| تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:01 pm | |
| [61] {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهـبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}. {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهـبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} هي معطوفة على الجمل قبلها بأسلوب واحد، وإسناد القول إلى ضمير المخاطبين جار على ما تقدم في نظائره وما تضمنته الجمل قبلها هو من تعداد النعم عليهم محضة أو مخلوطة بسوء شكرهم وبترتب النعمة على ذلك الصنيع بالعفو ونحوه كما تقدم، فالظاهر أن يكون مضمون هذه الجملة نعمة أيضاً. وللمفسرين حيرة في الإشارة إليها فيؤخذ من كلام الفخر أن قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} هو كالإجابة لما طلبوه يعني والإجابة إنعام ولو كان معلقا على دخول قرية من القرى ولا يخفى أنه بعيد جدا لأن إعطاءهم ما سألوه لم يثبت وقوعه. ويؤخذ من كلام المفسرين الذي صدر الفخر بنقله ووجهه عبد الحكيم أن سؤالهم تعويض المن والسلوى بالبقل ونحوه معصية لما فيه من كراهة النعمة التي أنعم الله بها عليهم إذ عبروا عن تناولها بالصبر والصبر هو حمل النفس على الأمر المكروه ويدل لذلك أنه أنكر عليهم بقوله {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} فيكون محل النعمة هو الصفح عن هذا الذنب والتنازع معهم إلى الإجابة بقوله {اهبطوا} ولا يخفى أن هذا بعيد إذ ليس في قوله {اهبطوا} إنعام عليهم ولا في سؤالهم ما يدل على أنهم عصوا لأن طلب الانتقال من نعمة لغيرها لغرض معروف لا يعد معصية كما بينه الفخر. فالذي عندي في تفسير الآية أنها انتقال من تعداد النعم المعقبة بنعم أخرى إلى بيان سوء اختيارهم في شهواتهم والاختيار دليل عقل اللبيب، وإن كان يختار مباحاً، مع ما في صيغة طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم إذ قالوا: {لن نصبر} فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم الكراهية وأتوا بما دل عليه لن في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن فإن لن تدل على استغراق النفي لأزمنة فعل {نصبر} من أولها إلى آخرها وهو معنى التأييد وفي ذلك إلجاء لموسى أن يبادر بالسؤال يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين فكان جواب الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم ولم يرهم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام بل قال لهم {اهْبِطُوا مِصْراً} فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديباً وتوبيخاً. قال الشيخ ابن عطاء الله رحمه الله: من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه فيقول لو كان في هذا إساءة لعوقبت فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن إلا منع المزيد، وقد يقام مقام البعد من حيث لا يدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد، والمقصد من هذا أن ينتقل من تعداد النعم إلى بيان تلقيهم لها بالاستخفاف لينتقل من ذلك إلى ذكر انقلاب أحوالهم وأسباب خذلانهم وليس شيء من ذلك بمقتضى كون السؤال معصية فإن العقوبات الدنيوية وحرمان الفضائل ليست من آثار خطاب التكليف ولكنها من أشباه خطاب الوضع ترجع إلى ترتب المسببات على أسبابها وذلك من نواميس نظام العالم وإنما الذي يدل على كون المجزي عليه معصية هو العقاب الأخروي وبهذا زالت الحيرة واندفع كل إشكال وانتظم سلك الكلام. وقد أشارت الآية إلى قصة ذكرتها التوراة مجملة منتثرة وهي أنهم لما ارتحلوا من برية سينا من حوريب ونزلوا في برية فاران في آخر الشهر الثاني من السنة الثانية من الخروج سائرين إلى جهات حبرون فقالوا تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا أي يصطادونه بأنفسهم والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم وقد يبست نفوسنا فلا نرى إلا هذا المن فبكوا فغضب الله عليهم وسأله موسى العفو فعفا عنهم وأرسل عليهم السلوى فادخروا منها طعام شهر كامل. والتعبير بلن المفيدة لتأييد النفي في اللغة العربية لأداء معنى كلامهم المحكي هنا في شدة الضجر وبلوغ الكراهية منهم حدها الذي لا طاقة عنده. فإن التأييد يفيد استغراق النفي في جميع أجزاء الأبد أولها وآخرها فلن في نفي الأفعال مثل لا التبرئة1 في نفي النكرات. ووصفوا الطعام بواحد وإن كان هو شيئين المن والسلوى لأن المراد أنه متكرر كل يوم. وجملة {يخرج لنا} إلى آخرها هي مضمون ما طلبوا منه أن يدعو به فهي في معنى مقول قول محذوف كأنه قيل قل لربك يخرج لنا ومقتضى الظاهر أن يقال أن يخرج لنا فعدل عن ذلك إلى الإتيان بفعل مجزوم في صورة جواب طلبهم إيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه حتى كأن إخراج ما تنبت الأرض يحصل بمجرد دعاء موسى ربه، وهذا أسلوب تكرر في القرآن مثل قوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [ابراهيم: 31] {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الاسراء: 53] وهو كثير فهو بمنزلة شرط وجزاء كأنه قيل إن تدع ربك بأن يخرج لنا يخرج لنا، وهذا بتنزيل سبب السبب منزلة السبب فجزم الفعل المطلوب في جواب الأمر بطلبه لله للدلالة على تحقق وقوعه لثقتهم بإجابة الله تعالى دعوة موسى، وفيه تحريض على إيجاد ما علق عليه الجواب كأنه أمر في مكنته فإذا لم يفعل فقد شح عليهم بما فيه نفعهم. ----------------------------------------------- 1 هي النافية للجنس, المفيدة لاستغراق النفي جميع أفراد الجنس. ----------------------------------------------- والإخراج: الإبراز من الأرض، ومن الأولى تبعيضية والثانية بيانية أو الثانية أيضاً تبعيضية لأنهم لا يطلبون جميع البقل بل بعضه، وفيه تسهيل على المسؤول ويكون قوله {من بقلها} حالا من ما أو هو بدل من ما تنبت بإعادة حرف الجر، وعن الحسن كانوا قوما فلاحة فنزعوا إلى عكرهم1 وقد اختلف في الفوم فقيل هو الثوم بالمثلثة وإبدال الثاء فاء شائع في كلام العرب كما قالوا جدث وجدف وثلغ وفلغ، وهذا هو الأظهر والموافق لما عد معه ولما في التوراة. وقيل الفوم الحنطة وأنشد الزجاج لا حيحة بن الجلاح: قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا . . . ورد المدينة من مزارع فوم يريد مزارع الحنطة وقيل الفوم الحمص بلغة اهـل الشام. وقوله: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} هو من كلام موسى وقيل من كلام الله وهو توبيخ شديد لأنه جرده عن المقنعات وعن الزجر، واقتصر على الاستفهام المقصود منه التعجب فالتوبيخ. وفي الاستبدال للخير بالأدنى النداء بنهاية حماقتهم وسوء اختيارهم. وقوله: {أتستبدلون} السين والتاء فيه لتأكيد الحدث وليس للطلب فهو كقوله {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: 6] وقولهم استجاب بمعنى أجاب، واستكبر بمعنى تكبر، ومنه قوله تعالى: {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الانسان: 7] في سورة الإنسان. وفعل استبدل مشتق من البدل بالتحريك مثل شبه، ويقال بكسر الباء وسكون الدال مثل شبه ويقال بديل مثل شبيه وقد سمع في مشتقاته استبدل وأبدل وبدل وتبدل وكلها أفعال مزيدة ولم يسمع منه فعل مجرد وكأنهم استغنوا بهذه المزيدة عن المجرد، وظاهر كلام صاحب الكشاف في سورة النساء عند قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أن استبدل هو أصلها وأكثرها وأن تبدل محمول عليه لقوله والتفعل بمعنى الاستفعال غزير ومنه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار. وجميع أفعال مادة البدل تدل على جعل شيء مكان شيء آخر من الذوات أو الصفات أو عن تعويض شيء بشيء آخر من الذوات أو الصفات. ----------------------------------------------- 1 العكر -بكسر العين وسكون الكاف- الأصل. ----------------------------------------------- ولَمَّا كان معنى الحدث المصوع منه الفعل اقتضت هذه الأفعال تعدية إلى متعلقين إما على وجه المفعولية فيهما معا مثل تعلق فعل الجعل، وأمَّا على وجه المفعولية في أحدهما والجر للآخر مثل متعلقي أفعال التعويض كاشترى وهذا هو الاستعمال الكثير، فإذا تعدى الفعل إلى مفعولين نحو: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [ابراهيم: 48] كان المفعول الأول هو المزال والثاني هو الذي يخلفه نحو قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} وقولهم أبدلت الحلقة خاتماً، وإذ تعدت إلى مفعول واحد وتعدت إلى الآخر بالباء وهو الأكثر فالمنصوب هو الماخوذ والمجرور هو المبذول نحو قوله هنا {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} وقوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108] وقوله في سورة النساء: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2]، وقد يجر المعمول الثاني التي هي بمعنى باء البدلية كقول أبي الشيص: بدلت من مرد الشباب ملاءة . . . خلقا وبئس مثوبة المقتاض وقد يعدل عن تعدية الفعل إلى الشيء المعوض ويعدى إلى آخذ العوض فيصير من باب أعطى فينصب مفعولين وينبه على المتروك بما يدل على ذلك من نحو من كذا، وبعد كذا، كقوله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55] التقدير ليبدلن خوفهم أمنا هذا تحرير طريق استعمال هذه الأفعال. ووقع في الكشاف عند قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} ما يقتضي أن فعل بدل له استعمال غير استعمال فعل استبدل وتبدل بأنه إذا عدى إلى المعمول الثاني بالباء كان مدخول الباء هو المأخوذ وكان المنصوب هو المتروك والمعطي فقرره القطب في شرحه بما ظاهره أن بدل لا يكون في معنى تعديته إلا مخالفا لتبدل واستبدل، وقرره التفتزاني بأن فيه استعمالين إذا تعدى إلى المعمول الثاني بالباء أحدهما يوافق استعمال تبدل والآخر بعكسه، والأظهر عندي أن لا فرق بين بدل وتبدل واستبدل وأن كلام الكشاف مشكل وحسبك أنه لا يوجد في كلام أئمة اللغة ولا في كلامه نفسه في كتاب الأساس. فالأمر في قوله: {اهبطوا} للإباحة المشوبة بالتوبيخ أي إن كان هذا همكم فاهبطوا بقرينة قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} فالمعنى اهـبطوا مصرا من الأمصار يعنى وفيه إعراض عن طلبهم إذ ليس حولهم يومئذ بلد قريب يستطيعون وصوله. وقيل أراد اهـبطوا مصر أي بلد مصر بلد القبط أي ارجعوا إلى مصر التي خرجتم منها والأمر لمجرد التوبيخ إذ لا يمكنهم الرجوع إلى مصر. واعلم أن مصر على هذا المعنى يجوز منعه من الصرف على تأويله بالبقعة فيكون فيه العلمية والتأنيث، ويجوز صرفه على تأويله بالمكان أو لأنه مؤنث ثلاثي ساكن الوسط مثل هند فهو في قراءة ابن مسعود بدون تنوين وأنه في مصحف أبي بن كعب بدون ألف وأنه ثبت بدون ألف في بعض مصاحف عثمان قاله ابن عطية، وذكر أن أشهب قال قال لي مالك هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون ا.هـ، ويكون قول موسى لهم {اهْبِطُوا مِصْراً} أمرا قصد منه التهديد على تذكرهم أيام ذلهم وعنائهم وتمنيهم الرجوع لتلك المعيشة، كأنه يقول لهم ارجعوا إلى ما كنتم فيه إذ لم تقدروا قدر الفضائل النفسية ونعمة الحرية والاستقلال. وربما كان قوله: {هبطوا} دون لنهبط مؤذنا بذلك لأنه لا يريد إدخال نفسه في هذا الأمر وهذا يذكر بقول أبي الطيب: فإن كان أعجبكم عامكم . . . فعودوا إلى حمص في القابل وقوله: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} الظاهر أن الفاء للتعقيب عطفت جملة: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} على جملة اهـبطوا للدلالة على حصول سؤلهم بمجرد هبوطهم مصر أو ليست مفيدة للتعليل إذ ليس الأمر بالهبوط بمحتاج إلى التعليل بمثل مضمون هذه الجملة لظهور المقصود من قوله: {اهْبِطُوا مِصْراً} ولأنه ليس بمقام ترغيب في هذا الهبوط حتى يشجع المأمور بتعليل الأمر والظاهر أن عدم إرادة التعليل هو الداعي إلى ذكر فاء التعقيب لأنه لو أريد التعليل لكانت إن مغنية غناء الفاء على ما صرح به الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز في الفصل الخامس والفصل الحادي عشر من فصول شتى في النظم إذ يقول واعلم أن من شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أي في قول بشار: بكرا صاحبي قبل الهجير . . . إن ذاك النجاح في التبكير أن تغنى غناء الفاء العاطفة مثلا وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعا موصولا معا وقال إنك ترى الجملة إذا دخلت إن ترتبط بما قبلها وتأتلف معه حتى كأن الكلامين أفرعا إفراغا واحدا حتى إذا أسقطت إن رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه حتى تجيء بالفاء فتقول مثلا: بكرا صاحبي قبل الهجير . . . إن ذاك النجاح في التبكير ثم لا ترى الفاء تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة وهذا الضرب كثير في التنزيل جدا من ذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]. وقوله {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} إلى قوله {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] وقال {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] إلخ. فظاهر كلام الشيخ أن وجود إن في الجملة المقصود منها التعليل والربط مغن عن الإتيان بالفاء، وأن الإتيان بالفاء حينئذ لا يناسب الكلام البليغ إذ هو كالجمع بين العوض والمعوض عنه فإذا وجدنا الفاء مع إن علمنا أن الفاء لمجرد العطف وإن لإرادة التعليل والربط بين الجملتين المتعاطفتين بأكثر من معنى التعقيب. ويستخلص من ذلك أن مواقع التعليل هي التي يكون فيها معناه بين مضمون الجملتين كالأمثلة التي ذكرها. وجعل أبو حيان في البحر المحيط جملة {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} جوابا للأمر وزعم أن الأمر كما يجاب بالفعل يجاب بالجملة الاسمية ولا يخفى أن كلا المعنيين ضعيف هاهنا لعدم قصد الترغيب في هذا الهبوط حتى يعلل أو يعلق، وإنما هو كلام غضب كما تقدم. واقتران الجملة بإن المؤكدة لتنزيلهم منزلة من يشك لبعد عهدهم بما سألوه حتى يشكون هل يجدونه من شدة شوقهم، والمحب بسوء الظن مغري. {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}. عطف على الجمل المتقدمة بالواو وبدون إعادة إذ، فأما عطفه فلأن هاته الجملة لها مزيد الارتباط بالجمل قبلها إذ كانت في معنى النتيجة والأثر لمدلول الجمل قبلها من قوله {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] فإن مضمون تلك الجمل ذكر ما من الله تعالى به عليهم من نعمة تحريرهم من استعباد القبط إياهم وسوقهم إلى الأرض التي وعدهم فتضمن ذلك نعمتي التحرير والتمكين في الأرض وهو جعل الشجاعة طوع يدهم لو فعلوا فلم يقدروا قدر ذلك وتمنوا العود إلى المعيشة في مصر إذ قالوا {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} كما فصلناه لكم هنا لك مما حكته التوراة وتقاعسوا عن دخول القرية وجبنوا عن لقاء العدو كما أشارت له الآية الماضية وفصلته آية المائدة فلا جرم إذ لم يشكروا النعمة ولم يقدروها أن تنتزع منهم ويسلبوها ويعوضوا عنها بضدها وهو الذلة المقابلة للشجاعة إذ لم يثقوا بنصر الله إياهم والمسكنة وهي العبودية فتكون الآية مسوقة مساق المجازاة للكلام السابق فهذا وجه العطف. وأمَّا كونه بالواو دون الفاء فليكون خبرا مقصودا بذاته وليس متفرعا على قول موسى لهم {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} لأنهم لم يشكروا النعمة فإن شكر النعمة هو إظهار آثارها المقصودة منها كإظهار النصر للحق بنعمة الشجاعة وإغاثة الملهوفين بنعمة الكرم وتثقيف الأذهان بنعمة العلم فكل من لم يشكر النعمة فهو جدير بأن تسلب عنه ويعوض بضدها قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ} [سبأ: 16] الآية، ولو عطف بغير الواو لكان ذكره تبعا لذكر سببه فلم يكن له من الاستقلال ما ينبه البال. فالضمير في قوله {وضربت عليهم... وباءوا} إلخ، عائدة إلى جميع بني إسرائيل لا إلى خصوص الذين أبوا دخول القرية والذين قالوا لن نصبر على طعام واحد بدليل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} فإن الذين قتلوا النبيين هم أبناء الذين أبوا دخول القرية وقالوا: {لن نصبر} فالإتيان بضمير الغيبة هنا جار على مقتضى الظاهر لأنهم غير المخاطبين فليس هو من الالتفات إذ ليس قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} إلخ من بقية جواب موسى إياهم لما علمت من شموله للمتحدث عنهم الآبين دخول القرية ولغيرهم ممن أتى بعدهم فقد جاء ضمير الغيبة على أصله، أمَّا شموله للمخاطبين فإنما هو بطريقة التعريض وهو لزوم توراث الأبناء أخلاق الآباء وشمائلهم كما قررناه في وجه الخطابات الماضية من قوله {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50] الآيات ويؤيده التعليل الآتي بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} المشعر بأن كل من اتصف بذلك فهو جدير بأن يثبت له من الحكم مثل ما ثبت للآخر. والضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة يقال ضرب بعصا وبيده وبالسيف وضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق. فمنه ضرب في الأرض. وسار طويلا، وضرب قبة وبيتا في موضع كذا بمعنى شدها ووثقها من الأرض. قال عبدة بن الطبيب: إن التي ضربت بيتا مهاجرة وقال زياد الأعجم: في قبة ضربت على ابن الحشرج وضرب الطين على الحائط ألصقه وقد تقدم ما لجميع هذه المعاني عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]. فقوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} استعارة مكنية إذ شبهت الذلة والمسكنة في الإحاطة بهم واللزوم بالبيت أو القبة يضربها الساكن ليلزمها وذكر الضرب تخييل لأنه ليس له شبيه في علائق المشبه. ويجوز أن يكون ضربت استعارة تبعية وليس ثمة مكنية بأن شبه لزوم الذلة لهم ولصوقها بلصوق الطين بالحائط، ومعنى التبعية أن المنظور إليه في التشبيه هو الحدث والوصف لا الذات بمعنى أن جريان الاستعارة في الفعل ليس بعنوان كونه تابعا لفاعل كما في التخييلية بل بعنوان كونه حدثا وهو معنى قولهم أجريت في الفعل تبعا لجريانها في المصدر وبه يظهر الفرق بين جعل ضربت تخييلا وجعله تبعية وهي طريقة في الآية سلكها الطيبي في شرح الكشاف وخالفه التفتزاني وجعل الضرب استعارة تبعية بمعنى الإحاطة والشمول سواء كان المشبه به القبة أو الطين، وهما احتمالان مقصودان في هذا المقام يشعر بهما البلغاء. ثم إن قوله تعالى {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} ليس هو من باب قول زياد الأعجم: إن السماحة والمروءة والندى . . . في قبة ضربت على ابن الحشرج1 لأن القبة في الآية مشبه بها وليست بموجودة والقبة في البيت يمكن أن تكون حقيقة فالآية استعارة وتصريح والبيت حقيقة وكناية كما نبه عليه الطيبي وجعل التفتزاني الآية على الاحتمالين في الاستعارة كناية عن كون اليهود أذلاء متصاغرين وهي نكت لا تتزاحم. والذلة الصغار وهي بكسر الذال لا غير وهي ضد العزة ولذلك قابل بينهما السموأل أو الحارثي في قوله: وما ضرنا أنا قليل وجارنا . . . عزيز وجار الأكثرين ذليل والمسكنة الفقر مشتقة من السكون لأن الفقر يقلل حركة صاحبه. وتطلق على الضعف ومنه المسكين للفقير. ومعنى لزوم الذلة والمسكنة لليهود أنهم فقدوا البأس والشجاعة وبدا عليهم سيما الفقر والحاجة مع وفرة ما أنعم الله عليهم فإنهم لما سئموها صارت لديهم كالعدم ولذلك صار الحرص لهم سجية باقية في أعقابهم. والبوء الرجوع وهو هنا مستعار لانقلاب الحالة مما يرضي الله إلى غضبه. ----------------------------------------------- 1 البيت لزياد الأعجم من قصيدة في عبد الله بن الحشرج القيسي أمير نيسابور لبني أمية وكان عبد الله جوادا سيدا وقول زياد في قبة كناية عن نسبة الكرم إلى عبد الله وإن لم تكن لعبد الله قبة لكن مع جواز أن تكون له قبة على قاعدة الكناية. أمَّا الآية فمبنية على تشبيه الذلة بالقبة فالقبة ممتنعة الحصول لأن المشبه به لا يكون واقعاً. ----------------------------------------------- {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} استئناف بياني أثاره ما شنع به حالهم من لزوم الذلة والمسكنة لهم والإشارة إلى ما تقدم من قوله {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ}. وأفرد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور وهو أولى بجواز الإفراد من إفراد الضمير في قول رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق . . . كأنه في الجلد توليع البهق قال أبو عبيدة لرؤبة: إن أردت الخطوط فقل كأنها وإن أردت السواد والبياض فقل كأنهما فقال رؤبة أردت كأن ذلك ويلك وإنما كان ما في الآية أولى بالإفراد لأن الذلة والمسكنة والغضب مما لا يشاهد فلا يشار إلى ذاتها ولكن يشار إلى مضمون الكلام وهو شيء واحد أي مذكور ومقول ومن هذا قوله تعالى {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58] أي ذلك القصص السابق. ومنه قوله تعالى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] وسيأتي. وقال صاحب الكشاف1 والذي حسن ذلك أن أسماء الإشارة ليست تثنيتها وجمعها وتأنيثها على الحقيقة وكذلك الموصولات ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع اهـ قيل أراد به أن جمع أسماء الإشارة وتثنيتها لم يكن بزيادة علامات بل كان بألفاظ خاصة بتلك الأحوال فلذلك كان استعمال بعضها في معنى بعض أسهل إذا كان على تأويل. وهو قليل الجدوى لأن المدار على التأويل والمجاز سواء كان في استعمال لفظ في معنى آخر أو في استعمال صيغة في معنى أخرى فلا حسن يخص هذه الألفاظ فيما يظهر فلعله أراد أن ذا موضوع لجنس ما يشار إليه.والذي موضوع لجنس ما عرف بصلة فهو صالح للإطلاق على الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث وإن ما يقع من أسماء الإشارة والموصولات للمثنى نحو ذان وللجمع نحو أولئك، إنما هو اسم بمعنى المثنى والمجموع لا أنه تثنية مفرد، وجمع مفرد، فذا يشار به للمثنى والمجموع ولا عكس فلذلك حسن استعمال المفرد منها للدلالة على المتعدد. والباء في قوله {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} سببية أي أن كفرهم وما معه كان سببا لعقابهم في الدنيا بالذلة والمسكنة وفي الآخرة بغضب الله وفيه تحذير من الوقوع في مثل ما وقعوا فيه. ----------------------------------------------- 1 في تفسير قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]. ----------------------------------------------- وقوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} خاص بأجيال اليهود الذين اجترموا هذه الجريمة العظيمة سواء في ذلك من باشر القتل وأمر به ومن سكت عنه ولم ينصر الأنبياء. وقد قتل اليهود من الأنبياء أشعياء بن أموص الذي كان حيا في منتصف القرن الثامن قبل المسيح قتله الملك منسي ملك اليهود سنة 700 قبل المسيح نشر نشرا على جذع شجرة. وأرمياء النبي الذي كان حيا في أواسط القرن السابع قبل المسيح وذلك لأنه أكثر التوبيخات والنصائح لليهود فرجموه بالحجارة حتى قتلوه وفي ذلك خلاف. وزكرياء الأخير أبا يحي قتله هيرودس العبراني ملك اليهود من قبل الرومان لأن زكرياء حاول تخليص ابنه يحيى من القتل وذلك في مدة نبوءة عيسى، ويحيى بن زكرياء قتله هيرودس لغضب ابنة أخت هيرودس على يحيى. وقوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بدون وجه معتبر في شريعتهم فإن فيها: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] فهذا القيد من الاحتجاج على اليهود بأصول دينهم لتخليد مذمتهم، وإلا فإن قتل الأنبياء لا يكون بحق في حال من الأحوال، وإنما قال الأنبياء لأن الرسل لا تسلط عليهم أعداؤهم لأنه مناف لحكمة الرسالة التي هي التبليغ قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] وقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ومن ثم كان ادعاء النصارى أن عيسى قتله اليهود ادعاء منافيا لحكمة الإرسال ولكن الله أنهى مدة رسالته بحصول المقصد مما أرسل إليه. وقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] يحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى نفس المشار إليه بذلك الأولى فيكون تكريرا للإشارة لزيادة تمييز المشار إليه حرصا على معرفته، ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة ولغضب الله تعالى عليهم، والآية حينئذ من قبيل التكرير وهو مغن عن العطف مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [لأعراف: 179]. ويجوز أن يكون المشار إليه بذلك الثاني هو الكفر بآيات الله وقتلهم النبيين فيكون ذلك إشارة إلى سبب ضرب الذلة الخ فما بعد كلمة ذلك هو سبب السبب تنبيها على أن إدمان العاصي يفضي إلى التغلغل فيها والتنقل من أصغرها إلى أكبرها. والباء على الوجهين سببية على أصل معناها. ولا حاجة إلى جعل إحدى الباءين بمعنى مع على تقدير جعل اسم الإشارة الثاني تكريرا للأول أخذا من كلام الكشاف الذي أحتفل به الطيبي فأطال في تقريره وتفنين توجيهه فإن فيه من التكلف ما ينبو عنه نظم القرآن. وكان الذي دعا إلى فرض هذا الوجه هو خلو الكلام من عاطف يعطف {بما عصوا} على {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} إذا كانت الإشارة لمجرد التكرير. ولقد نبهناك آنفا إلى دفع هذا بأن التكرير يغنى غناء العطف. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:03 pm | |
