الفصل التاسع:
الاستعاذة من فتنة الدجال والوقاية منه

الفصل التاسع: الاستعاذة من فتنة الدجال والوقاية منه 2199
الاستعاذة من فتنة الدجال والوقاية منه:
أتَمَّ اللهُ سبحانه وتعالى نِعَمَهُ علينا، وبعث لنا رسولاً حريصاً علينا، بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فدَلَّنَا هذا الرسول الكريم على الخير، وحذرنا من الشر، وتركنا على المَحَجَّة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فلم يدع -صلى الله عليه وسلم- خيراً إلا ودلّنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه، ومن جملة ما حذرنا منه المسيح الدجال، لأنه أعظم فتنة تواجه الأمَّة إلى قيام الساعة، وكل نبي حذّر أمَّتهُ منه، وكل نبي أنذر أمَّتَهُ الأعور الدجال، فحذرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- منه، وأرشدنا إلى ما يعصمنا منه، فعلى على المؤمن أن يأخذ بالأسباب التي تعصمه من فتنة المسيح الدجال.

ومن هذه الأسباب:
1-    التمسك بهذا الدين العظيم وهو الإسلام، والعمل على تقوية الإيمان، أو الارتقاء في مدارج الإيمان، والتسلح بسلاح العلم، ومعرفة العقيدة الصحيحة السليمة التي عليها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم جميعاً، ومعرفة أسماء الله تعالى وصفاته، والتي لا يشاركه فيها أحد، فإذا تسلح العبد بهذا السلاح عَلِمَ أن المسيح الدجال بشر يأكل ويشرب، وفيه صفات النقص والعيب، وأن الله جل في علاه منـزَّه عن ذلك، وأن الدجال أعور، والله سبحانه وتعالى ليس بأعور، والدجال يراه الناس عند خروجه، مؤمنهم وكافرهم، ولا أحد يرى ربه سبحانه وتعالى في هذه الحياة، كما ثبت ذلك في السنة الصحيحة.
عن أسماء بن عميس رضي الله عنها، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها لبعض حاجته، ثم خرج، فشكت إليه الحاجة، فقال: "كيف بكم إذا ابتليتم بعبد قد سخرت له أنهار الأرض وثمارها، فمن اتبعه أطعمه وأكفره، ومن عصاه حرمه ومنعه؟".
قلت: يا رسول الله! إن الجارية لتجلس عند التنور ساعة لخبزها، فأكاد أفتتن في صلاتي، فكيف بنا إذا كان ذلك؟
قال: "إن الله يعصم المؤمنين يومئذٍ بما عصم به الملائكة من التسبيح، إن بين عينيه: كافر؛ يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب"(1).
فعلى المرء المسلم أن يتسلح بسلاح الإيمان والتقوى، وعليه بالعلم، وهو من أقوى الأسلحة لمحاربة أعداء الله، والعلم هو طريق الإيمان، فبالعلم تُوزن الأمور، ويميز الخبيث من الطيب، والغث من السمين.  
وإذا ظهر على يد أحد من الناس أي خارق تستطيع بإذن الله أن تميزه بالعلم إذا كان حقاً أم باطلاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وإذا كان القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت بخلاف القلب الخراب المظلم قال حذيفة بن اليمان: "إن في قلب المؤمن سراجاً يزهر"، وفى الحديث الصحيح: "إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارىء وغير قارىء"، فدل على أن المؤمن يتبين له مالا يتبين لغيره ولا سيما في الفتن وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله، فإن الدجال أكذب خلق الله مع أن الله يجري على يديه أموراً هائلة ومخاريقاً مزلزلة حتى إن من رآه افتتن به فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها، وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم. اهـ.(2)

