منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 6:10 pm

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 3139
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة البقرة
تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2202
كذا سميت هذه السورة سورة البقرة في المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وما جرى في كلام السلف، فقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه"، وفيه عن عائشة لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأهن رسول الله ثم قام فحرم التجارة في الخمر.
ووجه تسميتها أنها ذكرت فيها قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها لتكون آية ووصف سوء فهمهم لذلك، وهي مما انفردت به هذه السورة بذكره، وعندي أنها أضيفت إلى قصة البقرة تمييزا لها عن السور آل آلم~ من الحروف المقطعة لأنهم كانوا ربما جعلوا تلك الحروف المقطعة أسماء للسور الواقعة هي فيها وعرفوها بها نحو: طه، ويس، وص وفي الاتفاق عن المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنها سنام القرآن"، وسنام كل شيء أعلاه وهذا ليس علما لها ولكنه وصف تشريف.        
وكذلك قول خالد بن معدان إنها فسطاط القرآن والفسطاط ما يحيط بالمكان لإحاطتها بأحكام كثيرة.
نزلت سورة البقرة بالمدينة بالاتفاق وهي أول ما نزل في المدينة وحكى ابن حجر في شرح البخاري الاتفاق عليه، وقيل نزلت سورة المطففين قبلها بناء على أن سورة المطففين مدنية، ولا شك أن سورة البقرة فيها فرض الصيام، والصيام فرض في السنة الأولى من الهجرة، فرض فيها صوم عاشوراء ثم فرض صيام رمضان في السنة الثانية لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام سبع رمضانات أولها رمضان من العام الثاني من الهجرة.        
فتكون سورة البقرة نزلت في السنة الأولى من الهجرة في أواخرها أو في الثانية.
وفي البخاري عن عائشة ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده تعني النبي صلى الله عليه وسلم وكان بناء رسول الله على عائشة في شوال من السنة الأولى للهجرة.        
وقيل في أول السنة الثانية، وقد روى عنها أنها مكثت عنده تسع سنين فتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة وبنى بها وهي بنت تسع سنين، إلا أن اشتمال سورة البقرة على أحكام الحج والعمرة وعلى أحكام القتال من المشركين في الشهر الحرام والبلد الحرام ينبئ بأنها استمر نزولها إلى سنة خمس وسنة ست كما سنبينه عند آية {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وقد يكون ممتدا إلى ما بعد سنة ثمان كما يقتضيه قوله {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] الآيات إلى قوله {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203].        
على أنه قد قيل إن قوله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] الآية هو آخر ما نزل من القرآن، وقد بينا في المقدمة الثامنة أنه قد يستمر نزول السورة فتنزل في أثناء مدة نزولها سور أخرى.
وقد عدت سورة البقرة السابعة والثمانين في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة المطففين وقبل آل عمران.
وإذ قد كان نزول هذه السورة في أول عهد بإقامة الجامعة الإسلامية واستقلال اهـل الإسلام بمدينتهم كان من أول أغراض هذه السورة تصفية الجامعة الإسلامية من أن تختلط بعناصر مفسدة لما أقام الله لها من الصلاح سعيا لتكوين المدينة الفاضلة النقية من شوائب الدجل والدخل.
وإذ كانت أول سورة نزلت بعد الهجرة فقد عني بها الأنصار وأكبوا على حفظها، يدل لذلك ما جاء في السيرة أنه لما انكشف المسلمون يوم حنين قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: "اصرخ يا معشر الأنصار يا اهـل السمرة -يعني شجرة البيعة في الحديبية- يا اهـل سورة البقرة" فقال الأنصار: لبيك لبيك يا رسول الله أبشر.        
وفي الموطأ قال مالك إنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها، وفي صحيح البخاري: كان نصراني أسلم فقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد إلى آخر القصة.
وعدد آيها مائتان وخمس وثمانون آية عند اهـل العدد بالمدينة ومكة والشام، وست وثمانون عند اهـل العدد بالكوفة، وسبع وثمانون عند اهـل العدد بالبصرة.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 04 نوفمبر 2024, 10:38 pm عدل 3 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 6:11 pm

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2202
محتويات هذه السورة
هذه السورة مترامية أطرافها، وأساليبها ذات أفنان.        
قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقاً لتلقيبها فسطاط القرآن.        
فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان، وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها، وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، وسدى متين من فصاحة الكلمات.
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين: قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم.
وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية، وأساليب الكتب التشريعية، وأساليب التذكير والموعظة، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده وانتظارهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقع على نفوسهم فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] الآيات.
فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة "وكانوا قبل الهجرة صنفين" بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي.        
وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين ابتدئ بذكرهم، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفا المشركين الصرحاء والمنافقين لف الفريقان لفا واحدا فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف اهـل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت به أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة.        
ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة، ويلقى في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العجز على الصدر فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعاً.        
وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم، ومنة على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم، وبمزيته بعلم ما لم يعلمه اهـل الملأ الأعلى وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله، لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها.        
فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم اهـل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدى القرآن، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن اهـل الكتاب يومئذ هم اهـل العلم ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة: 40] الآيات، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى، ثم ما كان من اهـم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل، وبيان أخطائهم، لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم.        
وذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم من تعلق الحياة {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] ومحاولة العمل بالسحر {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] الخ وأذى النبي بموجه الكلام {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
ثم قرن اليهود والنصارى والمشركون في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: من الآية105] إلى قوله {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى وادعاء كل فريق أنه هو المحق {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: من الآية113] إلى {يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] ثم خص المشركون بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام وسعوا بذلك في خرابه وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام.
وانتقل بهذه المناسبة إلى فضائل المسجد الحرام، وبانيه، ودعوته لذريته بالهدى، والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية، وذكر شعائر الله بمكة، وإبكات اهـل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة، وأن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما.
ثم عاد إلى محاجة المشركين بالاستدلال بآثار صنعة الله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ} [البقرة: 164] إلخ، ومحاجة المشركين في يوم يتبرأون فيه من قادتهم، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204].
ولما قضي حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان، انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177]، ثم تفصيلا: القصاص، الوصية، الصيام، الاعتكاف، الحج، الجهاد، ونظام المعاشرة والعائلة، المعاملات المالية، والإنفاق في سبيل الله، والصدقات، والمسكرات، واليتامى، والمواريث، والبيوع والربا، والديون، والإشهاد، والرهن، والنكاح، وأحكام النساء، والعدة، والطلاق، والرضاع، والنفقات، والأيمان.
وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذييلا وفذلكة {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] الآيات.
وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سبقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا لنشاط القارئ والسامع، كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع، وتخرج بوادر الزهر عقب الرعود القوارع، من تمجيد الله وصفاته {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 255] ورحمته وسماحة الإسلام، وضرب أمثال {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] واستحضار نظائر {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} [البقرة: 74] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243] وعلم وحكمة، ومعاني الإيمان والإسلام، وتثبيت المسلمين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} [البقرة: 153] والكمالات الأصلية، والمزايا التحسينية، وأخذ الأعمال والمعاني من حقائقها وفوائدها لا من هيئاتها، وعدم الاعتداد بالمصطلحات إذا لم ترم إلى غايات {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] {وَإِخْرَاجُ اهـلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217] والنظر والاستدلال، ونظام المحاجة، وأخبار الأمم الماضية، والرسل وتفاضلهم، واختلاف الشرائع.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 6:14 pm

[1] {ألم}
تحير المفسرون في محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السور، وفي فواتح سور أخرى عدة جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية، وكان بعضها في ثاني سورة نزلت وهي {نْ وَالْقَلَمِ} [القلم: من الآية1] وأخلق بها أن تكون مثار حيرة ومصدر أقوال متعددة وأبحاث كثيرة، ومجموع ما وقع من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفا وهي نصف حروف الهجاء وأكثر السور التي وقعت فيها هذه الحروف: السور المكية عدا البقرة وآل عمران، والحروف الواقعة في السور هي ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، ه، ي، بعضها تكرر في سور وبعضها لم يتكرر وهي من القرآن لا محالة ومن المتشابه في تأويلها.
ولا خلاف أن هاته الفواتح حين ينطق بها القارئ أسماء الحروف التهجي التي ينطق في الكلام بمسمياتها وأن مسمياتها الأصوات المكيفة بكيفيات خاصة تحصل في مخارج الحروف ولذلك إنما يقول القارئ ألف لام ميم مثلا ولا يقول {ألم}.        
وإنما كتبوها في المصاحف بصور الحروف التي يتهجى بها في الكلام التي يقوم رسم شكلها مقام المنطوق به في الكلام ولم يكتبوها بدوال ما يقرأونها به في القرآن لأن المقصود التهجي بها وحروف التهجي تكتب بصورها لا بأسمائها.        
وقيل لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليه وهذا أولى إنه لأشمل للأقوال المندرجة تحتها، وإلى هنا خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة وهي كونها تلك الحروف لتبكت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها، فإن الأقوال الثاني والسابع والثامن والثاني عشر والخامس عشر والسادس عشر يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان حق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها؛ لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليها، وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال.
وعرفت اسميتها من دليلين: أحدهما اعتوار أحوال الأسماء عليها مثل التعريف حين تقول: الألف، والباء، ومثل الجمع حين تقول الجيمات، وحين الوصف حين تقول ألف ممدودة والثاني ما حكاه سيوية في كتابه: قال الخليل يوما وسأل أصحابه كيف تلفظون بالكاف التي في لك والباء التي في ضرب فقيل نقول: كاف. باء.        
فقال: إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف وقال أقول كه، وبه يعني بهاء وقعت في آخر النطق به ليعتمد عليها اللسان عند النطق إذا بقيت على حرف واحد لا يظهر في النطق به مفردا والذي يستخلص من أقوال العلماء بعد حذف متداخلة وتوحيد متشاكله يؤول إلى واحد وعشرين قولا ولشدة خفاء المراد من هذه الحروف لم أر بدا من استقصاء الأقوال على أننا نضبط انتشارها بتنويعها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول يرجع إلى أنها رموز اقتضبت من كلم أو جمل، فكانت أسرارا يفتح غلقها مفاتيح اهـل المعرفة ويندرج تحت هذا النوع ثمانية أقوال: الأول أنها علم استأثر الله تعالى به ونسب هذا إلى الخلفاء الأربعة في روايات ضعيفة ولعلهم يثبتون إطلاع الله على المقصود منها رسوله صلى الله عليه وسلم وقاله الشعبي وسفيان.
والثاني أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات لله تعالى المفتتحة بحروف مماثلة لهذه الحروف المقطعة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقاله محمد بن القرظي أو الربيع ابن أنس فالم مثلاً.        
الألف إشارة إلى أحد أو أول أو أزلي، واللام إلى لطيف، والميم إلى ملك أو مجيد، ونحو ذلك، وعلى هذا يحتاج في بيانها إلى توقيف وأنى لهم به.
الثالث أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول عليه السلام والملائكة فالم مثلا، الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، قاله الضحاك، ولا بد من توقيف في كل فاتحة منها، ولعلنا سننبه على ذلك في مواضعه،
الرابع جزم الشيخ محي الدين في الباب الثامن والتسعين والمائة في الفصل 27 منه من كنابه الفتوحات أن هاته الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للملائكة وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكتها فتصغي أصحاب تلك الأسماء إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها، فيقولون صدقت إن كان ما بعدها خبر، ويقولون هذا مؤمن حقا نطق حقا وأخبر بحق فيستغفرون له، وهذا لم يقله غيره وهو دعوى.
الخامس أنها رموز كلها لأسماء النبي صلى الله عليه وسلم وأوصافه خاصة قاله الشيخ محمد بن صالح المعروف بابن ملوكة التونسي1 في رسالة له قال إن كل حرف من حروف الهجاء في فواتح السور مكنى به عن طائفة من أسماء الكريمة وأوصافه الخاصة، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف كأحمد وأبي القاسم، واللام مكنى به عن صفاته مثل لب الوجود، والميم مكنى به عن محمد ونحوه مثل مبشر ومنذر، فكلها منادى بحرف نداء مقدر بدليل ظهور ذلك الحرف في يس.     
   
-----------------------------------------------
1 كان من الزهاد والمربين درس علوماً كثيرة وخاصة الفرائض والحساب وله شرحان على "الدرة البيضاء" توفي في تونس.
-----------------------------------------------

ولم يعز هذا القول إلى أحد، وعلق على هذه الرسالة تلميذه شيخ الإسلام محمد معاوية تعليقة أكثر فيها من التعداد، وليست مما ينثلج لمباحثه الفؤاد وهي وأصلها موجودة بخزنة جامع الزيتونة بتونس عدد 514 ويرد هذا القول التزام حذف حرف النداء وما قاله من ظهوره في يس مبني على قول من قال إن يس بمعنى يا سيد وهو ضعيف؛ لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء ولأن الشيخ نفسه عد يس بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولا لنحو الياء من {كهيعص} [مريم: 1]
القول السادس أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجمل1 قاله أبو العالية أخذا بقصة رواها ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله بن وثاب قال: جاء أبو ياسر بن أخطب وحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوا رسول الله عن الم وقالوا: هذا أجل هذه الأمة من السنين إحدى وسبعون سنة فضحك رسول الله وقال لهم "ص والمر" فقالوا اشتبه علينا الأمر فلا ندري أبا القليل نأخذ أم بالكثير اهـ.        
وليس في جواب رسول الله إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزا لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيدا لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل ومرجعها إلى المنع والمانع لا مذهب له.        
وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم فهو تعجب من جهلهم.
القول السابع أنها رموز كل حرف رمز إلى كلمة فنحو"الم" أنا الله أعلم، و"المر" أنا الله أرى، و"المص" أنا الله أعلم وأفصل.        
رواه أبو الضحى عن ابن عباس، ويوهنه أنه لا ضابط له لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرف أول الكلمة، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة أو آخرها.        
ونظروه بأن العرب قد تتكلم بالحروف المقطعة بدلا من كلمات تتألف من تلك الحروف نظما ونثرا، من ذلك قول زهير:
بالخير خيرات وإن شرفا  . . .  ولا أريد الشر إلا إن تا
أراد وإن شر فشر وأراد إلا أن تشا، فأتى بحرف من كل جملة.     
   
-----------------------------------------------
1 حساب الجمل بضم الجيم وتشديد الميم المفتوحة هو جعل أعداد لكل حرف من حروف المعجم من آحاد وعشرات ومئات وألف واحد, فإذا أريد خط رقم حسابي وضع الحرف عوضا عن الرقم وقد كان هذا الإصطلاح قديما ووسمت به عدة أناشيد من كتاب داود واشتهر ترقيم التاريخ به عند الرومان ولعله نقل إلى العرب منهم أو من اليهود.
-----------------------------------------------

وقال الآخر قرطبي
ناداهم ألا الجموا ألا تا  . . .  قالوا جميعا كلهم ألا فا
أراد بالحرف الأول ألا تركبون، وبالثاني ألا فأركبوا.        
وقال الوليد بن المغيرة عامل عثمان يخاطب عدي بن حاتم:
قلت لها قفي لنا قالت قاف  . . .  لا تحسبني قد نسيت الإيجاف1
أراد قالت وقفت.        
وفي الحديث: "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" قال شقيق: هو أن يقول أق مكان اقتل.        
وفي الحديث أيضا "كفى بالسيف شا" أي شاهدا2.        
وفي كامل المبرد من قصيدة لعلي بن عيسى القمي وهو مولد:
ولبس العجاجة والخافقات  . . .  تريك المنا برؤوس الأسل
أي تريك المنايا.        
وفي تلع من صحاح الجوهري قال لبيد:
درس المنا بمتالع فأبان  . . .  فتقادمت بالحبس فالسوبان
أراد درس المنازل.        
وقال علقمة الفحل خصائص ص 82
كأن إبريقهم ظبيى على شرف  . . .  مفدم بسبا الكتان ملثوم
أراد بسبائب الكتان.        
وقال الراجز
حين ألقت بقباء بركها  . . .  واستمر القتل في عبد الأشل
أي عبد الأشهل.        
وقول أبي فؤاد:
يدرين حندل حائر لجنوبها  . . .  فكأنما تذكى سنابكها الحبا
أراد الحباحب.        
وقال الأخطل:
أمست مناها بأرض ما يبلغها  . . .  بصاحب الهم إلا الجسرة الأجد
أراد منازلها.        

-----------------------------------------------
1 يوجد في أكثر الكتب قلت لها قفي فقالت قاف, وهو مشتمل على زحاف ثقيل.        
وفي بعض نسخ البضاوي فقالت لي وهي مصححة, وفي "الخصائص"لابن جني: قلت لها قفي لنا قالت قاف, وبعد هذا البيت:
والنشوات من معتق صاف  . . .  وعزف قينات عاينا عزاف
2 هو حديث سعد بن عبادة "كفى بالسيف شاهدا" أخرجه ابن ماجه.
-----------------------------------------------

ووقع طراز المجالس-المجلس1 للمتأخرين من هذا كثير مع التورية كقول ابن مكانس:
لم أنس بدرا زارني ليلة  . . .  مستوفزا مطلعا للخطر
فلم يقم إلا بمقدار ما  . . .  قلت له اهـلا وسهلا ومر
أراد بعض كلمة مرحبا. وقد أكثرت من شواهده توسعة في مواقع هذا الاستعمال الغريب ولست أريد بذلك تصحيح حمل حروف فواتح السور على ذلك لأنه لا يحسن تخريج القرآن عليه وليس معها ما يشير إليه مع التورية بجعل مر من المرور.
القول الثامن: أنها إشارات إلى أحوال من تزكية القلب، وجعلها في الفتوحات في الباب الثاني إيماء إلى شعب الإيمان، وحاصله أن جملة الحروف الواقعة في أوائل سور القرآن على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا والثمانية هنا هي حقيقة البضع حصل له ذلك بالكشف فيكون عدد الحروف ثمانية وسبعين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة" فهذه الحروف هي شعب الإيمان، ولا يكمل لأحد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها.        
وكيف يزعم زاعم أنها واردة في معان غير معروفة مع ثبوت تلقي السامعين لها بالتسليم من مؤمن ومعاند، ولولا أنهم فهموا منها معنى معروفا دلت عليه القرائن لسأل السائلون وتورك المعاندون.
قال القاضي أبو بكر بن العربي لولا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم بل تلا عليهم حم فصلت وص~ وغيرهما فلم ينكروا ذلك مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة قلت وقد سألوا عن أوضح من هذا فقالوا {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] ، وأما ما استشهدوا به من بيت زهير وغيره فهو من نوادر كلام العرب، ومما أخرج مخرج الألغاز والتمليح وذلك لا يناسب مقام الكتاب المجيد.
النوع الثاني: يجمع الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالا وفيه من الأقوال أربعة.

-----------------------------------------------
1 نسبه إليه المبرد في "الكامل" ص 245.        
وسيبويه في "كتابه" ص 57 جزء 2 وتبعهما المفسرون.
-----------------------------------------------

التاسع: في عداد الأقوال في أولها لجماعة من العلماء والمتكلمين واختاره الفخر أنها أسماء للسور التي وقعت فيها، قاله زيد بن أسلم ونسب لسيبويه في كتابه باب أسماء السور من أبواب مالا ينصرف أو للخليل ونسبه صاحب الكشاف للأكثر ويعضده وقوع هاته الحروف في أوائل السور فتكون هاته الحروف قد جعلت أسماء بالعلامة على تلك السور، وسميت بها كما نقول الكراسة ب والرزمة ج ونظره القفال بما سمت العرب بأسماء الحروف كما سموا لام الطائي والد حارثة، وسموا الذهب عين، والسحاب غين، والحوت نون، والجبل قاف، وأقول: وحاء قبيلة من مذحج، وقال شريح بن أوفى العنسي أو العبسي:
يذكرني حاميم والرمح شاجر  . . .  فهلا تلا حاميم قبل التقدم1
يريد {حم عسق} [الشورى: 2,1] التي فيها {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].        
ويبعد هذا القول بعدا ما إن الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى وقد وجدنا هذه الحروف مقروءة مع السور بإجماع المسلمين، على أنه يرده اتحاد هذه الحروف في عدة سور مثل آلم~ وآلر وحم.        
وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها.
القول العاشر وقال جماعة إنها أسماء للقرآن اصطلح عليها قاله الكلبي والسدي وقتادة.        
ويبطله أنه قد وقع بعد بعضها ما لا يناسبها لو كانت أسماء للقرآن، نحو {آلم غُلِبَتِ الرُّومُ}، و {آلم أَحَسِبَ النَّاسُ} [العنكبوت: 2].
القول الحادي عشر أن كل حروف مركبة منها هي اسم من أسماء الله رووا عن علي أنه كان يقول يا كهيعص يا حم عسق وسكت عن الحروف المفردة فيرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال ويبطله عدم الارتباط بين بعضها وبين ما بعده لأن يكون خبرا أو نحوه عن اسم الله مثل {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: من الآية2]، و {آلمص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [لأعراف: 2].

-----------------------------------------------
1 الضمير في يذكروني راجع لمحمد بن طلحة السجاد بن عبيد الله القرشي من بني مرة بن كعب وأراد بحم سورة الشورى لأن فيها : {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: من الآية23] فكانت دالة على قرابة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش الذين منهم محمد السجاد.
-----------------------------------------------

الثاني عشر قال الماوردي هي أفعال فإن حروف آلمص كتاب فعل ألم بمعنى نزل فالمراد {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي نزل عليكم، ويبطل كلامه أنها لا تقرأ بصيغ الأفعال على أن هذا لا يتأتى في جميعها نحو كهيعص وآلمص وآلر ولولا غرابة هذا القول لكان حريا بالإعراض عنه.
النوع الثالث تندرج فيه الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك وفيه من الأقوال:
القول الثالث عشر أن هاته الحروف أقسم الله تعالى بها كما أقسم بالقلم تنويها بها لأن مسمياتها تألفت منها أسماء الله تعالى وأصول التخاطب والعلوم قاله الأخفش، وقد وهن هذا القول بأنها لو كانت مقسما بها لذكر حرف القسم إذ لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين وبأنها قد ورد بعدها في بعض المواضع قسم نحو {نْ وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] و {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 2] قال صاحب الكشاف: وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم واحد حتى قال الخليل في قوله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2] أن الواو الثانية هي التي تضم الأسماء للأسماء أي واو العطف، والجواب عن هذا أن اختصاص الحذف باسم الجلالة مختلف فيه وأن كراهية جمع قسمين تندفع بجعل الواو التالية لهاته الفواتح واو العطف على أنهم قد جمعوا بين قسمين، قال النابغة:
والله والله لنعم الفتى الـ  . . .  ـحارث لا النكس ولا الخامل
القول الرابع عشر أنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتا للمشركين وإيقاظا لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق تعريضا بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة.        
فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزا لا معذرة لهم فيه، وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء، قال في الكشاف وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزلة، وقلت وهو الذي نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره وأن التهجي معروف عندهم للتعليم فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون
أنهم عوملوا معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ، ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته إلا في كهيعص و {آلم، أَحَسِبَ النَّاسُ} [العنكبوت: 2] ، {وآلم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه ولعله لمراعاة فصاحة الكلام، ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية وآل عمران، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي، ويؤيده أيضا الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء والهاء والراء والطاء والحاء قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتاب طلبا للخفة كما سيأتي قريبا في آخر هذا المبحث من تفسير {آلم}
القول الخامس عشر: أنها تعليم للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم الصبيان الحروف المقطعة، ثم يتعلمونها مركبة قاله عبد العزيز ابن يحيى، يعني إذ لم يكن فيهم من يحسن الكتابة إلا بعض المدن كأهل الحيرة وبعض طيء وبعض قريش وكنانة من اهـل مكة، ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور المختلفة، فكانوا بادئ الأمر اهـل كتابة لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراق بعد تبلبل الألسن، والعراق مهد القراءة والكتابة وقد أثبت التاريخ أن ضخم بن إرم أول من علم العرب الكتابة ووضع حروف المعجم التسعة والعشرين، ثم إن العرب لما بادوا أي سكنوا البادية تناست القبائل البادية بطول الزمان القراءة والكتابة، وشغلهم حالهم عن تلقي مبادئ العلوم، فبقيت الكتابة في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز، ثم لما تفرقوا بعد سيل العرم نقلوا الكتابة إلى المواطن التي نزلوها فكانت طيء بنجد يعرفون القراءة والكتابة، وهم الفرقة الوحيدة من القحطانيين ببلاد نجد ولذلك يقول اهـل الحجاز ونجد إن الذين وضعوا الكتابة ثلاثة نفر من بني بولان من طيء يريدون من الوضع أنهم علموها للعدنانيين بنجد، وكان اهـل الحيرة يعلمون الكتابة فالعرب بالحجاز تزعم أن الخط تعلموه عن اهـل الأنبار والحيرة، وقصة المتلمس في كتب الأدب تذكرنا بذلك إذ كان الذي قرأ له الصحيفة غلام من أغيلمة الحيرة.        
ولقد كان الأوس والخزرج مع أنهم من نازحة القحطانيين، قد تناسوا الكتابة إذ كانوا اهـل زرع وفروسية وحروب، فقد ورد في السير أنه لم يكن أحد من الأنصار يحسن الكتابة بالمدينة وكان في أسرى المشركين يوم بدر من يحسن ذلك فكان من لا مال له من الأسرى يفتدى بأن يعلم عشرة من غلمان اهـل المدينة الكتابة فتعلم زيد بن ثابت في جماعة، وكانت الشفاء بنت عبد الله القرشية تحسن الكتابة وهي علمتها لحفصة أم المؤمنين.        
ويوجد في أساطير العرب ما يقتضي أن اهـل الحجاز تعلموا الكتابة من اهـل مدين في جوارهم فقد ذكروا قصة وهي أن المحض ابن جندل من اهـل مدين وكان ملكا كان له ستة أبناء وهم: أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت.        
فجعل أبناءه ملوكا على بلاد مدين وما حولها فجعل أبجد بمكة وجعل هوزا وحطيا بالطائف ونجد، وجعل الثلاثة الباقين بمدين، وأن كلمنا كان في زمن شعيب وهو من الذين أخذهم عذاب يوم الظلة1 قالوا فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك ثم ألحقوا بها ثخذ وضغظ فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة تناسب عقولهم وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم اهـل مدين فألحقها اهـل الحجاز، وحقا إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور بل الموجود نصفها كما سيأتي بيانه من كلام الكشاف.
القول السادس عشر أنها حروف قصد منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك يا فتى لإيقاظ ذهن السامع قاله ثعلب والأخفش وأبو عبيدة، قال ابن عطية كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا وبل لا، قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت: إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو مشغول البال يقدم على الكلام المقصود شيئا ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك المقدم ثم يشرع في المقصود فقد يكون ذلك المقدم كلاما مثل النداء وحروف الاستفتاح، وقد يكون المقدم صوتا كمن يصفق ليقبل عليه السامع فاختار الحكيم للتنبيه حروفا من حروف التهجي لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة إذ ليس لها مفهوم فتمحضت للتنبيه على غرض مهم.

-----------------------------------------------
1 الظلة: السحابة وقد أصابتهم صواعق فذكروا أن حارثة ابنة كلمن قالت ترثي اباها:
كلمن هدم ركني  . . .  هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه الـ  . . .  ـحتف نارا وسط ظله
كونت نارا وأضحت  . . .  دار قومي مضمحلة
ومسحة التوليد ظاهرة على هاته الأبيات.
-----------------------------------------------

القول السابع عشر أنها إعجاز بالفعل وهو أن النبي الأمي الذي لم يقرأ قد نطق بأصول القراءة كما ينطق بها مهرة الكتبة فيكون النطق بها معجزة وهذا بين البطلان لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف.
القول الثامن عشر: أن الكفار كانوا يعرضون عن سماع القرآن فقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] فأوردت لهم هذه الحروف ليقبلوا على طلب فهم المراد منها فيقع إليهم ما يتلوها بلا قصد، قاله قطرب وهو قريب من القول السادس عشر.
القول التاسع عشر: أنها علامة لأهل الكتاب وعدوا بها من قبل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة.
القول العشرون: قال التبريزي علم الله أن قوما سيقولون بقدم القرآن فأراهم أنه مؤلف من حروف كحروف الكلام، وهذا وهم لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف المقطعة لقلة أصواتها.
القول الحادي والعشرون: روي عن ابن عباس أنها ثناء أثنى الله به على نفسه وهو يرجع إلى القول الأول أو الثاني.
هذا جماع الأقوال، ولا شك أن قراءة كافة المسلمين إياها بأسماء حروف الهجاء مثل ألف . لام . ميم دون أن يقرأوا ألم وأن رسمها في الخط بصورة الحروف يزيف جميع أقوال النوع الأول ويعين الاقتصار على النوعين الثاني والثالث في الجملة، على أن ما يندرج تحت ذينك النوعين متفاوت في درجات القبول، فإن الأقوال الثاني، والسابع، والثامن، والثاني عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان الحق أن ينطق بسمياتها لا بأسمائها.        
فإذا تعين هذان النوعان وأسقطنا ما كان من الأقوال المندرجة تحتمها واهيا، خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة: وهي كون تلك الحروف لتبكيت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية.        
وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها.
قال في الكشاف: ما ورد في هذه الفواتح من أسماء الحروف هو نصف أسامي حروف المعجم إذ هي أربعة عشر وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء،
والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، وهذه الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس صفات الحروف ففيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين والحاء، ومن المجهورة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون، ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف، ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون.        
ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء.        
ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والقاف، والياء، والنون.        
ومن المستعلية نصفها القاف، والصاد، والطاء.        
ومن المستفلة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون.        
ومن حروف القلقلة نصفها: القاف، والطاء.        
ثم إن الحروف التي ألغي ذكرها مكثورة بالمذكورة، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته اهـ وزاد البيضاوي على ذلك أصنافا أخرى من صفات الحروف لا نطيل بها فمن شاء فليراجعها.        
ومحصول كلامهما أنه قد قضي بذكر ما ذكر من الحروف وإهمال ذكر ما اهـمل منها حق التمثيل لأنواع الصفات بذكر النصف، وترك النصف من باب وليقس ما لم يقل لحصول الغرض وهو الإشارة إلى العناية بالكتابة، وحق الإيجاز في الكلام.        
فيكون ذكر مجموع هذه الفواتح في سور القرآن من المعجزات العلمية وهي المذكورة في الوجه الثالث من وجوه الإعجاز التي تقدمت في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
وكيفية النطق أن ينطق بها موقوفة دون علامات إعراب على حكم الأسماء المسرودة إذ لم تكن معمولة لعوامل فحالها كحال الأعداد المسرودة حين تقول ثلاثه أربعه خمسه.        
وكحال أسماء الأشياء التي تملى على الجارد لها، إذ تقول مثلا: ثوب، بساط، سيف، دون إعراب، ومن أعربها كان مخطئا.        
ولذلك نطق القراء بها ساكنة سكون الموقوف عليه فما كان منها صحيح الآخر نطق به ساكنا نحو ألف، لام، ميم.
وما كان من أسماء الحروف ممدود الآخر نطق به في أوائل السور ألفا مقصورا لأنها مسوقة مساق المتهجي بها وهي في حالة التهجي مقصورة طلبا للخفة لأن التهجي إنما يكون غالبا لتعليم المبتدئ، واستعمالها في التهجي أكثر فوقعت في فواتح السور مقصورة لأنها على نمط التعديد أو مأخوذة منه.
ولكن الناس قد يجعلون فاتحة إحدى السور كالاسم لها فيقولون قرأت {كهيعص} كما يجعلون أول كلمة من القصيدة اسما للقصيدة فيقولون قرأت قفا نبك و بانت سعاد فحينئذ قد تعامل جملة الحروف الواقعة في تلك الفاتحة معاملة كلمة واحدة فيجري عليها من الإعراب ما هو لنظائر تلك الصيغة من الأسماء فلا يصرف حاميم كما قال شريح بن أوفى العنسي المتقدم آنفا:
يذكرني حاميم والرمح شاجر  . . .  فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وكما قال الكميت:
قرأنا لكم في آل حاميم آية  . . .  تأولها منا فقيه ومعرب
ولا يعرب {كهيعص} [مريم: 1] إذ لا نظير له في الأسماء إفرادا ولا تركيبا.        
وأما طسم فيعرب اعتراب المركب المزجي نحو حضرموت ودارا بجرد1 وقال سيبويه: إنك إذا جعلت هود اسم السورة لم تصرفها فتقول قرأت هود للعلمية والتأنيث قال لأنها تصير بمنزلة امرأة سميتها بعمرو.
ولك في الجميع أن تأتي به في الإعراب على حاله من الحكاية وموقع هاته الفواتح مع ما يليها من حيث الإعراب، فإن جعلتها حروفا للتهجي تعريضا بالمشركين وتبكيتا لهم فظاهر أنها حينئذ محكية ولا تقبل إعرابا، لأنها حينئذ بمنزلة أسماء الأصوات لا يقصد إلا صدورها فدلالتها تشبه الدلالة العقلية فهي تدل على أن الناطق بها يهيئ السامع إلى ما يرد بعدها مثل سرد الأعداد الحسابية على من يراد منه أن يجمع حاصلها، أو يطرح، أو يقسم، فلا إعراب لها مع ما يليها، ولا معنى للتقدير بالمؤلف من هذه الحروف إذ ليس ذلك الإعلام بمقصود لظهوره وإنما المقصود ما يحصل عند تعدادها من التعريض لأن الذي يتهجى الحروف لمن ينافى في حاله أن يقصد تعليمه يتعين من المقام أنه يقصد التعريض.        
وإذا قدرتها أسماء للسور أو للقرآن أو لله تعالى مقسما بها فقيل إن لها أحكاما مع ما يليها من الإعراب بعضها محتاج للتقدير الكثير، فدع عنك الإطالة بها فإن الزمان قصير.
وهاته الفواتح قرآن لا محالة ولكن اختلف في أنها آيات مستقلة والأظهر أنها ليست بآيات مستقلة بل هي أجزاء من الآيات الموالية لها على المختار من مذاهب جمهور القراء.

-----------------------------------------------
1 دار بجرد اسم بلدة بفارس مركبة من دار اسم ملك.        
واب اسم الماء وجرد بمعنى بلد فهي بفتحات ثم جيم مكسورة.
-----------------------------------------------

وروى عن قراء الكوفة أن بعضها عدوه آيات مستقلة وبعضها لم يعدوه وجعلوه جزء آية مع ما يليه، ولم يظهر وجه التفصيل حتى قال صاحب الكشاف إن هذا لا دخل للقياس فيه.
والصحيح عن الكوفيين أن جميعها آيات وهو اللائق بأصحاب هذا القول إذ التفصيل تحكم؛ لأن الدليل مفقود.        
والوجه عندي أنها آيات لأن لها دلالة تعريضية كنائية إذ المقصود إظهار عجزهم أو نحو ذلك فهي تطابق مقتضى الحال مع ما يعقبها من الكلام ولا يشترط في دلالة الكلام على معنى كنائي أن يكون له معنى صريح بل تعتبر دلالة المطابقة في هذه الحروف تقديرية إن قلنا باشتراط ملازمة دلالة المطابقة لدلالة الالتزام.        
ويدل لإجراء السلف حكم أجزاء الآيات عليها أنهم يقرأونها إذا قرأوا الآية المتصلة بها، ففي جامع الترمذي في كتاب التفسير في ذكر سبب نزول سورة الروم.        
فنزلت {وآلم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] وفيه أيضا فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {وآلم غُلِبَتِ الرُّومُ} وفي سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام عنه فقرأ رسول الله على عتبة بن ربيعة {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ قوله {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] الحديث.
وعلى هذا الخلاف اختلف في إجزاء قراءتها في الصلاة عند الذين يكتفون في قراءة السورة مع الفاتحة بآية واحدة مثل أصحاب أبي حنيفة.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 6:21 pm

[2] {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
{ذَلِكَ الْكِتَابُ}
مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف {الم} كما علمت مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر.        
وقد جوز صاحب الكشاف على احتمال أن تكون حروف {الم} مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن، أن يكون اسم الإشارة مشارا به إلى {الم} باعتباره حرفا مقصودا للتعجيز، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتاب أي منها تراكيبه فما أعجز كم عن معارضته، فيكون {الم} جملة مستقلة مسوقة للتعريض.
واسم الإشارة مبتدأ والكتاب خبرا.        
وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لديهم يومئذ.        
واسم الإشارة مبتدأ والكتاب بدل وخبره ما بعده، فالإشارة إلى الكتاب النازل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به، فيكون الكتاب على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كتب بالفعل، ويكون قوله الكتاب على هذا الوجه خبرا عن اسم الإشارة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله نترقب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله الكتاب حينئذ بدلا أو بيانا من {ذَلِكَ} والخبر هو {لا رَيْبَ فِيهِ}.
ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد، قال الرضى1 وضع اسم الإشارة للحضور والقرب لأنه للمشار إليه حسا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول: "والله وذلك قسم عظيم"، لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارة بلفظ الحضور فتقول: وهذا قسم عظيم اهـ، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر، وعكس ذلك في الإشارة للقول.
وابن مالك في التسهيل سوى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال: وقد يتعاقبان أي اسم القريب والبعيد مشارا بهما إلى ما ولياه أي من الكلام، ومثله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58]
ثم قال {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة.        
وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثل الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضا، ففي القرآن: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالا لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد

-----------------------------------------------
1 "شرح كافية ابن الحاجب" صفحة 32 جزء 2 طبع الآستانة. 

-----------------------------------------------
مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا، وكما قال خفاف بن ندبة1:
أقول له والرمح يأطر متنه  . . .  تأمل خفافا إنني أنا ذلك2
وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخطيم في الحماسة:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة  . . .  لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة.        
وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على اهـله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صونا له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في {آلم} كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهجر القول كقولهم {افْتَرَاهُ} [يونس: 38] وقولهم {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25].        
ولا يرد على هذا قوله {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنعام: 92] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي اهـله لترغيبهم في العكوف عليه والاتعاظ بأوامره ونواهيه.        
ولعل صاحب الكشاف بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعد {ذَلِكَ الْكِتَابُ} تنبيها على التعظيم أو الاعتبار، فلله در صاحب المفتاح إذ لم يغفل ذلك فقال في مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة: أو أن يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عز وعلا {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} ذهابا إلى بعده درجة.

-----------------------------------------------
1 خفاف بضم الخاء وتخفيف الفاء هو خفاف بن عمير وأمه ندبة أمة سوداء.        
وهي بفتح النون.        
وخفاف أحد فرسان العرب وشعرائهم ممن لقب بالغراب, وأغربة العرب سودانهم وهم خمسة جاهليون, وثمانية مسلمون, فأما الجاهليون فهم: عنترة, وخفاف, وأبو عمير بن الحباب, وسليك بن السلكة, وهشام بن عقبة بن أبي معيط, فخفاف وهشام أدركا الإسلام وعدا في الصحابة وشهد خفاف فتح مكة وأبلى البلاء الحسن.        
وأما الأغربة المسلمون فهم : تأبط شرا والشنفرى – عمرو بن براقة – وعبد الله بن حازم, وعمير بن أبي عمير, وهمام بن مطرف ومنتشر بن وهب, ومطر بن أبي أوفى, وحاجز بحاء ثم زاي معجمة غير منسوب.
2 يأطر مضارع أطر كنصر وضرب, بمعنى أحنى وكسر قال طرفة: "وأطر قسي فوق صلب مؤيد". 

-----------------------------------------------
وقوله {الْكِتَابُ} يجوز أن يكون بدلا من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته، فالتعريف فيه إذن للعهد، ويكون الخبر هو جملة {لا رَيْبَ فِيهِ} ويجوز أن يكون {الْكِتَابُ} خبرا عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجزئين فهو إذن قصر ادعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصف الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه آلم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغوا بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال.
والكتاب فعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتب المصوغ للمبالغة في الكتابة، فإن المصدر يجيء بمعنى المفعول كالخلق، وإما فعال بمعنى مفعول كلباس بمعنى ملبوس وعماد بمعنى معمود به.
واشتقاقه من كتب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتابا، وتسمية القرآن كتابا إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه.        
وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين.
{لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريبا.        
والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس، وريب الزمان وريب المنون نوائب ذلك، قال الله تعالى {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بجعل ما أوجب الشك في حاله فهو متعد، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لحق وألحق، وزلقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قربه من أن يشك قاله أبو زيد، وعلى التفرقة بينهما قال بشار:
أخوك الذي إن ربته قال إنما  . . .  أربت وإن عاتبته لان جانبه1

-----------------------------------------------
1 أي إن فعلت معه ما يوجب شكه في مودتك راجع نفسه.        