| [62] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. توسطت هاته الآية بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كل بليغ وهي أن ما تقدم من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى قد جرت عليهم ضرب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله تعالى عليهم ولما كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى طلب الخلاص من غضب الله تعالى لم يترك الله تعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم وإرادته صلاح حالهم فبين لهم في هاته الآية أن باب الله مفتوح لهم وأن اللجأ إليه أمر هين عليهم وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات ومن بديع البلاغة أن قرن معهم في ذلك ذكر بقية من الأمم ليكون ذلك تأنيسا لوحشة اليهود من القوارع السابقة في الآيات الماضية وإنصافاً للصالحين منهم، واعترافاً بفضلهم، وتبشيراً لصالحي الأمم من اليهود وغيرهم الذين مضوا مثل الذين كانوا قبل عيسى وامتثلوا لأنبيائهم، ومثل الحواريين، والموجودين في زمن نزول الآية مثل عبد الله بن سلام وصهيب، فقد وفت الآية حق الفريقين من الترغيب والبشارة، وراعت المناسبتين للآيات المتقدمة مناسبة اقتران الترغيب بالترهيب، ومناسبة ذكر الضد بعد الكلام على ضده. فمجيء "إن" هنا لمجرد الاهتمام بالخبر وتحقيقه لدفع توهم أن ما سبق من المذمات شامل لجميع اليهود فإن كثيراً من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضلت كانوا مثلهم في الضلال. ولقد عجب بعض الأصحاب لما ذكرت لهم أني حين حللت في رومة تبركت بزيارة قبر القديس بطرس توهما منهم بكون قبره في كنيسة رومة فبينت لهم أنه أحد الحواريين أصحاب المسيح عيسى عليه السلام. وابتدئ بذكر المؤمنين للاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر اهـل الخير إلا ويذكرون معهم، ومن مراعاة هذا المقصد قوله تعالى في سورة النساء [162] {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي الذين هادوا: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية، ولأنهم القدوة لغيرهم كما قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهـتَدَوْا} فالمراد من الذين آمنوا في هذه الآية هم المسلمون الذين صدقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لقب للأمة الإسلامية في عرف القرآن. {وَالَّذِينَ هَادُوا} هم بنو إسرائيل وقد مضى الكلام عليهم وإنما يذكر هنا وجه وصفهم بالذين هادوا، ومعنى هادوا كانوا يهودا أو دانوا بدين اليهود. وأصل اسم يهود منقول في العربية من العبرانية وهو في العبرانية بذال معجمة في آخره وهو علم أحد أسباط إسرائيل، وهذا الاسم أطلق على بني إسرائيل بعد موت سليمان سنة 975 قبل المسيح فإن مملكة إسرائيل انقسمت بعد موته إلى مملكتين مملكة رحبعام بن سليمان ولم يتبعه إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين وتلقب بمملكة يهوذا لأن معظم أتباعه من سبط يهوذا وجعل مقر مملكته هو مقر أبيه أورشليم، ومملكة ملكها يوربعام بن بناط غلام سليمان وكان شجاعا نجيبا فملكته بقية الأسباط العشرة عليهم وجعل مقر مملكته السامرة وتلقب بملك إسرائيل إلا أنه وقومه أفسدوا الديانة الموسوية وعبدوا الأوثان فلأجل ذلك انفصلوا عن الجامعة الإسرائيلية ولم يدم ملكهم في السامرة إلا مائتين ونيفا وخمسين سنة ثم انقرض على يد ملوك الآشوريين فاستأصلوا الإسرائيليين الذين بالسامرة وخربوها ونقلوا بني إسرائيل إلى بلاد آشور عبيدا لهم وأسكنوا بلاد السامرة فريقا من الآشوريين فمن يومئذ لم يبق لبني إسرائيل ملك إلا ملك يهوذا بأورشليم يتداوله أبناء سليمان عليه السلام فمنذ ذلك غلب على بني إسرائيل اسم يهود أي يهوذا ودام ملكهم هذا إلى حد سنة 120 قبل المسيح مسيحية في زمن الأمبراطور أدريان الروماني الذي أجلى اليهود الجلاء الأخير فتفرقوا في الأقطار باسم اليهود هم ومن التحق بهم من فلول بقية الأسباط. ولعل هذا وجه اختيار لفظ {وَالَّذِينَ هَادُوا} في الآية دون اليهود للإشارة إلى أنهم الذين انتسبوا إلى اليهود ولو لم يكونوا من سبط يهوذا. ثم صار اسم اليهود مطلقا على المتدينين بدين التوراة قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} الآية ويقال تهود إذا اتبع شريعة التوراة وفي الحديث يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. ويقال هاد إذا دان باليهودية قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]. وأمَّا في سورة الأعراف من قول موسى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} فذلك بمعنى المتاب. وأمَّا النصارى فهو اسم جمع نصري بفتح فسكون أو ناصري نسبة إلى الناصرة وهي قرية نشأت منها مريم أم المسيح عليهما السلام وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة بيت المقدس فولدت المسيح في بيت لحم ولذلك كان بنو إسرائيل يدعونه يشوع الناصري أو النصري فهذا وجه تسمية أتباعه بالنصارى. وأمَّا قوله: {والصابين} فقرأه الجمهور بهمزة بعد الموحدة على صيغة جمع صابئ بهمزة في آخره، وقرأه نافع وحده بياء ساكنة بعد الموحدة المكسورة على أنه جمع صاب منقوصا فأما على قراءة الجمهور فالصابئون لعله جمع صابئ وصابئ لعله اسم فاعل صبأ مهموزا أي ظهر وطلع، يقال صبأ النجم أي طلع وليس هو من صبأ يصبو إذا مال لأن قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف لأن الأصل توافق القراءات في المعنى. وزعم بعض علماء الإفرنج1 أنهم سموا صابئة لأن دينهم أتى به قوم من سبأ. وأمَّا على قراءة نافع فجعلوها جمع صاب مثل رام على أنه اسم فاعل من صبا يصبو إذا مال قالوا لأن اهـل هذا الدين مالوا عن كل دين إلى دين عبادة النجوم ولو قيل لأنهم مالوا عن أديان كثيرة إذ اتخذوا منها دينهم كما ستعرفه لكان أحسن. وقيل إنما خفف نافع همزة الصابين فجعلها ياء مثل قراءته {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج: 1] ومثل هذا التخفيف سماعي لأنه لا موجب لتخفيف الهمز المتحرك بعد حرف متحرك. والأظهر عندي أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أو ما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق وفي دائرة المعارف الإسلامية2 أن اسم الصابئة مأخوذ من أصل عبري هو (ص~ب~ع~) أي غطس عرفت به طائفة المنديا وهي طائفة يهودية نصرانية في العراق يقومون بالتعميد كالنصارى، ويقال الصابئون بصيغة جمع صابئ والصابئة على أنه وصف لمقدر أي الأمة الصابئة وهم المتدينون بدين الصابئة ولا يعرف لهذا الدين إلا اسم الصابئة على تقدير مضاف أي دين الصابئة إضافة إلى وصف أتباعه ويقال دين الصابئة. وهذا الدين دين قديم ظهر في بلاد الكلدان في العراق وانتشر معظم أتباعه فيما بين الخابور ودجلة وفيما بين الخابور والفرات فكانوا في البطائح وكسكر في سواد واسط وفي حران من بلاد الجزيرة. ----------------------------------------------- 1 انظر جديد لاروس باللغة الفرنسية. 2 في فصل حرره المستشرق "كارارفو". ----------------------------------------------- وكان اهـل هذا الدين نبطا في بلاد العراق فلما ظهر الفرس على إقليم العراق أزالوا مملكة الصابئين ومنعوهم من عبادة الأصنام فلم يجسروا بعد على عبادة أوثانهم. وكذلك منع الروم اهـل الشام والجزيرة من الصابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على التنصر فبطلت عبادة الأوثان منهم من ذلك الوقت وتظاهروا بالنصرانية فلما ظهر الإسلام على بلادهم اعتبروا في جملة النصارى وقد كانت صابئة بلاد كسكر والبطائح معتبرين صنفا من النصارى ينتمون إلى النبى يحيى بن زكرياء ومع ذلك لهم كتب يزعمون أن الله أنزلها على شيث بن آدم ويسمونه "أغاثا ديمون"، والنصارى يسمونهم يوحناسية نسبة إلى يوحنا وهو يحيى. وجامع أصل هذا الدين هو عبادة الكواكب السيارة والقمر وبعض النجوم مثل نجم القطب الشمالي وهم يؤمنون بخالق العالم وأنه واحد حكيم مقدس عن سمات الحوادث غير أنهم قالوا إن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربين لديه وهي الأرواح المجردات الطاهرة المقدسة وزعموا أن هذه الأرواح ساكنة في الكواكب وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية وتتصل بها بمقدار ما تقترب نفوس البشر من طبيعة الروحانيات فعبدوا الكواكب بقصد الاتجاه إلى روحانياتها ولأجل نزول تلك الروحانيات على النفوس البشرية يتعين تزكية النفس بتطهيرها من آثار القوى الشهوانية والغضبية بقدر الإمكان والإقبال على العبادة بالتضرع إلى الأرواح وبتطهير الجسم والصيام والصدقة والطيب وألزموا أنفسهم فضائل النفس الأربع الأصلية وهي العفة والعدالة والحكمة والشجاعة والأخذ بالفضائل الجزئية المتشعبة عن الفضائل الأربع وهي الأعمال الصالحة وتجنب الرذائل الجزئية وهي أضداد الفضائل وهي الأعمال السيئة. ومن العلماء من يقول إنهم يقولون بعدم الحاجة إلى بعثة الرسل وأنهم يعللون ذلك بأن مدعي الرسالة من البشر فلا يمكن لهم أن يكونوا واسطة بين الناس والخالق. ومن العلماء من ينقل عنهم أنهم يدعون أنهم على دين نوح. وهم يقولون إن المعلمين الأولين لدين الصابئة هما أغاثا ديمون وهرمس وهما شيث بن آدم. وإدريس، وهم يأخذون من كلام الحكماء ما فيه عون على الكمال فلذلك يكثر في كلامهم المماثلة لأقوال حكماء اليونان وخاصة سولون وإفلاطون وإرسطاطاليس ولا يبعد عندي أن يكون أولئك الحكماء اقتبسوا بعض الآراء من قدماء الصابئة في العراق فإن ثمة تشابها بينهم في عبادة الكواكب وجعلها آلهة وفي إثبات إلاه الآلهة. وقد بنوا هياكل للكواكب لتكون مهابط لأرواح الكواكب وحرصوا على تطهيرها وتطييبها لكي تألفها الروحانيات وقد يجعلون للكواكب تماثيل من الصور يتوخون فيها محاكاة صور الروحانيات بحسب ظنهم. ومن دينهم صلوات ثلاث في كل يوم، وقبلتهم نحو مهب ريح الشمال ويتطهرون قبل الصلاة وقراآتهم ودعواتهم تسمى الزمزمة بزايين كما ورد في ترجمة أبي إسحاق الصابئ. ولهم صيام ثلاثين يوما في السنة، موزعة على ثلاثة مواقيت من العام. ويجب غسل الجنابة وغسل المرأة الحائض. وتحرم العزوبة، ويجوز للرجل تزوج ما شاء من النساء ولا يتزوج إلا امرأة صابئة على دينه فإذا تزوج غير صابئة أو تزوجت الصابئة غير صابئ خرجا من الدين ولا تقبل منهما توبة. ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويدفنونهم في الأرض. ولهم رئيس للدين يسمونه الكمر بكاف وميم وراء. وقد اشتهر هذا الدين في حران من بلاد الجزيرة، ولذلك تعرف الصابئة في كتب العقائد الإسلامية بالحرنانية بنونين نسبة إلى حران على غير قياس كما في القاموس. قال ابن حزم في كتاب الفصل: كان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث فبعث الله إبراهيم عليه السلام بالحنيفية اهـ. ودين الصابئة كان معروفا للعرب في الجاهلية، بسبب جوار بلاد الصابئة في العراق والشام لمنازل بعض قبائل العرب مثل ديار بكر وبلاد الأنباط المجاورة لبلاد تغلب وقضاعة. ألا ترى أنه لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وصفه المشركون بالصابئ وربما دعوه بابن أبي كبشة الذي هو أحد أجداد آمنة الزهرية أم النبي صلى الله عليه وسلم، كان أظهر عبادة الكواكب في قومه فزعموا أن النبي ورث ذلك منه وكذبوا. وفي حديث عمران ابن حصين أنهم كانوا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونفد ماؤهم فابتغوا الماء فلقوا امرأة بين مزادتين على بعير فقالوا لها انطلقي إلى رسول الله فقالت الذي يقال له الصابئ قالوا هو الذي تعنين. وساق حديث تكثير الماء. وكانوا يسمون المسلمين الصباة كما ورد في خبر سعد بن معاذ، أنه كان صديقا لأمية بن خلف وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انطلق سعد ذات يوم معتمرا فنزل على أمية بمكة وقال لأمية انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت فخرج به فلقيهما أبو جهل فقال لأمية يا أبا صفوان من هذا معك قال سعد فقال له أبو جهل ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أويتم الصباة. وفي حديث غزوة خالد بن الوليد إلى جذيمة أنه عرض عليهم الإسلام أو السيف فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا الحديث. وقد قيل إن قوماً من تميم عبدوا نجم الدبران. وأن قوماً من لخم وخزاعة عبدوا الشعري العبور، وهو من كواكب برج الجوزاء في دائرة السرطان. وأن قوماً من كنانة عبدوا القمر فظن البعض أن هؤلاء كانوا صابئة وأحسب أنهم تلقفوا عبادة هذه الكواكب عن سوء تحقيق في حقائق دين الصابئة ولم يجزم الزمخشري بأن في العرب صابئة فإنه قال في الكشاف في تفسير سورة فصلت [37] في قوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} قال لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين فنهوا عن ذلك. وقد اختلف علماء الإسلام في إجراء الأحكام على الصابئة، فعن مجاهد والحسن أنهم طائفة بين اليهود والمجوس، وقال البيضاوي: هم قوم بين النصارى والمجوس فمن العلماء من ألحقهم بأهل الكتاب، ومن العلماء من ألحقهم بالمجوس، وسبب هذا الاضطراب هو اشتباه أحوالهم وتكتمهم في دينهم، وما دخل عليه من التخليط بسبب قهر الأمم التي تغلبت على بلادهم. فالقسم الذي تغلب عليهم الفرس اختلط دينهم بالمجوسية، والذين غلب عليهم الروم اختلط دينهم بالنصرانية. قال ابن شاس في كتاب الجواهر الثمينة: قال الشيخ أبو الطاهر يعني ابن بشير التنوخي القيرواني منعوا ذبائح الصابئة لأنهم بين النصرانية والمجوسية ولا شك أنه يعني صابئة العراق، الذين كانوا قبل ظهور الإسلام على بلادهم على دين المجوسية. وفي التوضيح على مختصر ابن الحاجب الفرعي في باب الذبائح قال الطرطوشي: لا تؤكل ذبيحة الصابيء وليست بحرام كذبيحة المجوسي وفيه في باب الصيد قال مالك لا يؤكل صيد الصابئ ولا ذبيحته. وفي شرح عبد الباقي علي خليل إن أخذ الصابئ بالنصرانية ليس بقوي كما ذكره أبو إسحاق التونسي، وعن مالك لا يتزوج المسلم المرأة الصائبة. قال الجصاص في تفسير سورة العقود وسورة براءة، روي عن أبي حنيفة أن الصابئة اهـل الكتاب، وقال أبو يوسف ومحمد ليسوا اهـل كتاب. وكان أبو الحسن الكرخي يقول الصابئة الذين هم بناحية حران يعبدون الكواكب، فليسوا اهـل كتاب عندهم جميعا. قال الجصاص: الصابئة الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فيهم اهـل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد أعني الذين هم بناحية حران، والذين هم بناحية البطائح وكسكر في سواد واسط. وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم وليس فيهم اهـل كتاب فالذي يغلب على ظني في قول أبي حنيفة أنه شاهد قوما منهم يظهرون أنهم نصارى تقية، وهم الذين كانوا بناحية البطائح وكسكر ويسميهم النصارى يوحنا سية وهم ينتمون إلى يحيى بن زكرياء، وينتحلون كتبا يزعمون أنها التي أنزلها الله على شيث ويحيى. ومن كان اعتقاده من الصابئين على ما وصفنا وهم الحرانيون الذين بناحية حران وهم عبدة أوثان لا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئا من كتب الله فلا خلاف بين الفقهاء في أنهم ليسوا اهـل كتاب، وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وأبو يوسف ومحمد قالا إن الصابئين ليسوا اهـل كتاب ولم يفصلوا بين الفريقين وكذا قول الأوزاعي ومالك بن أنس ا.هـ. كلامه. ووجه الاقتصار في الآية، على ذكر هذه الأديان الثلاثة مع الإسلام دون غيرها من نحو المجوسية والدهريين والزنادقة أن هذا مقام دعوتهم للدخول في الإسلام والمتاب عن أديانهم التي أبطلت لأنهم أرجي لقبول الإسلام من المجوس والدهريين لأنهم يثبتون الإله المتفرد بخلق العالم ويتبعون الفضائل على تفاوت بينهم في ذلك، فلذلك اقتصر عليهم تقريبا لهم من الدخول في الإسلام. ألا ترى أنه ذكر المجوس معهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: من الآية17] لأن ذلك مقام تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. وقوله تعالى: {من آمن} يجوز أن تكون "من" شرطا في موضع المبتدأ ويكون {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} جواب الشرط، والشرط مع الجواب خبر {إن}، فيكون المعنى إن الذين آمنوا من يؤمن بالله منهم فله أجره وحذف الرابط بين الجملة وبين اسم "إن" لأن "من" الشرطية عامة فكان الرابط العموم الذي شمل المبتدأ أعني اسم إن ويكون معنى الكلام على الاستقبال لوقوع الفعل الماضي في حيز الشرط أي من يؤمن منهم بالله ويعمل صالحا فله أجره ويكون المقصود منه فتح باب الإنابة لهم بعد أن قرعوا بالقوارع السالفة وذكر معهم من الأمم من لم يذكر عنهم كفر لمناسبة ما اقتضته العلة في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} [البقرة: 61] وتذكيرا لليهود بأنهم لا مزية لهم على غيرهم من الأمم حتى لا يتكلوا على الأوهام أنهم أحباء الله وأن ذنوبهم مغفورة. وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أن المؤمنين الخالصين من اليهود وغيرهم ممن سلف مثل النقباء الذين كانوا في المناجاة مع موسى ومثل يوشع بن نون وكالب بن يفنه لهم هذا الحكم وهو أن لهم أجرا عند ربهم لأن إناطة الجزاء بالشرط المشتق مؤذن بالتعليل بل السابقون بفعل ذلك قبل التقييد بهذا الشرط أولى بالحكم فقد قضت الآية حق الفريقين. ويجوز أن تكون "من" موصولة، بدلا من اسم "إن" والفعل الماضي حينئذ باق على المضي لأنه ليس ثمة ما يخلصه للاستقبال ودخلت الفاء في {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} إما على أنها تدخل في الخبر نحو قول الشاعر وهو من شواهد كتاب سيبوية وقائلة خولان فانكح فتاتهم ونحو {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: من الآية10] عند غير سيبوية. وأمَّا على أن الموصول عومل معاملة الشرط للإيذان بالتعليل فإدخلت الفاء قرينة على ذلك. ويكون المفاد من الآية حينئذ استثناء صالحي بني إسرائيل من الحكم، بضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله ويكون ذكر بقية صالحي الأمم معهم على هذا إشارة إلى أن هذه سنة الله في معاملته خلقه ومجازاته كلا على فعله. وقد استشكل ذكر {الَّذِينَ آمَنُوا} في عداد هؤلاء، وإجراء قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} عليهم مع أنهم مؤمنون فذكرهم تحصيل الحاصل، فقيل أريد به خصوص المؤمنين بألسنتهم فقط وهم المنافقون. وقيل أراد به الجميع وأراد بمن آمن من دام بالنسبة للمخلصين ومن أخلص بالنسبة للمنافقين. وهما جوابان في غاية البعد. وقيل يرجع قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} لخصوص الدين الذين هادوا والنصارى والصابين دون المؤمنين بقرينة المقام لأنهم وصفوا بالذين آمنوا وهو حسن. وعندي أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك، لأن الشرط والصلة تركبت من شيئين الإيمان والعمل الصالح.والمخلصون وإن كان إيمانهم حاصلا فقد بقي عليهم العمل الصالح فلما تركب الشرط أو الصلة من أمرين فقد علم كل أناس مشربهم وترجع كل صفة لمن يفتقر إليها كلاً أو بعضاً. ومعنى {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}، الإيمان الكامل وهو الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقرينة المقام وقرينة قوله: {وعمل صالحًا} إذ شرط قبول الأعمال، الإيمان الشرعي لقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] وقد عد عدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة المعجزات، القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدي بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى في ذلك التصديق فذلك المكابر غير مؤمن بالله الإيمان الحق. وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني اهـل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتي أجره مرتين: "ورجل من اهـل الكتاب آمن برسوله ثم أمن بي فله أجران". وأمَّا القائلون بأنها منسوخة، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن ينظروا فلما عاندوا نسخها بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر. وقوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أطلق الأجر على الثواب مجازا لأنه في مقابلة العمل الصالح والمراد به نعيم الآخرة، وليس أجرا دنيويا بقرينة المقام وقوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} عندية مجازية مستعملة في تحقيق الوعد كما تستعمل في تحقيق الإقرار في قولهم لك عندي كذا. ووجه دلالة عند في نحو هذا على التحقق أن عند دالة على المكان فإذا أطلقت في غير ما من شأنه أن يحل في مكان كانت مستعملة في لازم المكان، وهو وجود ما من شأنه أن يكون في مكان على أن إضافة عند لاسم الرب تعالى مما يزيد الأجر تحققا لأن المضاف إليه أكرم الكرماء فلا يفوت الأجر الكائن عنده1. وإنما جمع الضمير في قوله: {أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مراعاة لما صدق من، وأفرد شرطها أو صلتها مراعاة للفظها، ومما حسن ذلك هنا وجعله في الموقع الأعلى من البلاغة أن هذين الوجهين الجائزين عربية في معاد الموصولات وأسماء الشروط قد جمع بينهما على وجه أنبأ على قصد العموم في الموصول أو الشرط فلذلك أتى بالضمير الذي في صلته أو فعله مناسباً للفظه لقصد العموم ثم لما جيء بالضمير مع الخبر أو الجواب جمع ليكون عوداً على بدء فيرتبط باسم "إن" الذي جيء بالموصول أو الشرط بدلا منه أو خبرا عنه حتى يعلم أن هذا الحكم العام مراد منه ذلك الخاص أولا، كأنه قيل إن الذين آمنوا إلخ كل من آمن بالله وعمل إلخ. ----------------------------------------------- 1 ذكرني هذا التقرير في حالة الدرس قصة وهي أن النعمان بن المنذر وفد عليه وفد من العرب فيهم رجل من عبس اسمه شقيق, فمرض فمات قبل أن يأخذ حباءه فلما بلغ ذلك النعمان أمر بوضع حبائه على قبره ثم أرسل إلى اهـله فأخذوه فقال النابغة في ذلك: أبقيت للعبسي فضلا ونعمة . . . ومحمدة من باقيات المحامد حباء شقيق فوق أحجار قبره . . . وما كان يحبي قبله قبر وافد أتى أهـله منه حباء ونعمة . . . ورب امرئ يسعى لآخر قاعد ----------------------------------------------- فلأولئك الذين آمنوا أجرهم فعلم أنهم مما شمله العموم على نحو ما يذكره المناطقة في طي بعض المقدمات للعلم به. فهو من العام الوارد على سبب خاص. وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} قراءة الجمهور بالرفع لأن المنفي خوف مخصوص وهو خوف الآخرة.والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي وهو لا خوف عليهم لإفادة نفي جنس الخوف نفيا قارا، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات، والتعبير في نفي خوف بالخبر الفعلي وهو يحزنون لإفاد تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة أي بخلاف غير المؤمنين. ولما كان الخوف والحزن متلازمين كانت خصوصية كل منهما سارية في الآخر. واعلم أن قوله {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} مقابل لقوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: من الآية61] ولذلك قرن بعند الدالة على العناية والرضى. وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} مقابل وضربت عليهم الذلة لأن الذلة ضد العزة فالذليل خائف لأنه يخشى العدوان والقتل والغزو، وأمَّا العزيز فهو شجاع لأنه لا يحشى ضرا ويعلم أن ما قدره له فهو كائن قال تعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: من الآية8] وقوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} مقابل قوله: {والمسكنة} لأن المسكنة تقضي على صاحبها بالحزن وتمنى حسن العيش قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: من الآية97] فالخوف المنفي هو الخوف الناشئ عن الذلة والحزن المنفي هو الناشئ عن المسكنة. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:04 pm | |
