| تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:54 am | |
| [110,109] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد اهـل الكتاب وخاصة اليهود منهم، وآخرتها شبهة النسخ.فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر. وقد استطرد بينه وبين الآية السابقة بقوله {مَا نَنْسَخْ} [البقرة: 106] الآيات للوجوه المتقدمة. فلأجل ذلك فصلت هاته الجملة لكونها من الجملة التي قبلها بمنزلة البيان إذ هي بيان لمنطوقها ولمفهومها، وفي تفسير ابن عطية والكشاف وأسباب النزول للواحدي أن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس1 وفيه فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس وغيرهما من اليهود فقالوا لحذيفة وعمار ألم تروا ما أصابكم يوم أحد ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير ونحن اهـدى منكم فردا عليهم وثبتا على الإسلام. والود تقدم في الآية السالفة. وإنما أسند هذا الحكم أي الكثير منهم وقد أسند قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] إلى جميعهم لأن تمنيهم أن لا ينزل دين إلى المسلمين يستلزم تمنيهم أن يتبع المشركون دين اليهود أو النصارى حتى يعم ذلك الدين جميع بلاد العرب فلما جاء الإسلام شرقت لذلك صدورهم جميعا فأما علماؤهم وأحبارهم فخابوا وعلموا أن ما صار إليه المسلمون خير مما كانوا عليه من الإشراك لأنهم صاروا إلى توحيد الله والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وفي ذلك إيمان بموسى وعيسى وإن لم يتبعوا ديننا، فهم لا يودون رجوع المسلمين إلى الشرك القديم لأن في مودة ذلك تمنى الكفر وهو رضي به. ----------------------------------------------- 1 المدارس بكسر الميم بيت تعليم التورات لتلامذة اليهود. ----------------------------------------------- وأمَّا عامة اليهود وجهلتهم فقد بلغ بهم الحسد والغيظ إلى مودة أن يرجع المسلمون إلى الشرك ولا يبقوا على هذه الحالة الحسنة الموافقة لدين موسى في معظمه نكاية بالمسلمين وبالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ اهـدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء: 50]. وفي هذا المعنى المكتنز ما يدلكم على وجه التعبير {بيردونكم} دون لو كفرتم ليشار إلى أن وداتهم أن يرجع المسلمون إلى الشرك لأن الرد إنما يكون إلى أمر سابق ولو قيل لو كفرتم لكان فيه بعض العذر لأهل الكتاب لاحتماله أنهم يودون مصير المسلمين إلى اليهودية. وبه يظهر وجه مجيء {كفارا} معمولا لمعمول {وَدَّ كَثِيرٌ} ليشار إلى أنهم ودوا أن يرجع المسلمون كفارا بالله أي كفارا كفرا متفقا عليه حتى عند اهـل الكتاب وهو الإشراك فليس ذلك من التعبير عن ما صدق ما ودوه بل هو من التعبير عن مفهوم ما ودوه. وبه يظهر أيضا وجه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} فإنه تبين أن ما عليه المسلمون حق من جهة التوحيد والإيمان بالرسل بخلاف الشرك، أو من بعد ما تبين لهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم إذا كان المراد بالكثير منهم خاصة علمائهم والله مطلع عليهم. و {لو} هنا بمعنى أن المصدرية ولذلك يؤول ما بعدها بمصدر. و {حسدا} حال من ضمير {ود} أي أن هذا الود لا سبب له إلا الحسد لا الرغبة في الكفر. وقوله {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} جيء فيه بمن الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم وصدوره عن نفوسهم. وأكد ذلك بكلمة عند الدالة على الاستقرار ليزداد بيان تمكنه وهو متعلق بحسدا لا بقوله {ود}. وإنما أمر المسلمون بالعفو والصفح عنهم في هذا الموضع خاصة لأن ما حكي عن اهـل الكتاب هنا مما يثير غضب المسلمين لشدة كراهيتهم للكفر قال تعالى {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} [الحجرات: من الآية7] فلا جرم أن كان من يود لهم ذلك يعدونه أكبر أعدائهم فلما كان هذا الخبر مثيرا للغضب خيف أن يفتكوا باليهود وذلك ما لا يريده الله منهم لأن الله أراد منهم أن يكونوا مستودع عفو وحلم حتى يكونوا قدوة في الفضائل. والعفو ترك عقوبة المذنب. والصفح بفتح الصاد مصدر صفحا إذا أعرض لأن الإنسان إذا أعرض عن شيء ولاه من صفحة وجهه، وصفح وجهه أي جانبه وعرضه وهو مجاز في عدم مواجهته بذكر ذلك الذنب أي عدم لومه وتثريبه عليه وهو أبلغ من العفو كما نقل عن الراغب ولذلك عطف الأمر به على الأمر بالعفو لأن الأمر بالعفو لا يستلزمه ولم يستغن باصفحوا لقصد التدريج في أمرهم بما قد يخالف ما تميل إليه أنفسهم من الانتقام تلطفا من الله مع المسلمين في حملهم على مكارم الأخلاق. وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي حتى يجيء ما فيه شفاء غليلكم قيل هو إجلاء بني النضير وقتل قريظة، وقيل الأمر بقتال الكتابيين أو ضرب الجزية. والظاهر أنه غاية مبهمة للعفو والصفح تطمينا لخواطر المأمورين حتى لا ييأسوا من ذهاب أذى المجرمين لهم بطلا وهذا أسلوب مسلوك في حمل الشخص على شيء لا يلائمه كقول الناس حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا فإذا جاء أمر الله بترك العفو انتهت الغاية ومن ذلك إجلاء بني النضير. ولعل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليما للمسلمين فضيلة العفو أي فإن الله قدير على كل شيء وهو يعفو ويصفح وفي الحديث الصحيح لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل يدعون له ندا وهو يرزقهم، أو أراد أنه على كل شيء قدير فلو شاء لأهلكهم الآن ولكنه لحكمته أمركم بالعفو عنهم وكل ذلك يرجع إلى الائتساء بصنع الله تعالى وقد قيل إن الحكمة كلها هي التشبه بالخالق بقدر الطاقة البشرية. فجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل مسوق مساق التعليل. وجملة {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] إلى قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ} [البقرة: من الآية111] تفريع مع اعتراض فإن الجملة المعترضة هي الواقعة بين جملتين شديدتي الاتصال من حيث الغرض المسوق له الكلام والاعتراض هو مجيء ما لم يسق غرض الكلام له ولكن للكلام والغرض به علاقة وتكميلا وقد جاء التفريع بالفاء هنا في معنى تفريع الكلام على الكلام لا تفريع معنى المدلول على المدلول لأن معنى العفو لا يتفرع عن ود اهـل الكتاب ولكن الأمر به تفرع عن ذكر هذا الود الذي هو أذى وتجيء الجملة المعترضة بالواو وبالفاء بأن يكون المعطوف اعتراضاً. وقد جوزه صاحب الكشاف عند قوله تعالى: {فَاسْأَلوا اهـلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: من الآية43] في سورة النحل، وجوزه ابن هشام في مغنى اللبيب واحتج له بقوله تعالى: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] على قول ونقل بعض تلامذة الزمخشري أنه سئل عن قوله تعالى في سورة عبس: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} أنه قال لا يصح أن تكون جملة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} اعتراضا لأن الاعتراض لا يكون مع الفاء ورده صاحب الكشاف بأنه لا يصح عنه لمنافاته كلامه في آية سورة النحل وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أريد به الأمر بالثبات على الإسلام فإن الصلاة والزكاة ركناه فالأمر بهما يستلزم الأمر بالدوام على ما أنتم عليه على طريق الكناية. وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} مناسب للأمر بالثبات على الإسلام وللأمر بالعفو والصفح وفيه تعريض باليهود بأنهم لا يقدرون قدر عفوكم وصفحكم ولكنه لا يضيع عند الله ولذلك اقتصر على قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} قال الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوائزه . . . لا يذهب العرف بين الله والناس وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تذييل لما قبله والبصير العليم كما تقدم وهو كناية عن عدم إضافة جزاء المحسن والمسيء لأن العليم القدير إذا علم شيئا فهو يرتب عليه ما يناسبه إذ لا يذهله جهل ولا يعوزه عجز وفي هذا وعد لهم يتضمن وعيدا لغيرهم لأنه إذا كان بصيرا بما يعمل المسلمون كان بصيرا بما يعمل غيرهم.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:54 am | |
