المبحث الثامن والعشرون
أعمال قتال الجانبين بعد الإنذار البريطاني
أولاً: أعمال القتال الجوية للجانبين خلال فترة القتال الرابعة
1. القوة الجوية الإسرائيلية
أ. موقف القوة الجوية الإسرائيلية عشية العملية "حوريف"
قبل أن تستأنف القوة الجوية الإسرائيلية أعمال قتالها التي افتتحت بها العملية "حوريف" كانت تلك القوة قد حققت تفوقاً كبيراً في ميزان القوى الجوية بالنسبة لنظيرتها المصرية، حيث بلغت تلك القوة خلال شهر نوفمبر طبقاً للتقديرات البريطانية الرسمية ما بين 150، 160 طائرة، وزاد ميزان القوى ميلاً لصالح القوة الجوية الإسرائيلية بوصول باقي صفقة الخمسين طائرة قتال من نوع "سبيتفير" خلال شهر ديسمبر (العملية فلفتا 2). وعلي صعيد القوة البشرية دُعمت تلك القوة بأعداد إضافية من الطيارين البريطانيين والأمريكيين والكنديين من ذوي الخبرة العالية. وبالإضافة إلي الأربعة مطارات وأراضي الهبوط التي كانت تعمل منها القوة الجوية الإسرائيلية خلال العملية يوآف أُعيد تمركز السرب المقاتل رقم 101 من "هرتسليا" إلي مطار "حاتسور" (المطار البريطاني السابق في منطقة كاستينا).
وهكذا دخلت القوة الجوية الإسرائيلية العملية "حوريف" وهي متفوقة في القوة العددية والكفاءة النوعية، فضلاً عن أن معظم طياريها كانوا من المتطوعين والمرتزقة الأجانب الذين خاضوا الحرب العالمية الثانية واكتسبوا خبراتها، بل إن عدداً كبيراً منهم كان من أبطالها.
ب. دور القوة الجوية الإسرائيلية خلال فترة القتال الرابعة
تلخص دور القوة الجوية في القيام بالمهام التالية:
(1) حماية القوات البرية والبحرية من الهجمات الجوية المعادية.
(2) القتال من أجل السيطرة الجوية.
(3) القيام بأعمال القصف الجوي للأهداف المنتخبة.
(4) إخلاء الخسائر.
(5) القيام بأعمال الاتصال وتوجيه نيران المدفعية.
ولتنفيذ المهام السابقة تمَّ تخطيط أعمال قتال القوة الجوية الإسرائيلية تفصيلاً خلال اليومين الأولين للعملية "حوريف"، وطبقاً لتلك الخطة تم قصف منطقة ومطار "العريش" مرتين يوم 22 ديسمبر الأولي خلال مرحلة التمهيد للهجوم البري مساء ذلك اليوم والثانية قبل منتصف ليلة 22/23 ديسمبر وقد استخدم في الهجوم الأول ثلاث طائرات قاذفة من نوع "بي ـ 17" وأربع طائرات مقاتلة (2 سبيتفير و2 موستانج)، أما الهجوم الليلي فتم بطائرتي "داكوتا" مجهزتين لقذف القنابل.
وبالإضافة إلي "العريش" استهدف التمهيد الجوي مساء يوم 22 ديسمبر كل من "غزة" و"خان يونس" و"الفالوجا" و"رفح"، حيث خُصص للهجوم علي الأولي طائرتا "هارفارد" بينما خُصص للثانية طائرتان من نفس النوع بالإضافة إلي طائرتي "مسر شميت"، ثم كُرِّرَ الهجوم ليلاً علي "غزة بطائرة من نوع "كوماندو" مجهزة لقصف القنابل، أما "الفالوجا" فكانت من نصيب طائرات "بيبركب"، حيث قامت بالهجوم عليها 4 طائرات من ذلك النوع خلال مرحلة التمهيد الجوي للهجوم مساء ذلك اليوم، بينما خصص للهجوم علي "رفح" طائرة "كوماندو" وطائرتين من نوع "داكوتا"، بالإضافة إلي طائرتي " مسر شميت".
وتكرر القصف الجوي للأهداف السابقة اعتباراً من الساعة 0100 يوم 23 ديسمبر وحتى مساء ذلك اليوم، فقصفت "غزة" و"العريش" و"الفالوجا" ليلاً، الأولي بواسطة طائرة "كوماندو"، والثانية بواسطة طائرة أخرى من نوع "داكوتا"، أما الثالثة فقصفت بطائرات "بيبركب". وتكرر قصف "غزة" فجر نفس اليوم بواسطة طائرة "داكوتا" وأخري من نوع "كوماندو" أما "العريش" فقد تكرر قصفها مرتين، الأولي صباح نفس اليوم بواسطة ثلاث طائرات قاذفة من نوع "بي ـ 17"، والثانية بنفس الطائرات بعد ظهر ذلك اليوم، أما "خان يونس" فتم تكرار الهجوم عليها بواسطة أربع طائرات "هارفارد" مساء اليوم نفسه.
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه أعمال القصف السابقة كانت الطائرات الإسرائيلية المقاتلة تقوم بأعمال الدوريات لحماية القوات البرية، بينما كانت الطائرات الخفيفة لسربي "تل أبيب" و"النقب" تقوم بأعمال الاتصال والملاحظة لتوجيه نيران المدفعية الإسرائيلية.
إلا أنه يمكن القول أن بعض أعمال القتال السابقة لم تحقق أهدافها. فلم يسفر الهجوم علي مطار "العريش" يوم 22 ديسمبر ـ الذي استهدف شل ذلك المطار وتدمير الطائرات فيه ـ إلا عن تعطيل الممرات، وإصابة طائرة "داكوتا" وأخري من نوع "ماكي" ببعض الأعطال، بينما ظلت باقي الطائرات سليمة نتيجة الانتشار والإخفاء والتمويه الجيدين.. وعند الاقتراب لقصف منطقة "رفح" لم تستطع أطقم الطائرات الإسرائيلية تمييز الأهداف المحددة لها واضطرت إلي إلقاء قنابلها في البحر.
وفي يوم 23 أكتوبر تركز القصف الجوي الإسرائيلي ضد القوات المصرية في منطقة "الفالوجا" و"دير البلح"، وفي اليوم التالي أغارت بعض الطائرات الإسرائيلية علي مطار "العريش" و"خان يونس" و"غزة" و"دير البلح" مرة أخري.
وقبل بدء الهجوم الإسرائيلي الرئيسي علي القطاع الشرقي للجبهة المصرية كرَّرت القوة الجوية الإسرائيلية غاراتها علي المواقع المصرية في منطقة "رفح" ومطار "العريش" يوم 25 ديسمبر لتثبيت القوات المدافعة في القطاع الساحلي، واستمراراً لعملية تضليل القيادة المصرية عن اتجاه الهجوم الرئيسي، والحفاظ علي السيطرة الجوية التي تم تحقيقها خلال الأيام السابقة.