2- الاستعاذة بالله تعالى من شر فتنته، ولا سيما في التشهد الأخير من الصلاة.
فعن محمد بن أبي عائشة أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال"(3).
وكان الإمام  طاوس (4) رحمه الله تعالى قد أمر ابنه حين لم يدع بهذا الدعاء في صلاته أن يعيدها.
قال النووي: هذا كله يدل على تأكيد هذا الدعاء، والتعوذ، والحث الشديد عليه، وظاهر كلام طاوس رحمه الله تعالى أنه حمل الأمر به على الوجوب، فأوجب إعادة الصلاة لفواته، وجمهور العلماء على أنه مستحب ليس بواجب، ولعل طاوساً أراد تأديب ابنه وتأكيد هذا الدعاء عنده لا أنه يعتقد وجوبه، والله أعلم.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: ودعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- واستعاذته من هذه الأمور التي قد عوفي منها وعصم إنما فعله ليلتزم خوف الله تعالى وإعظامه والافتقار إليه ولتقتدي به أمته، وليبين لهم صفة الدعاء والمهم منه، والله أعلم. اهـ.(5)   
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأعظم الدجاجلة فتنه الدجال الكبير الذي يقتله عيسى بن مريم؛ فإنه ما خلق الله من لدن آدم إلى قيام الساعة أعظم من فتنته وأمر المسلمين أن يستعيذوا من فتنته في صلاتهم وقد ثبت انه يقول للسماء أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت وانه يقتل رجلا مؤمنا ثم يقول له: قم فيقوم، فيقول: أنا ربك فيقول له كذبت بل أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله ما ازددت فيك إلا بصيرة فيقتله مرتين فيريد أن يقتله في الثالثة فلا يسلطه الله عليه وهو يدعى الإلهية وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن له ثلاث علامات تنافى ما يدعيه: أحدهما: أنه أعور وان ربكم ليس بأعور، والثانية: أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن من قارىء وغير قارىء، والثالثة: قوله: "واعلموا أن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت". اهـ.(6)

والشاهد من كلام شيخ الإسلام هو قوله: وأمر المسلمين أن يستعيذوا من فتنته في صلاتهم.
قال ابن القيم: فهذا دعاء أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوا به في آخر صلاتهم، وقد اتفقت الأمة على أنه مشروع يحبه الله ورسوله ويرضاه، وتنازعوا في وجوبه، فأوجبه طاووس، وطائفة قالوا: هذا مستحب، والأدعية التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو بها لا تخرج عن أن تكون واجبة أو مستحبة، وكل واحد من الواجب والمستحب يحبه الله ويرضاه، ومن فعله رضي الله عنه وأرضاه، فهل يكون من الرضا ترك ما يحبه ويرضاه. اهـ.(7)
وعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كان يدعو في الصلاة اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، فقال له قائل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: "إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف".
وقالت رضي الله عنها: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال"(8).   
وعنها رضي الله عنها، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم ومن فتنة القبر وعذاب القبر ومن فتنة النار وعذاب النار ومن شر فتنة الغنى وأعوذ بك من فتنة الفقر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال اللهم اغسل عني خطاياي بالماء والثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب"(9).
وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- في حائط لبني النجار على بغلة له -ونحن معه- إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة.
فقال: مَنْ يعرف أصحاب هذه الأقبر؟.
فقال رجل: أنا.
قال: فمتى مات هؤلاء؟.
قال: ماتوا في الإشراك (وفي رواية: في الجاهلية).
فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوتُ الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه.
ثم أقبل علينا بوجهه.
فقال: تعوَّذوا بالله من عذاب النار.
قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار.
فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر.
قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر.
قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال.
قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال"(10).
وعن عائشة قالت: "جاءت يهودية فاستطعمت على بابي فقالت أطعموني أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، قالت فلم أزل أحبسها حتى جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت يا رسول الله ما تقول هذه اليهودية، قال وما تقول، قلت تقول أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر قالت عائشة فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرفع يديه مدا يستعيذ بالله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، ثم قال: أما فتنة الدجال فإنه لم يكن نبي إلا قد حذر أمته وسأحذركموه  تحذيراً لم يحذره نبي أمَّته انه أعور والله عز وجل ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن"(11).   