-----------------------------------------------
وقال: إنما قربني من الشك ولم أشك فيه.
أي التمس لك العذر.
وفي الحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح.
ولم يختلف متواتر القراء في فتح {لا رَيْبَ} نفيا للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفع لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كانت الإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى الحروف المجتمعة في: {آلم} على إرادة التعريض بالمتحدين وكان قوله: {الْكِتَابُ} خبرا لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله: {لا رَيْبَ} نفيا لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفا من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء، فتكون جملة {لا رَيْبَ} منزلة منزلة التأكيد لمفاد الإشارة في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله: {فِيهِ} متعلقا بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله: {فِيهِ} وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7] وقوله {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 9] ويجوز أن يكون قوله فيه ظرفا مستقرا خبرا لقوله بعده: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ومعنى "في" هو الظرفية المجازية العرفية تشبيها لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت: 26] استنزالا لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر" "إنك امرؤ فيك جاهلية" ويكون خبر "لا" محذوفا لظهوره أي لا ريب موجود، وحذف الخبر مستعمل كثيرا في أمثاله نحو {قَالُوا لا ضَيْرَ} [الشعراء: 50] وقول العرب لا بأس، وقول سعد بن مالك:
من صد عن نيرانها  . . .  فأنا ابن قيس لا براح
أي لا بقاء في ذلك، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله {لا رَيْبَ} وفي الكشاف أن نافعا وعاصما وقفا على قوله: {رَيْبَ}
وإن كانت الإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى {الْكِتَابُ} باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله الكتاب بدلا من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله: {فِيهِ} ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله، والوقف على قوله: {فِيهِ} فيه معنى نفى وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفى الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجيء خطابهم
بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فارتيابهم واقع مشتهر، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم.        
قال صاحب المفتاح: ويقلبون القضية1 مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام: الإسلام حق وقوله عز وجل في حق القرآن: {لا رَيْبَ فِيهِ} وكم من شقي مرتاب فيه وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملا في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلا على طريقة التمثيل.
ومن المفسرين من فسر قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتيابا في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازا في سببه ويكون المجرور ظرفا مستقرا خبر "لا" فينظر إلى قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] أي أن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين، من كلام يناقض بعضه بعضا أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبر فيه المتدبر وجده مفيدا اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة.
وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغنى عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي اهـل الكتاب يومئذ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للأخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر، هذا أساطير الأولين، يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنت ساكت: هذا الكلام صواب تعرض بغيره.

-----------------------------------------------
1 أي قضية التأكيد للخبر الموجه إلى منكر مضمون الخبر. 

-----------------------------------------------

وبهذا الوجه أيضا يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على {فِيهِ} ولدى من وقف على {رَيْبَ}، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفا أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة، وقد ذكر الكشاف أن الظرف وهو قوله {فِيهِ} لم يقدم على المسند إليه وهو {رَيْبَ}، أي على احتمال أن يكون خبرا عن اسم لا كما قدم الظرف في قوله {لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتابا آخر فيه الريب اهـ.        
يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيدا أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا.        
وليس الحصر في قوله {لا رَيْبَ فِيهِ} بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدين بالقرآن وليسوا من اهـل كتاب حتى يرد عليهم.        
وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دعوا إلى معارضته فعجزوا.        
نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآن لعلو شأنه بين نظرائه من الكتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلا من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدل المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها.        
والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها.        
وقد بنى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفى وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفي القصر، وأمثلة صاحب المفتاح في تقديم المسند للاختصاص سوى فيها بين ما جاء بالإثبات وما جاء بالنفي.        
وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272].
وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها.
وقوله {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} الهدى اسم مصدر الهدى ليس له نظير في لغة العرب إلا سرى وتقى وبكى ولغى مصدر لغى في لغة قليلة.        
وفعله هدى هديا يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]
والهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هدى مرادفا لدل ولأن المفهوم من الهدى الدلالة الكاملة وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي.        
وهو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري من خلق الله تعالى في قلب الموفق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدى يوصل الهداية الشرعية.
فالقرآن هدى ووصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد.
والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل.        
وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون، وهذا معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية.        
وتفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ}.        
ومحل "هدى" إن كان هو صدر جملة أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف هو ضمير الكتاب فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كان هو عين الهدى تنبيها على رجحان هداه على هدى ما قبله من الكتب، وإن كان الوقف على قوله: {لا رَيْبَ} وكان الظرف هو صدر الجملة الموالية وكان قوله: {هُدىً} مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخبارا بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجه المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى.
والمتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر، والمراد هنا المتقين الله، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرئ عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا.
والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهرا وباطنا أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجبا غضبه وعقابه، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم.
والمراد من الهدى ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله هذا هو الظاهر، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4]
وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة:
الأول: أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق.        
والمتقون هم المتقون في الحال أيضا لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا، أي أن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب، أو يزيده هدى كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهـتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]
الثاني: أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحا للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهـتدوا به.        
وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل، إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب.
الثالث: أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في {هُدىً} لأن المصدر لا يدل على زمان معين.
حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وصف باسم الفاعل فقيل هاد للمتقين، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين.        
ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة.        
ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين.        
وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم.        
وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: من الآية16] فإن قصر بأحد سعيه عن كمال الانتفاع به، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية، ولا يزال اهـل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن.
وتلتئم الجمل الأربع كمال الالتئمام: فإن جملة {الم} تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم.
وجملة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب، فذلك
موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامهم، وهو بالغ حد الكمال من بين الكتب، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأن منحتموه فإنكم تعدون أنفسكم أفضل الأمم، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} إلى قوله: {وَرَحْمَةً}، وموجه إلى اهـل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه.
وجملة {لا رَيْبَ} أن كان الوقف على قوله: {لا رَيْبَ} تعريض بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي أن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة، وأن لا ريب فإنه الكتاب الكامل، وإن كان الوقف على قوله: {فِيهِ} كان تعريضا بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82].
وقال في الكشاف ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذات جزالة: ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر- وهو الهدى- موضع الوصف وإيراده منكرا والإيجاز في ذكر المتقين ا.هـ
فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير، وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات.        
قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهـتماما بشأنها.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 6:25 pm

[3] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}
يتعين أن يكون كلاما متصلا بقوله: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] على أنه صفة لإرداف صفتهم الإجمالية بتفصيل يعزف به المراد، ويكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين، فقد كانوا قبل الهجرة صنفا مؤمنين وصنفا كافرين مصارحين، فزاد بعد الهجرة صنفان: هما المنافقون وأهل الكتاب، فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام الأولون، والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر، وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام، فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفوا مع المنافقين وظاهروا المشركين.        
وقد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان: فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين وكان القرآن هدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]
الخ فالمثني عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة، فوائل بن حجر مثلا لما جاء من اليمن راغبا في الإسلام هو من المتقين، ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعا في الملك هو من غير المتقين.        
وفريق آخر يجيء ذكره بقوله {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] الآيات.
وقد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة، ولذلك وصفهم بقوله {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدد إيذانا بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن.
وجوز صاحب الكشاف كونه كلاما مستأنفا مبتدأ وكون {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً} خبره.        
وعندي أنه تجويز لما لا يليق، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر، وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع، وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما، وإلا كان تقصيرا من الخطيب والمتكلم لا سيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن.
والغيب مصدر بمعنى الغيبة {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94] وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة  . . .  من آل لام بظهر الغيب تأتيني
وفي الحديث: "دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة".        
والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صريحا بأنه واقع أو سيقع مثل وجود الله، وصفاته، ووجود الملائكة، والشياطين، وأشراط الساعة، وما أستأثر الله بعلمه.        
فإن فسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفا مستقرا فالوصف تعريض بالمنافقين، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية، كانت الباء متعلقة بيؤمنون، فالمعنى حينئذ: الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك.        
وفي حديث الإيمان "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره".        
وهذه كلها من عوالم الغيب، كان الوصف تعريضا بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] فجمع هذا الوصف بالصراحة ثناء على المؤمنين، وبالتعريض ذما للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب، وذما للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر، وسيعقب هذا التعريض بصريح وصفهم في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] الآيات، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8].        
ويؤمنون معناه يصدقون، وآمن مزيد أمن وهمزته المزيدة دلت على التعدية، فأصل آمن تعدية أمن ضد خاف فآمن معناه جعل غيره آمنا ثم أطلقوا آمن على معنى صدق ووثق حكى أبو زيد عن العرب ما آمنت أن أجد صحابة يقوله المسافر إذا تأخر عن السفر، فصار آمن بمعنى صدق على تقدير أنه آمن مخبره من أن يكذبه، أو على تقدير أنه آمن نفسه من أن تخاف من كذب الخبر مبالغة في أمن كأقدم على الشيء بمعنى تقدم إليه وعمد إليه، ثم صار فعلا قاصرا إما على مراعاة حذف المفعول لكثرة الاستعمال بحيث نزل الفعل منزلة اللازم، وإما على مراعاة المبالغة المذكورة أي حصل له الأمن أي من الشك واضطراب النفس واطمأن لذلك لأن معنى الأمن والاطمئنان متقارب، ثم إنهم يضمنون آمن معنى أقر فيقولون آمن بكذا أي أقربه كما في هذه الاية، ويضمنونه معنى اطمأن فيقولون آمن له: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75].
ومجيء صلة الموصول فعلا مضارعا لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفا، أي لا يطرأ على إيمانهم شك ولا ريبة.
وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم
العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسمون بالدهريين الذين قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا يثبتون من الغيب وجود الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك.        
والكلام على حقيقة الإيمان ليس هذا موضعه ويجيء عند قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]
{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}
الإقامة مصدر أقام الذي هو معدى قام، عدى إليه بالهمزة الدالة على الجمل، والإقامة جعلها قائمة، مأخوذ من قامت السوق إذا نفقت وتداول الناس فيها البيع والشراء وقد دل على هذا التقدير تصريح بعض اهـل اللسان بهذا المقدر.        
قال أيمن ابن خريم الانطري1:
أقامت غزالة سوق الضراب  . . .  لأهل العراقين حولا قميطا
وأصل القيام في اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا يتأتى من قعود، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة ولذلك أطلق مجازا على النشاط في قولهم قام بالأمر، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم قامت السوق وقامت الحرب، وقالوا في ضده ركدت ونامت، ويفيد في كل ما يتعلق به معنى مناسبا لنشاطه المجازي وهو من قبيل المجاز المرسل وشاع فيها حتى ساوى الحقيقة فصارت كالحقائق ولذلك صح بناء المجاز الثاني والاستعارة عليها، فإقامة الصلاة استعارة تبعية شبهت المواظبة على الصلوات والعناية بها بجعل الشيء قائما، وأحسب أن تعليق هذا
-----------------------------------------------
1 أيمن بن خريم بالخاء المعجمة المضموعة والراء المفتوحة من قصيدة يحرض اهـل العراق على قتال الخوارج, ويذكر غزالة بنت طريف زوجة شبيب الخارجي كانت تولت قيادة الخوارج بعد قتل زوجها وحاربت الحجاج عاما كاملا ثم قتلت وأول قصيدة:
أبى الجبناء من اهـل العراق  . . .  على الله والناس إلا سقوطا

-----------------------------------------------
الفعل بالصلاة من مصطلحات القرآن وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله فقد ورد في سورة المزمل[20] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وهي ثالثة السور نزولا.        
وذكر صاحب الكشاف وجوها أخر بعيدة عن مساق الآية.
وقد عبر هنا بالمضارع كما وقع في قوله {يُؤْمِنُونَ} ليصلح ذلك للذين أقاموا الصلاة فيما مضى وهم الذين آمنوا من قبل نزول الآية، والذين هم بصدد إقامة الصلاة وهم الذين يؤمنون عند نزول الآية، والذين سيهتدون إلى ذلك وهم الذين جاءوا من بعدهم إذ المضارع صالح لذلك كله لأن من فعل الصلاة في الماضي فهو يفعلها الآن وغدا، ومن لم يفعلها فهو إما يفعلها الآن أو غدا وجميع أقسام هذا النوع جعل القرآن هدى لهم.        
وقد حصل من إفادة المضارع التجدد تأكيد ما دل عليه مادة الإقامة من المواظبة والتكرر ليكون الثناء عليهم بالمواظبة على الصلاة أصرح.
والصلاة اسم جامد بوزن فعله محرك العين "صلوة" ورد هذا اللفظ في كلام العرب بمعنى الدعاء كقول الأعشى:
تقول بنتي وقد يممت مرتحلا  . . .  يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي  . . .  جفنا فإن لجنب المرء مضطجعا
وورد بمعنى العبادة في قول الأعشى:
يراوح من صلوات المليك  . . .  طورا سجودا وطورا جؤارا1
فأما الصلاة المقصودة في الآية فهي العبادة المخصوصة المشتملة على قيام وقراءة وركوع وسجود وتسليم.        
قال ابن فارس كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونقلت ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات، ومما جاء في الشرع الصلاة وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود وإن لم يكن على هاته الهيأة قال النابغة:
أو درة صدفية غواصها  . . .  بهج متى يرها يهل ويسجد2

-----------------------------------------------
1 عائد إلى أيبلي في قوله قبله:
وما أيبلي على هيكل  . . .  بناه وصلب فيه وصارا
والأيبلي الراهب
2 يهل: أي يرفع صوته فرحا بما أتيح له ويسجد شكرا لله تعالى. 

-----------------------------------------------
وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد والمواقيت اهـ.
قلت لا شك أن العرب عرفوا الصلاة والسجود والركوع وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام فقال {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [ابراهيم: 37] وقد كان بين ظهرانيهم اليهود يصلون أي يأتون عبادتهم بهيأة مخصوصة، وسموا كنيستهم صلاة، وكان بينهم النصارى وهم يصلون وقد قال النابغة في ذكر دفن النعمان بن الحارث الغساني:
فآب مصلوه بعين جلية  . . .  وغودر بالجولان حزم ونايل1
على رواية مصلوه بصاد مهملة أراد المصلين عليه عند دفنه من القسس والرهبان، إذ قد كان منتصرا ومنه البيت السابق.        
وعرفوا السجود.
قال النابغة:
أو درة صدفية غواصها  . . .  بهج متى يرها يهل ويسجد
وقد تردد أئمة اللغة في اشتقاق الصلاة، فقال قوم مشتقة من الصلا وهو عرق غليظ في وسط الظهر ويفترق عند عجب الذنب فيكتنفه فيقال حينئذ هما صلوان، ولاما كان المصلي إذا انحنى للركوع ونحوه تحرك ذلك العرق اشتقت الصلاة منه كما يقولون أنف من كذا إذا شمخ بأنفه لأنه يرفعه إذا اشمأز وتعاظم فهو من الاشتقاق من الجامد كقولهم استنوق الجمل وقولهم تنمر فلان، وقولها: "زوجي إذا دخل فهد وإذا خرج أسد"2 والذي دل على هذا الاشتقاق هنا عدم صلوحية غيره فلا يعد القول به ضعيفا لأجل قلة الاشتقاق من الجوامد كما توهمه السيد.
وإنما أطلقت على الدعاء لأنه يلازم الخشوع والانخفاض والتذلل، ثم اشتقوا من الصلاة التي هي اسم جامد صلى إذا فعل الصلاة واشتقوا صلى من الصلاة كما اشتقوا صلى الفرس إذا جاء معاقبا للمجلي في خيل الحلبة، لأنه يجيء مزاحما له في السبق،

-----------------------------------------------
1 روى مصلوه بالصاد فقال في "شرح ديوانه" إن معناه رجع الرهبان الذين صلوا عليه صلاة الجنازة وروى بالضاد المعجمة ومعناه دافنوه أي رجع الذين أضلوه أي غيبوه في الأرض قال تعالى {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]
2 في حديث أم زرع. 

-----------------------------------------------
واضعا رأسه على صلا سابقه واشتقوا منه المصلى اسما للفرس الثاني في خيل الحلبة، وهذا الرأي في اشتقاقها مقتضب من كلامهم وهو الذي يجب اعتماده إذ لم يصلح لأصل اشتقاقها غير ذلك.        
وما أورده الفخر في التفسير أن دعوى اشتقاقها من الصلوين يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين اهـل النقل، فإذا جوزنا أنه خفي واندرس حتى لا يعرفه إلا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ فلا نقطع بان مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر منها إلى أفهامنا في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعان أخر خفيت علينا اهـ يرده أنه لا مانع من أن يكون لفظ مشهور منقولا من معنى خفي لأن العبرة في الشيوع بالاستعمال وأما الاشتقاق فبحث علمي ولهذا قال البيضاوي واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه.
ومما يؤيد أنها مشتقة من هذا كتابتها بالواو في المصاحف إذ لولا قصد الإشارة إلى ما اشتقت منه ما كان وجه لكتابتها بالواو وهم كتبوا الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى الأصل.        
وأما قول الكشاف وكتابتها بالواو على لفظ المفخم أي لغة تفخيم اللام يرده أن ذلك لم يصنع في غيرها من اللامات المفخمة.
ومصدر صلى قياسه التصلية وهو قليل الورود في كلامهم.        
وزعم الجوهري أنه لا يقال صلى تصلية وتبعه الفيروزابادي، والحق أنه ورد بقلة في نقل ثعلب في أماليه.
وقد نقلت الصلاة في لسان الشرع إلى الخضوع بهيأة مخصوصة ودعاء مخصوص وقراءة وعدد.        
والقول بأن أصلها في اللغة الهيئة في الدعاء والخضوع هو أقرب إلى المعنى الشرعي وأوفق بقول القاضي أبي بكر ومن تابعه بنفي الحقيقة الشرعية، وأن الشرع لم يستعمل لفظا إلا في حقيقته اللغوية بضميمة شروط لا يقبل إلا بها.        وقالت المعتزلة الحقائق الشرعية موضوعة بوضع جديد وليست حقائق لغوية ولا مجازات.        وقال صاحب الكشاف: الحقائق الشرعية مجازات لغوية اشتهرت في معان.        والحق أن هاته الأقوال ترجع إلى أقسام موجودة في الحقائق الشرعية.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله؛ لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجا
إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به.        
ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالا لأمر الله بذلك.
والرزق ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته وينال بها ملائمة، فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة في الحياة من الأطعمة والأنعام والحيوان والشجر المثمر والثياب وما يقتنى به ذلك من النقدين، قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8].        
أي مما تركه الميت وقال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الرعد: 26] وقال في قصة قارون: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} إلى قوله {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص: 82] مرادا بالرزق كنوز قارون وقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27] وأشهر استعماله بحسب ما رأيت من كلام العرب وموارد القرآن أنه ما يحصل من ذلك للإنسان، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء فهو على المجاز، كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وقوله {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37] وقوله: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} [يوسف: 37]
والرزق شرعا عند اهـل السنة كالرزق لغة إذ الأصل عدم النقل إلا لدليل، فيصدق اسم الرزق على الحلال والحرام لأن صفة الحل والحرمة غير ملتفت إليها هنا فبيان الحلال من الحرام له مواقع أخرى ولا يقبل الله إلا طيبا وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع مثل الخمر والتجارة فيها قبل تحريمها، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم.        
وخالفت المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلق المفاسد والشرور وتقديرهما، ومسألة الرزق من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين الأشاعرة والمعتزلة كمسألة الآجال، ومسألة السعر، وتمسك المعتزلة في مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب.
والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس.        
وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني الدين
بالتحريض عليه؛ فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق، للقرابة وللمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش والزكاة، وبعضه محدد وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجة وذلك مفصل في تضاعيف الأحكام الشرعية في كتب الفقه، ومن الإنفاق تطوع وهو ما فيه نفع من دعا الدين إلى نفعه.
وفي إسناده فعل "رزقنا" إلى ضمير الله تعالى وجعل مفعوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} تنبيه على أن ما يصير الرزق بسببه رزقا لصاحبه هو حق خاص له خوله الله إياه بحكم الشريعة على حسب الأسباب والوسائل التي يتقرر بها ملك الناس للأموال والأرزاق، وهو الوسائل المعتبرة في الشريعة التي اقتضت استحقاق أصحابها واستئثارهم بها بسبب الجهد مما عمله المرء بقوة بدنه التي لا مرية في أنها حقه مثل انتزاع الماء واحتطاب الحطب والصيد وجني الثمار والتقاط ما لا ملك لأحد عليه ولا هو كائن في ملك أحد، ومثل خدمته بقوته من حمل ثقل ومشى لقضاء شؤون من يؤجره وانحباس للحراسة، أو كان مما يصنع أشياء من مواد يملكها وله حق الانتفاع بها كالخبز والنسج والتجر وتطريق الحديد وتركيب الأطعمة وتصوير الآنية من طين الفخار، أو كان مما أنتجه مثل الغرس والزرع والتوليد، أو مما ابتكره بعقله مثل التعليم والاختراع والتأليف والطب والمحاماة والقضاء ونحو ذلك من الوظائف والأعمال التي لنفع العامة أو الخاصة، أو مما أعطاه إياه مالك رزق من هبات وهدايا ووصايا، أو أذن بالتصرف كإحياء الموات، أو كان مما ناله بالتعارض كالبيوع والإجارات والأكرية والشركات والمغارسة، أو مما صار إليه من مال انعدم صاحبه بكونه أحق الناس به كالإرث.        
وتملك اللقطة بعد التعريف المشروط، وحق الخمس في الركاز.        
فهذه وأمثالها مما شمله قول الله تعالى: {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}.
وليس لأحد ولا لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزق الواحد منهم لأنه لا حق لأحد في مال لم يسع لاكتسابه بوسائله وقد جاءت هند بنت عقبة زوج أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أبا سفيان رجل مسيك فهل أنفق من الذي له عيالنا فقال لها لا إلا بالمعروف أي إلا ما هو معروف أنه تتصرف فيه الزوجة مما في بيتها مما وضعه الزوج في بيته لذلك دون مسارقة ولا خلسة.
وتقديم المجرور المعمول على عامله وهو: {يُنْفِقُونَ} لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزة على النفس كقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الانسان: 8]، مع رعي فواصل الآيات على
حرف النون، وفي الإتيان بمن التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعا هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجا، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين.        
فالواجب منه ما قدرت الشريعة نصبه ومقاديره من الزكاة وإنفاق الأزواج والأبناء والعبيد، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير، ولم يشرع الإسلام وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره.        
وإنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعار المسلمين وهي الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن، ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خويصة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب، أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى أنه يتلقى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليمين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة، ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي محسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية، ولأن الزكاة أداء المال وقد علم شح النفوس قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج: 21] ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف اهـل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 6:26 pm

[4] {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]
عطف على {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: من الآية3] طائفة ثانية على الطائفة الأولى المعنية بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وهما معا قسمان للمتقين، فإنه بعد أن أخبر أن القرآن هدى للمتقين الذين آمنوا بعد الشرك وهم العرب من اهـل مكة وغيرهم ووصفهم بالذين يؤمنون بالغيب لأنهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين، ذكر فريقا آخر من المتقين وهم الذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلهية قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بمحمد، وهؤلاء هم مؤمنو اهـل الكتاب وهم يومئذ اليهود الذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد الله بن سلام، وبعض النصارى مثل صهيب الرومي ودحية الكلبي، وهم وإن شاركوا مسلمي العرب في الاهتداء بالقرآن والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة فإن ذلك كان من صفاتهم قبل مجيء الإسلام فذكرت لهم خصلة أخرى زائدة على ما وصف به المسلمون الأولون، فالمغايرة بين الفريقين هنا بالعموم والخصوص، ولما كان قصد تخصيصهم بالذكر يستلزم عطفهم وكان العطف بدون تنبيه على أنهم فريق آخر يوهم أن القرآن لا يهدي إلا الذين آمنوا بما أنزل من قبل لأن هذه خاتمة الصفات فهي مرادة فيظن أن الذين آمنوا عن شرك لا حظ لهم من هذا الثناء، وكيف وفيهم من خيرة المؤمنين من الصحابة وهم أشد اتقاء واهتداء إذ لم يكونوا اهـل ترقب لبعثة رسول من قبل فاهتداؤهم نشأ عن توفيق رباني، دفع هذا الإيهام بإعادة الموصول ليؤذن بأن هؤلاء فريق آخر غير الفريق الذي أجريت عليهم الصفات الثلاث الأول، وبذلك تبين أن المراد بأهل الصفات الثلاث الأول هم الذين آمنوا بعد شرك لوجود المقابلة.        
ويكون الموصولان للعهد، وعلم أن الذين يؤمنون بما أنزل من قبل هم أيضا ممن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة وينفق لأن ذلك مما أنزل إلى النبي، وفي التعبير بالمضارع من قوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من إفادة التجدد مثل ما تقدم في نظائره لأن إيمانهم بالقرآن حدث جديدا، وهذا كله تخصيص لهم بمزية يجب اعتبارها وإن كان التفاضل بعد ذلك بقوة الإيمان ورسوخه وشدة الاهتداء، فأبو بكر وعمر أفضل من دحية وعبد الله بن سلام.
والإنزال جعل الشيء نازلا، والنزول الانتقال من علو إلى سفل وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معان راجعة إلى تشبيه عمل بالنزول لاعتبار شرف ورفعة معنوية كما في قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} [لأعراف: 26] وقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] لأن خلق الله وعطاءه يجعل كوصول الشيء من جهة عليا لشرفه، وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعا لنزول الملك مبلغه الذي يتصل بهذا العالم نازلا من العالم العلوي قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 194,195] فإن الملك ملابس للكلام المأمور بتبليغه، وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تلقى إلى النبي بشيء وصل من مكان عال، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاما سمعه الرسول كالقرآن وكما أنزل إلى موسى وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله " وأحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال" وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم فلا تسمى إنزالا،
والمراد بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المقدار الذي تحقق نزوله من القرآن قبل نزول هذه الآية فإن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا توقع إيمانهم بما سينزل لأن ذلك لا يحتاج للذكر إذ من المعلوم أن الذي يؤمن بما أنزل يستمر إيمانه بكل ما ينزل على الرسول لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكون في أول الأمر، فإذا زالا بالإيمان أمنوا من الارتداد وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.        
فالإيمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب وهي الدلالة الأخروية فإيمانهم بما سينزل مراد من الكلام وليس مدلولا للفظ الذي هو للماضي فلا حاجة إلى دعوى تغليب الماضي على المستقبل في قوله تعالى: {بِمَا أُنْزِلَ} والمراد ما أنزل وما سينزل كما في الكشاف.
وعدى الإنزال بإلى لتضمينه معنى الوصف فالمنزل إليه غاية للنزول والأكثر والأصل أنه يعدى بحرف على لأنه في معنى السقوط كقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 3] وإذا أريد أن الشيء استقر عند المنزل عليه وتمكن منه قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57] واختيار إحدى التعديتين تفنن في الكلام.
ثم إن فائدة الإتيان بالموصول هنا دون أن يقال والذين يؤمنون بك من اهـل الكتاب الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الإسلام ككون التوراة لا تقبل النسخ وأنه يجيء في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأسر والعبودية ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} عطف صفة ثانية وهي ثبوت إيمانهم بالآخرة أي اعتقادهم بحياة ثانية بعد هذه الحياة، وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية أوصافهم لأنه ملاك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب وذلك الذي ساقهم إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأن هذا الإيقان بالآخرة من مزايا اهـل الكتاب من العرب في عهد الجاهلية فإن المشركين لا يوقنون بحياة ثانية فهم دهريون، وأما ما يحكى عنهم من أنهم كانوا يربطون راحلة الميت عند قبره ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى الموت ويزعمون أنه إذا حي يركبها فلا يحشر راجلا ويسمونها البلية فذلك تخليط بين مزاعم الشرك وما يتلقونه عن المتنصرين منهم بدون تأمل.
والآخرة في اصطلاح القرآن هي الحياة الآخرة فإن الآخرة صفة تأنيث الآخر بالمد وكسر الخاء وهو الحاصل المتأخر عن شيء قبله في فعل أو حال، وتأنيث وصف الآخرة منظور فيه إلى أن المراد إجراؤه على موصوف مؤنث اللفظ حذف لكثرة استعماله وصيرورته معلوما وهو يقدر بالحياة الآخرة مراعاة لضده وهو الحياة الدنيا أي القريبة بمعنى الحاضرة، ولذلك يقال لها العاجلة ثم صارت الآخرة علما بالغلبة على الحياة الحاصلة بعد الموت وهي الحاصلة بعد البعث لإجراء الجزاء على الأعمال.        
فمعنى {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أنهم يؤمنون بالبعث والحياة بعد الموت.
واليقين هو العلم بالشيء عن نظر واستدلال أو بعد شك سابق ولا يكون شك إلا في أمر ذي نظر فيكون أخص من الإيمان ومن العلم.        
واحتج الراغب لذلك بقوله تعالى {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6] ولذلك لا يطلقون الإيقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية وقيل هو العلم الذي لا يقبل الاحتمال وقد يطلق على الظن القوى إطلاقا عرفيا حيث لا يخطر بالبال أنه ظن ويشتبه بالعلم الجازم فيكون مرادفا للإيمان والعلم.
فالتعبير عن إيمانهم بالآخرة بمادة الإيقان لأن هاته المادة، تشعر بأنه علم حاصل عن تأمل وغوص الفكر في طريق الاستدلال لأن الآخرة لما كانت حياة غائبة عن المشاهدة غريبة بحسب المتعارف وقد كثرت الشبه التي جرت المشركين والدهريين على نفيها وإحالتها، كان الإيمان بها جديرا بمادة الإيقان بناء على أنه أخص من الإيمان، فلإيثار {يُوقِنُونَ} هنا خصوصية مناسبة لبلاغة القرآن، والذين جعلوا الإيقان والإيمان مترادفين جعلوا ذكر الإيقان هنا لمجرد التفنن تجنبا لإعادة لفظ يؤمنون بعد قوله {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وفي قوله تعالى {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} تقديم للمجرور الذي هو معمول {يُوقِنُونَ} على عامله، وهو تقديم لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة، وأرى أن في هذا التقديم ثناء على هؤلاء بأنهم أيقنوا بأهم ما يوقن به المؤمن فليس التقديم بمفيد حصرا إذ لا يستقيم معنى الحصر هنا بأن يكون المعنى أنهم يوقنون بالآخرة دون غيرها، وقد تكلف
صاحب الكشاف وشارحوه لإفادة الحصر من هذا التقديم ويخرج الحصر عن تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله وهذا غير معهود في الحصر.
وقوله: {هُمْ يُوقِنُونَ} جيء بالمسند إليه مقدما على المسند الفعلي لإفادة تقوية الخبر إذ هو إيقان ثابت عندهم من قبل مجيء الإسلام على الإجمال، وإن كانت التوراة خالية عن تفصيله والإنجيل أشار إلى حياة الروح، وتعرض كتابا حزقيال وأشعياء لذكره.        
وفي كلا التقديمين تعريض بالمشركين الدهريين ونداء على انحطاط عقيدتهم، وأما المتبعون للحنيفية في ظنهم مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل فلم يلتفت إليهم لقلة عددهم أو لأنهم ملحقون بأهل الكتاب لأخذهم عنهم كثيرا من شرائعهم بعلة أنها من شريعة إبراهيم عليه السلام.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 6:28 pm

[5] {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
{أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}
اسم الإشارة متوجه إلى {الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] الذين أجري عليهم من الصفات ما تقدم، فكانوا فريقين.        
وأصل الإشارة أن تعود إلى ذات مشاهدة معينة إلا أن العرب قد يخرجون بها عن الأصل فتعود إلى ذات مستحضرة من الكلام بعد أن يذكر من صفاتها وأحوالها ما ينزلها منزلة الحاضر في ذهن المتكلم والسامع، فإن السامع إذا وعى تلك الصفات وكانت مهمة أو غريبة في خير أو ضده صار الموصوف بها كالمشاهد، فالمتكلم يبني على ذلك فيشير إليه كالحاضر المشاهد، فيؤتي بتلك الإشارة إلى أنه لا أوضح في تشخصه، ولا أغنى في مشاهدته من تعرف تلك الصفات، فتكفي الإشارة إليها، هذا أصل الاستعمال في إيراد الإشارة بعد ذكر صفات مع عدم حضور المشار إليه.        
ثم إنهم قد يتبعون اسم الإشارة الوارد بعد تلك الأوصاف بأحكام فيدل ذلك على أن منشأ تلك الأحكام هو تلك الصفات المتقدمة على اسم الإشارة، لأنها لما كانت هي طريق الاستحضار كانت الإشارة لأهل تلك الصفات قائمة مقام الذوات المشار إليها.        
فكما أن الأحكام الواردة بعد أسماء الذوات تفيد أنها ثابتة للمسميات فكذلك الأحكام الواردة بعد ما هو للصفات تفيد أنها ثبتت للصفات، فكقوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} بمنزلة أن يقول: إن تلك الأوصاف هي سبب تمكنهم من هدي ربهم إياهم.        
ونظيره قول حاتم الطائي:
ولله صعلوك يساور همه  . . .  ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة  . . .  ولا شبعة إن نالها عد مغنما
إلى أن قال:
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه  . . .  وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما1
فقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً} جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع إذا سمع ما تقدم من صفات الثناء عليهم ترقب فائدة تلك الأوصاف، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر ضميرهم والإشارة أحسن منه وقعا لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة فقد حققه التفتزاني في باب الفصل والوصل من الشرح المطول أن الاستئناف بذكر اسم الإشارة أبلغ من الاستئناف الذي يكون بإعادة اسم المستأنف عنه.        
وهذا التقدير أظهر معنى وأنسب بلاغة وأسعد باستعمال اسم الإشارة في مثل هاته المواقع، لأنه أظهر في كون الإشارة لقصد التنويه بتلك الصفات المشار إليها وبما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم الناشئ عنها، وهذا لا يحصل إلا بجعل اسم الإشارة مبتدأ أول صدر جملة استئناف.        
فقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} رجوع إلى الإخبار عنهم بأن القرآن هدى لهم والإتيان بحرف الاستعلاء تمثيل لحالهم بأن شبهت هيئة تمكنهم من الهدى وثباتهم عليه ومحاولتهم الزيادة به والسير في طريق الخيرات بهيأة الراكب في الاعتلاء على المركوب والتمكن من تصريفه والقدرة على إراضته فشبهت حالتهم المنتزعة من متعدد بتلك الحالة المنتزعة من متعدد تشبيها ضمنيا دل عليه حرف الاستعلاء لأن الاستعلاء أقوى أنواع تمكن شيء من شيء، ووجه جعلنا إياها مؤذنة بتقدير مركوب دون كرسي أو مسطبة مثلا، لأن ذلك هو الذي تسبق إليه أفهامهم عند سماع ما يدل على الاستعلاء، إذ الركوب هو أكثر أنواع استعلائهم فهو الحاضر في أذهانهم، ولذلك تراهم حين يصرحون بالمشبه به أو يرمزون إليه ما يذكرون إلا المركوب وعلائقه، فيقولون جعل الغواية مركبا وامتطى الجهل وفي المقامة لما اقتعدت غارب الاغتراب وقالوا في الأمثال ركب متن عمياء.        
تخبط خبط عشواء.      
 
-----------------------------------------------
1 الصعلوك – بضم الصاد – أصله الفقير, ويطلق على المتلصص لأن الفقر يدعوه للتلصص عندهم لأنهم ماكانوا يرضون باكتساب ينافي الشجاعة ويكسب المذلة كالسرقة والسؤال.        
فحاتم يمدح الصعلوك الذي لا يقتصر على التلصص بل يكون بشجاعته عدة لقومه عند الحاجة.
-------------------------------------------------

وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل الغنوي:
فإن يك عامر قد قال جهلا  . . .  فإن مطية الجهل الشباب
فتكون كلمة "على" هنا بعض المركب الدال على الهيأة المشبه بها على وجه الإيجاز وأصله أولئك على مطية الهدى فهي تمثيلية تصريحية إلا أن المصرح به بعض المركب الدال لا جميعه.        
هكذا قرر كلام الكشاف فيها شارحوه والطيبي، والتحتاني والتفتزاني والبيضاوي.        
وذهب القزويني في الكشف والسيد الجرجاني إلى أن الاستعارة في الآية تبعية مقيدة بأن شبه التمسك بالهدى عند المتقين بالتمكن من الدابة للراكب، وسرى التشبيه إلى معنى الحرف وهو على، وجوز السيد وجها ثالثا وهو أن يكون هنا استعارة مكنية مفردة بأن شبه الهدى بمركوب وحرف الاستعلاء قرينة على ذلك على طريقة السكاكي في رد التبعية للمكنية.        
ثم زاد الطيبي والتفتزاني فجعلا في الآية استعارة تبعية مع التمثيلية قائلين إن مجيء كلمة على يعين أن يكون معناها مستعارا لما يماثله وهو التمكن فتكون هنالك تبعية لا محالة.
وقد انتصر سعد الدين التفتزاني لوجه التمثيلية وانتصر السيد الجرجاني لوجه التبعية.        
واشتد السيد في إنكار كونها تمثيلية ورآه جمعا بين متنافيين لأن انتزاع كل من طرفي التشبيه من أمور متعددة يستلزم تركبه من معان متعددة، كيف ومتعلق معنى الحرف من المعاني المفردة كالاستعلاء هنا؛ فإذا اعتبر التشبيه هنا مركبا استلزم أن لا يكون معنى على ومتعلق معناها مشبها به ولا مستعارا منه لا تبعا ولا أصالة، وأطال في ذلك في حاشيته للكشاف وحاشيته على المطول كما أطال السعد في حاشية الكشاف وفي المطول، وتراشقا سهام المناظرة الحادة.        
ونحن ندخل في الحكومة بين هذين العلمين بأنه لا نزاع بين الجميع أن في الآية تشبيه أشياء بأشياء على الجملة حاصلة من ثبوت الهدى للمتقين ومن ثبوت الاستعلاء على المركوب غير أن اختلاف الفريقين هو في تعيين الطريقة الحاصل بها هذا التشبيه فالأكثرون يجعلونها طريقة التمثيلية بأن يكون تشبيه تلك الأشياء حاصلا بالانتزاع والتركيب لهيئة، والسيد يجعلها طريقة التبعية بأن يكون المشبه والمشبه به هما فردان من تلك الأشياء ويحصل العلم ببقية تلك الأشياء بواسطة تقييد المفردين المشبه والمشبه به، ويجوز طريقة التمثيل وطريقة المكنية.        
فينصرف النظر هنا إلى أي الطريقتين أرجح اعتبارا وأوفى في البلاغة مقدارا.
وإلى أن الجمع بين طريقتي التمثيلية والتبعية هل يعد متناقضا في اعتبار القواعد البيانية كما زعمه السيد.        
تقرر في علم البيان أن اهـله أشد حرصا على اعتبار تشبيه الهيئة فلا يعدلون عنه إلى المفرد مهما استقام اعتباره ولهذا قال الشيخ في دلائل الإعجاز عند ذكر بيت بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
قصد تشبيه النقع والسيوف فيه بالليل المتهاوية كواكبه، لا تشبيه النقع بالليل من جانب والسيوف بالكواكب من جانب، ولذلك وجب الحكم بأن أسيافنا في حكم الصلة للمصدر أي مثار لئلا يقع في تشبيهه تفرق، فإن نصب الأسياف على أن الواو بمعنى مع لا على العطف.        
إذا تقرر هذا تبين لديك أن للتشبيه التمثيلي الحظ الأوفى عند اهـل البلاغة ووجهه أن من اهـم أغراض البلغاء وأولها باب التشبيه وهو أقدم فنونها، ولا شك أن التمثيل أخص أنواع التشبيه لأنه تشبيه هيئة بهيئة فهو أوقع في النفوس وأجلى للمعاني.
ونحن نجد اعتبار التمثيلية في الآية أرجح لأنها أوضح وأبلغ وأشهر وأسعد بكلام الكشاف، أما كونها أوضح فلأن تشبيه التمثيل منزع واضح لا كلفة فيه فيفيد تشبيه مجموع هيئة المتقين في اتصافهم بالهدى بهيئة الراكب إلخ بخلاف طريقة التبعية فإنها لا تفيد إلا تشبيه التمكن بالاستعلاء ثم يستفاد ما عدا ذلك بالتقييد.        
وأما كونها أبلغ فلأن المقام لما سمح بكلا الاعتبارين باتفاق الفريقين لا جرم كان أولاهما بالاعتبار ما فيه خصوصيات أقوى وأعز.        
وأما كونها أشهر فلأن التمثيلية متفق عليها بخلاف التبعية.        
وأما كونه أسعد بكلام الكشاف فلأن ظاهر قوله مثل أنه أراد التمثيل، لأن كلام مثله من اهـل هذه الصناعة لا تخرج فيه اللفظة الاصطلاحية عن متعارف اهـلها إلى أصل المعنى اللغوي.
فإذا صح أن التمثيلية أرجح فلننقل الكلام إلى تصحيح الجمع بينها وبين التبعية وهو المجال الثاني للخلاف بين العلامتين فالسعد والطيبي يجوزان اعتبار التبعية مع التمثيلية في الآية والسيد يمنع ذلك كما علمتم ويقول إذا كان التشبيه منتزعا من متعدد فقد انتزع كل جزء في المشبه من جزئي المشبه به وهو معنى التركيب فكيف يعتبر بعض المشبه به مستعارا لبعض المشبه فينتقض التركيب.        
وهذا الدليل ناظر إلى قول أئمة البلاغة إن أصل مفردات المركب التمثيلي أن تكون مستعملة في معانيها الحقيقية وإنما المجاز في جملة المركب أي في إطلاقه على الهيئة المشبهة، فكلام السيد وقوف عندها.        
ولكن التفتزاني لم ير مانعا من اعتبار المجاز في بعض مفردات المركب التمثيلي إذا لم يكن فيه تكلف، ولعله يرى ذلك زيادة في خصوصيات إعجاز هذه الآية، ومن شأن البليغ أن لا يفيت ما يقتضيه الحال من الخصوصيات، وبهذا تفاوتت البلغاء كما تقرر في مبحث تعريف البلاغة وحد الإعجاز هو الطرف الأعلى للبلاغة الجامع لأقصى الخصوصيات كما بيناه في موضعه وهو المختار فلما وجد في الهيئة المشبهة والهيئة المشبه بها شيئان يصلحان لأن يشبه أحدهما بالآخر تشبيها مستقلا غير داخل في تشبيه الهيئة كان حق هذا المقام تشبيه التمكن بالاستعلاء وهو تشبيه بديع وأشير إليه بكلمة على وأما غير هذين من أجزاء الهيأتين فلما لم يحسن تشبيه شيء منها بآخر ألغي التشبيه المفرد فيها إذ لا يحسن تشبيه المتقي بخصوص الراكب ولا الهدى بالمركوب فتكون "على" على هذا الوجه بعضا من المجاز المركب دليلا عليه باعتبار ومجازا مفردا باعتبار آخر.
والذي أختاره في هذه الآية أن يكون قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً} استعارة تمثيلية مكنية شبهت الحالة بالحالة وحذف لفظ المشبه به وهو المركب الدال على الركوب كأن يقال راكبين مطية الهدى وأبقى ما يدل على المشبه وهو {أُولَئِكَ} والهدى، ورمز للمركب الدال على المشبه به بشيء من لوازمه وهو لفظ {عَلَى} الدال على الركوب عرفا كما علمتم، فتكمل لنا في أقسام التمثيلية الأقسام الثلاثة: الاستعارة كما في الاستعارة المفردة فيكون التمثيل منه مجاز مرسل كاستعمال الخبر في التحسر ومنه استعارة مصرحة نحو أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ومنه مكنية كما في الآية على رأينا، ومنه تبعية كما في قول الحماسي:
وفارس في غمار الموت منغمس  . . .  إذا تألى على مكروهة صدقا
فإن منغمس تمثيل لهيئة إحاطة أسباب الموت به من كل جانب بهيئة من أحاطت به المياه المهلكة من كل جانب ولفظ منغمس تبعية لا محالة.
وإنما نكر هدى ولم يعرف باللام لمساواة التعريف والتنكير هنا إذ لو عرف لكان التعريف تعريف الجنس فرجح التنكير تمهيدا لوصفه بأنه من عند ربهم، فهو مغاير للهدى السابق في قوله {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} مغايرة بالاعتبار إذ القصد التنويه هنا بشأن الهدى وتوسلا إلى إفادة تعظيم الهدى بقرينة مقام المدح وبذكر ما يدل على التمكن فتعين قصد التعظيم.        
فقوله {مِنْ رَبِّهِمْ} تنويه بهذا الهدى يقتضي تعظيمه وكل ذلك يرجع إلى تعظيم المتصفين بالتمكن منه.
وإنما وصف الهدى بأنه من ربهم للتنويه بذلك الهدى وتشريفه مع الإشارة بأنهم بمحل العناية من الله وكذلك إضافة الرب إليهم هي إضافة تعظيم لشأن المضاف إليه
بالقرينة.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
مرجع الإشارة الثانية عين مرجع الأولى، ووجه تكرير اسم الإشارة التنبيه على أن كلتا الأثرتين جديرة بالاعتناء والتنويه، فلا تذكر إحداهما تبعا للأخرى بل تخص بجملة وإشارة خاصة ليكون اشتهارهم بذلك اشتهارا بكلتا الجملتين وأنهم ممن يقال فيه كلا القولين.
ووجه العطف بالواو دون الفصل أن بين الجملتين توسطا بين كمالي الاتصال والانقطاع لأنك إن نظرت إلى اختلاف مفهومهما وزمن حصولهما فإن مفهوم إحداهما وهو الهدى حاصل في الدنيا ومفهوم الأخرى وهو الفلاح حاصل في الآخرة كانتا منقطعتين.        
وإن نظرت إلى تسبب مفهوم إحداهما عن مفهوم الأخرى، وكون كل منهما مقصودا بالوصف كانتا متصلتين، فكان التعارض بين كمالي الاتصال والانقطاع منزلا إياهما منزلة المتوسطتين، كذا قرر شراح الكشاف ومعلوم أن حالة التوسط تقتضي العطف كما تقرر في علم المعاني، وتعليله عندي أنه لما تعارض المقتضيان تعين العطف لأنه الأصل في ذكر الجمل بعضها بعد بعض.
وقوله {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الضمير للفصل، والتعريف في المفلحون للجنس وهو الأظهر إذ لا معهود هنا بحسب ظاهر الحال، بل المقصود إفادة أن هؤلاء مفلحون، وتعريف المسند بلام الجنس إذا حمل على مسند إليه معرف أفاد الاختصاص فيكون ضمير الفصل لمجرد تأكيد النسبة، أي تأكيدا للاختصاص.        
فأما إذا كان التعريف للجنس وهو الظاهر فتعريف المسند إليه مع المسند من شأنه إفادة الاختصاص غالبا لكنه هنا مجرد عن إفادة الاختصاص الحقيقي، ومفيد شيئا من الاهتمام بالخبر، فلذلك جلب له التعريف دون التنكير وهذا مثله عبد القاهر بقولهم: هو البطل الحامي، أي إذا سمعت بالبطل الحامي وأحطت به خبرا فهو فلان.        
وإليه أشار في الكشاف هنا بقوله أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم والسكاكي لم يتابع الشيخين على هذا فعدل عنه في المفتاح ولله دره.
والفلاح: الفوز وصلاح الحال، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، والمراد به في اصطلاح الدين الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة.        
والفعل منه، أفلح أي صار ذا فلاح، وإنما اشتق منه الفعل بواسطة الهمزة الدالة على الصيرورة لأنه لا يقع حدثا قائما بالذات بل هو جنس تحف أفراده بمن قدرت له: قال في الكشاف: انظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره وتعريف المفلحين، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين {أُولَئِكَ} ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 6:31 pm

