الفصل الحادي عشر:
نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال

الفصل الحادي عشر: نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال 2199
نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال:
عندما يكثر أتباع المسيح الدجال، ويظهر على الأرض كلها إلا مكة، والمدينة، ومسجد الطور، والمسجد الأقصى، فتعم الفتنة، ويعم الفساد، ولا ينجو منها أحَدٌ إلا قِلّة من المؤمنين الذين يُثبتهم اللهُ تعالى، ففي هذه الحال ينـزل عيسى عليه الصلاة والسلام إلى الأرض، ويكون هلاك الدجال على يديه، فمن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة أن عيسى عليه الصلاة والسلام سينـزل آخر الزمان، ويلتف حوله المؤمنون، وسيحكم بالقرآن، وبشريعة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسيكون حجة على الروم، ويقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنـزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال.
قال الله تعالى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ).(1) إلى  قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ).(2)
قال أهل التفسير: أي: نزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة علامة على قرب الساعة.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فبينما هو كذلك -يعني الدجال- إذ بعث الله المسيح بن مريم فينـزل ثم المنارة البيضاء شرقي دمشق".(3)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينـزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنـزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحَدٌ حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها".
ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً).(4)
وفي رواية لمسلم: "والله ثم لينـزلن بن مريم حكماً عادلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنـزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء، والتباغض، والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد".(5)
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كيف أنتم إذا أنزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم".(6)
قال النووي رحمه الله تعالى: ليوشكن: فهو بضم الياء وكسر الشين، ومعناه ليقربن، أي في هذه الأمة وان كان خطابا لبعضها ممن لا يدرك نزوله.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "حكماً" أي ينـزل حاكماً بهذه الشريعة، لا ينـزل نبياً برسالة مستقلة وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمَّة.
والمُقسط: العادل، والقسط بكسر القاف العدل، وقسط يقسط قسطاً بفتح القاف فهو قاسط إذا جار.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فيكسر الصليب": معناه يكسره حقيقة ويبطل ما يزعمه النصارى من تعظيمه، وفيه دليل على تغيير المنكرات وآلات الباطل وقتل الخنـزير من هذا القبيل، وفيه دليل للمختار من مذهبنا ومذهب الجمهور أنا إذا وجدنا الخنـزير في دار الكفر أو غيرها وتمكنا من قتله قتلناه، وإبطال لقول من شذ من أصحابنا وغيرهم فقال يترك إذا لم يكن فيه ضراوة.
وأمَّا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ويضع الجزية": فالصواب في معناه أنه لا يقبلها ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، ومَنْ بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل هكذا قاله الإمام أبو سليمان الخطابي وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى.  
وأمَّا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ويفيض المال": فهو بفتح الياء، ومعناه يكثر وتنـزل البركات وتكثر الخيرات بسبب العدل.
وأمَّا قوله في الرواية الأخرى: "حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها": فمعناه والله أعلم أن الناس تكثر رغبتهم في الصلاة وسائر الطاعات لقصر آمالهم وعلمهم بقرب القيامة وقلة رغبتهم في الدنيا لعدم الحاجة إليها، وهذا هو الظاهر من معنى الحديث.
وقال القاضي عياض رحمه الله: معناه أن أجرها خير لمصليها من صدقته بالدنيا وما فيها لفيض المال حينئذ وهوانه وقلة الشح وقلة الحاجة إليه للنفقة في الجهاد، قال والسجدة هي السجدة بعينها أو تكون عبارة عن الصلاة والله أعلم.
وأمَّا قوله  ثم يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: اقرؤا إن شئتم: "وان من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته": ففيه دلالة ظاهرة على أن مذهب أبى هريرة في الآية أن الضمير في موته يعود على عيسى عليه السلام، ومعناها وما من أهل الكتاب يكون في زمن عيسى عليه السلام إلا من آمن به وعلم أنه عبد الله وابن أمته، وهذا مذهب جماعة من المفسرين. (7)
وقوله "ولتتركن القلاص": القلاص جَمْع قَلُوص، وهي الناقة الشابّة، وهي من الإبل كالفتاة من النساء، والحدث من الرجال، وقيل لا تزال قَلُوصاً حتى تصير بازِلاً وتُجْمَع على قِلاص وقُلُص أيضاً، ومنه الحديث لتُتْركَنّ القِلاصُ   فلا يُسْعى عليها أي لا يَخْرج ساعٍ إلى زكاة لِقلّة حاجة الناس إلى المال واسْتِغْنائهم عنه.  