| [112,111] {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. عطف على {وَدَّ كَثِيرٌ} [البقرة: 109] وما بينهما من قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: من الآية109] الآية اعتراض كما تقدم. والضمير لأهل الكتاب كلهم من اليهود والنصارى بقرينة قوله بعده: {إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى}.ومقول القول مختلف باختلاف القائل فاليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فجمع القرآن بين قوليهما على طريقة الإيجاز بجمع ما اشتركا فيه وهو نفي دخول الجنة عن المستثنى منه المحذوف لأجل تفريع الاستثناء. ثم جاء بعده تفريق ما اختص به كل فريق وهو قوله: {هُوداً أَوْ نَصَارَى}. فكلمة "أو" من كلام الحاكي في حكايته وليست من الكلام المحكي فأوهنا لتقسيم القولين ليرجع السامع كل قول إلى قائله والقرينة على أن أو ليست من مقولهم المحكي أنه لو كان من مقولهم لاقتضى أن كلا الفريقين لا ثقة له بالنجاة وأنه يعتقد إمكان نجاة مخالفه والمعلوم من حال اهـل كل دين خلاف ذلك فإن كلا من اليهود والنصارى لا يشك في نجاة نفسه ولا يشك في ضلال مخالفه وهي أيضا قرينة على تعيين كل من خبري {كَانَ} لبقية الجملة المشتركة التي قالها كل فريق بإرجاع هودا إلى مقول اليهود وإرجاع نصارى إلى مقول النصارى. فأوها هنا للتوزيع وهو ضرب من التقسيم الذي هو من فروع كونها لأحد الشيئين وذلك أنه إيجاز مركب من إيجاز الحذف لحذف المستثنى منه ولجمع القولين في فعل واحد وهو {قالوا} ومن إيجاز القصر لأن هذا الحذف لما لم يعتمد فيه على مجرد القرينة المحوجة لتقدير وإنما دل على المحذوف من القولين بجلب حرف أو كانت أو تعبيرا عن المحذوف بأقل عبارة فينبغي أن يعد قسما ثالثا من أقسام الإيجاز وهو إيجاز حذف وقصر معا. وقد جعل القزويني في تلخيص المفتاح هاته الآية من قبيل اللف والنشر الإجمالي أخذا من كلام الكشاف لقول صاحب الكشاف فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين فقوله فلف بين القولين أراد به اللف الذي هو لقب للمحسن البديعي المسمى اللف والنشر ولذلك تطلبوا لهذا اللف نشرا وتصويرا للف في الآية من قوله قالوا مع ما بينه وهو لف إجمالي يبينه نشره الآتي بعده ولذلك لقبوه اللف الإجمالي. ثم وقع نشر هذا اللف بقوله: {إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} فعلم من حرف أو توزيع النشر إلى ما يليق بكل فريق من الفريقين. وقال التفتزاني في شرح المفتاح جرى الاستعمال في النفي الإجمالي أن يذكر نشره بكلمة أو. والهود جمع هائد أي متبع اليهودية وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة: من الآية62] الآية وجمع فاعل على فعل غير كثير وهو سماعي منه قولهم عوذ جمع عائذ وهي الحديثة النتاج من الظباء والخيل والإبل ومنه أيضا عائط وعوط للمرأة التي بقيت سنين لم تلد. وحائل وحول، وبازل وبزل، وفاره وفره، وإنما جاء هودا جمعا مع أنه خبر عن ضميره "كان" وهو مفرد لأن "من" مفردا لفظا ومراد به الجماعة فجرى ضميره على مراعاة لفظه وجرى خبرا وضميرا على مراعاة المعنى. والإشارة بـ {تلك} إلى القولة الصادرة منهم {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} كما هو الظاهر فالإخبار عنها بصيغة الجمع إما لأنها لما كانت أمنية كل واحد منهم صارت إلى أماني كثيرة وإما إرادة أن كل أمانيهم كهذه ومعتادهم فيها فيكون من التشبيه البليغ. والأماني تقدمت في قوله: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] وجملة {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} معترضة. وقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أمر بأن يجابوا بهذا ولذلك فصله لأنه في سياق المحاورة كما تقدم عند قوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} [البقرة: 30] الآية وأتى بإن المفيدة للشك في صدقهم مع القطع بعدم الصدق لاستدراجهم حتى يعلموا أنهم غير صادقين حين يعجزون عن البرهان لأن كل اعتقاد لا يقيم معتقده دليل اعتقاده فهو اعتقاد كاذب لأنه لو كان له دليل لاستطاع التعبير عنه ومن باب أولى لا يكون صادقا عند من يريد أن يروج عليه اعتقاده. و"بلى" إبطال لدعواهما. و"بلى" كلمة يجاب بها المنفي لإثبات نقيض النفي وهو الإثبات سواء وقعت بعد استفهام عن نفي وهو الغالب أو بعد خبر منفي نحو {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى} [القيامة: 4: 3]. وقول أبي حية النميري: يخبرك الواشون أن لن أحبكم . . . بلى وستور الله ذات المحارم وقوله: {مَنْ أَسْلَمَ} جملة مستأنفة عن "بلى" لجواب سؤال من يتطلب كيف نقض نفي دخول الجنة عن غير هذين الفريقين أريد بها بيان أن الجنة ليست حكرة لأحد ولكن إنما يستحقها من أسلم إلخ لأن قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ} هو في معنى له دخول الجنة وهو جواب الشرط لأن من شرطية لا محالة. ومن قدر هنا فعلا بعد بلى أي يدخلها من أسلم فإنما أراد تقدير معنى لا تقدير إعراب إذ لا حاجة للتقدير هنا. وإسلام الوجه لله هو تسليم الذات لأوامر الله تعالى أي شدة الامتثال لأن أسلم بمعنى ألقى السلاح وترك المقاومة قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: من الآية20].والوجه هنا الذات عبر عن الذات بالوجه لأنه البعض الأشرف من الذات كما قال الشنفري: إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري1 ومن إطلاق الوجه على الذات قوله تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن: 27]. ----------------------------------------------- 1 مصراع بيت وتمامه: وغودر عند الملتقى ثم سائري ----------------------------------------------- وأطلق الوجه على الحقيقة تقول جاء بالأمر على وجهه أي على حقيقته قال الأعشى: وأول الحكم على وجهه . . . ليس قضاء بالهوى الجائر ووجوه الناس أشرافهم ويجوز أن يكون أسلم بمعنى أخلص مشتقا من السلامة أي جعله سالما ومنه {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]. وقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} جيء به جملة حالية لإظهار أنه لا يغني إسلام القلب وحده ولا العمل بدون إخلاص بل لا نجاة إلا بهما ورحمة الله فوق ذلك إذ لا يخلو امرؤ عن تقصير. وجمع الضمير في قوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} اعتبارا بعموم "من" كما أفرد الضمير في قوله {وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} اعتبارا بإفراد اللفظ وهذا من تفنن العربية لدفع سآمة التكرار.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 6:55 am | |