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}
هذا انتقال من الثناء على الكتاب ومتقلديه ووصف هديه وأثر ذلك الهدى في الذين اهـتدوا به والثناء عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب لما كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار الصفة التي استحق بها الثناء، ولما كان الشيء قد يقدر بضده انتقل إلى الكلام على الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه إنما كان من خبث أنفسهم إذ نبوا بها عن ذلك، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة أمورهم ويحذرون من سوء العواقب فلم يكونوا من المتقين، وكان سواء عندهم الإنذار وعدمه فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل بل كان سواء والعدم عندهم، وقد قرنت الآيات فريقين فريقا أضمر الكفر وأعلنه وهم من المشركين كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ: {الَّذِينَ كَفَرُوا} وفريقا أظهر الإيمان وهو مخادع وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا} [البقرة: من الآية8].        
وإنما قطعت هاته الجملة عن التي قبلها لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الجمل السابقة لذكر الهدى والمهتدين، وهذه لذكر الضالين فبينهما الانقطاع لأجل التضاد، ويعلم أن هؤلاء قسم مضاد للقسمين المذكورين قبله من سياق المقابلة.        
وتصدير الجملة بحرف التأكيد إما لمجرد الاهتمام بالخبر وغرابته دون رد الإنكار أو الشك؛ لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة وهو خطاب أنف بحيث لم يسبق شك في وقوعه، ومجيء "إن" للاهتمام كثير في الكلام وهو في القرآن كثير.        
وقد تكون "إن" هنا لرد الشك تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الكافرين تجعله لا يقطع الرجاء في نفع الإنذار لهم وحاله كحال من شك في نفع الإنذار، أو لأن السامعين لما أجري على الكتاب من الثناء ببلوغه الدرجة القصوى في الهداية يطمعهم أن تؤثر هدايته في الكافرين المعرضين وتجعلهم كالذين يشكون في أن يكون الإنذار وعدمه سواء فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ونزل غير الشاك منزلة الشاك.        
وقد نقل عن المبرد أن "إن" لا تأتي لرد الإنكار بل لرد الشك.
وقد تبين أن "الذين كفروا" المذكورين هنا هم فريق من المشركين الذين هم مأيوس من إيمانهم، فالإتيان في ذكرهم بالتعريف بالموصول: إما أن يكون لتعريف العهد مرادا منه قوم معهودون كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من رؤوس الشرك وزعماء العناد دون من كان مشركا في أيام نزول هذه الآية ثم من آمن بعد مثل أبي سفيان بن حرب وغيره من مسلمة الفتح، وإما أن يكون الموصول لتعريف الجنس المفيد للاستغراق على أن المراد من الكفر أبلغ أنواعه بقرينة قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} فيكون عاما مخصوصا بالحس لمشاهدة من آمن منهم أو يكون عاما مرادا به الخصوص بالقرينة وهذان الوجهان هما اللذان اقتصر عليهما المحققون من المفسرين وهما ناظران إلى أن الله أخبر عن هؤلاء بأنهم لا يؤمنون فتعين أن يكونوا ممن تبين بعد أنه مات على الكفر.
ومن المفسرين من تأول قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} على معنى الذين قضي عليهم بالكفر والشقاء ونظره بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96] وهو تأويل بعيد من اللفظ وشتان بينه وبين تنظيره.        
ومن المفسرين من حمل {الَّذِينَ كَفَرُوا} على رؤساء اليهود مثل حيى بن أخطب وأبي رافع يعني بناء على أن السورة نزلت في المدينة وليس فيها من الكافرين سوى اليهود والمنافقين وهذا بعيد من عادة القرآن وإعراض عن السياق المقصود منه ذكر من حرم من هدى القرآن في مقابلة من حصل لهم الاهتداء به، وأيا ما كان فالمعنى عند الجميع أن فريقا خاصا من الكفار لا يرجى إيمانهم وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وروى ذلك عن ابن عباس والمقصود من ذلك أن عدم اهـتدائهم بالقرآن كان لعدم قابليتهم لا لنقص في دلالة القرآن على الخير وهديه إليه.
والكفر بالضم إخفاء النعمة، وبالفتح: الستر مطلقا وهو مشتق من كفر إذا ستر.        
ولما كان إنكار الخالق أو إنكار كماله أو إنكار ما جاءت به رسله ضربا من كفران نعمته على جاحدها، أطلق عليه اسم الكفر وغلب استعماله في هذا المعنى وهو في الشرع إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه ونصبت عليه الأدلة كوحدانية الله تعالى ووجوده ولذلك عد اهـل الشرك فيما بين الفترة كفارا.        
وإنكار ما علم بالضرورة مجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم به ودعوته إليه وعده في أصول الإسلام أو المكابرة في الاعتراف بذلك ولو مع اعتقاد صدقه ولذلك عبر بالإنكار دون التكذيب.        
ويلحق بالكفر في إجراء أحكام الكفر عليه كل قول أو فعل لا يجترئ عليه مؤمن مصدق بحيث يدل على قلة اكتراث فاعله بالإيمان وعلى إضماره الطعن في الدين وتوسله بذلك إلى نقض أصوله وإهانته بوجه لا يقبل التأويل الظاهر وفي هذا النوع الأخير مجال لاجتهاد الفقهاء وفتاوى أساطين العلماء إثباتا ونفيا بحسب مبلغ دلالة القول والفعل على طعن أو شك.        
ومن اعتبر الأعمال أو بعضها المعين في الإيمان اعتبر فقدها أو فقد بعضها المعين في الكفر.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده والإيمان بالله هو العلم بوجوده فالكفر لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور: أحدها الجهل بالله تعالى.        
الثاني أن يأتي بفعل أو قول أخبر الله ورسوله أو أجمع المؤمنون على أنه لا يكون إلا من كافر كالسجود للصنم.        
الثالث أن يكون له قول أو فعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى.
ونقل ابن راشد في الفائق عن الأشعري رحمه الله أن الكفر خصلة واحدة.        
قال القرافي في الفرق 241 أصل الكفر هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية ويكون بالجهل بالله وبصفاته أو بالجرأة عليه وهذا النوع هو المجال الصعب لأن جميع المعاصي جرأة على الله.
وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} خبر {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} و {سَوَاءٌ} اسم بمعنى الاستواء فهو اسم مصدر دل على ذلك لزوم إفراده وتذكيره مع اختلاف موصوفاته ومخبراته فإذا أخبر به أو وصف كان ذلك كالمصدر في أن المراد به معنى اسم الفاعل لقصد المبالغة.        
وقد قيل إن {سَوَاءٌ}اسم بمعنى المثل فيكون التزام إفراده وتذكيره لأن المثلية لا تتعدد، وإن تعدد موصوفها تقول هم رجال سواء لزيد بمعنى مثل لزيد.
وإنما عدى سواء بعلى هنا وفي غير موضع ولم يعلق بعند ونحوها مع أنه المقصود من الاستعلاء في مثله، للإشارة إلى تمكن الاستواء عند المتكلم وأنه لا مصرف له عنه ولا تردد له فيه فالمعنى سواء عندهم الإنذار وعدمه.
واعلم أن للعرب في سواء استعمالين: أحدهما أن يأتوا بسواء على أصل وضعه من الدلالة على معنى التساوي في وصف بين متعدد فيقع معه {سَوَاءٌ} ما يدل على متعدد نحو ضمير الجمع في قوله تعالى: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل: 71] ونحو العطف في قول بثينة:
سواء علينا يا جميل بن معمر  . . .  إذا مت بأساء الحياة ولينها
ويجري إعرابه على ما يقتضيه موقعه من التركيب؛ وثانيهما أن يقع مع همزة التسوية وما هي إلا همزة استفهام كثر وقوعها بعد كلمة {سَوَاءٌ} ومعها {أَمْ} العاطفة التي تسمى المتصلة كقوله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} وهذا أكثر استعماليها وتردد النحاة في إعرابه وأظهر ما قالوه وأسلمه أن {سَوَاءٌ} خبر مقدم وأن الفعل الواقع بعده مقترنا بالهمزة في تأويل مبتدأ لأنه صار بمنزلة المصدر إذ تجرد عن النسبة وعن الزمان، فالتقدير في الآية سواء عليهم إنذارك وعدمه.
وأظهر عندي مما قالوه أن المبتدأ بعد {سَوَاءٌ} مقدر يدل عليه الاستفهام الواقع معه وأن التقدير سواء جواب {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} وهذا يجري على نحو قول القائل علمت أزيد قائم إذ تقديره علمت جواب هذا السؤال، ولك أن تجعل {سَوَاءٌ} مبتدأ رافعا لفاعل سد مسد الخبر لأن {سَوَاءٌ} في معنى مستو فهو في قوة اسم الفاعل فيرفع فاعلا سادا مسد خبر المبتدأ وجواب مثل هذا الاستفهام لما كان واحدا من أمرين كان الإخبار باستوائهما عند المخبر مشيرا إلى أمرين متساويين ولأجل كون الأصل في خبره الإفراد كان الفعل بعد {سَوَاءٌ} مؤولا بمصدر ووجه الأبلغية فيه أن هذين الأمرين لخلفاء الاستواء بينهما حتى ليسأل السائلون: أفعل فلان كذا وكذا فيقال إن الأمرين سواء في عدم الاكتراث بهما وعدم تطلب الجواب على الاستفهام من أحدهما فيكون قوله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} مشيرا إلى أن الناس لتعجبهم في دوام الكفار على كفرهم مع ما جاءهم من الآيات بحيث يسأل السائلون أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم متيقنين أنه لو أنذرهم لما ترددوا في الإيمان فقيل: إنهم سواء عليهم جواب تساؤل الناس عن إحدى الأمرين، وبهذا انتفى جميع التكلفات التي فرضها النحاة هنا ونبرأ مما ورد عليها من الأبحاث ككون الهمزة خارجة عن معنى الاستفهام، وكيف يصح عمل ما بعد الاستفهام فيما قبله إذا أعرب {سَوَاءٌ} خبرا والفعل بعد الهمزة مبتدأ مجردا عن الزمان، وككون الفعل مرادا منه مجرد الحدث، وكدعوى كون الهمزة في التسوية مجازا بعلاقة اللزوم، وكون {أَمْ} بمعنى الواو ليكون الكلام لشيئين لا لأحد شيئين ونحو ذلك، ولا نحتاج إلى تكلف الجواب عن الإيراد الذي أورد على جعل الهمزة بمعنى {سَوَاءٌ} إذ يؤول إلى معنى استوى الإنذار وعدمه عندهم سواء فيكون تكرارا خاليا من الفائدة فيجاب بما نقل عن صاحب الكشاف أنه قال معناه أن الإنذار وعدمه المستويين في علم المخاطب هما مستويان في عدم النفع، فاختلفت جهة المساواة كما نقله التفتزاني في شرح الكشاف.
ويتعين إعراب {سَوَاءٌ} في مثله مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الاستفهام تقديره جواب هذا الاستفهام فسواء في الآية مبتدأ ثان والجملة خبر {الَّذِينَ كَفَرُوا}.        
ودع عنك كل ما خاض فيه الكاتبون على الكشاف، وحرف "على" الذي يلازم كلمة {سَوَاءٌ} غالبا هو للاستعلاء المجازي المراد به التمكن أي إن هذا الاستواء متمكن منهم لا يزول عن نفوسهم ولذلك قد يجيء بعض الظروف في موضع على مع كلمة سواء مثل عند، ولدى، قال أبو الشغب العبسي1:
لا تعذلي في جندج إن جندجا  . . .  وليث كفرين لدي سواء
وسيأتي تحقيق لنظير هذا التركيب عند قوله تعالى في سورة الأعراف {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [لأعراف: 193] وقرأ ابن كثير {أَأَنْذَرْتَهُمْ} بهمزتين أولهما محققة والثانية مسهلة.        
وقرأ قالون عن نافع وورش عنه في رواية البغداديين وأبو عمرو وأبو جعفر كذلك مع إدخال ألف بين الهمزتين، وكلتا القرائتين لغة حجازية.        
وقرأه حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم.        
وروى اهـل مصر عن ورش إبدال الهمزة الثانية ألفا.        
قال الزمخشري وهو لحن، وهذا يضعف رواية المصريين عن ورش، وهذا اختلاف في كيفية الأداء فلا ينافي التواتر.
{لا يُؤْمِنُونَ}
الأظهر أن هاته الجملة مسوقة لتقرير معنى الجملة التي قبلها وهي {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} الخ فلك أن تجعلها خبرا ثانيا عن "إن" واستفادة التأكيد من السياق ولك أن تجعلها تأكيدا وعلى الوجهين فقد فصلت إما جوازا على الأول وإما وجوبا على الثاني، وقد فرضوا في إعرابها وجوها أخر لا نكثر بها لضعفها، وقد جوز في الكشاف جعل جملة {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} اعتراضا لجملة {لا يُؤْمِنُونَ} وهو مرجوح لم يرتضه السعد والسيد، إذ ليس محل الإخبار هو لا يؤمنون إنما المهم أن يخبر عنهم باستواء الإنذار وعدمه عندهم، فإن في ذلك نداء على مكابرتهم وغباوتهم، وعذرا للنبي صلى الله عليه وسلم في الحرص على إيمانهم، وتسجيلا بأن من لم يفتح سمعه وقلبه لتلقي الحق والرشاد لا ينفع فيه حرص ولا ارتياد، وهذا وإن كان يحصل على تقديره جعل {لا
يُؤْمِنُونَ} خبرا إلا أن المقصود من الكلام هو الأولى بالإخبار، ولأنه يصير الخبر غير معتبر إذ يصير بمثابة أن يقال إن الذين كفروا لا يؤمنون، فقد علم أنهم كفروا فعدم إيمانهم حاصل، وإن كان المراد من {لا يُؤْمِنُونَ} استمرار الكفر في المستقبل إلا أنه خبر غريب بخلاف ما إذا جعل تفسيرا للخبر.

-----------------------------------------------
1 هو من شعراء ديوان الحماسة إلا أن هذا الشعر في ديوان "الحماسة" غير منسوب في غالب النسخ, وفي بعضها منسوب لأبي الشغب وهو بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين, اسمه عكرشة بن أربد شاعر مقل من الشعراء العصر الأموي.

-----------------------------------------------
وقد احتج بهاته الآية الذين قالوا بوقوع التكليف بما لا يطاق احتجاجا على الجملة إذ مسألة التكليف بما لا يطاق بقيت زمانا غير محررة، وكان كل من لاح له فيها دليل استدل به، وكان التعبير عنها بعبارات فمنهم من يعنونها التكليف بالمحال، ومنهم من يعبر بالتكليف بما ليس بمقدور، ومنهم من يعبر بالتكليف بما لا يطاق، ثم إنهم ينظرون مرة للاستحالة الذاتية العقلية، ومرة للذاتية العادية، ومرة للعرضية، ومرة للمشقة القوية المحرجة للمكلف فيخلطونها بما لا يطاق ولقد أفصح أبو حامد الاسفراييني وأبو حامد الغزالي وأضرابهما عما يرفع القناع عن وجه المسألة فصارت لا تحير أفهاما وانقلب قتادها ثماما.        
وذلك أن المحال منه محال لذاته عقلا كجمع النقيضين ومنه محال عادة كصعود السماء ومنه ما فيه حرج وإعنات كذبح المرء ولده ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه، ومنه محال عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج، وكل هاته أطلق عليها ما لا يطاق كما في قوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} إذ المراد ما يشق مشقة عظيمة، وأطلق عليها المحال حقيقة ومطابقة في بعضها والتزاما في البعض، ومجازا في البعض، وأطلق عليها عدم المقدور كذلك، كما أطلق الجواز على الإمكان، وعلى الإمكان للحكمة، وعلى الوقوع.        
فنشأ من تفاوت هاته الأقسام واختلاف هاته الإطلاقات مقالات ملأت الفضاء.        
وكانت للمخالفين كحجر المضاء، فلما قيض الله أعلاما نفوا ما شاكها، وفتحوا أغلاقها، تبين أن الجواز الإمكاني في الجميع ثابت لأن الله تعالى يفعل ما يشاء لو شاء، لا يخالف في ذلك مسلم.        
وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتف عندنا وعند المعتزلة وإن اختلفنا في تفسير الحكمة لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف به متعذر الوقوع.        
وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازا ووقوعا، وجل التكاليف لا تخلو من ذلك، وثبت ما هو أخص وهو رفع الحرج الخارجي عن الحد المتعارف، تفضلا من الله تعالى لقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] أي لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في الأحكام،
هذا ملاك هاته المسألة على وجه يلتئم به متناثرها، ويستأنس متنافرها.        
وبقي أن نبين لكم وجه تعلق التكليف بمن علم الله عدم امتثاله أو بمن أخبر الله تعالى بأنه لا يمتثل كما في هاته الآية، وهي أخص من مسألة العلم بعدم الوقوع إذ قد انضم الإخبار إلى العلم كما هو وجه استدلال المستدل بها، فالجواب أن من علم الله عدم فعله لم يكلفه بخصوصه ولا وجه له دعوة تخصه إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خص أفرادا بالدعوة إلا وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب حين جاءه، بقوله: "أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إله إلا الله" وقوله لأبي سفيان يوم الفتح قريبا من تلكم المقالة، وخص عمه أبا طالب بمثلها، ولم تكن يومئذ قد نزلت هذه الآية، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية وبالدليل العقلي، فلم يبق إلا أن يقال لماذا لم يخصص من علم عدم امتثاله من عموم الدعوة، ودفع ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرئ غيرهم ويضعف إقامة الحجة عليهم، ويوهم عدم عموم الرسالة، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل بين ما في قدره وعلمه، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف، وسر الحكمة في ذلك بيناه في مواضع يطول الكلام بجلبها ويخرج من غرض التفسير، وأحسب أن تفطنكم إلى مجمله ليس بعسير.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 6:33 pm

[7] {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7]
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}
هذه الجملة جارية مجرى التعليل للحكم السابق في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وبيان لسببه في الواقع ليدفع بذلك تعجب المتعجبين من استواء الإنذار وعدمه عندهم ومن عدم نفوذ الإيمان إلى نفوسهم مع وضوح دلائله، فإذا علم أن على قلوبهم ختما وعلى أسماعهم وأن على أبصارهم غشاوة علم سبب ذلك كله وبطل العجب، فالجملة استئناف بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون، وموقع هذه الجملة في نظم الكلام مقابل موقع جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] فلهذه الجملة مكانة بين ذم أصحابها بمقدار ما لتلك من المكانة في الثناء على أربابها.
والختم حقيقته السد على الإناء والغلق على الكتاب بطين ونحوه مع وضع علامة
مرسومة في خاتم ليمنع ذلك من فتح المختوم، فإذا فتح علم صاحبه أنه فتح لفساد يظهر في أثر النقش وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما لذلك، وقد كانت العرب تختم على قوارير الخمر ليصلحها انحباس الهواء عنها وتسلم من الأقذار في مدة تعتيقها.        
وأما تسمية البلوغ لآخر الشيء ختما فلأن ذلك الموضع أو ذلك الوقت هو ظرف وضع الختم فيسمى به مجازا.        

والخاتم بفتح التاء الطين الموضوع على المكان المختوم، وأطلق على القالب المنقوش فيه علامة أو كتابة يطبع بها على الطين الذي يختم به.        

وكان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله.        

وطين الختم طين خاص يشبه الجبس يبل بماء ونحوه ويشد على الموضع المختوم فإذا جف كان قوى الشد لا يقلع بسهولة وهو يكون قطعا صغيرة كل قطعة بمقدار مضغة وكانوا يجعلونه خواتيم في رقاب اهـل الذمة قال بشار:
ختم الحب لها في عنقي
موضع الخاتم من اهـل الذمم والغشاوة فعالة من غشاه وتغشاه إذا حجبه ومما يصاغ له وزن فعالة بكسر الفاء معنى الاشتمال على شيء مثل العمامة والعلاوة واللفافة.      
وقد قيل إن صوغ هذه الزنة للصناعات كالخياطة لما فيها من معنى الاشتمال المجازي، ومعنى الغشاوة الغطاء.
وليس الختم على القلوب والأسماع ولا الغشاوة على الأبصار هنا حقيقة كما توهمه بعض المفسرين فيما نقله ابن عطية بل ذلك جار على طريقة المجاز بأن جعل قلوبهم أي عقولهم في عدم نفوذ الإيمان والحق والإرشاد إليها، وجعل أسماعهم في استكاكها عن سماع الآيات والنذر، وجعل أعينهم في عدم الانتفاع بما ترى من المعجزات والدلائل الكونية، كأنها مختوم عليها ومغشي دونها إما على طريقة الاستعارة بتشبيه عدم حصول النفع المقصود منها بالختم والغشاوة ثم إطلاق لفظ ختم على وجه التبعية ولفظ الغشاوة على وجه الأصلية وكلتاهما استعارة تحقيقية إلا أن المشبه محقق عقلا لا حسا.
ولك أن تجعل الختم والغشاوة تمثيلا بتشبيه هيئة وهمية متخيلة في قلوبهم أي إدراكهم من التصميم على الكفر وإمساكهم عن التأمل في الأدلة- كما تقدم- بهيئة الختم، وتشبيه هيئة متخيلة في أبصارهم من عدم التأمل في الوحدانية وصدق الرسول بهيئة الغشاوة وكل ذينك من تشبيه المعقول بالمحسوس، ولك أن تجعل الختم والغشاوة مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم والمراد اتصافهم بلازم ذلك وهو أن لا تعقل ولا تحس، والختم في اصطلاح الشرع استمرار الضلالة في نفس الضال أو خلق الضلالة، ومثله الطبع، والأكنة.
والظاهر أن قوله {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} معطوف على قوله {قُلُوبِهِمْ} فتكون الأسماع مختوما عليها وليس هو خبرا مقدما لقوله {غِشَاوَةٌ} فيكون وَعَلَى {أَبْصَارِهِمْ} معطوفا عليه لأن الغشاوة تناسب الأبصار لا الأسماع ولأن الختم يناسب الأسماع كما يناسب القلوب إذ كلاهما يشبه بالوعاء ويتخيل فيه معنى الغلق والسد، فإن العرب تقول: استك سمعه ووقر سمعه وجعلوا أصابعهم في آذانهم.
والمراد من القلوب هنا الألباب والعقول، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية، وتطلقه على الإدراك والعقل، ولا يكادون يطلقونه على غير ذلك بالنسبة للإنسان وذلك غالب كلامهم على الحيوان، وهو المراد هنا، ومقره الدماغ لا محالة ولكن القلب هو الذي يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك.
وإنما أفرد السمع ولم يجمع كما جمع "قلوبهم" و"أبصارهم" إما لأنه أريد منه المصدر الدال على الجنس، إذ لا يطلق على الآذان سمع ألا ترى أنه جمع لما ذكر الآذان في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] وقوله: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: من الآية5] فلما عبر بالسمع أفرد لأنه مصدر بخلاف القلوب والأبصار فإن القلوب متعددة والأبصار جمع بصر الذي هو اسم لا مصدر، وإما لتقدير محذوف أي وعلى حواس سمعهم أو جوارح سمعهم.        

وقد تكون في إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة، وبالكثرة والقلة وتتلقى أنواعا كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك، وكانت الأبصار أيضا متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق، وفي الأنفس التي فيها دلالة، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر والمواعظ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت.        
وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق بسماع ما يلقي إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعا متساويا وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت سمعا واحدا.
وإطلاق أسماء الجوارح والأعضاء إذا أريد به المجاز عن أعمالها ومصادرها جاز في إجرائه على غير المفرد إفراده وجمعه وقد اجتمعا هنا فأما الإطلاق حقيقة فلم يصح، قال الجاحظ في البيان1 قال بعضهم لغلام له: اشتر لي رأس كبشين، فقيل له: ذلك لا

-----------------------------------------------
1 انظر: صحيفة 201 من الجزء الأول طبع بولاق.
-----------------------------------------------

يكون، فقال إذا فرأسي كبش فزاد كلامه إحالة.        
وفي الكشاف أنهم يقولون ذلك إذا أمن اللبس كقول الشاعر:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا  . . .  فإن زمانكم زمن خميص
وهو نظير ما قاله سيبويه في باب ما لفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع من نحو قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].        
ويقولون: ضع رحالهما وإنما هما اثنان وهو خلاف كلام الجاحظ وقد يكون ما عده الجاحظ على القائل خطأ لأن مثل ذلك القائل لا يقصد المعاني الثانية فحمل كلامه على الخطأ لجهله بالعربية ولم يحمل على قصد لطيفة بلاغية بخلاف ما في البيت فضلا عن الآية كقول علي رضي الله عنه لمن سأله حين مرت جنازة: من المتوفي بصيغة اسم الفاعل فقال له علي الله لأنه علم أنه أخطأ أراد أن يقول المتوفي وإلا فإنه يصح أن يقال توفي فلان بالبناء للفاعل فهو متوف أي استوفى أجله، وقد قرأ علي نفسه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} بصيغة المبني للفاعل.
وبعد كون الختم مجازا في عدم نفوذ الحق لعقولهم وأسماعهم وكون ذلك مسببا لا محالة عن إعراضهم ومكابرتهم أسند ذلك الوصف إلى الله تعالى لأنه المقدر له على طريقة إسناد نظائر مثل هذا الوصف في غير ما آية من القرآن نحو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108] وقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] ونظائر ذلك كثيرة في القرآن كثرة تنبو عن التأويل ومحملها عندنا على التحقيق أنها واردة على اعتبار أن كل ولقع هو بقدر الله تعالى وأن الله هدى ووفق بعضا، وأضل وخذل بعضا في التقدير والتكوين، فلا ينافي ذلك ورود الآية ونظائرها في معنى النعي على الموصوفين بذلك والتشنيع بحالهم لأن ذلك باعتبار ما لهم من الميل والاكتساب، وبالتحقيق القدرة على الفعل والترك التي هي دون الخلق، فالله تعالى قدر الشرور وأوجد في الناس القدرة على فعلها ولكنه نهاهم عنها لأنه أوجد في الناس القدرة على تركها أيضا، فلا تعارض بين القدر والتكليف إذ كل راجع إلى جهة خلاف ما توهمته القدرية فنفوا القدر وهو التقدير والعلم وخلاف ما توهمته المعتزلة من عدم تعلق قدرة الله تعالى بأفعال المكلفين ولا هي مخلوقة له وإنما المخلوق له ذواتهم وآلات أفعالهم، ليتوسلوا بذلك إلى إنكار صحة إسناد مثل هاته الأفعال إلى الله تعالى تنزيها له عن إيجاد الفساد، وتأويل ما ورد من ذلك: على أن ذلك لم يغن عنهم شيئا لأنهم قائلون بعلمه تعالى بأنهم سيفعلون وهو قادر على سلب القدر منهم فبتركه إياهم على تلك القدرة إمهال لهم على فعل القبيح وهو قبيح، فالتحقيق ما ذهب إليه الأشاعرة وغيرهم من اهـل السنة أن الله هو مقدر أفعال العباد إلا أن فعلها هو من العبد لا من الله وهو الذي أفصح عنه إمام الحرمين وأضرابه من المحققين.        
ولا يرد علينا أنه كيف أقدرهم على فعل المعاصي? لأنه يرد على المعتزلة أيضا أنه كيف علم بعد أن أقدرهم بأنهم شارعون في المعاصي ولم يسلب عنهم القدرة? فكان مذهب الأشاعرة أسعد بالتحقيق وأجرى على طريق الجمع بين ما طفح به الكتاب والسنة من الأدلة.        
ولنا فيه تحقيق أعلى من هذا بسطناه في رسالة القدرة والتقدر التي لما تظهر.
وإسناد الختم المستعمل مجازا إلى الله تعالى للدلالة على تمكن معنى الختم من قلوبهم وأن لا يرجى زواله كما يقال خلقة في فلان، والوصف الذي أودعه الله في فلان أو أعطاه فلانا، وفرق بين هذا الإسناد وبين الإسناد في المجاز العقلي لأن هذا أريد منه لازم المعنى والمجاز العقلي إنما أسند فيه فعل لغير فاعله لملابسة، والغالب صحة فرض الاعتبارين فيما صلح لأحدهما وإنما يرتكب ما يكون أصلح بالمقام.
وجملة {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} معطوفة على قوله: {عَلَى قُلُوبِهِمْ} بإعادة الجار لزيادة التأكيد حتى يكون المعطوف مقصودا لأن على مؤذنة بالمتعلق فكأن: {خَتَمَ} كرر مرتين.        
وفيه ملاحظة كون الأسماع مقصودة بالختم إذ ليس العطف كالتصريح بالعامل.        
وليس قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} خبرا مقدما لغشاوة لأن الأسماع لا تناسبها الغشاوة وإنما يناسبها السد ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: من الآية23] ولأن تقديم قوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} دليل على أنه هو الخبر لأن التقديم لتصحيح الابتداء بالنكرة فلو كان قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} هو الخبر لا ستغنى بتقديم أحدهما وأبقى الآخر على الأصل من التأخير فقيل وعلى سمعهم غشاوة وعلى أبصارهم.
وفي تقديم السمع على البصر في مواقعه من القرآن دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه من البصر فإن التقديم مؤذن بأهمية المقدم وذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست بدون توجه، بخلاف البصر فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
العذاب: الألم.
وقد قيل إن أصله الإعذاب مصدر أعذب إذا أزال العذوبة لأن العذاب يزيل حلاوة العيش فصيغ منه اسم مصدر بحذف الهمزة، أو هو اسم موضوع للألم بدون ملاحظة اشتقاق من العذوبة إذ ليس يلزم مصير الكلمة إلى نظيرتها في الحروف.     
   ووصف العذاب بالعظيم دليل على أن تنكير عذاب للنوعية وذلك اهـتمام بالتنصيص على عظمه لأن التنكير وإن كان صالحا للدلالة على التعظيم إلا أنه ليس بنص فيه ولا يجوز أن يكون {عَظِيمٌ} تأكيدا لما يفيده التنكير من التعظيم كما ظنه صاحب المفتاح لأن دلالة التنكير على التعظيم غير وضعية، والمدلولات غير الوضعية يستغني عنها إذا ورد ما يدل عليها وضعا فلا يعد تأكيدا.        
والعذاب في الآية، إما عذاب النار في الآخرة، وإما عذاب القتل والمسبغة في الدنيا.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:00 pm