وما أن بدأ الهجوم الرئيسي علي منطقتي" العسلوج" و"العوجة" حتى بدأت طائرات القتال الإسرائيلية في أعمال دوريات الاستطلاع المسلح لعزل القطاع الشرقي للجبهة المصرية عن أية تعزيزات يمكن أن تصل من "رفح" و"سيناء" مع تكثيف القصف الجوي علي منطقة "الفالوجا" لتليين دفاعاتها تمهيدا للهجوم المخطط عليها.
ومع تقدم القوات الإسرائيلية داخل الأراضي المصرية يوم 28 ديسمبر تعرَّضت تلك القوات لقصف إحدى دوريات الاستطلاع الجوى المسلح الإسرائيلية التي ظنتها القوات المصرية المنسحبة، وهو الأمر الذي تكرر مرة أخري في اليوم التالي عندما بدأت القوات الإسرائيلية تحركها شمالاً في اتجاه "العريش".
وما أن استعادت القوة الجوية التكتيكية المصرية قدرتها علي العمل اعتباراً من 27 ديسمبر حتى تعددت الاشتباكات بين المقاتلات المصرية والإسرائيلية. ففي صباح 28 ديسمبر اشتبك تشكيل مقاتلات مصرية من نوع "ماكي" كان يقوم بمعاونة قوات "الفالوجا" مع تشكيل إسرائيلي من نوع "سبيتفير" كان يقوم بحراسة طائرات "الهارفارد" التي تهاجم القوات المصرية المحاصرة في نفس المنطقة، وأسفر ذلك الاشتباك عن فقد طائرة من كل جانب، كما شهد ذلك اليوم أيضاً إسقاط طائرة إسرائيلية أخري من نوع "بيبركب" بواسطة أحد الطيارين المصريين في منطقة "العوجة".
وفي التاسع والعشرين من ديسمبر كُثفت أعمال القصف الجوي الإسرائيلي علي قوات "الفالوجا" لمعاونة تخلص لواء "اسكندروني" من هجومه الفاشل علي "عراق المنشية" كما شهد بعد ظهر ذلك اليوم اشتباك بين المقاتلات الإسرائيلية والمصرية في منطقة "العريش" إلا أن ذلك الاشتباك لم يُسفر عن أي خسائر في الجانبين.
وفي يوم 30 ديسمبر تجددت الاشتباكات بين دوريات الاستطلاع المسلح من الجانبين، حيث اشتبكت طائرتان إسرائيليتان من نوع "سبيتفير" مع أخريين مصريتين من نوع "ماكي" شمال "أبو عجيلة" وأسفر ذلك الاشتباك عن إصابة إحدى الطائرات الإسرائيلية وهبوط الطائرتين المصريتين اضطرارياً في مطار "العريش" وارض الهبوط جنوبها.
وفي أخر أيام عام 1948 كثَّفت القوة الجوية الإسرائيلية أعمال القصف الجوي ضد قوات الفالوجا. وعندما قامت إحدى القرويطات المصرية بقصف "تل أبيب" مساء نفس اليوم أقلعت إحدى طائرات "بي ـ 17" لقصف السفينة المصرية، وبالرغم من إسقاطها طناً ونصف طن قنابل إلا أنها لم تصب السفينة التي عادت إلي قاعدتها سالمة. وفي نفس الليلة كرَّرت الطائرات الإسرائيلية قصف" الفالوجا" و"غزة" و"دير البلح".
وفي اليوم التالي قامت المقاتلات الإسرائيلية بقصف محطة السكة الحديد في "رفح" وأحد القطارات المصرية في شمال سيناء، وقد نجحت المدفعية المصرية المضادة للطائرات في منطقة "رفح" من إصابة إحداها.
وخلال عملية إعادة التجميع والتحضير للهجوم الإسرائيلي الأخير علي منطقة "رفح" انحسرت أعمال القتال الجوية الإسرائيلية بدرجة كبيرة. إلا أنها عادت لسابق معدلاتها اعتباراً من يوم 4 يناير 1949. حيث قامت القاذفات الإسرائيلية بقصف بعض التجمعات المصرية قرب" العريش" صباح ذلك اليوم وبعد ساعتين عاودت الطائرات الإسرائيلية قصف المواقع المصرية في منطقة تقاطع الطرق جنوب "رفح". وفي مساء نفس اليوم هاجمت القاذفات الإسرائيلية المعسكرات والمستودعات المصرية في منطقة "رفح" كما قصفت "غزة" بعد حلول الظلام.
وفي صباح 5 يناير عاودت الطائرات الإسرائيلية قصف "خان يونس" وأحد القطارات كان واقفا في محطتها، وظُهر نفس اليوم قام قسم مقاتلات مختلط (سبيتفير وموستانج) باستطلاع مسلح لطريق "العوجة/ رفح". وخلال ليلة 5/6 يناير قصفت بعض طائرات "الداكوتا" و"الكوماندو" كل من "الفالوجا" و"غزة" مرتين. وفي صباح اليوم التالي قامت بعض المقاتلات الإسرائيلية بأخر طلعاتها ضد القوات المصرية في العملية "حوريف" لمعاونة القوات الإسرائيلية التي كانت المدرعات المصرية تكتسحها بهجومها المضاد الذي شنته صباح ذلك اليوم.
وبنهاية العملية "حوريف" كانت القوة الجوية الإسرائيلية قد نفذت 243 طلعة طائرة ألقت خلالها 226 طناً من القنابل، مقابل 239 طلعة طائرة خلال العملية "يوآف" ألقت خلالها 151 طنا من القنابل.
وقد اتَّسم استخدام القوة الجوية الإسرائيلية خلال فترة القتال الرابعة بالأسس السليمة للحرب الجوية، فقد كانت العمليات البرية ُتفتتح بهجمات جوية علي المطار الوحيد الصالح للقوة الجوية المصرية في الجبهة يعقبها تمهيد جوي ضد مناطق تجمعات القوات البرية المصرية ومواقعها الدفاعية ثم عرقلة خطوط المواصلات والقيام بدوريات الاستطلاع المسلح بحثاً عن الأهداف البرية والجوية المصرية المتحركة.
وقد سمح ذلك الاستخدام للقوة الجوية الإسرائيلية المتفوقة بالحد من فاعلية القوة الجوية المصرية خلال فترة القتال الرابعة بدرجة كبيرة، فإذا أضفنا إلي ذلك أوجه القصور في القوة الجوية المصرية والعربية سواء في التسليح أو القوة البشرية أو تجهيز مسرح العمليات ـ التي لم يتم تداركها لمواجهة ما طرأ علي القوة الجوية الإسرائيلية من تطور خلال الهدنات السابقة ـ وعدم مشاركة القوات الجوية العربية الأخرىفي القتال خلال المرحلة الأخيرة والحاسمة من الحرب، فقد كان لدي القوى الجوية الإسرائيلية فرصة أفضل للقيام بدور أكثر تأثيراً علي مجريات الحرب في تلك المرحلة في ظل تمتعها بعامليْ المبادأة والمفاجأة في بداية فترتي القتال الأخيرتين.
