاء أو دونه خشية من الله تعالى. قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} عطف على {ولَقَدْ عَلِمُوا} عطف الإنشاء على الخبر و {شروا} بمعنى باعوا بمعنى بذلوا وهو مقابل قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} ومعنى بذل النفس هو التسبب لها في الخسار والبوار. وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} مقتض لنفي العلم بطريق لو الامتناعية والعلم المنفي عنهم هنا هو غير العلم المثبت لهم في قوله: {ولَقَدْ عَلِمُوا} إلا أن الذي علموه هو أن مكتسب السحر ما له خلاق في الآخرة والذي جهلوه هنا هو أن السحر شيء مذموم وفيه تجهيل لهم حيث علموا أن صاحبه لا خلاق له ولم يهتدوا إلى أن نفي الخلاق يستلزم الخسران إذ ما بعد الحق إلا الضلال وهذا هو الوجه لأن {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ذيل به قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} فدل على أنه دليل مفعوله وبذلك يندفع الإشكال عن إثبات العلم ونفيه في معلوم واحد بناء على أن العلم بأنه لا خلاق لصاحب السحر عين معنى كون السحر مذموما فكيف يعدون غير عالمين بذمه وقد علمت وجهه وهذا هو الذي تحمل عليه الآية. ولهم في الجواب عن دفع الإشكال وجوه أخرى أحدها ما ذهب إليه صاحب الكشاف وتبعه صاحب المفتاح من أن المراد من نفي العلم هو أنهم لما كانوا في علمهم كمن لا يعلم بعدم عملهم به نفي العلم عنهم لعدم الاعتداد به أي فيكون ذلك على سبيل التهكم بهم. الثاني أن المراد بالعلم المنفي هو علم كون ما يتعاطونه من جملة السحر المنهي عنه فكأنهم علموا مذمة السحر علما كليا ولم يتفطنوا لكون صنيعهم منه كما قالوا إن الفقيه يعلم كبرى القياس والقاضي والمفتي يعلمان صغراه وأن الفقيه كالصيدلاني والقاضي والمفتي كالطبيب وهذا الوجه الذي اخترناه. الثالث أن المراد لو كانوا يعلمون ما يتبعه من العذاب في الآخرة أي فهم ظنوا أن عدم الخلاف لا يستلزم العذاب وهذا قريب من الذي ذكرناه. الرابع أن المراد من العلم المنفي التفكر ومن المثبت العلم الغريزي وهذا وجه بعيد جدا إذ لا يمكن أن يكون علمهم بأن من اكتسب السحر لا خلاق له علما غريزيا فلو قيل العلم التصوري والعلم التصديقي. وفي الجمع بين {ولَقَدْ عَلِمُوا} و {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} طباق عجيب. وهنالك جواب آخر مبني على اختلاف معاد ضمير {علموا} وضميري {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فضمير {ولَقَدْ عَلِمُوا} راجع إلى الجن الذين يعلمون السحر وضميرا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} راجعان إلى الإنس الذين تعلموا السحر وشروا به أنفسهم، قاله قطرب والأخفش وبذلك صار الذين أثبت لهم العلم غير المنفي عنهم.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:50 am | |
| [103] {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. أي لو آمنوا بمحمد واتقوا الله فلم يقدموا على إنكار ما بشرت به كتبهم لكانت لهم مثوبة من عند الله ومثوبة الله خير من كل نفع حملهم على المكابرة. ولو شرطية امتناعية اقترن شرطها بأن مع التزام الفعل الماضي في جملته على حد قول امرئ القيس: ولو أن ما أسعى لأدني معيشة . . . كفاني ولم أطلب قليل من المال وأن مع صلتها في محل مبتدأ عند جمهور البصريين وما في جملة الصلة من المسند والمسند إليه أكمل الفائدة فأغنى عن الخبر. وقيل خبرها محذوف تقديره ثابت أي ولو إيمانهم ثابت. وقوله: {لمثوبة} يترجح أن يكون جواب لو فانه مقترن باللام التي يكثر اقتران جواب لو المثبت بها والجواب هنا جملة اسمية وهي لا تقع جوابا للو في الغالب وكان هذا الجواب غير ظاهر الترتيب والتعليق على جملة الشرط لأن مثوبة الله خير سواء آمن اليهود واتقوا أم لم يفعلوا. قال بعض النحاة الجواب محذوف أي لا ثيبوا ومثوبة من عند الله خير. وعدل عنه صاحب الكشاف فقال أوثرت الجملة الاسمية في جواب لو على الفعلية لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: من الآية54] لذلك اهـ. ومراده أن تقدير الجواب لا ثيبوا مثوبة من الله خيرا لهم مما شروا به أنفسهم، أو لمثوبة بالنصب على أنه مصدر بدل من فعله، وكيفما كان فالفعل أو بدله يدلان على الحدوث فلا دلالة له على الدوام والثبات. ولما كان المقام يقتضي حصول المثوبة وثباتها وثبات الخيرية لها ليحصل مجموع معان عدل عن النصب المؤذن بالفعل إلى الرفع لأن الجملة الاسمية لا تفيد الحدوث بل الثبوت وينتقل من إفادتها الثبوت إلى إفادة الدوام والثبات فدلالة الآية على ثبات المثوبة بالعدول عن نصب المصدر إلى رفعه كما في {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} و {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] ودلالتها على ثبات نسبة الخيرية للمثوبة من كون النسبة مستفادة من جملة اسمية فصارت الجملة بمنزلة جملتين لأن أصل المصدر الآتي بدلا من فعله أن يدل على نسبة لفاعله فلو قيل لمثوبة بالنصب لكان تقديره لا ثيبوا مثوبة فإذا حولت إلى المصدر المرفوع لزم أن تعتبر ما كان فيه من النسبة قبل الرفع، ولما كان المصدر المرفوع لا نسبة فيه علم السامع أن التقدير لمثوبة لهم كما أنك إذا قلت سلاما وحمدا علم السامع أنك تريد سلمت سلاما وحمدت حمدا، فإذا قلت سلام وحمد كان التقدير سلام مني وحمد مني، وهذا وجه تنظير الكشاف وقرينة كون هذا المصدر في الأصل منصوبا وقوعه جوابا للو المتأصل في الفعلية، ثم إذا سمع قوله خير علم السامع أنه خبر عن المثوبة بعد تحويلها فاستفاد ثبات الخيرية ولهذا لم يتعرض صاحب الكشاف لبيان إفادة الجملة ثبات الخيرية للمثوبة لأنه لصراحته لا يحتاج للبيان فإن كل جملة اسمية تدل على ثبات خبرها لمبتدئها. وبهذا ظهر الترتيب لأن المقصود من الإخبار عن المثوبة بأنها خير أنها تثبت لهم لو آمنوا. وعندي وجه آخر وهو أن يقال إن قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} دليل الجواب بطريقة التعريض فإنه لما جعل معلقا على قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} علم أن في هذا الخبر شيئا يهمهم ولما كانت لو امتناعية ووقع في موضع جوابها جملة خبرية تامة علم السامع أن هذا الخبر ممتنع ثبوته لمن امتنع منه شرط لو فيكون تنكيلا عليهم وتمليحا بهم. وقد قيل إن "لو" للتمني على حد {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة: من الآية167]. والتحقيق أن لو التي للتمني هي لو الشرطية أشربت معنى التمني لأن الممتنع يتمنى إن كان محبوباً وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا واستدل على هذا بأنها إذا جاءت للتمني أجيبت جوابين جواباً منصوباً كجواب ليت وجواباً مقترناً باللام كجواب الامتناعية كقول المهلهل: فلو نبش المقابر عن كليب . . . فيخبر بالذنائب أي زير ويوم الشعثمين لقر عينا . . . وكيف لقاء من تحت القبور فأجيب بقوله فيخبر وقوله لقر عينا. والتمني على تقديره مجاز من الله تعالى عن الدعاء للإيمان والطاعة أو تمثيل لحال الداعي لذلك بحال المتمني فاستعمل له المركب الموضوع للتمني أو هو ما لو نطق به العربي في هذا المقام لنطق بالتمني على نحو ما قيل في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] ونحوه. وعلى هذا الوجه يكون قوله: {لمثوبة} مستأنفا واللام للقسم. والمثوبة اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب والثواب الجزاء الذي يعطى لخير المعطي ويقال ثوب وأثوب بمعنى أثاب فالمثوبة على وزن المفعولة كالمصدوقة والمشورة والمكروهة. وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} شرط ثان محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه وحذف مفعول {يَعْلَمُونَ} لدلالة لمثوبة من الله خير، أي لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر. وليس تكرير اللفظة أو الجملة في فواصل القرآن بإيطاء لأن الإيطاء إنما يعاب في الشعر دون النثر لأن النثر إنما يعتد فيه بمطابقة مقتضى الحال وفائدة هذا التكرير التسجيل عليهم بأنهم لا يعلمون ما هو النفع الحق. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:51 am | |
| [104] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. يتعين في مثل هذه الآية1 تطلب سبب نزولها ليظهر موقعها ووجه معناها فإن النهي عن أن يقول المؤمنون كلمة لا ذم فيها ولا سخف لابد أن يكون لسبب وقد ذكروا في سبب نزولها أن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الشريعة والقرآن يتطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه حتى يفهموه ويعوه فكانوا يقولون له راعنا يا رسول الله أي لا تتحرج منا وارفق وكان المنافقون من اليهود يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم في خلواتهم سرا وكانت لهم كلمة بالعبرانية تشبه كلمة راعنا بالعربية ومعناها في العبرانية سب وقيل معناها لا سمعت دعاء فقال بعضهم لبعض كنا نشب محمدا سرا فأعلنوا به الآن أو قالوا هذا وأرادوا به اسم فاعل من رعن إذا اتصف بالرعونة وسيأتي فكانوا يقولون هاته الكلمة مع المسلمين ناوين بها السب فكشفهم الله وأبطل عملهم بنهي المسلمين عن قول هاته الكلمة حتى ينتهي المنافقون عنها ويعلموا أن الله أطلع نبيه على سرهم. ومناسبة نزول هاته الآية عقب الآيات المتقدمة في السحر وما نشأ عن ذمه أن السحر كما قدمنا راجع إلى التمويه وأن من ضروب السحر ما هو تمويه ألفاظ وما مبناه على اعتقاد تأثير الألفاظ في المسحور بحسب نية الساحر وتوجيهه النفسي إلى المسحور، وقد تأصل هذا عند اليهود واقتنعوا به في مقاومة أعدائهم. ----------------------------------------------- 1 أي مثلها من الآيات التي نزلت في أحوال معينة ولم يشرح في أثنائها ما يفصح عن سبب نزولها في أحوال معينة ولم يشرح في أثنائها ما يفصح عن سبب نزولها إيجازا واستغناء بعلم المخاطبين بها يوم نزولها بالسبب الذي أوجب نزولها فإذا لم ينقل السبب لمن لم يحضره لم يعلم المراد منها. ----------------------------------------------- ولما كان أذى الشخص بقول أو فعل لا يعلم مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى ومقصود المتكلم منه أذى، أو كإهانة صورته أو الوطء على ظله كل ذلك راجعا إلى الاكتفاء بالنية والتوجه في حصول الأذى كان هذا شبيها ببعض ضروب السحر ولذلك كان من شعار من استهواهم السحر واشتروه ناسب ذكر هاته الحالة من أحوالهم عقب الكلام على افتتانهم بالسحر وحبه دون بقية ما تقدم من أحوالهم وهاته المناسبة هي موجب التعقيب في الذكر. وإنما فصلت هذه الآية عما قبلها لاختلاف الغرضين لأن هذه في تأديب المؤمنين ثم يحصل منه التعريض باليهود في نفاقهم وأذاهم والإشعار لهم بأن كيدهم قد أطلع الله عليه نبيه وقد كانوا يعدون تفطن المسحور للسحر يبطل أثره فأشبهه التفطن للنوايا الخبيثة وصريح الآيات قبلها في أحوالهم الدينية المنافية لأصول دينهم ولأن الكلام المفتتح بالنداء والتنبيه ونحوه نحو {يَا أَيُّهَا النَّاسُ } ويا زيد وألا ونحوها لا يناسب عطفه على ما قبله وينبغي أن يعتبر افتتاح كلام بحيث لا يعطف إلا بالفاء إذا كان مترتبا عما قبله لأن العطف بالفاء بعيد عن العطف بالواو وأوسع من جهة التناسب. و {راعنا} أمر من راعاه يراعيه وهو مبالغة في رعاه يرعاه إذا حرسه بنظره من الهلاك والتلف وراعي مثل رعي قال طرفة: خذول تراعي ربربا بخميلة وأطلق مجازا على حفظ مصلحة الشخص والرفق به ومراقبة نفعه وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية ومنه رعاك الله ورعي ذمامه، فقول المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا هو فعل طلب من الرعي بالمعنى المجازي أي الرفق والمراقبة أي لا تتحرج من طلبنا وارفق بنا. وقوله: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} أبد لهم بقولهم: {راعنا} كلمة تساويها في الحقيقة والمجاز وعدد الحروف والمقصود من غير أن يتذرع بها الكفار لأذى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من أبدع البلاغة فإن نظر في الحقيقة بمعنى حرس وصار مجازا على تدبير المصالح، ومنه قول الفقهاء هذا من النظر، والمقصود منه الرفق والمراقبة في التيسير فيتعين أن قوله: {انظرنا} بضم همزة الوصل وضم الظاء وأنه من النظر لا من الانتظار. وقد دلت هذه الآية على مشروعية أصل من أصول الفقه وهو من أصول المذهب المالكي يلقب بسد الذرائع وهي الوسائل التي يتوسل بها إلى أمر محظور. وقوله تعالى {واسمعوا} أريد به سماع خاص وهو الوعي ومزيد التلقي حتى لا يحتاجوا إلى طلب المراعاة أو النظر وقيل أراد من اسمعوا امتثلوا لأوامر الرسول قاله ابن عطية وهو أظهر. وقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} التعريف للعهد والمراد بالكافرين اليهود خاصة أي تأدبوا أنتم مع الرسول ولا تتأسوا باليهود في أقوالهم فلهم عذاب أليم والتعبير بالكافرين دون اليهود زيادة في ذمهم وليس هنا من التذييل لأن الكلام السابق مع المؤمنين فلا يصلح ما بعده من تعميم حكم الكافرين لتذييل ما قبله. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:51 am | |