[8] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]
هذا فريق آخر وهو فريق له ظاهر الإيمان وباطنه الكفر وهو لا يعدوا أن يكون مبطنا الشرك أو مبطنا التمسك باليهودية ويجمعه كله إظهار الإيمان كذبا، فالواو لعطف طائفة من الجمل على طائفة مسوق كل منهما لغرض جمعتهما في الذكر المناسبة بين الغرضين فلا يتطلب في مثله إلا المناسبة بين الغرضين لا المناسبة بين كل جملة وأخرى من كلا الغرضين على ما حققه التفتزاني في شرح الكشاف، وقال السيد إنه أصل عظيم في باب العطف لم ينتبه له كثيرون فأشكل عليهم الأمر في مواضع شتى وأصله مأخوذ من قول الكشاف وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة {الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6] كما تعطف الجملة على الجملة فأفاد بالتشبيه أن ذلك ليس من عطف الجملة على الجملة.
قال المحقق عبد الحكيم: وهذا ما اهـمله السكاكي أي في أحوال الفصل والوصل وتفرد به صاحب الكشاف.
واعلم أن الآيات السابقة لما انتقل فيها من الثناء على القرآن بذكر المهتدين به بنوعيهم الذين يؤمنون بالغيب والذين يؤمنون بما أنزل إليك إلى آخر ما تقدم، وانتقل من الثناء عليهم إلى ذكر أضدادهم وهم الكافرون الذين أريد بهم الكافرون صراحة وهم المشركون، كان السامع قد ظن أن الذين أظهروا الإيمان داخلون في قوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] فلم يكن السامع سائلا عن قسم آخر وهم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الشرك أو غيره وهم المنافقون الذين هم المراد هنا بدليل قوله {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] الخ، لأنه لغرابته وندرة وصفه بحيث لا يخطر بالبال وجوده ناسب أن يذكر أمره للسامعين، ولذلك جاء بهذه الجملة معطوفة بالواو إذ ليست الجملة المتقدمة مقتضية لها ولا مثيرة لمدلولها في نفوس السامعين، بخلاف جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] ترك عطفها على التي قبلها لأن ذكر مضمونها بعد المؤمنين كان مترقبا للسامع، فكان السامع كالسائل عنه فجاء الفصل للاستئناف البياني.
وقوله {وَمِنَ النَّاسِ} خبر مقدم لا محالة وقد يتراءى أن الإخبار بمثله قليل الجدوى لأنه إذا كان المبتدأ دالا على ذات مثله، أو معنى لا يكون إلا في الناس كان الإخبار عن المبتدأ بأنه من الناس أو في الناس غير مجد بخلاف قولك: الخضر من الناس، أي لا من الملائكة فإن الفائدة ظاهرة، فوجه الإخبار بقولهم من الناس في نحو الآية ونحو قول بعض أعزة الأصحاب في تهنئة لي بخطة القضاء:
في الناس من ألقي قلادتها إلى  . . .  خلف فحرم ما ابتغى وأباحا
إن القصد إخفاء مدلول الخبر عنه كما تقول قال هذا إنسان وذلك عندما يكون الحديث يكسب ذما أو نقصانا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" وقد كثر تقديم الخبر في مثل هذا التركيب لأن في تقديمه تنبيها للسامع على عجيب ما سيذكر، وتشويقا لمعرفة ما يتم به الإخبار ولو أخر لكان موقعه زائدا لحصول العلم بأن ما ذكره المتكلم لا يقع إلا من إنسان كقول موسى بن جابر الحنفي:
ومن الرجال أسنة مذروبة  . . .  ومزندون وشاهد كالغائب
وقد قيل إن موقع {مِنَ النَّاسِ} مؤذن بالتعجب وإن أصل الخبر إفادة أن فاعل هذا الفعل من الناس لئلا يظنه المخاطب من غير الناس لشناعة الفعل، وهذا بعيد عن القصد لأنه لو كان كما قال لم يكن للتقديم فائدة بل كان تأخيره أولى حتى يتقرر الأمر الذي يوهم أن المبتدأ ليس {مِنَ النَّاسِ} هذا توجيه هذا الاستعمال وذلك حيث لا يكون لظاهر الإخبار بكون المتحدث عنه من أفراد الناس كبير فائدة فإن كان القصد إفادة ذلك حيث يجهله المخاطب كقولك: من الرجال من يلبس برقعا، تريد الإخبار عن القوم المدعون بالملثمين من لمتونة، أو حيث ينزل المخاطب منزلة الجاهل كقول عبد الله بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء:
وفي الناس إن رثت حبالك واصل  . . .  وفي الأرض عن دار القلى متحول
إذا كان حال المخاطبين حال من يظن أن المتكلم لا يجد من يصله إن قطعه هو،
فذكر {مِنَ النَّاسِ} ونحوه في مثل هذا وارد على أصل الإخبار، وتقديم الخبر هنا للتشويق إلى استعلام المبتدأ وليس فيه إفادة تخصيص.        
وإذا علمت أن قوله {مِنَ النَّاسِ} مؤذن بأن المتحدث عنهم ستساق في شأنهم قصة مذمومة وحالة شنيعة إذ لا يستر ذكرهم إلا لأن حالهم من الشناعة بحيث يستحيي المتكلم أن يصرح بموصوفها وفي ذلك من تحقير شأن النفاق ومذمته أمر كبير، فوردت في شأنهم ثلاث عشرة آية نعي عليهم فيها خبثهم، ومكرهم، وسوء عواقبهم، وسفه أحلامهم، وجهالتهم، وأردف ذلك بشتم واستهزاء وتمثيل حالهم في أشنع الصور وهم أحرياء بذلك فإن الخطة التي تدربوا فيها تجمع مذام كثيرة إذ النفاق يجمع الكذب، والجبن، والمكيدة، وأفن الرأي، والبله، وسوء السلوك، والطمع، وإضاعة العمر، وزوال الثقة، وعداوة الأصحاب، واضمحلال الفضيلة.
أما الكذب فظاهر، وأما الجبن فلأنه لولاه لما دعاه داع إلى مخالفة ما يبطن، وأما المكيدة فإنه يحمل على اتقاء الاطلاع عليه بكل ما يمكن، وأما أفن الرأي فلأن ذلك دليل على ضعف في العقل إذ لا داعي إلى ذلك، وأما البله فللجهل بأن ذلك لا يطول الاغترار به، وأما سوء السلوك فلأن طبع النفاق إخفاء الصفات المذمومة، والصفات المذمومة إذا لم تظهر لا يمكن للمربي ولا للصديق ولا لعموم الناس تغييرها على صاحبها فتبقى كما هي وتزيد تمكنا بطول الزمان حتى تصير ملكة يتعذر زوالها، وأما الطمع فلأن غالب أحوال النفاق يكون للرغبة في حصول النفع، وأما إضاعة العمر فلأن العقل ينصرف إلى ترويج أحوال النفاق وما يلزم إجراؤه مع الناس ونصب الحيل لإخفاء ذلك وفي ذلك ما يصرف الذهن عن الشغل بما يجدي، وأما زوال الثقة فلأن الناس إن اطلعوا عليه ساء ظنهم فلا يثقون بشيء يقع منه ولو حقا، وأما عداوة الإصحاب فكذلك لأنه إذا علم أن ذلك خلق لصاحبه خشي غدره فحذره فأدى ذلك إلى عداوته، وأما اضمحلال الفضيلة فنتيجة ذلك كله.
وقد أشار قوله تعالى {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} إلى الكذب، وقوله {يُخَادِعُونَ} [البقرة: 9] إلى المكيدة والجبن، وقوله {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] إلى أفن الرأي، وقوله {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] إلى البله، وقوله {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] إلى سوء السلوك، وقوله {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10] إلى دوام ذلك وتزايده مع الزمان، وقوله {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] إلى إضاعة العمر في غير المقصود، وقوله
{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] مؤكدا بإن إلى قلة ثقة أصحابهم فيهم، وقوله {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] إلى أن أمرهم لم يحظ بالقبول عند أصحابهم، وقوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] إلى اضمحلال الفضيلة منهم وسيجيء تفصيل لهذا، وجمع عند قوله تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}
والناس اسم جمع إنسي بكسر الهمزة وياء النسب فهو عوض عن أناسي الذي هو الجمع بالقياس لإنس وقد عوضوا عن أناسي أناس بضم الهمزة وطرح ياء النسب، دل على هذا التعويض ظهور ذلك في قول عبيد بن الأبرص الأسدي يخاطب امرأ القيس:
إن المنايا يطلعـ  . . .  ـن على الأناس الآمنينا
ثم حذفوا همزته تخفيفا، وحذف الهمزة للتخفيف شائع كما قالوا لوقة في ألوقة وهي الزبدة، وقد التزم حذف همزة أناس عند دخول أل عليه غالبا بخلاف المجرد من أل فذكر الهمزة وحذفها شائع فيه وقد قيل إن ناس جمع وإنه من جموع جاءت على وزن فعال بضم الفاء مثل ظؤار جمع ظئر، ورخال جمع رخل وهي الأنثى الصغيرة من الضأن ووزن فعال قليل في الجموع في كلام العرب وقد اهـتم أئمة اللغة بجمع ما ورد منه فذكرها ابن خالويه في كتاب "ليس" وابن السكيت وابن بري.        
وقد عد المتقدمون منها ثمانية جمعت في ثلاثة أبيات تنسب للزمخشري والصحيح أنها لصدر الأفاضل تلميذه ثم ألحق كثير من اللغويين بتلك الثمان كلمات أخر حتى أنهيت إلى أربع وعشرين جمعا ذكرها الشهاب الخفاجي في شرح درة الغواص وذكر معظمها في حاشيته على تفسير البيضاوي وهي فائدة من علم اللغة فارجعوا إليها إن شئتم.
وقيل إن ما جاء بهذا الوزن أسماء جموع، وكلام الكشاف يؤذن به ومفرد هذا الجمع إنسي أو إنس أو إنسان وكله مشتق من أنس ضد توحش لأن الإنسان يألف ويأنس.
والتعريف في الناس للجنس لأن ما علمت من استعماله في كلامهم يؤيد إرادة الجنس ويجوز أن يكون التعريف للعهد والمعهود هم الناس المتقدم ذكرهم في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6] أو الناس الذين يعهدهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في هذا الشأن، و"من" موصولة والمراد بها فريق وجماعة بقرينة قوله {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وما بعده من صيغ الجمع.
والمذكور بقوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} الخ قسم ثالث مقابل للقسمين المتقدمين
للتمايز بين الجميع بأشهر الصفات وإن كان بين البعض أو الجميع صفات متفقة في الجملة فلا يشتبه وجه جعل المنافقين قسيما للكافرين مع أنهم منهم لأن المراد بالتقسيم الصفات المخصصة.
وإنما اقتصر القرآن من أقوالهم على قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ}.        
مع أنهم أظهروا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، إيجازا لأن الأول هو مبدأ الاعتقادات كلها لأن من لم يؤمن برب واحد لا يصل إلى الإيمان بالرسول إذ الإيمان بالله هو الأصل وبه يصلح الاعتقاد وهو أصل العمل، والثاني هو الوازع والباعث في الأعمال كلها وفيه صلاح الحال العملي.        
أو هم الذين اقتصروا في قولهم على هذا القول لأنهم لغلوهم في الكفر لا يستطيعون أن يذكروا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم استثقالا لهذا الاعتراف فيقتصرون على ذكر الله واليوم الآخر إيهاما للاكتفاء ظاهرا ومحافظة على كفرهم باطنا لأن أكثرهم وقادتهم من اليهود.
وفي التعبير بيقول في مثل هذا المقام إيماء إلى أن ذلك غير مطابق للواقع لأن الخبر المحكي عن الغير إذا لم يتعلق الغرض بذكر نصه وحكى بلفظ {يَقُولُ} أومأ ذلك إلى أنه غير مطابق لاعتقاده أو أن المتكلم يكذبه في ذلك، ففيه تمهيد لقوله {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وجملة وما هم بمؤمنين في موضع الحال من ضمير {يَقُولُ} أي يقول هذا القول في حال أنهم غير مؤمنين.
والآية أشارت إلى طائفة من الكفار وهم المنافقون الذين كان بعضهم من اهـل يثرب وبعضهم من اليهود الذين أظهروا الإسلام وبقيتهم من الأعراب المجاورين لهم، ورد في حديث كعب بن مالك أن المنافقين الذين تخلفوا في غزوة تبوك بضعة وثمانون، وقد عرف من أسمائهم عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، والجلاس بن سويد الذي نزل فيه {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74]، وعبد الله بن سبأ اليهودي ولبيد ابن الأعصم من بني زريق حليف اليهود كما في باب السحر من كتاب الطب من صحيح البخاري، والأخنس أبي بن شريق الثقفي كان يظهر الود والإيمان وسيأتي عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ} [البقرة: 204]، وزيد بن اللصيت القينقاعي ووديعة بن ثابت من بني عمرو بن عوف، ومخشن بن حمير الأشجعي اللذين كانا يثبطان المسلمين، من غزوة تبوك وقد قيل إن زيد بن اللصيت تاب وحسن حاله، وقيل لا، وأما مخشن فتاب وعفا الله عنه وقتل شهيدا يوم اليمامة.
وفي كتاب المرتبة الرابعة لابن حزم قد ذكر قوم معتب ابن قشير الأوسي من بني
عمرو بن عوف في المنافقين وهذا باطل لأن حضوره بدرا يبطل هذا الظن بلا شك ولكنه ظهر منه يوم أحد ما يدل على ضعف إيمانه فلمزوه بالنفاق فإنه القائل يوم أحد: { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] ، رواه عنه الزبير بن العوم قال ابن عطية كان مغموصا بالنفاق.
ومن المنافقين أبو عفك أحد بني عمرو بن عوف ظهر نفاقه حين قتل رسول الله الحارث بن سويد بن صامت وقال شعرا يعرض بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر رسول الله بقتل أبي عفك فقتله سالم بن عمير، ومن المنافقات عصماء بنت مروان من بني أمية ابن زيد نافقت لما قتل أبو عفك وقالت شعرا تعرض بالنبي قتلها عمير بن عدي الخطمي وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينتطح فيها عنزان" ، ومن المنافقين بشير بن أبيرق كان منافقا يهجو أصحاب رسول الله وشهد أحدا ومنهم ثعلبة بن حاطب وهو قد أسلم وعد من اهـل بدر، ومنهم بشر المنافق كان من الأنصار وهو الذي خاصم يهوديا فدعا اليهودي بشرا إلى حكم النبي فامتنع بشر وطلب المحاكمة إلى كعب بن الأشرف وهذا هو الذي قتله عمر وقصته في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء: 60].        
وعن ابن عباس أن المنافقين على عهد رسول الله كانوا ثلاثمائة من الرجال ومائة وسبعين من النساء، فأما المنافقون من الأوس والخزرج فالذي سن لهم النفاق وجمعهم عليه هو عبد الله بن أبي حسدا وحنقا على الإسلام لأنه قد كان اهـل يثرب بعد أن انقضت حروب بعاث بينهم وهلك جل ساداتهم فيها قد اصطلحوا على أن يجعلوه ملكا عليهم ويعصبوه بالعصابة.        
قال سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري: "اعف عنه يا رسول الله واصفح فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح اهـل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك" اهـ،.
وأما اليهود فلأنهم اهـل مكر بكل دين يظهر ولأنهم خافوا زوال شوكتهم الحالية من جهات الحجاز، وأما الأعراب فهم تبع لهؤلاء ولذلك جاء: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} [التوبة: 97] الآية، لأنهم يقلدون عن غير بصيرة وكل من جاء بعدهم على مثل صفاتهم فهو لاحق بهم فيما نعى الله عليهم وهذا معنى قول سلمان الفارسي في تفسير هذه الآية "لم يجيء هؤلاء بعد" قال ابن عطية معنى قوله أنهم لم ينقرضوا بل يجيئون من كل زمان اهـ، يعني أن سلمان لا ينكر ثبوت هذا الوصف لطائفة في زمن النبوة ولكن لا يرى المقصد من الآية حصر المذمة فيهم بل وفي الذين يجيئون من بعدهم.
وقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} جيء في نفي قولهم بالجملة الاسمية ولم يجيء على وزان قولهم: {آمَنَّا} بأن يقال وما آمنوا لأنهم لما أثبتوا الإيمان لأنفسهم كان الإتيان بالماضي أشمل حالا لاقتضائه تحقق الإيمان فيما مضى بالصراحة ودوامه بالالتزام؛ لأن الأصل ألا يتغير الاعتقاد بلا موجب كيف والدين هو هو، ولما أريد نفي الإيمان عنهم كان نفيه في الماضي لا يستلزم عدم تحققه في الحال بله الاستقبال فكان قوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} دالا على انتفائه عنهم في الحال؛ لأن اسم الفاعل حقيقة في زمن الحال وذلك النفي يستلزم انتفاءه في الماضي بالأولى، ولأن الجملة الفعلية تدل على الاهتمام بشأن الفعل دون الفاعل فلذلك حكى بها كلامهم لأنهم لما رأوا المسلمين يتطلبون معرفة حصول إيمانهم قالوا: {آمَنَّا} والجملة الاسمية تدل على الاهتمام بشأن الفاعل أي أن القائلين: {آمَنَّا} لم يقع منهم إيمان فالاهتمام بهم في الفعل المنفي تسجيل لكذبهم وهذا من مواطن الفروق بين الجملتين الفعلية والاسمية وهو مصدق بقاعدة إفادة التقديم الاهتمام مطلقا وإن اهـملوا التنبيه على جريان تلك القاعدة عندما ذكروا الفروق بين الجملة الفعلية والاسمية في كتب المعاني وأشار إليه صاحب الكشاف هنا بكلام دقيق الدلالة.
فإن قلت كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم ثم ارتد وزعم بعد ردته أنه كان يكتب القرآن وأنه كان يملي النبي صلى الله عليه وسلم عزيز حكيم مثلا فيكتبها غفور رحيم مثلا والعكس وهذا من عدم الإيمان فيكون حينئذ من المنافقين الذين آمنوا بعد فالجواب أن هذا من نقل المؤرخين وهم لا يعتد بكلامهم في مثل هذا الشأن لا سيما وولاية عبد الله ابن أبي سرح الإمارة من جملة ما نقمه الثوار على عثمان وتحامل المؤرخين فيها معلوم لأنهم تلقوها من الناقمين وأشياعهم، والأدلة الشرعية تنفي هذا لأنه لو صح للزم عليه دخول الشك في الدين ولو حاول عبد الله هذا لأعلم الله تعالى به رسوله لأنه لا يجوز على الرسول السهو والغفلة فيما يرجع إلى التبليغ على أنه مزيف من حيث العقل إذ لو أراد أن يكيد للدين لكان الأجدر به تحريف غير ذلك، على أن هذا كلام قاله في وقت ارتداده وقوله حينئذ في الدين غير مصدق لأنه متهم بقصد ترويج ردته عند المشركين بمكة وقد علمت من المقدمة الثامنة من هذا التفسير أن العمدة في آيات القرآن على حفظ حفاظه وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يأمر بكتابته لقصد المراجعة للمسلمين إذا احتاجوا إليه، ولم يرو أحد أنه وقع الاحتياج إلى مراجعة ما كتب من القرآن إلا في زمن أبي بكر، ولم ينقل أن حفاظ القرآن وجدوا خلافا بين محفوظهم وبين الأصول المكتوبة، على أن عبد الله بن أبي سرح لم يكن منفردا بكتابة الوحي فقد كان يكتب معه آخرون.
ونفى الإيمان عنهم مع قولهم: {آمَنَّا}.        
دليل صريح على أن مسمى الإيمان التصديق وأن النطق بما يدل على الإيمان قد يكون كاذبا فلا يكون ذلك النطق إيمانا، والإيمان في الشرع هو الاعتقاد الجازم بثبوت ما يعلم أنه من الدين علما ضروريا بحيث يكون ثابتا بدليل قطعي عند جميع أئمة الدين ويشتهر كونه من مقومات الاعتقاد الإسلامي اللازم لكل مسلم اشتهارا بين الخاصة من علماء الدين والعامة من المسلمين بحيث لا نزاع فيه فقد نقل الإيمان في الشرع إلى تصديق خاص وقد أفصح عنه الحديث الصحيح عن عمر أن جبريل جاء فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره".
وقد اختلفت علماء الأمة في ماهية الإيمان ما هو وتطرقوا أيضا إلى حقيقة الإسلام ونحن نجمع متناثر المنقول منهم مع ما للمحققين من تحقيق مذاهبهم في جملة مختصرة. وقد أرجعنا متفرق أقوالهم في ذلك إلى خمسة أقوال:
القول الأول: قول جمهور المحققين من علماء الأمة قالوا: إن الإيمان هو التصديق لا مسمى له غير ذلك وهو مسماه اللغوي فينبغي ألا ينقل من معناه لأن الأصل عدم النقل إلا أنه أطلق على تصديق خاص بأشياء بينها الدين وليس استعمال اللفظ العام في بعض أفراده بنقله له عن معناه اللغوي وغلب في لسان الشرعيين على ذلك التصديق واحتجوا بعدة أدلة هي من أخبار الآحاد ولكنها كثيرة كثرة تلحقها بالمستفيض.
من ذلك حديث جبريل المتقدم وحديث سعد أنه قال يا رسول الله: مالك عن فلان فإني لأراه مؤمنا.        
فقال: "أو مسلما" ، قالوا وأما النطق والأعمال فهي من الإسلام لا من مفهوم الإيمان لأن الإسلام الاستسلام والانقياد بالجسد دون القلب ودليل التفرقة بينهما اللغة وحديث جبريل، وقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: من الآية14] ولما رواه مسلم عن طلحة بن عبيد الله أنه جاء رجل من نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول فإذا هو يسأل عن الإسلام فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا"، ونسب هذا القول إلى مالك بن أنس أخذا من قوله في المدونة من اغتسل وقد أجمع على الإسلام بقلبه إجزأه، قال ابن رشد لأن إسلامه بقلبه فلو مات مات مؤمنا وهو مأخذ بعيد وستعلم أن قول مالك بخلافه.        
ونسب هذا أيضا إلى الأشعري قال إمام الحرمين في الإرشاد وهو المرضي عندنا.        
وبه قال الزهري من التابعين.
القول الثاني: إن الإيمان هو الاعتقاد بالقلب والنطق باللسان بالشهادتين للإقرار بذلك الاعتقاد فيكون الإيمان منقولا شرعا لهذا المعنى فلا يعتد بالاعتقاد شرعا إلا إذا انضم إليه النطق ونقل هذا عن أبي حنيفة ونسبه النووي إلى جمهور الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ونسبه الفخر إلى الأشعري وبشر المريسي.        
ونسبه الخفاجي إلى محققي الأشاعرة واختاره ابن العربي، قال النووي وبذلك يكون الإنسان من اهـل القبلة.
قلت ولا أحسب أن بين هذا والقول الأول فرقا وإنما نظر كل قيل إلى جانب، فالأول نظر إلى جانب المفهوم والثاني نظر إلى الاعتداد ولم يعتنوا بضبط عباراتهم حتى يرتفع الخلاف بينهم وإن كان قد وقع الخلاف بينهم في أن الاقتصار على الاعتقاد هل هو منج فيما بين المرء وبين ربه أو لابد من الإقرار، حكاه البيضاوي في التفسير ومال إلى الثاني ويؤخذ من كلامهم أنه لو ترك الإقرار لا عن مكابرة كان ناجيا مثل الأخرس والمغفل والمشتغل شغلا اتصل بموته.        
واحتجوا بإطلاق الإيمان على الإسلام والعكس في مواضع من الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذريات: 36] وفي حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع الإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله? شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة" الخ وهذه أخبار آحاد فالاستدلال بها في أصل من الدين إنما هو مجرد تقريب على أن معظمها لا يدل على إطلاق الإيمان على حالة ليس معها حالة إسلام.
القول الثالث: قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل ذلك أنهم لكمال حالهم ومجيئهم في فاتحة انبثاق أنوار الدين لم يكونوا يفرضون في الإيمان أحوالا تقصر في الامتثال، ونسب ذلك إلى مالك وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي وابن جريج والنخمي والحسن وعطاء وطاووس ومجاهد وابن المبارك والبخاري ونسب لابن مسعود وحذيفة وبه قال ابن حزم من الظاهرية وتمسك به اهـل الحديث لأخذهم بظاهر ألفاظ الأحاديث، وبذلك أثبتوا الزيادة والنقص في الإيمان بزيادة الأعمال ونقصها لقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] الخ.        
وجاء في الحديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" فدل ذلك على قبوله للتفاضل.        
وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" أي ليس متصفا حينئذ بكمال الإيمان.
ونقل عن مالك أنه يزيد ولا ينقص فقيل إنما أمسك مالك عن القول بنقصانه خشية أن يظن به موافقة الخوارج الذين يكفرون بالذنوب.        
قال ابن بطال وهذا لا يخالف قول مالك بأن الإيمان هو التصديق وهو لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق أول منازل الإيمان ويوجب للمصدق الدخول فيه ولا يوجب له استكمال منازله وإنما أراد هؤلاء الأئمة الرد على المرجئة في قولهم إن الإيمان قول بلا عمل اهـ.        
ولم يتابعهم عليه المتأخرون لأنهم روأه شرحا للإيمان الكامل وليس فيه النزاع إنما النزاع في أصل مسمى الإيمان وأول درجات النجاة من الخلود ولذلك أنكر أكثر المتكلمين أن يقال: الإيمان يزيد وينقص وتأولوا نحو قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} [الفتح: 4] بأن المراد تعدد الأدلة حتى يدوموا على الإيمان وهو التحقيق.
القول الرابع: قول الخوارج والمعتزلة إن الإيمان اعتقاد ونطق وعمل كما جاء في القول الثالث إلا أنهم أرادوا من قولهم حقيقة ظاهره من تركيب الإيمان من مجموع الثلاثة بحيث إذا اختل واحد منها بطل الإيمان، ولهم في تقرير بطلانه بنقص الأعمال الواجبة مذاهب غير منتظمة ولا معضودة بأدلة سوى التعلق بظواهر بعض الآثار مع الإهمال لما يعارضها من مثلها.
فإما الخوارج فقالوا إن تارك شيء من الأعمال كافر غير مؤمن وهو خالد في النار فالأعمال جزء من الإيمان وأرادوا من الأعمال فعل الواجبات وترك المحرمات ولو صغائر، إذ جميع الذنوب عندهم كبائر.        
وأما غير ذلك من الأعمال كالمندوبات والمستحبات فلا يوجب تركها خلودا، إذ لا يقول مسلم إن ترك السنن والمندوبات يوجب الكفر والخلود في النار، وكذلك فعل المكروهات.
وقالت الإباضية من الخوارج إن تارك بعض الواجبات كافر لكن كفره كفر نعمة لا شرك، نقله إمام الحرمين عنهم وهو الذي سمعناه من طلبتهم.
وأما المعتزلة فقد وافقوا الخوارج في أن للأعمال حظا من الإيمان إلا أنهم خالفوهم في مقاديرها ومذاهب المعتزلة في هذا الموضع غير منضبطة، فقال قدماؤهم وهو المشهور عنهم إن العاصي مخلد في النار لكنه لا يوصف بالكفر ولا بالإيمان، ووصفوه بالفسق وجعلوا استحقاق الخلود لارتكاب الكبيرة خاصة، وكذلك نسب إليهم ابن حزم في كتاب الفصل، وقال واصل بن عطاء الغزال إن مرتكب الكبيرة منزلة بين المنزلتين أي لا يوصف بإيمان ولا كفر فيفارق بذلك قول الخوارج وقول المرجئة ووافقه عمرو بن عبيد على ذلك.        
وهذه هي المسألة التي بسببها قال الحسن البصري لواصل وعمرو بن عبيد اعتزل مجلسنا.        
ودرج على هذا جميعهم، لكنهم اضطربوا أو اضطرب النقل عنهم في مسمى المنزلة بين المنزلتين، فقال إمام الحرمين في الإرشاد إن جمهورهم قالوا إن الكبيرة تحبط ثواب الطاعات وإن كثرت، ومعناه لا محالة أنها توجب الخلود في النار وبذلك جزم التفتزاني في شرح الكشاف وفي المقاصد، وقال إن المنزلة بين المنزلتين هي موجبة للخلود وإنما أثبتوا المنزلة لعدم إطلاق اسم الكفر ولإجراء أحكام المؤمنين على صاحبها في ظاهر الحال في الدنيا بحيث لا يعتبر مرتكب المعصية كالمرتد فيقتل.        
وقال في المقاصد ومثله في الإرشاد: المختار عندهم خلاف المشتهر فإن أبا علي وابنه وكثيرا من محققيهم ومتأخريهم قالوا: إن الكبائر إنما توجب دخول النار إذا زاد عقابها على ثواب الطاعات فإن أربت الطاعات على السيئات درأت السيئات، وليس النظر إلى أعداد الطاعات ولا الزلات، وإنما النظر إلى مقدار الأجور والأوزار فرب كبيرة واحدة يغلب وزرها طاعات كثيرة العدد، ولا سبيل إلى ضبط هذه المقادير بل أمرها موكول إلى علم الله تعالى.        
فإن استوت الحسنات والسيئات فقد اضطربوا في ذلك فهذا محل المنزلة بين المنزلتين.        
ونقل ابن حزم في الفصل عن جماعة منهم، فيهم بشر المريسي والأصم أن من استوت حسناته وسيئاته فهو من اهـل الأعراف ولهم وقفة لا يدخلون النار مدة ثم يدخلون الجنة ومن رجحت سيئاته فهو مجازي بقدر ما رجح له من الذنوب فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ثم يخرجون منها بالشفاعة.        
وهذا يقتضي أن هؤلاء لا يرون الخلود.        
وقد نقل البعض عن المعتزلة أن المنزلة بين المنزلتين لا جنة ولا نار إلا أن التفتزاني في المقاصد غلط هذا البعض وكذلك قال في شرح الكشاف.        
وقد قرر صاحب الكشاف حقيقة المنزلة بين المنزلتين بكلام مجمل فقال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلتي المؤمن والكافر.        
وقالوا إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء وكونه بين بين أن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة اهـ، فتراه مع إيضاحه لم يذكر فيه أنه خالد في النار وصرح في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] بما يعمم خلود اهـل الكبائر دون توبة في النار.
قلت: وكان الشان أن إجراء الأحكام الإسلامية عليه في الدنيا يقتضي أنه غير خالد إذ لا يعقل أن تجري عليه أحكام المسلمين وتنتفي عنه الثمرة التي لأجلها فارق الكفر إذ المسلم إنما أسلم فرارا من الخلود في النار فكيف يكون ارتكاب بعض المعاصي موجبا لانتقاض فائدة الإسلام، وإذا كان أحد لا يسلم من أن يقارف معصية وكانت التوبة الصادقة قد تتأخر وقد لا تحصل فيلزمهم ويلزم الخوارج أن يعدوا جمهور المسلمين كفارا وبئس منكرا من القول.        
على أن هذا مما يجرئ العصاة على نقض عري الدين إذ ينسل عنه المسلمون لانعدام الفائدة التي أسلموا لأجلها بحكم أنا الغريق فما خوفي من البلل ومن العجيب أن يصدر هذا القول من عاقل فضلا عن عالم، ثم الأعجب منه عكوف أتباعهم عليه تلوكه ألسنتهم ولا تفقهه أفئدتهم وكيف لم يقيض فيهم عالم منصف ينبري لهاته الترهات فيهذبها أو يؤولها كما أراد جمهور علماء السنة من صدر الأمة فمن يليهم.
القول الخامس: قالت الكرامية الإيمان هو الإقرار باللسان إذا لم يخالف الاعتقاد القول فلا يشترط في مسمى الإيمان شيء من المعرفة والتصديق، فأما إذا كان يعتقد خلاف مقاله بطل إيمانه وهذا يرجع إلى الاعتداد بإيمان من نطق بالشهادتين وإن لم يشغل عقله باعتقاد مدلولهما بل يكتفي منه بأنه لا يضمر خلاف مدلولهما وهذه أحوال نادرة لا ينبغي الخوض فيها.        
أو أرادوا أنه تجري عليه في الظاهر أحكام المؤمنين مع أن الكرامية لا ينكرون أن من يعتقد خلاف ما نطق به من الشهادتين أنه خالد في النار يوم القيامة، وفي تفسير الفخر أن غيلان الدمشقي وافق الكرامية.
هذه جوامع أقوال الفرق الإسلامية في مسمى الإيمان.        
وأنا أقول كلمة أربأ بها عن الانحياز إلى نصرة وهي أن اختلاف المسلمين في أول خطوات مسيرهم وأول موقف من مواقف أنظارهم وقد مضت عليه الأيام بعد الأيام وتعاقبت الأقوام بعد الأقوام يعد نقصا علميا لا ينبغي البقاء عليه.        
ولا أعرفني بعد هذا اليوم ملتفتا إليه.
لا جرم أن الشريعة أول ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام ليخرجوا بذلك من عقائد الشرك ومناوأة هذا الدين فإذا حصل ذلك تهيأت النفوس لقبول الخيرات وأفاضت الشريعة عليها من تلك النيرات فكانت في تلقي ذلك على حسب استعدادها، زينة لمعاشها في هذا العالم ومعادها.        
فالإيمان والإسلام هما الأصلان اللذان تنبعث عنهما الخيرات، وهما الحد الفاصل بين اهـل الشقاء وأهل الخير حدا لا يقبل تفاوتا ولا تشككا، لأن شأن الحدود أن تكون متفاوتة كما قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: من الآية32] ولا يدعي أحد أن مفهوم الإيمان هو مفهوم الإسلام، فيكابر لغة تتلى عليه.        
كيف وقد فسره الرسول لذلك الجالس عند ركبتيه.        
فما الذين ادعوه إلا قوم قد ضاقت عليهم العبارة فأرادوا أن الاعتداد في هذا الذي لا يكون إلا بالأمرين وبذلك يتضح وجه الاكتفاء في كثير من مواد الكتاب والسنة بأحد اللفظين، في مقام خطاب الذين تحلوا بكلتا الخصلتين، فانتظم القولان الأول والثاني.
إن موجب اضطراب الأقوال في التمييز بين حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام أمران: أحدهما أن الرسالة المحمدية دعت إلى الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته وبصدق محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بالغيب ودعت إلى النطق بما يدل على حصول هذا الاعتقاد في نفس المؤمن لأن الاعتقاد لا يعرف إلا بواسطة النطق ولم يقتنع الرسول من أحد بما يحصل الظن بأنه حصل له هذا الاعتقاد إلا بأن يعترف بذلك بنطقه إذا كان قادرا.
الثاني: أن المؤمنين الذين استجابوا دعوة الرسول لم تكن ظواهرهم مخالفة لعقائدهم إذ لم يكن منهم مسلم يبطن الكفر فكان حصول معنى الإيمان لهم مقارنا لحصول معنى الإسلام وصدق عليهم أنهم مؤمنون ومسلمون، ثم لما نبع النفاق بعد الهجرة طرأ الاحتياج إلى التفرقة بين حال الذين اتصفوا بالإيمان والإسلام وبين حال الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر تفرقة بالتحذير والتنبيه لا بالتعيين وتمييز الموصوف، لذا كانت ألفاظ القرآن وكلام النبي تجري في الغالب على مراعاة غالب أحوال المسلمين الجامعين بين المعنيين وربما جرت على مراعاة الأحوال النادرة عند الحاجة إلى التنبيه عليها كما في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: من الآية14] وكما في قول النبي لمن قال له مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا قال "أو مسلما".
فحاصل معنى الإيمان حصول الاعتقاد بما يجب اعتقاده، وحاصل معنى الإسلام إظهار المرء أنه أسلم نفسه لاتباع الدين ودعوة الرسول، قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية.
وهل يخامركم شك في أن الشريعة ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام لمجرد تعمير العالم الأخروي من جنة ونار لأن الله تعالى قادر على أن يخلق لهذين الموضعين خلقا يعمرونهما إن شاء خلقهما، ولكن الله أراد تعمير العالمين الدنيوي والأخروي،
وجعل الدنيا مصقلة النفوس البشرية تهيئها للتأهل إلى تعمير العالم الأخروي لتلتحق بالملائكة، فجعل الله الشرائع لكف الناس عن سيء الأفعال التي تصدر عنهم بدواعي شهواتهم المفسدة لفطرتهم، وأراد الله حفظ نظام هذا العالم أيضا ليبقى صالحا للوفاء بمراد الله إلى أمد أرادة، فشرع للناس شرعا ودعا الناس إلى اتباعه والدخول إلى حظيرته ذلك الدخول المسمى بالإيمان وبالإسلام لاشتراط حصولهما في قوام حقيقة الانضواء تحت هذا الشرع، ثم يستتبع ذلك إظهار تمكين أنفسهم من قبول ما يرسم لهم من السلوك عن طيب نفس.        
وثقة بمآلي نزاهة أو رجس.        
وذلك هو الأعمال ائتمارا وانتهاء وفعلا وانكفافا.        
وهذه الغاية هي التي تتفاوت فيها المراتب إلا أن تفاوت اهـلها فيها لا ينقص الأصل الذي به دخلوا فإن الآتي بالبعض من الخير قد آتى بما كان أحسن من حاله قبل الإيمان، والآتي بمعظم الخير قد فاق الذي دونه، والآتي بالجميع بقدر الطاقة هو الفائز، بحيث إن الشريعة لا تعدم منفعة تحصل من أفراد هؤلاء الذين تسموا بالمؤمنين والمسلمين ومن تلك المراتب حماية الحوزة والدفاع عن البيضة، فهل يشك أحد في أن عمرو بن معد يكرب أيام كان لا يرى الانتهاء عن شرب الخمر ويقول: إن الله تعالى قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: من الآية91] فقلنا لا.        
أنه قد دل جهاده يوم القادسية على إيمانه وعلى تحقيق شيء كثير من أجزاء إسلامه فهل يعد سواء والكافرين في كونه يخلد في النار.
فالأعمال إذن لها المرتبة الثانية بعد الإيمان والإسلام لأنها مكملة المقصد لا ينازع في هذين أعني كونها في الدرجة الثانية وكونها مقصودة إلا مكابر.        
ومما يؤيد هذا أكمل تأييد ما ورد في الصحاح في حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى اليمن فقال له "إنك ستأتي قوما من اهـل الكتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله -أي ينطقوا بذلك نطقا مطابقا لاعتقادهم- فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" إلخ فلولا أن للإيمان وللإسلام الحظ الأول لما قدمه، ولولا أن الأعمال لا دخل لها في مسمى الإسلام لما فرق بينهما، لأن الدعوة للحق يجب أن تكون دفعة وإلا لكان الرضا ببقائه على جزء من الكفر ولو لحظة مع توقع إجابته للدين رضى بالكفر وهو من الكفر فكيف يأمر بسلوكه المعصوم عن أن يقر أحدا على باطل، فانتظم القول الثالث للقولين.
ومما لا شبهة فيه أن استحقاق الثواب والعقاب على قدر الأعمال القلبية والجوارحية فالأمر الذي لا يحصل شيء من المطلوب دونه لا ينجي من العذاب إلا جميعه فوجب أن يكون من لم يؤمن ولم يسلم مخلدا في النار لأنه لا يحصل منه شيء من المقصود بدون الإيمان والإسلام، وأما الأمور التي يقرب فاعلها من الغاية بمقدار ما يخطو في طرقها فثوابها على قدر ارتكابها والعقوبة على قدر تركها، ولا ينبغي أن ينازع في هذا غير مكابر، إذ كيف يستوي عند الله العليم الحكيم رجلان أحدهما لم يؤمن ولم يسلم والآخر آمن وأسلم وامتثل وانتهى، إلا أنه اتبع الأمارة بالسوء في خصلة أو زلة فيحكم بأن كلا الرجلين في عذاب وخلود، وهل تبقى فائدة لكل مرتكب معصية في البقاء على الإسلام إذا كان الذي فر من أجله للإسلام حاصلا على كل تقدير وهو الخلود في النار حتى إذا أراد أن يتوب آمن يومئذ، وهل ينكر أحد أن جل الأمة لا يخلون من التلبس بالمعصية والمعصيتين إذ العصمة مفقودة فإذا كان ذلك قبل التوبة كفرا فهل يقول هذا العاقل إن الأمة في تلك الحالة متصفة بالكفر ولا إخال عاقلا يلتزمها بعد أن يسمعها، أفهل يموه أحد بعد هذا أن يأخذ من نحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني الصلاة، إن الله سمى الصلاة إيمانا ولولا أن العمل من الإيمان لما سميت كذلك بعد أن بينا أن الأعمال هي الغاية من الإيمان والإسلام فانتظم القول الرابع والخامس لثلاثة الأقوال لمن اقتدى في الإنصاف بأهل الكمال.
ثم على العالم المتشبع بالاطلاع على مقاصد الشريعة وتصاريفها أن يفرق بين مقامات خطابها فإن منها مقام موعظة وترغيب وترهيب وتبشير وتحذير، ومنها مقام تعليم وتحقيق فيرد كل وارد من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق ولا تتجاذبه المتعارضات مجاذبة المماذق فلا يحتج أحد بما ورد في أثبت أوصاف الموصوف، وأثبت أحد تلك الأوصاف تارة في سياق الثناء عليه إذ هو متصف بها جميعا، فإذا وصف تارة بجميعها لم يكن وصفه تارة أخرى بواحد منها دالا على مساواة ذلك الواحد لبقيتها، فإذا عرضت لنا أخبار شرعية جمعت بين الإيمان والأعمال في سياق التحذير أو التحريض لم تكن دليلا على كون حقيقة أحدهما مركبة ومقومة من مجموعهما فإنما يحتج محتج بسياق التفرقة والنفي أو بسياق التعليم والتبيين فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقوله سخيفة ناشئة عن قلة تأمل وإحاطة بموارد الشريعة وإغضاء عن غرضها ويؤول إلى تكفير جمهور المسلمين وانتقاض الجامعة الإسلامية بل إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره شيء، بل يكون حكمه في المسألة كحكم فتاة الحي.
أما مسألة العفو عن العصاة فهي مسألة تتعلق بغرضنا وليست منه، والأشاعرة قد توسعوا فيها وغيرهم ضيقها وأمرها موكول إلى علم الله إلا أن الذي بلغنا من الشرع هو اعتبار الوعد والوعيد وإلا لكان الزواجر كضرب في بارد الحديد وإذا علمتم أن منشأ الخلاف فيها هو النظر لدليل الوجوب أو الجواز علمتم خروج الخلاف فيها من الحقيقة إلى المجاز ولا عجب أعجب من مرور الأزمان على مثل قولة الخوارج والإباضية والمعتزلة ولا ينبري من حذاق علمائهم من يهذب المراد أو يؤول قول قدمائه ذلك التأويل المعتاد، وكأني بوميض فطنة نبهائهم أخذ يلوح من خلل الرماد.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:02 pm