2. القوة الجوية المصرية
أ. موقف القوة الجوية المصرية عشية العملية" حوريف"
توضح يومية صلاحية طائرات السلاح الجوي الملكي المصري في الثاني والعشرين من ديسمبر الحالة الفنية المتدنية لطائرات ذلك السلاح عندما اندلع القتال مرة أخري في الثاني والعشرين من ديسمبر. فمن إجمالي طائرات السلاح الجوي التي بلغ عددها آنذاك 113 طائرة، لم يكن صالح منها سوى 55 طائرة أي ما لا يزيد عن 49% من تلك القوة.
كما أن طائرات القوة الجوية التكتيكية في العريش البالغ عددها عشرين طائرة، لم يكن الصالح منها يزيد علي ثماني طائرات، أي نحو 40% من تلك القوة التي كان بيانها كما يلي:
· 8 طائرة سبيتفير صالح منها طائرة واحدة
· 2 طائرة فيوري صالح منها طائرة واحدة
· 10 طائرة ماكي صالح منها ست طائرات
ولم تكن حالة طائرات القوة الجوية الإستراتيجية في مطار ألماظة بأفضل كثيراً من سابقتها، فمن إجمالي طائراتها البالغ عددها تسع طائرات كان هناك فقط ست طائرات صالحة، أي ما لا يزيد عن 68% من تلك القوة التي كان بيانها كما يلي:
· 3 طائرة داكوتا (مجهزة لقذف القنابل) صالح منها ثلاث طائرات
· 2 طائرة بيتشكرافت (مجهزة لقذف القنابل) صالح منها طائرتان
· 4 طائرة ستيرلنج (قاذفة) صالح منها طائرة واحدة
وهكذا كان علي القوة الجوية المصرية أن تخوض أخر معاركها في تلك الحرب ـ خلال العملية "حوريف" ـ وهي في مرحلة تحول حرجة بين طائراتها القديمة ـ التي توقف أغلبها لحاجتها إلي محركات جديدة من ناحية، وتخلفها عن طائرات العدو من ناحية أخري ـ وطائراتها الحديثة التي لم يكن قد تم استكمال التدريب عليها، فضلاً عن حاجة البعض منها إلي معدات وقطع غيار لم يكن قد تم توفيرها بعد.
ولم يكن موقف وسائل السيطرة وأنظمة الإنذار الرادارية في السلاح الجوي بأفضل حال من موقف الطائرات إن لم يكن أسوء منها فرغم محاولات السلاح "الجوي" المتكررة للحصول علي وحدات رادار ثابتة ومتحركة للإنذار المبكر ضد الغارات الجوية، إلا أن السلاح لم يتمكن من ذلك في السنوات الماضية بسبب عدم درج الاعتمادات اللازمة في الميزانيات المتتالية. وعندما توفرت الاعتمادات اللازمة في المرحلة الثانية من الحرب، فإن إعلان الحظر الدولي علي تزويد الأسلحة إلي فلسطين والدول المجاورة لها وقف في سبيل حصول مصر علي تلك المحطات الرادارية.
وبالنسبة للقوة البشرية، فيشير تقدير موقف القوة الجوية التكتيكية في الخامس والعشرين من نوفمبر ـ قبل أقل من شهر من بدء العملية "حوريف" أنه كان يعمل بتلك القوة خمسة عشر طياراً مدرباً، كان ينتظر أن ينضم عليهم ثلاثة عشر طياراً جديداً في أول ديسمبر، يعقبهم 15 طياراً آخرون في منتصف ذلك الشهر. وبذلك يمكن القول أنه كان بالقوة الجوية التكتيكية عشية تجدد القتال بالعملية "حوريف" نحو 43 طياراً منهم ثمانية وعشرون يفتقرون إلي خبرة القتال، بالإضافة إلي أطقم القوة الجوية الإستراتيجية التي لم تكن تزيد علي عشرة أطقم بالإضافة إلي خمسة عشر من طياري القتال الآخرين الذين كانوا لا يزالون تحت التدريب.
أما بالنسبة لتجهيز مسرح العمليات، يشير تقدير موقف القوة الجوية التكتيكية في الخامس والعشرين من نوفمبر إلي أنه أصبح يتوفر لتلك القوة بالميدان مطار وأرض هبوط جنوب العريش، إلا أن الأخيرة لم تَعُد تصلح للاستعمال لحلول فصل الشتاء وموسم الأمطار وأنه أتُخذت الإجراءات لرصف ممراتها، إلا أنه لا ينتظر الانتهاء من ذلك قبل انقضاء شهر، ومن ثم فإنه حتى انتهاء هذه المدة لن يكون هناك سوي مطار واحد لتمركز القوة الجوية التكتيكية.
وحذَّر كل من قائد القوة الجوية التكتيكية وقائد الجبهة المصرية وزارة الحربية من خطورة وضع القوة الجوية التكتيكية بالجبهة، والتي لا يتوفر لها أنذاك سوي مطار واحد صالح ليس به أي ممرات عرضية، وعلي ذلك قامت لجنة من السلاح الجوي وإدارة المهندسين والأشغال العسكرية باستطلاع الأراضي التي يمكن الاستفادة بها كمطارات أو أراضي هبوط للقوة الجوية في سيناء وقد وجدت اللجنة أربع مناطق يمكن الاستفادة منها كان أفضلها أرض الهبوط البريطانية في منطقة "بير الحمة" التي يمكن استخدامها خلال الشتاء ولا تحتاج إلا لتجهيزات بسيطة، إلا أنه حتى بدء العملية "حوريف" لم يكن قد تم إعداد أية أرض هبوط جديدة بينما كانت مطارات القاهرة أبعد من أن تصلح لتمركز طائرات القتال العاملة في فلسطين، الأمر الذي كان يشكل نقطة ضعف قاتلة، في ظل التفوق الجوي الذي حققته إسرائيل في ميزان القوى الجوية، وهو ما أدي إلي فقد السيطرة الجوية المصرية علي مسرح العمليات.