| [113] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. معطوف على قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: من الآية111] لزيادة بيان أن المجازفة دأبهم وأن رمى المخالف لهم بأنه ضال شنشنة قديمة فيهم فهم يرمون المخالفين بالضلال لمجرد المخالفة فقديما ما رمت اليهود النصارى بالضلال ورمت النصارى اليهود بمثله فلا تعجبوا من حكم كل فريق منهم بأن المسلمين لا يدخلون الجنة وفي ذلك إنحاء على اهـل الكتاب وتطمين لخواطر المسلمين ودفع الشبهة عن المشركين بأنهم يتخذون من طعن اهـل الكتاب في الإسلام حجة لأنفسهم على مناوأته وثباتا على شركهم. والمراد من القول التصريح بالكلام الدال فهم قد قالوا هذا بالصراحة حين جاء وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أعيان دينهم من النصارى1 فلما بلغ مقدمهم اليهود أتوهم وهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فناظروهم في الدين وجادلوهم حتى تسابوا فكفر بعيسى وبالإنجيل وقالوا للنصارى ما أنتم على شيء فكفر وفد نجران بموسى وبالتوراة وقالوا لليهود لستم على شيء. ----------------------------------------------- 1 نجران بفتح النون وسكون الجيم قبيلة من عرب اليمن كانوا ينزلون قرية كبيرة تسمى نجران بين اليمن واليمامة وهم على دين النصرانية ولهم الكعبة اليمانية المشهورة وهي كنيستهم التي ذكرها الأعشى في شعره. وقد وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم في ستين رجلا عليهم اثنا عشر نقيبا ورئيسهم السيد وهو عبد المسيح وأمين الوفد العاقب واسمه الأيهم وكان وفودهم في السنة الثانية من الهجرة. ----------------------------------------------- وقولهم: {عَلَى شَيْءٍ} نكرة في سياق النفي والشيء الموجود هنا مبالغة أي ليسوا على أمر يعتد به.فالشيء المنفي هو الشيء العرفي أو باعتبار صفة محذوفة على حد قول عباس ابن مرداس: وقد كنت في الحرب ذا تدرا . . . فلم أعط شيئا ولم أمنع أي لم أعط شيئا نافعا مغنيا بدليل قوله ولم أمنع، وسئل رسول الله عن الكهان فقال ليسوا بشيء، فالصيغة صيغة عموم والمراد بها في مجاري الكلام نفي شيء يعتد به في الغرض الجاري فيه الكلام بحسب المقامات فهي مستعملة مجازا كالعام المراد به الخصوص أي ليسوا على حظ من الحق فالمراد هنا ليست على شيء من الحق وذلك كناية عن عدم صحة ما بين أيديهم من الكتاب الشرعي فكل فريق من الفريقين رمى الآخر بأن ما عنده من الكتاب لاحظ فيه من الخير كما دل عليه قوله بعده {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} فإن قوله {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} جملة حالية جيء بها لمزيد التعجب من شأنهم أن يقولوا ذلك وكل فريق منهم يتلون الكتاب وكل كتاب يتلونه مشتمل على الحق لو اتبعه اهـله حق اتباعه ولا يخلو اهـل كتاب حق من أن يتبعوا بعض ما في كتابهم أو جل ما فيه فلا يصدق قول غيرهم أنهم ليسوا على شيء. وجيء بالجملة الحالية لأن دلالتها على الهيئة أقوى من دلالة الحال المفردة لأن الجملة الحالية بسبب اشتمالها على نسبة خبرية تفيد أن ما كان حقه أن يكون خبرا عدل به عن الخبر لادعاء أنه معلوم اتصاف المخبر عنه به فيؤتي به في موقع الحال المفردة على اعتبار التذكير به ولفت الذهن إليه فصار حالا له. وضمير قوله {هم} عائد إلى الفريقين وقيل عائد إلى النصارى لأنهم أقرب مذكور. والتعريف في "الكتاب" جعله صاحب الكشاف تعريف الجنس وهو يرمي بذلك إلى أن المقصود أنهم اهـل علم كما يقال لهم اهـل الكتاب في مقابلة الأميين، وحداه إلى ذلك قوله عقبه: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 113] فالمعنى أنهم تراجموا بالنسبة إلى نهاية الضلال وهم من اهـل العلم الذين لا يليق بهم المجازفة ومن حقهم الإنصاف بأن يبينوا مواقع الخطأ عند مخالفيهم. وجعل ابن عطية التعريف للعهد وجعل المعهود التوراة أي لأنها الكتاب الذي يقرأه الفريقان ووجه التعجيب على هذا الوجه أن التوراة هي أصل للنصرانية والإنجيل ناطق بحقيتها فكيف يسوغ للنصارى ادعاء أنها ليست بشيء كما فعلت نصارى نجران. وأن التوراة ناطقة بمجيء رسل بعد موسى فكيف ساغ لليهود تكذيب رسول النصارى. وإذا جعل الضمير عائدا للنصارى خاصة يحتمل أن يكون المعهود التوراة كما ذكرنا أو الإنجيل الناطق بأحقية التوراة وفي {يتلون} دلالة على هذا لأنه يصير التعجب مشربا بضرب من الاعتذار أعني أنهم يقرأون دون تدبر وهذا من التهكم وإلا لقال وهم يعلمون الكتاب وبهذا يتبين أن ليست هذه الآية واردة للانتصار لأحد الفريقين أو كليهما. وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أي يشبه هذا القول قول فريق آخر غير الفريقين وهؤلاء الذين لا يعلمون هم مقابل الذين يتلون الكتاب وأريد بهم مشركو العرب وهم لا يعلمون لأنهم أميون وإطلاق: {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} على المشركين وارد في القرآن من ذلك قوله الآتي: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118] بدليل قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 118] يعني كذلك قال اليهود والنصارى: والمعنى هنا أن المشركين كذبوا الأديان كلها اليهودية والنصرانية والإسلام والمقصود من التشبيه تشويه المشبه به بأنه مشابه لقول اهـل الضلال البحت. وهذا استطراد للإنحاء على المشركين فيما قابلوا به الدعوة الإسلامية أي قالوا للمسلمين مثل مقالة اهـل الكتابين بعضهم لبعض وقد حكى القرآن مقالتهم في قوله: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. والتشبيه المستفاد من الكاف في {كذلك} تشبيه في الادعاء على أنهم ليسوا على شيء والتقدير مثل ذلك القول الذي قالته اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون ولهذا يكون لفظ مثل قولهم تأكيدا لما أفاده كاف التشبيه وهو تأكيد يشير إلى أن المشابهة بين قول الذين لا يعلمون وبين قول اليهود والنصارى مشابهة تامة لأنهم لما قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قد كذبوا اليهود والنصارى والمسلمين. وتقديم الجار والمجرور على متعلقه وهو {قال} إما لمجرد الاهتمام ببيان المماثلة وإما ليغني عن حرف العطف في الانتقال من كلام إلى كلام إيجازا بديعا لأن مفاد حرف العطف التشريك ومفاد كاف التشبيه التشريك إذ التشبيه تشريك في الصفة. ولأجل الاهتمام أو لزيادته أكد قوله: {كذلك} بقوله {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} فهو صفة أيضا لمعمول قالوا المحذوف أي قالوا مقولا مثل قولهم. ولك أن تجعل كذلك تأكيدا لمثل قولهم وتعتبر تقديمه من تأخير والأول أظهر. وجوز صاحب الكشاف وجماعة أن لا يكون قوله: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أو قوله {كذلك} تأكيدا للآخر وأن مرجع التشبيه إلى كيفية القول ومنهجه في صدوره عن هوى، ومرجع المماثلة إلى المماثلة في اللفظ فيكون على كلامه تكريرا في التشبيه من جهتين للدلالة على قوة التشابه. وقوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} الآية جاء بالفاء لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والحسد متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها وهو خبر مراد به التوبيخ والوعيد والضمير المجرور بإضافة بين راجع إلى الفرق الثلاث وما كانوا فيه يختلفون يعم ما ذكر وغيره والجملة تذييل.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:20 am | |