| [64,63] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. تذكير بقصة أخرى أرى الله تعالى أسلافهم فيها بطشه ورحمته فلم يرتدعوا ولم يشكروا وهي أن أخذ الميثاق عليهم بواسطة موسى عليه السلام أن يعملوا بالشريعة وذلك حينما تجلى الله لموسى عليه السلام في الطور تجليا خاصا للجبل فتزعزع الجبل وتزلزل وارتجف وأحاط به دخان وضباب ورعود وبرق كما ورد في صفة ذلك في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج وفي الفصل الخامس من سفر التثنية فلعل الجبل من شدة الزلازل مما ظهر حوله من الأسحبة والدخان والرعود صار يلوح كأنه سحابة، ولذلك وصف في آية الأعراف بقوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} "نتقه زعزعه ونقضه" حتى يخيل إليهم أنه يهتز وهذا نظير قولهم استطارة إذا أزعجه فاضطرب فأعطوا العهد وامتثلوا لجميع ما أمرهم الله تعالى وقالوا كل ما تكلم الله به نفعله فقال الله لموسى فليؤمنوا بك إلى الأبد وليس في كتب بني إسرائيل ولا في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم وإنما ورد ذلك في أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير. وضمائر الخطاب لتحميل الخلف تبعات السلف كيلا يقعوا في مثلها وليستغفروا لأسلافهم عنها.والميثاق في هاته الآية كالعهد في الآيات المتقدمة مراد به الشريعة ووعدهم بالعمل بها وقد سمته كتبهم عهدا كما قدمنا وهو إلى الآن كذلك في كتبهم. وهذه معجزة علمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم. والطور علم على جبل ببرية سينا، ويقال إن الطور اسم جنس للجبال في لغة الكنعانيين نقل إلى العربية وأنشدوا قول العجاج: دانى جناحيه من الطور فمر . . . تقضى البازي إذا البازي كسر فإذا صح ذلك فإطلاقه على هذا الجبل علم بالغلبة في العبرية لأنهم وجدوا الكنعانيين يذكرونه فيقولون الطور يعنون الجبل كلمة لم يسبق لهم أن عرفوها فحسبوها علما له فسموه الطور. وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} مقول قول محذوف تقديره قائلين لهم خذوا، وذلك هو الذي أخذ الميثاق عليه. والأخذ مجاز عن التلقي والتفهم. والقوة مجاز في الإيعاء وإتقان التلقي والعزيمة على العمل به كقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]. ويجوز أن يكون الذكر مجازا عن الامتثال أي اذكروه عند عزمكم على الأعمال حتى تكون أعمالكم جارية على وفق ما فيه، أو المراد بالذكر التفهم بدليل حرف في المؤذن بالظرفية المجازية أي استنباط الفروع من الأصول. والمراد بما آتاهم ما أوحاه إلى موسى وهو الكلمات العشر التي هي قواعد شريعة التوراة. وجملة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} علة للأمر بقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} ولذلك فصلت بدون عطف. والرجاء الذي يقتضيه حرف"لعل" مستعمل في معنى تقريب سبب التقوى بحضهم على الأخذ بقوة، وتعهد التذكر لما فيه، فذلك التقريب والتبيين شبيه برجاء الراجي. ويجوز أن يكون لعل قرينة استعارة تمثيل شأن الله حين هيأ لهم أسباب الهداية بحال الراجي تقواهم وعلى هذا محمل موارد كلمة "لعل" في الكلام المسند إلى الله تعالى. وتقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] الآية. وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} إشارة إلى عبادتهم العجل في مدة مناجاة موسى وأن الله تاب عليهم بفضله ولولا ذلك لكانوا من الخاسرين الهالكين في الدنيا أو فيها وفي الآخرة. ولا حاجة بنا إلى الخوض في مسألة التكليف الإلجائي ومنافاة الإلجاء للتكليف وهي مسألة تكليف الملجأ المذكورة في الأصول لأنها بنيت هنا على أطلال الأخبار المروية في قلع الطور ورفعه فوقهم وقول موسى لهم إما أن تؤمنوا أو يقع عليكم الطور، على أنه لو صحت تلك الأخبار لما كان من الإلجاء في شيء إذ ليس نصب الآيات والمعجزات والتخويف من الإلجاء وإنما هو دلالة وبرهان على صدق الرسول وصحة ما جاء به والممتنع في التكليف هو التكليف في حالة الإلجاء لا التخويف لإتمام التكليف فلا تغفلوا.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:05 pm | |
| [66,65] {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}. هذه من جملة الأخبار التي ذكرها الله تعالى تذكيرا لليهود بما أتاه سلفهم من الاستخفاف بأوامر الله تعالى وبما عرض في خلال ذلك من الزواجر والرحمة والتوبة وإنما خالف في حكاية هاته القصة أسلوب حكاية ما تقدمها وما تلاها من ذكر {إذ} المؤذنة بزمن القصة والمشعرة بتحقق وقوعها إلى قوله هنا: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} لمعنى بديع هو من وجوه إعجاز القرآن وذلك أن هذه القصة المشار إليها بهذه الآية ليست من القصص التي تضمنتها كتب التوراة مثل القصص الأخرى المأتي في حكايتها بكلمة إذ لأنها متواترة عندهم بل هذه القصة وقعت في زمن داود عليه السلام، فكانت غير مسطورة في الأسفار القديمة وكانت معروفة لعلمائهم وأحبارهم فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عليها وتلك معجزة غيبية وأوحى إليه في لفظها ما يؤذن بأن العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى فأسند الأمر فيها لعلمهم إذ قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ}. والاعتداء وزنه افتعال من العدو وهو تجاوز حد السير والحد والغاية. وغلب إطلاق الاعتداء على مخالفة الحق وظلم الناس والمراد هنا اعتداء الأمر الشرعي لأن الأمر الشرعي يشبه بالحد في أنه يؤخذ بما شمله ولا يؤخذ بما وراءه والاعتداء الواقع منهم هو اعتداء أمر الله تعالى إياهم من عهد موسى بأن يحافظوا على حكم السبت وعدم الاكتساب فيه ليتفرغوا فيه للعبادة بقلب خالص من الشغل بالدنيا، فكانت طائفة من سكان أيلة1 على البحر رأوا تكاثر الحيتان يوم السبت بالشاطئ لأنها إذا لم تر سفن الصيادين وشباكهم أمنت فتقدمت إلى الشاطئ تفتح أفواهها في الماء لابتلاع ما يكون على الشواطئ من آثار الطعام ومن صغير الحيتان وغيرها فقالوا لو حفرنا لها حياضا وشرعنا إليها جداول يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها وفعلوا ذلك فغضب الله تعالى عليهم لهذا الحرص على الرزق أو لأنهم يشغلون بالهم يوم السبت بالفكر فيما تحصل لهم أو لأنهم تحيلوا على اعتياض العمل في السبت، وهذا الذي أحسبه لما اقترن به من الاستخفاف واعتقادهم أنهم علموا ما لم تهتد إليه شريعتهم فعاقبهم الله تعالى بما ذكره هنا. فقوله {فِي السَّبْتِ} يجوز أن تكون "في" للظرفية. والسبت مصدر سبت اليهودي من باب ضرب ونصر بمعنى احترم السبت وعظمه. والمعنى اعتدوا في حال تعظيم السبت أو في زمن تعظيم السبت. ويجوز أن تكون "في" للعلة أي اعتدوا اعتداء لأجل ما أوجبه احترام السبت من قطع العمل. ولعل تحريم الصيد فيه ليكون أمنا للدواب. ----------------------------------------------- 1 أيلة: بفتح الهمزة وبتاء تأنيث في آخره بلدة على خليج صغير من البحر الأحمر في أطراف مشارف الشام وتعرف اليوم بالعقبة وهي غير إيلياء بكسرالهمزة وبياءين ممدودتين الذي هو اسم بيت المقدس. ----------------------------------------------- ويجوز أن تكون "في" ظرفية والسبت بمعنى اليوم وإنما جعل الاعتداء فيه مع أن الحفر في يوم الجمعة لأن أثره الذي ترتب عليه العصيان وهو دخول الحيتان للحياض يقع في يوم السبت. وقوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] كونوا أمر تكوين والقردة بكسر القاف وفتح الراء جمع قرد وتكوينهم قردة يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الإنساني وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين، ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الإنساني وهذا قول مجاهد والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني والثاني أقرب للتاريخ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين والقدرة صالحة للأمرين والكل معجزة للشريعة أو لداود ولذلك قال الفخر ليس قول مجاهد ببعيد جدا لكنه خلاف الظاهر من الآية وليس الآية صريحة في المسخ. ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات. ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا أو كادوا على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وأنه لا يتناسل وروى ذلك ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: "لم يهلك الله قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا" وهو صريح في الباب ومن العلماء من جوز تناسل الممسوخ وزعموا أن الفيل والقرد والضب والخنزير من الأمم الممسوخة وقد كانت العرب تعتقد ذلك في الضب قال أحد بني سليم وقد جاء لزوجه بضب فأبت أن تأكله: قالت وكنت رجلا فطينا . . . هذا لعمر الله إسرائينا حتى قال بعض الفقهاء بحرمة أكل الفيل ونحوه بناء على احتمال أن أصله نسل آدمي قال ابن الحاجب وأمَّا ما يذكر أنه ممسوخ كالفيل والقرد والضب ففي المذهب الجواز لعموم الآية والتحريم لما يذكر أي لعموم آية المأكولات، وصحح صاحب التوضيح عن مالك الجواز وقد روى مسلم في أحاديث متفرقة من آخر صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته" اهـ. وقد تأوله ابن عطية وابن رشد في البيان وغير واحد من العلماء بأن هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد قبل أن يوقفه الله على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولا يتناسل كما هو صريح حديث ابن مسعود، قلت يؤيد هذا أنه قاله عن اجتهاد قوله ولا أراها. ولا شك أن هاته الأنواع من الحيوان موجودة قبل المسخ وأن المسخ إليها دليل على وجودها ومعرفة الناس بها. وهذا الأمر التكويني كان لأجل العقوبة على ما اجترأوا من الاستخفاف بالأمر الإلهي حتى تحيلوا عليه وفي ذلك دليل على أن الله تعالى لا يرضى بالحيل على تجاوز أوامره ونواهيه فإن شرائع الله تعالى مشروعة لمصالح وحكم فالتحيل على خرق تلك الحكم بإجراء الأفعال على صور مشروعة مع تحقق تعطيل الحكمة منها جراءة على الله تعالى، ولا حجة لمن ينتحل جواز الحيل بقوله تعالى في قصة أيوب {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [صّ: من الآية44] لأن تلك فتوى من الله تعالى لنبي لتجنب الحنث الذي قد يتفادى عنه بالكفارة ولكن الله لم يرض أصل الحنث لنبيه لأنه خلاف الأولى فأفتاه بما قاله، وذلك مما يعين على حكمة اجتناب الحنث لأن فيه محافظة على تعظيم اسم الله تعالى فلا فوات للحكمة في ذلك، ومسألة الحيل الشرعية لعلنا نتعرض لها في سورة ص وفيها تمحيص. وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} عاد فيه الضمير على العقوبة المستفادة من قوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} والنكال بفتح النون العقاب الشديد الذي يردع المعاقب عن العود للجناية ويردع غيره عن ارتكاب مثلها، وهو مشتق من نكل إذا امتنع ويقال نكل به تنكيلا ونكالا بمعنى عاقبه بما يمنعه من العود. والمراد بما بين يديها وما خلفها ما قارنها من معاصيهم وما سبق يعني أن تلك الفعلة كانت آخر ما فعلوه فنزلت العقوبة عندها ولما بين يديها من الأمم القريبة منها ولما خلفها من الأمم البعيدة. والموعظة ما به الوعظ وهو الترهيب من الشر.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:15 pm | |
| [67] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. تعرضت هذه الآية لقصة من قصص بني إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات في المسألة والإلحاح فيها إما للتفصي من الإمتثال وأمَّا لبعد أفهامهم عن مقصد الشارع ورومهم التوقيف على ما لا قصد إليه. قيل إن أول هذه القصة هو المذكور بقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [ْالبقرة: 72] الآيات وإن قول موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ناشيء عن قتل النفس المذكورة، وإن قول موسى قدم هنا لأن خطاب موسى عليه السلام لهم قد نشأ عنه ضرب من مذامهم في تلقي التشريع وهو الاستخفاف بالأمر حين ظنوه هزؤا والإعنات في المسألة فأريد من تقديم جزء القصة تعدد تقريعهم هكذا ذكر صاحب الكشاف والموجهون لكلامه، ولا يخفي أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منهما بقوله وإذ مع بقاء الترتيب، على أن المذام قد تعرف بحكايتها والتنبيه عليها بنحو قوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} -وقوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]. فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة وهذه هي القصة التي أشارت إليها التوراة في السفر الرابع وهو سفر التشريع الثاني تثنية في الإصحاح 21 أنه إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقر لم يحرث عليها ولم تنجر بالنير فيأتون بها إلى واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنالك ويتقدم الكهنة من بني لاوي فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة في الوادي ويقولون لم تسفك أيدينا هذا الدم ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم ا هـ. هكذا ذكرت القصة بإجمال أضاع المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح اهـو إضاعة ذلك الدم باطلا أم هو عند تعذر معرفة المتهم بالقتل وكيفما كان فهذه بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جهل قاتلها وهي المشار إليها هنا، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس. وبذلك يظهر وجه ذكرهما قصتين وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعا سبق ذكره لما قارنه من تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي أن يظن اهـتمام التشريع بها، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيمانا ولذلك ختمت بقوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: من الآية73] وأتبعت بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74]. والتأكيد في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} حكاية لما عبر به موسى من الاهتمام بهذا الخبر الذي لو وقع في العربية لوقع مؤكدا بإن. وقولهم: {َتَتَّخِذُنَا هُزُواً} استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم قتيل كاللعب و {تتخذنا} بمعنى تجعلنا وسيأتي بيان أصل فعل اتخذ عند قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74]. والهزؤ بضم الهمزة والزاي وبسكون الزاي مصدر اهـزأ به هزءا وهو هنا مصدر بمعنى المفعول كالصيد والخلق. وقرأ الجمهور "هزؤا" بضمتين وهمز بعد الزاي وصلا ووقفا وقرأ حمزة بسكون الزاي وبالهمز وصلا، ووقف عليه بتخفيف الهمز واوا وقد رسمت في المصحف واوا، وقرأ حفص بضم الزاي وتخفيف الهمز واوا في الوصل والوقف. وقول موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} تبرؤ وتنزه عن الهزء لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه أخص من المزح لأن في الهزؤ مزحا مع استخفاف واحتقار للممزوح معه على أن المزح لا يليق في المجامع العامة والخطابة، على أنه لا يليق بمقام الرسول ولذا تبرأ منه موسى بأن نفى أن يكون من الجاهلين كناية عن نفي المزح بنفي ملزومه، وبالغ في التنزه بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ} أي منه لأن العياذ بالله أبلغ كلمات النفي فإن المرء لا يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله تعالى.وصيغة: {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أبلغ في انتفاء الجهالة من أن لو قال أعوذ بالله أن أجهل كما سيأتي في سورة الأنعام عند قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} والجهل ضد العلم وضد الحلم وقد ورد لهما في كلام العرب، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا . . . فنجهل فوق جهل الجاهلينا ومن الثاني قول الحماسي: فليس سواء عالم وجهول وقول النابغة وليس جاهل شيء مثل من علما
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:16 pm | |
| [68] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}. جيء في مراجعتهم لنبيهم بالطريقة المألوفة في حكاية المحاورات وهي طريقة حذف العاطف بين أفعال القول وقد بيناها لكم في قصة خلق آدم. ومعنى {ادْعُ لَنَا} يحتمل أن يراد منه الدعاء الذي هو طلب بخضوع وحرص على إجابة المطلوب فيكون في الكلام رغبتهم في حصول البيان لتحصيل المنفعة المرجوة من ذبح بقرة مستوفية للصفات المطلوبة في القرابين المختلفة المقاصد، بنوه على ما ألفوه من الأمم عبدة الأوثان من اشتراط صفات وشروط في القرابين المقربة تختلف باختلاف المقصود من الذبيحة ويحتمل أنهم أرادوا مطلق السؤال فعبروا عنه بالدعاء لأنه طلب من الأدنى إلى الأعلى. ويحتمل أنهم أرادوا من الدعاء النداء الجهير بناء على وهمهم أن الله بعيد المكان، فسائله يجهر بصوته. وقد نهى المسلمون عن الجهر بالدعاء في صدر الإسلام، واللام في قوله {لَنَا} لام الأجل أي ادع عنا، وجزم {يبين} في جواب {ادْعُ} لتنزيل المسبب منزلة السبب أي إن تدعه يسمع فيبين وقد تقدم. وقوله {مَا هِيَ} حكى سؤالهم بما يدل عليه بالسؤال بما في كلام العرب وهو السؤال عن الصفة لأن "ما" يسأل بها عن الصفة كما يقول من يسمع الناس يذكرون حاتما أو الأحنف وقد علم أنهما رجلان ولم يعلم صفتيهما ما حاتم? أو ما الأحنف? فيقال كريم أو حليم. وليس "ما" موضوعة للسؤال عن الجنس كما توهمه بعض الواقفين على كلام الكشاف فتكلفوا لتوجيهه حيث إن جنس البقرة معلوم بأنهم نزلوا هاته البقرة المأمور بذبحها منزلة فرد من جنس غير معلوم لغرابة حكمة الأمر بذبحها وظنوا أن الموقع هنا للسؤال ب "أي" أو "كيف" وهو وهم نبه عليه التفتزاني في شرح الكشاف واعتضد له بكلام المفتاح إذ جعل الجنس والصفة قسمين للسؤال بما. والحق أن المقام هنا للسؤال بما لأن أيا إنما يسأل بها عن مميز الشيء عن أفراد من نوعه التبست به وعلامة ذلك ذكر المضاف إليه مع أي نحو أي الفريقين خير وأي البقرتين أعجبتك وليس لنا هنا بقرات معينات يراد تمييز إحداها. وقوله: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} أكد مقول موسى ومقول الله تعالى بإن لمحاكاة ما اشتمل عليه كلام موسى من الاهتمام بحكاية قول الله تعالى فأكده بإن، وما اشتمل عليه مدلول كلام الله تعالى لموسى من تحقيق إرادته ذلك تنزيلا لهم منزلة المنكرين لما بدا من تعنتهم وتنصلهم، ويجوز أن يكون التأكيد الذي في كلام موسى لتنزيلهم منزلة أن يكون الله قال لموسى ذلك جريا على اتهامهم السابق في قولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} جواباً عن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ}. ووقع قوله: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} موقع الصفة لبقرة وأفحم فيه حرف"لا" لكون الصفة بنفي وصف ثم بنفي آخر على معنى إثبات وصف واسطة بين الوصفين المنفيين فلما جيء بحرف لا أجرى الإعراب على ما بعده لأن لا غير عاملة شيئا فيعتبر ما قبل لا على عمله فيما بعدها سواء كان وصفا كما هنا وقوله تعالى: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور: من الآية35] وقول جويرية أو حويرثة بن بدر الرامي: وقد أدركتني والحوادث جمة . . . أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل أو حالا كقول الشاعر وهو من شواهد النحو: قهرت العدا لا مستعينا بعصبة . . . ولكن بأنواع الخدائع والمكر أو مضافا كقول النابغة: وشيمة لا وان ولا واهن القوى . . . وجد إذا خاب المفيدون صاعد أو خبر مبتدأ كما وقع في حديث أم زرع قول الأولى "لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل" على رواية الرفع أي هو أي الزوج لا سهل ولا سمين. وجمهور النحاة أن لا هذه يجب تكريرها في الخبر والنعت والحال أي بأن يكون الخبر ونحوه شيئين فأكثر فإن لم يكن كذلك لم يجز إدخال "لا" في الخبر ونحوه وجعلوا بيت جويرية أو حويرثة ضرورة وخالف فيه المبرد. وليست "لا" في مثل هذا بعامله عمل ليس ولا عمل إن، وذكر النحاة لهذا الاستعمال في أحد هذين البابين لمجرد المناسبة. واعلم أن نفي وصفين بحرف "لا" قد يستعمل في إفادة إثبات وصف ثالث هو وسط بين حالي ذينك الوصفين مثل ما في هذه الآية بدليل قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} ومثل قوله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143] وقد يستعمل في إرادة مجرد نفي ذينك الوصفين لأنهما مما يطلب في الغرض الواردين فيه ولا يقصد إثبات وصف آخر وسط بينهما وهو الغالب كقوله تعالى: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44-42]. والفارض المسنة لأنها فرضت سنها أي قطعتها. والفرض القطع ويقال للقديم فارض. والبكر الفتية مشتقة من البكرة بالضم وهي أول النهار لأن البكر في أول السنوات عمرها والعوان هي المتوسطة السن. وإنما اختيرت لهم العوان لأنها أنفس وأقوى ولذلك جعلت العوان مثلا للشدة في قول النابغة: ومن يتربص الحدثان تنزل . . . بمولاه عوان غير بكر أي مصيبة عوان أي عظيمة. ووصفوا الحرب الشديدة فقالوا حرب عوان. وقوله {بين ذلك} أي هذين السنين، فالإشارة للمذكور المتعدد. ولهذا صحت إضافة بين لاسم الإشارة كما تضاف للضمير الدال على متعدد وإن كان كلمة واحدة في نحو بينها. وإفراد اسم الإشارة على التأويل بالمذكور كما تقدم قريبا عند قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 61]. وجاء في جوابهم بهذا الإطناب دون أن يقول من أول الجواب إنها عنوان تعريضا بغباوتهم واحتياجهم إلى تكثير التوصيف حتى لا يترك لهم مجالا لإعادة السؤال. فإن قلت هم سألوا عن صفة غير معينة فمن أين علم موسى أنهم سألوا عن السن ومن أين علم من سؤالهم الآتي بـ {ما هي} أيضاً أنهم سألوا عن تدربها على الخدمة؟. قلت يحتمل أن يكون {مَا هِيَ} اختصارا لسؤالهم المشتمل على البيان وهذا الاختصار من إبداع القرآن اكتفاء بما يدل عليه الجواب، ويحتمل أن يكون ما حكى في القرآن مرادف سؤالهم فيكون جواب موسى عليه السلام بذلك لعلمه بأن أول ما تتعلق به أغراض الناس في معرفة أحوال الدواب هو السن فهو اهـم صفات الدابة ولما سألوه عن اللون ثم سألوا السؤال الثاني المبهم علم أنه لم يبق من الصفات التي تختلف فيها مقاصد الناس من الدواب غير حالة الكرامة أي عدم الخدمة لأن ذلك أمر ضعيف إذ قد تخدم الدابة النفيسة ثم يكرمها من يكتسبها بعد ذلك فتزول آثار الخدمة وشعثها. وقوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} الفاء للفصيحة وموقعها هنا موقع قطع العذر مع الحث على الامتثال كما هي في قول عباس بن الأحنف: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا . . . ثم القفول فقد جئنا خراسانا أي فقد حصل ما تعللتم به من طول السفر. والمعنى فبادروا إلى ما أمرتم به وهو ذبح البقرة، وما موصولة والعائد محذوف بعد حذف جاره على طريقة التوسع لأنهم يقولون أمرتك الخير، فتوسلوا بحذف الجار إلى حذف الضمير. وفي حث موسى إياهم على المبادرة بذبح البقرة بعد ما كلفوا به من اختيارها عوانا دليل على أنهم مأمورون بذبح بقرة ما غير مراد منها صفة مقيدة لأنه لما أمرهم بالمبادرة بالذبح حينئذ علمنا وعلموا أن ما كلفوا به بعد ذلك من طلب ان تكون صفراء وأن تكون سالمة من آثار الخدمة مما أراده الله تعالى عند تكليفهم أول الأمر وهو الحق إذ كيف تكون تلك الأوصاف مزادة مع أنها أوصاف طردية لا أثر لها في حكمة الأمر بالذبح لأنه سواء كان أمرا بذبحها للصدقة أو للقربان أو للرش على النجس أو للقسامة فليس لشيء من هاته الصفات مناسبة للحكم وبذلك يعلم أن أمرهم بهاته الصفات كلها هو تشريع طارئ قصد منه تأديبهم على سؤالهم فإن كان سؤالهم للمطل والتنصل فطلب تلك الصفات المشقة عليهم تأديب على سوء الخلق والتذرع للعصيان، وإن كان سؤالا ناشئا عن ظنهم أن الاهتمام بهاته البقرة يقتضي أن يراد منها صفات نادرة كما هو ظاهر قولهم بعد: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: من الآية70]. فتكليفهم بهاته الصفات العسير وجودها مجتمعة تأديب علمي على سوء فهمهم في التشريع كما يؤدب طالب العلم إذا سأل سؤالا لا يليق برتبته في العلم. وقد قال عمر لأبي عبيدة في واقعة الفرار من الطاعون لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. ومن ضروب التأديب الحمل على عمل شاق، وقد أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه عباسا رضي الله عنه على الخرص حين حمل من خمس مال المغنم أكثر من حاجته فلم يستطع أن يقله فقال له مر أحدا رفعه لي فقال لا آمر أحدا فقال له أرفعه أنت لي فقال لا، حتى جعل العباس يحثو من المال ويرجعه لصبرته إلى أن استطاع أن يحمل ما بقي فذهب والنبي صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره تعجبا من حرصه كما في صحيح البخاري. ومما يدل على أنه تكليف لقصد التأديب أن الآية سيقت مساق الذم لهم وعدت القصة في عداد قصص مساويهم وسوء تلقيهم للشريعة بأصناف من التقصير عملا وشكرا وفهما بدليل قوله تعالى آخر الآيات: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] مع ما روى عن ابن عباس أنه قال لو ذبحوا أي بقرة أجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. وبهذا تعلمون أن ليس في الآية دليل على تأخير البيان عن وقت الخطاب ولا على وقوع النسخ قبل التمكن لأن ما طرأ تكليف خاص للإعنات على أن الزيادة على النص ليست بنسخ عند المحققين وتسميتها بالنسخ اصطلاح القدماء.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:17 pm | |