| [105] {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. فصله عما قبله لاختلاف الغرضين لأن الآية قبله في تأديب المؤمنين مع التعريض باليهود وهذه الآية لبيان حسد اليهود وغيرهم للمسلمين ووجه المناسبة بين الآيتين ظاهر لاتحاد المآل ولأن الداعي للسب والأذى هو الحسد. وهذه الآية رجوع إلى كشف السبب الذي دعا لامتناع اليهود من الإيمان بالقرآن لما قيل لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فقالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: من الآية91] أي ليس الصارف لهم تمسكهم بما أنزل إليهم بل هو الحسد على ما أنزل على النبي والمسلمين من خير، فبين أدلة نفي كون الصارف لهم هو التصلب والتمسك بدينهم بقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [البقرة: من الآية91] وما تخلل ذلك ونشأ عنه من المجادلات وبيان إعراضهم عن أوامر دينهم واتباعهم السحر وبين الآن حقيقة الصارف عن الإيمان بالقرآن والموجب للشتم وقول البهتان ليتخلص من ذلك إلى بيان النسخ. والود بضم الواو المحبة ومن أحب شيئا تمناه فليس الود هو خصوص التمني ولا المحبة المفرطة كما حققه الراغب. وذكر "الذين كفروا" هنا دون اليهود لقصد شمول هذا الحكم اليهود والنصارى معا تمهيدا لما يأتي من ذكر حكمة النسخ ومن قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] الآيات. ونبه بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ} دون ما يود اهـل الكتاب على أنهم لم يتبعوا كتابهم لأن كتبهم تأمرهم باتباع الحق حيثما وجدوه وبالإيمان بالنبي المقفى على آثارهم وفي التوراة والإنجيل مواضع كثيرة فيها أخذ الميثاق على ذلك فلما حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على النبوءة وحسدوا المسلمين فقد كفروا بما أمرت به كتبهم وبهذا تخلص الكلام إلى الجمع بين موعظة النصارى مع موعظة اليهود. ولما كان ما اقتضاه الحال من التعبير بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ} قد يوهم كون البيان قيدا وأن الكافرين من غير اهـل الكتاب لا يحسدون المسلمين عطف عليه قوله: {وَلا الْمُشْرِكِينَ} كالاحتراس وليكون جمعا للحكم بين الجميع فيكون له حظ في التمهيد لقوله فيما يأتي: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] وقرأ الجمهور "أن ينزل" بتشديد الزاي مفتوحة والتعبير بالتنزيل دون الإنزال لحكاية الواقع إذ القرآن نزل منجما لتسهيل حفظه وفهمه وكتابته وللتيسير على المكلفين في شرع الأحكام تدريجا. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي مفتوحة أيضا وذلك على أن نفي ودادتهم متعلق بمطلق إنزال القرآن سواء كان دفعة أو منجما. والخير النعمة والفضل، قال النابغة: فلست على خير أتاك بحاسد وأراد به هنا النبوءة وما أيدها من الوحي والقرآن والنصر وهو المعبر عنه بالرحمة في قوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ}. وقوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} عطف على {مَا يَوَدُّ} لتضمنه أن الله أراد ذلك وإن كانوا هم لا يريدونه. والرحمة هنا مثل الخير المنزل عليهم وذلك إدماج للامتنان عليهم بأن ما نزل عليهم هو رحمة بهم ومعنى الاختصاص جعلها لأحد دون غيره لأن أصل الاختصاص والتخصيص راجع إلى هذا المعنى أعني جعل الحكم خاصا غير عام سواء خص واحدا أو أكثر ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه أي من يشاء اختصاصه بالرحمة. والمشيئة هي الإرادة ولما كانت إرادة الله تتعلق بالمراد على وفق علمه تعالى كانت مشيئته أي إرادته جارية على وفق حكمته التي هي من كيفيات علم الله تعالى فهي من تعلقات العلم الإلهي بإبراز الحوادث على ما ينبغي وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] فالله يختص برحمته من علم أنه حقيق بها لا سيما الرحمة المراد منها النبوءة فإن الله يختص بها من خلقه قابلا لها فهو يخلقه على صفاء سريرة وسلامة فطرة صالحة لتلقي الوحي شيئا فشيئا قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [القصص: 14] وقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ولذلك لم تكن النبوءة حاصلة بالاكتساب لأن الله يخلق للنبوءة من أراده لها لخطر أمرها بخلاف غيرها من الفضائل فهو ممكن الاكتساب كالصلاح والعلم وغيرهما فرب فاسق صلحت حاله ورب جاهل مطبق صار عالما بالسعي والاكتساب ومع هذا فلا بد لصاحبها من استعداد في الجملة ثم وراء ذلك التوفيق وعناية الله تعالى بعبده. ولما كانت الاستعدادات لمراتب الرحمة من النبوة فما دونها غير بادية للناس طوى بساط تفصيلها لتعذره ووكل إلى مشيئة الله التي لا تتعلق إلا بما علمه واقتضته حكمته سبحانه رفقا بأفهام المخاطبين. وقوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} تذييل لأن الفضل يشمل إعطاء الخير والمعاملة بالرحمة، وتنبيه على أن واجب مريد الخير التعرض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى عليه بصفة الفضل والرحمة فيتخلى عن المعاصي والخبائث ويتحلى بالفضائل والطاعات عسى أن يحبه ربه وفي الحديث الصحيح "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة". |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:52 am | |
| {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}. مناسبة هذه الآية للآيات قبلها أن اليهود اعتذروا عن إعراضهم عن الإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم بقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] وأرادوا به أنهم يكفرون بغيره وهم في عذرهم ذلك يدعون أن شريعتهم لا تنسخ إن محمدا وصف التوراة بأنها حق وأنه جاء مصدقا لها فكيف يكون شرعه مبطلا للتوراة ويموهون على الناس بما سموه البداء وهو لزوم أن يكون الله تعالى غير عالم بما يحسن تشريعه وأنه يبدو له الأمر ثم يعرض عنه ويبدل شريعة بشريعة. وقد قدمنا أن الله تعالى رد عليهم عذرهم وفضحهم بأنهم ليسوا متمسكين بشرعهم حتى يتصلبوا فيه وذلك من قوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91] وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} [البقرة: 94] إلخ وبأنهم لا داعي لهم غير الحسد بقوله {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ} إلى قوله: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] المنبئ أن العلة هي الحسد. فلما بين الرد عليهم في ذلك كله أراد نقض تلك السفسطة أو الشبهة التي راموا ترويجها على الناس بمنع النسخ. والمقصد الأصلي من هذا هو تعليم المسلمين أصلا من أصول الشرائع وهو أصل النسخ الذي يطرأ على شريعة بشريعة بعدها ويطرأ على بعض أحكام شريعة بأحكام تبطلها من تلك الشريعة. ولكون هذا هو المقصد الأصلي عدل عن مخاطبة اليهود بالرد عليهم ووجه الخطاب إلى المسلمين كما دل عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ} وعطفه عليه بقوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ} [البقرة: 108] ولقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ولم يقل من شريعة. وفي هذا إعراض عن مخاطبة اليهود لأن تعليم المسلمين اهـم وذلك يستتبع الرد على اليهود بطريق المساواة لأنه إذا ظهرت حكمة تغيير بعض الأحكام لمصلحة تظهر حكمة تغيير بعض الشرائع. وقد ذكر بعض المفسرين لهاته الآية سبب نزول، ففي الكشاف والمعالم نزلت لما قال اليهود ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه، وفي تفسير القرطبي أن اليهود طعنوا في تغيير القبلة وقالوا إن محمدا يأمر أصحابه بشيء وينهاهم عنه فما كان هذا القرآن إلا من جهته ولذلك يخالف بعضه بعضا. وقرأ الجمهور "ننسخ" بفتح النون الأولى وفتح السين وهو أصل مضارع نسخ، وقرأه ابن عامر بضم النون الأولى وكسر السين على أنه مضارع أنسخ مهموزا بهمزة التعدية أي نأمر بنسخ آية. وما شرطية وأصلها الموصولة أشربت معنى الشرط فلذلك كانت اسما للشرط يستحق إعراب المفاعيل وتبين بما يفسر إبهامها وهي أيضا توجب إبهاما في أزمان الربط لأن الربط وهو التعليق لما نيط بمبهم صار مبهما فلا تدل على زمن معين من أزمان تعليق الجواب على الشرط وربطه به. و"من آية" بيان لما. والآية في الأصل الدليل والشاهد على أمر. قال الحرث بن حلزة: من لنا عنده من الخير آيات . . . ثلاث في كلهن القضاء ووزنها فعلة بتحريك العين عند الخليل وعينها ياء أو واو قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها والنسبة إليها آيي أو آوى. ثم أطلقت الآية على المعجزة لأنها دليل صدق الرسول قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الاسراء: 59]. وتطلق الآية على القطعة من القرآن المشتملة على حكم شرعي أو موعظة أو نحو ذلك وهو إطلاق قرآني قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] ويؤيد هذا أن من معاني الآية في كلام العرب الأمارة التي يعطيها المرسل للرسول ليصدقه المرسل إليه وكانوا إذا أرسلوا وصاية أو خبرا مع رسول أرفقوه بأمارة يسمونها آية لا سيما الأسير إذا أرسل إلى قومه برسالة كما فعل ناشب الأعور حين كان أسيرا في بني سعد بن مالك وأرسل إلى قومه بلعنبر رسالة وأراد تحذيرهم بما يبيته لهم أعداؤهم الذين أسروه فقال للرسول قل لهم كذا بآية ما أكلت معكم حيسا.وقال سحيم العبد: ألكني إليها عمرك الله يا فتى . . . بآية ما جاءت إلينا تهاديا ولذا أيضا سموا الرسالة آية تسمية للشيء باسم مجاوره عرفا. والمراد بالآية هنا حكم الآية سواء أزيل لفظها أم أبقى لفظها لأن المقصود بيان حكمة إبطال الأحكام لا إزالة ألفاظ القرآن. والنسخ إزالة الشيء بشيء آخر قاله الراغب، فهو عبارة عن إزالة صورة أو ذات وإثبات غيرها عوضها تقول نسخت الشمس الظل لأن شعاعها أزال الظل وخلفه في موضعه ونسخ الظل الشمس كذلك لأن خيال الجسم الذي حال بين الجسم المستنير وبين شعاع الشمس الذي أناره قد خلف الشعاع في موضعه ويقال نسخت ما في الخلية من النحل والعسل إلى خلية أخرى، وقد يطلق على الإزالة فقط دون تعويض كقولهم نسخت الريح الأثر وعلى الإثبات لكن على إثبات خاص وهو إثبات المزيل، وأمَّا أن يطلق على مجرد الإثبات فلا أحسبه صحيحا في اللغة وإن أوهمه ظاهر كلام الراغب وجعل منه قولهم نسخت الكتاب إذا خططت أمثال حروفه في صحيفتك إذ وجدوه إثباتا محضا لكن هذا توهم لأن إطلاق النسخ على محاكاة حروف الكتاب إطلاق مجازي بالصورة أو تمثيلية الحالة بحالة من يزيل الحروف من الكتاب الأصلي إلى الكتاب المنتسخ ثم جاءت من ذلك النسخة قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وقال: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأعراف: 154] وأمَّا قولهم الولد نسخة من أبيه فمجاز على مجاز. ولا يطلق النسخ على الزوال بدون إزالة فلا تقول نسخ الليل النهار لأن الليل ليس بأمر وجودي بل هو الظلمة الأصلية الحاصلة من انعدام الجرم المنير. والمراد من النسخ هنا الإزالة وإثبات العوض بدليل قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وهو المعروف عند الأصوليين بأنه رفع الحكم الشرعي بخطاب فخرج التشريع المستأنف إذ ليس برفع وخرج بقولنا الحكم الشرعي رفع البراءة الأصلية بالشرع المستأنف. إذ البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا بل هي البقاء على عدم التكليف الذي كان الناس عليه قبل مجيء الشرع بحيث إن الشريعة لا تتعرض للتنصيص على إباحة المباحات إلا في مظنة اعتقاد تحريمها أو في موضع حصر المحرمات أو الواجبات، فالأول: نحو قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في التجارة في الحج حيث ظن المسلمون تحريم التجارة في عشر ذي الحجة كما كانت عليه الجاهلية بعد الانصراف من ذي المجاز1 كما سيأتي، ومثال الثاني قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: من الآية24] بعد ذكر النساء المحرمات وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] لحصر وجوب الإمساك في خصوص زمن النهار. وفهم من قولهم في التعريف رفع الحكم أن ذلك الحكم كان ثابتا لولا رفعه وقد صرح به بعضهم ولذلك اخترنا زيادة قيد في التعريف وهو رفع الحكم الشرعي المعلوم دوامه بخطاب يرفعه ليخرج عن تعريف النسخ رفع الحكم الشرعي المغيي بغاية عند انتهاء غايته ورفع الحكم المستفاد من أمر لا دليل فيه على التكرار. وحيث تبينت حكمة نسخ الآيات علم منه حكمة نسخ الشرائع بعضها ببعض وهو الذي أنكروه وأنكروا كون الإسلام قد نسخ التوراة وزعموا أن دوام التوراة مانع من الإيمان بالإسلام كما قالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] ----------------------------------------------- 1 ذلك أن العرب كانوا إذا انصرفوا من سوق ذي المجاز ليلة التروية يحرمون البيع إلى انقضاء الحج قال النابغة يذكر ناقته: كادت تساقطني رحلي وميثرتي . . . بذي المجاز ولم تحسس به نغما من صوت حرمية قالت وقد ظعنوا . . . هل في مخيمكم من يشتري أدما قالت لها وهي تسعى تحت لبتها . . . لا تحطمنك إن البيع قد زرما ----------------------------------------------- وهو أحوال: الأول مجيء شريعة لقوم مجيئا مؤقتا لمدة حياة الرسول المرسل بها فإذا توفى ارتفعت الشريعة كشريعة نوح وإبراهيم وشريعة يوسف وشريعة شعيب قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ} إلى قوله: {إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} [غافر: 34] وبقي الناس في فترة وكان لكل أحد يريد الاهتداء أن يتبع تلك الشريعة أو بعضها كما كانوا يتبعون شريعة إبراهيم فإذا جاءت شريعة بعدها فليست الثانية بناسخة للأولى في الحقيقة ولكنها نسخ يخير الناس في متابعتها الذي كان لهم في زمن الفترة كما كانت عبس مثلا يجوز لها اتباع شريعة إبراهيم فلما جاءهم خالد بن سنان بشريعتة تعين عليهم اتباعه. الثاني: أن تجيء شريعة لقوم مأمورين بالدوام عليها كشرع موسى ثم تجيء بعدها شريعة ليست رافعة لتلك الشريعة بأسرها ولكنها ترفع بعض أحكامها وتثبت بعضا كشريعة عيسى فهذه شريعة ناسخة في الجملة لأنها تنسخ بعضا وتفسر بعضا، فالمسيح رسول نسخ بعض التوراة وهو ما نص على نسخه وأمَّا غيره فباق على أحكام التوراة فهو في معظمها مبين ومذكر ومفسر كمن سبقه من أنبياء بني إسرائيل مثل أشعياء وأرمياء وزكرياء الأول ودانيال وأضرابهم ولا يخالف هذا النوع نسخ أحكام شريعة واحدة إلا بكونه بواسطة رسول ثان. الثالث: مجيء شريعة بعد أخرى بحيث تبطل الثانية الأولى إبطالا عاما بحيث تعد تلك الشريعة باطلة سواء في ذلك الأحكام التي نصت الشريعة الثانية فيها بشيء يخالف ما في الأولى أم فيما سكتت الشريعة الثانية عنه وهذا هو الإسلام بالنسبة لما تقدمه من الشرائع فإنه رفع الشرائع كلها بحيث لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتلقى شيئا من الشرائع السالفة فيما لم يتكلم الإسلام فيه بشيء بل يأخذ أحكام ذلك