[9] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9]
جملة {يُخَادِعُونَ} بدل اشتمال من جملة {يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: من الآية8] وما معها لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة.        
والخداع مصدر خادع الدال على معنى مفاعلة الخدع، والخدع هو فعل أو قول معه ما يوهم أن فاعله يريد بمدلوله نفع غيره وهو إنما يريد خلاف ذلك ويتكلف ترويجه على غيره ليغيره عن حالة هو فيها أو يصرفه عن أمر يوشك أن يفعله، تقول العرب خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يحاول الخروج من الجهة التي أدخل فيها الحارش يده حتى لا يرقبه الحارش لعلمه أنه آخذه لا محالة ثم يخرج الضب من النافقاء.
والخداع فعل مذموم إلا في الحرب والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع وهو مذموم أيضا لأنه من البله وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم والحلم قال الفرزدق:
استمطروا من قريش كل منخدع  . . .  إن الكريم إذا خادعته انخدعا
وفي الحديث "المؤمن غر كريم" أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله فإن الإيمان يزيد الفطنة لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة ألا ترى إلى قوله: "والسعيد من وعظ بغيره" مع قوله: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله وأما معنى المؤمن غر كريم فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية قال ذو الرمة:
تلك الفتاة التي علقتها عرضا  . . .  إن الحليم وذا الإسلام يختلب
فاعتذر عن سرعة تعلقه بها واختلابها عقله بكرم عقله وصحة إسلامه فان كل ذلك من أسباب جودة الرأي ورقة القلب فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها.
ومعنى صدور الخداع من جانبهم للمؤمنين ظاهر، وأما مخادعتهم الله تعالى المقتضية أن المنافقين قصدوا التمويه على الله تعالى مع أن ذلك لا يقصده عاقل يعلم أن الله مطلع على الضمائر والمقتضية أن الله يعاملهم بخداع، وكذلك صدور الخداع من جانب المؤمنين للمنافقين كما هو مقتضى صيغة المفاعلة مع أن ذلك من مذموم الفعل لا يليق بالمؤمنين فعله فلا يستقيم إسناده إلى الله ولا قصد المنافقين تعلقه بمعاملتهم لله كل ذلك يوجب تأويلا في معنى المفاعلة الدال عليه صيغة: {يُخَادِعُونَ} أو في فاعله المقدر من الجانب الآخر وهو المفعول المصرح به.
فأما التأويل في: {يُخَادِعُونَ} فعلى وجوه:
أحدها: أن مفعول خادع لا يلزم أن يكون مقصودا للمخادع بالكسر إذ قد يقصد خداع أحد فيصادف غيره كما يخادع أحد وكيل أحد في مال فيقال له أنت تخادع فلانا وفلانا تعني الوكيل وموكله، فهم قصدوا خداع المؤمنين لأنهم يكذبون أن يكون الإسلام من عند الله فلما كانت مخادعتهم المؤمنين لأجل الدين كان خداعهم راجعا لشارع ذلك الدين، وأما تأويل معنى خداع الله تعالى والمؤمنين إياهم فهو إغضاء المؤمنين عن بوادرهم وفلتات ألسنهم وكبوات أفعالهم وهفواتهم الدال جميعها على نفاقهم حتى لم يزالوا يعاملونهم معاملة المؤمنين فإن ذلك لما كان من المؤمنين بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لقد نهى من استأذنه في أن يقتل عبد الله بن ابن سلول، كان ذلك الصنيع بإذن الله فكان مرجعه إلى الله، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: من الآية142] كما رجع إليه خداعهم للمؤمنين، وهذا تأويل في المخادعة من جانبيها، كل بما يلائمه.
الثاني: ما ذكره صاحب الكشاف أن: {يُخَادِعُونَ} استعارة تمثيلية تشبيها للهيئة الحاصلة من معاملتهم للمؤمنين ولدين الله، ومن معاملة الله إياهم في الإملاء لهم والإبقاء
عليهم، ومعاملة المؤمنين إياهم في إجراء أحكام المسلمين عليهم، بهيئة فعل المتخادعين.
الثالث: أن يكون خادع بمعنى خدع أي غير مقصود به حصول الفعل من الجانبين بل قصد المبالغة.        
قال ابن عطية عن الخليل: يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة، قال ابن عطية كأنه يرد فاعل إلى اثنين ولا بد من حيث إن فيه مهلة ومدافعة ومماطلة فكأنه يقاوم في المعنى الذي يجيء فيه فاعل اهـ.        
وهذا يرجع إلى جعل صيغة المفاعلة مستعارة لمعنى المبالغة بتشبيه الفعل القوي بالفعل الحاصل من فاعلين على وجه التبعية، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عامر ومن معه: "يخدعون الله".        
وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله والمؤمنين عنه، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله.
وأما التأويل في فاعل {يُخَادِعُونَ} المقدر وهو المفعول أيضا فبأن يجعل المراد أنهم يخادعون رسول الله فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريقة المجاز العقلي لأجل الملابسة بين الرسول ومرسله وإما مجاز بالحذف للمضاف، فلا يكون مرادهم خداع الله حقيقة، ويبقى أن يكون رسول الله مخدوعا منهم ومخادعا لهم، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين للمنافقين لأنها جزاء لهم على خداعهم فذلك غير لائق.
وقوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف "يخادعون" بألف بعد الخاء وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب يخدعون بفتح التحتية وسكون الخاء.
وجملة {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} حال من الضمير في {يُخَادِعُونَ} الأول أي يخادعون في حال كونهم لا يخادعون إلا أنفسهم أي خداعهم مقصور عن ذواتهم لا يرجع شيء منه إلى الله والذين آمنوا.        
فيتعين أن الخداع في قوله {وَمَا يَخْدَعُونَ} عين الخداع المتقدم في قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} فيرد إشكال صحة قصر الخداع على أنفسهم مع إثبات مخادعتهم الله تعالى والمؤمنين.        
وقد أجاب صاحب الكشاف بما حاصله أن المخادعة الثانية مستعملة في لازم معنى المخادعة الأولى وهو الضر فإنها قد استعملت أولا في مطلق المعاملة الشبيهة بالخداع وهي معاملة الماكر المستخف فأطلق عليها لفظ المخادعة استعارة ثم أطلقت ثانيا وأريد منها لازم معنى الاستعارة وهو الضر لأن الذي يعامل بالمكر والاستخفاف يتصدى للانتقام من معامله فقد يجد قدرة من نفسه أو غرة من صاحبه فيضره ضرا فصار حصول الضر للمعامل أمرا عرفيا لازما لمعامله، وبذلك صح استعمال يخادع في هذا المعنى مجازا أو كناية وهو من بناء المجاز على المجاز لأن المخادعة أطلقت أولا استعارة ثم نزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازا في لازم المعنى المستعار له، فالمعنى وما يضرون إلا أنفسهم فيجري فيه الوجوه المتعلقة بإطلاق مادة الخداع على فعلهم، ويجيء تأويل معنى جعل أنفسهم شقا ثانيا للمخادعة مع أن الأنفس هي عينهم فيكون الخداع استعارة للمعاملة الشبيهة بفعل الجانبين المتخادعين بناء على ما شاع في وجدان الناس من الإحساس بأن الخواطر التي تدعو إلى ارتكاب ما تسوء عواقبه أنها فعل نفس هي مغايرة للعقل وهي التي تسول للإنسان الخير مرة والشر أخرى وهو تخيل بني على خطابة أخلاقية لإحداث العداوة بين المرء وبين خواطره الشريرة بجعلها واردة عليه من جهة غير ذاته بل من النفس حتى يتأهب لمقارعتها وعصيان أمرها ولو انتسبت إليه لما رأى من سبيل إلى مدافعتها، قال عمرو بن معد يكرب:
فجاشت علي النفس أول مرة  . . .  فردت على مكروهها فاستقرت
وذكر ابن عطية أن أبا علي الفارسي أنشد لبعض الأعراب:
لم تدر ما لا ولست قائلها  . . .  عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر نفسيك ممتريا  . . .  فيها وفي أختها ولم تكد
يريد بأختها كلمة "نعم" وهي أخت "لا" والمراد أنها أخت في اللسان.        
وقلت ومنه قول عروة بن أذينة:
وإذا وجدت لها وساوس سلوة  . . .  شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
فكأنهم لما عصوا نفوسهم التي تدعوهم للإيمان عند سماع الآيات والنذر إذ لا تخلو النفس من أوبة إلى الحق جعل معاملتهم لها في الإعراض عن نصحها وإعراضها عنهم في قلة تجديد النصح لهم وتركهم في غيهم كالمخادعة من هذين الجانبين.
واعلم أن قوله: {وَمَا يَخْادَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} أجمعت القراءات العشر على قراءته بضم التحتية وفتح الخاء بعدها ألف والنفس في لسان العرب الذات والقوة الباطنية المعبر عنها بالروح وخاطر العقل.
وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} عطف على جملة: {وَمَا يَخْادَعُونَ} والشعور يطلق على العلم بالأشياء الخفية، ومنه سمى الشاعر لعلمه بالمعاني التي لا يهتدي إليها كل
أحد وقدرته على الوزن والتقفية بسهولة، ولا يحسن لذلك كل أحد، وقولهم ليت شعري في التحير في علم أمر خفي، ولولا الخفاء لما تمنى علمه بل لعلمه بلا تمن، فقولهم هو لا يشعر وصف بعدم الفطنة لا بعدم الإحساس وهو أبلغ في الذم لأن الذم بالوصف الممكن الحصول أنكى من الذم بما يتحقق عدمه فإن أجسامهم أمر معلوم لهم وللناس فلا يغيضهم أن يوصفوا بعدمه وإنما يغيضهم أن يوصفوا بالبلادة.        
على أن خفاء مخادعتهم أنفسهم مما لا يمتري فيه.        
واختير مثله في نظيره في الخفاء وهو: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12]
لأن كليهما أثبت فيه ما هو المآل والغاية وهي مما يخفي واختير في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] نفى العلم دون نفي الشعور لأن السفه قد يبدو لصاحبه بأقل التفاتة إلى أحواله وتصرفاته لأن السفه أقرب لادعاء الظهور من مخادعة النفس عند إرادة مخادعة الغير ومن حصول الإفساد عند إرادة الإصلاح وعلى الإطلاق الثاني درج صاحب الكشاف قال: فهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:04 pm

[10] {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]
استئناف محض لعد مساويهم ويجوز أن يكون بيانيا لجواب سؤال متعجب ناشئ عن سماع الأحوال التي وصفوا بها قبل في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله تعالى وتخادع قوما عديدين وتطمع أن خداعها يتمشى عليهم ثم لا تشعر بأن ضرر الخداع لا حق بها لطائفة جديرة بأن يتعجب من أمرها المتعجب ويتساءل كيف خطر هذا بخواطرها فكان قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} بيانا وهو أن في قلوبهم خللا تزايد إلى أن بلغ حد الأفن.
ولهذا قدم الظرف وهو {فِي قُلُوبِهِمْ} للاهتمام لأن القلوب هي محل الفكرة في الخداع فلما كان المسئول عنه هو متعلقها وأثرها كان هو المهتم به في الجواب.        
وتنوين {مَرَضٌ} للتعظيم.        
وأطلق القلوب هنا على محل التفكير كما تقدم عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7].
والمرض حقيقة في عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجا غير تام وبمقدار الخروج يشتد الألم فإن تم الخروج فهو الموت.        
وهو مجاز في الأعراض النفسانية العارضة للأخلاق البشرية عروضا يخرجها عن كمالها، وإطلاق المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب وتدبير المزاج لإزالة هذا العارض والرجوع به إلى اعتداله هو الطب الحقيقي ومجازي كذلك قال علقمة بن عبدة الملقب بالفحل:
فإن تسألوني بالنساء فإنني  . . .  خبير بأدواء النساء طبيب
فذكر الأدواء والطب لفساد الأخلاق وإصلاحها.
والمراد بالمرض في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة لأنه هو الذي اتصف به المنافقون وهو المقصود من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم.
ومعنى {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} أن تلك الأخلاق الذميمية الناشئة عن النفاق والملازمة له كانت تتزايد فيهم بتزايد الأيام لأن من شأن الأخلاق إذا تمكنت أن تتزايد بتزايد الأيام حتى تصير ملكات كما قال المعلوط القريعي:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته  . . .  على السن خيرا لا يزال يزيد
وكذلك القول في الشر ولذلك قيل: من لم يتحلم في الصغر لا يتحلم في الكبر وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل:
فإنك سوف تحلم أو تناهى  . . .  إذا ما شبت أو شاب الغراب
وإنما كان النفاق موجبا لازدياد ما يقارنه من سيء الأخلاق لأن النفاق يستر الأخلاق الذميمة فتكون محجوبة عن الناصحين والمربين والمرشدين وبذلك تتأصل وتتوالد إلى غير حد فالنفاق في كتمه مساوئ الأخلاق بمنزلة كتم المريض داءه عن الطبيب، وإليك بيان ما ينشأ عن النفاق من الأمراض الأخلاقية في الجدول المذكور هنا وأشرنا إلى ما يشير إلى كل خلق منها في الآيات الواردة أو في آيات أخرى في هذا الجدول:
رسم تخطيطي
اعلم أن هذه طباع تنشأ عن النفاق أو تقارنه من حيث هو ولا سيما النفاق في الدين فقد نبهنا الله تعالى لمذام ذلك تعليما وتربية فإن النفاق يعتمد على ثلاث خصال وهي: الكذب القولي، والكذب الفعلي وهو الخداع، ويقارن ذلك الخوف لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات والثقة بالنفس وبحسن السلوك، ثم إن كل خصلة من هاته الخصال الثلاث الذميمة توكد هنوات أخرى، فالكذب ينشأ عن شيء من البله لأن الكاذب يعتقد أن كذبه يتمشى عند الناس وهذا من قلة الذكاء لأن النبيه يعلم أن في الناس مثله وخيرا منه، ثم البله يؤدي إلى الجهل بالحقائق وبمراتب العقول، ولأن الكذب يعود فكر صاحبه بالحقائق المحرفة وتشتبه عليه مع طول الاسترسال في ذلك حتى إنه ربما اعتقد ما اختلفه واقعا، وينشأ عن الأمرين السفه وهو خلل في الرأي وأفن في العقل، وقد أصبح علماء الأخلاق والطب يعدون الكذب من أمراض الدماغ.
وأما نشأة العجب والغرور والكفر وفساد الرأي عن الغباوة والجهل والسفه فظاهرة، وكذلك نشأة العزلة والجبن والتستر عن الخوف، وأما نشأة عداوة الناس عن الخداع فلأن عداوة الأضداد تبدأ من شعورهم بخداعه، وتعقبها عداوة الأصحاب لأنهم إذا رأوا تفنن ذلك الصاحب في النفاق والخداع داخلهم الشك أن يكون إخلاصه الذي يظهره لهم هو من المخادعة فإذا حصلت عداوة الفريقين تصدى الناس كلهم للتوقي منه والنكاية به، وتصدى هو للمكر بهم والفساد ليصل إلى مرامه، فرمته الناس عن قوس واحدة واجتني من ذلك أن يصير هزأة للناس أجمعين.
وقد رأيتم أن الناشئ عن مرض النفاق والزائد فيه هو زيادة ذلك الناشئ أي تأصله وتمكنه وتولد مذمات أخرى عنه، ولعل تنكير "مرض" في الموضعين أشعر بهذا فإن تنكير الأول للإشارة إلى تنويع أو تكثير، وتنكير الثاني ليشير إلى أن المزيد مرض آخر على قاعدة إعادة النكرة نكرة.
وإنما أسندت زيادة مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها لأن الله تعالى لما خلق هذا التولد وأسبابه وكان أمرا خفيا نبه الناس على خطر الاسترسال في النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكنا من القلب فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه تعالى لأن الله تعالى غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من غفلاتهم لينبه المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من معاملتهم أشد ما يمكن.
فجملة: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} خبرية معطوفة على قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} واقعة موقع الاستئناف للبيان، داخلة في دفع التعجب، أي أن سبب توغلهم في الفساد ومحاولتهم ما لا ينال لأن في قلوبهم مرضا ولأنه مرض يتزايد مع الأيام تزايدا مجعولا من الله فلا طمع في زواله.        
وقال بعض المفسرين: هي دعاء عليهم كقول جبير بن الأضبط:
تباعد عني فطحل إذ دعوته  . . .  أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وهو تفسير غير حسن لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء ولأن تصدي القرآن لشتمهم بذلك ليس من دأبه، ولأن الدعاء عليهم بالزيادة تنافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو "اللهم اهـد قومي فإنهم لا يعلمون".
وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} معطوف على قوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} إكمالا للفائدة فكمل بهذا العطف بيان ما جره النفاق إليهم من فساد الحال في الدنيا والعذاب في الآخرة.        
وتقديم الجار والمجرور وهو {لَهُمْ} للتنبيه على أنه خبر لا نعت حتى يستقر بمجرد سماع المبتدأ العلم بأن ذلك من صفاتهم فلا تلهو النفس عن تلقيه.
والأليم فعيل بمعنى مفعول لأن الأكثر في هذه الصيغة أن الرباعي بمعنى مفعل وأصله عذاب مؤلم بصيغة اسم المفعول أي مؤلم من يعذب به على طريقة المجاز العقلي لأن المؤلم هو المعذب دون العذاب كما قالوا جد جده، أو هو فعيل بمعنى فاعل من ألم بمعنى صار ذا ألم، وإما أن يكون فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم بكسر اللام، فقيل لم يثبت عن العرب في هذه المادة وثبت في نظيرها نحو الحكيم والسميع بمعنى المسمع كقول عمرو بن معد يكرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل  . . .  تحية بينهم ضرب وجيع
أي موجع، واختلف في جواز القياس عليه والحق أنه كثير في الكلام البليغ وأن منع القياس عليه للمولدين قصد منه التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال البليغ فلا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه.
وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} الباء للسببية وقرأ الجمهور "يكذبون" بضم أوله وتشديد الذال.        
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح أوله وتخفيف الذال أي بسبب تكذيبهم الرسول وإخباره بأنه مرسل من الله وأن القرآن وحي الله إلى الرسول، فمادة التفعيل للنسبة إلى الكذب مثل التعديل والتجريح، وأما قراءة التخفيف فعلى كذبهم الخاص في قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8]، وعلى كذبهم العام في قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] فالمقصود كذبهم في إظهار الإيمان وفي جعل أنفسهم المصلحين دون المؤمنين.
والكذب ضد الصدق، وسيأتي عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة المائدة [103].        
و"ما" المجرورة بالباء مصدرية، والمصدر هو المنسبك من كان أي الكون.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:05 pm

[11] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}
يظهر لي أن جملة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} عطف على جملة في قلوبهم مرض؛ لأن قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إخبار عن بعض عجيب أحوالهم، ومن تلك الأحوال أنهم قالوا إنما نحن مصلحون في حين أنهم مفسدون فيكون معطوفا على أقرب الجمل الملظة1 لأحوالهم وإن كان ذلك آيلا في المعنى إلى كونه معطوفا على الصلة في قوله: {مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] و"إذا" هنا لمجرد الظرفية وليست متضمنة معنى الشرط كما أنها هنا للماضي وليست للمستقبل وذلك كثير فيها كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 152] الآية.        
ومن نكت القرآن المغفول عنها تقييد هذا الفعل بالظرف فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن محل المذمة هو أنهم يقولون: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} مع كونهم مفسدين، ولكن عند التأمل يظهر أن هذا القول يكون قائلوه أجدر بالمذمة حين يقولونه في جواب من يقول لهم {لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} فإن هذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض القلب وأفن الرأي، لأن شأن الفساد أن لا يخفي ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة وجهل فوق جهل.
-----------------------------------------------
1 الملظة: الملازمة. 

-----------------------------------------------
وعندي أن هذا هو المقتضي لتقديم الظرف على جملة {قَالُوا. . . }، لأنه اهـم إذ هو محل التعجيب من حالهم، ونكت الإعجاز لا تتناهى.
والقائل لهم: {لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شؤونهم لقرابة أو صحبة، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة وعلما بأن النبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن زلاتهم كما أشار إليه ابن عطية.        
وفي جوابهم بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} ما يفيد أن الذين قالوا لهم: {لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} كانوا جازمين بأنهم مفسدون لأن ذلك مقتضى حرف إنما كما سيأتي ويدل لذلك عندي بناء فعل قيل للمجهول بحسب ما يأتي في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} ولا يصح أن يكون القائل لهم الله والرسول إذ لو نزل الوحي وبلغ إلى معينين منهم لعلم كفرهم ولو نزل مجملا كما تنزل مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.
وقد عن لي في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب:
أولها: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد.
الثانية إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها، وإفسادهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساويهم كما قال نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27]
الثالثة إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفتن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين.
والإفساد فعل ما به الفساد والهمزة فيه للجعل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض. والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملا على مضرة، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال: فسد الشيء بعد أن كان صالحا ويقال: فاسد إذا وجد فاسدا من أول وهلة، وكذلك يقال: أفسد إذا عمد إلى شيء صالح فأزال صلاحه، ويقال: أفسد إذا أوجد فسادا من أول الأمر.        
والأظهر أن الفساد موضوع للقدر المشترك من المعنيين وليس من الوضع المشترك، فليس إطلاقه عليهما كما هنا من قبيل استعمال المشترك في معنييه.        
فالإفساد في الأرض منه تصيير الأشياء الصالحة مضرة كالغش في الأطعمة، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحرق والقتل للبراء، ومنه إفساد الأنظمة كالفتن والجور، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة وتحسين الكفر ومناوأة الصالحين المصلحين، ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق {تُفْسِدُوا} تأكيدا للعموم المستفاد من وقوع الفعل في حيز النفي.
وذكر المحل الذي أفسدوا ما يحتوي عليه وهو الأرض لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها.        
والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها، ونظيره قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]
وقوله تعالى {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} جواب بالنقض فإن الإصلاح ضد الإفساد، أي جعل الشيء صالحا، والصلاح ضد الفساد يقال: صلح بعد أن كان فاسدا، ويقال: صلح بمعنى وجد من أول وهلة صالحا فهو موضوع للقدر المشترك كما قلنا.        
وجاءوا بإنما المفيدة للقصر باتفاق أئمة العربية والتفسير ولا اعتداد بمخالفه شذوذا في ذلك.        
وأفاد {إِنَّمَا} هنا قصر الموصوف على الصفة ردا على قول من قال لهم: {لا تُفْسِدُوا} ، لأن القائل أثبت لهم وصف الفساد إما باعتقاد أنهم ليسوا من الصلاح في شيء أو باعتقاد أنهم قد خلطوا عملا صالحا وفاسدا، فردوا عليهم بقصر القلب، وليس هو قصرا حقيقيا لأن قصر الموصوف على الصفة لا يكون حقيقيا ولأن حرف إنما يختص بقصر القلب كما في دلائل الإعجاز، واختير في كلامهم حرف إنما لأنه يخاطب به مخاطب مصر على الخطأ كما في دلائل الإعجاز وجعلت جملة القصر اسمية لتفيد أنهم جعلوا اتصافهم بالإصلاح أمرا ثابتا دائما، إذ من خصوصيات الجملة الاسمية إفادة الدوام.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:10 pm

[12] {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12]
رد عليهم في غرورهم وحصرهم أنفسهم في الصلاح فرد عليهم بطريق من طرق القصر هو أبلغ فيه من الطريق الذي قالوه لأن تعريف المسند يفيد قصر المسند على المسند إليه فيفيد قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} قصر الإفساد عليهم بحيث لا يوجد في
غيرهم وذلك ينفي حصرهم أنفسهم في الإصلاح وينقضه وهو جار على قانون النقض وعلى أسلوب القصر الحاصل بتعريف الجنس وإن كان الرد قد يكفي فيه أن يقال إنهم مفسدون بدون صيغة قصر، إلا أنه قصر ليفيد ادعاء نفي الإفساد عن غيرهم.        
وقد يفيد ذلك أن المنافقين ليسوا ممن ينتظم في عداد المصلحين لأن شأن المفسد عرفا أن لا يكون مصلحا إذ الإفساد هين الحصول وإنما يصد عنه الوازع فإذا خلع المرء عنه الوازع وأخذ في الإفساد هان عليه الإفساد ثم تكرر حتى يصبح سجية ودأبا لا يكاد يفارق موصوفه.
وحرف "ألا" للتنبيه إعلانا لوصفهم بالإفساد.
وقد أكد قصر الفساد عليهم بضمير الفصل أيضا-كما أكد به القصر في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] كما تقدم قريبا ودخول "إن" على الجملة وقرنها بألا المفيدة للتنبيه وذلك من الاهتمام بالخبر وتقويته دلالة على سخط الله تعالى عليهم فإن أدوات الاستفتاح مثل ألا وأما لما كان شأنها أن ينبه بها السامعون دلت على الاهتمام بالخبر وإشاعته وإعلانه، فلا جرم أن تدل على أبلغية ما تضمنه الخبر من مدح أو ذم أو غيرهما، ويدل ذلك أيضا على كمال ظهور مضمون الجملة للعيان لأن أدوات التنبيه شاركت أسماء الإشارة في تنبيه المخاطب.
وقوله {وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} محمله محمل قوله تعالى قبله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] فإن أفعالهم التي يبتهجون بها ويزعمونها منتهى الحذق والفطنة وخدمة المصلحة الخالصة آيلة إلى فساد عام لا محالة إلا أنهم لم يهتدوا إلى ذلك لخفائه وللغشاوة التي ألقيت على قلوبهم من أثر النفاق ومخالطة عظماء اهـله، فإن حال القرين وسخافة المذهب تطمس على العقول النيرة وتخف بالأحلام الراجحة حتى ترى حسنا ما ليس بالحسن.        
وموقع حرف الاستدراك هنا لأن الكلام دفع لما أثبتوه لأنفسهم من الخلوص للإصلاح، فرفع ذلك التوهم بحرف الاستدراك.


[13] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}
هو من تمام المقول قبله فحكمه حكمه بالعطف والقائل، ويجوز هنا أن يكون القائل أيضا طائفة من المنافقين يشيرون عليهم بالإقلاع عن النفاق لأنهم ضجروه وسئموا كلفه
ومتقياته، وكلت أذهانهم من ابتكار الحيل واختلاق الخطل.        
وحذف مفعول {آمِنُوا} استغناء عنه بالتشبيه في قوله {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أو لأنه معلوم للسامعين.        
وقوله: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل، واللام في الناس للجنس أو للاستغراق العرفي.        
والمراد بالناس من عدا المخاطبين، كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء.        
قال عمرو ابن البراقة النهمي1:
وننصر مولانا ونعلم أنه  . . .  كما الناس مجروم عليه وجارم
وقوله: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} استفهام للإنكار، قصدوا منه التبرؤ من الإيمان على أبلغ وجه، وجعلوا الإيمان المتبرأ منه شبيها بإيمان السفهاء تشنيعا له وتعريضا بالمسلمين بأنهم حملهم على الإيمان سفاهة عقولهم، ودلوا على أنهم علموا مراد من يقول لهم: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ}، أنه يعني بالناس المسلمين.
والسفهاء جمع سفيه وهو المتصف بالسفاهة.        
والسفاهة خفة العقل وقلة ضبطه للأمور قال السمؤال:
نخاف أن تسفه أحلامنا  . . .  فنخمل الدهر مع الخامل
والعرب تطلق السفاهة على أفن الرأي وضعفه، وتطلقها على سوء التدبير للمال.        
قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وقال {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة: 282] الآية لأن ذلك إنما يجيء من ضعف الرأي.
ووصفهم المؤمنين بالسفاهة بهتان لزعمهم أن مخالفتهم لا تكون إلا لخفة في عقولهم، وليس ذلك لتحقيرهم، كيف وفي المسلمين سادة العرب من المهاجرين والأنصار.      
وهذه شنشنة اهـل الفساد والسفه أن يرموا المصلحين بالمذمات بهتانا ووقاحة ليلهوهم عن تتبع مفاسدهم ولذلك قال أبو الطيب:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص  . . .  فهي الشهادة لي بأني كامل
وليس في هاته الآية دليل على حكم الزنديق إذا ظهر عليه وعرفت زندقته إثباتا، ولا نفيا لأن القائلين لهم: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}، هم من أقاربهم أو خاصتهم من المؤمنين
الذين لم يفشوا أمرهم فليس في الآية دليل على ظهور نفاقهم للرسول بوجه معتاد ولكنه شيء أطلع عليه نبيه، وكانت المصلحة في ستره، وقد اطلع بعض المؤمنين عليه بمخالطتهم وعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم الإعراض عن إذاعة ذلك فكانت الآية غير دالة على حكم شرعي يتعلق بحكم النفاق والزندقة.

-----------------------------------------------
1 بنون مكسورة وسكون الهاء نسبة إلى نهم: بطن من همدان.

-----------------------------------------------
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}
أتى بما يقابل جفاء طبعهم انتصارا للمؤمنين، ولولا جفاء قولهم {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} لما تصدى القرآن لسبابهم مع أن عادته الإعراض عن الجاهلين ولكنهم كانوا مضرب المثل قلت فأوجبت، ولأنه مقام بيان الحق من الباطل فتحسن فيه الصراحة والصرامة كما تقرر في آداب الخطابة، وأعلن ذلك بكلمة ألا المؤذنة بالتنبيه للخبر، وجاء بصيغة القصر على نحو ما قرر في {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] ليدل على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين فهو إضافي لا محالة.        
وإذا ثبتت لهم السفاهة انتفى عنهم الحلم لا محالة لأنهما ضدان في صفات العقول.
"إن" هنا لتوكيد الخبر وهو مضمون القصر وضمير الفصل لتأكيد القصر كما تقدم آنفا.
وألا كأختها المتقدمة في {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}.
وقوله {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} نفى عنهم العلم بكونهم سفهاء بكلمة {يَعْلَمُونَ} دون يشعرون خلافا للآيتين السابقتين لأن اتصافهم بالسفه ليس مما شأنه الخفاء حتى يكون العلم به شعورا ويكون الجهل به نفي شعور، بل هو وصف ظاهر لا يخفى لأن لقاءهم كل فريق بوجه واضطرابهم في الاعتماد على إحدى الخلتين وعدم ثباتهم على دينهم ثباتا كاملا ولا على الإسلام كذلك كاف في النداء بسفاهة أحلامهم فإن السفاهة صفة لا تكاد تخفي، وقد قالت العرب: السفاهة كاسمها.        
قال النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها  . . .  يهدى إلي غرائب الأشعار
وقال جزء بن كلاب الفقعسي:
تبغى ابن كوز والسفاهة كاسمها  . . .  ليستاد منا أن شتونا لياليا
فظنهم أن ما هم عليه من الكفر رشد، وأن ما تقلده المسلمون من الإيمان سفه يدل على انتفاء العلم عنهم.        
فموقع حرف الاستدراك لدفع تعجب من يتعجب من رضاهم بالاختصاص بوصف السفاهة.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:13 pm

[14] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
عطف {وَإِذَا لَقُوا} على ما عطف عليه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا} [البقرة: 11] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] والكلام في الظرفية والزمان سواء.
والتقييد بقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} تمهيد لقوله: {وَإِذَا خَلَوْا} فبذلك كان مفيدا فائدة زائدة على ما في قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] الآية فليس ما هنا تكرارا مع ما هناك، لأن المقصود هنا وصف ما كانوا يعلمون مع المؤمنين وإيهامهم أنهم منهم ولقائهم بوجوه الصادقين، فإذا فارقوهم وخلصوا إلى قومهم وقادتهم خلعوا ثوب التستر وصرحوا بما يبطنون.        
ونكتة تقديم الظرف تقدمت في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا}
ومعنى قولهم: {آمَنَّا} أي كنا مؤمنين فالمراد من الإيمان في قولهم: {آمَنَّا} الإيمان الشرعي الذي هو مجموع الأوصاف الاعتقادية والعلمية التي تلقب بها المؤمنون وعرفوا بها على حد قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [لأعراف: 156] أي كنا على دين اليهودية فلا متعلق بقوله: {آمَنَّا} حتى يحتاج لتوجيه حذفه أو تقديره، أو أريد آمنا بما آمنتم به، والأول أظهر، ولقاؤهم الذين آمنوا هو حضورهم مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ومجالس المؤمنين.        
ومعنى {قَالُوا آمَنَّا} أظهروا أنهم مؤمنون بمجرد القول لا بعقد القلب، أي نطقوا بكلمة الإسلام وغيرها مما يترجم عن الإيمان.
وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} معطوف على قوله {وَإِذَا لَقُوا} والمقصود هو هذا المعطوف وأما قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} فتمهيد له كما علمت، وذلك ظاهر من السياق لأن كل أحد يعلم أن المقصود أنهم يقولون آمنا في حال استهزاء يصرحون بقصده إذا خلوا بدليل أنه قد تقدم أنهم يأبون من الإيمان ويقولون: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] إنكارا لذلك، وواو العطف صالحة للدلالة على المعية وغيرها بحسب السياق وذلك أن السياق في بيان ما لهم من وجهين وجه مع المؤمنين ووجه مع قادتهم، وإنما لم يجعل مضمون الجملة الثانية في صورة الحال كأن يقال قائلين لشياطينهم إذا خلوا ولم نحمل الواو في قوله: {وَإِذَا خَلَوْا} عل الحال، أما الأول فلأن مضمون كلتا الجملتين لما كان صالحا لأن يعتبر صفة مستقلة دالة على النفاق قصد بالعطف استقلال كلتيهما لأن الغرض تعداد مساويهم فإن مضمون: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} مناد وحده بنفاقهم في هاته الحالة.        
كما يفصح عنه قوله: {وَإِذَا لَقُوا} الدال على أن ذلك في وقت مخصوص، وأما الثاني فلأن الأصل اتحاد موقع الجملتين المتماثلتين لفظا.        
ولما تقدم إيضاحه في وجه العدول عن الإتيان بالحال.
والشياطين جمع شيطان جمع تكسير وحقيقة الشيطان أنه نوع من المخلوقات المجردة، طبيعتها الحرارة النارية وهم من جنس الجن قال تعالى في إبليس {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: من الآية50] وقد اشتهر ذكره في كلام الأنبياء والحكماء، ويطلق الشيطان على المفسد ومثير الشر، تقول العرب فلان من الشياطين ومن شياطين العرب وذلك استعارة، وكذلك أطلق هنا على قادة المنافقين في النفاق، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ} [الأنعام: 112] الخ.
ووزن شيطان اختلف فيه البصريون والكوفيون من علماء العربية فقال البصريون هو فيعال من شطن بمعنى بعد؛ لأنه أبعد عن رحمة الله وعن الجنة فنونه أصلية وقال الكوفيون هو فعلان من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل ووجه التسمية ظاهر.        
ولا أحسب هذا الخلاف إلا أنه بحث عن صيغة اشتقاقه فحسب أي البحث عن حروفه الأصول وهل إن نونه أصل أو زائد وإلا فإنه لا يظن بنحاة الكوفة أن يدعوا أنه يعامل معاملة الوصف الذي فيه زيادة الألف والنون مثل غضبان، كيف وهو متفق على عدم منعه من الصرف في قوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17] وقال ابن عطية ويرد على قول الكوفيون أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن إذا فعل فعل الشيطان، فهذا يبين أنه من شطن وإلا لقالوا تشيط اهـ.        
وفي الكشاف: جعل سيبويه نون شيطان في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة اهـ.
والوجه أن تشيطن لما كان وصفا مشتقا من الاسم كقولهم تنمر أثبتوا فيه حروف الاسم على ما هي عليه لأنهم عاملوه معاملة الجامد دون المشتق لأنه ليس مشتقا مما اشتق منه الاسم بل من حروف الاسم فهو اشتقاق حصل بعد تحقيق الاستعمال وقطع النظر عن مادة الاشتقاق الأول فلا يكون قولهم ذلك مرجحا لأحد القولين.
وعندي أنه اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة ودخل في العربية من لغة سابقة لأن هذا الاسم من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان، وقد كان لعرب العراق فيها السبق قبل انتقالهم إلى الحجاز واليمن، ويدل لذلك تقارب الألفاظ الدالة على هذا المعنى في
أكثر اللغات القديمة.        
وكنت رأيت قول من قال إن اسمه في الفارسية سيطان.
و"خلوا" بمعنى انفردوا فهو فعل قاصر ويعدي بالباء وباللام ومن ومع بلا تضمين ويعدي بالى على تضمين معنى آب أو خلص ويعدي بنفسه على تضمين تجاوز وباعد ومنه ما شاع من قولهم "افعل كذا وخلاك ذم"1 أي إن تبعة الأمر أو ضره لا تعود عليك.        
وقد عدى هنا بالى ليشير إلى أن الخلوة كانت في مواضع هي مآبهم ومرجعهم وأن لقاءهم للمؤمنين إنما هو صدفة ولمحات قليلة، أفاد ذلك كله قوله {لَقُوا} و{خَلَوْا} وهذا من بديع فصاحة الكلمات وصراحتها.
واعلم أنه حكي خطابهم للذين آمنوا بما يقتضي أنهم لم يأتوا فيه بما يحقق الخبر من تأكيد، وخطابهم موهم بما يقتضي أنهم حققوا لهم بقاءهم على دينهم بتأكيد الخبر بما دل عليه حرف التأكيد في قوله {إِنَّا مَعَكُمْ} مع أن مقتضى الظاهر أن يكون كلامهم بعكس ذلك؛ لأن المؤمنين يشكون في إيمان المنافقين، وقومهم لا يشكون في بقائهم على دينهم، فجاءت حكاية كلامهم الموافقة لمدلولاته على خلاف مقتضى الظاهر لمراعاة ما هو أجدر بعناية البليغ من مقتضى الظاهر.        
فخلو خطابهم مع المؤمنين عما يفيد تأكيد الخبر لأنهم لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم في معرض من يتطرق ساحته الشك في صدقه لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد أيقظوهم إلى الشك وذلك من إتقان نفاقهم على أنه قد يكون المؤمنون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم فيكون تجريد الخبر من المؤكدات مقتضى الظاهر.
وأما قولهم لقومهم {إِنَّا مَعَكُمْ} بالتأكيد فذلك لأنه لما بدا من إبداعهم في النفاق عند لقاء المسلمين ما يوجب شك كبرائهم في البقاء على الكفر وتطرق به التهمة أبواب قلوبهم احتاجوا إلى تأكيد ما يدل على أنهم باقون على دينهم.        
وكذلك قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} فقد أبدوا به وجه ما أظهروه للمؤمنين وجاءوا فيه بصيغة قصر القلب لرد اعتقاد شياطينهم فيهم إن ما أظهروه للمؤمنين حقيقة وإيمان صادق.

-----------------------------------------------
1 أول من قاله قصير بن سعد الخمي لعمرو بن عدي ملك اللخميين من عرب العراقحين حرض قصيرا عمرا على الأخذ بتأر خاله جذيمة بن مالك الأبرش ملك اللخميين الذي قتلته الزباء العميليقية ملكة تدمر إذ خدعته وجلبته إلى بلدها وقتلته غيلة فملك اللخميون ابن أخته عمرو بن عدي وكان قصيرا وزيرا لجذيمة ولابن أخته فلما استصعب عمرو الأخذ بالثأر قال له قصير "اطلب الأمر وخلاك ذم" أي إن نجحت فذاك, وإلا فلا لوم عليك. 