ب. انعكاس موقف القوة الجوية المصرية علي أعمال قتالها
إزاء الموقف السابق بدأت العملية "حوريف" وليس هناك سوى مطار واحد صالح لاستخدام القوة الجوية التكتيكية في سيناء، بينما كانت أراضي الهبوط في منطقة الحمة وجنوب "العريش" لازال العمل يجري لتجهيزها. وتحت إلحاح القائد العام بفلسطين بعد تعطل مطار "العريش" في أولي أيام العملية قبلت إدارة العمليات الجوية باحتلال أرض هبوط "الحمة" قبل استكمال تجهيزها بمجرد أن أصبحت ممراتها صالحة. كما وجهت جهود القوة الجوية الإستراتيجية ضد المطارات الإسرائيلية ليلاً. الأمر الذي حد من تدخل القوة الجوية الإسرائيلية في المعارك التي كانت تدور آنذاك في القطاع الساحلي، وسمح بحرية العمل للقوات البرية المصرية في ذلك القطاع، إلا أن نجاح القوة الجوية الإسرائيلية في تعطيل مطار "العريش" خلال المرحلة الأولي من العملية "حوريف" حد في الوقت نفسه من نشاط القوة الجوية التكتيكية لمعاونة القوات البرية المصرية. وبنهاية السادس والعشرين من ديسمبر كانت القوة الأخيرة مستعدة مرة أخري لاستئناف أعمال قتالها، مستخدمة هذه المرة، طائراتها الجديدة من طرازي "ماكي" و"فيات" ضد القوات الإسرائيلية التي كانت تهاجم المواقع المصرية في منطقتي "العسلوج" و"العوجة" كما قامت بحماية الوحدات المصرية المنسحبة من هذه المواقع بعد عزلها.
وتسجل برقية القائد العام للقوات المصرية بفلسطين إلي رئيس أركان حرب الجيش بالنيابة، مساء السابع والعشرين من ديسمبر، نتائج جهود تلك القوة في ذلك اليوم كما يلي:
"اكتسحت اليوم طائراتنا بالقنابل والمدافع حوالي 60 مصحفة، 20 دبابة عند "عسلوج ـ العوجة". وضربت المواقع التي يحتلها العدو لتقطيع (لتجزئة وعزل) قواتنا. وقد قيدت هذا المجهود المشكور للطيران في سجل الحرب الخاص بقسم التعاون الجوي"..
وفي اليوم التالي، استمر نشاط القوة الجوية المصرية ضد القوات الإسرائيلية المتقدمة في وادي "الأبيض" شمال "العوجة" وعلي طريق "العوجة/ رفح" ورغم الخسائر التي ألحقتها القوة الجوية بالقوات الإسرائيلية، فإن المجهود الجوي لذلك اليوم (12طلعة) لم يكن كافياً بطبيعة الحال لإيقاف تقدم القوات الإسرائيلية نحو العوجة التي سقطت في أيدي الأخيرة في نفس اليوم. وتشمل تقارير العمليات الجوية في ذلك اليوم رصدها لتقدم القوات الإسرائيلية من "العوجة" إلي "أبي عجيلة" داخل الأراضي المصرية بعد ظهر نفس اليوم.
ولما لم يكن هناك أي مواقع دفاعية برية في منطقة "أبي عجيلة" قادرة علي صد القوات الإسرائيلية المتقدمة وإيقافها، بعد انهيار دفاعات "العسلوج" و"العوجة"، فقد تقدمت طلائع القوات الإسرائيلية ـ ممثلة في أكثر من ثمانين مصفحة وعشرين دبابة ـ نحو "العريش" صباح التاسع والعشرين من ديسمبر، لاستكمال تطويق القوات المصرية الرئيسية في القطاع الساحلي ما بين "غزة" و"العريش"، مع دفع مفرزة في اتجاه "بئر الحمة".
ونظراً لأن تقدم القوات الإسرائيلية بهذه الصورة كان يهدد مطار "العريش" (رقم 10) وأرض الهبوط في "بئر لحفن" (رقم 15)، فضلاً عن أرض هبوط "الحمة" (رقم 20) التي تقدمت إليها المفرزة الإسرائيلية، فقد تم إخلاء الطائرات والطيارين من مطاري "العريش" و"بئر الحمة" إلي مطار "ألماظة" في نفس اليوم حتى يتم تأمين هذه المطارات.
وعلي ذلك، فقد كان التاسع والعشرون من ديسمبر 1948 أكثر أيام الجيش المصري حرجاً منذ بداية تلك الحرب في فلسطين. إذ إن نجاح القوات الإسرائيلية في الاستيلاء علي العريش ـ لو تم في ذلك اليوم ـ كان يعني حصار الجيش المصري في القطاع الساحلي، وحرمانه من قاعدته الإدارية في العريش، فضلاً عن أي إمدادات يمكن أن تصله من القاهرة، الأمر الذي كان يمثل كارثة عسكرية بكل المقاييس.
ولما لم يكن هناك في صباح ذلك اليوم أية احتياطيات برية قادرة علي صد المدرعات الإسرائيلية جنوب العريش، باستثناء موقع دفاعي أنشأته الكتيبة التاسعة المشاة علي عجل. فقد كانت القيادة المصرية في الجبهة في أمس الحاجة إلي تعطيل ذلك الهجوم، حتى يتوفر لها فسحة من الوقت لتجميع احتياطياتها ودفعها للدفاع عن المدينة المهددة. وفي هذه اللحظات الحاسمة، لم يكن هناك سوى القوة الجوية المصرية، لتوفير تلك الساعات الثمينة للحفاظ علي شرف الجيش المصري، الذي كان معلقاً بأجنحة نسوره في ذلك اليوم.
وعلي ذلك، فقد قامت إدارة العمليات الجوية بحشد كل ما كان لديها من طائرات صالحة من المقاتلات والمقاتلات القاذفة والقاذفات وحتى طائرات النقل القادرة علي حمل القنابل لإيقاف الهجوم الإسرائيلي علي "العريش" مهما كان الثمن. ونتيجة لانسحاب طائرات القوة الجوية التكتيكية إلي "ألماظة" بعد تهديد تمركزاتها في سيناء، وبُعد الأخير عن الأهداف الإسرائيلية المطلوب مهاجمتها، فقد كان من الصعب استخدام طائرات تلك القوة دون خزانات وقود إضافية، أو استخدام مطارات متقدمة لإعادة الملء بالوقود.
ولما كان السلاح الجوي المصري يفتقر إلي الخزانات المطلوبة ـ بعد إسقاط العديد منها في إمداد قوات الفالوجا ـ فقد أرسل الفريق محمد حيدر أحد كبار ضباط السلاح الجوي إلي المحلق الجوي البريطاني صباح ذلك اليوم، يخطره بعبور القوات الإسرائيلية للحدود المصرية وتقدمها نحو "العريش"، ويطلب تزويد السلاح الجوي المصري بعشرين من خزانات الوقود الاحتياطية ـ الخاصة بالدوريات بعيدة المدى– علي وجه السرعة. كما طلب وزير الحربية تسهيلات لطائرات السلاح الجوي المصري في المطارات البريطانية بمنطقة القناة. (اُنظر ملحق Most Immediate and Confidential Telegram No .1793 From Sir Roland Campbell to the Foreign Office. December 29, 1948)
وعلي ضوء بلاغ وزير الحربية المصرية ومطالبه، قام السفير البريطاني بإبلاغ كل من القائد العام للقوات البريطانية في مصر ووزارة الخارجية في "لندن" بالموقف الجديد في سيناء ومطالب وزير الحربية، كما طلب تعليمات حكومته بهذا الخصوص علي وجه السرعة.