| [69] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}. سألوا بـ "ما" عن ماهية اللون وجنسه لأنه ثاني شيء تتعلق به أغراض الراغبين في الحيوان.والقول في جزم {يُبَيِّنْ} وفي تأكيد {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} كالقول في الذي تقدم. وقوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} احتيج إلى تأكيد الصفرة بالفقوع وهو شدة الصفرة لأن صفرة البقر تقرب من الحمرة غالبا فأكده بفاقع والفقوع خاص بالصفرة، كما اختص الأحمر بقان والأسود بحالك، والأبيض بيقق، والأخضر بمدهام، والأورق بخطباني نسبة إلى الخطبان بضم الخاء وهو نبت كالهليون، والأرمك وهو الذي لونه لون الرماد برداني براء في أوله والردان الزعفران كذا في الطيبي ووقع في الكشاف والطيبي بألف بعد الدال ووقع في القاموس أنه بوزن صاحب وضبط الراء في نسخة من الكشاف ونسخة من حاشية القطب عليه ونسخة من حاشية الهمداني عليه بشكل ضمة على الراء وهو مخالف لما في القاموس. والنصوع يعم جميع الألوان وهو خلوص اللون من أن يخالطه لون آخر. ولونها إما فاعل بفاقع أو مبتدأ مؤخر وإضافته لضمير البقرة دلت على أنه اللون الأصفر فكان وصفه بفاقع وصفاً حقيقياً ولكن عدل عن أن يقال صفراء فاقعة إلى {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} ليحصل وصفها بالفقوع مرتين إذ وصف اللون بالفقوع، ثم لما كان اللون مضافا لضمير الصفراء كان ما يجري عليه من الأوصاف جارياً على سببيه على نحو ما قاله صاحب المفتاح في كون المسند فعلا من أن الفعل يستند إلى الضمير ابتداء ثم بواسطة عود ذلك الضمير إلى المبتدأ يستند إلى المبتدأ في الدرجة الثانية وقد ظن الطيبي في شرح الكشاف أن كلام صاحب الكشاف مشير إلى أن إسناد فاقع للونها مجاز عقلي وهو وهم إذ ليس من المجاز العقلي في شيء. وأمَّا تمثيل صاحب الكشاف بقوله جد جده فهو تنظير في مجرد إفادة التأكيد. وقوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي تدخل رؤيتها عليهم مسرة في نفوسهم. والمسرة لذة نفسية تنشأ عن الإحساس بالملائم أو عن اعتقاد حصوله ومما يوجبها التعجب من الشيء والإعجاب به. وهذا اللون من أحسن ألوان البقر فلذلك أسند فعل {تسر} إلى ضمير البقرة لا إلى ضمير اللون فلا يقتضي أن لون الأصفر مما يسر الناظرين مطلقاً. والتعبير بالناظرين دون الناس ونحوه للإشارة إلى أن المسرة تدخل عليهم عند النظر إليها من باب استفادة التعليل من التعليق بالمشتق.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:18 pm | |
| [71,70] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}. القول في {ما هي} كالقول في نظيره فإن كان الله تعالى حكى مرادف كلامهم بلغة العرب فالجواب لهم بـ {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} لما علم من أنه لم يبق من الصفات التي تتعلق الأغراض بها إلا الكرامة والنفاسة، وإن كان المحكي في القرآن اختصارا لكلامهم فالأمر ظاهر. على أن الله قد علم مرادهم فأنبأهم به. وجملة {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنهم علموا أن إعادتهم السؤال توقع في نفس موسى تساؤلا عن سبب هذا التكرير في السؤال وقولهم: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} اعتذار عن إعادة السؤال، وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا الآن لأن للثالثة في التكرير وقعا من النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك ولذلك كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة. وقد جيء بحرف التأكيد في خبر لا يشك موسى في صدقه فتعين أن يكون الإتيان بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام ثم يتوسل بالاهتمام إلى إفادة معنى التفريع والتعليل فتفيد إن مفاد فاء التفريع والتسبب وهو ما اعتنى الشيخ عبد القاهر بالتنبيه عليه في دلائل الإعجاز ومثله بقول بشار: بكرا صاحبي قبل الهجير . . . إن ذاك النجاح في التبكير تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] في هذه السورة وذكر فيه قصة. وقولهم {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} تنشيط لموسى ووعد له بالامتثال لينشط إلى دعاء ربه بالبيان ولتندفعى عنه سآمة مراجعتهم التي ظهرت بوارقها في قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة: 68]. ولإظهار حسن المقصد من كثرة السؤال وأن ليس قصدهم الإعنات. تفاديا من غضب موسى عليهم. والتعليق بـ {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} للتأدب مع الله في رد الأمر إليه في طلب حصول الخير. والقول في وجه التأكيد في {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} كالقول في نظيره الأول. والذلول بفتح الذال فعول من ذل ذلا بكسر الذال في المصدر بمعنى لان وسهل. وأمَّا الذل بضم الذال فهو ضد العز وهما مصدران لفعل واحد خص الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين. والمعنى أنها لم تبلغ سن أن يحرث عليها وأن يسقى بجرها أي هي عجلة قاربت هذا السن وهو الموافق لما حدد به سنها في التوراة. {ولا ذلول} صفة لبقرة. وجملة {تُثِيرُ الْأَرْضَ} حال من {ذلول}. وإثارة الأرض حرثها وقلب داخل ترابها ظاهرا وظاهره باطنا أطلق على الحرث فعل الإثارة تشبيها لانقلاب أجزاء الأرض بثورة الشيء من مكانه إلى مكان آخر كما قال تعالى: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} أي تبعثه وتنقله ونظير هذا الاستعمال قوله في سورة الروم {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} في محل نصب على الحال. وإقحام لا بعد حرف العطف في قوله: {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} مع أن حرف العطف على المنفي بها يغني عن إعادتها إنما هو لمراعاة الاستعمال الفصيح في كل وصف أو ما في معناه أدخل فيه حرف لا كما تقدم في قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة: 68] فإنه لما قيدت صفة ذلول بجملة تسقي الحرث صار تقدير الكلام أنها بقرة لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث فجرت الآية على الاستعمال الفصيح من إعادة لا وبذلك لم تكن في هذه الآية حجة للمبرد كما يظهر بالتأمل. واختير الفعل المضارع في "تثير" و"تسقي" لأنه الأنسب بذلول إذ الوصف شبيه بالمضارع ولأن المضارع دال على الحال. و"مسلمة" أي سليمة من عيوب نوعها فهو اسم مفعول من سلمت المبني للمفعول وكثيرا ما تذكر الصفات التي تعرض في أصل الخلقة بصيغة البناء للمجهول في الفعل والوصف إذ لا يخطر على بال المتكلم تعيين فاعل ذلك ومن هذا معظم الأفعال التي التزم فيها البناء للمجهول. وقوله: {لا شِيَةَ فِيهَا} صفة أخرى تميز هذه البقرة عن غيرها. والشية العلامة وهي بزنة فعلة من وشي الثوب إذا نسجه ألوانا وأصل شية وشية ويقول العرب ثوب موشي وثوب وشي، ويقولون ثور موشي الأكارع لأن في أكارع ثور الوحش سواد يخالط صفرته فهو ثور أشيه ونظائره قولهم فرس أبلق. وكبش أدرع. وتيس أزرق وغراب أبقع. بمعنى مختلط لونين. وقوله: {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أرادوا بالحق الأمر الثابت الذي لا احتمال فيه كما تقول جاء بالأمر على وجهه، ولم يريدوا من الحق ضد الباطل لأنهم ما كانوا يكذبون نبيهم. فإن قلت لماذا ذكر هنا بلفظ الحق وهلا قيل قالوا الآن جئت بالبيان أو بالثبت؟. قلت لعل الآية حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين فحكى بما يرادفه من العربية تنبيها على قلة اهـتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم {راعنا}، فنهينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: من الآية104] وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح بقرة دون بيان صفاتها تقصيرا كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر ظنا منهم أن في علم النبي بهذه الأغراض الدنيوية كمالا فيه، فلذا مدحوه بعد البيان بقولهم {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال الآن أصبت الجواب، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع. فليحذر المسلمون أن يقعوا في فهم الدين على شيء مما وقع فيه أولئك وذموا لأجله. {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}. عطفت الفاء جملة {فذبحوها} على مقدر معلوم وهو فوجدوها أو فظفروا بها أو نحو ذلك وهذا من إيجاز الحذف الاقتصاري ولما ناب المعطوف في الموقع عن المعطوف عليه صح أن نقول الفاء فيه للفصيحة لأنها وقعت موقع جملة محذوفة فيها فاء للفصيحة ولك أن تقول إن فاء الفصيحة ما أفصحت عن مقدر مطلقا كما تقدم وقوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} تعريض بهم بذكر حال من سوء تلقيهم الشريعة تارة بالإعراض والتفريط، وتارة بكثرة التوقف والإفراط وفيه تعليم للمسلمين بأصول التفقه في الشريعة، والأخذ بالأوصاف المؤثرة في معنى التشريع دون الأوصاف الطردية، ولذلك قال ابن عباس لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم. وروي ابن مردويه والبزار وابن أبي حاتم بسندهم إلى الحسن البصري عن رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم" وفي سنده عبادة بن منصور وهو ضعيف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهي أصحابه عن كثرة السؤال وقال: "فإنما اهـلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" وبين للذي سأله عن اللقطة ما يفعله في شأنها فقال السائل: فضالة الغنم- قال- "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، قال السائل فضالة الإبل فغضب رسول الله وقال: "مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربها". وجملة {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} تحتمل الحال والاستئناف والأول أظهر لأنه أشد ربطا للجملة وذلك أصل الجمل أي ذبحوها في حال تقرب من حال من لا يفعل، والمعنى أنهم ذبحوها مكرهين أو كالمكرهين لما أظهروا من المماطلة وبذلك يكون وقت الذبح ووقت الاتصاف بمقاربة انتفائه وقتا متحدا اتحادا عرفيا بحسب المقامات الخطابية للإشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين أي فذبحوها عند ذلك أي عند إتمام الصفات وكان شأنهم قبل ذلك شأن من لم يقارب أن يفعل ثم إن {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} يقتضي بحسب الوضع نفي مدلول كاد فإن مدلولها المقاربة ونفي مقاربة الفعل يقتضي عدم وقوعه بالأولى فيقال أنى يجتمع ذلك مع وقوع ذبحها بقوله {فذبحوها} فأما على وجه الاستئناف فيمكن الجواب بأن نفي مقاربة الفعل كان قبل الذبح حين كرروا السؤال وأظهروا المطال ثم وقع الذبح بعد ذلك وقد أجاب بمثل هذا جماعة يعنون كأن الفعل وقع فجأة بعد أن كانوا بمعزل عنه على أنه مبني على جعل الواو استئنافا وقد علمتم بعده. فالوجه القالع للإشكال هو أن أئمة العربية قد اختلفوا في مفاد كاد المنفية في نحو ما كاد يفعل فذهب قوم منهم الزجاجي إلى أن نفيها يدل على نفي مقاربة الفعل وهو دليل على انتفاء وقوع الفعل بالأولى فيكون إثبات كاد نفيا لوقوع الخبر الذي في قولك كاد يقوم أي قارب فإنه لا يقال إلا إذا قارب ولم يفعل ونفيها نفيا للفعل بطريق فحوى الخطاب فهو كالمنطوق وأن ما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنه باعتبار وقتين فيكون بمنزلة كلامين ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} في هذه الآية أي فذبحوها الآن وما كادوا يفعلون قبل ذلك ولعلهم يجعلون الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينة على قصد زمانين وإلى هذا ذهب ابن مالك في الكافية إذ قال: وبثبوت كاد ينفي الخبر . . . وحين ينفى كاد ذاك أجدر وغير ذا على كلامين يرد . . . كولدت هند ولم تكد تلد وهذا المذهب وقوف مع قياس الوضع. وذهب قوم إلى أن إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول وأن نفيها يصير إثباتا على خلاف القياس وقد اشتهر هذا بين اهـل الأعراب حتى ألغز فيه أبو العلاء المعري بقوله: أنحوي هذا العصر ما هي لفظة . . . أتت في لساني جرهم وثمود إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت . . . وإن أثبتت قامت مقام جحود وقد احتجوا لذلك بقوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي. وقد جرت في هذا نادرة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز وهي أن عنبسة العنسي الشاعر قال: قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة1 ينشد قصيدته الحائية التي أولها: أمنزلتي مي سلام عليكما . . . على النأي والنائي يود وينصح حتى بلغ قوله فيها: إذا غير النأي المحبين لم يكد . . . رسيس الهوى من حب مية يبرح ----------------------------------------------- 1 الكناسة: بضم الكاف أصله اسم لما يكنس, وسمي بها ساحة بالكوفة مثل المربد بالبصرة. ----------------------------------------------- وكان في الحاضرين ابن شبرمة فناداه ابن شبرمة يا غيلان أراه قد برح قال فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويتفكر ثم قال لم أجد عوض لم يكد قال عنبسة فلما انصرفت حدثت أبي فقال لي أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره لقول ابن شبرمة إنما هذا كقول الله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] وإنما هو لم يرها ولم يكد. وذهب قوم منهم أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في التسهيل إلى أن أصل كاد أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد وبعد أن كان بعيدا في الظن أن يقع وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمال جرى في العرف وهو يريد بذلك أنها مجاز تمثيلي بأن تشبه حالة من فعل الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في حالة المشبه، ولعلهم يجعلون نحو قوله فذبحوها قرينة على هذا القصد. قال في التسهيل وتنفي كاد إعلاما بوقوع الفعل عسيرا أو بعدمه وعدم مقاربته واعتذر في شرحه للتسهيل عن ذي الرمة في تغييره بيته بأنه غيره لدفع احتمال هذا الاستعمال. وذهب قوم إلى أن كاد إن نفيت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة وإن نفيت بصيغة الماضي فهي للإثبات وشبهته أن جاءت كذلك في الآيتين: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وأن نفي الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرار إلى زمن الحال بخلاف نفي المضارع. وزعم بعضهم أن قولهم ما كاد يفعل وهم يريدون أنه كاد ما يفعل إن ذلك من قبيل القلب الشائع. وعندي أن الحق هو المذهب الثاني وهو أن نفيها في معنى الإثبات وذلك لأنهم لما وجدوها في حالة الإثبات مفيدة معنى النفي جعلوا نفيها بالعكس كما فعلوا في لو ولولا ويشهد لذلك مواضع استعمال نفيها فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة ولعل ذلك من قبيل القلب المطرد فيكون قولهم ما كاد يفعل ولم يكد يفعل بمعنى كاد ما يفعل، ولا يبعد أن يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرف النفي الذي حقه التأخير مقدما ولعل هذا الذي أشار إليه المعري بقوله جرت في لساني جرهم وثمود ويشهد لكون ذلك هو المراد تغيير ذي الرمة بيته وهو من اهـل اللسان وأصحاب الذوق فإنه وإن كان من عصر المولدين إلا أنه لانقطاعه إلى سكنى باديته كان في مرتبة شعراء العرب حتى عد فيمن يحتج بشعره وما كان مثله ليغير شعره بعد التفكر لو كان لصحته وجه فما اعتذر به عنه ابن مالك في شرح التسهيل ضعيف. وأمَّا دعوى المجاز فيه فيضعفها اطراد هذا الاستعمال حتى في آية {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فإن الواقف في الظلام إذا مد يده يراها بعناء وقال تأبط شرا فأبت إلى فهم وما كدت آيبا وقال تعالى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]. وإنما قال {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ولم يقل يذبحون كراهية إعادة اللفظ تفننا في البيان. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:29 pm | |
| [73,72] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. تصديره بإذ على طريقة حكاية ما سبق من تعداد النعم والألطاف ومقابلتهم إياها بالكفران والاستخفاف يومئ إلى أن هذه قصة غير قصة الذبح ولكنها حدثت عقب الأمر بالذبح لإظهار شيء من حكمة ذلك الأمر الذي أظهروا استنكاره عند سماعه إذ قالوا {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] وفي ذلك إظهار معجزة لموسى. وقد قيل إن ما حكي في هذه الآية هو أول القصة وإن ما تقدم هو آخرها وذكروا للتقديم نكتة تقدم القول في بيانها وتوهينها. وليس فيما رأيت من كتب اليهود ما يشير إلى هذه القصة فلعلها مما أدمج في قصة البقرة المتقدمة لم تتعرض السورة لذكرها لأنها كانت معجزة لموسى عليه السلام ولم تكن تشريعا بعده. وأشار قوله {قتلتم} إلى وقوع قتل فيهم وهي طريقة القرآن في إسناد أفعال البعض إلى الجميع جريا على طريقة العرب في قولهم قتلت بنو فلان فلانا قال النابغة يذكر بني حن1. وهم قتلوا الطائي بالجو عنوة . . . أبا جابر واستنكحوا أم جابر وذلك أن نفرا من اليهود قتلوا ابن عمهم الوحيد ليرثوا عمهم وطرحوه في محلة قوم وجاءوا موسى يطالبون بدم ابن عمهم بهتانا وأنكر المتهمون فأمره الله بأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فينطق ويخبر بقاتله، والنفس الواحد من الناس لأنه صاحب نفس أي روح وتنفس وهي مأخوذة من التنفس. ----------------------------------------------- 1 بحاء مهملة مضمومة ونون مشددة حي من عذرة. ----------------------------------------------- وفي الحديث ما من نفس منفوسة ولإشعارها بمعنى التنفس اختلف في جواز إطلاق النفس على الله وإضافتها إلى الله فقيل يجوز لقوله تعالى حكاية عن كلام عيسى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] ولقوله في الحديث القدسي "وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" وقيل لا يجوز إلا للمشاكلة كما في الآية والحديث القدسي والظاهر الجواز ولا عبرة بأصل مأخذ الكلمة من التنفس فالنفس الذات قال تعالى {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111]. وتطلق النفس على روح الإنسان وإدراكه ومنه قوله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} وقول العرب قلت في نفسي أي في تفكري دون قول لفظي، ومنه إطلاق العلماء الكلام النفسي على المعاني التي في عقل المتكلم التي يعبر عنها باللفظ. و"ادارأتم" افتعال، وادارأتم أصله تدارأتم تفاعل من الدرء وهو الدفع لأن كل فريق يدفع الجناية عن نفسه فلما أريد إدغام التاء في الدال على قاعدة تاء الافتعال مع الدال والذال جلبت همزة الوصل لتيسير التسكين للإدغام. وقوله {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} جملة حالية من {ادارأتم} أي تدارأتم في حال أن الله سيخرج ما كتمتموه فاسم الفاعل فيه للمستقبل باعتبار عامله وهو {ادارأتم}. والخطاب هنا على نحو الخطاب في الآيات السابقة المبني على تنزيل المخاطبين منزلة أسلافهم لحمل تبعتهم عليهم بناء على ما تقرر من أن خلق السلف يسري إلى الخلف كما بيناه فيما مضى وسنبينه إن شاء الله تعالى عند قوله {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75]. وإنما تعلقت إرادة الله تعالى بكشف حال قاتلي هذا القتيل مع أن دمه ليس بأول دم طل في الأمم إكراما لموسى عليه السلام أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم وبمرآى منه ومسمع لا سيما وقد قصد القاتلون استغفال موسى ودبروا المكيدة في إظهارهم المطالبة بدمه فلو لم يظهر الله تعالى هذا الدم في أمة لضعف يقينها برسولها ولكان ذلك مما يزيدهم شكا في صدقه فينقلبوا كافرين فكان إظهار هذا الدم كرامة لموسى ورحمة بالأمة لئلا تضل فلا يشكل عليكم أنه قد ضاع دم في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث حويصة ومحيصة الآتي لظهور الفرق بين الحالين بانتفاء تدبير المكيدة وانتفاء شك الأمة في رسولها وهي خير أمة أخرجت للناس. وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} الإشارة إلى محذوف للإيجاز أي فضربوه فحيى فأخبر بمن قتله أي كذلك الإحياء يحيي الله الموتى فالتشبيه في التحقق وإن كانت كيفية المشبه أقوى وأعظم لأنها حياة عن عدم بخلاف هاته فالمقصد من التشبيه بيان إمكان المشبه كقول المتنبي: فإن تفق الأنام وأنت منهم . . . فإن المسك بعض دم الغزال وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} من بقية المقول لبني إسرائيل فيتعين أن يقدر وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى لأن الإشارة لشيء مشاهد لهم وليس هو اعتراضا أريد به مخاطبة الأمة الإسلامية لأنهم لم يشاهدوا ذلك الإحياء حتى يشبه به إحياء الله الموتى. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} رجاء لأن يعقلوا فلم يبلغ الظن بهم مبلغ القطع مع هذه الدلائل كلها. وقد جرت عادة فقهائنا أن يحتجوا بهذه الآية على مشروعية اعتبار قول المقتول دمي عند فلان موجبا للقسامة ويجعلون الاحتجاج بها لذلك متفرعا على الاحتجاج بشرع من قبلنا وفي ذلك تنبيه على أن محل الاستدلال بهذه الآية على مشروعية ذلك هو أن إحياء الميت لم يقصد منه إلا سماع قوله فدل على أن قول المقتول كان معتبرا في أمر الدماء. والتوراة قد أجملت أمر الدماء إجمالاً شديداً في قصة ذبح البقرة التي قدمناها، نعم إن الآية لا تدل على وقوع القسامة مع قول المقتول ولكنها تدل على اعتبار قول المقتول سببا من أسباب القصاص ولما كان الظن بتلك الشريعة أن لا يقتل أحد بمجرد الدعوى من المطعون تعين أن هنالك شيئاً تقوى به الدعوى وهو القسامة. وقد أورد على احتجاج المالكية بها أن هذا من خوارق العادات وهي لا تفيد أحكاماً وأجاب ابن العربي بأن المعجزة في إحياء الميت فلما حيى صار كلامه ككلام سائر الأحياء وهو جواب لطيف لكنه غير قاطع. والخلاف في القضاء بالقسامة إثباتا ونفيا وفي مقدار القضاء بها مبسوط في كتب الفقه وقد تقصاه القرطبي وليس من أغراض الآية.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:31 pm | |