| [114] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. عطف على {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] باعتبار ما سبق ذلك من الآيات الدالة على أفانين اهـل الكتاب في الجراءة وسوء المقالة أي أن قولهم هذا وما تقدمه ظلم ولا كظلم من منع مساجد الله وهذا استطراد واقع معترضا بين ذكر أحوال اليهود والنصارى لذكر مساوئ المشركين في سوء تلقيهم دعوة الإسلام الذي جاء لهديهم ونجاتهم. والآية نازلة في مشركي العرب كما في رواية عطاء عن ابن عباس وهو الذي يقتضيه قوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} الآية كما سيأتي وهي تشير إلى منع اهـل مكة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الدخول لمكة كما جاء في حديث سعد بن معاذ حين دخل مكة خفية وقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بالبيت آمنا وقد أويتم الصباء، وتكرر ذلك في عام الحديبية. وقيل نزلت في بختنصر ملك أشور وغزوه بيت المقدس ثلاث غزوات أولاها في سنة 606 قبل المسيح زمن الملك يهوياقيم ملك اليهود سبي فيها جمعا من شعب إسرائيل. والثانية بعد ثمان سنين سبي فيها رؤساء المملكة والملك يهوا كين بن يهوياقيم ونهب المسجد المقدس من جميع نفائسه وكنوزه. والثالثة بعد عشر سنين في زمن الملك صدقيا فأسر الملك وسمل عينيه وأحرق المسجد الأقصى وجميع المدينة وسبي جميع بني إسرائيل وانقرضت بذلك مملكة يهوذا وذلك سنة 578 قبل المسيح وتسمى هذه الواقعة بالسبي الثالث فهو في كل ذلك قد منع مسجد بيت المقدس من أن يذكر فيه اسم الله وتسبب في خرابه. وقيل نزلت في غزو طيطس الروماني لأورشليم سنة 79 قبل المسيح فخرب بيت المقدس وأحرق التوراة وترك بيت المقدس خرابا إلى أن بناه المسلمون بعد فتح البلاد الشامية. وعلى هاتين الروايتين الأخيرتين لا تظهر مناسبة لذكرها عقب ما تقدم فلا ينبغي بناء التفسير عليهما. والوجه هو التعويل على الرواية الأولى وهي المأثورة عن ابن عباس فالمناسبة أنه بعد أن وفي اهـل الكتاب حقهم من فضح نواياهم في دين الإسلام وأهله وبيان أن تلك شنشنة متأصلة فيهم مع كل من جاءهم بما يخالف هواهم وكان قد أشار إلى أن المشركين شابهوهم في ذلك عند قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: من الآية105] عطف الكلام إلى بيان ما تفرع عن عدم ودادة المشركين نزول القرآن فبين أن ظلمهم في ذلك لم يبلغه أحد ممن قبلهم إذ منعوا مساجد الله وسدوا طريق الهدى وحالوا بين الناس وبين زيارة المسجد الحرام الذي هو فخرهم وسبب مكانتهم وليس هذا شأن طالب صلاح الخلق بل هذا شأن الحاسد المغتاظ. والاستفهام بمن إنكاري ولما كان أصل من أنها نكرة موصوفة أشربت معنى الاستفهام وكان الاستفهام الإنكاري في معنى النفي صار الكلام من وقوع النكرة في سياق النفي فلذلك فسروه بمعنى لا أحد أظلم. والظلم الاعتداء على حق الغير بالتصرف فيه بما لا يرضى به ويطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه والمعنيان صالحان هنا. وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم أتوا بظلم عجيب فقد ظلموا المسلمين من المسجد الحرام وهم أحق الناس به وظلموا أنفسهم بسوء السمعة بين الأمم. وجمع المساجد وإن كان المشركون منعوا الكعبة فقط إما للتعظيم فإن الجمع يجيء للتعظيم كقوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] وإما لما فيه من أماكن العبادة وهي البيت والمسجد الحرام ومقام إبراهيم والحطيم، وأمَّا لما يتصل به أيضا من الخيف ومنى والمشعر الحرام وكلها مساجد والإضافة على هذه الوجوه على معنى لام التعريف العهدي، وإما لقصد دخول جميع مساجد الله لأنه جمع تعرف بالإضافة ووقع في سياق منع الذي هو في معنى النفي ليشمل الوعيد كل مخرب لمسجد أو مانع من العبادة بتعطيله عن إقامة العبادات ويدخل المشركون في ذلك دخولا أوليا على حكم ورود العام على سبب خاص والإضافة على هذا الوجه على معنى لام الاستغراق ولعل ضمير الجمع المنصوب في قوله: {أَنْ يَدْخُلُوهَا} يؤيد أن المراد من المساجد مساجد معلومة لأن هذا الوعيد لا يتعدى لكل من منع مسجدا إذ هو عقاب دنيوي لا يلزم اطراده في أمثال المعاقب. والمراد من المنع منع العبادة في أوقاتها الخاصة بها كالطواف والجماعة إذا قصد بالمنع حرمان فريق من المتأهلين لها منها. وليس منه غلق المساجد في غير أوقات الجماعة لأن صلاة الفذ لا تفضل في المسجد على غيره، وكذلك غلقها من دخول الصبيان والمسافرين للنوم، وقد سئل ابن عرفة في درس التفسير عن هذا فقال: غلق باب المسجد في غير أوقات الصلاة حفظ وصيانة اهـ. وكذلك منع غير المتأهل لدخوله وقد منع رسول الله المشركين الطواف والحج ومنع مالك الكافر من دخول المسجد ومعلوم منع الجنب والحائض. والسعي أصله المشي ثم صار مجازا مشهورا في التسبب المقصود كالحقيقة العرفية نحو {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات: 22] ويعدى بفي الدالة على التعليل نحو: سعيت في حاجتك فالمنع هنا حقيقة على الرواية الأولى المتقدمة في سبب النزول والسعي مجاز في التسبب غير المقصود فهو مجاز على مجاز. وأمَّا على الروايتين الأخريين فالمنع مجاز والسعي حقيقة لأن بختنصر وطيطس لم يمنعا أحدا من الذكر ولكنهما تسببا في الخراب بالأمر بالتخريب فأفضى ذلك إلى المنع وآل إليه. وقوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} جملة مستأنفة تغني عن سؤال ناشئ عن قوله: {مَنْ أَظْلَمُ} أو عن قوله {سعى} لأن السامع إذا علم أن فاعل هذا أظلم الناس أو سمع هذه الجرأة وهي السعي في الخراب تطلب بيان جزاء من اتصف بذلك أو فعل هذا. ويجوز كونها اعتراضا بين {مَنْ أَظْلَمُ} وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}. والإشارة بأولئك بعد إجراء الأوصاف الثلاثة عليهم للتنبيه على أنهم استحضروا بتلك الأوصاف ليخبر عنهم بعد تلك الإشارة بخبرهم جديرون بمضمونه على حد ما تقدم في {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [ البقرة: 5] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الجمل ليس هو بيان جزاء فعلهم أو التحذير منه بل المقصود بيان هاته الحالة العجيبة من أحوال المشركين بعد بيان عجائب اهـل الكتاب ثم يرتب العقاب على ذلك حتى تعلم جدارتهم به وقد ذكر لهم عقوبتين دنيوية وهي الخوف والخزي وأخروية وهي العذاب العظيم. ومعنى: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} أنهم لا يكون لهم بعد هذه الفعلة أن يدخلوا تلك المساجد التي منعوها إلا وهم خائفون فإن ما كان إذا وقع أن والمضارع في خبرها تدل على نفي المستقبل وإن كان لفظ كان لفظ الماضي وأن هذه هي التي تستتر عند مجيء اللام نحو {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} فلا إشعار لهذه الجملة بمضي. واللام في قوله {لهم} للاستحقاق أي ما كان يحق لهم الدخول في حالة إلا في حالة الخوف فهم حقيقون بها وأحرياء في علم الله تعالى وهذا وعيد بأنهم قدر الله عليهم أن ترفع أيديهم من التصرف في المسجد الحرام وشعائر الله هناك وتصير للمسلمين فيكونوا بعد ذلك لا يدخلون المسجد الحرام إلا خائفين، ووعد للمؤمنين وقد صدق الله وعده فكانوا يوم فتح مكة خائفين وجلين حتى نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم من دخل المسجد الحرام فهو آمن فدخله الكثير منهم مذعورين أن يؤخذوا بالسيف قبل دخولهم. وعلى تفسير: {مَسَاجِدَ اللَّهِ} بالعموم يكون قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا} أي منعوا مساجد الله في حال أنهم كان ينبغي لهم أن يدخلوها خاشعين من الله فيفسر الخوف بالخشعية من الله فلذلك كانوا ظالمين بوضع الجبروت في موضع الخضوع فاللام على هذا في قوله {مَا كَانَ لَهُمْ} للاختصاص وهذا الوجه وإن فرضه كثير مل المفسرين إلا أن مكان اسم الإشارة المؤذن بأن ما بعده ترتب عما قبله ينافيه لأن هذا الابتغاء متقرر وسابق على المنع والسعي في الخراب. وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} استئناف ثان ولم يعطف على ما قبله ليكون مقصودا بالاستئناف اهـتماما به لأن المعطوف لكونه تابعا لا يهتم به السامعون كمال الاهتمام ولأنه يجري من الاستئناف الذي قبله مجرى البيان من المبين فإن الخزي خوف والخزي الذل والهوان وذلك ما نال صناديد المشركين يوم بدر من القتل الشنيع والأسر، وما نالهم يوم فتح مكة من خزي الانهزام. وقوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} عطفت على ما قبلها لأنها تتميم لها إذ المقصود من مجموعهما أن لهم عذابين عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة. وعندي أن نزول هذه الآية مؤذن بالاحتجاج على المشركين من سبب انصراف النبي عن استقبال الكعبة بعد هجرته فإن منعهم المسلمين من المسجد الحرام أشد من استقبال غير الكعبة في الصلاة على حد قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ اهـلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217].