وبعد بضع دقائق من برقيته الأولي، أرسل السفير البريطاني يخطر الخارجية البريطانية، أن الملحق الجوي البريطاني قد تلقي إخطاراً جديداً من وزير الحربية المصري، بوصول القوات اليهودية 10كم جنوب العريش داخل الحدود المصرية.
ولما كان الوقت حرجاً وثميناً في نفس الوقت، فلم تنتظر إدارة العمليات الجوية موافقة السلطات البريطانية علي استخدام مطارات الأخيرة في منطقة القناة. وأصدرت تعليماتها لطياري المقاتلات والمقاتلات القاذفة، باعتبار مطارات القناة البريطانية بمثابة مطارات متقدمة للتزويد بالوقود في الأحوال الاضطرارية، ولم تجد قيادة القوات الجوية البريطانية في منطقة القناة بُدا من تزويد الطائرات المصرية بالوقود علي أساس أن هبوطها كان أمراً اضطرارياً من ناحية، وحتى لا تُتهم بتعويق الدفاع عن الأراضي المصرية من ناحية أخري، ومن ثمَّ، كانت طائرات القوة الجوية المصرية تهبط في المطارات البريطانية في رحلة العودة للتزود بالوقود ـ إذا كان موقفها حرجا ـ قبل عودتها إلى ألماظة.
وفي ذلك الوقت، وجهت القوة الجوية المصرية ضرباتها المستمرة بأكبر مجهود جوي تيسر لديها منذ بدء الحرب في فلسطين، ضد التجمعات الإسرائيلية في "أبي عجيلة" ومفارزها المدرعة والميكانيكية المتقدمة علي طول الطريق إلي "بئر لحفن/ العريش". ونتيجة للقصف الجوي المستمر طوال ذلك اليوم، تشتت ذلك الهجوم وتحطمت أغلب دباباته ومصفحاته علي طول طرق "أبي عجيلة/ بئر لحفن"، الأمر الذي سمح للقوات البرية بتنظيم دفاعاتها علي عجل ما بين "بئر لحفن" و"العريش" ابتداءاً من ظهر ذلك اليوم.
وما أن حل المساء حتى بدأت فلول طلائع الهجوم الإسرائيلي ترتد إلي "أبي عجيلة" بعد خسائرها الجسيمة، واصطدامها بقوة كمين مصري جنوب العريش. وبنهاية ذلك اليوم أرسل القائد العام للقوات المصرية بفلسطين إلى رئاسة الأركان بالقاهرة يطمئنها علي سيطرته علي الموقف بعد تدعيم الدفاع عن العريش، ويشكر مجهود القوة الجوية، مطالباً باستمراره حتى ينسحب العدو متأثراً بخسائره.
واستمر ضغط السلاح الجوي المصري طوال يوم 30 ديسمبر علي القوات الإسرائيلية في "أبي عجيلة" وبقايا القوات المنسحبة علي طريق "بئر لحفن/ أبي عجيلة". "وظهر في آخر اليوم أن هجوم العدو قد تشتت نهائياً بسبب الضرب المستمر من الجو"
وطبقاً لتقرير هيئة العمليات الحربية المشتركة عن ذلك اليوم فقد أدَّي عدم وجود قوات احتياطية كافية للقيام بهجوم مضاد ومطاردة قوات العدو المنسحبة، إلي عدم استغلال المكاسب الكبيرة للضربات الجوية. إلا أنه في اليوم التالي، بدأت القوات المصرية في التقدم لاحتلال المناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية وتطهير ألغامها شمال "أبي عجيلة" في الوقت الذي استمرت فيه الضربات الجوية تلهب ظهر القوات المنسحبة. وبصباح الأول من يناير 1949، كانت القوات الإسرائيلية قد أنهت انسحابها من "أبي عجيلة" لتعيد تجميع قواتها وتعززها في منطقة "العوجة" علي الحدود المصرية/ الفلسطينية، تمهيداً لهجومها الفاشل والأخير علي "رفح".
وخلال الفترة من 1 إلي 3 يناير تركزت أعمال قتال القوة الجوية المصرية في الاستطلاع المسلح وقصف المطارات والتجمعات الإسرائيلية، إلا أنه مع بدء الهجوم علي منطقة "رفح" في المدة من 4 إلي 7 يناير 1949 زادت القوة الجوية المصرية من كثافة أعمال القصف الجوي والاستطلاع المسلح ضد القوات المتقدمة والمحتشدة للهجوم علي "رفح" من داخل الأراضي المصرية والفلسطينية.
ومع انكسار هذا الهجوم كانت القوة الجوية المصرية قد قامت بثلاث وسبعين طلعة جوية ضد القوات والمطارات الإسرائيلية، نفذت القوة الجوية التكتيكية منها سبعاً وأربعين طلعة رغم سوء الأحوال الجوية التي سادت الجبهة خلال تلك الفترة بسبب الزوابع الرملية، فضلاً عن ست وعشرين طلعة نفذتها القوة الجوية الإستراتيجية وأسقطت فيها 300000 رطل (136050 كجم) من القنابل.
وبينما وُجه مجهود قاذفات القوة الأخيرة لقصف القواعد الجوية والتجمعات الإسرائيلية ليلاً، فقد وُجه مجهود القوة الجوية التكتيكية لقصف التجمعات والأرتال الإسرائيلية المتحركة ومعاونة الوحدات البرية التي كانت تتعرض للهجمات المعادية والقيام بمهام الاستطلاع الجوي.
وكان أكثر الأيام كثافة في أعمال قتال القوة الجوية المصرية خلال مرحلة الهجوم علي "رفح" هما يومي 5،4 يناير، الأمر الذي ساعد علي صمود القوات البرية في القطاع الساحلي، ودعاً القائد العام للقوات المصرية في فلسطين إلي الإشادة بتلك الجهود في برقيته إلي رئيس أركان حرب الجيش بالنيابة قائلاً:
"أرجو أن تقدموا عني وعن ضباط الجيش والجنود الشكر الخالص والتقدير العظيم لما قام به السلاح الجوي الملكي أمس واليوم".
وهكذا يمكن القول أن القوة الجوية المصرية ـ بالرغم من كل الظروف غير المواتية التي واجهتها، وسيطرة القوة الجوية الإسرائيلية المتفوقة خلال الأيام الأولي للعملية "حوريف" ـ فقد نجحت في التدخل بطريقة حاسمة لتدارك الموقف العسكري المتداعي، والذي كان يهدد القوات المصرية في القطاع الساحلي بالعزل والحصار.