بالاستنباط والقياس وغير ذلك من طرق أصول الإسلام وقد اختلف في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ لكن ذلك الخلاف ناظر إلى دليل آخر وهو وهو قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقوله: {أَوْ نُنْسِهَا} قرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وأبو جعفر وخلف "ننسها" بنون مضمومة في أوله وبسين مكسورة ثم هاء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو "ننسأها" بنون مفتوحة في أوله وبسين مفتوحة وبعدها همزة ساكنة ثم هاء فعلى قراءة ترك الهمز فهو من النسيان والهمزة للتعدية ومفعوله محذوف للعموم أي ننس الناس إياها وذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك قراءتها حتى ينساها المسلمون، وعلى قراءة الهمز فالمعنى أو نؤخرها أي نؤخر تلاوتها أو نؤخر العمل بها والمراد إبطال العمل بقراءتها أو بحكمها فكني عنه بالنسئ وهو قسم آخر مقابل للنسخ وهو أن لا يذكر الرسول الناس بالعمل بحكم مشروع ولا يأمر من يتركه بقضائه حتى ينسى الناس العمل به فيكون ذلك إبطالا للحكم لأنه لو كان قائما لما سكت الرسول عن إعادة الأمر به ولما أقر تاركه عند موجب العمل به ولم أجد لهذا مثالا في القرآن ونظيره في السنة قول رسول الله: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره" عند من يقول إن النهي فيه للتحريم وهو قول أبي هريرة ولذلك كان يذكر هذا الحديث ويقول مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أظهركم. بمعنى النسء مشعر بتأخير يعقبه إبرام وحينئذ فالمعنى بقاء الحكم مدة غير منسوخ أو بقاء الآية من القرآن مدة غير منسوخة. أو يكون المراد إنساء الآية بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوع ذلك بعد حين والاحتمالات المفروضة في نسخ حكم من الشريعة تتأتى في نسخ شريعة بشريعة وإنسائها أو نسئها. وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} جواب الشرط وجعله جوابامشعر بأن هذين الحالين وهما النسخ والإنساء أو النسء لا يفارقان حالين وهما الإتيان في وقت النسخ ووقت الإنساء بشيء هو خير من النسوخ أو مثله أو خير من المنسي أو المنسوء أو مثله فالمأتي به مع النسخ هو الناسخ من شريعة أو حكم والمأتي به مع الإنساء من النسيان هو الناسخ أيضا من شريعة أو حكم أو هو ما يجيء من الأحكام غير ناسخ ولكنه حكم مخالف ينزل بعد الآخر والمأتي بع مع النسء أي التأخير هو ما يقارن الحكم الباقي من الأحكام النازلة في مدة عدم النسخ. وقد أجملت جهة الخيرية والمثلية لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فتجده مرادا إذ الخيرية تكون من حيث الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس، أو ما يدفع عنهم مضرة، أو ما فيه جلب عواقب حميدة، أو ما فيه ثواب جزيل، أو ما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع الشدة وإن كان حملهم على الشدة قد يكون أكثر مصلحة. وليس المراد أن كل صورة من الصور المفروضة في حالات النسخ والإنساء أو النسء هي مشتملة على الخير والمثل معا وإنما المراد أن كل صورة منهما لا تخلو من الاشتمال على الخير منها أو المثل لها فلذلك جيء بأو في قوله: {بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فهي مفيدة لأحد الشيئين مع جواز الجمع. وتحقيق هاته الصور بأيديكم، ولنضرب لذلك أمثالا ترشد إلى المقصود وتغني عن البقية مع عدم التزام الدرج على القول الأصح فنقول: 1- نسخ شريعة مع الإتيان بخير منها كنسخ التوراة والإنجيل بالإسلام. 2- نسخ شريعة مع الإتيان بمثلها كنسخ شريعة هود بشريعة صالح فإن لكل فائدة مماثلة للأخرى في تحديد أحوال أمتين متقاربتي العوائد والأخلاق فهود نهاهم أن يبنوا بكل ريع آية يعبثون وصالح لم ينه عن ذلك ونهى عن التعرض للناقة بسوء. 3- نسخ حكم في شريعة بخير منه مثل نسخ كراهة الخمر الثابتة بقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ} [البقرة: 219] بتحريمها بتاتا فهذه الناسخة خير من جهة المصلحة دون الرفق وقد يكون الناسخ خيرا في الرفق كنسخ تحريم الأكل والشرب وقربان النساء في ليل رمضان بعد وقت الإفطار عند الغروب إذا نام الصائم قبل أن يتعشى بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: من الآية187] قال في الحديث في صحيح البخاري ففرح المسلمون بنزولها. 4- نسخ حكم في الشريعة بحكم مثله كنسخ الوصية للوالدين والأقربين بتعيين الفرائض والكل نافع للكل في إعطائه مالا وكنسخ فرض خمسين صلاة بخمس صلوات مع جعل ثواب الخمسين للخمس فقد تماثلنا من جهة الثواب، وكنسخ آية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: من الآية184] بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] إلى قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية184] فإثبات كون الصوم خيرا من الفدية. 5 إنساء بمعنى التأخير لشريعة مع مجيء خير منها، تأخير ظهور دين الإسلام في حين الإتيان بشرائع سبقته كل واحدة منها هي خير بالنسبة للأمة التي شرعت لها والعصر الذي شرعت فيه فإن الشرائع تأتي للناس بما يناسب أحوالهم حتى يتهيأ البشر كلهم لقبول الشريعة الخاتمة التي هي الدين عند الله فالخيرية هنا ببعض معانيها وهي نسبية. 6 إنساء شريعة بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوعه بعد حين ومع الإتيان بمثلها كتأخير شريعة عيسى في وقت الإتيان بشريعة موسى وهي خير منها من حيث الاشتمال على معظم المصالح وما تحتاج إليه الأمة. 7 إنساء بمعنى تأخير الحكم المراد مع الإتيان بخير منه كتأخير تحريم الخمر وهو مراد مع الإتيان بكراهته أو تحريمه في أوقات الصلوات فقط فإن المأتي به خير من التحريم من حيث الرفق بالناس في حملهم على مفارقة شيء افتتنوا بمحبته. 8 إنساء شريعة بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها أي أوسع وأعم مصلحة وأكثر ثوابا لكن في أمة أخرى أو بمثلها كذلك. 9 إنساء آية من القرآن بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها في باب آخر أي أعم مصلحة أو بمثلها في باب آخر أي مثلها مصلحة أو ثوابا مثل تحريم الخمر في وقت الصلوات وينزل في تلك المدة تحريم البيع في وقت صلاة الجمعة. 10 نسيان شريعة بمعنى اضمحلالها كشريعة آدم ونوح مع مجيء شريعة موسى وهي أفضل وأوسع وشريعة إدريس مثلا وهي مثل شريعة نوح. 11 نسيان حكم شريعة مع مجيء خير منه أو مثله، كان فيما نزل عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات ثم نسيا معا وجاءت آية: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] على الإطلاق والكل متماثل في إثبات الرضاعة ولا مشقة على المكلفين في رضعة أو عشر لقرب المقدار. وقيل المراد من النسيان الترك وهو حينئذ يرجع معناه وصوره إلى معنى وصور الإنساء بمعنى التأخير. والمقصد من قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} إظهار منتهى الحكمة والرد عليهم بأنهم لا يهمهم أن تنسخ شريعة بشريعة أو حكم في شريعة بحكم آخر ولا يقدح ذلك في علم الله تعالى ولا في حكمته ولا ربوبيته لأنه ما نسخ شرعا أو حكما ولا تركه إلا وهو قد عوض الناس ما هو أنفع لهم منه حينئذ أو ما هو مثله من حيث الوقت والحال، وما أخر حكما في زمن ثم أظهره بعد ذلك إلا وقد عوض الناس في إبان تأخيره ما يسد مسده بحسب أحوالهم، وذلك مظهر الربوبية فإنه يرب الخلق ويحملهم على مصالحهم مع الرفق بهم والرحمة، ومراد الله تعالى في تلك الأزمنة والأحوال كلها واحد وهو حفظ نظام العالم وضبط تصرف الناس فيه على وجه يعصم أحوالهم من الاختلال بحسب العصور والأمم والأحوال إلى أن جاء بالشريعة الخاتمة وهي مراد الله تعالى من الناس ولذلك قال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران: 19] وقال أيضا: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] الآية. والظاهر أن الإتيان بخير أو بمثل راجع إلى كل من النسخ والإنساء فيكون الإتيان بخير من المنسوخة أو المنساة أو بمثلها وليس الكلام من اللف والنشر. فقوله تعالى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} هو إما إتيان تعويض أو إتيان تعزيز. وتوزيع هذا الضابط على الصور المتقدمة غير عزيز. والمعنى إنا لم نترك الخلق في وقت سدى. وأن ليس في النسخ ما يتوهم منه البدا. وفي الآية إيجاز بديع في التقسيم قد جمع هاته الصور التي سمعتموها وصورا تنشق منها لا أسألكموها لأنه ما فرضت منها صورة بعد هذا إلا عرفتموها. ومما يقف منه الشعر ولا ينبغي أن يوجه إليه النظر ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى {نُنسِهَا} أنه إنساء الله تعالى المسلمين للآية أو للسورة، أي إذهابها عن قلوبهم أو إنساؤه النبي صلى الله عليه وسلم إياها فيكون نسيان الناس كلهم لها في وقت واحد دليلا على النسخ واستدلوا لذلك بحديث أخرجه الطبراني بسنده إلى ابن عمر: قال قرأ رجلان سورة أقرأهما إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فغديا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال لهما إنها مما نسخ وأنسى فالهوا عنها. قال ابن كثير هذا الحديث في سنده سليمان بن أرقم وهو ضعيف وقال ابن عطية هذا حديث منكر أغرب به الطبراني وكيف خفي مثله على أئمة الحديث. والصحيح أن نسيان النبي ما أراد الله نسخه ولم يرد أن يثبته قرآنا جائز، أي لكنه لم يقع فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي معصوم عنه قبل التبليغ، وأمَّا بعد التبليغ وحفظ المسلمين له فجائز وقد روى أنه أسقط آية من سورة في الصلاة فلما فرغ قال لأبى لم لم تذكرني قال حسبت أنها رفعت قال لا ولكني نسيتها اهـ. والحق عندي أن النسيان العارض الذي يتذكر بعده جائز ولا تحمل عليه الآية لمنافاته لظاهر قوله {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وأمَّا النسيان المستمر للقرآن فأحسب أنه لا يجوز. وقوله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] دليل عليه وقوله {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128] هو من باب التوسعة في الوعد وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعلى. وأمَّا ما ورد في صحيح مسلم عن أنس قال كنا نقرأ سورة نشبه هل في الطول ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب اهـ. فهو غريب وتأويله أن هنالك سورة نسخت قراءتها وأحكامها، ونسيان المسلمين لما نسخ لفظه من القرآن غير عجيب على أنه حديث غريب اهــ. وقد دلت هذه الآية على أن النسخ واقع وقد اتفق علماء الإسلام على جواز النسخ ووقوعه ولم يخالف في ذلك إلا أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بحر فقيل إن خلافه لفظي وتفصيل الأدلة في كتب أصول الفقه. وقد قسموا نسخ أدلة الأحكام ومدلولاتها إلى أقسام: نسخ التلاوة والحكم معا وهو الأصل ومثلوه بما روى عن أبي بكر كان فيما أنزل لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ونسخ الحكم وبقاء التلاوة وهذا واقع لأن إبقاء التلاوة يقصد منه بفاء الإعجاز ببلاغة الآية ومثاله آية: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [لأنفال: 65] إلى آخر الآيات. ونسخ التلاوة وبقاء الحكم ومثلوه بما روى عن عمر كان فيما يتلى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما وعندي أنه لا فائدة في نسخ التلاوة وبقاء الحكم وقد تأولوا قول عمر كان فيما يتلى أنه كان يتلى بين الناس تشهيرا بحكمه. وقد كان كثير من الصحابة يرى أن الآية إذا نسخ حكمها لا تبقى كتابتها في المصحف ففي البخاري في التفسير قال ابن الزبير قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها قال يابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:52 am | |
| [107,106] {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}. مسوق لبيان حكمة الشيخ والإتيان بالخير والمثل بيانا غير مفصل على طريقة الأسلوب الحكيم وذلك أنه بعد أن فرغ من التنبيه على أن النسخ الذي استبعدوه وتذرعوا به لتكذيب الرسول هو غير مفارق لتعويض المنسوخ بخير منه أو مثله أو تعزيز المبقى بمثله أريد أن ينتقل من ذلك إلى كشف ما بقي من الشبهة وهي أن يقول المنكر وما هي الفائدة في النسخ حتى يحتاج للتعويض وكان مقتضى الظاهر أن يتصدى لبيان اختلاف المصالح ومناسبتها للأحوال والأعصار ولبيان تفاصيل الخيرية والمثلية في كل ناسخ ومنسوخ ولما كان التصدي لذلك أمرا لم تتهيأ له عقول السامعين لعسر إدراكهم مراتب المصالح وتفاوتها لأن ذلك مما يحتاج إلى تأصيل قواعد من أصول شرعية وسياسية، عدل بهم عن بيان ذلك وأجملت لهم بالمصلحة بالحوالة على قدرة الله تعالى التي لا يشذ عنها ممكن مراد، وعلى سعة ملكه المشعر بعظيم علمه. وعلى حاجة المخلوقات إليه إذ ليس لهم رب سواه ولا ولي دونه وكفى بذلك دليلا على أنه يحملهم على مصالحهم في سائر الأحوال. ومما يزيد هذا العدول توجيها أن التصدي للبيان بفتح باب الجدال في إثبات المصلحة وتفاوت ذلك بحسب اختلاف القرائح والفهوم. ولأن أسباب التشريع والنسخ أقسام منه ما ظهر وجهه بالنص فيمكن إفهامهم إياه نحو قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] الآية بعد قوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الآية ونحو {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال: 66] الآية. ومنها ما يعسر إفهامهم إياه لأنه يحتاج إلى علم وتفصيل من شأن المشرعين وعلماء الأصول كالأشياء التي عرفت بالقياس وأصول التشريع. ومنها ما لم يطلع على حكمته في ذلك الزمان أو فيما يليه ولما كان معظم هاته التفاصيل يعسر أو يعتذر إفهامهم إياه وقع العدول المذكور. ولكون هاته الجملة تتنزل منزلة البيان للأولى فصلت عنها. والخطاب في {تعلم} ليس مرادا منه ظاهرة الواحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم بل هو إما خطاب لغير معين خارج على طريقة المجاز بتشبيه من ليس حاضرا للخطاب وهو الغائب منزلة المخاطب في كونه بحيث يصير مخاطبا لشهرة هذا