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:21 am | |
| [115] {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]. لما جاء بوعيدهم ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة ونكاية المشركين بفسخ ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبين أن الأرض كلها لله تعالى وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى وتذكر نعمه وآياته العظيمة فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فأينما تولى فقد صادف رضي الله تعالى وإذا كانت وجهته الكفر والغرور والظلم فما يغنى عنه العياذ بالمواضع المقدسة بل هو فيها دخيل لا يلبث أن يقلع منها قال تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [لأنفال: 34] وقال صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل: "نحن أحق بموسى منهم". فالمراد من {الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} في الآية تعميم جهات الأرض لأنها تنقسم بالنسبة إلى مسير الشمس قسمين قسم يبتدئ من حيث تطلع الشمس وقسم ينتهي في حيث تغرب وهو تقسيم اعتباري كان مشهورا عند المتقدمين لأنه المبني على المشاهدة مناسب لجميع الناس والتقسيم الذاتي للأرض هو تقسيمها إلى شمالي وجنوبي لأنه تقسيم ينبني على اختلاف آثار الحركة الأرضية. وقد قيل إن هذه الآية إذن للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يتوجه في الصلاة إلى أية جهة شاء، ولعل مراد هذا القائل أن الآية تشير إلى تلك المشروعية لأن الظاهر أن الآية نزلت قبيل نسخ استقبال بيت المقدس إذ الشأن توالي نزول الآيات وآية نسخ القبلة قريبة الموقع من هذه، والوجه أن يكون مقصد الآية عاما كما هو الشأن فتشمل الهجرة من مكة والانصراف عن استقبال الكعبة. وتقديم الظرف للاختصاص أي أن الأرض لله تعالى فقط لا لهم، فليس لهم حق في منع شيء منها عن عباد الله المخلصين. و {وَجْهُ اللَّهِ} بمعنى الذات وهو حقيقة لغوية تقول: لوجه زيد أي ذاته كما تقدم عند قوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] وهو هنا كناية عن عمله فحيث أمرهم باستقبال بيت المقدس فرضاه منوط بالامتثال لذلك. وهو أيضا كناية رمزية عن رضاه بهجرة المؤمنين في سبيل الدين لبلاد الحبشة ثم للمدينة ويؤيد كون الوجه بهذا المعنى قوله في التذييل {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فقوله {واسع} تذييل لمدلول {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} والمراد سعة ملكه أو سعة تيسيره والمقصود عظمة الله وأنه لا جهة له وإنما الجهات التي يقصد منها رضي الله تفضل غيرها وهو عليم بمن يتوجه لقصد مرضاته وقد فسرت هذه الآية بأنها المراد بها القبلة في الصلاة.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:22 am | |
| [116] {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}. الضمير المرفوع بقالوا عائد إلى جميع الفرق الثلاث وهي اليهود والنصارى والذين لا يعلمون إشارة إلى ضلال آخر اتفق فيه الفرق الثلاث، وقد قرئ بالواو وقالوا على أنه معطوف على قوله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ] [البقرة: 113] وهي قراءة الجمهور. وقرأه ابن عامر بدون واو عطف وكذلك ثبتت الآية في المصحف الإمام الموجه إلى الشام فتكون استئنافا كأن السامع بعد أن سمع ما مر من عجائب هؤلاء الفرق الثلاث جمعا وتفريقا تسنى له أن يقول لقد أسمعتنا من مساويهم عجبا فهل انتهت مساويهم أم لهم مساو أخرى لأن ما سمعناه مؤذن بأنها مساو لا تصدر إلا عن فطر خبيثة. وقد اجتمع على هذه الضلالة الفرق الثلاث كما اتفقوا على ما قبلها، فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال المشركون الملائكة بنات الله فتكون هاته الآية رجوعا إلى جمعهم في قرن إتماما لجمع أحوالهم الواقع في قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ اهـلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: من الآية105] وفي قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] وقد ختمت هذه الآية بآية جمعت الفريق الثالث في مقالة أخرى وذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} إلى قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]. والقول هنا على حقيقته وهو الكلام اللساني ولذلك نصب الجملة وأريد أنهم اعتقدوا ذلك أيضا لأن الغالب في الكلام أن يكون على وفق الاعتقاد. وقوله {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} جاء بلفظ "اتخذ" تعريضا بالاستهزاء بهم بأن كلامهم لا يلتئم لأنهم أثبتوا ولدا لله ويقولون اتخذه الله. والاتخاذ الاكتساب وهو ينافي الولدية إذ الولدية تولد بدون صنع فإذا جاء الصنع جاءت العبودية لا محالة وهذا التخالف هو ما يعبر عنه في علم الجدل بفساد الوضع وهو أن يستنتج وجود الشيء من وجود ضده كما يقول قائل القتل جناية عظيمة فلا تكفر مثل الردة. وأصل هذه المقالة بالنسبة للمشركين ناشيء عن جهالة وبالنسبة لأهل الكتابين ناشئ عن توغلهما في سوء فهم الدين حتى توهموا التشبيهات والمجازات حقائق فقد ورد وصف الصالحين بأنهم أبناء الله على طريقة التشبيه وورد في كتاب النصارى وصف الله تعالى بأنه أبو عيسى وأبو الأمة فتلقفته عقول لا تعرف التأويل ولا نؤيد اعتقادها بواضح الدليل فظنته على حقيقته. جاء في التوراة في ألإصحاح 14 من سفر التثنية أنتم أولاد للرب إلهكم لا تخمشوا أجسامكم وفي إنجيل متى الإصحاح 5 طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون وفيه وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات وفي الإصحاح 6 انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها وتكرر ذلك في الأناجيل غير مرة ففهموها بسوء الفهم على ظاهر عبارتها ولم يراعوا أصول الديانة التي توجب تأويلها ألا ترى أن المسلمين لما جاءتهم أمثال هاته العبارات أحسنوا تأويلها وتبينوا دليلها كما في الحديث الخلق عيال الله. وقوله {سبحانه} تنزيه لله عن شنيع هذا القول. وفيه إشارة إلى أن الولدية نقص بالنسبة إلى الله تعالى وإن كانت كمالا في الشاهد لأنها إنما كانت كمالا في الشاهد من حيث إنها تسد بعض نقائصه عند العجز والفقر وتسد مكانه عند الاضمحلال والله منزه عن جميع ذلك فلو كان له ولد لآذن بالحدوث وبالحاجة إليه. وقوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إضراب عن قولهم لإبطاله، وأقام الدليل على الإبطال بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالجملة استئناف ابتدائي واللام للملك "وما في السماوات والأرض" أي ما هو موجود فإن السماوات والأرض هي مجموع العوالم العلوية والسفلية. وما من صيغ العموم تقع على العاقل وغيره على المجموع وهذا هو الأصح الذي ذهب إليه في المفصل واختاره الرضي. وقيل ما تغلب أو تختص بغير العقلاء ومن يختص بالعقلاء وربما استعمل كل منهما في الآخر وهذا هو المشتهر بين النحاة وإن كان ضعيفا وعليه فهم يجيبون على نحو هاته الآية بأنها من قبيل التغليب تنزيلا للعقلاء في كونهم من صنع الله بمنزلة مساوية لغيره من بقية الموجودات تصغيرا لشأن كل موجود. والقنوت الخضوع والانقياد مع خوف وإنما جاء {قانتون} بجمع المذكر السالم المختص بالعقلاء تغليبا لأنهم اهـل القنوت عن إرادة وبصيرة. والمضاف إليه المحذوف بعد كل دل عليه قوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي كل ما في السماوات والأرض أي العقلاء له قانتون وتنوين كل تنوين عوض عن المضاف إليه وسيأتي بيانه عند قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: من الآية148] في هذه السورة. وفي قوله: {لَهُ قَانِتُونَ} حجة ثالثة على انتفاء الولد لأن الخضوع من شعار العبيد أما الولد فله إدلال على الوالد وإنما يبر به ولا يقنت، فكان إثبات القنوت كناية عن انتفاء الولدية بانتفاء لازمها لثبوت مساوي نقيضه ومساوي النقيض نقيض وإثبات النقيض يستلزم نفي ما هو نقيض له. وفصل جملة {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} لقصد استقلالها بالاستدلال حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وقد استدل بها بعض الفقهاء على أن من ملك ولده أعتق عليه لأن الله تعالى جعل نفي الولدية بإثبات العبودية فدل ذلك على تنافي الماهيتين وهو استرواح حسن.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:23 am | |