وعندما أصدر وزير الحربية في السابع من يناير 1949 أمره بإيقاف إطلاق النار في الجبهة علي الأرض وفي البحر وفي الجو ـ تمهيداً لسريان الهدنة الأخيرة في تلك الحرب ـ كانت القوة الجوية المصرية تستعد لتعويض ما فاتها بالدخول في عصر النفاثات.
**************************
[1] يبدو أن هذه الطائرة كانت عاطلة فلم يتم نقلها سواء بواسطة القوات المصرية أو الإسرائيلية قبل انسحابها.
ثانياً: أعمال القتال البحرية للجانبين
تلخصت مهام القوة البحرية الإسرائيلية خلال فترة القتال الرابعة في إحكام الحصار البحري علي القطاع الساحلي للجبهة المصرية، وقصف الأهداف المصرية الرئيسية القريبة من الساحل ما بين "غزة" و"العريش" بالإضافة إلي قطع خط السكة الحديد بين "رفح" والأخيرة. أما القوة البحرية المصرية، فقد تركزت مهامها خلال هذه المرحلة في قصف المواني الإسرائيلية والتعرض لخطوط الإمداد البحري الإسرائيلي.
وقد نجحت القوة البحرية الإسرائيلية جزئياً في تحقيق مهمتها الأولي والثانية، غير أنها فشلت في تحقيق مهمتها الثالثة، كما يمكن القول أن الحد من أعمال الإمداد البحري المصري خلال فترة القتال الرابعة يعود إلى قصر خطوط المواصلات المصرية بعد الانسحاب من "أسدود" و"المجدل"، والسيطرة الجوية الإسرائيلية خلال الأيام الأولي لتلك الفترة أكثر مما يعود إلي أعمال الحصار البحري الإسرائيلي.
كما أن الأضرار المادية التي ترتبت علي القصف البحري الإسرائيلي كانت محدودة، إلا أنها أبقت القوات المصرية في حالة تأهب بصفة مستمرة تحسباً لأية أعمال إبرار بحري تقوم بها القوات الإسرائيلية. كما كان لقصف غزة ورفح أثره النفسي الكبير علي سكان البلدتين ومعسكرات اللاجئين فيها.
أما علي الجانب المصري فقد نجحت القوة البحرية المصرية في مهمتها الأولي بشكل كامل، إلا أنه حد من نجاحها في مهمتها الثانية أن أغلب السفن التي كانت تحمل الإمدادات لإسرائيل كانت سفناً أجنبية وكان التعرض لها في المياه الدولية سيثير تعقيدات سياسية وعسكرية دولية كانت مصر غير مستعدة لها.
1. المعارك البحرية
أ. قصف ميناء تل أبيب
علي أثر قصف البحرية الإسرائيلية لكل من "غزة" و "رفح" قرَّرت القيادة المصرية قصف مدينة "تل أبيب" رداً علي القصف السابق وخصَّصت المهمة للقرويطتين "مصر" و"نصر" اللتين اتجهتا إلي هدفهما ليلة 31 ديسمبر 1948/1 يناير 1949، واتخذتا مركزاً لبدء القصف علي بُعد سبعة كيلو مترات من "تل أبيب" وفي الساعة 217. من أول يناير بدأت عملية القصف بالمدافع عيار 4 بوصة علي منشآت الميناء ومطار "سدي دوف" والمدينة نفسها لمدة ثلاث عشرة دقيقة أطلقتا خلالها 92 قذيفة، انطلقت بعدها عائدة بعد تنفيذ مهمتها.
ب. معركة تل أبيب البحرية
علي إثر قصف "تل أبيب" دفعت القيادة الإسرائيلية صباح الأول من يناير بإحدى القاذفات من نوع "بي ـ 17" لقصف السفن المصرية التي اشتبكت معها بمدافعها المضادة للطائرات ورغم، إسقاط الطائرة طناً ونصفاً من القنابل إلا أن أياً منها لم يصب السفن المصرية، ولم يكن حظ السفن الثلاث، التي بعثت بها قيادة السلاح البحري الإسرائيلي لمطاردة تلك السفن، بأفضل حالٍ من طائرتها. فعلي أثر الاشتباك الذي بدأ بين الجانبين الساعة 942. صباح ذلك اليوم أصيبت سفينتان من السفن الإسرائيلية مما أجبر السفن الثلاث علي الانسحاب من المعركة، وعودة السفن المصرية إلي قواعدها سالمة.
ثالثاً: الإنذار البريطاني لإسرائيل
إزاء تقدم القوات الإسرائيلية داخل الأراضي المصرية بعد استيلائها علي العوجة ووصولها إلي مشارف العريش ـ علي نحو ما سبقت الإشارة إليه ـ فقد أدي ذلك الغزو إلي تداعيات سياسية انتهت بتوجيه الحكومة البريطانية إنذار إلى إسرائيل تطالبها فيه بسحب قواتها من الأراضي المصرية وإلا اضطرت إلي وضع معاهدة 1936 المعقودة بينها وبين مصر موضع التطبيق، وهو ما يعني التدخل العسكري البريطاني لإجبار القوات الإسرائيلية علي الانسحاب من الأراضي المصرية.
وقد اختلفت المصادر العربية والغربية والإسرائيلية في حقيقة هذا الإنذار ومدي تأثيره علي انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المصرية. فبينما تشير المصادر الإسرائيلية الرسمية وشبه الرسمية وبعض المصادر الغربية والعربية إلي أن ذلك الإنذار هو الذي أجبر القيادة السياسية الإسرائيلية علي سحب قواتها من الأراضي المصرية، فإن أحد المصادر المصرية قد أوضح أن ذلك الإنذار لم يكن له أي تأثير على قرار القيادة السياسية الإسرائيلية بسحب قواتها من الأراضي المصرية، لأن تلك القيادة كانت قد أصدرت الأمر فعلاً بالانسحاب، وهو ما بدأ تنفيذه فعلا مساء 29 ديسمبر1948 علي أثر تعثر الهجوم علي "العريش" قبل تلقيها للإنذار البريطاني في الأول من يناير 1949، ودلَّل ذلك المصدر علي صدق مقولته بما جاء في الوثائق المصرية والبريطانية والأمريكية والإسرائيلية نفسها حول ملابسات ذلك القرار وعودة القوات الإسرائيلية للهجوم علي رفح عَبْر الأراضي المصرية بعد ثلاثة أيام من ذلك الإنذار.