الأمر والمقصد من ذلك ليعم كل مخاطب صالح له وهو كل من يظن به أو يتوهم منه أنه لا يعلم أن الله على كل شيء قدير ولو بعدم جريانه على موجب علمه، وإلى هذه الطريقة مال القطب والطيبي من شراح الكشاف وعليها يشمل هذا الخطاب ابتداء اليهود والمشركين ومن عسى أن يشتبه عليه الأمر وتروج عليه الشبهة من ضعفاء المسلمين، أما غيرهم فغني عن التقرير في الظاهر وإنما أدخل فيه ليسمع غيره. وإما مراد به ظاهره وهو الواحد فيكون المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم لكن المقصود منه المسلمون فينتقل من خطاب النبي إلى مخاطبة أمته انتقالا كنائيا لأن علم الأمة من لوازم علم الرسول من حيث إنه رسول لزوما عرفيا فكل حكم تعلق به بعنوان الرسالة فالمراد منه أمته لأن ما يثبت له من المعلومات في باب العقائد والتشريع فهو حاصل لهم فتارة يراد من الخطاب توجه مضمون الخطاب إليه ولأمته وتارة يقصد منه توجه المضمون لأمته فقط على قاعدة الكتابة في جواز إرادة المعنى الإصلي مع الكنائي، وهاهنا لا يصلح توجه المضمون للرسول لأنه لا يقرر على الاعتراف بأن الله على كل شيء قدير فضلا عن أن ينكر عنه وإنما التقرير للأمة، والمقصد من تلك الكناية التعريض باليهود. وإنما سلك هذا الطريق دون أن يؤتى بضمير الجماعة المخاطبين لما في سلوك طريق الكناية من البلاغة والمبالغة مع الإيجاز في لفظ الضمير. والاستفهام تقريري على الوجهين وهو شأن الاستفهام الداخل على النفي كما تقدم عند قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33] أي أنكم تعلمون أن الله قدير وتعلمون أنه مالك السماوات والأرض بما يجري فيهما من الأحوال، فهو ملكه أيضا فهو يصرف الخلق كيف يشاء. وقد أشار في الكشاف إلى أنه تقريري وصرح به القطب في شرحه ولم يسمع في كلام العرب استفهام دخل على النفي إلا وهو مراد به التقرير. وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} قال البيضاوي: هو متنزل من الجملة التي قبله منزلة الدليل لأن الذي يكون له ملك السماوات والأرض لا جرم أن يكون قديرا على كل شيء ولذا فصلت هذه الجملة عن التي قبلها. وعندي أن موجب الفصل هو أن هاته الجملة بمنزلة التكرير للأولى لأن مقام التقرير ومقام التوبيخ كلاهما مقام تكرير لما به التقرير والإنكار تعديدا على المخاطب. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:53 am | |
| [108] {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. أم حرف عطف مختص بالاستفهام وما في معناه وهو التسوية1 فإذا عطفت أحد مفردين مستفهما عن تعيين أحدهما استفهاما حقيقيا أو مسوى بينهما في احتمال الحصول فهي بمعنى أو العاطفة ويسميها النحاة متصلة، وإذا وقعت عاطفة جملة دلت على انتقال من الكلام السابق إلى استفهام فتكون بمعنى بل الانتقالية ويسميها النحاة منقطعة والاستفهام ملازم لما بعدها في الحالين. ----------------------------------------------- 1 لأن التحقيق أن همزة التسوية همزة استفهام تدل على استواء أمرين بمعنى استواء الجواب لو سأل سائل عن أحد أمرين. ----------------------------------------------- وهي هنا منقطعة لا محالة لأن الاستفهامين اللذين قبلها في معنى الخبر لأنهما للتقرير كما تقدم إلا أن وقوعهما في صورة الاستفهام ولو للتقرير يحسن موقع أم بعدها كما هو الغالب والاستفهام الذي بعدهما هنا إنكار وتحذير، والمناسبة في هذا الانتقال تامة فإن التقرير الذي قبلها مراد منه التحذير من الغلط وأن يكونوا كمن لا يعلم والاستفهام الذي بعدها مراد منه التحذير كذلك والمحذر منه في الجميع مشترك في كونه من أحوال اليهود المذمومة ولا يصح كون أم هنا متصلة لأن الاستفهامين اللذين قبلها ليسا على حقيقتهما لا محالة كما تقدم. وقد جوز القزويني في الكشف على الكشاف كون أم هنا متصلة بوجه مرجوح وتبعه البيضاوي وتكلفا لذلك مما لا يساعد استعمال الكلام العربي، وأفرط عبد الحكيم في حاشية البيضاوي فزعم أن حملها على المتصلة أرجح لأنه الأصل لا سيما مع اتحاد فاعل الفعلين المتعاطفين بأم ولدلالته على أنهم إذا سألوا سؤال قوم موسى فقد علموا أن الله على كل شيء قدير وإنما قصدوا التعنت وكان الجميع في غفلة عن عدم صلوحية الاستفهامين السابقين للحمل على حقيقة الاستفهام. وقوله {تريدون} خطاب للمسلمين لا محالة بقرينة قوله: {رسولكم} وليس كونه كذلك بمرجح كون الخطابين اللذين قبله متوجهين إلى المسلمين لأن انتقال الكلام بعد أم المنقطعة يسمح بانتقال الخطاب. وقوله: {تريدون} يؤذن بأن السؤال لم يقع ولكنه ربما جاش في نفوس بعضهم أو ربما أثارته في نفوسهم شبه اليهود في إنكارهم النسخ وإلقائهم شبهة البداء ونحو ذلك مما قد يبعث بعض المسلمين على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: {كَمَا سُئِلَ مُوسَى} تشبيه وجهه أن في أسئلة بني إسرائيل موسى كثيرا من الأسئلة التي تفضي بهم إلى الكفر كقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: من الآية138] أو من العجرفة كقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: من الآية55] فيكون التحذير من تسلسل الأسئلة المفضي إلى مثل ذلك. ويجوز كونه راجعا إلى أسئلة بني إسرائيل عما لا يعنيهم وعما يجر لهم المشقة كقولهم: {مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69] و {مَا هِيَ} [البقرة: 70]، قال الفخر: إن المسلمين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى اهـ. وقد ذكر غيره أسبابا أخرى للنزول، منها: أن المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر لما مروا بذات الأنواط التي كانت للمشركين أن يجعل لهم مثلها ونحو هذا مما هو مبني على أخبار ضعيفة، وكل ذلك تكلف لما لا حاجة إليه فإن الآية مسوقة مساق الإنكار التحذيري بدليل قوله {تريدون} قصدا للوصاية بالثقة بالله ورسوله والوصاية والتحذير لا يقتضيان وقوع الفعل بل يقتضيان عدمه. والمقصود التحذير من تطرق الشك في صلاحية الأحكام المنسوخة قبل نسخها لا في صلاحية الأحكام الناسخة عند وقوعها. وقوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} تذييل للتحذير الماضي للدلالة على أن المحذر منه كفر أو يفضي إلى الكفر لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى، ويحتمل أن المراد بالكفر أحوال اهـل الكفر أي لا تتبدلوا بآدابكم تقلد عوائد اهـل الكفر في سؤالهم كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين: "فإنما اهـلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" وإطلاق الكفر على أحوال اهـله وإن لم تكن كفرا شائع في ألفاظ الشريعة وألفاظ السلف كما قالت جميلة بنت عبد الله بن أبي زوجة ثابت بن قيس: إني أكره الكفر تريد الزنا، فإن ذكر جملة بعد جملة يؤذن بمناسبة بين الجملتين فإذا لم يكن مدلول الجملتين واضح التناسب علم المخاطب أن هنالك مناسبة يرمز إليها البليغ فهنا تعلم أن الارتداد عن الإيمان إلى الكفر معنى كلي عام يندرج تحته سؤالهم الرسول كما سأل بنو إسرائيل موسى فتكون تلك القضية كفرا وهو المقصود من التذييل المعرف في باب الإطناب بأنه تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها تتنزل منزلة الحجة على مضمون الجملة وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى وزيادة فالتذييل ضرب من ضروب الإطناب من حيث يشتمل على تقرير معنى الجملة الأولى ويزيد عليه بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى. وأبدعه ما أخرج مخرج الأمثال لما فيه من عموم الحكم ووجيز اللفظ مثل هاته الآية، وقول النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمه . . . على شعث أي الرجال المهذب والمؤكد بجملة: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ} هو مفهوم جملة {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ} مفهوم الجملة التي قبلها لا منطوقها فهي كالتذييل الذي في بيت النابغة. والقول في تعدية فعل {يتبدل} مضي عند قوله تعالى {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61]. وقد جعل قوله {فَقَدْ ضَلَّ} جوابا لمن الشرطية لأن المراد من الضلال أعظمه وهو الحاصل عقب تبدل الكفر بالإيمان ولا شبهة في كون الجواب مترتبا على الشرط ولا يريبك في ذلك وقوع جواب الشرط فعلا ماضيا مع أن الشرط إنما هو تعليق على المستقبل ولا اقتران الماضي بقد الدالة على تحقق المضي لأن هذا استعمال عربي جيد يأتون بالجزاء ماضيا لقصد الدلالة على شدة ترتب الجزاء على الشرط وتحقق وقوعه معه حتى أنه عند ما يحصل مضمون الشرط يكون الجزاء قد حصل فكأنه حاصل من قبل الشرط نحو {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81] وعلى مثل هذا يحمل كل جزاء جاء ماضيا فإن القرينة عليه أن مضمون الجواب لا يحصل إلا بعد حصول الشرط وهم يجعلون قد علامة على هذا القصد ولهذا قلما خلا جواب ماض لشرط مضارع إلا والجواب مقترن بقد حتى قيل إن غير ذلك ضرورة ولم يقع في القرآن كما نص عليه الرضى بخلافه مع قد فكثير في القرآن. وقد يجعلون الجزاء ماضيا مريدين أن حصول مضمون الشرط كاشف عن كون مضمون الجزاء قد حصل أو قد تذكره الناس نحو {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: من الآية77] وعليه فيكون تحقيق الجزاء في مثله هو ما يتضمنه الجواب من معنى الانكشاف أو السبق أو غيرهما بحسب المقامات قبل أن يقدر فلا تعجب إذ قد سرق أخ له1 ويمكن تخريج هذه الآية على ذلك بأن يقدر ومن يتبدل الكفر بالإيمان فالسبب فيه أنه قد كان ضل سواء السبيل حتى وقع في الارتداد كما تقول من وقع في المهواة فقد خبط خبط عشواء إن أريد بالماضي أنه حصل وأريد بالضلال ما حف بالمرتد من الشبهات والخذلان الذي أوصله إلى الارتداد وهو بعيد من غرض الآية. والسواء الوسط من كل شيء قال بلعاء بن قيس: غشيته وهو في جأواء باسلة . . . عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا ووسط الطريق هو الطريق الجادة الواضحة لأنه يكون بين بنيات الطريق التي لا تنتهي إلى الغاية. ----------------------------------------------- 1 ومثل هذا أن يكون الشرط والجزاء ما ضيين فإن ذلم يدل أن المعنى إن تحقق هذا تحقق هذا نحو {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: من الآية116] ويقرب منه مجيء الجزاء جملة اسمية لدلالتها على ثبوت مضمونها دون زمان أصلا نحو قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: من الآية97] أي من يتحقق عداوته لجبريل فلتدم عداوته لأنه نزله ونحو قول الشاعر: من صد عن نيرانها . . . فأنا ابن قيس لا براح أي فيصد فأنا المعروف بالشجاعة. ----------------------------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:54 am | |
| [110,109] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد اهـل الكتاب وخاصة اليهود منهم، وآخرتها شبهة النسخ.فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر. وقد استطرد بينه وبين الآية السابقة بقوله {مَا نَنْسَخْ} [البقرة: 106] الآيات للوجوه المتقدمة. فلأجل ذلك فصلت هاته الجملة لكونها من الجملة التي قبلها بمنزلة البيان إذ هي بيان لمنطوقها ولمفهومها، وفي تفسير ابن عطية والكشاف وأسباب النزول للواحدي أن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس1 وفيه فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس وغيرهما من اليهود فقالوا لحذيفة وعمار ألم تروا ما أصابكم يوم أحد ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير ونحن اهـدى منكم فردا عليهم وثبتا على الإسلام. والود تقدم في الآية السالفة. وإنما أسند هذا الحكم أي الكثير منهم وقد أسند قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] إلى جميعهم لأن تمنيهم أن لا ينزل دين إلى المسلمين يستلزم تمنيهم أن يتبع المشركون دين اليهود أو النصارى حتى يعم ذلك الدين جميع بلاد العرب فلما جاء الإسلام شرقت لذلك صدورهم جميعا فأما علماؤهم وأحبارهم فخابوا وعلموا أن ما صار إليه المسلمون خير مما كانوا عليه من الإشراك لأنهم صاروا إلى توحيد الله والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وفي ذلك إيمان بموسى وعيسى وإن لم يتبعوا ديننا، فهم لا يودون رجوع المسلمين إلى الشرك القديم لأن في مودة ذلك تمنى الكفر وهو رضي به. ----------------------------------------------- 1 المدارس بكسر الميم بيت تعليم التورات لتلامذة اليهود. ----------------------------------------------- وأمَّا عامة اليهود وجهلتهم فقد بلغ بهم الحسد والغيظ إلى مودة أن يرجع المسلمون إلى الشرك ولا يبقوا على هذه الحالة الحسنة الموافقة لدين موسى في معظمه نكاية بالمسلمين وبالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ اهـدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء: 50]. وفي هذا المعنى المكتنز ما يدلكم على وجه التعبير {بيردونكم} دون لو كفرتم ليشار إلى أن وداتهم أن يرجع المسلمون إلى الشرك لأن الرد إنما يكون إلى أمر سابق ولو قيل لو كفرتم لكان فيه بعض العذر لأهل الكتاب لاحتماله أنهم يودون مصير المسلمين إلى اليهودية. وبه يظهر وجه مجيء {كفارا} معمولا لمعمول {وَدَّ كَثِيرٌ} ليشار إلى أنهم ودوا أن يرجع المسلمون كفارا بالله أي كفارا كفرا متفقا عليه حتى عند اهـل الكتاب وهو الإشراك فليس ذلك من التعبير عن ما صدق ما ودوه بل هو من التعبير عن مفهوم ما ودوه. وبه يظهر أيضا وجه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} فإنه تبين أن ما عليه المسلمون حق من جهة التوحيد والإيمان بالرسل بخلاف الشرك، أو من بعد ما تبين لهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم إذا كان المراد بالكثير منهم خاصة علمائهم والله مطلع عليهم. و {لو} هنا بمعنى أن المصدرية ولذلك يؤول ما بعدها بمصدر. و {حسدا} حال من ضمير {ود} أي أن هذا الود لا سبب له إلا الحسد لا الرغبة في الكفر. وقوله {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} جيء فيه بمن الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم وصدوره عن نفوسهم. وأكد ذلك بكلمة عند الدالة على الاستقرار ليزداد بيان تمكنه وهو متعلق بحسدا لا بقوله {ود}. وإنما أمر المسلمون بالعفو والصفح عنهم في هذا الموضع خاصة لأن ما حكي عن اهـل الكتاب هنا مما يثير غضب المسلمين لشدة كراهيتهم للكفر قال تعالى {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} [الحجرات: من الآية7] فلا جرم أن كان من يود لهم ذلك يعدونه أكبر أعدائهم فلما كان هذا الخبر مثيرا للغضب خيف أن يفتكوا باليهود وذلك ما لا يريده الله منهم لأن الله أراد منهم أن يكونوا مستودع عفو وحلم حتى يكونوا قدوة في الفضائل. والعفو ترك عقوبة المذنب. والصفح بفتح الصاد مصدر صفحا إذا أعرض لأن الإنسان إذا أعرض عن شيء ولاه من صفحة وجهه، وصفح وجهه أي جانبه وعرضه وهو مجاز في عدم مواجهته بذكر ذلك الذنب أي عدم لومه وتثريبه عليه وهو أبلغ من العفو كما نقل عن الراغب ولذلك عطف الأمر به على الأمر بالعفو لأن الأمر بالعفو لا يستلزمه ولم يستغن باصفحوا لقصد التدريج في أمرهم بما قد يخالف ما تميل إليه أنفسهم من الانتقام تلطفا من الله مع المسلمين في حملهم على مكارم الأخلاق. وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي حتى يجيء ما فيه شفاء غليلكم قيل هو إجلاء بني النضير وقتل قريظة، وقيل الأمر بقتال الكتابيين أو ضرب الجزية. والظاهر أنه غاية مبهمة للعفو والصفح تطمينا لخواطر المأمورين حتى لا ييأسوا من ذهاب أذى المجرمين لهم بطلا وهذا أسلوب مسلوك في حمل الشخص على شيء لا يلائمه كقول الناس حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا فإذا جاء أمر الله بترك العفو انتهت الغاية ومن ذلك إجلاء بني النضير. ولعل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليما للمسلمين فضيلة العفو أي فإن الله قدير على كل شيء وهو يعفو ويصفح وفي الحديث الصحيح لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل يدعون له ندا وهو يرزقهم، أو أراد أنه على كل شيء قدير فلو شاء لأهلكهم الآن ولكنه لحكمته أمركم بالعفو عنهم وكل ذلك يرجع إلى الائتساء بصنع الله تعالى وقد قيل إن الحكمة كلها هي التشبه بالخالق بقدر الطاقة البشرية. فجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل مسوق مساق التعليل. وجملة {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] إلى قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ} [البقرة: من الآية111] تفريع مع اعتراض فإن الجملة المعترضة هي الواقعة بين جملتين شديدتي الاتصال من حيث الغرض المسوق له الكلام والاعتراض هو مجيء ما لم يسق غرض الكلام له ولكن للكلام والغرض به علاقة وتكميلا وقد جاء التفريع بالفاء هنا في معنى تفريع الكلام على الكلام لا تفريع معنى المدلول على المدلول لأن معنى العفو لا يتفرع عن ود اهـل الكتاب ولكن الأمر به تفرع عن ذكر هذا الود الذي هو أذى وتجيء الجملة المعترضة بالواو وبالفاء بأن يكون المعطوف اعتراضاً. وقد جوزه صاحب الكشاف عند قوله تعالى: {فَاسْأَلوا اهـلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: من الآية43] في سورة النحل، وجوزه ابن هشام في مغنى اللبيب واحتج له بقوله تعالى: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] على قول ونقل بعض تلامذة الزمخشري أنه سئل عن قوله تعالى في سورة عبس: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} أنه قال لا يصح أن تكون جملة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} اعتراضا لأن الاعتراض لا يكون مع الفاء ورده صاحب الكشاف بأنه لا يصح عنه لمنافاته كلامه في آية سورة النحل وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أريد به الأمر بالثبات على الإسلام فإن الصلاة والزكاة ركناه فالأمر بهما يستلزم الأمر بالدوام على ما أنتم عليه على طريق الكناية. وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} مناسب للأمر بالثبات على الإسلام وللأمر بالعفو والصفح وفيه تعريض باليهود بأنهم لا يقدرون قدر عفوكم وصفحكم ولكنه لا يضيع عند الله ولذلك اقتصر على قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} قال الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوائزه . . . لا يذهب العرف بين الله والناس وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تذييل لما قبله والبصير العليم كما تقدم وهو كناية عن عدم إضافة جزاء المحسن والمسيء لأن العليم القدير إذا علم شيئا فهو يرتب عليه ما يناسبه إذ لا يذهله جهل ولا يعوزه عجز وفي هذا وعد لهم يتضمن وعيدا لغيرهم لأنه إذا كان بصيرا بما يعمل المسلمون كان بصيرا بما يعمل غيرهم.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:54 am | |
| [112,111] {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. عطف على {وَدَّ كَثِيرٌ} [البقرة: 109] وما بينهما من قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: من الآية109] الآية اعتراض كما تقدم. والضمير لأهل الكتاب كلهم من اليهود والنصارى بقرينة قوله بعده: {إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى}.ومقول القول مختلف باختلاف القائل فاليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فجمع القرآن بين قوليهما على طريقة الإيجاز بجمع ما اشتركا فيه وهو نفي دخول الجنة عن المستثنى منه المحذوف لأجل تفريع الاستثناء. ثم جاء بعده تفريق ما اختص به كل فريق وهو قوله: {هُوداً أَوْ نَصَارَى}. فكلمة "أو" من كلام الحاكي في حكايته وليست من الكلام المحكي فأوهنا لتقسيم القولين ليرجع السامع كل قول إلى قائله والقرينة على أن أو ليست من مقولهم المحكي أنه لو كان من مقولهم لاقتضى أن كلا الفريقين لا ثقة له بالنجاة وأنه يعتقد إمكان نجاة مخالفه والمعلوم من حال اهـل كل دين خلاف ذلك فإن كلا من اليهود والنصارى لا يشك في نجاة نفسه ولا يشك في ضلال مخالفه وهي أيضا قرينة على تعيين كل من خبري {كَانَ} لبقية الجملة المشتركة التي قالها كل فريق بإرجاع هودا إلى مقول اليهود وإرجاع نصارى إلى مقول النصارى. فأوها هنا للتوزيع وهو ضرب من التقسيم الذي هو من فروع كونها لأحد الشيئين وذلك أنه إيجاز مركب من إيجاز الحذف لحذف المستثنى منه ولجمع القولين في فعل واحد وهو {قالوا} ومن إيجاز القصر لأن هذا الحذف لما لم يعتمد فيه على مجرد القرينة المحوجة لتقدير وإنما دل على المحذوف من القولين بجلب حرف أو كانت أو تعبيرا عن المحذوف بأقل عبارة فينبغي أن يعد قسما ثالثا من أقسام الإيجاز وهو إيجاز حذف وقصر معا. وقد جعل القزويني في تلخيص المفتاح هاته الآية من قبيل اللف والنشر الإجمالي أخذا من كلام الكشاف لقول صاحب الكشاف فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين فقوله فلف بين القولين أراد به اللف الذي هو لقب للمحسن البديعي المسمى اللف والنشر ولذلك تطلبوا لهذا اللف نشرا وتصويرا للف في الآية من قوله قالوا مع ما بينه وهو لف إجمالي يبينه نشره الآتي بعده ولذلك لقبوه اللف الإجمالي. ثم وقع نشر هذا اللف بقوله: {إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} فعلم من حرف أو توزيع النشر إلى ما يليق بكل فريق من الفريقين. وقال التفتزاني في شرح المفتاح جرى الاستعمال في النفي الإجمالي أن يذكر نشره بكلمة أو. والهود جمع هائد أي متبع اليهودية وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة: من الآية62] الآية وجمع فاعل على فعل غير كثير وهو سماعي منه قولهم عوذ جمع عائذ وهي الحديثة النتاج من الظباء والخيل والإبل ومنه أيضا عائط وعوط للمرأة التي بقيت سنين لم تلد. وحائل وحول، وبازل وبزل، وفاره وفره، وإنما جاء هودا جمعا مع أنه خبر عن ضميره "كان" وهو مفرد لأن "من" مفردا لفظا ومراد به الجماعة فجرى ضميره على مراعاة لفظه وجرى خبرا وضميرا على مراعاة المعنى. والإشارة بـ {تلك} إلى القولة الصادرة منهم {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} كما هو الظاهر فالإخبار عنها بصيغة الجمع إما لأنها لما كانت أمنية كل واحد منهم صارت إلى أماني كثيرة وإما إرادة أن كل أمانيهم كهذه ومعتادهم فيها فيكون من التشبيه البليغ. والأماني تقدمت في قوله: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] وجملة {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} معترضة. وقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أمر بأن يجابوا بهذا ولذلك فصله لأنه في سياق المحاورة كما تقدم عند قوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} [البقرة: 30] الآية وأتى بإن المفيدة للشك في صدقهم مع القطع بعدم الصدق لاستدراجهم حتى يعلموا أنهم غير صادقين حين يعجزون عن البرهان لأن كل اعتقاد لا يقيم معتقده دليل اعتقاده فهو اعتقاد كاذب لأنه لو كان له دليل لاستطاع التعبير عنه ومن باب أولى لا يكون صادقا عند من يريد أن يروج عليه اعتقاده. و"بلى" إبطال لدعواهما. و"بلى" كلمة يجاب بها المنفي لإثبات نقيض النفي وهو الإثبات سواء وقعت بعد استفهام عن نفي وهو الغالب أو بعد خبر منفي نحو {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى} [القيامة: 4: 3]. وقول أبي حية النميري: يخبرك الواشون أن لن أحبكم . . . بلى وستور الله ذات المحارم وقوله: {مَنْ أَسْلَمَ} جملة مستأنفة عن "بلى" لجواب سؤال من يتطلب كيف نقض نفي دخول الجنة عن غير هذين الفريقين أريد بها بيان أن الجنة ليست حكرة لأحد ولكن إنما يستحقها من أسلم إلخ لأن قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ} هو في معنى له دخول الجنة وهو جواب الشرط لأن من شرطية لا محالة. ومن قدر هنا فعلا بعد بلى أي يدخلها من أسلم فإنما أراد تقدير معنى لا تقدير إعراب إذ لا حاجة للتقدير هنا. وإسلام الوجه لله هو تسليم الذات لأوامر الله تعالى أي شدة الامتثال لأن أسلم بمعنى ألقى السلاح وترك المقاومة قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: من الآية20].والوجه هنا الذات عبر عن الذات بالوجه لأنه البعض الأشرف من الذات كما قال الشنفري: إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري1 ومن إطلاق الوجه على الذات قوله تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن: 27]. ----------------------------------------------- 1 مصراع بيت وتمامه: وغودر عند الملتقى ثم سائري ----------------------------------------------- وأطلق الوجه على الحقيقة تقول جاء بالأمر على وجهه أي على حقيقته قال الأعشى: وأول الحكم على وجهه . . . ليس قضاء بالهوى الجائر ووجوه الناس أشرافهم ويجوز أن يكون أسلم بمعنى أخلص مشتقا من السلامة أي جعله سالما ومنه {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]. وقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} جيء به جملة حالية لإظهار أنه لا يغني إسلام القلب وحده ولا العمل بدون إخلاص بل لا نجاة إلا بهما ورحمة الله فوق ذلك إذ لا يخلو امرؤ عن تقصير. وجمع الضمير في قوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} اعتبارا بعموم "من" كما أفرد الضمير في قوله {وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} اعتبارا بإفراد اللفظ وهذا من تفنن العربية لدفع سآمة التكرار.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:55 am | |
| [113] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. معطوف على قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: من الآية111] لزيادة بيان أن المجازفة دأبهم وأن رمى المخالف لهم بأنه ضال شنشنة قديمة فيهم فهم يرمون المخالفين بالضلال لمجرد المخالفة فقديما ما رمت اليهود النصارى بالضلال ورمت النصارى اليهود بمثله فلا تعجبوا من حكم كل فريق منهم بأن المسلمين لا يدخلون الجنة وفي ذلك إنحاء على اهـل الكتاب وتطمين لخواطر المسلمين ودفع الشبهة عن المشركين بأنهم يتخذون من طعن اهـل الكتاب في الإسلام حجة لأنفسهم على مناوأته وثباتا على شركهم. والمراد من القول التصريح بالكلام الدال فهم قد قالوا هذا بالصراحة حين جاء وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أعيان دينهم من النصارى1 فلما بلغ مقدمهم اليهود أتوهم وهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فناظروهم في الدين وجادلوهم حتى تسابوا فكفر بعيسى وبالإنجيل وقالوا للنصارى ما أنتم على شيء فكفر وفد نجران بموسى وبالتوراة وقالوا لليهود لستم على شيء. ----------------------------------------------- 1 نجران بفتح النون وسكون الجيم قبيلة من عرب اليمن كانوا ينزلون قرية كبيرة تسمى نجران بين اليمن واليمامة وهم على دين النصرانية ولهم الكعبة اليمانية المشهورة وهي كنيستهم التي ذكرها الأعشى في شعره. وقد وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم في ستين رجلا عليهم اثنا عشر نقيبا ورئيسهم السيد وهو عبد المسيح وأمين الوفد العاقب واسمه الأيهم وكان وفودهم في السنة الثانية من الهجرة. ----------------------------------------------- وقولهم: {عَلَى شَيْءٍ} نكرة في سياق النفي والشيء الموجود هنا مبالغة أي ليسوا على أمر يعتد به.