3 - حفظ أول عشر آيات من أول سورة الكهف، أو آخرها.
فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال".
قال شعبة: "من آخر الكهف".
وقال همام: "من أول الكهف" كما قال هشام.(12)
وفي حديث النواس بن سمعان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف"(13).
وفي رواية لمسلم وأبي داود: "من آخر الكهف".
وفي رواية: "الآيات الثلاث من أول سورة الكهف".
قال الإمام النووي: "قيل سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال وكذا في آخرها قوله تعالى أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا".(14)
وقيل ما فيها من العجائب من تأمين الله سبحانه وتعالى أولئك الفتية من الطاغية الجبار في زمانهم وهروبهم منه، وما فيها من ذكر قصة موسى والخضر عليهما السلام، وفيها ذكر ذي القرنين وبنائه السد، وقصة يأجوج ومأجوج، وكذلك ما فيها من أولئك الذين يظنون أنهم يُحسنون صنعاً، وهم الأخسرين أعمالاً كما أخبر الله تعالى عنهم. والله أعلم.
وقيل: لأن في أولها من العجائب والآيات التي تثبت قلب من قرأها بحيث لا يفتن بالدجال، ولا يستغرب ما جاء به الدجال، ولم يلهه ذلك، ولم يؤثر فيه.
وهذا من فضائل وخصوصيات سورة الكهف، فقد حثنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- على قراءتها وخاصة في يوم الجمعة.
فعلى المسلم أن يحرص على حفظ هذه السورة وعليه أن يتعاهد قراءتها بين الحين والأخر، وخاصة في يوم الجمعة.
فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قرأ الكهف كما أنزلت كانت له نوراً يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يسلط عليه ومن توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق ثم طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة"(15).  

4- الفرار منه والنأي عنه، وعدم التقرب منه، وأن لا يتعرض له.
فعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "من سمع بالدجال فلينأ عنه فو الله إن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث من الشبهات".(16)