وطبقاً لما جاء في الوثائق البريطانية والأمريكية فإن جذور هذا الإنذار ترجع إلي التاسع والعشرين من ديسمبر، عندما أرسل الفريق محمد حيدر ـ وزير الحربية ـ يطلب من المحلق الجوي البريطاني خزانات الوقود الاحتياطية لطائرات "سييتفير" المصرية، ويبلغه بوصول القوات الإسرائيلية إلي مسافة عشرة كيلو مترات جنوب العريش، وعلي ضوء ذلك الموقف والمطالب المصرية، أرسل السفير البريطاني البرقيتين أرقام 1793، 1799 في نفس اليوم إلي وزارة الخارجية البريطانية يطلب تعليماتها بهذا الشأن، في الوقت الذي أرسل فيه نسخاً من هاتين البرقيتين إلي السفارات البريطانية الأخرى التي يهمها الأمر، ومنها السفارة البريطانية في واشنطن، طبقاً لنظام المراسلات المعمول به في وزارة الخارجية البريطانية، كما أبلغ السفير البريطاني القائد العام للقوات البريطانية في مصر بالموقف الجديد في سيناء ومطالب وزير الحربية المصري.
وما أن تلقت الخارجية البريطانية برقيتي سفيرها في القاهرة حتى أرسلت في نفس اليوم إلي السفير البريطاني في واشنطن برقية تقول له فيها:
"عليك أن تبلغ فوراً وزارة الخارجية الأمريكية ما جاء في برقيتي القاهرة رقمي 1793، 1799، ويجب أن تقول إنه "لا" أكرر "لا" يتوفر لديك أية تأكيدات من أي مصدر آخر لتصريحات وزير الحربية المصري، إلا أن التعليمات قد صدرت إلي القوات الجوية الملكية (البريطانية) في مصر لتتحقق من الموقع (الذي تقدمت إليه القوات الإسرائيلية) بالاستطلاع الفوري.
"يجب أن تضيف، أنه إذا كانت القوات اليهودية تهاجم الأراضي المصرية حقيقة، فإن التزاماتنا تبعاً للمعاهدة الإنجليزية/ المصرية ستوضع بالطبع موضع التنفيذ".
ويبدو أنه تحدد صباح الثلاثين من ديسمبر لتنفيذ طلعة الاستطلاع الجوي البريطانية للمواقع التي وصلتها القوات الإسرائيلية، بالتنسيق مع السلاح الجوي المصري، حيث يوضح تقرير العمليات الجوية عن الثلاثين من ديسمبر، أن ثلاث طائرات "سبيتفير" مصرية قد تقابلت مع ست طائرات بريطانية فوق الإسماعيلية في الثامنة من صباح ذلك اليوم وصحبتها لاستطلاع المنطقة جنوب أرض الهبوط في "بئر لحفن" بمسافة 17 كم وشمالاً حتى العريش.
ولما كانت القوات الإسرائيلية قد انسحبت في الليلة السابقة إلي منطقة تقاطع الطرق شرق "أبي عجيلة" فقد وجدت طائرات الاستطلاع أن المطار 15 (بئر لحفن) خال ماعدا طائرة سبيتفير[1]، وكل ما في المطار محروق ولا أثر للقوات الإسرائيلية في المنطقة، كما كانت القوات المصرية تحتل الطريق من "بئر الروافعة" حتى "العريش".
وبعد ظهر نفس اليوم قام ثلاثة طيارين مصريين بمصاحبة ست طائرات "سبيتفير" بريطانية مرة أخري لاستطلاع المنطقة حيث تأكد لهم وجود القوات الإسرائيلية عند تقاطع الطرق شرق "أبي عجيلة".
وما أن تأكدت السلطات البريطانية في مصر من وجود القوات الإسرائيلية في منطقة "أبي عجيلة" حتى بدأت الحكومة البريطانية اتصالاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية للضغط علي إسرائيل، حيث قام السفير البريطاني في واشنطن وطبقاً لتعليمات حكومته، بإخطار الخارجية الأمريكية بمضمون برقيتي السفير البريطاني في القاهرة رقمي 1793، 1799 ونية الحكومة البريطانية لتطبيق التزاماتها في معاهدة 1936، لو صحت الأنباء الواردة من القاهرة عن اختراق القوات الإسرائيلية للأراضي المصرية.
وفي اليوم التالي (30 ديسمبر)، طلب السفير البريطاني في واشنطن ـ بناءاً علي تعليمات حكومته ـ مقابلة الرئيس "ترومان". إلا انه لانشغال الأخير وتغيب "جورج مارشال" وزير الخارجية، فقد تم اللقاء مع وزير الخارجية بالنيابة، حيث سلم السفير مذكرة بخصوص الموقف في فلسطين، وقرأ عليه نص البرقية التي تسلمها من السفير البريطاني في القاهرة في صباح نفس اليوم، والتي تؤكد اختراق القوات الإسرائيلية للأراضي المصرية من الجنوب والجنوب الشرقي في اتجاهي "رفح" و"العريش"، واستيلاءها علي أراضي الهبوط المصرية. الأمر الذي أدي إلي هبوط طائرات سبيتفير المصرية في المطارات البريطانية في منطقة القناة لنفاد وقودها، مما يدل علي أنه لم يعد ممكنا استخدام المطارات المصرية المتقدمة.
أما المذكرة البريطانية التي طلب السفير البريطاني تسليمها للرئيس ترومان، فقد أوضحت فيها الخارجية البريطانية أن كل الأدلة التي توفرت لدي الحكومة البريطانية تشير إلي عدم التزام إسرائيل بالهدنة وقرارات الأمم المتحدة، وأن القوات الإسرائيلية تقاتل في الأراضي المصرية حيث تحتل المطارات، وأن الحكومة البريطانية تنظر إلي الموقف باهتمام بالغ، وأنه "ما لم يتم انسحاب اليهود من الأراضي المصرية، فإن الحكومة البريطانية ستضطر لاتخاذ خطوات نحو تنفيذ التزاماتها تبعاً للمعاهدة المبرمة بينها وبين مصر عام 1936. وقد يتسبب عن ذلك الموقف أخطر النتائج الممكنة، ليس فقط علي المصالح الإستراتيجية الإنجليزية/ الأمريكية في الشرق الأدنى، بل أيضاً علي العلاقات الأمريكية مع كل من بريطانيا وأوروبا الغربية".
كما أكدَّت المذكرة علي "أنه ليس لدي الحكومة البريطانية رغبة في الصراع مع اليهود، بشرط أن يقبلوا قرارات مجلس الأمن للأمم المتحدة والالتزام بها. وأنهم لازالوا يثقون في تغلب الآراء الأكثر حكمة بين اليهود، كما يثقون في أنه سيكون ممكناً للولايات المتحدة أن تتصرف مع اليهود بما يجعل العمل العسكري البريطاني علي الحدود المصرية– تبعاً لمعاهدتنا مع مصر ـ أمراً غير ضروري، وهو ما يتأكد فقط بانسحاب اليهود من الأراضي المصرية فوراً".