فالشيء المنفي هو الشيء العرفي أو باعتبار صفة محذوفة على حد قول عباس ابن مرداس: وقد كنت في الحرب ذا تدرا . . . فلم أعط شيئا ولم أمنع أي لم أعط شيئا نافعا مغنيا بدليل قوله ولم أمنع، وسئل رسول الله عن الكهان فقال ليسوا بشيء، فالصيغة صيغة عموم والمراد بها في مجاري الكلام نفي شيء يعتد به في الغرض الجاري فيه الكلام بحسب المقامات فهي مستعملة مجازا كالعام المراد به الخصوص أي ليسوا على حظ من الحق فالمراد هنا ليست على شيء من الحق وذلك كناية عن عدم صحة ما بين أيديهم من الكتاب الشرعي فكل فريق من الفريقين رمى الآخر بأن ما عنده من الكتاب لاحظ فيه من الخير كما دل عليه قوله بعده {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} فإن قوله {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} جملة حالية جيء بها لمزيد التعجب من شأنهم أن يقولوا ذلك وكل فريق منهم يتلون الكتاب وكل كتاب يتلونه مشتمل على الحق لو اتبعه اهـله حق اتباعه ولا يخلو اهـل كتاب حق من أن يتبعوا بعض ما في كتابهم أو جل ما فيه فلا يصدق قول غيرهم أنهم ليسوا على شيء. وجيء بالجملة الحالية لأن دلالتها على الهيئة أقوى من دلالة الحال المفردة لأن الجملة الحالية بسبب اشتمالها على نسبة خبرية تفيد أن ما كان حقه أن يكون خبرا عدل به عن الخبر لادعاء أنه معلوم اتصاف المخبر عنه به فيؤتي به في موقع الحال المفردة على اعتبار التذكير به ولفت الذهن إليه فصار حالا له. وضمير قوله {هم} عائد إلى الفريقين وقيل عائد إلى النصارى لأنهم أقرب مذكور. والتعريف في "الكتاب" جعله صاحب الكشاف تعريف الجنس وهو يرمي بذلك إلى أن المقصود أنهم اهـل علم كما يقال لهم اهـل الكتاب في مقابلة الأميين، وحداه إلى ذلك قوله عقبه: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 113] فالمعنى أنهم تراجموا بالنسبة إلى نهاية الضلال وهم من اهـل العلم الذين لا يليق بهم المجازفة ومن حقهم الإنصاف بأن يبينوا مواقع الخطأ عند مخالفيهم. وجعل ابن عطية التعريف للعهد وجعل المعهود التوراة أي لأنها الكتاب الذي يقرأه الفريقان ووجه التعجيب على هذا الوجه أن التوراة هي أصل للنصرانية والإنجيل ناطق بحقيتها فكيف يسوغ للنصارى ادعاء أنها ليست بشيء كما فعلت نصارى نجران. وأن التوراة ناطقة بمجيء رسل بعد موسى فكيف ساغ لليهود تكذيب رسول النصارى. وإذا جعل الضمير عائدا للنصارى خاصة يحتمل أن يكون المعهود التوراة كما ذكرنا أو الإنجيل الناطق بأحقية التوراة وفي {يتلون} دلالة على هذا لأنه يصير التعجب مشربا بضرب من الاعتذار أعني أنهم يقرأون دون تدبر وهذا من التهكم وإلا لقال وهم يعلمون الكتاب وبهذا يتبين أن ليست هذه الآية واردة للانتصار لأحد الفريقين أو كليهما. وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أي يشبه هذا القول قول فريق آخر غير الفريقين وهؤلاء الذين لا يعلمون هم مقابل الذين يتلون الكتاب وأريد بهم مشركو العرب وهم لا يعلمون لأنهم أميون وإطلاق: {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} على المشركين وارد في القرآن من ذلك قوله الآتي: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118] بدليل قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 118] يعني كذلك قال اليهود والنصارى: والمعنى هنا أن المشركين كذبوا الأديان كلها اليهودية والنصرانية والإسلام والمقصود من التشبيه تشويه المشبه به بأنه مشابه لقول اهـل الضلال البحت. وهذا استطراد للإنحاء على المشركين فيما قابلوا به الدعوة الإسلامية أي قالوا للمسلمين مثل مقالة اهـل الكتابين بعضهم لبعض وقد حكى القرآن مقالتهم في قوله: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. والتشبيه المستفاد من الكاف في {كذلك} تشبيه في الادعاء على أنهم ليسوا على شيء والتقدير مثل ذلك القول الذي قالته اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون ولهذا يكون لفظ مثل قولهم تأكيدا لما أفاده كاف التشبيه وهو تأكيد يشير إلى أن المشابهة بين قول الذين لا يعلمون وبين قول اليهود والنصارى مشابهة تامة لأنهم لما قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قد كذبوا اليهود والنصارى والمسلمين. وتقديم الجار والمجرور على متعلقه وهو {قال} إما لمجرد الاهتمام ببيان المماثلة وإما ليغني عن حرف العطف في الانتقال من كلام إلى كلام إيجازا بديعا لأن مفاد حرف العطف التشريك ومفاد كاف التشبيه التشريك إذ التشبيه تشريك في الصفة. ولأجل الاهتمام أو لزيادته أكد قوله: {كذلك} بقوله {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} فهو صفة أيضا لمعمول قالوا المحذوف أي قالوا مقولا مثل قولهم. ولك أن تجعل كذلك تأكيدا لمثل قولهم وتعتبر تقديمه من تأخير والأول أظهر. وجوز صاحب الكشاف وجماعة أن لا يكون قوله: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أو قوله {كذلك} تأكيدا للآخر وأن مرجع التشبيه إلى كيفية القول ومنهجه في صدوره عن هوى، ومرجع المماثلة إلى المماثلة في اللفظ فيكون على كلامه تكريرا في التشبيه من جهتين للدلالة على قوة التشابه. وقوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} الآية جاء بالفاء لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والحسد متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها وهو خبر مراد به التوبيخ والوعيد والضمير المجرور بإضافة بين راجع إلى الفرق الثلاث وما كانوا فيه يختلفون يعم ما ذكر وغيره والجملة تذييل.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:20 am | |
| [114] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. عطف على {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] باعتبار ما سبق ذلك من الآيات الدالة على أفانين اهـل الكتاب في الجراءة وسوء المقالة أي أن قولهم هذا وما تقدمه ظلم ولا كظلم من منع مساجد الله وهذا استطراد واقع معترضا بين ذكر أحوال اليهود والنصارى لذكر مساوئ المشركين في سوء تلقيهم دعوة الإسلام الذي جاء لهديهم ونجاتهم. والآية نازلة في مشركي العرب كما في رواية عطاء عن ابن عباس وهو الذي يقتضيه قوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} الآية كما سيأتي وهي تشير إلى منع اهـل مكة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الدخول لمكة كما جاء في حديث سعد بن معاذ حين دخل مكة خفية وقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بالبيت آمنا وقد أويتم الصباء، وتكرر ذلك في عام الحديبية. وقيل نزلت في بختنصر ملك أشور وغزوه بيت المقدس ثلاث غزوات أولاها في سنة 606 قبل المسيح زمن الملك يهوياقيم ملك اليهود سبي فيها جمعا من شعب إسرائيل. والثانية بعد ثمان سنين سبي فيها رؤساء المملكة والملك يهوا كين بن يهوياقيم ونهب المسجد المقدس من جميع نفائسه وكنوزه. والثالثة بعد عشر سنين في زمن الملك صدقيا فأسر الملك وسمل عينيه وأحرق المسجد الأقصى وجميع المدينة وسبي جميع بني إسرائيل وانقرضت بذلك مملكة يهوذا وذلك سنة 578 قبل المسيح وتسمى هذه الواقعة بالسبي الثالث فهو في كل ذلك قد منع مسجد بيت المقدس من أن يذكر فيه اسم الله وتسبب في خرابه. وقيل نزلت في غزو طيطس الروماني لأورشليم سنة 79 قبل المسيح فخرب بيت المقدس وأحرق التوراة وترك بيت المقدس خرابا إلى أن بناه المسلمون بعد فتح البلاد الشامية. وعلى هاتين الروايتين الأخيرتين لا تظهر مناسبة لذكرها عقب ما تقدم فلا ينبغي بناء التفسير عليهما. والوجه هو التعويل على الرواية الأولى وهي المأثورة عن ابن عباس فالمناسبة أنه بعد أن وفي اهـل الكتاب حقهم من فضح نواياهم في دين الإسلام وأهله وبيان أن تلك شنشنة متأصلة فيهم مع كل من جاءهم بما يخالف هواهم وكان قد أشار إلى أن المشركين شابهوهم في ذلك عند قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: من الآية105] عطف الكلام إلى بيان ما تفرع عن عدم ودادة المشركين نزول القرآن فبين أن ظلمهم في ذلك لم يبلغه أحد ممن قبلهم إذ منعوا مساجد الله وسدوا طريق الهدى وحالوا بين الناس وبين زيارة المسجد الحرام الذي هو فخرهم وسبب مكانتهم وليس هذا شأن طالب صلاح الخلق بل هذا شأن الحاسد المغتاظ. والاستفهام بمن إنكاري ولما كان أصل من أنها نكرة موصوفة أشربت معنى الاستفهام وكان الاستفهام الإنكاري في معنى النفي صار الكلام من وقوع النكرة في سياق النفي فلذلك فسروه بمعنى لا أحد أظلم. والظلم الاعتداء على حق الغير بالتصرف فيه بما لا يرضى به ويطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه والمعنيان صالحان هنا. وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم أتوا بظلم عجيب فقد ظلموا المسلمين من المسجد الحرام وهم أحق الناس به وظلموا أنفسهم بسوء السمعة بين الأمم. وجمع المساجد وإن كان المشركون منعوا الكعبة فقط إما للتعظيم فإن الجمع يجيء للتعظيم كقوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] وإما لما فيه من أماكن العبادة وهي البيت والمسجد الحرام ومقام إبراهيم والحطيم، وأمَّا لما يتصل به أيضا من الخيف ومنى والمشعر الحرام وكلها مساجد والإضافة على هذه الوجوه على معنى لام التعريف العهدي، وإما لقصد دخول جميع مساجد الله لأنه جمع تعرف بالإضافة ووقع في سياق منع الذي هو في معنى النفي ليشمل الوعيد كل مخرب لمسجد أو مانع من العبادة بتعطيله عن إقامة العبادات ويدخل المشركون في ذلك دخولا أوليا على حكم ورود العام على سبب خاص والإضافة على هذا الوجه على معنى لام الاستغراق ولعل ضمير الجمع المنصوب في قوله: {أَنْ يَدْخُلُوهَا} يؤيد أن المراد من المساجد مساجد معلومة لأن هذا الوعيد لا يتعدى لكل من منع مسجدا إذ هو عقاب دنيوي لا يلزم اطراده في أمثال المعاقب. والمراد من المنع منع العبادة في أوقاتها الخاصة بها كالطواف والجماعة إذا قصد بالمنع حرمان فريق من المتأهلين لها منها. وليس منه غلق المساجد في غير أوقات الجماعة لأن صلاة الفذ لا تفضل في المسجد على غيره، وكذلك غلقها من دخول الصبيان والمسافرين للنوم، وقد سئل ابن عرفة في درس التفسير عن هذا فقال: غلق باب المسجد في غير أوقات الصلاة حفظ وصيانة اهـ. وكذلك منع غير المتأهل لدخوله وقد منع رسول الله المشركين الطواف والحج ومنع مالك الكافر من دخول المسجد ومعلوم منع الجنب والحائض. والسعي أصله المشي ثم صار مجازا مشهورا في التسبب المقصود كالحقيقة العرفية نحو {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات: 22] ويعدى بفي الدالة على التعليل نحو: سعيت في حاجتك فالمنع هنا حقيقة على الرواية الأولى المتقدمة في سبب النزول والسعي مجاز في التسبب غير المقصود فهو مجاز على مجاز. وأمَّا على الروايتين الأخريين فالمنع مجاز والسعي حقيقة لأن بختنصر وطيطس لم يمنعا أحدا من الذكر ولكنهما تسببا في الخراب بالأمر بالتخريب فأفضى ذلك إلى المنع وآل إليه. وقوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} جملة مستأنفة تغني عن سؤال ناشئ عن قوله: {مَنْ أَظْلَمُ} أو عن قوله {سعى} لأن السامع إذا علم أن فاعل هذا أظلم الناس أو سمع هذه الجرأة وهي السعي في الخراب تطلب بيان جزاء من اتصف بذلك أو فعل هذا. ويجوز كونها اعتراضا بين {مَنْ أَظْلَمُ} وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}. والإشارة بأولئك بعد إجراء الأوصاف الثلاثة عليهم للتنبيه على أنهم استحضروا بتلك الأوصاف ليخبر عنهم بعد تلك الإشارة بخبرهم جديرون بمضمونه على حد ما تقدم في {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [ البقرة: 5] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الجمل ليس هو بيان جزاء فعلهم أو التحذير منه بل المقصود بيان هاته الحالة العجيبة من أحوال المشركين بعد بيان عجائب اهـل الكتاب ثم يرتب العقاب على ذلك حتى تعلم جدارتهم به وقد ذكر لهم عقوبتين دنيوية وهي الخوف والخزي وأخروية وهي العذاب العظيم. ومعنى: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} أنهم لا يكون لهم بعد هذه الفعلة أن يدخلوا تلك المساجد التي منعوها إلا وهم خائفون فإن ما كان إذا وقع أن والمضارع في خبرها تدل على نفي المستقبل وإن كان لفظ كان لفظ الماضي وأن هذه هي التي تستتر عند مجيء اللام نحو {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} فلا إشعار لهذه الجملة بمضي. واللام في قوله {لهم} للاستحقاق أي ما كان يحق لهم الدخول في حالة إلا في حالة الخوف فهم حقيقون بها وأحرياء في علم الله تعالى وهذا وعيد بأنهم قدر الله عليهم أن ترفع أيديهم من التصرف في المسجد الحرام وشعائر الله هناك وتصير للمسلمين فيكونوا بعد ذلك لا يدخلون المسجد الحرام إلا خائفين، ووعد للمؤمنين وقد صدق الله وعده فكانوا يوم فتح مكة خائفين وجلين حتى نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم من دخل المسجد الحرام فهو آمن فدخله الكثير منهم مذعورين أن يؤخذوا بالسيف قبل دخولهم. وعلى تفسير: {مَسَاجِدَ اللَّهِ} بالعموم يكون قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا} أي منعوا مساجد الله في حال أنهم كان ينبغي لهم أن يدخلوها خاشعين من الله فيفسر الخوف بالخشعية من الله فلذلك كانوا ظالمين بوضع الجبروت في موضع الخضوع فاللام على هذا في قوله {مَا كَانَ لَهُمْ} للاختصاص وهذا الوجه وإن فرضه كثير مل المفسرين إلا أن مكان اسم الإشارة المؤذن بأن ما بعده ترتب عما قبله ينافيه لأن هذا الابتغاء متقرر وسابق على المنع والسعي في الخراب. وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} استئناف ثان ولم يعطف على ما قبله ليكون مقصودا بالاستئناف اهـتماما به لأن المعطوف لكونه تابعا لا يهتم به السامعون كمال الاهتمام ولأنه يجري من الاستئناف الذي قبله مجرى البيان من المبين فإن الخزي خوف والخزي الذل والهوان وذلك ما نال صناديد المشركين يوم بدر من القتل الشنيع والأسر، وما نالهم يوم فتح مكة من خزي الانهزام. وقوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} عطفت على ما قبلها لأنها تتميم لها إذ المقصود من مجموعهما أن لهم عذابين عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة. وعندي أن نزول هذه الآية مؤذن بالاحتجاج على المشركين من سبب انصراف النبي عن استقبال الكعبة بعد هجرته فإن منعهم المسلمين من المسجد الحرام أشد من استقبال غير الكعبة في الصلاة على حد قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ اهـلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217].