| [74] {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. "ثم" هنا للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له "ثم" إذا عطفت الجمل أي ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات فـ {قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} وكان من البعيد قسوتها. وقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول الفطامي: أكفرا بعد رد الموت عني . . . وبعد عطائك المائة الرتاعا أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت ألخ. ووجه استعمال بعد في هذا المعنى أنها مجاز في معنى مع لأن شأن المسبب أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتا أو نفيا عبر ببعد عن معنى مع مع الإشارة إلى التأخر الرتبي. والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها. وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي وهو احتمال ضعيف، أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازا وهو الصحيح، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} كما سيأتي. وقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعد حكاية الحالة المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجز فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج: عليهن شعث عامدون لربهم . . . فهن كأطراف الحني خواشع وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها. وهذا الأسلوب يسمى عندي تهيئة التشبيه وهو من محاسنه، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في مثله حسن جدا وأمَّا أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي يعد مذموما وقد رأيت بيتا جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة: في الريق سكر وفي الأصداغ تجعيد . . . هذا المدام وهاتيك العناقيد فإنه لما ذكر السكر تهيأ التشبيه بالخمر ولكن قوله تجعيد لا يناسب العناقيد فإن قلت لم عددته مذموما وما هو إلا كتجريد الاستعارة؟. قلت لا لأن التجريد يجيء بعد تكرر الاستعارة وعلم بها فيكون تفننا لطيفا بخلاف ما يجيء قبل العلم بالتشبيه. وقوله {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} وأو بمعنى بل الانتقالية لتوفر شرطها وهو كون معطوفها جملة. وهذا المعنى متولد من معنى التخيير الموضوعة له أو لأن الانتقال ينشأ عن التخيير فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة وكان الشأن أن يكون المشبه أضعف في الوصف من المشبه به يبنى على ذلك ابتداء التشبيه بما هو أشهر ثم عقب التشبيه بالترقي إلى التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة1: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى . . . وصورتها أو أنت في العين أملح فليست أو للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها موقع ما إذا كرر المشبه به كما قدمناه عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: من الآية19] ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفا على الخبر الذي هو {كَالْحِجَارَةِ} أي فهي مثل الحجارة أو هي أقوى من الحجارة والمقصود من التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافا ولا يذمهم تحاملا بل هو متثبت متحر في شأنهم فلا يثبت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي فإنه ساواهم بالحجارة في وصف ثم تقصى فرأى أنهم فيه أقوى فكأنه يقول للمخاطب إن شئت فسوههم بالحجارة في القسوة ولك أن تقول هم أشد منها وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل عليه بل وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفا وأمَّا في مقام المدح فالأحسن هو التعبير ببل كقول الفرزدق: فقالت لنا اهـلا وسهلا وزودت . . . جني النحل بل ما زودت منه أطيب ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعا مغايرا لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول كما تقدم فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة الحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تجد فيها محاولة. ----------------------------------------------- 1 نسبه إليه ابن جني وقال البغدادي لم أجده في "ديوان ذي الرمة". ----------------------------------------------- وقوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ} إلخ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يستغرب، وموقع هذه الواو الأولى في قوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} عسير فقيل هي للحال من الحجارة المقدرة بعد أشد أي أشد من الحجارة قسوة، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهر في هذه الأحوال التي وصفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال، وقيل هي الواو للعطف على قوله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} قاله التفتزاني، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخبارا عن مزايا فضلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تعطل قلوب هؤلاء من صدور النفع بها، وقيل الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه بعد كما صرح به ابن عرفة، والظاهر أنها الواو الاعتراضية وأن جملة {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} وما عطف عليها معترضات بين قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} وبين جملة الحال منها وهي قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. والتوكيد بإن للاهتمام بالخبر وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يناكد ذلك كما تقدم عند قوله تعالى: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]. ومن بديع التخلص تأخر قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} والتعبير عن التسخر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكويني مع تعاصي قلوبهم عن الامتثال للأمر التكليفي ليتأتى الانتقال إلى قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. وقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75]. وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جريا على قاعدة الجاذبية فإذا اضغط عليه بثقل نفسه من تكاثره أو بضاغط آخر من اهـوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماء إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماء قد حمل في جريته أجزاء من معدن الحامض الفحمي فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقبا في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعا كالعيون. وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر، وأمَّا الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة. وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعده منفذا إلى أرض ترابية فيخرج طافيا من سطح الصخور التي جرى فوقها. وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تطلب الخروج بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل. والخشية في الحقيقة الخوف الباعث على تقوى الخائف غيره. وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال. وجعلت هنا مجازا عن قبول الأمر التكويني إما مرسلاً بالإطلاق والتقييد، وأمَّا تمثيلا للهيئة عند التكوين بهيئة المكلف إذ ليست للحجارة خشية إذ لا عقل لها. وقد قيل إن إسناد يهبط للحجر مجاز عقلي والمراد هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها لأنها سببه كما قالوا ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على المساومة فيها1. وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن كل صنعكم وقد قرأه الجمهور بالتاء الفوقية تكملة خطاب بني إسرائيل، وقرأ ابن كثير ويعقوب وخلف "يعملون" بالياء التحتية وهو انتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين فلذلك غير أسلوبه إلى الغيبة وليس ذلك من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين. وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرةً أو تعريضاً. ----------------------------------------------- 1 قال النابغة يصف نخلا: بزاخية الموت بليف كأنه . . . عفاء قلاص طار عنها تواجر -----------------------------------------------
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:32 pm | |
| [75] {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. هذا اعتراض استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة: 83] فجميع الجمل من قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} إلى قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا} داخلة في هذا الاستطراد. والفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري أو التعجيبي عل جملة {ثُمَّ قَسَتْ} أو على مجموع الجمل السابقة لأن جميعها مما يقتضي اليأس من إيمانهم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فاعجبوا من طمعكم وسيأتي تحقيق موقع الاستفهام مع حرف العطف في مثله عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87]. والطمع ترقب حصول شيء محبوب وهو يرادف الرجاء وهو ضد اليأس، والطمع يتعدى بفي حذفت هنا قبل "أن". فإن قلت كيف ينهي عن الطمع في إيمانهم أو يعجببه والنبي والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى الإيمان دائما وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته لتعلق علم الله بعدم وقوعه. قلت: إنما نهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضاً ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفسا نيرة فتنفعها فإن استبعاد إيمانهم حكم على غالبهم وجمهرتهم أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم والمسألة أخص من تلك المسألة لأن مسألة التكليف بالمحال لتعلق العلم بعدم وقوعه مفروضة فيما علم الله عدم وقوعه وتلك قد كنا أجبنا لكم فيها جوابا واضحا1 وهو أن الله تعالى وإن علم عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه لم يطلعنا على ما علمه فيه والأوامر الشرعية لم تجيء بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال كيف أمر مع علم الله بأنه لا يؤمن، وأمَّا هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال فالجواب عنها يرجع إلى الجواب الأعم وهو أن الدعاء لأجل إقامة الحجة وهو الجواب الأعم لأصحابنا في مسألة التكليف بما علم الله عدم وقوعه على أن بعض أحوالهم قد تتغير فيكون للطماعية بعد ذلك حظ. ----------------------------------------------- 1 عند شرح قوله تعلى: {لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وانظر أيضاً آخر شرح [البقرة: 6] فإن فيها ذكر مسألة التكليف الإلجائي "مصححة". ----------------------------------------------- واللام في قوله {لكم} لتضمين {يؤمنوا} معنى يقروا وكأن فيه تلميحا إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] الآية فما أبدع نسج القرآن. ويجوز حمل اللام على التعليل وجعل {يؤمنوا} منزلا منزلة اللازم تعريضاً بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم. وقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} جملة حالية هي قيد إنكار الطمع في إيمانهم فيكون قد علل هذا الإنكار بعلتين إحداهما بالتفريع على ما علمناه، والثانية بالتقييد بما علمناه. وقوله: {فَرِيقٌ مِنْهُمْ} يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أو من الحاضرين في زمن نزول الآية. وسماعهم كلام الله على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاءوا من بعده. أما سماع كلام الله مباشرة فلم يقع إلا لموسى عليه السلام وأيا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون عامتهم. والتحريف أصله مصدر حرف الشيء إذا مال به إلى الحرف وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق.ولما شاع تشبيه الحق والصواب والرشد والمكارم بالجادة وبالصراط المستقيم شاع في عكسه تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف وببنيات الطريق. قال الأشتر: بقيت وفري وانحرفت عن العلا . . . ولقيت أضيافي بوجه عبوس ومن فروع هذا التشبيه قولهم: زاغ، وحاد، ومرق، وألحد. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11]. فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به إما بتبديل وهو قليل وأمَّا بكتمان بعض وتناسيه وأمَّا بالتأويل البعيد وهو أكثر أنواع التحريف. وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من {فريق} وهو قيد في القيد يعني يسمعونه ثم يعقلونه ثم يحرفونه وهم يعلمون أنهم يحرفون، وأن قوما توارثوا هذه الصفة لا يطمع في إيمانهم لأن الذين فعلوا هذا إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم فالغالب أن يكون خلقهم واحدا وطباعهم متقاربة كما قال نوح عليه السلام: {وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} وللعرب والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث، ولذلك كانوا يصفون القبيلة بصفات جمهورها أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم فكيف ظنكم بصفات دهمائهم لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغا شنيعا فاعلم أن العامة أفظع وأشنع وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم وإن كان فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:33 pm | |
| [76 ,77] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. الأظهر أن الضمير في {لَقُوا} عائد على بني إسرائيل على نسق الضمائر السابقة في قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا} [البقرة: 75] وما بعده، وأن الضمير المرفوع بقالوا عائد عليهم باعتبار فريق منهم وهم الذين أظهروا الإيمان نفاقا أو تفاديا من مر المقارعة والمحاجة بقرينة قوله: { آمنا } وذلك كثير في ضمائر الأمم والقبائل ونحوها نحو قوله تعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] لأن ضمير {طلقتم} للمطلقين وضمير تعضلوا للأولياء لأن الجميع راجع إلى جهة واحدة وهي جهة المخاطبين من المسلمين لاشتمالهم على الصنفين، ومنه أن تقول لئن نزلت ببني فلان ليكرمنك وإنما يكرمك سادتهم وكرماؤهم ويكون الضمير في قوله {بعضهم} عائد إلى الجميع أي بعض الجميع إلى بعض آخر ومعلوم أن القائل من لم ينافق لمن نافق، ثم تلتئم الضمائر بعد ذلك في {يعلمون} و {يسرون} و {يعلنون} بلا كلفة وإلى هذه الطريقة ذهب صاحب الكشاف ويرجحها عندي أن فيها الاقتصار على تأويل ما به الحاجة والتأويل عند وجود دليله بجنبه وهو {آمنا}. وجملة {إذا لقوا} معطوفة على جملة {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 75] على أنها حال مثلها من أحوال اليهود وقد قصد منها تقييد النهي أو التعجيب من الطمع في إيمانهم فهو معطوف على الحال بتأويل وقد كان فريق منهم آخر إذا لقوا. وقوله: {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ} معطوف على {وَإِذَا لَقُوا} وهو المقصود من الحالية أي والحال أنهم يحصل منهم مجموع هذا لأن مجرد قولهم: {آمنا} لا يكون سببا للتعجب من الطمع في إيمانهم فضمير {بعضهم} راجع إلى ما رجع إليه {لقوا} وهم عموم اليهود. ونكتة التعبير بـ {قالوا آمنا} مثلها في نظيره السابق في أوائل السورة. [البقرة: 14]. وقوله: {أتحدثونهم} استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام دل على أنهم جرى بينهم حديث في ما ينزل من القرآن فاضحا لأحوال أسلافهم ومثالب سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم. والظاهر عندي أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبي من بعض الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا المسلمين ببعض قصص قومهم سترا لكفرهم الباطن فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار أي كيف يبلغ بكم النفاق إلى هذا وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين كفاية على حد قول المثل الذي حكاه بشار بقوله: واسعد بما قال في الحلم ابن ذي يزن . . . يلهو الكرام ولا ينسون أحسابا فحكى الله ذلك عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفرا من قومهم جواسيس على النبي والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء التدبير وأنهم ذهبوا يتجسسون فكشفوا أحوال قومهم ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77]. وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به، فعن السدى كان بعض اليهود يحدث المسلمين بما عذب به أسلافهم وعن أبي العالية قال بعض المنافقين إن النبي مذكور في التوراة وعن ابن زيد كانوا يخبرون عن بعض قصص التوراة. والمراد {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ} إما ما قضى الله به من الأحوال والمصائب فإن الفتح بمعنى القضاء وعليه قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} [لأعراف: 89] والفتاح القاضي بلغة اليمن، وأمَّا بمعنى البيان والتعليم، ومنه الفتح على الإمام في الصلاة بإظهار الآية له وهو كناية مشهورة لأن القضاء يستلزم بيان الحق، ومنه قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] أي يسألونهم العلم بالأمور التشريعية على أحد وجهين فالمعنى بما علمكم الله من الدين. وقوله: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} صيغة المفاعلة غير مقصود بها حصول الفعل من جانبين بل هي لتأكيد الاحتجاج أي ليحتجوا عليكم به أي بما فتح الله عليكم. واللام في قوله تعالى: {ليحاجوكم} لام التعليل لكنها مستعملة في التعقيب مجازا أو ترشيحا لاستعمال الاستفهام في الإنكار أو التقرير مجازا فإنه لما كان الاستفهام الموضوع لطلب العلم استعمل هنا في الإنكار أو التقرير مجازا لأن طلب العلم يستلزم الإقرار والمقرر عليه يقتضي الإنكار لأن المقر به مما ينكر بداهة وكانت المحاجة به عند الله فرعا عن التحديث بما فتح الله عليهم جعل فرع وقوع التحديث المنكر كأنه علة مسؤول عنها أي لكان فعلكم هذا معللا بأن يحاجوكم وهو غاية في الإنكار إذ كيف يسعى أحد في إيجاد شيء تقوم به عليه الحجة فالقرينة هي كون المقام للإنكار لا للاستفهام ولذلك كانت اللام ترشيحا متميزا به أيضاً. والأظهر أن قوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} ظرف على بابه مراد منه عندية التحاكم المناسب لقوله {يحاجوكم} وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإيمان به وذلك جار حكاية حال عقيدة اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه وفي أنه إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم وتجد كتبهم ملآى بما يدل على أن الله ظهر له كذا وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف المظنون وكقولهم في سفر التكوين وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر وقال فيه ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فخزن الرب انه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته وجاء في التكوين أيضاً لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر دعا ابنه الأكبر عيسو وقال له إني شخت ولست أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك واخرج إلى البرية فتصيد لي صيدا واصنع لي أطعمة حتى أباركك قبل أن أموت فسمعت رفقة أمهما1 ذلك فكلمت ابنها يعقوب وقالت اذهب إلى الغنم وخذ جديين جيدين من المعزى فاصنعهما أطعمة لأبيك حتى يباركك قبل وفاته فقال يعقوب لأمه إن عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون واجلب على نفسي لعنة فقالت اسمع لقولي فذهب وصنعت له أمه الطعام وأخذت ثياب ابنها الأكبر عيسو وألبستها يعقوب وألبست يديه وملاسة عنقه جلود الجديين فدخل يعقوب إلى أبيه وقال يا أبي أنا ابنك الأكبر قد فعلت كما كلمتني. ----------------------------------------------- 1 رافقة هي أم عيسو ويعقوب ولكنها تميل إلى يعقوب لأن عيسو كان قد تزوج امرأتين من بني حيث فكانت رفقة ساخطة على عيسو. ----------------------------------------------- فجسَّهُ إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فباركه أي جعله نبياً وجاء عيسو وكلم أباه الحيلة ثم قال لأبيه باركني أنا فقال قد جاء أخوك بكرة وأخذ بركتك إلخ فما ظنك بقوم هذه مبالغ عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم عند الله يوم القيامة وبهذا يندفع استبعاد البيضاوي وغيره أن يكون المراد بعند ربكم يوم القيامة بأن إخفاء الحقائق يوم القيامة لا يفيد من يحاوله حتى سلكوا في تأويل معنى قوله: {عند ربكم} مسالك في غاية التكلف قياسا منهم لحال اليهود على حال عقائد الإسلام ففسروا {عند} بمعنى الكتاب أو على حذف مضاف أو حذف موصول ثم سلك متعقبوهم في إعرابه غاية الأغراب. وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} من بقية مقولهم لقومهم ولا يصح جعله خطابا من الله للمسلمين تذييلا لقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: من الآية75] لأن المسلمين وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا جديرين بمثل هذا التوبيخ وحسبهم ما تضمنه الاستفهام من الاستغراب أو النهي. فإن قلت لم يذكر في الآية جواب المخاطبين بالتبرؤ من أن يكونوا حدثوا المؤمنين بما فتح الله عليهم كما ذكر في قوله المتقدم: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. قلت ليس القرآن بصدد حكاية مجادلاتهم وأحوالهم فإنها أقل من ذلك وإنما يحكى منها ما فيه شناعة حالهم وسوء سلوكهم ودوام إصرارهم وانحطاطا أخلاقهم فتبريهم مما نسب إليه كبراؤهم من التهمة معلوم، للقطع بأنهم لم يحدثوا المسلمين بشيء ولما دل عليه قوله الآتي: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} إلخ. وأمَّا ما في الآية المتقدمة من تنصلهم بقولهم: {إنا معكم} فلأن فيه التسجيل عليهم في قوله فيه. {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. وقوله: {أَوَلا يَعْلَمُونَ} الآية، الاستفهام فيه على غير حقيقته فهو إما مجاز في التقرير أي ليسوا يعلمون ذلك والمراد التقرير بلازمه وهو أنه إن كان الله يعلمه فقد علمه رسوله وهذا لزوم عرفي ادعائي في المقام الخطابي أو مجاز في التوبيخ والمعنى هو. أو مجاز في التحضيض أي هل كان وجود أسرار دينهم في القرآن موجبا لعلمهم أن الله يعلم ما يسرون والمراد لازم ذلك أي يعلمون أنه منزل عن الله أي هلا كان ذلك دليلا على صدق الرسول عوض عن أن يكون موجبا لتهمة قومهم الذين تحققوا صدقهم في اليهودية وهذا الوجه هو الظاهر لي ويرجحه التعبير بيعلمون بالمضارع دون علموا. وموقع الاستفهام مع حرف العطف في قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} وقوله: {أَوَلا يَعْلَمُونَ} سيأتي الكلام على نظائره وخلاف علماء العربية فيه عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} [البقرة: 87].
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:34 pm | |