| [117] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. هو بالرفع خبر لمحذوف على طريقة حذف المسند إليه لاتباع الاستعمال كما تقدم في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ} [البقرة: 18] وذلك من جنس ما يسمونه بالنعت المقطوع. والبديع مشتق من الإبداع وهو الإنشاء على غير مثال فهو عبارة عن إنشاء المنشآت على غير مثال سابق وذلك هو خلق أصول الأنواع وما يتولد من متولداتها فخلق السماوات إبداع وخلق الأرض إبداع وخلق آدم إبداع وخلق نظام التناسل إبداع، وهو فعيل بمعنى فاعل فقيل هو مشتق من بدع المجرد مثل قدر إذا صح وورد بدع بمعنى قدر بقلة أو هو مشتق من أبدع ومجيء فعيل من أفعل قليل، ومنه قول عمرو بن معد يكرب: أمن ريحانة الداعي السميع . . . يؤرقني وأصحابي هجوع1 يريد المسمع. ومنه أيضا قول كعب بن زهير: سقاك بها المأمون كأسا روية . . . فأنهلك المأمون منها وعلك أي كأسا مروية. فيكون هنا مما جاء قليلا وقد قدمنا الكلام عليه في قوله تعالى {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]. ويأتي في قوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} [البقرة: 119] وقد قيل في البيت تأويلات متكلفة والحق أنه استعمال قليل حفظ في ألفاظ من الفصيح غير قليلة مثل النذير والبشير إلا أن قلته لا تخرجه عن الفصاحة لأن شهرته تمنع من جعله غريباً. وأمَّا كونه مخالفا للقياس فلا يمنع من استعماله إلا بالنسبة إلى المولد إذا أراد أن يقيس عليه في مادة أخرى. وذهب صاحب الكشاف إلى أن بديع هنا صفة مشبهة مأخوذ من بدع بضم الدال أي كانت البداعة صفة ذاتية له بتأويل بداعة السماوات والأرض التي هي من مخلوقاته فأضيفت إلى فاعلها الحقيقي على جعله مشبها بالمفعول به وأجريت الصفة على اسم الجلالة ليكون ضميره فاعلا لفظا على نحو زيد حسن الوجه كما يقال فلان بديع الشعر، أي بديعة سماواته. ----------------------------------------------- 1 أغار الصمت بن بكر الجشمي في خيل من قيس على بني زبيد رهط عمرو فسبى الصمة بن بكر ريحانة أخت عمرو ولم يستطع عمرو افتكاكها منه فرغب من الصمة أن يردها إليه فابى وذهب بها وهي تنادي ياعمرو ياعمرو فقال عمرو هاته الأبيات وبعدها: سباها الصمة الجشمي غصبا . . . كأن بياض غرتها صديع وحالت دونها فرسان قيس . . . تكشف عن سواعدها الدروع إذا لم تستطع شيئا فدعه . . . وجاوزه إلى ما تستطيع وكله للزمان فكل خطب . . . سما لك أو سموت له ولوع هذا هو الصحيح وللروات في هذه القصة اختلافات لا يعتد بها. ----------------------------------------------- وأمَّا بيت عمرو فإنما عينوه للتنظير ولم يجوزوا فيه احتمال أن يكون السميع بمعنى المسموع لوجوه أحدهما أنه لم يرد سميع بمعنى مسموع مع أن فعيلا بمعنى مفعول غير مطرد. الثاني أن سميع وصفا للذات وهو الداعي وحكم سمع إذا دخلت على ما لا يسمع أن تصير من أخوات ظن فيلزم مجيء مفعول ثان بعد النائب المستتر وهو مفقود. الثالث أن المعنى ليس على وصف الداعي بأنه مسموع بل على وصفه بأنه مسمع أي الداعي القاصد للإسماع المعلن لصوته وذلك مؤذن بأنه داع في أمر مهم. ووصف الله تعالى ببديع السماوات والأرض مراد به أنه بديع السماوات والأرض من المخلوقات وفي هذا الوصف استدلال على نفي بنوة من جعلوه ابنا لله تعالى لأنه تعالى لما كان خالق السماوات والأرض وما فيهما. فلا شيء من تلك الموجودات اهـل لأن يكون ولدا له بل جميع ما بينهما عبيد لله تعالى كما تقدم في قوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 116] ولهذا رتب نفي الولد على كونه بديع السماوات والأرض في سورة الأنعام [10] بقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}. وقوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إلخ كشف لشبهة النصارى واستدلال على أنه لا يتخذ ولدا بل يكون الكائنات كلها بتكوين واحد وكلها خاضعة لتكوينه وذلك أن النصارى توهموا أن مجيء المسيح من غير أب دليل على أنه ابن الله فبين الله تعالى أن تكوين أحوال الموجودات من لا شيء أعجب من ذلك وأن كل ذلك راجع إلى التكوين والتقدير سواء في ذلك ما وجد بواسطة تامة أو ناقصة أو بلا واسطة قال تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فليس تخلق عيسى من أم دون أب بموجب كونه ابن الله تعالى. و"كان" في الآية تامة لا تطلب خبرا أي يقول له إيجد فيوجد والظاهر أن القول والمقول. والمسبب هنا تمثيل لسرعة وجود الكائنات عند تعلق الإرادة والقدرة بهما بأن شبه فعل الله تعالى بتكوين شيء وحصول المكون عقب ذلك بدون مهلة بتوجه الآمر للمأمور بكلمة الأمر وحصول امتثاله عقب ذلك لأن تلك أقرب الحالات المتعارفة التي يمكن القريب بها في الأمور التي لا تتسع اللغة للتعبير عنها وإلى نحو هذا مال صاحب الكشاف ونظره بقول أبي النجم: إذ قالت الأنساع للبطن ألحق . . . قدما فآضت كالفنيق المحنق1 والذي يعين كون هذا تمثيلا أنه لا يتصور خطاب من ليس بموجود بأن يكون موجودا فليس هذا التقرير الصادر من الزمخشري مبنيا على منع المعتزلة قيام صفة الكلام بذاته تعالى إذ ليس في الآية ما يلجئهم إلى اعتبار قيام صفة الكلام إذ كان يمكنهم تأويله بما تأولوا به آيات كثيرة ولذلك سكت عنه ابن المنير خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:23 am | |
| [118] {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} عطف على قوله { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} المعطوف على قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى} [البقرة: 113]. لمناسبة اشتراك المشركين واليهود والنصارى في الأقوال والعقائد الضالة إلا أنه قدم قول اهـل الكتاب في الآية الماضية وهي {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} لأنهم الذين ابتدأوا بذلك أيام مجادلتهم في تفاضل أديانهم ويومئذ لم يكن للمشركين ما يوجب الاشتغال بذلك إلى أن جاء الإسلام فقالوا مثل قول اهـل الكتاب. وجمع الكل في {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} إلا أنه لم يكن فريق من الثلاثة فيه مقتبسا من الآخر بل جميعه ناشئ من الغلو في تقديس الموجودات الفاضلة ومنشؤه سوء الفهم في العقيدة سواء كانت مأخوذة من كتاب كما تقدم في منشأ قول اهـل الكتابين: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} أم مأخوذة من أقوال قادتهم كما قالت العرب: الملائكة بنات الله. وقدم قول المشركين هنا لأن هذا القول أعلق بالمشركين إذ هو جديد فيهم وفاش بينهم. فلما كانوا مخترعي هذا القول نسب إليهم، ثم نظر بهم الذين من قبلهم وهم اليهود والنصارى. إذ قالوا مثل ذلك لرسلهم. و {لولا} هنا حرف تحضيض قصد منه التعجيز والاعتذار عن عدم الإصغاء للرسول استكبارا بأن عدوا أنفسهم أحرياء بالرسالة وسماع كلام الله تعالى وهذا مبالغة في الجهالة لا يقولها اهـل الكتاب الذين أثبتوا الرسالة والحاجة إلى الرسل. ----------------------------------------------- 1 الأنساع جمع نسع وهو الحزام الذي يشد على بطن الراحلة. ومعنى قولها للبطن ألحق أنها شدت على البطن حتى ضمر البطن والتحق بالظهر. والقدم بضم القاف وضم الدال المضي سريعا وسكنه للضرورة والفنيق؛ الفحل. والمحنق: الضامر ----------------------------------------------- وقوله: {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} أرادوا مطلق آية فالتنكير للنوعية وحينئذ فهو مكابرة وجحود لما جاءهم من الآيات وحسبك بأعظمها وهو القرآن وهذا هو الظاهر من التنكير وقد سألوا آيات مقترحات: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الاسراء: 90] الآيات وهم يحسبون أن الآيات