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:21 am | |
| [115] {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]. لما جاء بوعيدهم ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة ونكاية المشركين بفسخ ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبين أن الأرض كلها لله تعالى وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى وتذكر نعمه وآياته العظيمة فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فأينما تولى فقد صادف رضي الله تعالى وإذا كانت وجهته الكفر والغرور والظلم فما يغنى عنه العياذ بالمواضع المقدسة بل هو فيها دخيل لا يلبث أن يقلع منها قال تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [لأنفال: 34] وقال صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل: "نحن أحق بموسى منهم". فالمراد من {الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} في الآية تعميم جهات الأرض لأنها تنقسم بالنسبة إلى مسير الشمس قسمين قسم يبتدئ من حيث تطلع الشمس وقسم ينتهي في حيث تغرب وهو تقسيم اعتباري كان مشهورا عند المتقدمين لأنه المبني على المشاهدة مناسب لجميع الناس والتقسيم الذاتي للأرض هو تقسيمها إلى شمالي وجنوبي لأنه تقسيم ينبني على اختلاف آثار الحركة الأرضية. وقد قيل إن هذه الآية إذن للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يتوجه في الصلاة إلى أية جهة شاء، ولعل مراد هذا القائل أن الآية تشير إلى تلك المشروعية لأن الظاهر أن الآية نزلت قبيل نسخ استقبال بيت المقدس إذ الشأن توالي نزول الآيات وآية نسخ القبلة قريبة الموقع من هذه، والوجه أن يكون مقصد الآية عاما كما هو الشأن فتشمل الهجرة من مكة والانصراف عن استقبال الكعبة. وتقديم الظرف للاختصاص أي أن الأرض لله تعالى فقط لا لهم، فليس لهم حق في منع شيء منها عن عباد الله المخلصين. و {وَجْهُ اللَّهِ} بمعنى الذات وهو حقيقة لغوية تقول: لوجه زيد أي ذاته كما تقدم عند قوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] وهو هنا كناية عن عمله فحيث أمرهم باستقبال بيت المقدس فرضاه منوط بالامتثال لذلك. وهو أيضا كناية رمزية عن رضاه بهجرة المؤمنين في سبيل الدين لبلاد الحبشة ثم للمدينة ويؤيد كون الوجه بهذا المعنى قوله في التذييل {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فقوله {واسع} تذييل لمدلول {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} والمراد سعة ملكه أو سعة تيسيره والمقصود عظمة الله وأنه لا جهة له وإنما الجهات التي يقصد منها رضي الله تفضل غيرها وهو عليم بمن يتوجه لقصد مرضاته وقد فسرت هذه الآية بأنها المراد بها القبلة في الصلاة.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:22 am | |
| [116] {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}. الضمير المرفوع بقالوا عائد إلى جميع الفرق الثلاث وهي اليهود والنصارى والذين لا يعلمون إشارة إلى ضلال آخر اتفق فيه الفرق الثلاث، وقد قرئ بالواو وقالوا على أنه معطوف على قوله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ] [البقرة: 113] وهي قراءة الجمهور. وقرأه ابن عامر بدون واو عطف وكذلك ثبتت الآية في المصحف الإمام الموجه إلى الشام فتكون استئنافا كأن السامع بعد أن سمع ما مر من عجائب هؤلاء الفرق الثلاث جمعا وتفريقا تسنى له أن يقول لقد أسمعتنا من مساويهم عجبا فهل انتهت مساويهم أم لهم مساو أخرى لأن ما سمعناه مؤذن بأنها مساو لا تصدر إلا عن فطر خبيثة. وقد اجتمع على هذه الضلالة الفرق الثلاث كما اتفقوا على ما قبلها، فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال المشركون الملائكة بنات الله فتكون هاته الآية رجوعا إلى جمعهم في قرن إتماما لجمع أحوالهم الواقع في قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: من الآية105] وفي قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] وقد ختمت هذه الآية بآية جمعت الفريق الثالث في مقالة أخرى وذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} إلى قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]. والقول هنا على حقيقته وهو الكلام اللساني ولذلك نصب الجملة وأريد أنهم اعتقدوا ذلك أيضا لأن الغالب في الكلام أن يكون على وفق الاعتقاد. وقوله {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} جاء بلفظ "اتخذ" تعريضا بالاستهزاء بهم بأن كلامهم لا يلتئم لأنهم أثبتوا ولدا لله ويقولون اتخذه الله. والاتخاذ الاكتساب وهو ينافي الولدية إذ الولدية تولد بدون صنع فإذا جاء الصنع جاءت العبودية لا محالة وهذا التخالف هو ما يعبر عنه في علم الجدل بفساد الوضع وهو أن يستنتج وجود الشيء من وجود ضده كما يقول قائل القتل جناية عظيمة فلا تكفر مثل الردة. وأصل هذه المقالة بالنسبة للمشركين ناشيء عن جهالة وبالنسبة لأهل الكتابين ناشئ عن توغلهما في سوء فهم الدين حتى توهموا التشبيهات والمجازات حقائق فقد ورد وصف الصالحين بأنهم أبناء الله على طريقة التشبيه وورد في كتاب النصارى وصف الله تعالى بأنه أبو عيسى وأبو الأمة فتلقفته عقول لا تعرف التأويل ولا نؤيد اعتقادها بواضح الدليل فظنته على حقيقته. جاء في التوراة في ألإصحاح 14 من سفر التثنية أنتم أولاد للرب إلهكم لا تخمشوا أجسامكم وفي إنجيل متى الإصحاح 5 طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون وفيه وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات وفي الإصحاح 6 انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها وتكرر ذلك في الأناجيل غير مرة ففهموها بسوء الفهم على ظاهر عبارتها ولم يراعوا أصول الديانة التي توجب تأويلها ألا ترى أن المسلمين لما جاءتهم أمثال هاته العبارات أحسنوا تأويلها وتبينوا دليلها كما في الحديث الخلق عيال الله. وقوله {سبحانه} تنزيه لله عن شنيع هذا القول. وفيه إشارة إلى أن الولدية نقص بالنسبة إلى الله تعالى وإن كانت كمالا في الشاهد لأنها إنما كانت كمالا في الشاهد من حيث إنها تسد بعض نقائصه عند العجز والفقر وتسد مكانه عند الاضمحلال والله منزه عن جميع ذلك فلو كان له ولد لآذن بالحدوث وبالحاجة إليه. وقوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إضراب عن قولهم لإبطاله، وأقام الدليل على الإبطال بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالجملة استئناف ابتدائي واللام للملك "وما في السماوات والأرض" أي ما هو موجود فإن السماوات والأرض هي مجموع العوالم العلوية والسفلية. وما من صيغ العموم تقع على العاقل وغيره على المجموع وهذا هو الأصح الذي ذهب إليه في المفصل واختاره الرضي. وقيل ما تغلب أو تختص بغير العقلاء ومن يختص بالعقلاء وربما استعمل كل منهما في الآخر وهذا هو المشتهر بين النحاة وإن كان ضعيفا وعليه فهم يجيبون على نحو هاته الآية بأنها من قبيل التغليب تنزيلا للعقلاء في كونهم من صنع الله بمنزلة مساوية لغيره من بقية الموجودات تصغيرا لشأن كل موجود. والقنوت الخضوع والانقياد مع خوف وإنما جاء {قانتون} بجمع المذكر السالم المختص بالعقلاء تغليبا لأنهم اهـل القنوت عن إرادة وبصيرة. والمضاف إليه المحذوف بعد كل دل عليه قوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي كل ما في السماوات والأرض أي العقلاء له قانتون وتنوين كل تنوين عوض عن المضاف إليه وسيأتي بيانه عند قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: من الآية148] في هذه السورة. وفي قوله: {لَهُ قَانِتُونَ} حجة ثالثة على انتفاء الولد لأن الخضوع من شعار العبيد أما الولد فله إدلال على الوالد وإنما يبر به ولا يقنت، فكان إثبات القنوت كناية عن انتفاء الولدية بانتفاء لازمها لثبوت مساوي نقيضه ومساوي النقيض نقيض وإثبات النقيض يستلزم نفي ما هو نقيض له. وفصل جملة {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} لقصد استقلالها بالاستدلال حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وقد استدل بها بعض الفقهاء على أن من ملك ولده أعتق عليه لأن الله تعالى جعل نفي الولدية بإثبات العبودية فدل ذلك على تنافي الماهيتين وهو استرواح حسن.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:23 am | |
| [117] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. هو بالرفع خبر لمحذوف على طريقة حذف المسند إليه لاتباع الاستعمال كما تقدم في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ} [البقرة: 18] وذلك من جنس ما يسمونه بالنعت المقطوع. والبديع مشتق من الإبداع وهو الإنشاء على غير مثال فهو عبارة عن إنشاء المنشآت على غير مثال سابق وذلك هو خلق أصول الأنواع وما يتولد من متولداتها فخلق السماوات إبداع وخلق الأرض إبداع وخلق آدم إبداع وخلق نظام التناسل إبداع، وهو فعيل بمعنى فاعل فقيل هو مشتق من بدع المجرد مثل قدر إذا صح وورد بدع بمعنى قدر بقلة أو هو مشتق من أبدع ومجيء فعيل من أفعل قليل، ومنه قول عمرو بن معد يكرب: أمن ريحانة الداعي السميع . . . يؤرقني وأصحابي هجوع1 يريد المسمع. ومنه أيضا قول كعب بن زهير: سقاك بها المأمون كأسا روية . . . فأنهلك المأمون منها وعلك أي كأسا مروية. فيكون هنا مما جاء قليلا وقد قدمنا الكلام عليه في قوله تعالى {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]. ويأتي في قوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} [البقرة: 119] وقد قيل في البيت تأويلات متكلفة والحق أنه استعمال قليل حفظ في ألفاظ من الفصيح غير قليلة مثل النذير والبشير إلا أن قلته لا تخرجه عن الفصاحة لأن شهرته تمنع من جعله غريباً. وأمَّا كونه مخالفا للقياس فلا يمنع من استعماله إلا بالنسبة إلى المولد إذا أراد أن يقيس عليه في مادة أخرى. وذهب صاحب الكشاف إلى أن بديع هنا صفة مشبهة مأخوذ من بدع بضم الدال أي كانت البداعة صفة ذاتية له بتأويل بداعة السماوات والأرض التي هي من مخلوقاته فأضيفت إلى فاعلها الحقيقي على جعله مشبها بالمفعول به وأجريت الصفة على اسم الجلالة ليكون ضميره فاعلا لفظا على نحو زيد حسن الوجه كما يقال فلان بديع الشعر، أي بديعة سماواته. ----------------------------------------------- 1 أغار الصمت بن بكر الجشمي في خيل من قيس على بني زبيد رهط عمرو فسبى الصمة بن بكر ريحانة أخت عمرو ولم يستطع عمرو افتكاكها منه فرغب من الصمة أن يردها إليه فابى وذهب بها وهي تنادي ياعمرو ياعمرو فقال عمرو هاته الأبيات وبعدها: سباها الصمة الجشمي غصبا . . . كأن بياض غرتها صديع وحالت دونها فرسان قيس . . . تكشف عن سواعدها الدروع إذا لم تستطع شيئا فدعه . . . وجاوزه إلى ما تستطيع وكله للزمان فكل خطب . . . سما لك أو سموت له ولوع هذا هو الصحيح وللروات في هذه القصة اختلافات لا يعتد بها. ----------------------------------------------- وأمَّا بيت عمرو فإنما عينوه للتنظير ولم يجوزوا فيه احتمال أن يكون السميع بمعنى المسموع لوجوه أحدهما أنه لم يرد سميع بمعنى مسموع مع أن فعيلا بمعنى مفعول غير مطرد. الثاني أن سميع وصفا للذات وهو الداعي وحكم سمع إذا دخلت على ما لا يسمع أن تصير من أخوات ظن فيلزم مجيء مفعول ثان بعد النائب المستتر وهو مفقود. الثالث أن المعنى ليس على وصف الداعي بأنه مسموع بل على وصفه بأنه مسمع أي الداعي القاصد للإسماع المعلن لصوته وذلك مؤذن بأنه داع في أمر مهم. ووصف الله تعالى ببديع السماوات والأرض مراد به أنه بديع السماوات والأرض من المخلوقات وفي هذا الوصف استدلال على نفي بنوة من جعلوه ابنا لله تعالى لأنه تعالى لما كان خالق السماوات والأرض وما فيهما. فلا شيء من تلك الموجودات اهـل لأن يكون ولدا له بل جميع ما بينهما عبيد لله تعالى كما تقدم في قوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 116] ولهذا رتب نفي الولد على كونه بديع السماوات والأرض في سورة الأنعام [10] بقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}. وقوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إلخ كشف لشبهة النصارى واستدلال على أنه لا يتخذ ولدا بل يكون الكائنات كلها بتكوين واحد وكلها خاضعة لتكوينه وذلك أن النصارى توهموا أن مجيء المسيح من غير أب دليل على أنه ابن الله فبين الله تعالى أن تكوين أحوال الموجودات من لا شيء أعجب من ذلك وأن كل ذلك راجع إلى التكوين والتقدير سواء في ذلك ما وجد بواسطة تامة أو ناقصة أو بلا واسطة قال تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فليس تخلق عيسى من أم دون أب بموجب كونه ابن الله تعالى. و"كان" في الآية تامة لا تطلب خبرا أي يقول له إيجد فيوجد والظاهر أن القول والمقول. والمسبب هنا تمثيل لسرعة وجود الكائنات عند تعلق الإرادة والقدرة بهما بأن شبه فعل الله تعالى بتكوين شيء وحصول المكون عقب ذلك بدون مهلة بتوجه الآمر للمأمور بكلمة الأمر وحصول امتثاله عقب ذلك لأن تلك أقرب الحالات المتعارفة التي يمكن القريب بها في الأمور التي لا تتسع اللغة للتعبير عنها وإلى نحو هذا مال صاحب الكشاف ونظره بقول أبي النجم: إذ قالت الأنساع للبطن ألحق . . . قدما فآضت كالفنيق المحنق1 والذي يعين كون هذا تمثيلا أنه لا يتصور خطاب من ليس بموجود بأن يكون موجودا فليس هذا التقرير الصادر من الزمخشري مبنيا على منع المعتزلة قيام صفة الكلام بذاته تعالى إذ ليس في الآية ما يلجئهم إلى اعتبار قيام صفة الكلام إذ كان يمكنهم تأويله بما تأولوا به آيات كثيرة ولذلك سكت عنه ابن المنير خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:23 am | |