| [78] {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}. معطوف على قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ} [البقرة: 75] عطف الحال على الحال ومنهم خبر مقدم وتقديمه للتشويق إلى المسند إليه كما تقدم في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} [البقرة: 8] والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى إيمان اهـل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجى والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضاً في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم فالفريق الأول هم الماضون. وعلى هذا فجملة: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} معطوفة على جملة {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} إلخ باعتبار كونها معادلا لها من جهة ما تضمنته من كونها حالة فريق منهم وهذه حالة فريق آخر. وأمَّا قوله: {وإذا لقوا} وقوله: {وإذا خلا} فتلك معطوفات على جملة: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ} عطف الحال على الحال أيضاً لكن باعتبار ما تضمنته الجملة الأولى من قوله {يسمعون} الذي هو حال من أحوال اليهود وبهذا لا يجيء في جملة: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} التخيير المبني على الخلاف في عطف الأشياء المتعددة بعضها على بعض هل يجعل الأخير معطوفا على ما قبله من المعطوفات أو معطوفا على المعمول الأول لأن ذلك إذا كان مرجع العطف جهة واحدة وهنا قد اختلفت الجهة. والأمِّيِّ مَنْ لا يعرف القراءة والكتابة والأظهر أنه منسوب إلى الأمَّة بمعنى عامَّة الناس فهو يرادف العامي، وقيل منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي أنه بقي على الحال التي كان عليها مدة حضانة أمه إياه فلم يكتسب علما جديدا ولا يعكر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا أمهى بناء على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها وقد قالوا في جمع الأم أمهات فردوا المفرد إلى أصله فدلوا على أن أصل أم أمهة لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاما قد يقع فيها تغيير لأصلها. وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف اهـل الكتاب فلذلك قيل هنا: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي ليس جميعهم اهـل كتاب. ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ} وقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم أشهد أنك رسول الأميين وذلك لما تقتضيه الأمية من قلة المعرفة ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أميا قبل النبوءة وقد قال أبو الوليد الباجي: إن الله علم نبيه القراءة والكتابة بعد تحقق معجزة الأمية بأن يطلعه على ما يعرف به ذلك عند الحاجة استنادا لحديث البخاري في صلح الحديبية وأيده جماعة من العلماء في هذا وأنكر عليه أكثرهم مما هو مبسوط في ترجمته من كتاب المدارك لعياض وما أراد إلا إظهار رأيه. والكتاب إما بمعنى التوراة اسم للمكتوب وأمَّا مصدر كتب أي لا يعلمون الكتابة ويبعده قوله بعده: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} فعلى الوجه الأول يكون قوله: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أثرا من آثار الأمية أي لا يعلمون التوراة إلا علما مختلطا حاصلا مما يسمعونه ولا يتقنونه، وعلى الوجه الثاني تكون الجملة وصفا كاشفا لمعنى الأميين كقول أوس بن حجر: الألمعي الذي يظن بك الظن . . . كأن قد رأى وقد سمعا والأماني بالتشديد جمع أمنية على وزن أفاعيل وقد جاء بالتخفيف فهو جمع على وزن أفاعل عند الأخفش كما جمع مفتاح على مفاتح ومفاتيح، والأمنية كأثفية وأضحية أفعولة كالأعجوبة والأضحوكة والأكذوبة والأغلوطة، والأماني كالأعاجيب والأضاحيك والأكاذيب والأغاليط، مشتقة من منى كرمى بمعنى قدر الأمر ولذلك قيل تمنى بمعنى تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر، ومناه أي جعله مانيا أي مقدرا كناية عن الوعد الكاذب لأنه ينقل الموعود من تقدير حصول الشيء اليوم إلى تقدير حصوله غدا، وهكذا كما قال كعب بن زهير: فلا يغرنك ما منت وما وعدت . . . إن الأماني والأحلام تضليل ولأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقا لخبره فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة، فالأماني هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقا وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد مالها من العوائد والرسوم والمواسم شرعا، أو هي التقادير التي. وضعها الأحبار موضع الوحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وأمَّا تضليلا وهذا أظهر الوجوه، وقيل الأماني هنا الأكاذيب أي ما وضعه لهم الذين حرفوا الدين، وقد قيل الأماني القراءة أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم وأنشدوا على ذلك قول حسان في رثاء عثمان رضي الله عنه. تمنى كتاب الله أول ليله . . . وآخره لاقى حمام المقادر أي قرأ القرآن في أول الليل الذي قتل في آخره، وعندي أن الأماني هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماء فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلا فإن غير العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالما، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحدا من هاته المعاني ليس من علم الكتاب.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:35 pm | |
| [79] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}. الفاء للترتيب والتسبب فيكون ما بعدها مترتبا على ما قبلها والظاهر أن ما بعدها مترتب على قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] الدال على وقوع تحريف منهم عن عمد فرتب عليه الإخبار باستحقاقهم سوء الحالة. أو رتب عليه إنشاء استفظاع حالهم، وأعيد في خلال ذلك ما أجمل في الكلام المعطوف عليه إعادة تفصيل. ومعنى: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} أنهم يكتبون شيئا لم يأتيهم من رسلهم بل يضعونه ويبتكرونه كما دل عليه قوله: {ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} المشعر بأن ذلك قولهم بأفواههم ليس مطابقا لما في نفس الأمر. وثم للترتيب الرتبي لأن هذا القول أدخل في استحقاقهم الويل من كتابة الكتاب بأيديهم إذ هو المقصود.وليس هذا القول متراخيا عن كتابتهم ما كتبوه في الزمان بل هما متقارنان. والويل لفظ دال على الشر أو الهلاك ولم يسمع له فعل من لفظه فلذلك قيل هو اسم مصدر، وقال ابن جني هو مصدر امتنع العرب من استعمال فعله لأنه لو صرف لوجب اعتلال فائه وعينه بأن يجتمع فيه إعلالان أي فيكون ثقيلا، والويل: البلية. وهي مؤنث الويل قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف: 49] وقال امرؤ القيس: فقالت لك الويلات إنك مرجلى ويستعمل الويل بدون حرف نداء كما في الآية ويستعمل بحرف النداء كقوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الانبياء: 14] كما يقال يا حسرتا. فأما موقعه من الإعراب فإنه إذا لم يضف أعرب إعراب الأسماء المبتدإ بها وأخبر عنه بلام الجر كما في هذه الآية وقوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]. قال الجوهري وينصبوا فيقال ويلا لزيد وجعل سيبويه ذلك قبيحا وأوجب إذا ابتدئ به أن يكون مرفوعا، وأمَّا إذا أضيف فإنه يضاف إلى الضمير غالبا كقوله تعالى: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص: 80] وقوله: {وَيْلَكَ آمِنْ} [الاحقاف: 17] فيكون منصوبا وقد يضاف إلى الاسم الظاهر فيعرب إعراب غير المضاف كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: "ويل أمه مسعر حرب". ولما أشبه في إعرابه المصادر الآتية بدلا من أفعالها نصبا ورفعا مثل: حمدا لله وصبر جميل كما تقدم عند قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: من الآية2] قال أكثر أئمة العربية إنه مصدر أميت فعله، ومنهم من زعم أنه اسم وجعل نصبه في حالة الإضافة نصبا على النداء بحذف حرف النداء لكثرة الاستعمال فأصل ويله يا ويله بدليل ظهور حرف النداء معه في كلامهم. وربما جعلوه كالمندوب فقالوا ويلاه وقد أعربه الزجاج كذلك في سورة طه. ومنهم من زعم أنهم إذا نصب فعلى تقدير فعل، قال الزجاج في قوله تعالى: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [طه: 61] في طه يجوز أن يكون التقدير ألزمكم الله ويلا. وقال الفراء إن ويل كلمة مركبة من وى بمعنى الحزن ومن مجرور باللام المكسورة فلما كثر استعمال اللام مع وى صيروهما حرفا واحدا فاختاروا فتح اللام كما قالوا يال ضبة ففتحوا اللام وهي في الأصل مكسورة. وهو يستعمل دعاء وتعجبا وزجرا مثل قولهم: لا أبلك، وثكلتك أمك. ومعنى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} دعاء مستعمل في إنشاء الغضب والزجر، قال سيبويه: لا ينبغي أن يقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} دعاء لأنه قبيح في اللفظ ولكن العباد كلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم على مقدار فهمهم أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم. وقد جاء على مثال ويل ألفاظ وهي ويح وويس وويب وويه وويك. وذكر: {بأيديهم} تأكيد مثل نظرته بعيني ومثل: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 167] وقوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. والقصد منه تحقيق وقوع الكتابة ورفع المجاز عنها وأنهم في ذلك عامدون قاصدون. وقوله: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} هو كقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] والثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة بأن غيروا لهم أحكام الدين على ما يوافق اهـواءهم أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون فوضعوا كتابا تافهة من القصص المعلومات البسيطة ليتفيقهوا بها في المجامع لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة لفقوا نتفا سطحية وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ثم أشاعوها ونسبوها إلى الله ودينه وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة من غير اهـلية ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم. وقوله: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} تفصيل لجنس الويل إلى ويلين وهما ما يحصل لهم من الشر لأجل ما وضعوه وما يحصل لهم لأجل ما اكتسبوه من جراء ذلك فهو جزاء بالشر على الوسيلة وعلى المقصد وليس في الآية ثلاث ويلات كما قد توهم ذلك. وكأن هذه الآية تشير إلى ما كان في بني إسرائيل من تلاشي التوراة بعد تخريب بيت المقدس في زمن بختنصر ثم في زمن طيطس القائد الروماني وذلك أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد أمر بوضعها في تابوت العهد حسبما ذلك مذكور في سفر التثنية وكان هذا التابوت قد وضعه موسى في خيمة الاجتماع ثم وضعه سليمان في الهيكل فلما غزاهم بختنصر سنة 588 قبل المسيح أحرق الهيكل والمدينة كلها بالنار وأخذ معظم اليهود فباعهم عبيدا في بلده وترك فئة قليلة بأورشليم قصرهم على الغراسة والزراعة ثم ثاروا على بختنصر وقتلوا نائبه وهربوا إلى مصر ومعهم أرميا فخربت مملكة اليهود. ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يومئذ يستطيعون إنقاذ التوراة وهم لم يكونوا من حفظتها لأن شريعتهم جعلت التوراة أمانة بأيدي اللاويين كما تضمنه سفر التثنية وأمر موسى القوم بنشر التوراة لهم بعد كل سبع سنين تمضي وقال موسى ضعوا هذا الكتاب عند تابوت العهد ليكون هناك شاهداً عليكم لأني أعرف تمردكم وقد صرتم تقاومون ربكم وأنا حي فأحرى أن تفعلوا ذلك بعد موتي ولا يخفى أن اليهود قد نبذوا الديانة غير مرة وعبدوا الأصنام في عهد رحبعام بن سليمان ملك يهوذا وفي عهد يوربعام غلام سليمان ملك إسرائيل قبل تخريب بيت المقدس وذلك مؤذن بتناسي الدين ثم طرأ عليه التخريب المشهور ثم أعقبه التخريب الروماني في زمن طيطس سنة 40 للمسيح ثم في زمن أدريان الذي تم على يده تخريب بلد أورشليم بحيث صيرها مزرعة وتفرق من أبقاه السيف من اليهود في جهات العالم. ولهذا اتفق المحققون من العلماء الباحثين عن تاريخ الدين على أن التوراة قد دخلها التحريف والزيادة والتلاشي وأنهم لما جمعوا أمرهم عقب بعض مصائبهم الكبرى افتقدوا التوراة فأرادوا أن يجمعوها من متفرق أوراقهم وبقايا مكاتبهم. وقد قال لنجرك أحد اللاهوتيين من علماء الإفرنج إن سفر التثنية كتبه يهودي كان مقيما بمصر في عهد الملك يوشيا ملك اليهود وقال غيره إن الكتب الخمسة التي هي مجموع التوراة قد دخل فيها تحريف كثير من علم صموئيل أو عزير عزرا. ويذكر علماؤنا أن اليهود إنما قالوا عزير ابن الله لأنه ادعى أنه ظفر بالتوراة. وكل ذلك يدل على أن التوراة قد تلاشت وتمزقت والموجود في سفر الملوك الثاني من كتبهم في الإصحاح الحادي والعشرين أنهم بينما كانوا بصدد ترميم بيت المقدس في زمن يوشيا ملك يهوذا ادعى حلقيا الكاهن أنه وجد سفر الشريعة في بيت الرب وسلمه الكاهن لكاتب الملك فلما قرأه الكاتب على الملك مزق ثيابه وتاب من ارتداده عن الشريعة وأمر الكهنة بإقامة كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب اهـ. فهذا دليل قوي على أن التوراة كانت مجهولة عندهم منذ زمان.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:44 pm | |
| [80 - 82] {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. قيل الواو لعطف الجملة على جملة {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: من الآية75] فتكون حالا مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهو يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون لن تمسنا النار. والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله {يكتبون} إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} ووجه المناسبة أن قولهم {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدموا على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياما عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم. ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام. وقوله: {وقالوا} أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله: {قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم : قال مالك، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب: علام تقول الرمح يثقل عاتقي والمس حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا1 بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام: 49]. وعبر عن نفيهم بحرف لن الدال على تأييد النفي تأكيدا لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد، ولدلالة لن على استغراق الأزمان تأتى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله: {إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية. والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعا للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصودا هنا. وتأنيث "معدودة" وهو صفة "أياما" مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الأفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات، وسيأتي ذلك في قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]. ----------------------------------------------- 1 في المطبوعة {كفروا } وهو غلط. ----------------------------------------------- وقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده: {بلى} فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو أم تقولون لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له. والمراد بالعهد الوعد المؤكد فهو استعارة، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك. وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و {عند} لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يدا عند فلان. وقوله: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه وما بعد الفاء هو علة الجزاء والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة: 60] ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسببا عما قبلها ولا مترتبا عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط المقدر لأن لن للاستقبال. و"أم" في قوله: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما صرح به ابن الحاجب في الأيضاًح وهو التحقيق كما قال عبد الحكيم فما قاله صاحب المفتاح من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير. وقوله: {بلى} إبطال لقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها فمعنى بلى بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة. وقوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} سند لما تضمنته بلى من إبطال قولهم أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة إلخ ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار فأنتم منهم لا محالة على حد قول لبيد: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما . . . وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر أي فلا أخلد كما لم يخلد بنو ربيعة ومضر، فمن في قوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها وهي في الشرط من صيغ العموم فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب بلى بهذا العموم لأنه لو لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذكر العموم بعدها كلاما متناثرا ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله بلى. والمراد بالسيئة هنا السيئة العظيمة وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}. وقوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذا للإقبال على غير ذلك قال تعالى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجرئ على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح كما دل عليه قوله {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]. فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة. والقصر المستفاد من التعريف في قوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] قصر إضافي لقلب اعتقادهم. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82]. تذييل لتعقيب النذارة بالبشارة على عادة القرآن. والمراد بالخلود هنا حقيقته.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:47 pm | |
| [83] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}. أعيد ذكر أحوال بني إسرائيل بعد ذلك الاستطراد المتفنن فيه فأعيد الأسلوب القديم وهو العطف بإعادة لفظ إذ في أول القصص. وأظهر هنا لفظ – {بَنِي إِسْرائيلَ} وعدل عن الأسلوب السابق الواقع فيه التعبير بضمير الخطاب المراد به سلف المخاطبين وخلفهم لوجهين أحدهما أن هذا رجوع إلى مجادلة بني إسرائيل وتوفيقهم على مساويهم فهو افتتاح ثان جرى على أسلوب الافتتاح الواقع في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] الآية. ثانيهما أن ما سيذكر هنا لما كان من الأحوال التي اتصف بها السلف والخلف وكان المقصود الأول منه إثبات سوء صنيع الموجودين في زمن القرآن تعين أن يعبر عن سلفهم باللفظ الصريح ليتأتى توجيه الخطاب من بعد ذلك إلى المخاطبين حتى لا يظن أنه من الخطاب الذي أريد به أسلافهم على وزان {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] أو على وزان {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} وقوله {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} أريد به أسلافهم لأنهم الذين أعطوا الميثاق لموسى على امتثال ما أنزل الله من التوراة كما قدمناه أو المراد بلفظ بني إسرائيل المتقدمون والمتأخرون والمراد بالخطاب في {توليتم} خصوص من بعدهم لأنهم الذين تولوا فليس في الكلام التفات ما وهو أولى من جعل ما صدق {بَنِي إِسْرائيلَ} هو ما صدق ضمير {توليتم} وأن الكلام التفات. وقوله {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} خبر في معنى الأمر ومجيء الخبر للأمر أبلغ من صيغة الأمر لأن الخبر مستعمل في غير معناه لعلاقة مشابهة الأمر الموثوق بامتثاله بالشيء الحاصل حتى إنه يخبر عنه.وجملة {لا تَعْبُدُونَ} مبدأ بيان للميثاق فلذلك فصلت وعطف ما بعدها عليها ليكون مشاركا لها في معنى البيانية سواء قدرت أن أو لم تقدرها أو قدرت قولاً محذوفاً. وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} هو مما أخذ عليهم الميثاق به وهو أمر مؤكد لما دل عليه تقديم المتعلق على متعلقه وهما {بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وأصله وإحسانا بالوالدين، والمصدر يدل من فعله والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحساناً. ولا يريبكم أنه معمول مصدر وهو لا يتقدم على عامله على مذهب البصريين لأن تلك دعوى واهية دعاهم إليها أن المصدر في معنى أن والفعل فهو في قوة الصلة ومعمول الصلة لا يتقدم عليها مع أن أن والفعل هي التي تكون في معنى المصدر لا العكس والعجب من ابن جنى كيف تابعهم في شرحه للحماسة على هذا عند قول الحماسي: وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان وعلى طريقتهم تعلق قوله {وبالوالدين} بفعل محذوف تقديره وأحسنوا وقوله {إحسانا} مصدر ويرد عليهم أن حذف عامل المصدر المؤكد ممتنع لأنه تبطل به فائدة التأكيد الحاصلة من التكرير فلا حاجة إلى جميع ذلك. وتجزم بأن المجرور مقدم على المصدر، على أن التوسع في المجرورات أمر شائع وأصل مفروغ منه، واليتامى جمع يتيم كالندامى للنديم وهو قليل في جمع فعيل. وجعل الإحسان لسائر الناس بالقول لأنه القدر الذي يمكن معاملة جميع الناس به وذلك أن أصل القول أن يكون عن اعتقاد، فهم إذا قالوا للناس حسنا فقد أضمروا لهم خيرا وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وقد علمنا الله تعالى ذلك بقوله: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: من الآية10] على أنه إذا عرض ما يوجب تكدر الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر ويرى للمقول له الصفاء فلا يعامله إلا بالصفاء قال المعري: والخل كالماء يبدي لي ضمائره . . . مع الصفاء ويخفيها مع الكدر على أن الله أمر بالإحسان الفعلي حيث يتعين ويدخل تحت قدرة المأمور وذلك الإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإيتاء الزكاة، وأمر بالإحسان القولي إذا تعذر الفعلي على حد قول أبي الطيب: فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أطلقت الزكاة على الصدقة مطلقا أو على الصدقة الواجبة على الأموال وليس المراد الكناية عن شريعة الإسلام لما علمت من أن هاته المعاطيف تابعة لبيان الميثاق وهو عهد موسى عليه السلام. وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} خطاب للحاضرين وليس بالتفات كما علمت آنفاً. والمعنى أخذنا ميثاق الأمة الإسرائيلية على التوحيد وأصول الإحسان فكنتم ممن تولى عن ذلك وعصيتم شرعاً اتبعتموه. والتولي الإعراض وإبطال ما التزموه وحذف متعلقه لدلالة ما تقدم عليه، أي توليتم عن جميع ما أخذ عليكم الميثاق به أي أشركتم بالله وعبدتم الأصنام وعققتم الوالدين وأسأتم لذوي القربى واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش القول وتركتم الصلاة ومنعتم الزكاة. ويجوز أن يكون المراد بالخطاب في توليتم المخاطبين زمن نزول الآية، وبعض من تقدمهم من متوسط عصور الإسرائيلين فيكون ضمير الخطاب تغليبا، نكتته إطهار براءة الذين أخذ عليهم العهد أولا من نكثه وهو من الإخبار بالجمع والمراد التوزيع أي توليتم فمنكم من لم يحسن للوالدين وذي القربى إلخ وهذا من صفات اليهود في عصر نزول الآية كما سيأتي في تفسير الآية التي بعدها. ومنكم من أشرك بالله وهذا لم ينقل عن يهود زمن النزول وإنما هو من صفات من تقدمهم من بعد سليمان فقد كانت من ملوك إسرائيل عبدة أصنام وتكرر ذلك فيهم مرارا كما هو مسطور في سفرى الملوك الأول والثاني من التوراة. وثم للترتيبين الترتبي والخارجي. وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} إنصاف لهم في توبيخهم ومذمتهم وإعلان بفضل من حافظ على العهد. وقوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} جملة حالية ولكونها اسمية أفادت أن الأعراض وصف ثابت لهم وعادة معروفة منهم كما أشار إليه في الكشاف وهو مبني على اعتبار اسم الفاعل مشتقا من فعل منزل اللازم ولا يقدر له متعلق ويجوز أن يقدر مشتقا من فعل حذف متعلقه تعويلا على القرينة أي {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} عن الوصايا التي تضمنت ذلك الميثاق أي توليتم عن تعمد وجرأة وقلة اكتراث بالوصايا وتركا للتدبر فيها والعمل بها.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:49 pm | |