هي عجائب الحوادث أو المخلوقات وما دروا أن الآية العلمية العقلية أوضح المعجزات لعمومها ودوامها وقد تحداهم الرسول بالقرآن فعجزوا عن معارضته وكفاهم بذلك آية لو كانوا اهـل إنصاف. وقوله: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} أي كمثل مقالتهم هذه قال الذين من قبلهم من الأمم مثل قولهم والمراد بالذين من قبلهم اليهود والنصارى فقد قال اليهود لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: من الآية55] وسأل النصارى عيسى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]. وفي هذا الكلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله ولذلك أردفت هذه الآية بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 119] الآية. ثم يجوز أن تكون جملة: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } واقعة موقع الجواب لمقالة الذين لا يعلمون وهو جواب إجمالي اقتصر فيه على تنظير حالهم بحال من قبلهم فيكون ذلك التنظير كناية عن الإعراض عن جواب مقالهم وأنه لا يستأهل أن يجاب لأنهم ليسوا بمرتبة من يكلمهم الله وليست أفهامهم بأهل لإدراك ما في نزول القرآن من أعظم آية وتكون جملة: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} تقريرا أي تشابهت عقولهم في الأفن وسوء النظر. وتكون جملة {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} تعليلا للإعراض عن جوابهم بأنهم غير اهـل للجواب لأن اهـل الجواب هم القوم الذين يوقنون وقد بينت لهم آيات القرآن بما اشتملت عليه من الدلائل، وأمَّا هؤلاء فليسوا اهـلا للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم المكابرة. ويجوز أن تكون جملة {كذلك} قال إلى آخرها معترضة بين جملة {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وبين جملة {قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ} وتجعل جملة {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ} هي الجواب عن مقالتهم والمعنى لقد أتتكم الآية وهي آيات القرآن ولكن لا يعقلها إلا الذين يوقنون أي دونكم فيكون على وزان قوله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]. ووقع الإعراض عن جواب قولهم : {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} لأنه بديهي البطلان كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21]. والقول في مرجع التشبيه والمماثلة من قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} على نحو القول في الآية الماضية {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113]. وقوله {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} تقرير لمعنى {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}، أي كانت عقولهم متشابهة في الأفن وسوء النظر فلذا اتحدوا في المقالة. فالقلوب هنا بمعنى العقول كما هو المتعارف في اللغة العربية. وقوله {تشابهت} صيغة من صيغ التشبيه وهي أقوى فيه من حروفه وأقرب بالتشبيه البليغ، ومن محاسن ما جاء في ذلك قول الصابيء: تشابه دمعي إذ جرى ومداميتي . . . فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب وفي هذه الآية جعلت اليهود والنصارى مماثلين للمشركين في هذه المقالة لأن المشركين أعرق فيها إذ هم أشركوا مع الله غيره فليس ادعاؤهم ولدا لله بأكثر من ادعائهم شركة الأصنام مع الله في الإلهية فكان اليهود والنصارى ملحقين بهم لأن دعوى الابن لله طرأت عليهم ولم تكن من أصل ملتهم وبهذا الأسلوب تأتي الرجوع إلى بيان أحوال اهـل الكتابين الخاصة بهم وذلك من رد العجز على الصدر. وجيء بالفعل المضارع في {يوقنون} لدلالته على التجدد والاستمرار كناية عن كون الإيمان خلقا لهم فأما الذين دأبهم الإعراض عن النظر والمكابرة بعد ظهور الحق فإن الإعراض يحول دون حصول اليقين والمكابرة تحول عن الانتفاع به فكأنه لم يحصل فأصحاب هذين الخلقين ليسوا من الموقنين. وتبين الآيات هو ما جاء من القرآن المعجز للبشر الذي تحدى به جميعهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله كما تقدم، وفي الحديث ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة فالمعنى قد بينا الآيات لقوم من شأنهم أن يوقنوا ولا يشككوا أنفسهم أو يعرضوا حتى يحول ذلك بينهم وبين الإيقان أو يكون المعنى قد بينا الآيات لقوم يظهرون اليقين ويعترفون بالحق لا لقوم مثلكم من المكابرين.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:24 am | |
| [119] {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119]. جملة معترضة بين حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب القصد منها تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام من أسفه على ما لقيه من اهـل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين وقد كان يود أن يؤمن به اهـل الكتاب فيتأيد بهم الإسلام على المشركين فإذا هو يلقي منهم ما لقي من المشركين أو أشد وقد قال لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم فكان لتذكير الله إياه بأنه أرسله تهدئة لخاطره الشريف وعذر له أبلغ الرسالة وتطمين لنفسه بأنه غير مسئول عن قوم رضوا لأنفسهم بالجحيم. وفيه تمهيد للتأسيس من إيمان اليهود والنصارى. وجيء بالتأكيد وإن كان النبي لا يتردد في ذلك لمزيد الاهتمام بهذا الخبر وبيان أنه ينوه به لما تضمنه من تنويه شأن الرسول. وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم بعز الحضور لمقام التكلم مع الخالق تعالى وتقدس كأن الله يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة فلذا لم يقل له إن الله أرسلك. وقوله: {بالحق} متعلق بأرسلناك. والحق هو الهدى والإسلام والقرآن وغير ذلك من وجوه القرآن والمعجزات وهي كلها ملابسة للنبيء صلى الله عليه وسلم في رسالته بعضها بملابسة التبليغ وبعضها بملابسة التأييد. فالمعنى أنك رسول الله وأن القرآن حق منزل من الله. وقوله: {بَشِيراً وَنَذِيراً} حالان وهما بزنة فعيل بمعنى فاعل مأخوذان من بشر المضاعف وأنذر المزيد فمجيئهما من الرباعي على خلاف القياس كالقول في: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: من الآية117] المتقدم آنفا وقيل البشير مشتق من بشر المخفف الشين من باب نصر ولا داعي إليه. وقوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} الواو للعطف وهو إما على جملة {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} أو على الحال في قوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} ويجوز كون الواو للحال. قرأ نافع ويعقوب بفتح الفوقية وسكون اللام على أن لا حرف نهي جازم للمضارع وهو عطف إنشاء على خبر والسؤال هنا مستعمل في الاهتمام والتطلع إلى معرفة الحال مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم لأن المعنى بالشيء المتطلع لمعرفة أحواله يكثر من السؤال عنه. أو هو كناية عن فظاعة أحوال المشركين والكافرين حتى أن المتفكر في مصير حالهم ينهى عن الاشتغال بذلك لأنها أحوال لا يحيط بها الوصف ولا يبلغ إلى كنهها العقل في فظاعتها وشناعتها، وذلك أن النهي عن السؤال يرد لمعنى تعظيم أمر المسؤول عنه نحو قول عائشة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ولهذا شاع عند اهـل العلم إلقاء المسائل الصعبة بطريقة السؤال نحو "فإن قلت" للاهتمام. وقرأه جمهور العشرة بضم الفوقية ورفع اللام على أن لا نافية اي لا يسألك الله عن أصحاب الجحيم وهو تقرير لمضمون {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} والسؤال كناية عن المؤاخذة واللوم مثل قوله صلى الله عليه وسلم "وكلكم مسؤول عن رعيته" أي لست مؤاخذا ببقاء الكافرين على كفرهم بعد أن بلغت لهم الدعوة. وما قيل أن الآية نزلت في نهيه صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه في الآخرة فهو استناد لرواية واهية ولو صحت لكان حمل الآية على ذلك مجافيا للبلاغة إذ قد علمت أن قوله {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} تأنيس وتسكين فالإتيان معه بما يذكر المكدرات خروج عن الغرض وهو مما يعبر عنه بفساد الوضع.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 السبت 09 نوفمبر 2024, 7:24 am | |