| [118] {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} عطف على قوله { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} المعطوف على قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى} [البقرة: 113]. لمناسبة اشتراك المشركين واليهود والنصارى في الأقوال والعقائد الضالة إلا أنه قدم قول اهـل الكتاب في الآية الماضية وهي {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} لأنهم الذين ابتدأوا بذلك أيام مجادلتهم في تفاضل أديانهم ويومئذ لم يكن للمشركين ما يوجب الاشتغال بذلك إلى أن جاء الإسلام فقالوا مثل قول اهـل الكتاب. وجمع الكل في {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} إلا أنه لم يكن فريق من الثلاثة فيه مقتبسا من الآخر بل جميعه ناشئ من الغلو في تقديس الموجودات الفاضلة ومنشؤه سوء الفهم في العقيدة سواء كانت مأخوذة من كتاب كما تقدم في منشأ قول اهـل الكتابين: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} أم مأخوذة من أقوال قادتهم كما قالت العرب: الملائكة بنات الله. وقدم قول المشركين هنا لأن هذا القول أعلق بالمشركين إذ هو جديد فيهم وفاش بينهم. فلما كانوا مخترعي هذا القول نسب إليهم، ثم نظر بهم الذين من قبلهم وهم اليهود والنصارى. إذ قالوا مثل ذلك لرسلهم. و {لولا} هنا حرف تحضيض قصد منه التعجيز والاعتذار عن عدم الإصغاء للرسول استكبارا بأن عدوا أنفسهم أحرياء بالرسالة وسماع كلام الله تعالى وهذا مبالغة في الجهالة لا يقولها اهـل الكتاب الذين أثبتوا الرسالة والحاجة إلى الرسل. ----------------------------------------------- 1 الأنساع جمع نسع وهو الحزام الذي يشد على بطن الراحلة. ومعنى قولها للبطن ألحق أنها شدت على البطن حتى ضمر البطن والتحق بالظهر. والقدم بضم القاف وضم الدال المضي سريعا وسكنه للضرورة والفنيق؛ الفحل. والمحنق: الضامر ----------------------------------------------- وقوله: {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} أرادوا مطلق آية فالتنكير للنوعية وحينئذ فهو مكابرة وجحود لما جاءهم من الآيات وحسبك بأعظمها وهو القرآن وهذا هو الظاهر من التنكير وقد سألوا آيات مقترحات: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الاسراء: 90] الآيات وهم يحسبون أن الآيات هي عجائب الحوادث أو المخلوقات وما دروا أن الآية العلمية العقلية أوضح المعجزات لعمومها ودوامها وقد تحداهم الرسول بالقرآن فعجزوا عن معارضته وكفاهم بذلك آية لو كانوا اهـل إنصاف. وقوله: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} أي كمثل مقالتهم هذه قال الذين من قبلهم من الأمم مثل قولهم والمراد بالذين من قبلهم اليهود والنصارى فقد قال اليهود لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: من الآية55] وسأل النصارى عيسى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]. وفي هذا الكلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله ولذلك أردفت هذه الآية بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 119] الآية. ثم يجوز أن تكون جملة: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } واقعة موقع الجواب لمقالة الذين لا يعلمون وهو جواب إجمالي اقتصر فيه على تنظير حالهم بحال من قبلهم فيكون ذلك التنظير كناية عن الإعراض عن جواب مقالهم وأنه لا يستأهل أن يجاب لأنهم ليسوا بمرتبة من يكلمهم الله وليست أفهامهم بأهل لإدراك ما في نزول القرآن من أعظم آية وتكون جملة: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} تقريرا أي تشابهت عقولهم في الأفن وسوء النظر. وتكون جملة {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} تعليلا للإعراض عن جوابهم بأنهم غير اهـل للجواب لأن اهـل الجواب هم القوم الذين يوقنون وقد بينت لهم آيات القرآن بما اشتملت عليه من الدلائل، وأمَّا هؤلاء فليسوا اهـلا للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم المكابرة. ويجوز أن تكون جملة {كذلك} قال إلى آخرها معترضة بين جملة {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وبين جملة {قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ} وتجعل جملة {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ} هي الجواب عن مقالتهم والمعنى لقد أتتكم الآية وهي آيات القرآن ولكن لا يعقلها إلا الذين يوقنون أي دونكم فيكون على وزان قوله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]. ووقع الإعراض عن جواب قولهم : {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} لأنه بديهي البطلان كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21]. والقول في مرجع التشبيه والمماثلة من قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} على نحو القول في الآية الماضية {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113]. وقوله {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} تقرير لمعنى {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}، أي كانت عقولهم متشابهة في الأفن وسوء النظر فلذا اتحدوا في المقالة. فالقلوب هنا بمعنى العقول كما هو المتعارف في اللغة العربية. وقوله {تشابهت} صيغة من صيغ التشبيه وهي أقوى فيه من حروفه وأقرب بالتشبيه البليغ، ومن محاسن ما جاء في ذلك قول الصابيء: تشابه دمعي إذ جرى ومداميتي . . . فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب وفي هذه الآية جعلت اليهود والنصارى مماثلين للمشركين في هذه المقالة لأن المشركين أعرق فيها إذ هم أشركوا مع الله غيره فليس ادعاؤهم ولدا لله بأكثر من ادعائهم شركة الأصنام مع الله في الإلهية فكان اليهود والنصارى ملحقين بهم لأن دعوى الابن لله طرأت عليهم ولم تكن من أصل ملتهم وبهذا الأسلوب تأتي الرجوع إلى بيان أحوال اهـل الكتابين الخاصة بهم وذلك من رد العجز على الصدر. وجيء بالفعل المضارع في {يوقنون} لدلالته على التجدد والاستمرار كناية عن كون الإيمان خلقا لهم فأما الذين دأبهم الإعراض عن النظر والمكابرة بعد ظهور الحق فإن الإعراض يحول دون حصول اليقين والمكابرة تحول عن الانتفاع به فكأنه لم يحصل فأصحاب هذين الخلقين ليسوا من الموقنين. وتبين الآيات هو ما جاء من القرآن المعجز للبشر الذي تحدى به جميعهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله كما تقدم، وفي الحديث ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة فالمعنى قد بينا الآيات لقوم من شأنهم أن يوقنوا ولا يشككوا أنفسهم أو يعرضوا حتى يحول ذلك بينهم وبين الإيقان أو يكون المعنى قد بينا الآيات لقوم يظهرون اليقين ويعترفون بالحق لا لقوم مثلكم من المكابرين.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:24 am | |
| [119] {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119]. جملة معترضة بين حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب القصد منها تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام من أسفه على ما لقيه من اهـل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين وقد كان يود أن يؤمن به اهـل الكتاب فيتأيد بهم الإسلام على المشركين فإذا هو يلقي منهم ما لقي من المشركين أو أشد وقد قال لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم فكان لتذكير الله إياه بأنه أرسله تهدئة لخاطره الشريف وعذر له أبلغ الرسالة وتطمين لنفسه بأنه غير مسئول عن قوم رضوا لأنفسهم بالجحيم. وفيه تمهيد للتأسيس من إيمان اليهود والنصارى. وجيء بالتأكيد وإن كان النبي لا يتردد في ذلك لمزيد الاهتمام بهذا الخبر وبيان أنه ينوه به لما تضمنه من تنويه شأن الرسول. وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم بعز الحضور لمقام التكلم مع الخالق تعالى وتقدس كأن الله يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة فلذا لم يقل له إن الله أرسلك. وقوله: {بالحق} متعلق بأرسلناك. والحق هو الهدى والإسلام والقرآن وغير ذلك من وجوه القرآن والمعجزات وهي كلها ملابسة للنبيء صلى الله عليه وسلم في رسالته بعضها بملابسة التبليغ وبعضها بملابسة التأييد. فالمعنى أنك رسول الله وأن القرآن حق منزل من الله. وقوله: {بَشِيراً وَنَذِيراً} حالان وهما بزنة فعيل بمعنى فاعل مأخوذان من بشر المضاعف وأنذر المزيد فمجيئهما من الرباعي على خلاف القياس كالقول في: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: من الآية117] المتقدم آنفا وقيل البشير مشتق من بشر المخفف الشين من باب نصر ولا داعي إليه. وقوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} الواو للعطف وهو إما على جملة {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} أو على الحال في قوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} ويجوز كون الواو للحال. قرأ نافع ويعقوب بفتح الفوقية وسكون اللام على أن لا حرف نهي جازم للمضارع وهو عطف إنشاء على خبر والسؤال هنا مستعمل في الاهتمام والتطلع إلى معرفة الحال مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم لأن المعنى بالشيء المتطلع لمعرفة أحواله يكثر من السؤال عنه. أو هو كناية عن فظاعة أحوال المشركين والكافرين حتى أن المتفكر في مصير حالهم ينهى عن الاشتغال بذلك لأنها أحوال لا يحيط بها الوصف ولا يبلغ إلى كنهها العقل في فظاعتها وشناعتها، وذلك أن النهي عن السؤال يرد لمعنى تعظيم أمر المسؤول عنه نحو قول عائشة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ولهذا شاع عند اهـل العلم إلقاء المسائل الصعبة بطريقة السؤال نحو "فإن قلت" للاهتمام. وقرأه جمهور العشرة بضم الفوقية ورفع اللام على أن لا نافية اي لا يسألك الله عن أصحاب الجحيم وهو تقرير لمضمون {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} والسؤال كناية عن المؤاخذة واللوم مثل قوله صلى الله عليه وسلم "وكلكم مسؤول عن رعيته" أي لست مؤاخذا ببقاء الكافرين على كفرهم بعد أن بلغت لهم الدعوة. وما قيل أن الآية نزلت في نهيه صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه في الآخرة فهو استناد لرواية واهية ولو صحت لكان حمل الآية على ذلك مجافيا للبلاغة إذ قد علمت أن قوله {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} تأنيس وتسكين فالإتيان معه بما يذكر المكدرات خروج عن الغرض وهو مما يعبر عنه بفساد الوضع.
|
|
| |
| تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 | |
|