| [86-84] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. تفنن الخطاب هنا فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة إذ عبر عنها عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن1 هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف منزلة السلف، كما تقدم لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه. والقول في {لا تسفكون} كالقول في {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} [البقرة: 83] والسفك الصب وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل {تسفكون} اقتضت أن مفعول {تسفكون} هو دماء السافكين وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه. وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] أي فليسلم بعضكم على بعض. فوجه إضافة الدماء إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر فيها مجموع الناس، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أو مفعولية أو إضافة أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع وهذا كثير في استعمال القرآن ونكتته الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية وأنها راجعة إلى شيء واحد وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة، ومثله قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي: قومي هم قتلوا أميم أخي . . . فإذا رميت بصيبني سهمي فلئن عفوت لأعفون جللا . . . ولئن سطوت لأوهنن عظمي يريد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضر بنفسه وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية وسماء اللف في القول.أي الإجمال المراد به التوزيع، وذهب صاحب الكشاف إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسبا أو دينا فكأنما قتل نفسه وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في قوله: {دماءكم} و {أنفسكم}. ----------------------------------------------- 1 في المطبوعات "القراءات". ----------------------------------------------- وقيل إن المعنى لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم، وهذا مبني على المجاز التبعي في {تسفكون} و {تخرجون} بعلاقة التسبب. وأشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليه السلام من قوله لا تقتل، لا تشته بيت قريبك فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب وعليه فإضافة ميثاق إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا بجميع ما تحتوي عليه. وقوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} مرتب ترتيبا رتبيا أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم به وشهدتم عليه فالضميران في {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} راجعان لما رجع له ضمير ميثاقكم وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم وجملة {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم التدين به. والعطف بثم في قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله {هؤلاء} لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم ها أنا ذا وها أنتم أولاء، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالبا بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهو المعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق. ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالبا أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل. ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيء عين شيء يبحث عنه في نفسه نحو أنت أبا جهل قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخنا بالجراح صريعاً ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو قال أنا يوسف وهذا أخي فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال أنا ذلك إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن ندبة: تأمل خفافا إنني أنا ذلكا1 وقول طريف العنبري: فتوسموني إنني أنا ذالكم2 وأوسع منه عندهم نحو قول أبي النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا بها التنبيه فقالوا ها أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر: إن الفتى من يقول ها أنا ذا 3 فإذا كان السبب صحح الأخبار معلوما اقتصر المتكلم على ذلك وإلا أتبع مثل ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب : الأولى {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ} الثانية {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران: 119] ومنه ها أنا ذا لديكما قاله أمية بن أبي الصلت. الثالثة {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: من الآية109]. ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضرا وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيبا كما رأيت في الأمثلة. والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبرا والجملة بعدهما حالا وقيل هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب وقيل الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه وقيل اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف. وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذا ونحوه بمفرد فقيل يكون منصوباً على الحال وقيل مرفوعاً على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله: ----------------------------------------------- 1 قبله "أقول له والرمح يأطر متنه" 2 تمامه "شاكي سلاحي في الحوادث معلم" 3 تمامه "ليس الفتى من يقول كان أبي". ----------------------------------------------- أبا حكم ها أنت نجم مجالد ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة التسهيل بقوله وها أنا ساع فيما انتدبت إليه وجاء ابن هشام في خطبة المغنى بقوله وها أنا مبيح بما أسررته واختلف النحاة أيضاً في أن وقوع الضمير بعد ها التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في التسهيل هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هو لازم صرح به في حواشي التسهيل بنقل الدماميني في الحواشي المصرية في الخطبة وفي الهاء المفردة. وقال الرضى إن دخول ها التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من شواهد الرضى: تعلمن ها لعمر الله ذا قسما . . . فاقدر بذرعك فانظر أين تنسلك وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة: ها إن تاعذرة إن لا تكن نفعت . . . فإن صاحبها قد تاه في البلد وقوله: {تقتلون} حال أو خبر وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ}. وجعل في الكشاف المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مرادا به أسلاف الحاضرين وجعل قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ} مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مرادا منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف. وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ما أمرتهم به شريعتهم1 والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقينقاع. ----------------------------------------------- 1 ابتدأ التخاذل بين اليهود بعد وفات سليمان وبيعة ابنه رحبعام ملكا على إسرائيل إذ شق عليه عصا الطاعة غلام أبيه المسمى يربعام وتحزب الأسباط عدا سبطي يهوذا وبنيامين مع يربعام وقد هم رحبعام أن يقاتل من خرج عنه فنهاه النبيء شمعيا وبذلك كف رحبعام عن القتال ورضي بمن بقي معه"إصحاح 12 ملوك أول" ولما مات رحبعام وولى ابنه "أبيا" جمع جيشا لقتال يربعام عبد جده وصارت بينهم مقاتلات كثيرة في جبل "إفرايم قيل أن القتلى من الفريقين بلغت خمسمائة ألف "إصحاح 13 الأيام الثاني" ثم نشأت بينهم حروب سنة "40" للمسيح. ----------------------------------------------- وأراد من ذلك بخاصة ما حدث بينهم في حروب بعاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تقاتل الأوس والخزرج اعتزل اليهود الفريقين زمنا طويلا والأوس مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قريظة والنضير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرج على اليهود رهائن أربعين غلاما من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم. ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم إما أن تخلوا لنا دياركم وأمَّا أن نقتل الرهائن فخشى القوم على رهائنهم واستشاروا كعب ابن أسيد القرظي فقال لهم يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأته حتى يولد له مثل أحدكم فلما أجابت قريظة والنضير عمرا بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمرو على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلى المغلوبين من ديارهم وتأسرهم، ثم لما ارتفعت الحرب جمعوا مالا وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العرب اليهود بذلك وقالت كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:49 pm | |
| {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}. الواو في قوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى} يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ} فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذكر ما أخذ عليهم العهد ما يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس من ديارهم كان في جملة المنهيات. ولك أن تجعل الواو للحال من قوله {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً} أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم. وكيفما قدرت فقوله {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} جملة حالية من قوله {يأتوكم} إما حال من معطوف وأمَّا حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فمحل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرما وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم، فجملة {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} حالية من ضمير {تفادوهم} وصدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ} وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ}. وفي قوله {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} تشنيع وتبليد لهم توهموا القربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء? وعندي أن في الآية دلالة على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتيا بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية. والأسارى بضم الهمزة جمع أسير حملا له على كسلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا كسلى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أسرى كقتلى. وقيل هو جمع نادر وليس مبنيا على حمل، كما قالوا قدامى جمع قديم. وقيل هو جمع جمع فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أسارى وهو أظهر. والأسير فعيل بمعنى مفعول من أسره إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسار هو السير من الجلد الذي يوثق به المسجون والموثوق وكانوا يوثقون المغلوبين في الحرب بسيور من الجلد، قال النابغة: لم يبق غير طريد غير منفلت . . . أو موثق في حباله القد مسلوب وقرأ الجمهور "أسارى"، وقرأه حمزة "أسرى". وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب {تفادوهم} بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصا، فاستعمال فادي هنا مسلوب المفاضلة مثل عافاه الله. وقول امرئ القيس: فعادى عداء بين ثور ونعجة . . . دراكا فلم ينضح بماء فيغسل وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف {تفدوهم} بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء، والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع، والحرام الممنوع منعا شديدا أو الممنوع منعا من قبل الدين، ولذلك قالوا الأشهر الحرم وشهر المحرم. وقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم، وسمي الإتباع والإعراض إيمانا وكفرا على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به، وإنما وقع {تؤمنون} في حيز الإنكار تنبيها على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين. والفاء عاطفة على {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} ، وما عطف عليه، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدرا دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريبا عند قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [البقرة: 87]. والفاء في قوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ. وقال عبد الحكيم إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظا، أما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيدا لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكما جديدا وأمَّا الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم. والخزي بالكسر ذل في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهو اسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع بفتح الخاء، والمراد بالخزي ما لحق اليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيب وما قدر لهم من الذل بين الأمم. وقرأ الجمهور "يردون" و "يعملون" بياء الغيبة، وقرأ عاصم في رواية عنه تردون بتاء الخطاب نظراً إلى معنى "من" وإلى قوله "منكم"، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب "يعملون" بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب. وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة.وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} موقع نظيره في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]. والقول في {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} كالقول في {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16]. والقول في {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} قريب من القول في {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}. وموقع الفاء في قوله: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} هو الترتيب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب العظيم ولا يجد نصيرا يدفع عنه أو يخفف.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:53 pm | |
| [87] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}. انتقال من الإنحاء على بني إسرائيل في فعالهم مع الرسول موسى عليه السلام بما قابلوه به من العصيان والتبرم والتعلل في قبول الشريعة وبما خالفوا من أحكام التوراة بعد موته إلى قرب مجيء الإسلام إلى الإنحاء عليهم بسوء مقابلتهم للرسل الذين أتوا بعد موسى مثل يوشع وإلياس وأرمياء وداوود مؤيدين لشريعته ومفسرين وباعثين للأمة على تجديد العمل بالشريعة مع تعدد هؤلاء الرسل واختلاف مشاربهم في الدعوة لذلك المقصد من لين وشدة، ومن رغبة ورهبة، ثم جاء عيسى مؤيدا وناسخا ومبشرا فكانت مقابلتهم لأولئك كلهم بالإعراض والاستكبار وسوء الصنيع وتلك أمارة على أنهم إنما يعرضون عن الحق لأجل مخالفة الحق اهـواءهم وإلا فكيف لم يجدوا في خلال هاته العصور ومن بين تلك المشارب ما يوافق الحق ويتمحض للنصح. وإن قوماً هذا دأبهم يرثه الخلف عن السلف لجديرون بزيادة التوبيخ ليكون هذا حجة عليهم في أن تكذيبهم للدعوة المحمدية مكابرة وحسد حتى تنقطع حجتهم إذ لو كانت معاندتهم للإسلام هي أولى فعلاتهم لأوهموا الناس أنهم ما أعرضوا إلا لما تبين لهم من بطلان فكان هذا مرتبطا بقوله {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً} [البقرة: من الآية41] ومقدمة للإنحاء عليهم في مقابلتهم للدعوة المحمدية الآتي ذكرها في قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: من الآية88]. فقوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تمهيد للمعطوف وهو قوله: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} الذي هو المبني عليه التعجب في قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} فقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تمهيد التمهيد وإلا فهو قد علم من الآيات السابقة فلا مقتضى للإعلام به استقلالا هنا ولكنه ذكر ليبني عليه ما بعده فكأنه تحصيل لما تقدم أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء موسى الكتاب وقفينا أيضاً بعده بالرسل فهو كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا. وقفي مضاعف قفا تقول قفوت فلانا إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه فهو من الأفعال المشتقة من الجوامد مثل جبهه. فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية وذلك أنك جعلته مأمورا بأن يقفو بجعل منك لا من تلقاء نفسه أي جعلته يقفوه غيره ولكون المفعول واحدا جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقا بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس التابع بالمتبوع فقالوا قفى زيدا بعمرو عوض أن يقولوا قفى زيداً عمراً. فمعنى {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أرسلنا رسلاً وقد حذف مفعول {قفينا} للعلم به وهو ضمير موسى.وقوله: {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد ذهابه أي موته، وفيه إيماء إلى التسجيل على اليهود بأن مجيء الرسل بعد موسى ليس ببدع. والجمع في الرسل للعدد والتعريف للجنس وهو مراد به تكثير قاله صاحب الكشاف أي لأن شأن لفظ الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق فلما كان الاستغراق هنا متعذرا دل على التكثير مجازا لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس كقولك لم يبق أحد في البلد لم يشهد الهلال إذا شهده جماعات كثيرة وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي. 1 وسمي أنبياء بني إسرائيل الذين من بعد موسى رسلاً مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتباراً بأن الله أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفاً شرعياً وبذلك كانوا زائدين على مطلق النبوة التي لا تعلق لها بالتشريع لا تأصيلاً ولا تفريعاً. ----------------------------------------------- 1 لأن الاستغراق العرفي منظور فيه إلى استغراق جميع الأفراد في مكان أو زمان تنزيلاً لهم منزلة الكل.وهذا جعل بمعنى الكثرة لا غير. ----------------------------------------------- وقال الباقلاني فيما نقله عنه الفخر: لا بد أن يكون هؤلاء الرسل جاءوا بشرع جديد ولو مع المحافظة على الشرع الأول أو تجديد ما اندرس منه وهو قريب مما قلناه قال تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 123] وقال: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 139] وما كان عيسى عليه السلام إلا مثلهم في أنه ما أتى بأحكام جديدة إلا شيئا قليلا وخص عيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى زيادة في التنكيل على اليهود لأنهم يكفرون به ويكذبونه ولذلك أيضاً خصه بقوله {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ولأن من جاء بعد موسى من الرسل لم يخبروا أن جبريل جاءهم بوحي وعيسى كان أوسع منهم في الرسالة. وعيسى اسم معرب من يشوع أو يسوع وهو اسم عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلبا مكانيا ليجري على وزن خفيف كراهية اجتماع ثقل العجمة وثقل ترتيب حروف الكلمة فإن حرفي علة في الكلمة وشينا والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند النطق بها فقدموا العين لأنها حلقية فهي مبدأ النطق ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سينا مهملة فلله فصاحة العربية. ومعنى يشوع بالعبرانية السيد أو المبارك. ومريم هي أم عيسى وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله لخفته ولا معنى لمريم في العربية غير العلمية إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصفة في معنى المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء لأن هاته الصفة اشتهرت بها مريم إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت بيت المقدس فلذلك يقولون امرأة مريم أي معرضة عن صفات النساء كما يقولون رجل حاتم بمعنى جواد وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف ولذلك قال رؤية: قلت لزير لم تزره مريمه1 فليس هو مشتقاً من رام يريم كما قد يتوهم. ----------------------------------------------- 1 قال في "الكشاف" وزن مريم عند النحويين مفعل لأن فعيل بفتح الفاء لم يثبت أي وثبت فعيل بكسر الفاء نحو عثير للغبار لكن الحق أن وزن فعيل ثبت قليلا منه صهين اسم مكان أعني فيختص بالأسماء الجوامد. ----------------------------------------------- وينبغي أن يكون وزنها فعيل بفتح الفاء وإن كان نادراً. 