| [120] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ اهـوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}. عطف على قوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: من الآية119] أو على: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [البقرة: من الآية119] وقد جاء هذا الكلام المؤيس من إيمانهم بعد أن قدم قبله التأنيس والتسلية على نحو مجيء العتاب بعد تقديم العفو في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: من الآية43] وهذا من كرامة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم. والنفي بلن مبالغة في التأنيس لأنها لنفي المستقبل وتأييده. والملة بكسر الميم الدين والشريعة وهي مجموع عقائد وأعمال يلتزمها طائفة من الناس يتفقون عليها وتكون جامعة لهم كطريقة يتبعونها، ويحتمل أنها مشتقة من أمل الكتاب فسميت الشريعة ملة لأن الرسول أو واضع الدين يعلمها للناس ويمللها عليهم كما سميت دينا باعتبار قبول الأمة لها وطاعتهم وانقيادهم. ومعنى الغاية في: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} الكناية عن اليأس من اتباع اليهود والنصارى لشريعة الإسلام يومئذ لأنهم إذا كانوا لا يرضون إلا باتباعه ملتهم فهم لا يتبعون ملته، ولما كان اتباع النبي ملتهم مستحيلا كان رضاهم عنه كذلك على حد {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: من الآية40] وقوله {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] والتصريح بلا النافية بعد حرف العطف في قوله {ولا النصارى} للتنصيص على استقلالهم بالنفي وعم الاقتناع باتباع حرف العطف لأنهم كانوا يظن بهم خلاف ذلك لإظهارهم شيئا من المودة للمسلمين كما في قوله تعالى {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِك} [المائدة: 82] وقد تضمنت هذه الآية أنهم لا يؤمنون بالنبي لأنه غير متبع ملتهم وأنهم لا يصدقون القرآن لأنه جاء بنسخ كتابيهم. وقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} أمر بالجواب عما تضمنه قوله {وَلَنْ تَرْضَى} من خلاصة أقوال لهم يقتضي مضمونها أنهم لا يرضيهم شيء مما يدعوهم النبي إليه إلا أن يتبع ملتهم وأنهم يقولون إن ملتهم هدى فلا ضير عليه إن اتبعها مثل قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: من الآية111] وغير ذلك من التلون في الإعراض عن الدعوة ولذلك جيء في جوابهم بما هو الأسلوب في المجاوبة من فعل القول بدون حرف العطف. ويجوز أن يكونوا قد قالوا ما تضمنته الآية من قوله: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} و {هُدَى اللَّهِ} ما يقدره للشخص من التوفيق أي قل لهم لا أملك لكم هدى إلا أن يهديكم الله، فالقصر حقيقي. ويجوز أن يكون المراد بهدى الله الذي أنزله إلي هو الهدى يعني أن القرآن هو الهدى إبطالا لغرورهم بأن ما هم عليه من الملة هو الهدى وأن ما خالفه ضلال، والمعنى أن القرآن هو الهدى وما أنتم عليه ليس من الهدى لأن أكثره من الباطل. فإضافة الهدى إلى الله تشريف، والقصر إضافي. وفيه تعريض بأن ما هم عليه يومئذ شيء حرفوه ووضعوه. فيكون القصر إما حقيقيا ادعائيا بأن يراد هو الهدى الكامل في الهداية فهدى غيره من الكتب السماوية بالنسبة إلى هدى القرآن كلا هدى لأن هدى القرآن أعم وأكمل فلا ينافي إثبات الهداية لكتابهم كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة: 44] وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46] وإما فصرا إضافيا أي هو الهدى دون ما أنتم عليه من ملة مبدلة مشوبة بضلالات وبذلك أيضا لا ينتفي الهدى عن كثير من التعاليم والنصايح الصالحة الصادرة عن الحكماء وأهل العقول الراجحة والتجربة لكنه هدى ناقص. وقوله: {هُوَ الْهُدَى} الضمير ضمير منفصل. والتعريف في الهدى تعريف الجنس الدال على الاستغراق ففيه طريقان من طرق الحصر هما ضمير الفصل وتعريف الجزأين وفي الجمع بينهما إفادة تحقيق معنى القصر وتأكيده للعناية به فأيهما اعتبرته طريق قصر كان الآخر تأكيدا للقصر وللخبر أيضاً. والتوكيد بأن لتحقيق الخبر وتحقيق نسبته وإبطال تردد المتردد لأن القصر الإضافي لما كان المقصود منه رد اعتقاد المخاطب قد لا يتفطن المخاطب إلى ما يقتضيه من المتأكيد فزيد هنا مؤكد آخر وهو حرف "إن" اهـتماما بتأكيد هذا الحكم. فقد اجتمع في هذه الجملة عدة مؤكدات هي: حرف إن. والقصر، إذ القصر تأكيد على تأكيد كما في المفتاح فهو في قوة مؤكدين، مع تأكيد القصر بضمير الفصل وهي تنحل إلى أربعة مؤكدات لأن القصر بمنزلة تأكيدين وقد انضم إليهما تأكيد القصر بضمير الفصل وتأكيد الجملة بحرف "إن". ولعل الآية تشير إلى أن استقبال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى القبلة التي يستقبلها اليهود لقطع معذرة اليهود كما سيأتي في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: من الآية143] فأعلم رسوله بقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} بأن ذلك لا يلين من تصلب اليهود في عنادهم فتكون إيماء إلى تمهيد نسخ استقبال بيت المقدس. وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ اهـوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} اللام موطئة للقسم وذلك توكيد للخبر وتحقيق له. وعبر عن طريقتهم هنالك بالملة نظرا لاعتقادهم وشهرة ذلك عند العرب، وعبر عنها هنا بالأهواء بعد أن مهد له بقوله: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} فإن الهوى رأى ناشئ عن شهوة لا عن دليل، ولهذا لم يؤت بالضمير الراجع للملة وعبر عنها بالاسم الظاهر فشملت اهـواؤهم التكذيب بالنبي وبالقرآن واعتقادهم أن ملتهم لا ينقضها شرع آخر. وقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} تحذير لكل من تلقى الإسلام أن لا يتبع بعد الإسلام اهـواء الأمم الأخرى، جاء على طريقة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم مثل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: من الآية65] وهو جواب القسم ودليل جواب الشرط لأن اللام موطئة للقسم فالجواب لها. وجيء بأن الشرطية التي تأتي في مواقع عدم القطع بوقوع شرطها لأن هذا فرض ضعيف في شأن النبي والمسلمين. والولي القريب والحليف. والنصير كل من يعين أحدا على من يريد به ضرا وكلاهما فعيل بمعنى فاعل. و"من" في قوله {مِنَ اللَّهِ} متعلقة بولي لتضمينه معنى مانع من عقابه ويقدر مثله بعد {وَلا نَصِيرٍ}. أي نصير من الله. و"من" في قوله {مِنْ وَلِيٍّ} مؤكدة للنفي. وعطف النصير على الولي احتراس لأن نفي الولي لا يقتضي نفي كل نصير إذ لا يكون لأحد ولي لكونه دخيلا في قبيلة ويكون أنصاره من جيرته. وكان القصد من نفي الولاية التعريض بهم في اعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه فنفي ذلك عنهم حيث لم يتبعوا دعوة الإسلام ثم نفى الأعم منه وهذه نكتة عدم الاقتصار على نفي الأعم. وقد اشتملت جملة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ اهـوَاءَهُمْ} إلى آخرها على تحذير من الطمع في استدناء اليهود أو النصارى بشيء من استرضائهم طمعا في إسلامهم بتألف قلوبهم فأكد ذلك التحذير بعشرة مؤكدات وهي القسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم. وتأكيد جملة الجزاء بإن. وبلام الابتداء في خبرها. واسمية جملة الجزاء وهي {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}. وتأكيد النفي بمن في قوله {مِنْ وَلِيٍّ} والإجمال ثم التفصيل بذكر اسم الموصول وتبيينه بقوله من العلم. وجعل الذي جاء "أي أنزل إليه" هو العلم كله لعدم الاعتداد بغيره لنقصانه. وتأكيد {مِنْ وَلِيٍّ} بعطف {وَلا نَصِيرٍ}. الذي هو آيل إلى معناه وإن اختلف مفهومه، فهو كالتأكيد بالمرادف. |
|
| |
| تفسير سورة البقرة من الآية 091 - 120 | |
|