-----------------------------------------------
وقد وجه صاحب الكشاف العدول عن التأكيد في قولهم: {آمَنَّا} والتأكيد في قولهم: {إِنَّا مَعَكُمْ}، بأن مخاطبتهم المؤمنين انتفى عنها ما يقتضي تأكيد الخبر لأن المخبرين لم يتعلق غرضهم بأكثر من ادعاء حدوث إيمانهم لأن نفوسهم لا تساعدهم على أن يتلفظوا بأقوى من ذلك ولأنهم علموا أن ذلك لا يروج على المسلمين أي فاقتصروا على اللازم من الكلام فإن عدم التأكيد في الكلام قد يكون لعدم اعتناء المتكلم بتحقيقه، ولعلمه أن تأكيده عبث لعدم رواجه عند السامع، وهذه نكتة غريبة مرجعها قطع النظر عن إنكار السامع والإعراض عن الاهتمام بالخبر.        
وأما مخاطبتهم شياطينهم فإنما أتوا بالخبر فيها مؤكدا لإفادة اهـتمامهم بذلك الخبر وصدق رغبتهم في النطق به ولعلمهم أن ذلك رائج عند المخاطبين فإن التأكيد قد يكون لاعتناء المتكلم بالخبر ورواجه عند السامع أي فهو تأكيد للاهتمام لا لرد الإنكار.
وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} قصروا أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا للقلب أي مؤمنون مخلصون، وجملة {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} تقرير لقوله {إِنَّا مَعَكُمْ} لأنهم إذا كانوا معهم كان ما أظهروه من مفارقة دينهم استهزاء أو نحوه فأما أن تكون الجملة الثانية استئنافا واقعة في جواب سؤال مقدر كأن سائلا يعجب من دعوى بقائهم على دينهم لما أتقنوه من مظاهر النفاق في معاملة المسلمين، وينكر أن يكونوا باقين على دينهم ويسأل كيف أمكن الجمع بين البقاء على الدين وإظهار المودة للمؤمنين فأجابوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ، وبه يتضح وجه الإتيان بأداة القصر لأن المنكر السائل يعتقد كذبهم في قولهم: إنا معكم، ويدعي عكس ذلك، وإما أن تكون الجملة بدلا من {إِنَّا مَعَكُمْ} بدل اشتمال لأن من دام على الكفر وتغالي فيه وهو مقتضي {مَعَكُمْ} أي في تصلبكم فقد حقر الإسلام وأهله واستخف بهم، والوجه الأول أولى الوجوه لأنه يجمع ما تفيده البدلية والتأكيد من تقرير مضمون الجملة الأولى مع ما فيه من الإشارة إلى رد التحير الذي ينشأ عنه السؤال وهذا يفوت على تقديري التأكيد والبدلية.
والاستهزاء: السخرية يقال هزأ به واستهزأ به فالسين والتاء للتأكيد مثل استجاب، أي عامله فعلا أو قولا يحصل به احتقاره أو والتطرية به، سواء أشعره بذلك أم أخفاه عنه.        
والباء فيه للسببية قيل لا يتعدى بغير الباء وقيل يتعدى بمن، وهو مرادف سخر في المعنى دون المادة كما سيأتي في سورة الأنعام.        
وقرأ أبو جعفر "مستهزون" بدون همزة وبضم الزاي تخفيفا وهو لغة فصيحة في المهموز.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:15 pm

[15] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}
لم تعطف هاته الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر، وذلك أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين {آمَنَّا} [البقرة: من الآية8]، وقولهم لشياطينهم: {إِنَّا مَعَكُمْ} الخ.        
يقول لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم وهل يتفطن متفطن في المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين، ومن الذي يتولى مقابلة صنعهم فكان للاستئناف بقوله: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} غاية الفخامة والجزالة.        
وهو أيضا واقع موقع الاعتراض والأكثر في الاعتراض ترك العاطف.        
وذكر {يَسْتَهْزِئُ} دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم.        
ولأجل اعتبار الاستئناف قدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي.        
ولم يقل يستهزئ الله بهم، لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول: من الذي يتولى مقابلة سوء صنيعهم فأعلم أن الذي يتولى ذلك هو رب العزة تعالى.        
وفي ذلك تنويه بشأن المنتصر لهم وهم المؤمنون كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوى الحكم لا محالة ثم يفيد مع ذلك قصر المسند على المسند إليه فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي في سياق الإيجاب يأتي لتقوى الحكم ويأتي للقصر على رأي الشيخ عبد القاهر وصاحب الكشاف كما صرح به في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20]، كان الجمع بين قصد التقوى وقصد التخصيص جائزا في مقاصد الكلام البليغ وقد جوزه في الكشاف عند قوله تعالى: {فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [الجن: 13]، لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا يترك حمل الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام، ولذلك يقال النكت لا تتزاحم.
كان المنافقون يغرهم ما يرون من صفح النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم فيحسبون رواج حيلتهم ونفاقهم ولذلك قال عبد الله بن أبي {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] فقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوى إذ لا مقتضى له.
وفعل {يَسْتَهْزِئُ} المسند إلى الله ليس مستعملا في حقيقته لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يسمى بالاستهزاء بدليل قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين، بما يشبه فعل المستهزئ بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راض عنهم أو أن أصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلاف ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم.        
والمضارع في قوله: {يَسْتَهْزِئُ} لزمن الحال.        
ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة.        
ويجوز أن يكون {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في {يَسْتَهْزِئُ} للاستقبال، وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية، ويجوز أن يكون مرادا به جزاء استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازا ومشاكلة، أو مرادا به مآل الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم.        
وهذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة أيضا لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعل قبيح ينزه الله تعالى عنه كما في الكشاف وهو مبني على المتعارف بين الناس.
وجيء في حكاية كلامهم بالمسند الاسمي في قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: من الآية14] لإفادة كلامهم معنى دوام صدور الاستهزاء منهم وثباته بحيث لا يحولون عنه.
وجيء في قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} بإفادة التجدد من الفعل المضارع أي تجدد إملاء الله لهم زمانا إلى أن يأخذهم العذاب، ليعلم المسلمون أن ما عليه اهـل النفاق من النعمة إنما هو إملاء وإن طال كما قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 196].
{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
يتعين أنه معطوف على {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}
و"يمد" فعل مشتق من المدد وهو الزيادة، يقال مده إذا زاده وهو الأصل في
الاشتقاق من غير حاجة إلى الهمزة لأنه متعد، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف المتعدي، وقد يقولون أمده بهمزة التعدية على تقدير جعله ذا مدد ثم غلب استعمال مد في الزيادة في ذات المفعول نحو مد له في عمره ومد الأرض أي مططها وأطالها، وغلب استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء: 133]
وإنما استعمل هذا في موضع الآخر على الأصل فلذلك قيل لا فرق بينهما في الاستعمال وقيل يختص أمد المهموز بالخير نحو {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ} [المؤمنون: 55]، ويختص مد بغير الخير ونقل ذلك عن أبي علي الفارسي في كتاب الحجة، ونقله ابن عطية عن يونس ابن حبيب، إلا المعدى باللام فإنه خاص بالزيادة في العمر والإمهال فيه عند الزمخشري وغيره خلافا لبعض اللغويين فاستغنوا بذكر اللام المؤذنة بأن ذلك للنفع وللأجل "بسكون الجيم" عن التفرقة بالهمز رجوعا للأصل لئلا يجمعوا بين ما يقتضي التعدية وهو الهمزة وبين ما يقتضي القصور وهو لام الجر، وكل هذا من تأثير الأمثلة على الناظرين وهي طريقة لهم في كثير من الأفعال التي يتفرع معناها الوضعي إلى معان جزئية له أو مقيدة أو مجازية أن يخصوا بعض لغاته أو بعض أحواله ببعض تلك المعاني جريا وراء التنصيص في الكلام ودفع اللبس بقدر الإمكان.        
وهذا من دقائق استعمال اللغة العربية، فلا يقال إن دعوى اختصاص بعض الاستعمالات ببعض المعاني هي دعوى اشتراك أو دعوى مجاز وكلاهما خلاف الأصل كما أورد عبد الحكيم؛ لأن ذلك التخصيص كما علمت اصطلاح في الاستعمال لا تعدد وضع ولا استعمال في غير المعنى الموضوع له ونظير ذلك قولهم فرق وفرق ووعد وأوعد ونشد وأنشد ونزل المضاعف وأنزل، وقولهم العثار مصدر عثر إذ أريد بالفعل الحقيقة، والعثور مصدر عثر إذ أريد بالفعل المجاز وهو الاطلاع، وقد فرقت العرب في مصادر الفعل الواحد وفي جموع الاسم الواحد لاختلاف القيود.
وتعدية فعل "يمد" إلى ضميرهم الدال على أدب أو ذوق مع أن المد إنما يتعدى إلى الطغيان جاءت على طريقة الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليتمكن التفصيل في ذهن السامع مثل طريقة بدل الاشتمال وجعل الزجاج والواحدي أصله ويمد لهم في طغيانهم فحذف لام الجر واتصل الفعل بالمجرور وعلى طريقة نزع الخافض وليس بذلك.
والطغيان مصدر بوزن الغفران والشكران، وهو مبالغة في الطغي وهو الإفراط في الشر والكبر وتعليق فعل {يَمُدُّهُمْ} هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله: {ِفي طُغْيَانِهِمْ} ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم أي يمهلهم فيكون نحو بعض ما فسر به قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بعد.
والعمة انطماس البصيرة وتحير الرأي وفعله وعمه فهو عامه وأعمه.
وإسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله: {ويَمُدُّهُمْ} إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى في حصول المسببات عند أسبابها.        
فالنفاق إذا دخل القلوب، كان من آثاره أن لا ينقطع عنها، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان تكوينها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلا من ارتباط المسببات بأسبابها وهي شتى ومتفرعة وذلك بخلق خاص بهم مباشرة ولكن الله حرمهم توفيقه الذي يقلعهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضيا استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ، فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب ازدياده، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى لأنه الخالق للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو بني الأمير المدينة لا سيما بعد التصريح بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال وهذا بخلاف نحو يزيدك وجهه حسنا وسرتني رؤيتك؛ لأن ذلك وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى إلا أنه غير ملتفت إليه في العرف فلذلك قال الشيخ عبد القاهر: إنه من المجاز الذي لا حقيقة له.
وإنما أضاف الطغيان لضمير المنافقين ولم يقل: في الطغيان، بتعريف الجنس كما قال في سورة الأعراف[202]: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} إشارة إلى تفظيع شأن هذا الطغيان وغرابته في بابه وإنهم اختصوا به حتى صار يعرف بإضافته إليهم.        
والظرف متعلق بيمدهم.
و {يَعْمَهُونَ} جملة حالية.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:18 pm

[16] {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى}
الإشارة إلى من يقول {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] وما عطف على صلته من صفاتهم وجيء باسم إشارة الجمع لأن ما صدق "من" هو فريق من الناس، وفصلت الجملة عن التي قبلها لتفيد تقرير معنى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] فمضمونها بمنزلة التوكيد، وذلك مما يقتضي الفصل، ولتفيد تعليل مضمون جملة {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}فتكون استئنافا بيانيا لسائل عن العلة، وهي أيضا فذلكة للجمل السابقة الشارحة لأحوالهم وشأن الفذلكة عدم العطف كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، وكل هذه الاعتبارات مقتض لعدم العطف ففيها ثلاثة موجبات للفصل.
وموقع هذه الجملة من نظم الكلام مقابل موقع جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] ومقابل موقع جملة {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] الآية
واسم الإشارة هنا غير مشار به إلى ذوات ولكن إلى صنف اجتمعت فيهم الصفات الماضية فانكشفت أحوالهم حتى صاروا كالحاضرين تجاه السامع بحيث يشار إليهم وهذا استعمال كثير الورود في الكلام البليغ.        
وليس في هذه الإشارة إشعار ببعد أو قرب حتى تفيد تحقيرا ناشئا عن البعد لأن هذا من أسماء الإشارة الغالبة في كلام العرب فلا عدول فيها حتى يكون العدول لمقصد كما تقدم في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]؛ ولأن المشار إليه هنا غير محسوس حتى يكون له مرتبة معينة فيكون العدول عن لفظها لقصد معنى ثان فإن قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} مع قرب الكتاب للناطق بآياته عدول عن إشارة القريب إلى البعيد فأفاد التعظيم.        
وعكس هذا قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة  . . .  لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
فأن الموت بعيد عنه فحقه أن يشير أليه باسم البعيد، وعدل عنه إلى إشارة القريب لإظهار استخفافه به.
والاشتراء افتعال من الشري وفعله شرى الذي هو بمعنى باع كما أن اشترى بمعنى ابتاع فاشترى وابتاع كلاهما مطاوع لفعله المجرد أشار اهـل اللسان إلى أن فاعل هذه المطاوعة هو الذي قبل الفعل والتزمه فدلوا بذلك على أنه آخذ شيئا لرغبة فيه، ولما كان معنى البيع مقتضيا آخذين وباذلين كان كل منهما بائعا ومبتاعا باختلاف الاعتبار، ففعل باع منظور فيه ابتداء إلى معنى البذل والفعل ابتاع منظور فيه ابتداء إلى معنى الأخذ فإن اعتبره المتكلم آخذا لما صار بيده عبر عنه بمبتاع ومشتر، وإن اعتبره باذلا لما خرج من يده من العوض، عبر عنه ببائع وشار، وبهذا يكون الفعلان جاريين على سنن واحد.        
وقد ذكر كثير من اللغويين ان شرى يستعمل بمعنى اشترى والذي جرأهم على ذلك سوء التأمل في قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] فتوهموا الضمير عائدا إلى المصريين مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} [يوسف: 19] أي باعوه، وحسبك شاهدا على ذلك قوله: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين ألا ترى إلى قوله: {لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى} [يوسف: 21]
وعلى ذينك الاعتبارين في فعلي الشراء والبيع كانت تعديتهما إلى المفعول فهما يتعديان إلى المقصود الأصلي بأنفسهما وإلى غيره بالباء فيقال باع فرسه بألف وابتاع فرس فلان بألف لأن الفرس هو الذي كانت المعاقدة لأجله لأن الذي أخرجه ليبيعه علم أن الناس يرغبون فيه والذي جاء ليشتريه كذلك.
وإطلاق الاشتراء هنا مجاز مرسل بعلاقة اللزوم، أطلق الاشتراء على لازمه الثاني وهو الحرص على شيء والزهد في ضده أي حرصوا على الضلالة، وزهدوا في الهدى إذ ليس في ما وقع من المنافقين استبدال شيء بشيء إذ لم يكونوا من قبل مهتدين.
ويجوز أن يكون الاشتراء مستعملا في الاستبدال وهو لازمه الأول واستعماله في هذا اللازم مشهور.        
قال بشامة بن حزن:
إنا بني نهشل لا ندعى لأب  . . .  عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
أي يبيعنا أي يبدلنا، وقال عنترة بن الأخرس المعنى من شعراء الحماسة:
ومن إن بعت منزلة بأخرى  . . .  حللت بأمره وبه تسير
أي إذا استبدلت دارا بأخرى.
وهذا بخلاف قول أبي النجم:
أخذت بالجمة رأسا أزعرا  . . .  وبالطويل العمر عمرا جيدار
فيكون الحمل عليه هنا أن اختلاطهم كما اشترى المسلم إذ تنصرا بالمسلمين وإظهارهم الإيمان حالة تشبه حال المهتدي تلبسوا بها فإذا خلوا إلى شياطينهم طرحوها واستبدلوها بحالة الضلال وعلى هذا الوجه الثاني يصح أيضا أن يكون الاشتراء استعارة بتشبيه تينك الحالتين بحال المشتري لشيء كان غير جائز له وارتضاه في الكشاف.
والموصول في قوله: {الَّذِينَ اشْتَرَوُا} بمعنى العرف بلام الجنس فيفيد التركيب قصر المسند على المسند إليه وهو قصر ادعائي باعتبار أنهم بلغوا الغاية في اشتراء الضلالة والحرص عليها إذ جمعوا الكفر والسفه والخداع والإفساد والاستهزاء بالمهتدين.
{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}
رتبت الفاء عدم الربح المعطوف بها وعدم الاهتداء المعطوف عليه على اشتراء الضلالة بالهدى لأن كليهما ناشئ عن الاشتراء المذكور في الوجود والظهور؛ لأنهم لما اشتروا الضلالة بالهدى فقد اشتروا ما لا ينفع وبذلوا ما ينفع فلا جرم أن يكونوا خاسرين وأن يتحقق أنهم لم يكونوا مهتدين فعدم الاهتداء وإن كان سابقا على اشتراء الضلالة بالهدى أو هو عينه أو هو سببه إلا أنه لكونه عدما فظهوره للناس في الوجود لا يكون إلا عند حصول أثره وهو ذلك الاشتراء، فإذا ظهر أثره تبين للناس المؤثر فلذلك صح ترتيبه بفاء الترتيب فأشبه العلة الغائية، ولهذا عبر بـ {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} دون ما اهـتدوا لأن ما كانوا أبلغ في النفي لإشعاره بأن انتفاء الاهتداء عنهم أمر متأصل سابق قديم، لأن كان تدل على اتصاف اسمها بخبرها منذ المضي فكان نفي الكون في الزمن الماضي أنسب بهذا التفريع.
والربح هو نجاح التجارة ومصادفة الرغبة في السلع بأكثر من الأثمان التي اشتراها بها التاجر ويطلق الربح على المال الحاصل للتاجر زائدا على رأس ماله.        
والتجارة بكسر أوله على وزن فعالة وهي زنة الضائع ومعنى التجارة التصدي لاشتراء الأشياء لقصد بيعها بثمن أوفر مما اشترى به ليكتسب من ذلك الوفر ما ينفقه أو يتأثله.        
ولما كان ذلك لا ينجح إلا بالمثابرة والتجديد صيغ له وزن الضائع ونفى الربح في الآية تشبيه لحال المنافقين إذ قصدوا من النفاق غاية فأخفقت مساعيهم وضاعت مقاصدهم بحال التجار الذين لم يحصلوا من تجارتهم على ربح فلا التفات إلى رأس مال في التجارة حتى يقال إنهم إذا لم يربحوا فقد بقى لهم نفع رأس المال ويجاب بأن نفي الربح يستلزم ضياع رأس المال لأنه يتلف في النفقة من القوت والكسوة لأن هذا كله غير منظور إليه إذ الاستعارة تعتمد على ما يقصد من وجه الشبه فلا تلزم المشابهة في الأمور كلها كما هو مقرر في فن البيان.
وإنما أسند الربح إلى التجارة حتى نفى عنها لأن الربح لما كان مسببا عن التجارة وكان الرابح هو التاجر صح إسناده للتجارة لأنها سببه فهو مجاز عقلي وذلك أنه لولا
الإسناد المجازي لما صح أن ينفي عن الشيء ما يعلم كل أحد أنه ليس من صفاته لأنه يصير من باب الإخبار بالمعلوم ضرورة، فلا تظنن أن النفي في مثل هذا حقيقة فتتركه، إن انتفاء الربح عن التجارة واقع ثابت لأنها لا توصف بالربح وهكذا تقول في نحو قول جرير:
"ونمت وما ليل المطي بنائم"
بخلاف قولك ما ليله بطويل، بل النفي هنا مجاز عقلي لأنه فرع عن اعتبار وصف التجارة بأنها إلى الخسر ووصفها بالربح مجاز وقاعدة ذلك أن تنظر في النفي إلى المنفى لو كان مثبتا فإن وجدت إثباته مجازا عقليا فاجعل نفيه كذلك وإلا فاجعل نفيه حقيقة لأنه لا ينفي إلا ما يصح أن يثبت.        
وهذه هي الطريقة التي انفصل عليها المحقق التفتزاني في المطول، وعدل عنها في حواشي الكشاف وهي أمثل مما عدل إليه.
وقد أفاد قوله {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ترشيحا للاستعارة في {اشْتَرَوُا} فإن مرجع الترشيح إلى أن يقفي المجاز بما يناسبه سواء كان ذلك الترشيح حقيقة بحيث لا يستفاد منه إلا تقوية المجاز كما تقول له يد طولى أو هو أسد دامي البراثن أم كان الترشيح متميزا به أو مستعارا لمعنى آخر هو من ملائمات المجاز الأول سواء حسن مع ذلك استقلاله بالاستعارة كما في هذه الآية فإن نفي الربح ترشح به {اشْتَرَوُا}.        
ومثله قول الشاعر أنشده ابن الأعرابي كما في أساس البلاغة للزمخشري ولم يعزه:
ولما رأيت النسر عز ابن داية  . . .  وعشش في وكريه جاش له صدرى1
فإنه لما شبه الشيب بالنسر والشعر الأسود بالغراب صح تشبيه حلول الشيب في محلي السواد وهما الفودان بتعشيش الطائر في موضع طائر آخر؛ أم لم يحسن إلا مع المجاز الأول كقول بعض فتاك العرب في أمه أنشده في الكشاف ولم أقف على تعيين قائله:
وما أم الردين وإن أدلت  . . .  بعالمه بأخلاق الكرام

-----------------------------------------------
1 عز وغلب, وابن داية من أسماء الغراب, سمي ابن داية لسواده, لأن الداية: الحاضنة, وكانت حواضن أبناء العرب والمشتغلات في شؤونهم في بيوت أكابرهم هن الإماء السود, فيطلق على الصبيان من أبناء ا؟لإماء ابن داية تأنيسا له لئلا يقال العبد أو الوصيف.
إذا الشيطان قصع في قفاها  . . .  تنفقناه بالحبل التؤام

-----------------------------------------------
فإنه لما استعار قصع لدخول الشيطان أي وسوسته وهي استعارة حسنة لأنه شبه الشيطان بضب يدخل للوسوسة ودخوله من مدخله المتعارف له وهو القاصعاء.        
وجعل علاجهم وإزالة وسوسته كالتنفق أي تطلب خروج الضب من نافقائه بعد أن يسد عليه القاصعاء ولا تحسن هذه الثانية إلا تبعا للأولى.        
والآية ليست من هذا القبيل.        
وقوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} قد علم من قوله: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} إلى {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فتعين أن الاهتداء المنفي هو الاهتداء بالمعنى الأصلي في اللغة وهو معرفة الطريق الموصل للمقصود وليس هو بالمعنى الشرعي المتقدم في قوله: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} فلا تكرير في المعنى فلا يرد أنهم لما أخبر عنهم بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى كان من المعلوم أنه لم يبق فيهم هدى.
ومعنى نفي الاهتداء كناية عن إضاعة القصد أي أنهم أضاعوا ما سعوا له ولم يعرفوا ما يوصل لخير الآخر ولا ما يضر المسلمين.        
وهذا نداء عليهم بسفه الرأي والخرق وهو كما علمت فيما تقدم يجري مجرى العلة لعدم ربح التجارة، فشبه سوء تصرفهم حتى في كفرهم بسوء تصرف من يريد الربح، فيقع في الخسران.        
فقوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} تمثيلية ويصح أن يؤخذ منها كناية عن الخسران وإضاعة كل شيء لأن من لم يكن مهتديا أضاع الربح وأضاع رأس المال بسوء سلوكه.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:22 pm

[17] {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}
أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة وهذه طريقة تشبيه التمثيل، إلحاقا لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة، لأن النفس إلى المحسوس أميل.
وإتماما للبيان بجمع المتفرقات في السمع، المطالة في اللفظ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد التفصيل وقعا من نفوس السامعين.
وتقرير الجمع ما تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفا لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها.        
قال في الكشاف: ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد.
واستدلالا على ما يتضمنه مجموع تلك الصفات من سوء الحالة وخيبة السعي وفساد العاقبة، فمن فوائد التشبيه قصد تفظيع المشبه.
وتقريبا لما في أحوالهم في الدين من التضاد والتخالف بين ظاهر جميل وباطن قبيح بصفة حال عجيبة من أحوال العالم فإن من فائدة التشبيه إظهار إمكان المشبه، وتنظير غرائبه بمثلها في المشبه به.
قال في الكشاف ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين أمثاله وفشت في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] اهــ.
والتمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم.
وهو هنا من قبيل التشبيه لا من الاستعارة لأن فيه ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي لفظ مثل.
فجملة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير والفذلكة، فكان بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف، والحالة التي وقع تمثيلها سيجيء بيانها في آخر تفسير الآية.
وأصل المثل بفتحتين هو النظير والمشابه، ويقال أيضا مثل بكسر الميم وسكون الثاء، ويقال مثيل كما يقال شبه وشبه وشبيه، وبدل وبدل، وبديل، ولا رابع لهذه الكلمات في مجيء فعل وفعل وفعيل بمعنى واحد.
وقد اختص لفظ المثل "بفتحتين" بإطلاقه على الحال الغريبة الشأن لأنها بحيث تمثل للناس وتوضح وتشبه سواء شبهت كما هنا، أم لم تشبه كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} [الرعد: من الآية35]
وبإطلاقه على قول يصدر في حال غريبة فيحفظ ويشيع بين الناس لبلاغة وإبداع فيه، فلا يزال الناس يذكرون الحال التي قيل فيها ذلك القول تبعا لذكره وكم من حالة عجيبة حدثت ونسيت لأنها لم يصدر فيها من قول بليغ ما يجعلها مذكورة تبعا لذكره فيسمى مثلا وأمثال العرب باب من أبواب بلاغتهم وقد خصت بالتأليف ويعرفونه بأنه قول شبه مضربه بمورده وسأذكره قريبا.
فالظاهر أن إطلاق المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة، وأنهم لا يكادون يضربون مثلا ولا يرونه اهـلا للتسيير وجديرا بالتداول إلا قولا فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى،فالمثل قول عزيز ليس في متعارف الأقوال العامة بل هو من أقوال فحول البلاغة فلذلك وصف بالغرابة1 أي العزة مثل قولهم الصيف ضيعت اللبن وقولهم لا يطاع لقصير أمر وستعرف وجه ذلك.
ولما شاع إطلاق لفظ المثل بالتحريك على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة أعنى وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به معا أو في جانب أحدهما بلفظ المثل وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون مثل فلان كمثل الأسد وقلما شبهوا حالا مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى: {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد: 14] بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالبا نحو الآية هنا، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 24] الآية وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسيا من أصل وضعه ومستعملا في معنى الحالة فلذلك لا يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى: {كَمَثَلِ} دالة على التشبيه وليست زائدة كما زعمه الرضي في شرح الحاجبية، وتبعه عبد الحكيم عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ} وقوفا مع أصل الوضع وإغضاء عن الاستعمال ألا ترى كيف استغنى عن إعادة لفظ المثل عند العطف في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ} ولم يستغن عن الكاف.
ومن أجل إطلاق لفظ المثل اقتبس علماء البيان مصطلحهم في تسمية التشبيه المركب بتشبيه التمثيل وتسمية استعمال المركب الدال على هيئة منتزعة من متعدد في غير ما وضع له مجموعة بعلاقة المشابهه استعارة تمثيلية وقد تقدم الإلمام بشيء منه عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]

-----------------------------------------------
1 أشرت بتفسير معنى الغراية لدفع الحيرة الواقعة في المراد من قول صاحب "الكشاف" "إلا قولا فيه غرابة الخ" فقد فسرها الطيبي بغموض الكلام وكونه نادرا معنى ولفظا وهذا لايطرد وقد سكت عنه الشارحان: السعد والسيد, وقد حام حوله الخفاجي. 

-----------------------------------------------
وإنني تتبعت كلامهم فوجدت التشبيه التمثيلي يعتريه ما يعتري التشبيه المفرد فيجيء في أربعة أقسام:
الأول: ما صرح فيه بأداة التشبيه أو حذفت منه على طريقة التشبيه البليغ كما في هذه الآية وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] إذا قدرنا أولئك كالذين اشتروا كما قدمنا.
الثاني" ما كان على طريقة الاستعارة التمثيلية المصرحة بأن يذكروا اللفظ الدال بالمطابقة على الهيئة المشبه بها ويحذف ما يدل على الهيئة المشبهة نحو المثال المشهور وهو قولهم: إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى.
الثالث" تمثيلية مكنية وهي أن تشبه هيئة بهيئة ولا يذكر اللفظ الدال على الهيئة المشبه بها بل يرمز إليه بما هو لازم مشتهر من لوازمه، وقد كنت أعد مثالا لهذا النوع خصوص الأمثال المعروفة بهذا اللقب نحو الصيف ضيعت اللبن وبيدي لا بيد عمرو ونحوها من الأمثال فإنها ألفاظ قيلت عند أحوال واشتهرت وسارت حتى صار ذكرها ينبئ بتلك الأحوال التي قيلت عندها وإن لم يذكر اللفظ الدال على الحالة، وموجب شهرتها سيأتي ثم لم يحضرني مثال للمكنية التمثيلية من غير باب الأمثال حتى كان يوم حضرت فيه جنازة، فلما دفنوا الميت وفرغوا من مواراته التراب ضج أناس بقولهم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة فقلت إن الذين سنوا هذه المقالة في مثل هذه الحالة ما أرادوا إلا تنظير هيئة حفرهم للميت بهيئة الذين كانوا يحفرون الخندق مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا يكررون هذه المقالة كما ورد في كتب السنة قصدا من هذا التنظير أن يكون حفرهم ذلك شبيها بحفر الخندق في غزوة الأحزاب بجامع رجاء القبول عند الله تعالى فلم يذكروا ما يدل على المشبه به ولكنهم طووه ورمزوا إليه بما هو من لوازمه التي عرف بها وهو قول النبي تلك المقالة ثم ظفرت بقول أحمد بن عبد ربه الأندلسي:
وقل لمن لام في التصابي  . . .  خل قليلا عن الطريق
فرأيته من باب التمثيلية المكنية فإنه حذف المشبه به وهو حال المتعرض لسائر في طريقه يسده عليه ويمنعه المرور به وأتى بشيء من لوازم هذه الحالة وهو قول السائر للمتعرض: خل عن الطريق.
رابعها: تمثيلية تبعية كقول أبي عطاء السندى:
ذكرتك والخطي يخطر بيننا  . . .  وقد نهلت مني المثقفة السمر
فأثبت النهل للرماح تشبيها لها بحالة الناهل فيما تصيبه من دماء الجرحى المرة بعد الأخرى كأنها لا يرويها ما تصيبه أولا ثم أتى بنهلت على وجه التبعية، ومن هذا القسم عند التفتزاني الاستعارة في "على" من قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وقد تقدم الكلام عليه هناك.
فأما المثل الذي هو قول شبه مضربه بموروده، وهو الذي وعدت بذكره آنفا فمعنى تشبيه مضربه بمورده أن تحصل حالة لها شبه بالحالة التي صدر فيها ذلك القول فيستحضر المتكلم تلك الحالة التي صدر فيها القول ويشبه بها الحالة التي عرضت وينطق بالقول الذي كان صدر في أثناء الحالة المشبه بها ليذكر السامع بتلك الحالة، وبأن حالة اليوم شبيهة بها ويجعل علامة ذكر ذلك القول الذي قيل في تلك الحالة.        
وإذا حققت التأمل وجدت هذا العمل من قبيل الاستعارة التمثيلية المكنية لأجل كون تلك الألفاظ المسماة بالأمثال قد سارت ونقلت بين البلغاء في تلك الحوادث فكانت من لوازم الحالات المشبه بها لا محالة لمقارنتها لها في أذهان الناس فهي لوازم عرفية لها بين اهـل الأدب فصارت من روادف أحوالها وكان ذكر تلك الأمثال رمزا إلى اعتبار الحالات التي قيلت فيها، ومن أجل ذلك امتنع تغييرها عن ألفاظها الواردة بها لأنها إذا غيرت لم تبق على ألفاظها المحفوظة المعهودة فيزول اقترانها في الأذهان بصور الحوادث التي قيلت فيها فلم يعد ذكرها رمزا للحال المشبه به التي هي من روادفها لا محالة وفي هذا ما يغني عن تطلب الوجه في احتراس العرب من تغيير الأمثال حتى تسلموا من الحيرة في الحكم بين صاحب الكشاف وصاحب المفتاح إذ جعل صاحب الكشاف سبب منع الأمثال من التغيير ما فيها من الغرابة فقال: ولم يضربوا مثلا ولا رأوه اهـلا للتسيير، ولا جديرا بالتداول إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه ومن ثم حوفظ عليه وحمى من التغيير فتردد شراحه في مراده من الغرابة، وقال الطيبي الغرابة غموض الكلام وندرته وذلك إما أن يكون بحسب المعنى وإما أن يكون بحسب اللفظ، أما الأول فكأن يرى عليه أثر التناقض وما هو بتناقض نحو قول الحكم بن عبد يغوث: رب رمية من غير رام.        
أي رب رمية مصيبة من غير رام أي عارف وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] إذ جعل القتل حياة.        
وأمَّا الثاني بأن يكون فيه ألفاظ غريبة لا تستعملها العامة نحو قول الحباب بن المنذر "أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب"1 أو فيه حذف وإضمار نحو رمية من غير رام.     
   
-----------------------------------------------
1 الجذيل والعذيق –بوزن التصغير– فالجذيل تصغير جذل وهو أصل الشجرة.        
والمحكك بصيغة==
-----------------------------------------------

أو فيه مشاكلة نحو: كما تدين تدان.        
أراد كما تفعل تجازى.        
وفسر بعضهم الغرابة بالبلاغة والفصاحة حتى صارت عجيبة وعندي أنه ما أراد بالغرابة إلا أن يكون قولا بديعا خاصيا إذ الغريب مقابل المألوف والغرابة عدم الإلف يريد عدم الإلف به في رفعة الشأن.        
وأما صاحب المفتاح فجعل منعها من التغيير لورودها على سبيل الاستعارة فقال: ثم إن التشبيه التمثيلي متى شاع واشتهر استعماله على سبيل الاستعارة صار يطلق عليه المثل لا غير اهـ.        
وإلى طريقته مال التفتزاني والسيد.        
وقد علمت سرها وشرحها فيما بيناه.        
ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير عن لفظها الذي ورد في الأصل تذكيرا وتأنيثا وغيرهما.        
فمعنى قولهم في تعريف المثل بهذا الإطلاق قول شبه مضربه بمورده أن مضربه هو الحالة المشبهة سميت مضربا لأنها بمنزلة مكان ضرب ذلك القول أي وضعه أي النطق به يقال ضرب المثل أي شبه ومثل قال تعالى: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} [البقرة: 26] وأما مورده فهو الحالة المشبه بها وهي التي ورد ذلك القول أي صدر عند حدوثها، سميت موردا لأنها بمنزلة مكان الماء الذي يرده المستقون، ويقال الأمثال السائرة أي الفاشية التي يتناقلها الناس ويتداولونها في مختلف القبائل والبلدان فكأنها تسير من بلد إلى بلد.        
و {الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} مفردا مراد به مشبه واحد لأن مستوقد النار واحد ولا معنى لاجتماع جماعة على استيقاد نار ولا يريبك كون الحالة المشبه حالة جماعة المنافقين، كأن تشبيه الهيئة بالهيئة إنما يتعلق بتصوير الهيئة المشبهة بها لا بكونها على وزن الهيئة المشبهة فإن المراد تشبيه حال المنافقين في ظهور أثر الإيمان ونوره مع تعقبه بالضلالة ودوامه، بحال من استوقد نارا.
واستوقد بمعنى أوقد فالسين والتاء فيه للتأكيد كما هما في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] وقولهم استبان الأمر وهذا كقول بعض بني بولان من طي في الحماسة.
نستوقد النبل بالحضيض ونصطاد  . . .  نفوسا بنت على الكرم

-----------------------------------------------
== اسم المفعول بمعنى المحكك عليه أي تتحكك عليه أي تحكك عليه الإبل الجرباء فيصير صلبا بعد أن يزول قشره.        
والعذيق: تصغير عذق – بفتح العين- وهو النخلة, والمرجب بصيغة اسم المفعول الذي جعلت له رجبة- بضم الراء وسكون الجيم- وهي دعامة تبنى حوله لئلا ينقعر أسفله.        
-----------------------------------------------

وهو مثل يضرب لمن خبر الأمور وجربها حتى صار الناس يستشفون برأيه.        
قاله الحباب الأنصاري يوم السقيفة.
أراد وقودا يقع عند الرمي بشدة.        
وكذلك في الآية لإيراد تمثيل حال المنافقين في إظهار الإيمان بحال طالب الوقود بل هو حال الموقد.        
وقوله:
{فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}
مفرع على {اسْتَوْقَدَ}.        
و {لِمَا} حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره فوقوع جوابها مقارن لوقوع شرطها وذلك معنى قولهم حرف وجود لوجود أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة أو كان ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان ترتب المقارن على مقارنة المهيأ والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي القرآن.
مثال ترتب المعلول على العلة لما تعفنت أخلاطه حم، والمسبب على السبب، {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} [هود: من الآية77] وقول عمرو بن معد يكرب:
لما رأيت نساءنا  . . .  يفحصن بالمعزاء شدا
نازلت كبشهم ولم  . . .  أر من نزال الكبش بدا
ومثال المقارن المهيأ قول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى  . . .  بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت  . . .  على هضيم الكشح ريا المخلخل
ومثال المقارن الحاصل اتفاقا {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو. . . . }1 [العنكبوت: من الآية31] وقوله: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: من الآية 69].        
فمن ظن أن لما تؤذن بالسببية اغترارا بقولهم وجود لوجود حملا للام في عبارتهم على التعليل فقد ارتكب شططا ولم يجد من كلام الأئمة فرطا.
وأضاء يجيء متعديا وهو الأصل لأن مجرده ضاء فتكون حينئذ همزته للتعدية كقول أبي الطمحان القيني.
أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم  . . .  دجى الليل حتى ثقب الجزع ثاقبه

-----------------------------------------------
في المطبوعة {سَلاماً} بدل {إِنَّا مُهْلِكُو} وهو خلط بين آيتين. 

-----------------------------------------------
ويجيء قاصرا بمعنى ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول امرئ القيس يصف البرق:
يضيء سناه أو مصابيح راهب  . . .  أمال السليط بالذبال المفتل
والآية تحتملهما أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها، فيكون ما حوله موصولا مفعولا لأضاءت وهو المتبادر.        
وتحتمل أن تكون من أضاء القاصر أي أضاءت النار أي اشتعلت وكثر ضوءها في نفسها، ويكون ما حوله على هذا ظرفا للنار أي حصل ضوء النار حولها غير بعيد عنها.
و {حَوْلَهُ} ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا بمعنى لديه ومن توهم أن {مَا حَوْلَهُ} يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصا إلا بعناء.
وجمع الضمير في قوله {بِنُورِهِمْ} مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله : {مَا حَوْلَهُ} مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه بها؛ وهي حال المستوقد الواحد على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى الذي، قريبا من رد العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول طرفة:
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن  . . .  مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
وهذا رجوع بديع، وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية19] وحسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعا واحدا في المشبه والمشبه به، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه.
وهذا يقتضي أن تكون جملة {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} جواب {لما} فيكون جمع ضمائر {بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه، ولذلك اختير هنا لفظ النور عوضا عن النار المبتدأ به، للتنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين، فهذا إيجاز بديع كأنه قيل فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله فهو من أساليب الإعجاز.        
وقريب منه قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ.        
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ.        
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 22-24]
فقوله: {أُرْسِلْتُمْ} حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال محمد صلى الله عليه وسلم قومه بقوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ}
وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقا لما في الآية بعدها من قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه.        
وجوز صاحب الكشاف أن يكون قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} استئنافا ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} ويكون جواب لما محذوفا دلت عليه الجملة المستأنفة وهو قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف.
ومعنى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} : أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفيء، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: من الآية15] و {ذَهَبَ} المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} [يوسف: من الآية15] وأذهبه جعله ذاهبا بأمره أو إرساله فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهابا لا شك فيه يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ذهب به مفيدا معنى أذهبه، ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله {يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} [البقرة: من الآية258] وقوله: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [ يوسف: من الآية100] ثم جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون: ذهب القمار بمال فلان ولا يريدون أنه ذهب معه.        
ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب فبقيت المبالغة فيه.        
وضمير المفرد في قوله: {مَا حَوْلَهُ} مراعاة للحال المشبهة.
واختيار لفظ النور في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} : دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب؛ لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة، وعبر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله {بِنُورِهِمْ}
{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}
هذه الجملة تتضمن تقريرا لمضمون {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} : لأن من ذهب نوره بقى في ظلمة لا يبصر، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية فإن قوله {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} : يفيد أنهم لما استوقدوا نارا فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت المساعي ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} تذكيرا بذلك وتنبيها إليه.        
فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة:
نداماي بيض كالنجوم وقينة  . . .  تروح إلينا بين برد ومجسد
فإن قوله تروح إلينا الخ لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها.        
وتفيد هذه الجملة أيضا أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد، على ما في قوله {وَتَرَكَهُمْ} من إفادة تحقيرهم، وما في جمع {ظُلُمَاتٍ} من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمنا من جملة {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}: وما يقتضيه جمع {ظُلُمَاتٍ} من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم كما سيأتي.        
وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم تفصل.
وحقيقة الترك مفارقة أحد شيئا كان مقارنا له في موضع وإبقاءه في ذلك الوضع.        
وكثيرا ما يذكرون الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازا عن معنى صير أو جعل.        
قال النابغة:
فلا تتركني بالوعيد كأنني  . . .  إلى الناس مطلي به القار أجرب
أي لا تصيرني بهذه المشابهة، وقول عنترة:
جادت عليه كل عين ثرة  . . .  فتركن كل قرارة كالدرهم
يريد صيرن، والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة، أو عن تحقيره كما في هذه الآية.
والفرق بين ما يعتبر فيه معنى صير حتى يكون منصوبه الثاني مفعولا، وما يعتبر المنصوب الثاني معه حالا، أنه إن كان القصد إلى الإخبار بالتخلية والتنحي عنه فالمنصوب الثاني حال وإن كان القصد أولا إلى ذلك المنصوب الثاني وهو محل الفائدة
فالمنصوب الثاني مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظا.
وجمع {ظُلُمَاتٍ} لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] وقول النبي صلى الله عليه وسلم "الظلم ظلمات يوم القيامة" فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير كما يأتي عند قوله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14] في سورة الفرقان، ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم، للواحد، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم، وصيغة الجمع من ذلك القبيل، قيل لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفردا، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقا في فصيح الكلام وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] في سورة الأنعام بخلاف قوله تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر: 6] مقصود بقرينة وصفه بثلاث.        
ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليه السلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد، ويتعين في هذه الآية أن جمع {ظُلُمَاتٍ} شير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي: حالة الكفر، وحالة الكذب، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق.
وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامه قبل الانتفاع به، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نورا وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكذب وما يتفرع عن النفاق من المذام، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عود بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم.        
وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة {لا يُبْصِرُونَ} لتصوير حال من انطفأ نوره بعد أن استضاء به.
ومفعول {لا يُبْصِرُونَ} حذوف لقصد عموم نفي المبصرات فنزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم، كقول البحتري:
شجو حساده وغيظ عداه  . . .  أن يرى مبصر ويسمع واع
وقد أجمل وجه الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتمادا على فطنة السامع لأنه يمخضه من مجموع ما تقدم من شرح حالهم ابتداء من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [بقرة: 8] إلخ ومما يتضمنه المثلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة المشبه بها.        
فإن إظهارهم الإيمان بقولهم {آمَنَّا بِاللَّهِ} وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] وقولهم عند لقاء المؤمنين {آمَنَّا} [البقرة: 14] أحوال ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاة والصدقة مع المسلمين ويصدر منهم طيب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبة حالة تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه، متل ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد نارا ثم ذهب عنه نورها.
ومن بدائع هذا التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيأة المشبه بها ومقابلتها للهيأة المركبة من حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهات مفردة لكل جزء من هيأة أحوالهم بجزء مفرد من الهيأة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين، وشبه رجوعهم إلى كفرهم بذهاب نور النار، وشبه كفرهم بالظلمات، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:24 pm

[18] {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}
أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير {مَثَلُهُمْ} ولا يصح أن يكون عائدا على الذي استوقد لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخره لأن قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لما تأتي منه الاستيقاد، وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفا بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عرف للسامع فيقولون: فلان أو فتى أو رجل أو نحو ذلك على تقدير هو فلان.        
ومنه قوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [النبأ: 37,36] التقدير هو رب السماوات عدل عن جعل رب بدلاً من ربك، وقول الحماسي1:

-----------------------------------------------
1 من "الحماسة" في باب الأضياف غير منسوب, ونسبه الشريف المرتضى في "أماليه" لإبراهيم بن العباس الصولي.        
وقيل لعبد الله بن الزبير.        
وقيل لمحمد بن سعيد الكاتب, وعمرو المذكور هو عمرو بن سعد بن العاص الملقب بالأشدق.
-----------------------------------------------

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي  . . .  أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه  . . .  ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
وسمى السكاكي هذا الحذف الحذف الذي اتبع فيه الاستعمال الوارد على تركه.        
والإخبار عنهم بهذه الأخبار جاء على طريقة التشبيه البليغ شبهوا في انعدام آثار الإحساس منهم بالصم البكم العمي أي كل واحد منهم اجتمعت له الصفات الثلاث وذلك شأن الأخبار الواردة بصيغة الجمع بعد مبتدأ هو اسم دال على جمع، فالمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم الأعمى وليس المعنى على التوزيع فلا يفهم أن بعضهم كالأصم وبعضهم كالأبكم وبعضهم كالأعمى، وليس هو من الاستعارة عند محققي اهـل البيان.        
قال صاحب الكشاف فإن قلت هل يسمى ما في الآية استعارة قلت مختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون اهــ.        
أي لأن الاستعارة تعتمد على لفظ المستعار منه أو المستعار له في جملة الاستعارة فمتى ذكرا معا فهو تشبيه، ولا يضر ذكر لفظ المستعار له في غير جملة الاستعارة لظهور أنه لولا العلم بالمستعار له في الكلام لما ظهرت الاستعارة ولذلك اتفقوا على أن قول ابن العميد:
قامت تظللني من الشمس  . . .  نفس أعز علي من نفسي
قامت تظللني ومن عجب  . . .  شمس تظللني من الشمس
أن قوله شمس استعارة ولم يمنعهم من ذلك ذكر المستعار له قبل في قوله نفس أعز، وضميرها في قوله قامت تظللني وكذا إذا كان لفظ المستعار غير مقصود ابتناء التشبيه عليه لم يكن مانعا من الاستعارة كقول أبي الحسن ابن طباطبا:
لا تعجبوا من بلي غلالته  . . .  قد زر أزراره على القمر
فإن الضمير لم يذكر ليبني عليه التشبيه بل جاء التشبيه عقبه.
والصم والبكم والعمي جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمي.        
فالصمم انعدام إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعا، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق، والعمى انعدام البصر عمن من شأنه الإبصار.
وقوله: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} تفريع على جملة {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} لأن من اعتراه هذه الصفات انعدم منه الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب.        
والرجوع الانصراف من مكان حلول ثان إلى مكان حلول أول وهو هنا مجاز في الإقلاع عن الكفر.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:27 pm

[19] {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ}
عطف على التمثيل السابق وهو قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17] أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه.
وقد استقريت من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرئ القيس في معلقته:
أصاح ترى برقا أريك وميضه  . . .  كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب  . . .  أمال السليط بالذبال المفتل
وقول لبيد في معلقته يصف راحلته:
فلها هباب في الزمام كأنها  . . .  صهباء خف مع الجنوب جهامها
أو ملمع وسقت لأحقب لاحه  . . .  طرد الفحول وضربها وكدامها1
وكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة

-----------------------------------------------
1 الهباب- بكسر الهاء- مصدر كالهبوب وهو النهوض والنشاط.        
والصبهاء: السحابة المائل لونها للواد.        
والجهام: السحاب لامطر فيه وهو خفيف السير.        
والملمع: التي استبان حملها, وأراد الأتان ووسقت: حملت.        
والأحقب: هو حمار الوحش وقوله: لأحقب أي من أحقب.        
ولاحه: غيره وطرد الفحول: خصامها.        
والبكدام- بكسر الكاف- العض.
-----------------------------------------------

أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما:
أفتلك أم وحشية مسبوعة  . . .  خذلت وهادية الصوار قوامها1
وقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث:
وثب المسحج من عانات معلقة  . . .  كأنه مستبان الشك أو جنب
ثم قال:
أذاك أم نمش بالوشي أكرعه  . . .  مسفع الخد غاد ناشع شبب
ثم قال:
أذاك أم خاضب بالسي مرتعه  . . .  أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب2
وربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر: 29] الآية ثم قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ} [النحل: 76] الآية.
وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر: 19-21] الآية.        
بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الانبياء: 15].        
وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي فإنه لعزته مفردا تعز استطاعة تكريره.
و"أو" عطفت لفظ "صيب" على {الَّذِي اسْتَوْقَدَ} [البقرة: 17] بتقدير مثل بين الكاف وصيب.        
وإعادة حرف التشبيه مع حرف العطف المغنى عن إعادة العامل، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه

-----------------------------------------------
1 المسبوعة: التي أكل السبع ولدها.
وخذلت بمعنى تأخرت عن صواحبها في الرواح.
والهادية المتقدمة.
والصوار -بكسر الصاد- قطيع الغنم.
والقوام -بكسر القاف- ما به يقوم الأمر أي تأخرت النعجة الوحشية ولم تهتد بمقدمة القطيع.
2 قوله: أذاك: الإشارة إلى حمار الوحش في الأبيات قبله وهو الذي أراده بالمسحج.
والمسحج: المكدوم وهو من الصفات الغالبة على حمار الوحش لأنه لا يخلوا عن كدام في جلده من العراك مع الحمر والنمش –بكسر الميم– الذي به النمش بفتحها وهو نقط بيض وسود وأراد به الثور الوحشي.
والوشي: التخطيط والمسفع: الأسود والشبب: المسن من ثيران الوحش.
وقوله خاضب أراد ذكر النعام فإنه إذا أكل بقل الربيع أحمرت ساقاه.
والسي -بكسر السين وتشديد الياء- المستوي من الأرض.
وأبو الثلاثين أي له ثلاثين فرخا وذلك عدد ما يبيض النعام.
ومنقلب: راجع لفراخه فهو شديد السير.
-----------------------------------------------

وهم في الغالب لا يكررونه في العطف.
والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مثلت في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17] بنوع إطلاق وتقييد.
فقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} دل على تقدير قوم قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وقوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] الآية.        
لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يجيء فيه ما جاز في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] الخ.        
فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان اهـلها كانين في مساكنهم كما علم ذلك من قوله: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] فذلك الغيث نفع اهـل الأرض ولم يصبهم مما اتصل به الرعد والصواعق ضر ولم ينفع المارين بها وأضر بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق، فالصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغيث وارد.
وفي الحديث الصحيح "مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث أصاب أرضا فكان منها نقية" الخ.        
وفي القرآن {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20].        
ولا تجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني، ومنه أخذ أبو الطيب قوله:
فتى كالسحاب الجون يرجى ويتقى  . . .  يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق
والظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر.        
والرعد لقوارع القرآن وزواجره.
والبرق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل.
والصيب فيعل من صاب يصوب صوبا إذا نزل بشدة، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل.
والظاهر أن قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرئ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من علٍ إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير، وكقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: من الآية38]، وقوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 71] وقال تعالى: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [لأنفال: 32].
والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [ابراهيم: 24} وتطلق على السحاب، وتطلق على المطر نفسه ففي الحديث: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر سماء الخ، ولما كان تكون المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن.
ويمكن أن يكون قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} تقييدا للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في الكشاف على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كل ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} قيدا للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عاليا كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريبا من الأرض غير مرتفع.
وضمير "فيه" عائد إلى "صيب" والظرفية مجازية بمعنى معه، والظلمات مضى القول فيه آنفا.
والمراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطرا وبرقا وتسمى سارية.
والرعد أصوات تنشأ في السحاب.
والبرق لامع ناري مضيء يظهر في السحاب، والرعد والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح البرق.
وقد علمت أن الصيب تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد بأنها تسر أقواما وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير اهـل تلك الدار، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:32 pm

[20] {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
الأظهر أن تكون جملة {يَجْعَلُونَ} حالا اتضح بها المقصود من الهيئة المشبه بها لأنها كانت مجملة، وأما جملة {يَكَادُ الْبَرْقُ} فيجوز كونها حالا من ضمير {يَجْعَلُونَ} لأن بها كمال إيضاح الهيئة المشبه بها ويجوز كونها استئنافا لبيان حال الفريق عند البرق نشأ عن بيان حالهم عند الرعد.
وجملة {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} حال من "البرق" أو من ضمير "أبصارهم" لا غير، وفي هذا تشبيه لجزع المنافقين من آيات الوعيد بما يعتري القائم تحت السماء حين الرعد والبرق والظلمات فهو يخشى استكاك سمعه ويخشى الصواعق حذر الموت ويعشيه البرق حين يلمع بإضاءة شديدة ويعمى عليه الطريق بعد انقطاع لمعانه.
وقوله: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} تمثيل لحال حيرة المنافقين بحال حيرة السائرين في الليل المظلم المرعد المبرق.
وقوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} اعتراض للتذكير بأن المقصود التمثيل لحال المنافقين في كفرهم لا لمجرد التفنن في التمثيل.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} رجوع إلى وعيد المنافقين الذين هم المقصود من التمثيل فالضمائر التي في جملة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} راجعة إلى أصل الكلام، وتوزيع الضمائر دل عليه السياق.
فعبر عن زواجر القرآن بالصواعق وعن الخطاط قلوب المنافقين وهي البصائر عن قرار نور الإيمان فيها بخطف البرق للأبصار، وإلى نحو من هذا يشير كلام ابن عطية نقلا عن جمهور المفسرين وهو مجاز شائع، يقال فلان يرعد ويبرق، على أن بناءه هنا على المجاز السابق يزيده قبولا، وعبر عما يحصل للمنافقين من الشك في صحة اعتقادهم بمشي الساري في ظلمة إذا أضاء له البرق، وعن إقلاعهم عن ذلك الشك حين رجوعهم إلى كفرهم بوقوف الماشي عند انقطاع البرق على طريقة التمثيل، وخلل ذلك كله بتهديد لا يناسب إلا المشبهين وهو ما أفاده الاعتراض بقوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} فجاء بهذه الجمل الحالية والمستأنفة تنبيها على وجه الشبه وتقريرا لقوة مشابهة الزواجر وآيات الهدى والإيمان بالرعد والبرق في حصول أثري النفع والضر عنهما مع تفنن في البلاغة وطرائق الحقيقة والمجاز.
وجعل في الكشاف الجمل الثلاث مستأنفا بعضها عن بعض بأن تكون الأولى استئنافا عن جملة {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] والثانية وهي: {يَكَادُ الْبَرْقُ} مستأنفة عن جملة {يَجْعَلُونَ} لأن الصواعق تستلزم البرق، والثالثة وهي: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} مستأنفة عن قوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ} والمعنى عليه ضعيف وهو في بعضها أضعف منه في بعض كما أشرنا إليه آنفا.
والجعل والأصابع مستعملان في حقيقتهما على قول بعض المفسرين لأن الجعل هو هنا بمعنى النوط، والظرفية لا تقتضي الإحاطة فجعل بعض الإصبع في الأذن هو جعل للإصبع فتمثل بعض علماء البيان بهذه الآية للمجاز الذي علاقته الجزئية تسامح ولذلك عبر عنه صاحب الكشاف بقوله هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها كقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ومنه قولك مسحت بالمنديل، ودخلت البلد، وقيل ذلك مجاز في الأصابع، وقيل مجاز في الجعل ولمن شاء أن يجعله مجازا في الظرفية فتكون تبعية لكلمة في.
ومن في قوله: {مِنَ الصَّوَاعِقِ} للتعليل أي لأجل الصواعق إذ الصواعق هي علة جعل الأصابع في الآذان ولا ضير في كون الجعل لاتقائها حتى يقال يلزم تقدير مضاف نحو ترك واتقاء إذ لا داعي إليه، ونظير هذا قولهم سقاء من العيمة بفتح العين وسكون الياء وهي شهوة اللبن لأن العيمة سبب السقي والمقصود زوالها إذ المفعول لأجله هو الباعث وجوده على الفعل سواء كان مع ذلك غاية للفعل وهو الغالب أم لم يكن كما هنا.
والصواعق جمع صاعقة وهي نار تندفع من كهربائية الأسحبة كما تقدم آنفا.        
وقوله: {حَذَرَ الْمَوْتِ} مفعول لأجله وهو هنا علة وغاية معا.
ومن بديع هذا التمثيل أنه مع ما احتوى عليه من مجموع الهيئة المركبة المشبه بها حال المنافقين حين منازعة الجواذب لنفوسهم من جواذب الاهتداء وترقبها ما يفاض على نفوسهم من قبول دعوة النبي وإرشاده مع جواذب الإصرار على الكفر وذبهم عن أنفسهم أن يعلق بها ذلك الإرشاد حينما يخلون إلى شياطينهم، هو مع ذلك قابل لتفريق التشبيه في مفرداته إلى تشابيه مفردة بأن يشبه كل جزء من مجموع الهيئة المشبهة لجزء من مجموع هيئة قوم أصابهم صيب معه ظلمات ورعد وصواعق لا يطيقون سماع قصفها ويخشون الموت منها وبرق شديد يكاد يذهب بأبصارهم وهم في حيرة بين السير وتركه.        
وقوله {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} اعتراض راجع للمنافقين إذ قد حق عليهم التمثل واتضح منه حالهم فآن أن ينبه على وعيدهم وتهديدهم وفي هذا رجوع إلى أصل الغرض كالرجوع في قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} [البقرة: 17] الخ كما تقدم إلا أنه هنا وقع بطريق الاعتراض.
والإحاطة استعارة للقدرة الكاملة شبهت القدرة التي لا يفوتها المقدور بإحاطة المحيط بالمحاط على طريقة التبعية أو التمثيلية وإن لم يذكر جميع ما يدل على جميع المركب الدال على الهيئة المشبهة بها وقد استعمل هذا الخبر في لازمه وهو أنه لا يفلتهم وأنه يجازيهم على سوء صنعهم.
والخطف الأخذ بسرعة.
و"كلما" كلمة تفيد عموم مدخولها، و"ما" كافة لكل عن الإضافة أو هي مصدرية ظرفية أو نكرة موصوفة فالعموم فيها مستفاد من كلمة "كل".
وذكر "كلما" في جانب الإضاءة وإذا في جانب الإظلام لدلالة كلما على حرصهم على المشي وأنهم يترصدون الإضاءة فلا يفيتون زمنا من أزمان حصولها ليتبينوا الطريق في سيرهم لشدة الظلمة.
و {أَضَاءَ} فعل يستعمل قاصرا ومتعديا باختلاف المعنى كما تقدم في قوله: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17].
وأظلم يستعمل قاصرا كثيرا ويستعمل متعديا قليلا والظاهر أن {أَضَاءَ} هنا متعد فمفعول {أَضَاءَ} محذوف لدلالة مشوا عليه وتقديره الممشى أو الطريق أي أضاء لهم البرق الطريق وكذلك أظلم أي وإذا أظلم عليهم البرق الطريق بأن أمسك وميضه فإسناد الإظلام إلى البرق مجاز لأنه تسبب في الإظلام.
ومعنى القيام عدم المشي أي الوقوف في الموضع.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} مفعول "شاء" محذوف لدلالة الجواب عليه وذلك شأن فعل المشيئة والإرادة ونحوهما إذا وقع متصلا بما يصلح لأن يدل على مفعوله مثل وقوعه صلة لموصول يحتاج إلى خبر نحو ما شاء الله كان أي ما شاء كونه كان ومثل وقوعه شرطا للو لظهور أن الجواب هو دليل المفعول وكذلك إذا كان في الكلام السابق قبل فعل المشيئة ما يدل على مفعول الفعل نحو قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6,7] قال الشيخ في دلائل الإعجاز: إن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن وذلك نحو قول الشاعر هو إسحاق الخريمي مولى بني خريم من شعراء عصر الرشيد يرثى أبا الهيذام الخريمي حفيده ابن ابن عمارة.
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته  . . .  عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما فلما كان كذلك كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع الخ كلامه وتبعه صاحب الكشاف وزاد عليه أنهم لا يحذفون في الشيء المستغرب إذ قال لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب الخ وهو مؤول بأن مراده أن عدم الحذف حينئذ يكون كثيراً.
وعندي أن الحذف هو الأصل لأجل الإيجاز فالبليغ تارة يستغني بالجواب فيقصد البيان بعد الإبهام وهذا هو الغالب في كلام العرب، قال طرفة: وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت.
وتارة يبين بذكر الشرط أساس الإضمار في الجواب نحو البيت وقوله تعالى {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ} [الانبياء: 17] ويحسن ذلك إذا كان في المفعول غرابة فيكون ذكره لابتداء تقريره كما في بيت الخريمي والإيجاز حاصل على كل حال لأن فيه حذفا إما من الأول أو من الثاني.        
وقد يوهم كلام أئمة المعاني أن المفعول الغريب يجب ذكره وليس كذلك فقد قال الله تعالى {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت: 14] فإن إنزال الملائكة أمر غريب قال أبو العلاء المعري.
وإن شئت فازعم أن من فوق ظهرها  . . .  عبيدك واستشهد إلهك يشهد
فإن زعم ذلك زعم غريب.
والضمير في قوله {بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} ظاهره أن يعودوا إلى أصحاب الصيب المشبه بحالهم حال المنافقين لأن الإخبار بإمكان إتلاف الأسماع والأبصار يناسب اهـل الصيب المشبه بحالهم بمقتضى قوله {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} وقوله {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} والمقصود أن الرعد والبرق الواقعين في الهيئة المشبه بها هما رعد وبرق بلغا منتهى قوة جنسيهما بحيث لا يمنع قصيف الرعد من إتلاف أسماع سامعيه ولا يمنع وميض البرق من إتلاف أبصار ناظريه إلا مشيئة الله عدم وقوع ذلك لحكمة وفائدة ذكر هذا في الحالة المشبهة بها أن يسري نظيره في الحالة المشبهة وهي حالة المنافقين فهم على وشك انعدام الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم انعداما تاما من كثرة عنادهم وإعراضهم عن الحق إلا أن الله لم يشأ ذلك استدراجا لهم وإملاء ليزدادوا إثما أو تلوما لهم وإعذارا لعل منهم من يثوب إلى الهدى وقد صيغ هذا المعنى في هذا الأسلوب لما فيه من التوجيه بالتهديد لهم أن يذهب الله سمعهم وأبصارهم من نفاقهم إن لم يبتدروا الإقلاع عن النفاق وذلك يكون له وقع الرعب في قلوبهم كما وقع لعتبة بن ربيعة لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: من الآية13].
فليس المقصود من اجتلاب لو في هذا الشرط إفادة ما تقتضيه لو من الامتناع لأنه ليس المقصود الإعلام بقدرة الله على ذلك بل المقصود إفادة لازم الامتناع وهو أن توفر أسباب إذهاب البرق والرعد أبصارهم الواقعين في التمثيل متوفرة وهي كفران النعمة الحاصلة منهما إذ إنما رزقوهما للتبصر في الآيات الكونية وسماع الآيات الشرعية فلما أعرضوا عن الأمرين كانوا أحرياء بسلب النعمة إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالا لهم وإقامة للحجة عليهم فكانت لو مستعملة مجازا مرسلا في مجرد التعليق إظهارا لتوفر الأسباب لولا وجود المانع على حد قول أبي سلمى بن ربيعة من شعراء الحماسة يصف فرسه.
ولو طار ذو حافر قبلها  . . .  لطارت ولكنه لم يطر
أي توفر فيها بسبب الطيران. فالمعنى لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بزيادة ما في البرق والرعد من القوة فيفيد بلوغ الرعد والبرق قرب غاية القوة.

ويكون لقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} موقع عجيب.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل، وفيه ترشيح للتوجيه المقصود للتهديد زيادة في تذكيرهم وإبلاغا لهم وقطعا لمعذرتهم في الدنيا والآخرة.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:37 pm

[21] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
استئناف ابتدائي ثنى به العنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الأربع المتقدم ذكرها موعظة تليق بحاله بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله، ومثلث حال كل فريق وضربت له أمثاله فإنه لما استوفى أحوالا للمؤمنين وأضدادهم من المشركين والمنافقين لا جرم تهيأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشادا لهم ورحمة بهم لأنه لا يرضى لهم الضلال ولم يكن ما ذكر آنفا من سوء صنعهم حائلا دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب ففيه تأنيس لأنفسهم بعد أن هددهم ولامهم وذم صنعهم ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصا على صلاحهم وأنه غنى عنهم كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ فيرى انكسار نفس مرباه فيجبر خاطره بكلمة لينة ليريه أنه إنما أساء إليه استصلاحا وحبا لخيره فلم يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوهم وضلالهم وفي حال حملهم إلى مصالحهم.
وبعد فهذا الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحسانا وينكف به المجرمون عن سوء صنعهم فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظه منه.        
فالمقصود بالنداء من قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الإقبال على موعظة نبذ الشرك وذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب بيأيها الناس، وقرينة ذلك هنا قوله {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] وافتتح الخطاب بالنداء تنويها به.        
ويا حرف للنداد وهو أكثر حروف النداء استعمالا فهو أصل حروف النداء ولذلك لا يقدر غيره عند حذف حرف النداء ولكونه أصلا كان مشتركا لنداء القريب والبعيد كما في القاموس.
قال الرضى في شرح الكافية: إن استعمال يا في القريب والبعيد على السواء ودعوى المجاز في أحدهما أو التأويل خلاف الأصل.        
وهو يريد بذلك الرد على الزمخشري إذ قال في الكشاف ويا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة من سها أو غفل وإن قرب تنزيلا له منزلة من بعد وكذلك فعل في كتاب المفصل.
و"أي" في الأصل نكرة تدل على فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة، نحو أي رجل أو بطريق الإبدال نحو يأيها الرجل، ومنه ما في الاختصاص كقولك لجليسك أنا كفيت مهمك أيها الجالس عندك وقد ينادون المنادى باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته أو لأنه أشمل لإحضاره كما هنا فربما يؤتى بالمنادى حينئذ نكرة مقصودة أو غير مقصودة، وربما يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفا باللام الجنسية إشارة إلى تطرق التعريف إليه على الجملة تفننا فجرى استعمالهم أن يأتوا حينئذ مع اللام باسم إشارة إغراقا في تعريفه1 ويفصلوا بين حرف النداء والاسم المنادى حينئذ بكلمة أي وهو تركيب غير جار على قياس اللغة ولعله من بقايا استعمال عتيق.
وقد اختصروا اسم الإشارة فأبقواها التنبيهية وحذفوا اسم الإشارة، فأصل يأيها الناس يأيهؤلاء وقد صرحوا بذلك في بعض كلامهم كقول الشاعر الذي لا نعرفه.

-----------------------------------------------
1 علله كثير من النحويين بأنه لكراهية اجتماع حرفي تعريف, ورده الرضي بأنه لا يستنكر اجتماع حرفين في أحدهما من الفائدة ما في الآخر وزيادة كما في لقد, وقالوا ياهذا ويا انت.        
والذي يختار في تعليله انه كراهية اداتي تعريف وهما حرف النداء وأل المعرفة.
-----------------------------------------------

أيهذان كلا زاد يكما
وربما أرادوا نداء المجهول الحاضر الذات أيضا بما يدل على طريق إحضاره من حالة قائمة به باعتبار كونه فردا من جنس فتوصلوا لذلك باسم الموصول الدال على الحالة بصلته والدال على الجنسية لأن الموصول يأتي لما تأتي له اللام فيقحمون أيا كذلك نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [الحجر: 6]
و"الناس" تقدم الكلام في اشتقاقه عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ} [البقرة: 8] وهو اسم جمع نودي هنا وعرف بأل.        
يشمل كل أفراد مسماه لأن الجموع المعرفة باللام للعموم مل لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول واحتمالها العهد ضعيف إذ الشأن عهد الأفراد فلذلك كانت في العموم أنص من عموم المفرد المحلي بأل.
فإن نظرت إلى صورة الخطاب فهو إنما واجه به ناسا سامعين فعمومه لمن لم يحضر وقت سماع هذه الآية ولمن سيوجد من بعد يكون بقرينة عموم التكليف وعدم قصد تخصيص الحاضرين وذلك أمر قد تواتر نقلا ومعنى فلا جرم أن يعم الجميع من غير حاجة إلى القياس، وإن نظرت إلى أن هذا من أضرب الخطاب الذي لا يكون لمعين فيترك فيه التعيين ليعم كل من يصلح للمخاطبة بذلك وهذا شأن الخطاب الصادر من الدعاة والأمراء والمؤلفين في كتبهم من نحو قولهم يا قوم، ويا فتى، وأنت ترى، وبهذا تعلم، ونحو ذلك فما ظنك بخطاب الرسل وخطاب هو نازل من الله تعالى كان ذلك عاما لكل من يشمله اللفظ من غير استعانة بدليل آخر.        
وهذا هو تحقيق المسألة التي يفرضها الأصوليون ويعبرون عنها بخطاب المشافهة والمواجهة هل يعم أم لا.        
والجمهور وإن قالوا إنه يتناول الموجوديين دون من بعدهم بناء على أن ذلك هو مقتضى المخاطبة حتى قال العضد إن إنكار ذلك مكابرة، وبحث فيه التفتزاني، فهم قالوا إن شمول الحكم لمن يأتي بعدهم هو مما تواتر من عموم البعثة وأن أحكامها شاملة للخلق في جميع العصور كما أشار إليه البيضاوي.
قلت الظاهر أن خطابات التشريع ونحوها غير جارية على المعروف في توجه الخطاب في أصل اللغات لأن المشرع لا يقصد لفريق معين، وكذلك خطاب الخلفاء والولاة في الظهائر والتقاليد، فقرينة عدم قصد الحاضرين ثابتة واضحة، غاية ما في الباب أن تعلقه بالحاضرين تعلق أصلي إلزامي وتعلقه بالذين يأتون من بعد تعلق معنوي إعلامي على نحو ما تقرر في تعلق الأمر في علم أصول الفقه فنفرض مثله في توجه الخطاب.
والعبادة في الأصل التذلل والخضوع وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ولما كان التذلل والخضوع إنما يحصل عن صدق اليقين كان الإيمان بالله وتوحيده بالإلهية مبدأ العبادة لأن من أشرك مع المستحق ما ليس بمستحق فقد تباعد عن التذلل والخضوع له.        
فالمخاطب بالأمر بالعبادة المشركون من العرب والدهريون منهم وأهل الكتاب والمؤمنون كل بما عليه من واجب العبادة من إثبات الخالق ومن توحيده، ومن الإيمان بالرسول، والإسلام للدين والامتثال لما شرعه إلى ما وراء ذلك كله حتى منتهى العبادة ولو بالدوام والمواظبة بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه فإنهم مشمولون للخطاب على ما تقرر في الأصول، فالمأمورية هو القدر المشترك حتى لا يلزم استعمال المشترك في معانيه عند من يأتي ذلك الاستعمال وإن كنا لا نأباه إذا صلح له السياق بدليل تفريع قوله بعد ذلك: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22] على قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} الآية.        
فليس في هذه الآية حجة للقول بخطاب الكفار بفروع الشريعة لأن الأمر بالعبادة بالنسبة إليهم إنما يعنى به الإيمان والتوحيد وتصديق الرسول، وخطابهم بذلك متفق عليه وهي مسألة سمجة.
وقد مضى القول في معنى الرب عند قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]
ووجه العدول عن غير طريق الإضافة من طرق التعريف نحو العلمية إذ لم يقل اعبدوا الله، لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذانا بأحقية الأمر بعبادته فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة لأن فيها معنى الشكر وإظهار الاحتياج.
وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله، فإن المشركين وإن أشركوا مع الله آلهة إلا أن بعض القبائل كان لها مزيدا اختصاص ببعض الأصنام، كما كان لثقيف مزيد اختصاص باللات كما تقدم في سورة الفاتحة وتبعهم الأوس والخزرج كما سيأتي في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} [البقرة: من الآية158] في هذه السورة فالعدول إلى الإضافة هنا لأنها أخصر طريق في الدلالة على هذا المقصد فهي أخصر من الموصول فلو أريد غير الله لقيل اعبدوا أربابكم فلا جرم كان قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} صريحا في أنه دعوة إلى توحيد الله ولذلك فقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} زيادة بيان لموجب العبادة، أو زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمن معنى الاختصاص بأحقية العبادة.
وقوله: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يفيد تذكير الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: من الآية24] فكان قوله {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تذكيرا لهم بأن آباؤهم الأولين لا بد أن ينتهوا إلى أب أول فهو مخلوق لله تعالى.        
ولعل هذا هو وجه التأكيد بزيادة حرف "من" في قوله {مِنْ قَبْلِكُمْ} الذي يمكن الاستغناء عنه بالاقتصار على {قَبْلِكُمْ } ، لأن "من" في الأصل للابتداء فهي تشير إلى أول الموصوفين بالقبلية فذكرها هنا استرواح لأصل معناها مع معنى التأكيد الغالب عليها إذا وقعت مع قبل وبعد.
والخلق أصله الإيجاد على تقدير وتسوية ومنه خلق الأديم إذا هيأه ليقطعه ويخرزه قال جبير في هرم بن سنان:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض  . . .  القوم يخلق ثم لا يفري
وأطلق الخلق في القرآن وكلام الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة فهو إخراج الأشياء من العدم إلى الوجود إخراجا لا صنعة فيه للبشر فإن إيجاد البشر بصنعتهم أشياء إنما هو تصويرها بتركيب متفرق أجزائها وتقدير مقادير مطلوبة منها كصانع الخزف فالخلق فالخلق وإيجاد العوالم وأجناس الموجودات وأنواعها وتولد بعضها عن بعض بما أودعت الخلقة الإلهية فيها من نظام الإيجاد مثل تكوين الأجنة في الحيوان في بطونه وبيضه وتكوين الزرع في حبوب الزريعة وتكوين الماء في الأسحبة فذلك كله خلق وهو من تكوين الله تعالى ولا عبرة بما قد يقارن بعض ذلك الإيجاد من علاج الناس كالتزويج وإلقاء الحب والنوى في الأرض للإنبات، فالإيجاد الذي هو الإخراج من العدم إلى الوجود بدون عمل بشري خص باسم الخلق في اصطلاح الشرع، لأن لفظ الخلق هو أقرب الألفاظ في اللغة العربية دلالة على معنى الإيجاد من العدم الذي هو صفة الله تعالى وصار ذلك مدلول مادة خلق في اصطلاح اهـل الإسلام فلذلك خص إطلاقه في لسان الإسلام بالله تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] وقال {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] وخص اسم الخالق به تعالى فلا يطلق على غيره ولو أطلقه أحد على غير الله تعالى بنلء على الحقيقة اللغوية لكان إطلاقه عجرفة فيجب أن ينبه على تركه.
وقال الغزالي في المقصد الأسني: لا حظ للعبد في اسمه تعالى الخالق إلا بوجه من المجاز بعيد فإذا بلغ في سياسة نفسه وسياسة الخلق مبلغا ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق إليها ويقدر مع ذلك على فعلها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل فيجوز إطلاق الاسم أي الخالق عليه مجازا اهـ.        
فجعل جواز إطلاق فعل الخلق على اختراع بعض العباد مشروطا بهذه الحالة النادرة ومع ذلك جعله مجازا بعيدا فما حكاه الله في القرآن من قول عيسى عليه السلام: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] وقول الله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} [المائدة: 110] فإن ذلك مراعى فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة خلق في الخلق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى.        
ثم تخصيص تلك المادة بتكوين الله تعالى الموجودات ومن أجل ذلك قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
وجملة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] تعليل للأمر باعبدوا فلذلك فصلت أي أمرتكم بعبادته لرجاء منكم أن تتقوا.
و"لعل" حرف يدل على الرجاء.        
والرجاء هو الإخبار عن تهئ وقوع أمر في المستقبل وقوعا مؤكدا.        
فتبين أن لعل حرف مدلوله خبري لأنها إخبار عن تأكد حصول الشيء1 ومعناها مركب من رجاء المتكلم في المخاطب وهو معنى جزئي حرفي وقد شاع عند المفسرين وأهل العلوم الحيرة في محمل لعل الواقعة من كلام الله تعالى لأن معنى الترجي يقتضي عدم الجزم بوقوع المرجو عند المتكلم فللشك جانب في معناها حتى قال الجوهري لعل كلمة شك وهذا لا يناسب علم الله تعالى بأحوال الأشياء قبل وقوعها ولأنها قد وردت في أخبار مع عدم حصول المرجو لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [لأعراف: 130] مع أنهم لم يتذكروا كما بينته الآيات من بعد.
ولهم في تأويل لعل الواقعة في كلام الله تعالى وجوه:
أحدها: قال سيبويه لعل على بابها والترجي أو التوقع إنما هو في حيز المخاطبين اهـ.        
يعني أنها للإخبار بأن المخاطب يكون مرجوا، واختاره الرضي قائلا لأن الأصل أن لا تخرج عن معناها بالكلية.
وأقول لا يعني سيبويه أن ذلك معنى أصل لها ولكنه يعني أنها مجاز قريب من معنى الحقيقة لوقوع التعجيز في أحد جزأي المعنى الحقيقي لأن الرجاء يقتضي راجيا ومرجوا
-----------------------------------------------
1 وليس فيها معنى إنشاء طلبي ولذلك لم ينصبوا الفعل في جوابها بعد الفاء والواو بخلاف جواب التمني ولذلك لم ينصب فأطلع من قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ } [غافر: 37] إلا في رواية حفص عن عاصم.
-----------------------------------------------

منه فحرف الرجاء دال على معنى فعل الرجاء إلا أنه معنى جزئي، وكل من الفاعل والمفعول مدلول لمعنى الفعل بالالتزام، فإذا دلت قرينة على تعطيل دلالة حرف الرجاء على فاعل الرجاء لم يكن في الحرف أو الفعل تمجز، أذ المجاز إنما يتطرق للمدلولات اللغوية لا العقلية وكذلك إذا لم يحصل الفعل المرجو.
ثانيها أن لعل للإطماع تقول: للقاصد لعلك تنال بغيتك، قال الزمخشري وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن.        
والإطماع أيضا معنى مجازي للرجاء لأن الرجاء يلزمه التقريب والتقريب يستلزم الإطماع فالإطماع لازم بمرتبتين.
ثالثها أنها للتعليل بمعنى كي قاله قطرب وأبو على الفارسي وابن الأنباري؛ وأحسب أن مرادهم هذا المعنى في المواقع التي لا يظهر فيها معنى الرجاء، فلا يرد عليهم أنه لا يطرد في نحو قوله {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17] لصحة معنى الرجاء بالنسبة للمخاطب.        
ولا يرد عليهم أيضا أنه إثبات معنى في "لعل" لا يوجد له شاهد من كلام العرب وجعله الزمخشري قولا متفرعا على قول من جعلها للإطماع فقال ولأنه إطماع من كريم إذا أطمع فعل قال من قال: إن لعل بمعنى كي يعني فهو معنى مجازي ناشئ عن مجاز آخر، فهو من تركيب المجاز على اللزوم بثلاث مراتب.
رابعها ما ذهب إليه صاحب الكشاف أنها استعارة فقال ولعل واقعة في الآية موقع المجاز لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم ووضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير والتقوى فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل.

ومصداقه قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] وإنما يبلي ويختبر من تخفى عنه العواقب، ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار.        
فكلام الكشاف يجعل لعل في كلامه تعالى استعارة تمثيلية لأنه جعلها تشبيه هيئة مركبة من شأن المزيد والمراد منه والإرادة بحال مركبة من الراجي والمرجو منه والرجاء فاستعير المركب الموضوع للرجاء لمعنى المركب الدال على الإرادة.
وعندي وجه آخر مستقل وهو أن لعل الواقعة في مقام تعليل أمر أو نهي لها استعمال يغاير استعمال لعل المستأنفة في الكلام سواء وقعت في كلام الله أم في غيره، فإذا قلت افتقد فلانا لعلك تنصحه كان إخبارا باقتراب وقوع الشيء وأنه في حيز الإمكان إن تم ما علق عليه فأما اقتضاؤه عدم جزم المتكلم بالحصول فذلك معنى التزامي أغلبي قد يعلم انتفاؤه بالقرينة وذلك الانتفاء في كلام الله أوقع، فاعتقادنا بأن كل شيء لم يقع أو لا يقع في المستقبل هو القرينة على تعطيل هذا المعنى الالتزامي دون احتياج إلى التأويل في معنى الرجاء الذي تفيده لعل حتى يكون مجازا أو استعارة لأن لعل إنما أتى بها لأن المقام يقتضي معنى الرجاء فالتزام تأويل هذه الدلالة في كل موضع في القرآن تعطيل لمعنى الرجاء الذي يقتضيه المقام والجماعة لجأوا إلى التأويل لأنهم نظروا إلى لعل بنظر متحد في مواقع استعمالها بخلاف لعل المستأنفة فإنها أقرب إلى إنشاء الرجاء منها إلى الإخبار به.

وعلى كل فمعنى لعل غير معنى أفعال المقاربة.
والتقوى هي الحذر مما يكره، وشاعت عند العرب والمتدينين في أسبابها، وهو حصول صفات الكمال التي يجمعها التدين، وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]
ولما كانت التقوى نتيجة العبادة جعل رجاؤها أثرا للأمر بالعبادة وتقدم عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} فالمعنى اعبدوا ربكم رجاء أن تتقوا فتصبحوا كاملين متقين، فإن التقوى هي الغاية من العبادة فرجاء حصولها عند الأمر بالعبادة وعند عبادة العابد أو عند إرادة الخلق والتكوين واضح الفائدة.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:42 pm

[22] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ}
يتعين أن قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} صفة ثانية للرب لأن مساقها مساق قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] والمقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها فإنه لما أوجب عبادته أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده، وهي نعمه المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش وأولها المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم ومن إحاطة هذا القرار بالهواء النافع لحياتهم والذي هو غذاء الروح الحيواني، وذلك ما أشير إليه بقوله: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} وبكون تلك الكرة الهوائية واقية الناس من إضرار طبقات فوقها متناهية في العلو، من زمهرير أو عناصر غريبة قاتلة خانقة، فالكرة الهوائية جعلت فوق هذا العالم فهي كالبناء له ونفعها كنفع البناء فشبهت به على طريقة التشبيه البليغ وبأن أخرج للناس ما فيه إقامة أود حياتهم باجتماع ماء السماء مع قوة الأرض وهو الثمار.
والمراد بالسماء هنا إطلاقها العرفي عند العرب وهو ما يبد وللناظر كالقبة الزرقاء وهو كرة الهواء المحيط بالأرض كما هو المراد في قوله {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] وهذا هو المراد الغالب إذا أطلق السماء بالإفراد دون الجمع.
ومعنى جعل الأرض فراشا أنها كالفراش في التمكن من الاستقرار والاضطجاع عليها وهو أخص أحوال الاستقرار.        
والمعني أنه جعلها متوسطة بين شدة الصخور بحيث تؤلم جلد الإنسان وبين رخاوة الحمأة بحيث يتزحزح الكائن فوقها ويسوخ فيها وتلك منة عظيمة.
وأما وجه شبه السماء بالبناء فهو أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين الكرة الأثيرية.