والمعنى: أن يزهد فيها ولا يرغب في اقتنائها أحَدٌ لكثرة الأموال، وإنما ذكرت القلاص لكونها أشرف الإبل، وأنفس الأموال عند العرب.

صفة نزوله عليه السلام وقتله للدجال
ثبت في السنة المطهرة صفة وكيفية نزول عيسى عليه الصلاة والسلام.
فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس بيني وبينه نبي -يعني عيسى- وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه رجل مربوعٌ إلى الحمرة والبياض بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنـزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون [ويدفنونه]".(8)
وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى ينـزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم فيقول المسلمون لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينما هم  يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينـزل عيسى بن مريم -صلى الله عليه وسلم- فأمَّهُم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته"(9).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ينـزل عيسى ابن مريم، فيدق الصليب، ويقتل الخنـزير، ويضع الجزية، ويهلك الله عزوجل في زمانه الدجال، وتقوم الكلمة لله رب العالمين"(10).
قوله: "فينـزل عيسى بن مريم -صلى الله عليه وسلم- فأمهم": ليس المراد هنا في الصلاة، فقد ورد في بعض الروايات "فأمكم منكم"، قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم عزوجل، وسنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-.(11)
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "تحدر منه جمان كاللؤلؤ الجمان": بضم الجيم وتخفيف الميم، هي حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار.
والمراد يتحدر منه الماء على هيئة اللولؤ في صفائه، فسمى الماء جمانا لشبهه به في الصفاء.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات": هكذا الرواية، فلا يحل بكسر الحاء ونفسه بفتح الفاء، ومعنى لا يحل: لا يمكن ولا يقع.
وقال القاضي: معناه عندي حق وواجب.
 وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " ثم يأتي عيسى -صلى الله عليه وسلم- قوما قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم": قال القاضي: يحتمل أن هذا المسح حقيقة على ظاهره فيمسح على وجوههم تبركا، وبرا ويحتمل أنه إشارة إلى كشف ما هم فيه من الشدة والخوف.
وقوله تعالى  "أخرجت عبادا لي لايدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور": فقوله لايدان بكسر النون تثنية يد، قال العلماء معناه لا قدرة ولا طاقة، يقال مالي بهذا الأمر يد ومالي به يدان لأن المباشرة والدفع إنما يكون باليد، وكان يديه معدومتان لعجزه عن دفعه.
ومعنى حرزهم إلى الطور أي ضمهم واجعله لهم حرزا، يقال أحرزت الشىء أحرزه احزازا إذا حفظته وضممته إليك وصنته عن الأخذ.
قوله  "وهم من كل حدب ينسلون": الحدب النشز وينسلون يمشون مسرعين.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-  "فيرسل الله تعالى عليهم النغف فى رقابهم فيصبحون فرسى" النغف بنون وغين معجمة مفتوحتين ثم فاء، وهو دود يكون في أنوف الأبل والغنم، الواحدة نغفة.
والفرسى بفتح الفاء مقصور أي قتلى، واحدهم فريس.
وقوله: "ملأه زهمهم ونتنهم": هو بفتح الهاء، أي دسمهم ورائحتهم الكريهة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لايكن منه بيت مدر" أي لا يمنع من نزول الماء بيت المدر بفتح الميم والدال وهو الطين الصلب.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة" قال القاضي روى بالفاء والقاف وبفتح اللام وبإسكانها وكلها صحيحة، قال في المشارق والزاي مفتوحة، واختلفوا في معناه فقال ثعلب وأبو زيد وآخرون معناه كالمرآة، وحكى صاحب المشارق هذا عن ابن عباس أيضا شبهها بالمرآة في صفائها ونظافتها، وقيل كمصانع الماء أي إن الماء يستنقع فيها حتى تصير كالمصنع الذي يجتمع فيه الماء.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها": العصابة الجماعة، وقحفها بكسر القاف هو مقعر قشرها، شبهها بقحف الرأس وهو الذي فوق الدماغ وقيل ما انفلق من جمجمته وانفصل.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الأبل لتكفى الفئام من الناس": الرسل بكسر الراء وإسكان السين هو اللبن واللقحة بكسر اللام وفتحها لغتان مشهورتان الكسر أشهر، وهى القريبة العهد بالولادة، وجمعها لقح بكسر اللام وفتح القاف كبركة وبرك، واللقوح ذات اللبن وجمعها لقاح.
والفئام بكسر الفاء وبعدها همزة ممدودة وهى الجماعة الكثيرة. اهـ. (12)
ثم يسير عيسى -صلى الله عليه وسلم- بالمؤمنين لقتال المسيح الدجال، ويكون الدجال عند نـزول عيسى قد ذهب قاصداً بيت المقدس، فيلحق به عيسى عليه السلام عند باب لد –وهي بلدة في فلسطين قرب بيت المقدس– فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيقول له عيسى عليه السلام: "إن لي فيك ضربة لن تفوتني، فيتداركه عيسى عليه السلام فيقتله بحربته، وينهزم أتباعه، فيتبعهم المؤمنون، فيقتلونهم، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله؛ إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود".
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا زفر خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد  فإنه من شجر اليهود".(13)     
الغرقد: نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس، وهناك يكون قتل اليهود.  
وفي النهاية: هو ضَرْب من شجر العِضاه وشَجَر الشَّوك، والغَرْقَدَة واحدتُه، ومنه قيل للمَقْبَرة أهل المدينة "بَقِيع  الغَرْقَد" لأنه كان فيه غَرْقَدٌ وقُطِع.(14)
وعنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا بعث الله المسيح ابن مريم فينـزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدَّر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه -أي: يطلب الدجال- حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة".(15)
وعن مجمع بن جارية -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليقتلن ابن مريم الدجال بباب لد".(16).
ليقتلن عيسى ابن مريم الدجال بباب لد، أي أنه ينـزل في آخر الزمان مجدداً لأمر الإسلام فيوافق خروج الدجال فيجده بباب لد فيقتله، لا أنه ينـزل لقتله.     
وعنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم (وذكر فيه) ثم ينـزل عيسى بن مريم فينادى من السَّحَر فيقول: أيها الناس! ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث فيقولون: هذا رجل جني فينطلقون فإذا هم بعيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- فتقام الصلاة فيقال له: تقدم يا روح الله! فيقول: ليتقدم إمامكم فليصل بكم فإذا صلى صلاة الصبح خرجوا إليه قال: فحين يرى الكذاب ينماث كما ينماث الملح في الماء فيمشي إليه فيقتله حتى إن الشجرة والحجر ينادي: يا روح الله! هذا يهودي فلا يترك ممن كان يتبعه أحداً إلا قتله".(17)
ينماث كما ينماث الملح في الماء: أي يذوب كما يذوب الملح في الماء.
وعنه -صلى الله عليه وسلم- قال: في زمن عيسى: "يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون في قحفها، ويبارك في الرسل حتى أن اللقمة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقمة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس".(18)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وتقع الأمنة كل الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل والنمار مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات ولا تضرهم".(19)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "والله لينـزلن ابن مريم حكماً عادلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنـزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء، والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد".(20)
جاء عن أحمد: "يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون".(21)
وعن يونس بن عبيد، عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أهبط  الله إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال، وقد قلت فيه قولاً لم يقله أحَدٌ قبل، إنه آدم جعد ممسوح عين اليسار، على عينه طفرة غليظة، وإنه يبرىء الأكمه والأبرص، ويقول أنا ربكم فمن قال ربى الله فلا فتنة عليه، ومن قال أنت ربى فقد افتتن ما شاء الله، ثم ينـزل عيسى بن مريم مصدقاً بمحمد -صلى الله عليه وسلم- على ملته، إماماً مهدياً، وحكماً عدلاً، فيقتل الدجال"(22).
فكان الحسن يقول: ونرى ذلك عند الساعة.
وعن الحضرمي بن لاحق، أن ذكوان أبا صالح أخبره أن عائشة أخبرته قالت: "دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقال لي ما يبكيكِ؟، قلت يا رسول الله ذكرتُ الدجال فبكيت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أن يخرج الدجال وأنا حيٌ كفيتكموه وأن يخرج الدجال بعدي فان ربكم عز وجل ليس بأعور انه يخرج في يهودية أصبهان حتى يأتي المدينة فينـزل ناحيتها، ولها يومئذ سبعة أبواب على كل نقب منها ملكان فيخرج إليه شرار أهلها حتى الشام مدينة بفلسطين بباب لد".
وفي رواية: "حتى يأتي فلسطين باب لد فينـزل عيسى عليه السلام فيقتله، ثم يمكث عيسى عليه السلام في الأرض أربعين سنة إماماً عدلاً وحكماً مقسطاً"(23).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق يقول: يخرج أعور الدجال مسيح الضلالة قِبَلَ المشرق في زمن اختلاف الناس وفرقة، فيبلغ ما شاء الله أن يبلغ من الأرض في أربعين يوماً –الله أعلم ما مقدارها– فيلقى المؤمنون شدة شديدة، ثم ينـزل عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- من السماء، فيؤم الناس (24)، فإذا رفع رأسه من ركعته قال: سمع الله لمن حمده، قتل المسيح الدجال، وظهر المسلمون".
فأحلف أن رسول الله أبا القاسم الصادق المصدوق قال: "إنه لحق، وأما إنه قريب، فكل ما هو آتٍ قريب".
قال الشيخ الألباني "قصة المسيح الدجال" (ص55): قال الهيثمي (7/349): "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، غير علي بن المنذر، وهو ثقة".
وقال الحافظ (13/85): "إسناده جيد".
والأحاديث المصرحة بخروجه كثيرة. اهـ.  
وبقتل الدجال على يد عيسى عليه السلام تنتهي الفتنة العظيمة، وينجي الله سبحانه وتعالى المؤمنين من شره وشر أتباعه، والحمد لله الذي منَّ علينا بنعمه العظيمة.
قال ابن قيم الجوزية: فالمسلمون واليهود والنصارى تنتظر مسيحا يجيء في آخر الزمان، فمسيح اليهود هو  الدجال، ومسيح النصارى لا حقيقة له فإنه عندهم أله، وابن أله، وخالق ومميت ومحي، فمسيحهم الذي ينتظرونه هو المصلوب المسمر المكلل بالشوك بين اللصوص، والمصفوع الذي هو مصفعة اليهود، وهو عندهم رب العالمين وخالق السموات والأرضين، ومسيح المسلمين الذي ينتظرونه هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، عيسى بن مريم أخو عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله، فيظهر دين الله وتوحيده، ويقتل أعداءه عباد الصليب الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وأعداءه اليهود الذين رموه وأمه بالعظائم، فهذا هو الذي ينتظره المسلمون وهو نازل على المنارة الشرقية بدمشق واضعا يديه على منكبي ملكين يراه الناس عيانا بأبصارهم نازلا من السماء فيحكم بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينفذ ما أضاعه الظلمة والفجرة والخونة من دين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويحي ما أماتوه، وتعود الملل كلها في زمانه ملة واحدة وهي ملته وملة أخيه محمد وملة أبيهما إبراهيم وملة سائر الأنبياء وهي الإسلام الذي من يبتغي غيره دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وقد حمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أدركه من أمته السلام وأمره أن يقرئه إياه منه، فأخبر عن موضع نزوله بأي بلد وبأي مكان منه وبحاله وقت نزوله مفصلا حتى كأن المسلمين يشاهدونه عيانا قبل أن يروه، وهذا من جملة الغيوب التي أخبر بها فوقعت مطابقة لخبره حذو القذة بالقذة، فهذا منتظر المسلمين لا منتظر المغضوب عليهم والضالين، ولا منتظر إخوانهم من الروافض المارقين، وسوف يعلم المغضوب عليهم إذا جاء منتظر المسلمين انه ليس بابن يوسف النجار، ولا هو ولد زنية، ولا كان طبيبا حاذقا ماهرا في صناعته استولى على العقول بصناعته، ولا كان ساحرا ممخرقا، ولا مكنوا من صلبه وتسميره وصفعه وقتله بل كانوا أهون على الله من ذلك، ويعلم الضالون إنه ابن البشر وإنه عبد الله ورسوله، ليس بإله ولا ابن إله وإنه بشر بنبوة محمد أخيه أولاً وحكم بشريعته ودينه آخراً، وإنه عدو المغضوب عليهم والضالين وولي رسول الله واتباعه المؤمنين، وما كان أولياؤه الأرجاس الأنجاس عبدة الصلبان والصور المدهونة في الحيطان.اهـ.(25)
قال القاضي رحمه الله تعالى نزول: عيسى عليه السلام وقتله الدجال حق وصحيح، ثم [أي عند] أهل السنة للأحاديث الصحيحة في ذلك وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله فوجب إثباته، وأنكر ذلك بعض المعتزلة، والجهمية، ومن وافقهم وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى وخاتم النبيين، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-  لا نبي بعدى، وبإجماع المسلمين أنه لانبي بعده -صلى الله عليه وسلم-، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ وهذا استدلال فاسد لأنه ليس المراد بنـزول عيسى عليه السلام أنه ينـزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا بل صحت هذه الأحاديث هنا وما سبق  في كتاب الإيمان وغيرها أنه ينـزل حكماً مقسطاً بحكم شرعنا ويحيى من أمور شرعنا ما هجره الناس.(26)

إشكال وإيضاح.
رُبَّ سائلٍ يسأل: كيف يجري الله سبحانه وتعالى هذه الخوارق على يد الدجال الكافر، أو على يد مِمَّنْ لم يعرف عنه الاستقامة في دين الله؟.

الجواب:
إن الله سبحانه وتعالى يجري هذه الخوارق على عباده سواءً أكان مسلماً أو كافراً، فالمسلم تكون له كرامات وهذا ثابت بالكتاب والسُّنَّة، وأمَّا الكافر فتكون فتنة له ولغيره.  

قال الخطابي:
فان قيل كيف يجوز أن يجري الله الآية على يد الكافر، فان إحياء الموتى آية عظيمة من آيات الأنبياء فكيف ينالها الدجال وهو كذاب مفتر يَدَّعِي الربوبية؟

فالجواب:
إنه على سبيل الفتنة للعباد إذ كان عندهم ما يدل على أنه غير محق في دعواه، وهو أنه أعور مكتوب على جبهته كافر يقرؤه كل مسلم، فدعواه داحضة مع وسم الكفر ونقص الذات والقدر، إذ لو كان إله لأزال ذلك عن وجهه، وآيات الأنبياء سالمة من المعارضة فلا يشتبهان، وقال الطبري لا يجوز أن تعطى أعلام الرسل لأهل الكذب والإفك في الحالة التي لا سبيل لمن عاين ما أتى به فيها إلا الفصل بين المحق منهم والمبطل، فأما إذا كان لمن عاين السبيل إلى ذلك علم الصادق من الكاذب فمن ظهر ذلك على يده فلا ينكر إعطاء الله ذلك للكذابين، فهذا بيان الذي أعطيه.(27)  
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فإنه من ظهر على يديه خارق فإنه يوزن بميزان الشرع، فإن كان على الاستقامة كان ما ظهر على يديه كرامة ومن لم يكن على الاستقامة كان ذلك فتنة كما يظهر على يدي الدجال  من إحياء الميت وما يظهر من جنته وناره، فإن الله يضل من لا خلاق له بما يظهر على يدي هؤلاء، وأما من تمسك بالشرع الشريف فإنه لو رأى من هؤلاء من يطير في الهواء أو يمشي على الماء فإنه يعلم أن ذلك فتنة للعباد انتهى. اهـ..(28)
وقال في موضع آخر: ولو كان لأحدهم من الخوارق ما كان فليس أحدهم بأعظم من مقدمهم الدجال الذي يقول للسماء أمطري فتمطر وللأرض أنبتي فتنبت وللخربة أظهري كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة وهو مع هذا عدو الله كافر بالله وأولياء الله هم المذكورون في قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).(29)  
هم المؤمنون المتقون، والتقوى فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، فمن ترك ما أمر الله واتخذ عبادة نهى الله عنها كيف يكون من هؤلاء. اهـ.(30)

كلمة موجزة حول بطلان ادعاء الدجال الربوبية.
نلخص هنا ما سبق حول كذب وبطلان قول المسيح الدجال بادّعائه الربوبية.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وإن بين عينيه مكتوب كافر".(31)
وعند مسلم: "ثم تهجاها (ك ف ر) يقرؤه كل مسلم".(32)
وهذه تكون علامة كافية وواضحة لكذب الدجال في ادعائه الربوبية قبحه الله تعالى ولعنه وغضب عليه.
قال ابن حجر: وفي الدجال مع ذلك دلالة بينه لمن عقل على كذبه، لأنه ذو أجزاء مؤلفة، وتأثير الصنعة فيه ظاهر مع ظهور الآفة به من عور عينيه، فإذا دعا الناس إلى أنه ربهم، فأسوأ حال من يراه من ذوي العقول أن يعلم أنه لم يكن ليسوي خلق غيره ويعدله ويحسنه ولا يدفع النقص عن نفسه، فأقل ما يجب أن يقول: يا من يزعم أنه خالق السماء والأرض صور نفسك وعدلها وأزل عنها العاهة، فان زعمت أن الرَّبَّ لا يُحدث في نفسه شيئاً، فأزل ما هو مكتوب بين عينيك. اهـ. فتح الباري (13/ 103).
قال ابن قيم الجوزية: كان يكتفي -صلى الله عليه وسلم- في أمر الدجال في إرشاد المؤمنين إلى كذب ما يدعيه في الربوبية في أنه جسم والله ليس بجسم، بل قال عليه السلام: إن ربكم ليس بأعور، فاكتفى بالدلالة على كذبه بوجود هذه الصفة الناقصة التي ينتفي عند كل أحد وجودها ببديهة العقل في الباري سبحانه، فهذه كلها كما ترى بدع حادثة في الإسلام هي السبب فيما عرض فيه من الفرق التي أنبأنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أنها ستفترق أمته إليه. اهـ. (33)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر الدجال ودعواه الربوبية قال: "واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت"، وروى هذا المعنى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه أخرى متعددة حسنة في حديث الدجال، فإنه لما ادعى الربوبية ذكر النبي فرقانين ظاهرين لكل أحد.    
أحدهما: أنه أعور والله ليس بأعور.   
الثاني: أنَّ أحداً مِنَّا لن يرى ربه حتى يموت، وهذا إنما ذكره في الدجال مع كونه كافراً لأنه يظهر عليه من الخوارق التي تقوى الشبهة في قلوب العامة.اهـ.(34)
* * * * *
الهوامش:
1.    الزخرف: (57).
2.    الزخرف: (61).
3.    أخرجه مسلم من حديث النواس بن سمعان برقم (2937).
4.    النساء آية (159).
5.    أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3264)، باب نـزول عيس بن مريم، وأخرجه مسلم برقم (155)، باب نـزول عيسى بن مريم حاكماً يشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
6.    متفق عليه.
7.    شرح النووي على صحيح مسلم (2/191).
8.    سنن أبي داود برقم (4324)، السلسلة الصحيحة رقم (2182).
9.    أخرجه مسلم برقم (2897) باب في فتح قسطنطينية وخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم
10.    قال الشيخ الألباني : أخرجه الداني (143/2) ، وابن منده (41/2)، وسنده جيد.
11.    كتاب أشراط الساعة للأخ الفاضل مصطفى الشلبي (ص254).
12.    شرح النووي (18/69).
13.    صحيح مسلم برقم (2922).
14.    النهاية في غريب الحديث (3/362).
15.    رواه مسلم في كتاب الفتن برقم (2937).
16.    صحيح سنن الترمذي (2/251)، وصحيح الجامع حديث رقم (5462).
17.    رواه أحمد في مسنده برقم (14426).
18.    رواه مسلم في كتاب الفتن برقم (2937).
19.    مسند أحمد (8902).
20.    رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (155).
21.    المسند (8902).
22.    قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: أخرجه الطبراني في الكبير، والأوسط برقم (4580)، ورجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف لا يضر، كما قال في مجمع الزوائد (7/336). "المسيح الدجال" (ص50).
23.    أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/75) رقم (24511)، وابن حبان برقم (1905)، وصححه الألباني في كتاب "قصة المسيح الدجال" (ص60).
24.    قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: "يعني: في بيت المقدس، وأما في دمشق أول نزوله، فيأتم هو بالمهدي عليهما السلام". "قصة المسيح الدجال" (ص54).
25.    هداية الحيارى (1/111).
26.    شرح النووي على صحيح مسلم (18/75).
27.    فتح الباري (13/103).
28.    مجموع الفتاوى (4/16).
29.    يونس الآية (62-63)
30.    مجموع الفتاوى (20/45).
31.    أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3177)، ومسلم برقم (169).
32.    صحيح مسلم كتاب الفتن برقم (2933).
33.    تبيان تلبيس الجهمية (1/28).
34.    مجموع الفتاوى (397/ 2).