5 ـ ومنها سُكنى مكة والمدينة.
فعن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن أبي بكرة قال: أكثر الناس في مسيلمة قبل أن يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه شيئا، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطيباً فقال: "أمَّا بعد ففي شأن هذا الرجل الذي قد أكثرتم فيه وإنه كذاب من ثلاثين كذاباً يخرجون بين يدي الساعة وإنه ليس من بلدة إلا يبلغها رعب المسيح إلا المدينة على كل نقب من نقابها ملكان يذبان عنها رعب  المسيح"(17).
قال النووي: قوله: "نقاب المدينة": هو بكسر النون، أي طرقها وفجاجها، وهو جمع نقب وهو الطريق بين جبلين.
وقال ابن حجر: قال بن وهب المراد بها المداخل، وقيل الأبواب، وأصل النقب الطريق بين الجبلين، وقيل: الأنقاب الطرق التي يسلكها الناس، ومنه قوله تعالى: "فنقبوا في البلاد".
وقوله: "لا يدخل المدينة رعب المسيح": المراد بالرعب ما يحدث من الفزع من ذكره والخوف من عتوه لا الرجفة التي تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص وحمل بعض العلماء الحديث الذي فيه أنها تنفى الخبث على هذه الحالة دون غيرها. (18)
وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل المدينة رعب المسيح   الدجال  لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان".(19)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال"(20).
وفي حديث أبي أمامة: "وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه، إلا مكة والمدينة لا يأتيهما، وليس  نقب من أنقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة، حتى ينـزل عند الضريب الأحمر عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى فيها منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فتنفي الخبيث منها كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص".(21)
السبخة: هي الأرض الرملية التي لا تنبت لملوحتها.
وفي رواية عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج الله كل كافر ومنافق".(22)
قوله: ليس من بلد إلا سيطؤه: أي ليس من بلد إلا وسيدخله الدجال اللعين، إلا مكة والمدينة.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثاً طويلاً عن الدجال فكان فيما حدثنا به أن قال: "يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة ينـزل بعض السباخ التي بالمدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثه، فيقول الدجال: أرأيت إن قتلت هذا ثم أحييته هل تشكون في الأمر فيقولون لا فيقتله ثم يحييه، فيقول حين يحييه والله ما كنت قط أشد بصيرة مني اليوم، فيقول الدجال أقتله، فلا يسلط عليه".(23)
قوله: "ثم ترجف المدينة": أي يحصل لها زلزلة بعد أخرى ثم ثالثة حتى يخرج منها من ليس مخلصا في إيمانه ويبقى بها المؤمن الخالص فلا يسلط عليه الدجال، ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة الماضي أنه لا يدخل المدينة رعب الدجال لأن المراد بالرعب ما يحدث من الفزع من ذكره والخوف من عتوه لا الرجفة التي تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص، وحمل بعض العلماء الحديث الذي فيه أنها تنفى الخبث على هذه الحالة دون غيرها، وقد تقدم أن الصحيح في معناه أنه خاص بناس وبزمان، فلا مانع أن يكون هذا الزمان هو المراد، ولا يلزم من كونه مرادا نفى غيره.اهـ. فتح الباري (4/96).
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: العبرة بالإيمان والعمل الصالح، فذلك هو السبب الأكبر في النجاة، وأما في دار الهجرة وغيرها؛ فهو سبب ثانوي؛ فمن لم يأخذ بالسبب الأكبر؛ لم يفده تمسكه بالسبب الأصغر، وقد أشار إلى هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله للذي سأله عن الهجرة: ويحك! إن شأن الهجرة لشديد! فهل لك من إبل؟.
قال: نعم.
قال: "فهل تؤتي صدقتها؟".
قال: نعم.
قال: "فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يَتِرَكَ من عملك شيئاً".
وما أحسن ما روى الإمام مالك في "الموطأ" (2/235) عن يحيى بن سعيد: أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي: أن هلمَّ إلى الأرض المقدسة -يعني: الشام-.
فكتب إليه سلمان: إن الأرضَ لا تقدسُ أحداً، وإنما يقدسُ الإنسان عملُهُ.
وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).(24)
من أجل ذلك؛ لا يجوز للمسلمين اليوم أن يتركوا العمل للإسلام، وإقامة دولته على وجه الأرض؛ انتظاراً منهم لخروج المهدي ونزول عيسى عليهما الصلاة والسلام؛ يأساً منهم؛ أو توهماً أن ذلك غير ممكن قبلهما! فإن هذا توهم باطل، ويأس عاطل، فإن الله تعالى أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- لم يخبرنا أن لا عودة للإسلام ولا سلطان له على وجه الأرض إلا في زمانهما، فمن الجائز أن يتحقق ذلك قبلهما إذا أخذ المسلمون بالأسباب الموجبة لذلك؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)..(25)
وقوله: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).(26). اهـ. قصة المسيح الدجال (ص35-36).
* * * * *
الهوامش:
1.    قال العلامة الألباني في "قصة المسيح الدجال" (ص116): قال الهيثمي (7/346): "رواه الطبراني، وفيه راوٍ لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح".   
2.    مجموع الفتاوى (20/45).
3.    أخرجه مسلم برقم (588).
4.    هو طاوس بن كيسان اليماني من كبار التابعين.
5.    شرح النووي (5/89).
6.    مجموع الفتاوى (35/118).
7.    الزهد والورع والعبادة (1/143).
8.    أخرجه البخاري في صحيحه برقم (798)، ومسلم برقم (587).
9.    صحيح الجامع حديث رقم (1288).
10.    (صحيح مسلم (2867).
11.    أخرجه أحمد في مسنده (6/139) برقم (25133)، قال الألباني في "قصة المسيح الدجال"      (62): "وإسناده صحيح".
12.    رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1342).
13.    أخرجه مسلم برقم (2937).  
14.    شرح النووي (6/93).
15.    أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني، الصحيحة (582)، الترغيب (218).
16.    رواه أبو داود في الملاحم برقم (3762)، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (6301)، والمشكاة برقم (5488).  
17.    مسند أحمد (5/41).
18.    فتح الباري (4/96).
19.    أخرجه البخاري برقم (1780) باب لا يدخل الدجال المدينة.
20.    أخرجه البخاري برقم (1781)
21.    صحيح الجامع حديث رقم (7875).
22.    أخرجه البخاري برقم (1782).
23.    أخرجه البخاري برقم (1783) باب المدينة تنفي الخبث، ومسلم في الفتن برقم (2938).
24.    التوبة (105).
25.    سورة محمد الآية (7).
26.    سورة الحج الآية (40).