فهي كالبناء فيما يراد له البناء وهو الوقاية من الأضرار النازلة، فإن للكرة الهوائية دفعا لأضرار أظهرها دفع ضرر طغيان مياه البحار على الأرض ودفع أضرار بلوغ اهـوية تندفع عن بعض الكواكب إلينا وتلطيفها حتى تختلط بالهواء أو صد الهواء إياها عنا مع ما في مشابهة الكرة الهوائية لهيئة القبة، والقبة بيت من أدم مقبب وتسمى بناء، والبناء في كلام العرب ما يرفع سمكه على الأرض للوقاية سواء كان من حجر أو من أدم أو من شعر، ومنه قولهم: بنى على امرأته إذا تزوج، لأن المتزوج يجعل بيتا يسكن فيه مع امرأته وقد اشتهر إطلاق البناء من أدم ولذلك سموا الأدم الذي تبنى منه القباب مبناة بفتح الميم وكسرها، وهذا كقوله في سورة الأنبياء [32] {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظا}.
فإن قلت يقتضي كلامك هذا أن الامتنان بجعل السماء كالبناء لوقاية الناس من قبيل المعجزات العلمية التي أشرت إليها في المقدمة العاشرة وذلك لا يدركه إلا الأجيال التي حدثت بعد زمان النزول فماذا يكون حظ المسلمين وغيرهم الذين نزلت بينهم الآية {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: من الآية10] في عدة أجيال فإن اهـل الجاهلية لم يكونوا يشعرون بأن للسماء خاصية البناء في الوقاية وغاية ما كانوا يتخيلونه أن السماء تشبه سقف القبة كما قالت الأعرابية حين سئلت عن معرفة النجوم: أيجهل أحد خرزات معلقة في سقفه.
فتتمخض الآية لإفادة العبرة بذلك الخلق البديع إلا أنه ليس فيه حظ من الامتنان الذي أفاده قوله {لَكُمُ} فهل نخص تعلقه بفعل {جَعَلَ} المصرح به دون تعلقه بالفعل المطوي تحت واو العطف، أو بجعله متعلقا بقوله: {فِرَاشاً} فيكون قوله: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} معطوفا على معمول فعل الجعل المجرد عن التقييد بالمتعلق.
قلت: هذا يفضي إلى التحكم في تعلق قوله: {لَكُمُ} تحكما لا يدل عليه دليل للسامع بل الوجه أن يجعل لكم متعلقا بفعل {جَعَلَ} ويكفي في الامتنان بخلق السماء إشعار السامعين لهذه الآية بأن في خلق السماء على تلك الصفة ما في إقامة البناء من الفوائد على الإجمال ليفرضه السامعون على مقدار قرائحهم وأفهامهم ثم يأتي تأويله في قابل الأجيال.
وحذف {لَكُمُ} عند ذكر السماء إيجازا لأن ذكره في قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} دليل عليه.
و {جَعَلَ} إن كانت بمعنى أوجد فحمل الامتنان هو إن كانتا على هذه الحالة وإن كانت بمعنى صير فهي دالة على أن الأرض والسماء قد انتقلتا من حال إلى حال حتى صارتا كما هما.
وصار أظهر في معنى الانتقال من صفة إلى صفة وقواعد علم طبقات الأرض الجيولوجيا تؤذن بهذا الوجه الثاني فيكون في الآية منتان وعبرتان في جعلهما على ما رأينا وفي الأطوار التي انتقلتا فيهما بقدرة الله تعالى وإذنه فيكون كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} إلى قوله {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الانبياء: 32].
وقد امتن الله وضرب العبرة بأقرب الأشياء وأظهرها لسائر الناس حاضرهم وباديهم وبأول الأشياء في شروط هذه الحياة.
وفيهما أنفع الأشياء وهما الهواء والماء النابع من الأرض وفيهما كانت أول منافع البشر، وفي تخصيص الأرض والسماء بالذكر نكتة أخرى وهي التمهيد لما سيأتي من قوله {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلخ.
وابتدأ بالأرض لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر ثم بالسماء لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به.
وقوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ} الخ هذا امتنان بما يلحق الإيجاد مما يحفظه من الاختلال وهو خلفه لما تتلفه الحرارة الغريزية والعمل العصبي والدماغي من القوة البدنية ليدوم قوام البدن بالغذاء وأصل الغذاء هو ما يخرج من الأرض وإنما تخرج الأرض النبات بنزول الماء عليها من السماء أي من السحاب والطبقات العليا.
واعلم أن كون الماء نازلا من السماء هو أن تكونه يكون في طبقات الجو من آثار البخار الذي في الجو فإن الجو ممتلئ دائما بالأبخرة الصاعدة إليه بواسطة حرارة الشمس من مياه البحار والأنهار ومن نداوة الأرض ومن النبات ولهذا نجد الإناء المملوء ماء فارغا بعد أيام إذا ترك مكشوفا للهواء فإذا بلغ البخار أقطار الجو العالية برد ببرودتها وخاصة في فصل الشتاء فإذا برد مال إلى التميع، فيصير سحابا ثم يمكث قليلا أو كثيرا بحسب التناسب بين برودة الطبقات الجوية والحرارة البخارية فإذا زادت البرودة عليه انقبض السحاب وثقل وتميع فتجتمع فيه الفقاقيع المائية وتثقل عليه فتنزل مطرا وهو ما أشار له قوله تعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12].        
وكذلك إذا تعرض السحاب للريح الآتية من جهة البحر وهي ريح ندية ارتفع الهواء إلى أعلى الجو فبرد فصار مائعا وربما كان السحاب قليلا فساقت إليه الريح سحابا آخر فانضم أحدهما للآخر ونزلا مطرا، ولهذا غلب المطر بعد هبوب الريح البحرية وفي الحديث إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة.        
ومن القواعد أن الحرارة وقلة الضغط يزيدان في صعود البخار وفي انبساطه والبرودة وكثرة الضغط يصيران البخار مائعا وقد جرب أن صعود البخار يزداد بقدر قرب الجهة من خط الاستواء وينقص بقدر بعده عنه وإلى بعض هذا يشير ما ورد في الحديث أن المطر ينزل من صخرة تحت العرش فإن العرش هو اسم لسماء من السماوات والصخرة تقريب لمكان ذي برودة وقد علمت أن المطر تنشئه البرودة فيتميع السحاب فكانت البرودة هي لقاح المطر.
و"من" التي في قوله: {مِنَ الثَّمَرَاتِ} ليست للتبعيض إذ ليس التبعيض مناسبا لمقام الامتنان بل إما لبيان الرزق المخرج، وتقديم البيان على المبين شائع في كلام العرب، وإما زائدة لتأكيد تعلق الإخراج بالثمرات.
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
أتت الفاء لترتيب هاته الجملة على الكلام السابق وهو مترتب على الأمر بالعبادة ولا ناهية والفعل مجزوم وليست نافية حتى يكون الفعل منصوبا في جواب الأمر من قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}.
والمراد هنا تسببه الخاص وهو حصوله عن دليل يوجبه وهو أن الذي أمركم بعبادته هو المستحق للإفراد بها فهو أخص من مطلق ضد العبادة لأن العبادة عدم العبادة.      
ولكن لما كان الإشراك للمعبود في العبادة يشبه ترك العبادة جعل ترك الإشراك مساويا لنقيض العبادة لأن الإشراك ما هو إلا ترك لعبادة الله في أوقات تعظيم شركائهم.
والند بكسر النون المساوي والمماثل في أمر من مجد أو حرب، وزاد بعض اهـل اللغة أن يكون مناوئا أي معاديا، وكأنهم نظروا إلى اشتقاقه من ند إذا نفر وعاند.        
وليس بمتعين لجواز كونه اسما جامدا وأظن أن وجه دلالة الند على المناوأة والمضادة أنها من لوازم المماثلة عرفا عند العرب، شأن المثل عندهم أن ينافس مماثله ويزاحمه في مراده فتحصل المضادة.
ونظيره في عكسه تسميتهم المماثل قريعا، فإن القريع هو الذي يقارع ويضارب.
ولما كان أحد لا يتصدى لمقارعة من هو فوقه لخشيته ولا من هو دونه لاحتقاره كانت المقارعة مستلزمة للمماثلة، وكذلك قولهم قرن للمحارب المكافئ في الشجاعة.  
ويقال جعل له ندا، إذا سوى غيره به.
والمعنى لا تثبتوا لله أندادا تجعلونها جعلا وهي ليست أندادا وسماها أندادا تعريضا بزعمهم لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان اهـل الجاهلية يقولون إن الآلهة شفعاء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادة الله، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة بالفعل لا بالقول.
وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية ومفعول {تَعْلَمُونَ} متروك لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول بل قصد إثباته لفاعله فقط فنزل الفعل منزلة اللازم، والمعنى وأنتم ذو علم.
والمراد بالعلم هنا العقل التام وهو رجحان الرأي المقابل عندهم بالجهل على نحو قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: من الآية9] وقد جعلت هاته الحال محط النهي والنفي تمليحا في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة الهمة فإنه أثبت لهم علما ورجاحة الرأي ليثير همتهم ويلفت بصائرهم إلى دلائل الوحدانية ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفي ذلك مع تلبسهم به وجعله لا يجتمع مع العلم توبيخا لهم على ما اهـملوا من مواهب عقولهم وأضاعوا من سلامة مداركهم.        
وهذا منزع تهذيبي عظيم: أن يعمد المربي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقية كمال فيه حتى لا يقتل همته باليأس من كماله فإنه إذا ساءت ظنونه في نفسه خارت عزيمته وذهبت مواهبه، ويأتي بما يدل على نقائض فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكد في طلب العلا والكمال.
وقد أومأ قوله {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى أنهم يعلمون أن الله لا ند له ولكنهم تعاموا وتناسوا فقالوا إلا شريكا هو لك.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:46 pm

[23] {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]
انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] الخ فتلك هي المناسبة التي اقتضت عطف هذه الجملة على جملة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ولأن النهي عن أن يجعلوا لله أندادا جاء من عند الله فهم بمظنة أن ينكروا أن الله نهى عن عبادة شفعائه ومقربيه لأنهم من ضلالهم كانوا يدعون أن الله أمرهم بذلك قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] فقد اعتلوا لعبادة الأصنام بأن الله أقامها وسائط بينه وبينهم، فزادت بهذا مناسبة عطف قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} عقب قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22].        
وأتي بإن في تعليق هذا الشرط وهو كونهم في ريب وقد علم في فن المعاني اختصاص إن بمقام عدم الجزم بوقوع الشرط، لأن مدلول هذا الشرط قد حف به من الدلائل ما شأنه أن يقلع الشرط من أصله بحيث يكون وقوعه مفروضا فيكون الإتيان بإن مع تحقق المخاطب علم المتكلم بتحقق الشرط توبيخا على تحقق ذلك الشرط، كأن ريبهم في القرآن مستضعف الوقوع.
ووجه ذلك أن القرآن قد اشتطت ألفاظه ومعانيه على ما لو تدبره العقل السليم لجزم بكونه من عند الله تعالى فإنه جاء على فصاحة وبلاغة ما عهدوا مثلهما من فحول بلغائهم، وهم فيهم متوافرون متكاثرون حتى لقد سجد بعضهم لبلاغته واعترف بعضهم بأنه ليس بكلام بشر.        
وقد اشتمل من المعاني على ما لم يطرقه شعراؤهم وخطباؤهم وحكماؤهم، بل وعلى ما لم يبلغ إلى بعضه علماء الأمم.        
ولم يزل العلم في طول الزمان يظهر خبايا القرآن ويبرهن على صدق كونه من عند الله فهذه الصفات كافية لهم في إدراك ذلك وهم اهـل العقول الراجحة والفطنة الواضحة التي دلت عليها أشعارهم وأخبارهم وبداهتهم ومناظرتهم، والتي شهد لهم بها الأمم في كل زمان، فكيف يبقي بعد ذلك كله مسلك للريب فيه إليهم فضلا عن أن يكونوا منغمسين فيه.
ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف واستعارة "في" لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة.
وأتى بفعل نزل دون أنزل لأن القرآن نزل نجوما.        
وقد تقدم في أول التفسير أن فعل يدل على التقضي شيئا فشيئا، على أن صاحب الكشاف قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما كانوا يقولون: {لَوْلا نُزِّلَ1 عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة.
والسورة قطعة من القرآن معينة عن غيرها من أمثالها بمبدأ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام أو عدة أغراض.        
وجعل لفظ سورة اسما جنسيا لأجزاء من القرآن اصطلاح جاء به القرآن.
وهي مشتقة من السور، وهو الجدار الذي يحيط بالقرية أو الحظيرة، فاسم السورة خاص بالأجزاء المعينة من القرآن دون غيره من الكتب وقد تقدم تفصيله في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير، وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أمورا لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفي في غرض من الأغراض وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام، وصحة التقسيم، ونكت الإجمال والتفصيل، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع، وفصل الجمل ووصلها، والإيجاز والإطناب، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نظم الكلام، وتلك لا تظهر مطابقتها جلية إلا إذا تم الكلام واستوفى الغرض حقه، فلا جرم كان لنظم القرآن وحسن سبكه إعجاز يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لجمله وتراكيبه وفصاحة ألفاظه.        
فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها.        
قال الطيبي في حاشية الكشاف عند قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} [لأنفال: 17]، ولسر النظم القرآني كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد.
والتنكير للإفراد أو النوعية.      
 
-----------------------------------------------
1 في المطبوعة: {أنزل}.
-----------------------------------------------

أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل سورة ترجمت باسم يخصها، وأقل السور عدد آيات سورة الكوثر.
وقد كان المشركون بالمدينة تبعا للمشركين بمكة وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان المشركون كلهم ألبا على النبي صلى الله عليه وسلم يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه، فأعيد لهم التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة الإسراء.
وقد كان التحدي أولا بالإتيان بكتاب مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
فلما عجزوا استنزلوا إلى الإتيان بعشر سور مثله في سورة هود1.
ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة مثله في سورة يونس2.
والمثل أصله المثيل والمشابه تمام المشابهة فهو في الأصل صفة يتبع موصوفا ثم شاع إطلاقه على الشيء المشابه المكافئ.
والضمير في قوله: {مِّنْ مِثْلِهِ} يجوز أن يعود إلى "ما نزلنا" أي من مثل القرآن، ويجوز أن يعود إلى: {عَبْدِنَا} فإن أعيد إلى "ما نزلنا" أي من مثل القرآن فالأظهر أن من ابتدائية أي سورة مأخوذة من مثل القرآن أي كتاب مثل القرآن والجار والمجرور صفة لسورة، ويحتمل أن تكون "من" تبعيضية أو بيانية أو زائدة.        
وقد قيل بذلك كله، وهي وجوه مرجوحة، وعلى الجميع فالجار والمجرور صفة لسورة، أي هي بعض مثل ما نزلنا، ومثل اسم حينئذ بمعنى المماثل، أو سورة مثل ما نزلنا و"مثل" صفة على احتمالي كون من بيانية أو زائدة، وكل هذه الأوجه تقتضي أن المثل سواء كان صفة أو اسما فهو مثل مقدر بناء على اعتقادهم وفرضهم ولا يقتضي أن هذا المثل موجود لأن الكلام مسوق مساق التعجيز.
وإن أعيد الضمير لعبدنا فمن لتعدية فعل ائتوا وهي ابتدائية وحينئذ فالجار والمجرور ظرف لغو غير مستقر.        
ويجوز كون الجار والمجرور صفة لسورة على أنه ظرف مستقر والمعنى فيهما ائتوا بسورة منتزعة من رجل مثل محمد في الأمية، ولفظ مثل إذن اسم.

-----------------------------------------------
1 في المطبوعة: "يونس" وهو غلط ففي التنزيل {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: من الآية13]
2 في المطبوعة: "هود" وهو غلط ففي التنزيل {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38]
-----------------------------------------------

وقد تبين لك أن لفظ مثل في الآية لا يحتمل أن يكون المراد به الكناية عن المضاف إليه على طريقة قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] بناء على أن لفظ مثل كناية عن المضاف إليه إذ لا يستقيم المعنى أن يكون التقدير فأتوا بسورة من القرآن، أو من محمد خلافا لمن توهم ذلك من كلام الكشاف وإنما لفظ مثل مستعمل في معناه الصريح إلا أنه أشبه المكنى به عن نفس المضاف هو إليه من حيث إن المثل هنا على تقدير الاسمية غير متحقق الوجود إلا أن سبب انتفاء تحققه هو كونه مفروضا فإن كون الأمر للتعجيز يقتضي تعذر المأمور، فليس شيء من هاته الوجوه بمقتض وجود مثل للقرآن حتى يراد به بعض الوجوه كما توهمه التفتزاني.
وعندي أن الاحتمالات التي احتملها قوله: {مِّنْ مِثْلِهِ} كلها مرادة لرد دعاوي المكذبين في اختلاف دعاويهم فإن منهم من قال: القرآن كلام بشر، ومنهم من قال: هو مكتتب من أساطير الأولين، ومنهم من قال: إنما يعلمه بشر.        

وهاته الوجوه في معنى الآية تفند جميع الدعاوي فإن كان كلام بشر فأتوا بمماثلة أو بمثله، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير، وإن كان يعلمه فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه.
وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها.
فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلة القرآن في ألفاظه وتراكيبه، ومماثلة الرسول المنزل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: من الآية51].
فذلك معنى المماثلة فلو أتوا بشيء من خطب أو شعر بلغائهم غير مشتمل على ما يشتمل عليه القرآن من الخصوصيات لم يكن ذلك إتيانا بما تحداهم به، ولو أتوا بكلام مشتمل على معان تشريعية أو من الحكمة من تأليف رجل عالم حكيم لم يكن ذلك إتيانا بما تحداهم به.        
فليس في جعل من ابتدائية إيهام إجزاء أن يأتوا بشيء من كلام بلغائهم لأن تلك مماثلة غير تامة.
وقوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} معطوف على: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} أي ائتوا بها وادعوا شهداءكم.

والدعاء يستعمل بمعنى طلب حضور المدعو، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة ليفديه من أسر ملك الروم:
دعوتك للجفن القريح المسهد  . . .  لدي وللنوم الطريد المشرد
والشهداء جمع شهيد فعيل بمعنى فاعل من شهد إذا حضر، وأصله الحاضر قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ثم استعمل هذا اللفظ فيما يلازمه
الحضور مجازا أو كناية لا بأصل وضع اللفظ، وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد قول المشهود فينصره على معارضه ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة وأثبته البيضاوي ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين.        
ولعله انجز إليه من تفسير الكشاف لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعيا فالمراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه ففي الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف.
قال الحرث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء  . . .  رب ثاو يمل منه الثواء
فإن قوله رب ثاو عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه.

وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها، وقد عد الإدماج من المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر.
فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم.
ويجوز أن يكون المراد ادعوا نصراءكم من اهـل البلاغة فيكون تعجيزا للعامة والخاصة.
وادعوا من يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا، على نحو قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: من الآية150] ويكون قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} على هذه الوجوه حالا من الضمير في ادعوا أو من شهداءكم أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيرا عليكم لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل، وجوز أن يكون دون بمعنى أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله، واستشهد له بقول الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه  . . .  إذا ذاقها من ذاقها يتمطق1
وهذا البيت من قصيدته القافية المشهورة.

-----------------------------------------------
1 يصف الخمر في الصفاء بأنها تريك القذى أمامها من شدة ما تكبر حجمه في نظر العين وهي بينك وبين القذى.        
وقوله: يتمطق أي يحرك فكيه ولسانه تلذذا بحسن طعمها.       
 -----------------------------------------------

كما جوز أن يكون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} بمعنى من دون حزب الله وهم المؤمنون أي أحضروا شهداء من الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهودا فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد بتصحيح فاسدها وعكسه إباءة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور، وكلاهما لا يرضاه ذو المروءة وقديما كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا يحفظون لهم غلطا أو جورا.        
وقد قال السموأل:
إنا إذا مالت دواعي الهوى  . . .  وأنصت السامع للقائل
لا نجعل الباطل حقا ولا  . . .  نلظ دون الحق بالباطل1
نخاف أن تسفه أحلامنا  . . .  فنخمل الدهر مع الخامل
وعلى هذا التفسير يجيء قول الفقهاء إن شهادة اهـل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها العدالة، وكنت أعلل ذلك في دروس الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور، وقد قام الوازع العلمي في شهادة اهـل المعرفة مقام الوازع الديني لأن العارف حريص ما استطاع أن لا يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعا عن تعمده وكفى بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} اعتراض في آخر الكلام وتذييل.
أتى بإن الشرطية التي الأصل في شرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقوع وإن كنتم صادقين في أن القرآن كلام بشر وإنكم أتيتم بمثله.
والصدق ضد الكذب وهما وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقا ومماثلا للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازا عن الوجود الذهني.
والكذب ضد الصدق وهو أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في الخارج.
والكلام موضوع للصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي والإنشاء لا يوصف بصدق ولا كذب إذ لا معنى لمطابقته لما في نفس الأمر لأنه إيجاد للمعنى لا للأمور الخارجية.        
هذا معنى الصدق والكذب في الإطلاق المشهور وقد يطلق الكذب صفة ذم فيلاحظ في معناه حينئذ أن مخالفته للواقع كانت عن تعمد فتوهم الجاحظ أن ماهية الكذب تتقوم من عدم مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد معا وسرى هذا التقوم إلى ماهية الصدق فجعل قوامها المطابقة للخارج والاعتقاد معا ومن هنا أثبت الواسطة بين الصدق والكذب.

-----------------------------------------------
1 لظ بالشيء يلظ وألظ به يلظ هما بمعنى لزمه وثابر عليه.
-----------------------------------------------

وقريب منه قول الراغب ويشبه أن يكون الخلاف لفظيا ومحل بسطه في علمي الأصول والبلاغة.
والمعنى إن كنتم صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر، فحذف متعلق صادقين لدلالة ما تقدم عليه، وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إذ التقدير فتأتون بسورة من مثله ودل على الجملة المقدرة قوله قبلها {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وتكون الجملة المقدرة دليلا على جواب الشرط فتصير جملة: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} تكريرا للتحدي.
وفي هذه الآية إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030   تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 Emptyالسبت 02 نوفمبر 2024, 8:49 pm

[24] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]
تفريع على الشرط وجوابه، أي فإن لم تأتوا بسورة أو أتيتم بما زعمتم أنه سورة ولم يستطع ذلك شهداؤكم على التفسيرين فاعلموا أنكم اجترأتم على الله بتكذيب رسوله المؤيد بمعجزة القرآن فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم.
ومفعول {تَفْعَلُوا} محذوف يدل عليه السياق أي فإن لم تفعلوا ذلك أي الإتيان بسورة مثله وسيأتي الكلام على حذف المفعول في مثله عند قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
وجيء بإن الشرطية التي الأصل فيها عدم القطع مع أن عدم فعلهم هو الأرجح بقرينة مقام التحدي والتعجيز؛ لأن القصد إظهار هذا الشرط في صورة النادر مبالغة في توفير دواعيهم على المعارضة بطريق الملاينة والتحريض واستقصاء لهم في إمكانها وذلك من استنزال طائر الخصم وقيد لأوابد مكابرته ومجادلة له بالتي هي أحسن حتى إذا جاء للحق وأنصف من نفسه يرتقي معه في درجات الجدل؛ ولذلك جاء بعده {وَلَنْ تَفْعَلُوا} كأن المتحدي يتدبر في شأنهم، ويزن أمرهم فيقول أولا ائتوا بسورة، ثم يقول قدروا أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله وأعدوا لهاته الحالة مخلصا منها ثم يقول ها قد أيقنت وأيقنتم أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله.       
مع ما في هذا من توفير دواعيهم على المعارضة بطريق المخاشنة والتحذير.
ولذلك حسن موقع لن الدالة على نفي المستقبل فالنفي بها آكد من النفي بلا، ولهذا قال سيبوية لا لنفي يفعل، ول لنفي سيفعل فقد قال الخليل إن لن حرف مختزل من لا النافية وأن الاستقبالية وهو رأي حسن وإذا كانت لنفي المستقبل تدل على النفي المؤيد غالبا لأنه لما لم يوقت بحد من حدود المستقبل دل على استغراق أزمنته إذ ليس بعضها أولى من بعض ومن أجل ذلك قال الزمخشري بإفادتها التأييد حقيقة أو مجازا وهو التأكيد، وقد استقريت مواقعها في القرآن وكلام العرب فوجدتها لا يؤتى بها إلا في مقام إرادة النفي المؤكد أو المؤبد.
وكلام الخليل في أصل وضعها يؤيد ذلك فمن قال من النحاة أنها لا تفيد تأكيدا ولا تأبيدا فقد كابر.
وقوله {وَلَنْ تَفْعَلُوا} من أكبر معجزات القرآن فإنها معجزة من جهتين: الأولى أنها أثبتت أنهم لم يعارضوا لأن ذلك أبعث لهم على المعارضة لو كانوا قادرين، وقد تأكد ذلك كله بقوله قبل {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] وذلك دليل العجز عن الإتيان بمثله فيدل على أنه كلام من قدرته فوق طوق البشر.
الثانية أنه أخبر بأنهم لا يأتون بذلك في المستقبل فما أتى أحد منهم ولا ممن خلفهم بما يعارض القرآن فكانت هاته الآية معجزة من نوع الإعجاز بالإخبار عن الغيب مستمرة على تعاقب السنين فإن آيات المعارضة الكثيرة في القرآن قد قرعت بها أسماع المعاندين من العرب الذين أبوا تصديق الرسول وتواترت بها الأخبار بينهم وسارت بها الركبان بحيث لا يسع ادعاء جهلها، ودواعي المعارضة موجودة فيهم: ففي خاصتهم بما يأنسونه من تأهلهم لقول الكلام البليغ وهم شعراؤهم وخطباؤهم.
وكانت لهم مجامع التقاول ونوادي التشاور والتعاون، وفي عامتهم وصعاليكهم بحرصهم على حث خاصتهم لدفع مسبة الغلبة عن قبائلهم ودينهم والانتصار لآلهتهم وإيقاف تيار دخول رجالهم في دين الإسلام.
مع ما عرف به العربي من إباءة الغلبة وكراهة الاستكانة.
فما أمسك الكافة عن الإتيان بمثل القرآن إلا لعجزهم عن ذلك وذلك حجة على أنه منزل من عند الله تعالى، ولو عارضه واحد أو جماعة لطاروا به فرحا وأشاعوه وتناقلوه فإنهم اعتادوا تناقل أقوال بلغائهم من قبل أن يغريهم التحدي فما ظنك بهم لو ظفروا بشيء منه يدفعون به عنهم هذه الاستكانة وعدم العثور على شيء يدعى من ذلك يوجب اليقين بأنهم أمسكوا عن معارضته، وسنبين ذلك بالتفصيل في آخر تفسير هذه الآية.
و {تَفْعَلُوا} الأول مجزوم بلم لا محالة لأن "إن" الشرطية دخلت على الفعل بعد اعتباره منفيا فيكون معنى الشرط متسلطا على لم وفعلها فظهر أن ليس هذا متنازع بين إن ولم في العمل في {تَفْعَلُوا} لاختلاف المعنيين فلا يفرض فيه الاختلاف الواقع بين النحاة في صحة تنازع الحرفين معمولا واحدا كما توهمه ابن العلج أحد نحاة الأندلس نسبه إليه في "التصريح على التوضيح"1 على أن الحق أنه لا مانع منه مع اتحاد الاقتضاء من حيث المعنى وقد أخذ جوازه من كلام أبي علي الفارسي في المسائل الدمشقيات ومن كتاب التذكرة له أنه جعل قول الراجز:
حتى تراها وكأن وكأن  . . .  أعناقها مشرفات في قرن
من قبيل التنازع بين كأن المشددة وكأن المخففة.
وقوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} أثر لجواب الشرط في قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} دل على جمل محذوفة للإيجاز لأن جواب الشرط في المعنى هو ما جيء بالشرط لأجله وهو مفاد قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، فتقدير جواب قوله فإن لم تفعلوا أنه فأيقنوا بأن ما جاء به محمد منزل من عندنا وأنه صادق فيما أمركم به من وجوب عبادة الله وحده واحذروا إن لم تمتثلوا أمره عذاب النار فوقع قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} موقع الجواب لدلالته عليه وإيذائه به وهو إيجاز بديع وذلك أن اتقاء النار لم يكن مما يؤمنون به من قبل لتكذيبهم بالبعث فإذا تبين صدق الرسول لزمهم الإيمان بالبعث والجزاء.        
وإنما عبر بلم تفعلوا ولن تفعلوا دون فإن لم تأتوا بذلك ولن تأتوا كما في قوله تعالى قال: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ} [يوسف: 60] إلخ لأن في لفظ تفعلوا هنا من الإيجاز ما ليس مثله في الآية الأخرى إذ الإتيان المتحدى به في هذه الآية إتيان مكيف بكيفية خاصة وهي كون المأتي به مثل هذا القرآن ومشهودا عليه ومستعانا عليه بشهدائهم فكان في لفظ تفعلوا من الإحاطة بتلك الصفات والقيود إيجاز لا يقتضيه الإتيان الذي في سورة يوسف.
والوقود بفتح الواو اسم لما يوقد به، وبالضم مصدر وقيل بالعكس، وقال ابن عطية حكى الضم والفتح في كل من الحطب والمصدر.

-----------------------------------------------
1 قل من يعرف اسمه, ولم يترجم له في "البغية" وهو محمد بن عبد الله الأشبيلي له كتاب "البسيط في النحو"
-----------------------------------------------

وقياس فعول بفتح الفاء أنه اسم لما يفعل به كالوضوء والحنوط والسعوط والوجور إلا سبعة ألفاظ وردت بالفتح للمصدر وهي الولوع والقبول والوضوء والطهور والوزوع واللغوب والوقود.
والفتح هنا هو المتعين لأن المراد الاسم وقرئ بالضم في الشاذ وذلك على اعتبار الضم مصدرا أو على حذف مضاف أي ذوو وقودها الناس.
والناس أريد به صنف منهم وهم الكافرون فتعريفه تعريف الاستغراق العرفي ويجوز أن يكون تعريف العهد لأن كونهم المشركين قد علم من آيات أخرى كثيرة.
والحجارة جمع حجر على غير قياس وهو وزن نادر في كلامهم جمعوا حجرا عن أحجار وألحقوا به هاء التأنيث قال سيبوية كما ألحقوها بالبعولة والفحولة.
وعن أبي الهيثم أن العرب تدخل الهاء في كل جمع على فعال أو فعول لأنه إذا وقف عليه اجتمع فيه عند الوقف ساكنان أحدهما الألف الساكنة والثاني الحرف الموقوف عليه أي استحسنوا أن يكون خفيفا إذا وقفوا عليه، وليس هو من اجتماع الساكنين الممنوع، ومن ذلك عظامة ونفارة وفحالة وحبالة وذكارة وفحولة وحمولة جموعا وبكارة جمع بكر بفتح الباء ومهارة جمع مهر.
ومعنى وقودها الحجارة أن الحجر جعل لها مكان الحطب لأنه إذا اشتعل صار أشد إحراقا وأبطأ انطفاء ومن الحجارة أصنامهم فإنها أحجار وقد جاء ذلك صريحا في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الانبياء: من الآية98] وفي هذه الآية تعريض بتهديد المخاطبين والمعنى المعرض به فاحذروا أن تكونوا أنتم وما عبدتم وقود النار وقرينة التعريض قوله: {فَاتَّقُوا} وقوله: {وَالْحِجَارَةُ} لأنهم لما أمروا باتقائها أمر تحذير علموا أنهم هم الناس، وإما ذكرت الحجارة علموا أنها أصنامهم، فلزم أن يكون الناس هم عباد تلك الأصنام فالتعريض هنا متفاوت فالأول منه بواسطة واحدة والثاني بواسطتين.
وحكمة إلقاء حجارة الأصنام في النار مع أنها لا تظهر فيها حكمة الجزاء أن ذلك تحقير لها وزيادة إظهار خطإ عبدتها فيما عبدوا، وتكرر لحسرتهم على اهـانتها، وحسرتهم أيضا على أن كان ما أعدوه سببا لعزهم وفخرهم سببا لعذابهم، وما أعدوه لنجاتهم سببا لعذابهم، قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية.
وتعريف "النار" للعهد ووصفها بالموصول المقتضي علم المخاطبين بالصلة كما هو الغالب في صلة الموصول لتنزيل الجاهل منزلة العالم بقصد تحقيق وجود جهنم، أو لأن وصف جهنم بذلك قد تقرر فيما نزل قبل من القرآن كقوله تعالى في سورة التحريم [6]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وإن كانت سورة التحريم معدودة في السور التي نزلت بعد سورة البقرة فإن في صحة ذلك العد نظرا، أو لأنه قد علم ذلك عندهم من أخبار اهـل الكتاب.
وفي جعل الناس والحجارة وقودا دليل على أن نار جهنم مشتعلة من قبل زج الناس فيها وأن الناس والحجارة إنما تتقد بها لأن نار جهنم هي عنصر الحرارة كلها كما أشار إليه حديث الموطأ: إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اتصل بها الآدمي اشتعل ونضج جلده وإذا اتصلت بها الحجارة صهرت.
وفي الاحتراق بالسيال الكهربائي نموذج يقرب ذلك للناس اليوم.
وروي عن ابن عباس أن جهنم تتقد بحجارة الكبريت فيكون نموذجها البراكين الملتهبة.
وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} استئناف لم يعطف لقصد التنبيه على أنه مقصود بالخبرية لأنه لو عطف لأوهم العطف أنه صفة ثانية أو صلة أخرى وجعله خبرا اهـول وأفخم وأدخل للروع في قلوب المخاطبين وهو تعريض بأنها أعدت لهم ابتداء لأن المحاورة معهم.
وهذه الآية قد أثبتت إعجاز القرآن إثباتا متواترا امتاز به القرآن عن بقية المعجزات، فإن سائر المعجزات للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام إنما ثبتت بأخبار آحاد وثبت من جميعها قدر مشترك بين جميعها وهو وقوع أصل الإعجاز بتواتر معنوي مثل كرم حاتم وشجاعة عمرو فأما القرآن فإعجازه ثبت بالتواتر النقلي أدرك معجزته العرب بالحس.
وأدركها عامة غيرهم بالنقل.
وقد تدركها الخاصة من غيرهم بالحس كذلك على ما سنبينه.
أمَّا إدراك العرب معجزة القرآن فظاهر من هذه الآية وأمثالها فإنهم كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وناوءوه وأعرضوا عن متابعته فحاجَّهم على إثبات صدقه بكلام أوحاه اللهُ إليهِ، وجعل دليل أنه من عند الله عجزهم عن معارضته فإنه مركب من حروف لغتهم ومن كلماتها وعلى أساليب تراكيبها، وأودع من الخصائص البلاغية ما عرفوا أمثاله في كلام بلغائهم من الخطباء والشعراء ثم حاكمهم إلى الفصل في أمر تصديقه أو تكذيبه بحكم سهل وعدل وهو معارضتهم لما أتى به أو عجزهم عن ذلك نطق بذلك القرآن في غير موضع كهاته الآية فلم يستطيعوا المعارضة فكان عجزهم عن المعارضة لا يعدو أمرين: إما أن يكون عجزهم لأن القرآن بلغ فيما اشتمل عليه من الخصائص البلاغية التي يقتضيها الحال حد الإطاقة لأذهان بلغاء البشر بالإحاطة به، بحيث لو اجتمعت أذهانهم وانقدحت قرائحهم وتآمروا وتشاوروا في نواديهم وبطاحهم وأسواق موسمهم، فأبدى كل بليغ ما لاح له من النكت والخصائص لوجدوا كل ذلك قد وفت به آيات القرآن في مثله وأتت بأعظم منه، ثم لو لحق بهم لاحق، وخلف من بعدهم خلف فأبدى ما لم يبدوه من النكت لوجد تلك الآية التي انقدحت فيها أفهام السابقين وأحصت ما فيها من الخصائص قد اشتملت على ما لاح لهذا الأخير وأوفر منه، فهذا هو القدر الذي أدركه بلغاء العرب بفطرهم، فأعرضوا عن معارضته علما بأنهم لا قبل لهم بمثله، وقد كانوا من علو الهمة ورجاحة الرأي بحيث لا يعرضون أنفسهم للافتضاح ولا يرضون لأنفسهم بالانتقاص لذلك رأوا الإمساك عن المعارضة أجدى بهم واحتملوا النداء عليهم بالعجز عن المعارضة في مثل هذه الآية، لعلهم رأوا أن السكوت يقبل من التأويل بالأنفة ما لا تقبله المعارضة القاصرة عن بلاغة القرآن فثبت أنه معجز لبلوغه حدا لا يستطيعه البشر فكان هذا الكلام خارقا للعادة ودليلا على أن الله أوجده كذلك ليكون دليلا على صدق الرسول فالعجز عن المعارضة لهذا الوجه كان لعدم القدرة على الإتيان بمثله وهذا هو رأي جمهور اهـل السنة والمعتزلة وأعيان الأشاعرة مثل أبي بكر الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وهو المشهور عن الأشعري.
وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ممكنة منهم المعارضة ولكنهم صرفهم الله عن التصدي لها مع توفر الدواعي على ذلك فيكون صدهم عن ذلك مع اختلاف أحوالهم أمرا خارقا للعادة أيضا وهو دليل المعجزة، وهذا مذهب من قول ذهب إليه فريق وقد ذكره أبو بكر الباقلاني في كتابه في إعجاز القرآن ولم يعين له قائلا وقد نسبه التفتزاني في كتاب المقاصد إلى القائلين إن الإعجاز بالصرفة1 وهو قول النظام من المعتزلة وكثير من المعتزلة ونسبه الخفاجي إلى أبي إسحاق الإسفرائيني ونسبه عياض إلى أبي الحسن الأشعري ولكنه لم يشتهر عنه وقال به الشريف المرتضى من الشيعة كما في المقاصد وهو مع كونه كافيا في أن عجزهم على المعارضة بتعجيز الله إياهم هو مسلك ضعيف وقد تقدم الكلام على وجوه إعجاز القرآن تفصيلا في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.

-----------------------------------------------
1 وقعت كلمة الصرفة في عبارات المتكلمين ومنهم ابو بكر الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" ولم أر من ضبط الصاد منه فيجوز أن يكون صاده مفتوحا على زنة المرة مرادا بها مطلق وجود الصرف والأظهر أن يكون الصاد مقصورا على صيغة الهيئة أي حرفا مخصوصا بقدرة الله ويشعر بهذا قول الباقلاني في كتاب "إعجاز القرآن" صرفهم الله عنه ضربا من الصرف.
-----------------------------------------------

فإن قلت لم لا يجوز أن يكون ترك العرب للمعارضة تعاجزا لا عجزا.
وبعد فمن آمنا أن يكون العرب قد عارضوا القرآن ولم ينقل إلينا ما عارضوا به.
قلت يستحيل أن يكون فعلهم ذلك تعاجزا فإن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث في أمة مناوئة له معادية لا كما بعث موسى في بني إسرائيل موالين معاضدين له ومشايعين فكانت العرب قاطبة معارضة للنبي صلى الله عليه وسلم إذ كذبوه ولمزوه بالجنون والسحر وغير ذلك لم يتبعه منهم إلا نفر قليل مستضعفين بين قومهم لا نصير لهم في أول الدعوة ثم كان من أمر قومه أن قاطعوه ثم أمروه بالخروج بين هم بقتله واقتصار على إخراجه كل هذا ثبت عنهم في أحاديثهم وأقوالهم المنقولة نقلا يستحيل تواطؤنا عليه على الكذب وداموا على مناوأته بعد خروجه كذلك يصدونه عن الحج ويضطهدون أتباعه إلى آخر ما عرف في التاريخ والسير ولم تكن تلك المناوأة في أمد قصير يمكن في خلاله كتم الحوادث وطي نشر المعارضة فإنها مدة تسع عشرة سنة إلى يوم فتح مكة.
لا جرم أن أقصى رغبة لهم في تلك المدة هي إظهار تكذيبه انتصارا لأنفسهم ولآلهتهم وتظاهرا بالنصر بين قبائل العرب كل هذا ثبت بالتواتر عند جميع الأمم المجاورة لهم من فرس وروم وقبط وأحباش.
ولا جرم أن القرآن قصر معهم مسافة المجادلة وهيأ لهم طريق إلزامه بحقية ما نسبوه إليه فأتاهم كتابا منزلا نجوما ودعاهم إلى المعارضة بالإتيان بقطعة قصيرة مثله وأن يجمعوا لذلك شهداءهم وأعوانهم نطق بذلك هذا الكتاب، كل هذا ثبت بالتواتر فإن هذا الكتاب متواتر بين العرب ولا يخلو عن العلم بوجوده اهـل الدين من الأمم وإن اشتماله على طلب المعارضة ثابت بالتواتر المعلوم لدينا فإنه هو هذا الكتاب الذي آمن المسلمون قبل فتح مكة به وحفظوه وآمن به جميع العرب أيضا بعد فتح مكة فألفوه كما هو اليوم شهدت على ذلك الأجيال جيلا بعد جيل.
وقد كان هؤلاء المتحدون المدعوون إلى المعارضة بالمكانة المعروفة من أصالة الرأي واستقامة الأذهان، ورجحان العقول وعدم رواج الزيف عليهم، وبالكفاءة والمقدرة على التفنن في المعاني والألفاظ تواتر ذلك كله عنهم بما نقل من كلامهم نظما ونثرا وبما اشتهر وتواتر من القدر المشترك من بين المرويات من نوادرهم وأخبارهم فلم يكن يعوزهم أن يعارضوه لو وجدوه على النحو المتعارف لديهم فإن صحة أذهانهم أدركت أنه تجاوز الحد المتعارف لديهم فلذلك أعرضوا عن المعارضة مع توفر داعيهم بالطبع وحرصهم لو وجدوا إليه سبيلا ثبت إعراضهم عن المعارضة بطريق التواتر إذ لو وقع مثل هذا لأعلنوه وأشاعوه وتناقله الناس لأنه من الحوادث العظيمة فعدلوا عن المعارضة باللسان إلى المحاربة والمكافحة، ثبت ذلك بالتواتر لا محالة عند اهـل التاريخ وغيرهم.
وأياما جعلت سبب إعراضهم عن المعارضة من خروج كلامه عن طوق البشر أو من صرف الله أذهانهم عن ذلك فهو دليل على أمر خارق للعادة كان بتقدير من خالق القدر ومعجز البشر.
ووراء هذا كله دليل آخر يعرفنا بأن العرب بحسن فطرتهم قد أدركوا صدق الرسول وفطنوا لإعجاز القرآن وأنه ليس بكلام معتاد للبشر وأنهم ما كذبوا إلا عنادا أو مكابرة وحرصا على السيادة ونفورا من الاعتراف بالخطأ، ذلك الدليل هو إسلام جميع قبائل العرب وتعاقبهم في الوفادة بعد فتح مكة فإنهم كانوا مقتدين بقريش في المعارضة مكبرين المتابعة لهذا الدين خشية مسبة بعضهم وخاصة قريش ومن ظاهرهم، فلما غلبت قريش لم يبق ما يصد بقية العرب عن المجيء طائعين معترفين عن غير غلب فإنهم كانوا يستطيعون الثبات للمقارعة أكثر مما ثبتت قريش إذ قد كان من تلك القبائل اهـل البأس والشدة من عرب نجد وطيء وغيرهم ممن اعتز بهم الإسلام بعد ذلك فإنه ليس مما عرف في عوائد الأمم وأخلاقها أن تنبذ قبائل عظيمة كثيرة أديانا تعتقد صحتها وتجيء جميعها طائعا نابذا دينه في خلال أشهر من عام الوفود لم يجمعهم فيه ناد ولم تسر بينهم سفراء ولا حشرهم مجمع لولا أنهم كانوا متهيئين لهذا الاعتراف لا يصدهم عنه الإصاد ضعيف وهو المكابرة والمعاندة.
ثم في هذه الآية معجزة باقية وهي قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} فإنها قد مرت عليها العصور والقرون وما صدقها واضح إذ لم تقع المعارضة من أحد من المخاطبين ولا ممن لحقهم إلى اليوم.
فإن قلت ثبت بهذا أن القرآن معجز للعرب وبذلك ثبت لديهم أنه معجزة وثبت لديهم به صدق الرسول ولكن لم يثبت ذلك لمن ليس مثلهم فما هي المعجزة لغيرهم? قلت إن ثبوت الإعجاز لا يستلزم مساواة الناس في طريق الثبوت فإنه إذا أعجز العرب ثبت أنه خارق للعادة لما علمت من الوجهين السابقين فيكون الإعجاز للعرب بالبداهة ولمن جاء بعدهم بالاستدلال والبرهان وهما طريقان لحصول العلم.
وبعد فان من شاء أن يدرك الإعجاز كما أدركه العرب فما عليه إلا أن يشتغل بتعلم اللغة وأدبها وخصائصها حتى يساوي أو يقارب العرب في ذوق لغتهم ثم ينظر بعد ذلك في نسبة القرآن من كلام بلغائهم ولم يخل عصر من فئة اضطلعت بفهم البلاغة العربية وأدركت إعجاز القرآن وهم علماء البلاغة وأدب العربية الصحيح.
قال الشيخ عبد القاهر في مقدمة دلائل الإعجاز فإن قال قائل إن لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت أي من توقفه على علم البيان وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه ولو كان الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب وما استوى الناس فيه قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب عن أن يكون محجوجا بالقرآن قيل له خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير ألا يزال البرهان منه لائحا معرضا لكل من أراد العلم به والعلم به ممكنا لمن التمسه وألا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي كان به معجزا قائم فيه أبدا اهـ.
وقال السكاكي في معرض التنويه ببعض مسائل التقديم قوله متوسلا بذلك إلى أن يتأنق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلا مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل وقد بينت في المقدمة العاشرة تفاصيل من وجوه إعجازه فقد اشتملت هذه الآية على أصناف من الإعجاز إذ نقلت الإعجاز بالتواتر وكانت ببلاغتها معجزة، وكانت معجزة من حيث الإخبار عن المستقبل كله بما تحقق صدقه فسبحان منزلها ومؤتيها.



تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
تفسير سورة البقرة من الآية 001 - 030
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» (2) سورة البقرة
» سورة البقرة
» سورة البقرة
» سورة البقرة
» سورة البقرة: الآيات من 16-20

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: جــديـد المـوضـوعـــات بالمنتـدى :: تفســيـر التحـــريـر والتنــــويـر-
انتقل الى: