المبحث الثاني والعشرون
أعمال القتال الجوية على الجبهات الثلاث
أولاً: أعمال القتال الجوية العربي

نظراً لعدم دعم الأسراب السورية والعراقية العاملة في فلسطين، سواء خلال الهدنة الأولى أو فترة القتال الثانية، فقد استمر تفاوت أعمال القتال الجوية العربية خلال فترة القتال الثانية سواء من ناحية المهام أو كثافة المجهود الجوى على الجبهات العربية المختلفة. فباستثناء الجبهة المصرية ظلت أعمال القتال الجوية السورية والعراقية مركزة أساساً على معاونة قواتها خلال المعارك البرية، وباستثناء قصفها "لحيفا" يوم 12 يوليه، رُكزت أعمال قتال القوة الجوية السورية على معاونة القوات البرية خلال المعارك الدائرة في منطقة رأس جسر "مشمار هايردن".

وقد أدت الهجمات الجوية السورية يوم 10 يوليه على "روشبينا" ورتل العربات المتقدم على طريق "روشبينا/ محنايم" إلى إيقاع خسائر كبيرة في القوات الإسرائيلية، مما دعا قيادة الجبهة الشمالية إلى طلب الحماية الجوية، فأقلعت طائرتا "مسر شميت" لتنفيذ هذه المهمة، التي انتهت بإسقاط إحدى طائرات "الهارفارد" السورية مقابل إحدى الطائرتين الإسرائيليتين في منطقة "القنيطرة".

وبالإضافة إلى أعمال المعاونة الجوية للقوات السورية في رأس جسر "مشمار هايردن"، التي استمرت حتى نهاية فترة القتال الثانية، قامت طائرات "الهارفارد" بقصف مواقع القوات الإسرائيلية في "العفولة" و"مشمار هاشاجر".

أما القوة الجوية العراقية فقد قامت بمعاونة أعمال قتال القوات البرية شمال "جنين" خلال معاركها من أجل استعادة القرى العربية التي استولت عليها القوات الإسرائيلية خلال فترة القتال الأولى، كما قامت طائرات الأنسن بقصف التجمعات الإسرائيلية في مستعمرة "روش حاييم" يوم 12 يوليه، وفي منطقة "العفولة" و"مجدو" بعد ثلاثة أيام، وفي 16 يوليه قامت طائرات "الأنسن" بقصف رتل المدرعات الإسرائيلية التي كانت تتقدم للاستيلاء على الناصرة.

وعلى عكس الحليفتين السورية والعراقية فقد دُعمت القوة الجوية المصرية تدريجياً خلال الهدنة الأولى وفترة القتال الثانية لتضم سربي قتال من نوع "سبيفير 5، 9" قوة كل منهما 12 طائرة مقاتلة ومقاتلة قاذفة، بالإضافة إلى سرب مختلط (نقل وقذف قنابل) مزود باثنتي عشرة طائرة من نوع "كوماندو" و"داكوتا" جُهز بعضها لقذف القنابل، وسرب مواصلات مزود بخمس طائرات "دف" وطائرة "بيتش كرافت" وقد شُكلت الاسراب السابقة في ثلاث مجموعات رئيسية كما يلي:
1. القوة الجوية التكتيكية: وتشمل عناصر المقاتلات والمقاتلات القاذفة والاستطلاع المتمركزة بمطار العريش وتعمل في تعاون وثيق مع القوات البرية المصرية في الجبهة.
2. القوة الجوية الإستراتيجية: وتشمل عناصر النقل المجهزة كقاذفات وعناصر الاستطلاع المتمركزة في قاعدة ألماظة الجوية بالقاهرة.
3. الاحتياطي: ويمثل باقي القوة القتالية من طائرات النقل والمواصلات، فضلاً عن المقاتلات المتمركزة في قاعدتي ألماظة وحلوان الجويتين. (اُنظر جدول تطور موقف طائرات القوة الجوية المصرية وتمركزاتها (15 مايو ـ 18 يوليو 1948)) و(جدول توزيع المجهود الجوى على مهام القوة الجوية التكتيكية (15 مايو ـ 18 يوليو 1948))

وبالرغم من أن القوة الجوية المصرية كانت تتمركز في ثلاث مطارات (العريش وألماظة وحلوان)، إلا أن الأول كان المطار الوحيد الذي يسمح مكانه باستخدام المقاتلات والمقاتلات القاذفة ذات مدى العمل القصير على طول عمق الجبهة المصرية في فلسطين، ومن ثم تمركزت فيه طائرات القوة الجوية التكتيكية دون أن يكون لها أي مطارات تبادلية، وهو ما كان يمثل نقطة ضعف قاتلة في تجهيز مسرح العمليات المصري في اتجاه فلسطين، أدت إلى فقد السيطرة الجوية في آخر مراحل الحرب.

وفي ظل القوة القتالية السابقة، كان بمقدور القوة الجوية المصرية حشد مجهود جوي أكبر مما تستطيع حليفتاها في الجبهة الشمالية والوسطى، الأمر الذي مكنها من القيام بالعديد من المهام القتالية في وقت واحد على عكس حليفتيها السورية والعراقية.

فخلال فترة القتال الثانية تحولت الجهود الرئيسية للقوة الجوية المصرية لمعاونة القوات البرية وقصف التجمعات البرية المعادية داخل وخارج المستوطنات الإسرائيلية، وبجزء من مجهودها استمرت تلك القوة في القيام بمهام الاستطلاع الجوي والحفاظ على السيطرة الجوية، فضلاً عن حماية القوات والأهداف الحيوية، وقصف المنشآت الصناعية والبحرية الإسرائيلية.

وقد ساعد استمرار التفوق الجوي المصري في المقاتلات والمقاتلات القاذفة على الحفاظ على السيطرة الجوية طوال فترة القتال الثانية، ولتنفيذ هذه المهمة قامت القوة الجوية المصرية بثلاث عشرة طلعة طائرة (تمثل 6% من إجمالي مجهودها خلال تلك الفترة)، ألقت فيها الطائرات المصرية قنابل زنتها أكثر من 5800 رطل (2645 كجم) على مطارات "تل نوف" (عكير) و"هرتسليا" و "سدى دوف" (تل أبيب).

ولشل المنشآت الصناعية والبحرية الإسرائيلية قامت القوة الجوية المصرية بتنفيذ ثلاثة وأربعين طلعة طائرة (تمثل نحو 18% من إجمالي مجهودها خلال فترة القتال الثانية)، ألقت فيها طائراتها قنابل زنتها نحو 31050 رطلاً (14112 كجم) على تلك المنشآت في منطقة "تل أبيب" وجنوبها.

أما معاونة القوات البرية المصرية في الجبهة وحمايتها فقد استنفذت المجهود الأكبر من تلك القوة خلال فترة القتال الثانية، حيث بلغ ذلك المجهود مائة وثمانى وخمسين طلعة طائرة ضد التجمعات والمواقع الإسرائيلية داخل المستعمرات وخارجها (تمثل نحو 67% من مجهودها خلال تلك الفترة)، ألقت فيها طائراتها ما زنته نحو 118940 رطلاً (540620 كجم) من القنابل والذخائر.

ولتنفيذ مهام الاستطلاع الجوي بالنظر والصور نفذت القوة الجوية المصرية خلال فترة القتال الثانية 21 طلعة تمثل ما يقرب من 9% من مجهودها طوال هذه الفترة.

ولم تقتصر جهود القوة الجوية المصرية على جبهتها فحسب، بل استمرت في معاونة القوات الأردنية التي لم يتوفر لها قوة جوية لمعاونتها مثلما حدث خلال فترة القتال الأولى، وقام ممثل القوة الجوية المصرية في هيئة المستشارين بعمَّان بتنسيق استخدام هذا المجهود.

وقد افتتحت القوة الجوية المصرية أعمال قتالها خلال فترة القتال الثانية بقصف مطاري "عكير" و"هرتسليا" يوم 9 يوليه، حيث دمرت خمس طائرات "مسر شميت"، كما قامت بقصف ميناء تل أبيب وأغرقت فيه إحدى سفن النقل، وعلى صعيد المعاونة الجوية قامت القوة الجوية التكتيكية من مطار العريش بمعاونة القوات البرية في نفس اليوم بقصف التجمعات الإسرائيلية في مستعمرة "نجبا" وقرب "جولس".

وفي اليوم التالي تكرر قصف التجمعات الإسرائيلية في "نجبا" و"جولس" بالإضافة إلى "بئر حاييم" و"شديمو" و"جمامة" و"بيت دراس" و"الصوافير"، كما قصفت ميناء ومطار "تل أبيب".

وفي يوم 11 يوليه تكرر القصف الجوي المصري لمطار "عكير" وميناء ومطار "تل أبيب"، بالإضافة إلى قصف المنطقة الصناعية بها، كما قامت القوة الجوية في نفس اليوم بقصف مستعمرات "شديمو" و"بئر طوفيا"، و"كفار عام"، و"دوروت"، فضلاً عن تقديم المعاونة الجوية للقوات الأردنية غرب القدس.

وخلال اليوم التالي ركزت القوة الجوية المصرية جهودها لمعاونة هجوم الكتيبة التاسعة على مستعمرة "نجبا" التي تكرر قصفها أربع مرات في ذلك اليوم، بالإضافة إلى قصف "الصوافير" و"بئر طوفيا" و"روحاما" و"ودوروت" حيث توجد قيادة لواء النقب. كما قامت تلك القوة بإعادة قصف مطار "عكير"، وتقديم المعاونة للقوات الأردنية شمال اللطرون وفي منطقة القدس.

وفي الرابع عشر من يوليه قامت الطائرات المصرية بقصف مستعمرة "بئر حاييم" و"جيفات برنا"، و"جولس" بالإضافة إلى المنطقة الصناعية جنوب "تل أبيب". وفي اليوم التالي قامت القوة الجوية التكتيكية بمعاونة الهجوم على "بئروت يتسحاق"، بالإضافة إلى قصف التجمعات الإسرائيلية في مستعمرات "شديمو" وحول "جمامة" وفي "جولس" و"الصوافير" وخلال ليلة 15/16 يوليه كررت القاذفات المصرية قصف المنطقة الصناعية جنوب "تل أبيب" مرة أخرى.

وفي اليوم التالي قُصفت "تل أبيب" رداً على القصف الإسرائيلي للقاهرة في اليوم السابق، كما قُصفت المواقع الإسرائيلية في "بيت دراس" وتجمعاتها في مستعمرة "جمامة"، بالإضافة إلى إعادة قصف مطار "عكير". كما قامت القوة الجوية في نفس اليوم بتقديم المعاونة الجوية للقوات الأردنية غرب القدس وشمال اللطرون.

ومع اقتراب الهدنة الثانية كثفت القوة الجوية المصرية أعمال قتالها فقامت ليلة 16/17 يوليه بقصف ميناء "تل أبيب" والمنطقة الصناعية جنوبها ومحطة السكك الحديدية، بالإضافة إلى مراكز التدريب، وفي اليوم التالي تكررت أعمال القصف لمنطقة تل أبيب، مما أسفر عن خسائر كبيرة كان ضمنها إحدى سفن النقل كانت راسية بالميناء. وبالإضافة إلى أعمال القصف الجوى السابقة، كثفت القوة الجوية التكتيكية هجماتها في نفس اليوم لمعاونة هجوم الكتيبة الأولى احتياط على "العسلوج"، كما قصفت المواقع والتجمعات الإسرائيلية في "الصوافير" و"جولس" و"بئر طوفيا" و"كفار عام" و"كفار فاربورج"، بالإضافة إلى "شديمو" و"جمامة" و"بركا" و"يفنئيل" و"تل الصافي".

وخلال ليلة 17/18 يوليه تكرر القصف الجوي لمنطقة "تل أبيب"، وفي اليوم التالي قامت القوة الجوية التكتيكية بقصف التجمعات والمواقع الإسرائيلية في مستعمرات "شديمو" و"بئر طوفيا" و"رفافيم" بالإضافة إلى "بيت أشيل" وقريتي "حتا" و"البرير".

وبنهاية فترة القتال الثانية كانت القوة الجوية المصرية قد قامت بمائتين وخمس وثلاثين طلعة فوق الجبهتين المصرية والأردنية. وبذلك بلغ مجهود تلك القوة خلال فترتي القتال الأولى والثانية 487 طلعة أسقطت فيها ما زنته 273410 رطل (124277 كجم) من القنابل، ويوضح (جدول توزيع المجهود الجوى على مهام القوة الجوية التكتيكية (15 مايو ـ 18 يوليو 1948)) المجهود الجوي للقوة الجوية المصرية خلال فترتي القتال السابقتين وتوزيعه على مهام تلك القوة، إلا أن هذا المجهود لم يكن دون خسائر، فقد دفعت القوة الجوية المصرية ثمناً له خسارة عشر طائرات (نصفها بواسطة المقاتلات البريطانية في أعقاب الهجوم الخاطئ على مطار "رامات دافيد" يوم 22 مايو قبل جلاء القوات البريطانية عنه)، بالإضافة إلى استشهاد خمسة طيارين وأسر اثنين آخرين خلال فترتي القتال السابقتين.

ثانياً: أعمال القتال الجوية الإسرائيلية
نجحت الجهود الإسرائيلية المبكرة في دعم سلاحها الجوي الجديد بعشرين طائرة قتال أخرى من نوع "مسر شميت" وطائرتي قاذفات من نوع "موسكيتو" تحطمت إحداها وهي في طريقها إلى إسرائيل بالإضافة إلى ثلاث قلاع طائرة من نوع "بي ـ 17" الأمريكية وأعداد إضافية من طائرات النقل من نوع "داكوتا"، التي جُهز بعضها لقذف القنابل، كما عقدت الحكومة الإسرائيلية صفقتين إضافيتين لشراء مزيد من طائرات القتال (30 مسر شميت و 30 سبيتفير) من تشيكوسلوفاكيا، وصلت تباعاً خلال الشهور التالية، إلا أنه عندما تجدد القتال بعد الهدنة الأولى لم تكن طائرات الصفقتين الأخيرتين قد وصلت بعد وعلى ذلك كانت القوة الجوية الإسرائيلية تتكون في بداية فترة القتال الثانية من نحو 30 طائرة من المقاتلات وطائرات النقل المجهزة لقذف القنابل بالإضافة إلى أعداد أخرى من طائرات النقل والمواصلات والتدريب وانضم إلى هذه القوة ثلاث قاذفات ثقيلة من نوع "بي ـ 17" اعتباراً من 15 يوليه.

وعلى عكس القوى الجوية العربية التي لم تزد قوتها البشرية خلال فترة القتال الثانية، بل نقصت قوتها من الطيارين بقدر خسائرها السابقة، فإن القوة البشرية للسلاح الجوي الإسرائيلي قد زادت بدرجة كبيرة سواء من مصادر التجنيد الداخلي والخارجي أو من المتطوعين والمرتزقة من ذوي الخبرة القتالية الذين تم التعاقد معهم للقتال في صفوفه. وطبقاً لما أشار إليه بعض الطيارين الأجانب الذين شاركوا في القتال في صفوف القوة الجوية الإسرائيلية فإن حجم القوة البشرية في السلاح الجوي الإسرائيلي بلغت نحو 2500 فرد في بداية فترة القتال الثانية، وقد شكل الطيارون والفنيون الأجانب معظم أطقم الطيران والكوادر الفنية ومعظم ضباط هيئة القيادة.

وشُكلت طائرات القتال بعد الهدنة الأولى في ثلاثة أسراب (سربي مقاتلات وسرب قاذفات) بالإضافة إلى الأسراب الثلاثة الأولى المزودة بطائرات النقل والمواصلات والطائرات الخفيفة، وسرب النقل الثقيل الذي شُكل خلال فترة القتال الأولى. ومع وصول القاذفات من نوع بي ـ 17 شكل سرب قاذفات جديد. وتمركزت تلك الأسراب في أربعة مطارات رئيسية هي "رامات دافيد" في الشمال و"عكير" و"هرتسليا" و"سدى دوف" في الوسط بالإضافة إلى أراضي الهبوط العديدة في المستعمرات الإسرائيلية وبالقرب منها.

وقد سمح دعم القوة الجوية الإسرائيلية على النحو السابق بتزايد دورها خلال فترة القتال الثانية. وباستثناء قصف القاهرة ودمشق وعمان ومحاولة قصف مطار العريش، فقد رُكز مجهودها لقصف التجمعات العربية في الجبهات المختلفة وخاصة الجبهة المصرية، إلا أن أداءها كان غير مرض لرئاسة الأركان الإسرائيلية.

ففي التاسع من يوليه تقرر قصف مطار العريش وخُصص لهذا الغرض أربعُ طائرات "مسر شميت" إلا أن إحداها تحطمت أثناء الإقلاع ولم تستطع الطائرات الثلاث الأخرى اكتشاف مكان هدفها، وعوضاً عن مطار "العريش" قامت بقصف بعض الأهداف الأخرى في منطقة "غزة"، حيث أسقطت إحدى الطائرات الثلاث بواسطة قائد الفرقة الجوية (العميد طيار) عبدالمنعم الميقاتي ـ نائب قائد السلاح الجوي المصري – الذي كان في طريقه إلى قيادة الجبهة بطائرته من نوع "لايسندر".

كما ألغي قصف القنيطرة الذي كان محدداً له نفس اليوم لعدم استعداد الطائرات التي كانت مكلفة بالمهمة، أما الطائرات التي خُصصت لقصف عراق المنشية فإنها قصفت مستعمرة "روحاما" بدلاً منها، كما فشلت الطائرات المخصصة لقصف "الفالوجا" في تحديد هدفها وتخلص الطيارون من قنابلهم فوق البحر. وطبقاً لقول أحد الضباط الإسرائيليين:
"كان ذلك مهرجاناً حقيقياً من المهام الفاشلة، ولم يكن لدى طيارينا الكثير ليفخروا به، ولم يتردد جنودنا في أخبارهم بذلك.
" وفي الأيام التالية، كانت معظم مهامنا فاشلة مرة أخرى.وكان أداء قواتنا (الجوية) – بالتأكيد – بعيداً عن أن يكون مرضيا …".
ولم يكن أداء القلاع الطائرة (بي ـ 17) بأفضل حالٍ، فالقاذفات التي كُلفت بقصف قصر عابدين في القاهرة مساء 15 يوليه أسقطت قنابلها بعيداً عن هدفها، كما أُسقطت القاذفة التي كُلفت بقصف مطار العريش قنابلها فوق معسكر بريطاني في منطقة رفح، وفي صباح 16 يوليه أسقطت القاذفات الثلاث التي كُلفت بقصف مطار العريش قنابلها خارج المطار.

وقد أصاب هذا الفشل من جانب القوة الجوية الإسرائيلية، وعجزها عن التصدي للقوة الجوية المصرية ـ بالرغم من تزويدها بطائرات القتال والقاذفات والقوى البشرية المدربة ـ رئاسة الأركان الإسرائيلية بحالـة من الإحباط، في ظل الخسائر التي تكبدتها تلك القوة حتى نهاية فترة القتال الثانية. فطبقاً لما اعترفت به المصادر الإسرائيلية، فإن السلاح الجوي الإسرائيلي خسر ما بين ثماني عشرة وإحدى وعشرين طائرة منها ثماني طائرات مقاتلة من نوع "مسر شميت".

إلا أنه يمكن القول أن موقف القوة الجوية الإسرائيلية في نهاية فترة القتال الثانية كان أفضل مما كانت عليه خلال فترة القتال الأولى، سواء في التسليح أو القوى البشرية أوحتى في الأداء، إلا أنها حتى بداية الهدنة الثانية كانت لا تزال خلف القوة الجوية العربية، بالرغم مما كانت تعانيه الأخيرة من قصور.

وبالرغم من ذلك، فإن المستوى الذي وصلت إليه القوة الجوية الإسرائيلية ـ بالرغم من قصور أدائها واعتمادها بشكل كامل على المتطوعين والمرتزقة الأجانب ـ يعتبر إنجازاً كبيراً للقيادة الإسرائيلية ورئاسة أركانها في ظل الظروف التي كانت تُبنى فيها تلك القوة، وكان اعتمادها على المتطوعين والمرتزقة من ذوي الخبرة فكرة ناجحة تتواءم مع ظروفها ووجود منظمات يهودية نشطة في العديد من بلدان العالم، فما كانت تستطيع أن تشكل الكوادر اللازمة للقوة الجوية من مواطني إسرائيل قبل عدة سنوات، ولم تكن ظروف قيام الدولة تسمح بتلك الفسحة من الوقت. وقد ساعد بُعد نظر "بن جوريون"، والتخطيط المبكر لمواجهة كافة الاحتمالات المنتظرة على تدارك الموقف الجوي المتردي في فترة زمنية قياسية على نحو ما سيجيء في هذا الفصل.

ثالثاً: محصلة فترة القتال الثانية
عندما توقف القتال في الساعة 1700 يوم 18 يوليه لإفساح المجال للجهود السياسية لحل المشكلة، جاءت محصلة فترة القتال الثانية في صالح إسرائيل، فقد زادت رقعة الأرض التي تسيطر عليها خلال تلك الفترة بنحو ألف كيلومتر مربع، وبذا أصبح في حوزتها 1300 كم3 من الأراضي المخصصة للعرب في قرار التقسيم، بينما ظل العرب يسيطرون على ثلاثمائة وثلاثين كيلومتراً مربعاً من الأراضي المخصصة لليهود بموجب ذلك القرار، بالإضافة إلى كل النقب الجنوبي.

وقبل أن تحل الهدنة الثانية كانت القوات الإسرائيلية قد استولت على 303 قرية عربية منها 112 قرية داخل المنطقة المخصصة للعرب في القرار المشار إليه في مقابل أربع عشرة مستعمرة يهودية احتلتها القوات العربية في نفس الفترة.

إلا أنه برغم الإنجازات السابقة للقوات الإسرائيلية، فإنه باستثناء نجاحها ضد قوات "القاوقجي" العاجز في الجليل الأسفل فإنها فشلت في تحقيق الأهداف الإستراتيجية الأساسية التي حددها لها "بن جوريون" على جبهاتها الرئيسية الثلاث بالرغم من تفوقها العسكري وخلافات العرب وافتقار قواتهم إلى وحدة القيادة والتعاون والتنسيق.

ففي الجبهة الشمالية فشلت القوات الإسرائيلية في تصفية رأس الجسر السوري في "مشمار هايردن"، وفي الجبهة الوسطى والقدس عجزت القوات الإسرائيلية عن زحزحة القوات الأردنية في اللطرون وفتح الطريق الرئيسي إلى القدس، كما ظلت البلدة القديمة تحت سيطرة الفيلق الأردني، وفي الجبهة الجنوبية جاء فشلها كاملاً سواء بالنسبة لفك الحصار عن مستعمراتها في النقب أو قطع طريق الإمداد عن القوات المصرية في المحور العرضي.

وبالرغم من الضغط الإسرائيلي الذي تعرضت له القوات العربية خلال فترة القتال الثانية فقد ظلت الجيوش العربية النظامية في الجبهات الثلاث سليمة بوجه عام بالرغم مما كانت تعانيه من عجز وقصور.

رابعاً: تطور الموقف السياسي خلال فترة القتال الثانية
في الوقت الذي كان القتال فيه مستعراً على الجبهات المختلفة في فلسطين خلال فترة القتال الثانية، كانت التطورات السياسية في المنطقة وداخل الأمم المتحدة لا تقل نشاطاً. ففي السابع من يوليه ـ وقبل أن يعلن العرب رفضهم مد أجل الهدنة الأولى ـ وجه مجلس الأمن نداءاً إلى الطرفين يناشدهما مد أجل الهدنة للفترة التي يمكن أن تُحدد مع الوسيط الدولي.

وعلى ضوء نداء مجلس الأمن ناشد الوسيط الدولي الأطراف المعنية مرة أخرى المبادرة بوقف إطلاق النار دون قيد أو شرط لمدة عشرة أيام ابتداءاً من العاشر من يوليه، إلا أن الدول العربية رفضت ذلك الطلب، وبعث الأمين العام لجامعة الدول العربية بمذكرة إلى السكرتير العام للأمم المتحدة يوم 10 يوليه يوضح له فيها موقف العرب الرافض لمد الهدنة وأسباب ذلك الرفض، مشيراً إلى أن تجربة الهدنة الأولى قد أثبتت أنه في الوقت الذي كانت فيه سيول المهاجرين اليهود تتدفق على فلسطين بشكل لم يسبق له مثيل، كان سيل اللاجئين العرب يتدفق خارج تلك البلاد، ومن ثم فإن وقف إطلاق النار بالشكل الذي حدث خلال تلك الهدنة لا يحقق ظروفاً متكافئة للجانبين، وإنما هو عملياً في صالح جانب دون آخر.

وإزاء طلب إسرائيل إدانة العرب كمعتدين وطلب "برنادوت" اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجديد وقف إطلاق النار في فلسطين، وافق مجلس الأمن في الخامس عشر من يوليه على مشروع قرار أمريكي، يقضي بلوم العرب لعدم التوصل إلى هدنة، ويأمر بوقف إطلاق النار بصفة دائمة خلال ثلاثة أيام والتهديد باستخدام العقوبات في حالة تجاهل ذلك الأمر، كما كان ذلك القرار يقضي بوقف إطلاق النار في مدينة القدس خلال أربع وعشرين ساعة ونزع سلاح المدينة، وتخويل الوسيط الدولي صلاحية الإشراف على تنفيذ الهدنة، وتحقيق أية ادعاءات خاصة بانتهاكها منذ بدء سريانها في الحادي عشر من يونيه. (اُنظر ملحق قرار مجلس الأمن الرقم 54 بفرض الهدنة الثانية 15 يوليه 1948)

وعلى ضوء ما أسفر عنه اجتماع اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في "عالية"، أرسل الأمين العام لجامعة الدول العربية خطاباً إلى السكرتير العام للأمم المتحدة في السادس عشر من يوليه يفند فيه اتهام العرب بالعدوان، ويوضح أن رفضهم لمد الهدنة نابع من نقض اليهود لتلك الهدنة واستغلالهم لها في تدعيم قدراتهم العسكرية. ومع ذلك، فالعرب لم يقفلوا الباب أمام الجهود التي يبذلها الوسيط الدولي لإيجاد حل سلمي عادل، وأنهم يقبلون وقف إطلاق النار في مدينة القدس التي هاجمها الإسرائيليون صباح التاسع من يوليه دون أي استفزاز من جانب العرب[1].

وتحت الضغوط الدولية والتهديد الكامن في قرار مجلس الأمن بتوقيع عقوبات في حالة عدم الامتثال لوقف إطلاق النار، واختلاف العرب في شأن رفض استمرار الهدنة، فإن الدول العربية وافقت في النهاية على وقف إطلاق النار في كافة الجبهات. ومن ثم، أرسل الأمين العام لجامعة الدول العربية إلى الوسيط الدولي في الثامن عشر من يوليه يخطره بأن الدول العربية قد أصدرت أوامرها لوقف إطلاق النار في فلسطين ابتداءاً من الساعة الخامسة من بعد ظهر نفس اليوم (بالتوقيت المحلي).


*****************************
[1] يُرجع الدكتور إبراهيم شكيب أن ما جاء في رسالة الأمين العام لجامعة الدول العربية بخصوص قبول وقف إطلاق النار في القدس فقط يعود إلى قبول الأردن إيقاف القتال، مختلفة بذلك عن باقي الدول العربية، بينما يشير الدكتور فلاح خالد ـ استناداً إلى ما ذكره عارف العارف في كتاب النكبة ـ أنه عندما اجتمعت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في بيروت (عالية) لمناقشة قرار مجلس الأمن بخصوص إيقاف القتال، فإن قرار قبول اللجنة السياسية لوقف إطلاق النار في كافة الجبهات صدر بالأغلبية وليس بالإجماع.
فقد صوت كل من محمود فهمي النقراشي (مصر) وتوفيق أبو الهدى (شرق الأردن) في جانب إيقاف القتال، بينما كان مزاحم الباجة جي (العراق) يرى استئناف القتال لكنه ما لبث أن غير رأيه بسبب موقف الأردن، أما جميل مردم (سورية) ورياض الصلح (لبنان) فكانا في جانب استمرار القتال.