1 وعيسى عليه السلام هو ابن مريم كَوَّنَهُ اللهُ في بطنها بدون مس رجل، وأمَّهُ مريم ابنة عمران من سبط يهوذا. ولد عيسى في مدة سلطنة أغسطس ملك رومية وفي مدة حكم هيردوس على القدس من جهة سلطان الرومان وذلك في عشرين وستمائة قبل الهجرة المحمدية، وكانت ولادته بقرية تعرف ببيت لحم اليهودية، ولَمَّا بلغ ثلاثين سنة بُعِثَ رسولاً إلى بني إسرائيل وبقي في الدنيا إلى أن بلغ سنه ثلاثة وثلاثين سنة. وأمَّا مريم أمَّهُ فهي مريم ابنة عمران بن ماثان من سبط يهوذا ولدت عيسى وهي ابنة ثلاث عشرة سنة فتكون ولادتها في سنة ثلاث عشرة قبل ميلاد عيسى وتوفيت بعد أن شاخت ولا تُعرف سَنَةُ وفاتها، وكان أبوها مات قبل ولادتها فكفلها زكرياء من بني أبيا وهو زوج اليصابات خالة مريم وكان كاهناً من أحبار اليهود كما سيأتي في سورة آل عمران. والبينات صفة لمحذوف أي الآيات والمعجزات الواضحات، {وأيدناه} قويناه وشددنا عضده ونصرناه وهو مشتق من اسم جامد وهو اليد فأيد بمعنى جعله ذا يد واليد مجاز في القوة والقدرة فوزن أيد أفعل، ولك أن تجعله مشتقاً من الأيد وهو القوة فوزنه فعل. والتأييد التقوية والإقدار على العمل النفسي وهو مشتق من الأيد وهو القوة قال تعالى {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [صّ: 17] والأيد مشتق من اليد لأنها آلة القدرة والأحسن أن يكون مشتقاً من اليد أي جعله ذا يد أي قوة، والمراد هنا قوة معنوية وهي قوة الرسالة وقوة الصبر على أذى قومه وسيأتي في الأنفال قوله {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}. ----------------------------------------------- 1 الزير بكسر الزاي هو الرجل الذي يميل لمحادثة النساء ومجالستهن وياؤه منقلبة عن الواو ووزنه فعل بكسر الفاء من زار يزور. ----------------------------------------------- والروح جوهر نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس فيطلق على النفس الإنساني. وقوله مريمه: أي المرأة التي ترغب في محادثته وهذا البيت من قصيدة مدح بها أبا جعفر المنصور. الذي به حياة الإنس، ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85] ويطلق على قوة من لدن الله تعالى يكون بها عمل عجيب ومنه قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الانبياء: 91] ويطلق على جبريل كما في قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 194] وهو المراد في قوله تعالى {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} وقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ} [النبأ: 38]. والقدس بضمتين وبضم فسكون مصدر أو اسم مصدر بمعنى النزاهة والطهارة. والمقدس المطهر وتقدم في قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]. وروح القدس روح مضاف إلى النزاهة فيجوز أن يكون المراد به الروح الذي نفخ الله في بطن مريم فَتَكَوَّنَ منه عيسى وإنما كان ذلك تأييدا له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني المطهر هو الذي هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة، ويجوز أن يكون المراد به جبريل والتأييد به ظاهر لأنه الذي يأتيه بالوحي وينطق على لسانه في المهد وحين الدعوة إلى الدين وهذا الإطلاق أظهر هنا، وفي الحديث الصحيح "أن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفى أجلها". وعلى كلا الوجهين فإضافة روح إلى القدس إما من إضافة ما حقه أن يكون موصوفا إلى ما حقه أن تشتق منه الصفة ولكن اعتبر طريق الإضافة إلى ما منه اشتقاق الصفة لأن الإضافة أدل على الاختصاص بالجنس المضاف إليه لاقتضاء الإضافة ملابسة المضاف بالمضاف إليه وتلك الملابسة هنا تؤول إلى التوصيف وإلى هذا قال التفتزاني في شرح الكشاف وأنكر أن يكون المضاف إليه في مثله صفة حقيقة حتى يكون من الوصف بالمصدر. وقوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} هو المقصود من الكلام السابق، وما قبله من قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} تمهيد له كما تقدم، فالفاء للسببية والاستفهام للتعجيب من طغيانهم ومقابلتهم جميع الرسل في جميع الأزمان بمقابلة واحدة ساوى فيها الخلف السلف مما دل على أن ذلك سجية في الجميع. وتقديم همزة الاستفهام على حرف العطف المفيد للتشريك في الحكم استعمال متبع في كلام العرب وظاهره غريب لأنه يقتضي أن يكون الاستفهام متسلطا على العاطف والمعطوف وتسلط الاستفهام على حرف العطف غريب فلذلك صرفه علماء النحو عن ظاهره ولهم في ذلك طريقتان: إحداهما طريقة الجمهور قالوا همزة الاستفهام مقدمة من تأخير وقد كان موقعها بعد حرف العطف فقدمت عليه لاستحقاق الاستفهام التصدير في جملته، وإنما خصوا التقديم بالهمزة دون غيرها من كلمات الاستفهام لأن الهمزة متأصلة في الاستفهام إذ هي الحرف الموضوع للاستفهام الأكثر استعمالا فيه، وأمَّا غيرها فكلمات أشربت معنى الاستفهام منها ما هو اسم مثل أين، ومنها حرف تحقيق وهو هل فإنه بمعنى قد فلما كثر دخول همزة الاستفهام عليه حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال فأصل هل فعلت اهـل فعلت فالتقدير فأكلما جاءكم رسول فقلب، وقيل أفكلما جاءكم رسول فعلى هذه الطريقة يكون الاستفهام معطوفا وتكون الجملة معطوفة على التي قبلها أو معطوفة على محذوف بحسب ما يسمح به المقام. الطريقة الثانية طريقة صاحب الكشاف وفي مغنى اللبيب أن الزمخشري أول القائلين بها وادعى الدماميني أن الزمخشري مسبوق في هذا ولم يعين من سبقه فإنه قد جوز طريقة الجمهور وجوز أن تكون همزة الاستفهام هي مبدأ الجملة وأن المستفهم عنه محذوف دل عليه ما عطف عليه بحرف العطف والتقدير في مثله أتكذبونهم فكلما جاءكم رسول إلخ. وعلى هذه الطريقة تكون الجملة استفهامية مستأنفة محذوفا بقيتها ثم عطف عليها ما عطف، ولا أثر لهذا إلا في اختلاف الاعتبار والتقدير فأما معنى الكلام فلا يتغير على كلا الاعتبارين لأن العطف والاستفهام كليهما متوجهان إلى الجملة الواقعة بعدهما. والظاهر من كلام صاحب الكشاف في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة آل عمران {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} أن الطريقتين جائزتان في جميع مواقع الاستفهام مع حرف العطف وهو الحق وأمَّا عدم تعرضه لذلك عند آيات {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة: من الآية85] فيما مضى من هذه السورة فذلك ذهول منه وقد تداركه هنا. وعندي جواز طريقة ثالثة وهي أن يكون الاستفهام عن العطف والمعنى أتزيدون على مخالفاتكم استكباركم كلما جاءكم رسول إلخ وهذا متأت في حروف التشريك الثلاثة كما تقدم من أمثلة الواو والفاء وكقوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} في سورة يونس وقول النابغة: أثم تعذران إلى منها . . . فإني قد سمعت وقد رأيت وقد استقريت هذا الاستعمال فوجدت مواقعه خاصة بالاستفهام غير الحقيقي كما رأيت من الأمثلة. ومعنى الفاء هنا تسبب الاستفهام التعجيبي الإنكاري على ما تقرر عندهم من تقفية موسى بالرسل أي قفينا موسى بالرسل فمن عجيب أمركم أن كل رسول جاءكم استكبرتم وجوز صاحب الكشاف كون العطف على مقدر أي آتينا موسى الكتاب إلخ ففعلتم ثم وبخهم بقوله: {أفكلما}، فالهمزة للتوبيخ والفاء حينئذ عاطفة مقدرا معطوفا على المقدر المؤهل للتوبيخ، وهو وجه بعيد، ومرمى الوجهين إلى أن جملة {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} إلخ غير مراد منها الإخبار بمدلولها. وانتصب كلما بالنيابة عن الظرف لأنه أضيف إلى ما الظرفية المصدرية والعامل فيه قوله {استكبرتم}، وقدم الظرف ليكون مواليا للاستفهام المراد منه التعجيب ليظهر أن محل العجب هو استمرار ذلك منهم الدال على أنه سجية لهم وليس ذلك لعارض عرض في بعض الرسل وفي بعض الأزمنة، والتقدير أفاستكبرتم كلما جاءكم رسول فقدم الظرف للاهتمام لأنه محل العجب، وقد دل العموم الذي في كلما على شمول التكذيب أو القتل لجميع الرسل المرسلين إليهم لأن عموم الأزمان يستلزم عموم الأفراد المظروفة فيها. و {تهوى} مضارع هوى بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على العقائد الضالة. والاستكبار الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعا لهم، فالسين والتاء في: {استكبرتم } للمبالغة كما تقدم في قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] وقوله: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} مسبب عن الاستكبار فالفاء للسببية فإنهم لما استكبروا بلغ بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقا أي صرحوا بتكذيبهم أو عاملوهم معاملة الكاذب وقتلوا فريقا وهذا كقوله تعالى عن اهـل مدين: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91]. وتقديم المفعول هنا لما فيه من الدلالة على التفصيل فناسب أن يقدم ليدل على ذلك كما في قوله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [لأعراف: 30] وهذا استعمال عربي كثير في لفظ فريق وما في معناه نحو طائفة إذا وقع معمولا لفعل في مقام التقسيم نحو {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ اهـمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]. والتفصيل راجع إلى ما في قوله {رسول} من الإجمال لأن "كلما جاءكم رسول" أفاد عموم الرسول وشمل هذا موسى عليه السلام فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساءوا الظن به مرارا في أوامره الاجتهادية وحملوه على قصد التغرير بهم والسعي لإهلاكهم كما قالوا حين بلغوا البحر الأحمر. وحين أمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعال، وحين أمرهم بدخول أريحا، وغير ذلك وأمَّا بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل عيسى وقتلوا بعض الرسل مثل أشعياء وزكرياء ويحيى ابنه. وأرمياء. وجاء في {تقتلون} بالمضارع عوضاً عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9] مع ما في صيغة تقتلون من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:54 pm | |
| [88] {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ}. إمَّا عطف على قوله: {استكبرتم} أو على {كذبتم} فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على {كذبتم} من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع تكذيب وتقتيل وإعراض. وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجرى على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراض البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية1. وقد حسن الالتفات أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شؤونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم. ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم صار الخطاب جاريا مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير الغيبة. ----------------------------------------------- 1 قلت نظير هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعد إجراء صفات نقص قول الشاعر يذم من بخل في قضاء مهم: أبى لك كسب الحمد رأي مقصر . . . ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثته على الخير مرة . . . عصاها وإن همت بشر أطاعها ----------------------------------------------- على أنه يحتمل أن قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} لم يصرحوا به علناً ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 92] والقلوب مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل. والغلف بضم فسكون جمع أغلف وهو الشديد الغلاف مشتق من غلفه إذا جعل له غلافا وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يكره له. وهذا كلام كانوا يقولونه للنبي صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]. وفي الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوبا عمالا يلائمه فإن ذلك معنى الغلاف فهم يخيلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات ولذلك قال المفسرون إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان لوعته وهذان المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه. وبهذا حصل المعنيان المرادان لهم من غير حاجة إلى فرض احتمال أن يكون غلف جمع غلاف لما فيه من التكلف في حذف المضاف إليه حتى يقدر أنها أوعية للعلم والحق فلا يتسرب إليها الباطل. وقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبي صلى الله عليه وسلم فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول، فاللعنة حصلت لهم عقابا على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك الكابرة وهذا معتقد اهـل الحق من المؤمنين عدا الجبرية. وقوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} تفريع على {لعنهم} و {قليلا} صفة لمحذوف دل عليه الفعل والتقدير فإيمانا قليلا وما زائدة للمبالغة في التقليل والضمير لمجموع بني إسرائيل ويجوز أن يكون قليلا صفة للزمان الذي يستلزمه الفعل أي فحينا قليلا يؤمنون. وقليل يجوز أن يكون باقيا على حقيقته مشارا به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوة موسى أو إلى إيمان أفراد منهم في بعض الأيام فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع بني إسرائيل في أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة. ويجوز أن يكون قليلا هنا مستعملا في معنى العدم فإن القلة تستعمل في العدم في كلام العرب قال أبو كبير الهذلي: قليل التشكي للمهم يصيبه . . . كثير الهوى شتى النوى والمسالك أراد أنه لا يتشكى، وقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في أرض نصيبين كثيرة العقارب قليلة الأقارب أراد عديمة الأقارب ويقولون فلان قليل الحياء وذلك كله إما مجاز لأن القليل شبه بالعدم وأمَّا كناية وهو أظهر لأن الشيء إذا قل آل إلى الاضمحلال فكان الانعدام لازما عرفيا للقلة ادعائيا فتكون ما مصدرية والوجهان أشار إليهما في الكشاف باختصار واقتصر على الوجه الثاني منهما في تفسيره قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] في سورة النمل فقال والمعنى نفي التذكير والقلة تستعمل في معنى النفي وكأن وجه ذلك أن التذكر من شأنه تحصيل العلم فلو تذكر المشركون المخاطبون بالآية لحصل لهم العلم بأن الله واحد لا شريك له كيف وخطابهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} المقصود منه الإنكار بناء على أنهم غير معتقدين ذلك.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:55 pm | |
| [89] {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}. معطوف على قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: من الآية88] لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضا مجردا عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين.فقوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} متعلق بجاءهم وليس صفة لأنه ليس أمرا مشاهدا معلوما حتى يوصف به. وقوله: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر والقول في تفسيره قد مضى عند قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة: 41]. والاستفتاح ظاهره طلب الفتح أي النصر قال تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [لأنفال: من الآية19] وقد فسروه بأن اليهود كانوا إذا قاتلوا المشركين أي من اهـل المدينة استنصروا عليهم بسؤال الله أن يبعث إليهم الرسول الموعود به في التوراة. وجوز أن يكون {يستفتحون} بمعنى يفتحون أي يعلمون ويخبرون كما يقال فتح على القارئ أي علمه الآية التي ينساها فالسين والتاء لمجرد التأكيد مثل زيادتهما في استعصم واستصرخ واستعجب والمراد كانوا يخبرون المشركين بأن رسولا سيبعث فيؤيد المؤمنين ويعاقب المشركين. وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} أي ما كانوا يستفتحون به أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه كفروا به وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل فيشمل الكتاب والرسول الذي جاء به فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول. ووقع التعبير بما الموصولة دون من لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء لما هو أعم من العاقل. والمراد بما عرفوا القرآن أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج وإن جهلوا انطباقها على القرآن لضلالهم لأن الظاهر أن بني إسرائيل لم يكن أكثرهم يعتقد صدق القرآن وصدق الرسول وبعضهم كان يعتقد ذلك ولكنه يتناسى ويتغافل حسدا قال تعالى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] ويصير معنى الآية "وما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم" وعرفوا أنه الذي كانوا يستفتحون به على المشركين. وجملة: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} في موضع الحال وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان. وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} بالفاء عطف على جملة "كانوا يستفتحون". ولما الثانية تتنازع مع لما الأولى الجواب وهو قوله: {كفروا به} فكان موقع جملة وكانوا إلخ بالنسبة إلى كون الكتاب مصدقا موقع الحال لأن الاستنصار به أو التبشير به يناسب اعتقاد كونه "مصدقا لما معهم" وموقعها بالنسبة إلى كون الكتاب والرسول معروفين لهم بالأمارات والدلائل موقع المنشإ من المتفرع عنه مع أن مفاد جملة {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إلخ وجملة {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} إلخ واحد وإعادة لما في الجملة الثانية دون أن يقول وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فجاءهم ما عرفوا إلخ قصد إظهار اتحاد مفاد الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين حيث انفصل بالجملة الحالية فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحدا طريقة عربية فصحى، قال تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188]. وقال: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] فإعاد أنكم قبل خبر الأولى وقد عدلنا في هذا البيان عن طريقة الزجاج وطريقة المبرد وطريقة الفراء المذكورات في حاشية الخفاجي وعبد الحكيم وصغناه من محاسن تلك الطرائق كلها لما في كل طريقة منها من مخالفة للظاهر. وقوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم والدعاء من الله تعالى تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوبا بالأدعية وهذا كقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64] وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] وسيأتي بيانه عند قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] في سورة براءة. والفاء للسببية والمراد التسبب الذكرى بمعنى أن ما قبلها وهو المعطوف عليه يسبب أن ينطق المتكلم بما بعدها كقول قيس بن الخطيم: وكنت امرءا لا أسمع الدهر سبة . . . أسب بها إلا كشفت غطاءها فإني في الحرب الضروس موكل . . . بإقدام نفس ما أريد بقاءها فعطف قوله فإني على قوله كشفت غطاءها لأن هذا الحكم يوجب بيان أنه في الحرب مقدام. واللام في "الكافرين" للاستغراق بقرينة مقام الدعاء يشمل المتحدث عنهم لأنهم من جملة أفراد هذا العموم بل هم أول أفراده سبقا للذهن لأن سبب ورود العام قطعي الدخول ابتداء في العموم. وهذه طريقة عربية فصيحة في إسناد الحكم إلى العموم والمراد ابتداء بعض أفراده لأن دخول المراد حينئذ يكون بطريقة برهانية كما تدخل النتيجة في القياس قال بشامة بن حزن النهشلي: إنا محيوك يا سلمى فحيينا . . . وإن سقيت كرام الناس فاسقينا أراد الكناية عن كرمهم بأنهم يسقون حين يسقى كرام الناس.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 الثلاثاء 05 نوفمبر 2024, 4:55 pm | |
| [90] {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}. استئناف لذمهم وتسفيه رأيهم إذ رضوا لأنفسهم الكفر بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأعرضوا عن النظر فيما اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد موسى، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون أنهم مع ذلك قد استبقوا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن فهذا إيقاظ لهم نحو معرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين. و {بئسما} مركب من {بئس} و "ما" الزائدة. وفي بئس وضدها نعم خلاف في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان وفي "ما" المتصلة بهما مذاهب أحدها أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازا عن ما الموصولة فقوله: {بئسما} يفسر ببئس الشيء قاله سيبويه والكسائي. والآخر أنها موصولة قاله الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها ما وحدها كانت ما معرفة تامة نحو قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: من الآية271] أي نعم الشيء هي وإن وقعت بعد ما جملة تصلح لأن تكون صلة كانت ما معرفة ناقصة أي موصولة نحو قوله هنا {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} و"ما" فاعل "بئس". وقد يذكر بعد بئس ونعم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المدح ويسمى في علم العربية المخصوص وقد لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه فقوله: {أَنْ يَكْفُرُوا} هو المخصوص بالذم والتقدير كفرهم بآيات الله ولك أن تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا محذوف المبتدأ أو بدلا أو بيانا من ما وعليه فقوله تعالى: {اشْتَرَوْا} إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و {أَنْ يَكْفُرُوا} هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نعم الرجل فلان. والاشتراء الابتياع وقد تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: من الآية16] فقوله تعالى هنا: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأبقوا عليها بأن كفروا بالقرآن حسداً. فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لتمسكهم بالتوراة وأن قوله فيما تقدم : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة: 89] بمعنى جاءهم ما عرفوا صفته وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي بئسما هو في الواقع وأمَّا كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم وقوله: {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} هو أيضاً بحسب الواقع وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت. وإن كانوا معتقدين صدق الرسول وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} على أحد الاحتمالين المتقدمين، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق فالآية على نحو قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [البقرة: 86]. وقيل إن {اشتروا} بمعنى باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى. على أنك قد علمت إمكان الجمع بين مقتضى قوله: {ما عرفوا} وقوله هنا: {اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} فأنت في غنى عن التكلف. وعلى كلا التفسيرين يكون اشتروا مع ما تفرع عنه من قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} تمثيلاً لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران وهو تمثيل يقبل بعض أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية. وجيء بصيغة المضارع في قوله: {أَنْ يَكْفُرُوا} ولم يؤت به على ما يناسب المبين وهو {ما اشتروا} المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر بالقرآن من قبل نزول الآية فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى، ثم لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم كفروا فيما مضى أيضاً إذ كان المبين بأن يكفروا معبرا عنه بالماضي بقوله: {ما اشتروا}. وقوله: {بغيا} مفعول لأجله علة لقوله: {أَنْ يَكْفُرُوا} لأنه الأقرب إليه، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذموم، والبغي هنا مصدر بغي يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلما خاصا وهو الحسد وإنما جعل الحسد ظلما لأن الظلم هو المعاملة بغير حق والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع، ولا من بقائها ضر، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ هذا المعنى في قوله: وأظلم خلق الله من بات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب وقوله: {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ} متعلق بقوله: {بغياً} بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل {بغيا} بمعنى حسداً. فاليهود كفروا حسداً على خروج النبوءة منهم إلى العرب وهو المشار إليه بقوله تعالى: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أي فرجعوا من تلك الصفقة وهي اشتراء أنفسهم بالخسران المبين وهو تمثيل لحالهم بحال الخارج بسلعته لتجارة فأصابته خسارة فرجع إلى منزله خاسراً. شبه مصيرهم إلى الخسران برجوع التاجر الخاسر بعد ضميمة قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} والظاهر أن المراد بغضب على غضب الغضب الشديد على حد قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] أي نور عظيم وقوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} وقول أبي الطيب: أرق على أرق ومثلي يأرق وهذا من استعمال التكرير باختلاف صيغة في معنى القوة والشدة كقول الحطيئة: أنت آل شماس بن لأي وإنما . . . أتاهم بها الإحكام والحسب العد أي الكثير العدد أي العظيم وقال المعري: بني الحسب الوضاح والمفخر الجم أي العظيم قال القرطبي قال بعضهم المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم للكفر وللحسد أو للكفر بمحمد وعيسى عليهما السلام. وقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} هو كقوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] أي ولهم عذاب مهين لأنهم من الكافرين، والمهين المذل أي فيه كيفية احتقارهم. |
|
| |
| تفسير سورة البقرة من الآية 061 - 090 | |
|