وعلي أثر عرض المذكرة البريطانية علي الرئيس "ترومان"، قام وزير الخارجية الأمريكية بالنيابة بإرسال برقية إلي "جيمس مكدونالد" – الممثل الخاص للولايات المتحدة في إسرائيل ـ ويخطره فيها بتوجيهات الرئيس" ترومان" والتي تتخلص في أن يقدم احتجاجا عاجلاً إلي "موسي شرتوك" (وزير الخارجية الإسرائيلية)، وإلي "بن جوريون"، وأنه لديه الصلاحية ليقدم نفس الاحتجاج إلي الرئيس "وإيزمان" وطلب وزير الخارجية الأمريكية بالنيابة من "مكدونالد" تقريراً عاجلاً بعد لقائه بهم وإبلاغهم ما يلي:
1. أن هذه الحكومة (حكومة الولايات المتحدة الأمريكية) قد انزعجت بشدة لتسلمها تقارير ـ يبدو أنها موثقة ـ تؤكد غزو الحدود المصرية بواسطة القوات المسلحة الإسرائيلية، وتشير التقارير إلي أن ذلك ليس مجرد مناورة عرضية، بل عملية عسكرية مخططة ومقصودة.
2. لقد أخطرت الحكومة البريطانية رسمياً هذه الحكومة (حكومة الولايات المتحدة الأمريكية) أنها تنظر للموقف باهتمام بالغ، وانه ما لم تنسحب القوات الإسرائيلية من الأراضي المصرية فإن الحكومة البريطانية ستضطر إلي اتخاذ خطوات للقيام بالتزاماتها ـ تبعاً لمعاهدة 1936 ـ مع مصر، وعلي أية حال فإن الحكومة البريطانية قد أوضحت أنه ليس لديها رغبة في الصراع مع الحكومة الإسرائيلية، بشرط أن تقبل الأخيرة قرارات مجلس الأمن للأمم المتحدة وتلتزم بها.
3. نظراً لأن هذه الحكومة (حكومة الولايات المتحدة الأمريكية) هي أول من اعترف بحكومة إسرائيل المؤقتة وكمتبنية لطلب إسرائيل الانضمام إلي الأمم المتحدة كدولة محبة للسلام، فإن هذه الحكومة ـ باهتمام بالغ وكدليل علي صداقتها التي لا تتزعزع لإسرائيل ـ ترغب في لفت اهتمام الحكومة الإسرائيلية إلي خطورة كونها ـ بالأعمال المبنية علي مشورة خاطئة ـ لا تعرض سلام الشرق الأوسط للخطر فقط، بل ستتسبب أيضاً في إعادة النظر في طلب عضويتها في الأمم المتحدة، فضلاً عن ضرورة إعادة نظر هذه الحكومة (حكومة الولايات المتحدة الأمريكية) في علاقاتها بإسرائيل، وكما تعلم الحكومة الإسرائيلية المؤقتة، أن تأكيدها لنواياها السلمية كان هو الأساس الذي بُنيت عليه سياستنا تجاه إسرائيل.
4. أنه يبدو أن أقل مطلب لتقديم دليل علي نوايا الحكومة الإسرائيلية المؤقتة، هو الانسحاب الفوري للقوات الإسرائيلية من الحدود المصرية لتجنب توسيع الصراع".
وعلي ضوء هذه البرقية، استدعي ممثل الولايات المتحدة الأمريكية وزير الخارجية الإسرائيلية في الساعة الثانية من بعد ظهر الحادي والثلاثين من ديسمبر، وقرأ عليه ما جاء في تلك البرقية، وطلب لقاء "بن جوريون" على وجه السرعة، ولما كان الأخير قد غادر تل أبيب إلي طبرية ظهر ذلك اليوم فقد وعد وزير الخارجية الإسرائيلية بالاتصال ببن جوريون وإبلاغه رغبته.
وفي الساعة التاسعة من صباح الأول من يناير 1949 ( بتوقيت تل أبيب) أرسل "جيمس مكدونالد" إلي الخارجية الأمريكية بنتائج لقائه مع "بن جوريون"، والذي استمر لمدة ساعتين، وأنه بعد أن قرأ علي رئيس الوزراء الإسرائيلي ما جاء في برقية حكومته، فإن الأخير رد قائلاً:
"إننا لم نغزو الأراضي المصرية وليس لدينا النية لذلك، إنه حقيقة أن بعض القوات الإسرائيلية قد عبرت الحدود داخل مصر في سياق العمليات التكتيكية، إلا أنها قد تلقت الأوامر فعلاً للعودة إلي جبهة النقب".
وهكذا نري من الوثائق الأمريكية السابقة أن أمر الانسحاب من الأراضي المصرية قد صدر إلي القوات الإسرائيلية قبل لقاء مكدونالد مع بن جوريون ليلة 31 ديسمبر/1 يناير أي أن ذلك الإنذار بُلغ إلي رئيس الوزراء الإسرائيلي بعد يومين من انسحاب القوات الإسرائيلية من مشارف "العريش" وبعد أن بدأ الانسحاب فعلاً من "أبو عجيلة" للقيام بالهجوم البديل علي "رفح" بعد أن فشل هجومها السابق علي "العريش"، وهو ما يؤكد مصداقية الرواية المصرية الرسمية لتلك الأحداث.
ويوضح السياق السابق للأحداث أن الضغط البريطاني كان في حقيقة الأمر حفاظا على الهيبة البريطانية في المنطقة العربية وفرصة لتأكيد فعالية معاهدة 1936، بينما كان الضغط الأمريكي حماية لإسرائيل من الأضرار التي قد تلحقها من المواجهة المباشرة مع القوات البريطانية، هذا بالإضافة إلي حماية المصالح الإستراتيجية المشتركة لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة والتي كان يمكن أن يهددها التدخل البريطاني لمعاونة العرب من ناحية والتدخل الأمريكي لمعاونة إسرائيل من ناحية أخري.
وقد أكد وزير الخارجية الأمريكي هذا المعني في برقيته إلي "جيمس مكدونالد" في الثالث من يناير 1949 حين طلب من الأخير أن يوضح للمسؤولين الإسرائيليين ـ رداً علي تصريحات استيائهم لما جاء في مذكرة الإنذار الأنجلو أمريكي ـ "إنه لا يجب أن يكون هناك تصور خاطئ في خَلَد الإسرائيليين عن الغرض من تلك المذكرة. إن الأمر ـ كما هو مُبين في برقية الإدارة رقم 281 كان لإيقاف التحرك ذي الدلالة الخطيرة، الذي كانت تعتزمه بريطانيا، كما كان الغرض الآخر ـ إذا كان ذلك ممكناً ـ هو تجنب إعادة تسليح بريطانيا للعرب، وهو ما كانت الأولي بادية التصميم عليه إذا لم تنسحب كل القوات الإسرائيلية فوراً من مصر".
كما أشار وزير الخارجية بالنيابة في نفس البرقية إلي أن "للولايات المتحدة الأمريكية مصالح إستراتيجية عظمي فضلاً عن مصالح أخري مهددة بالخطر في الشرق الأدنى، ومن ثمَّ، فإنه ليس لدي الحكومة الإسرائيلية المؤقتة أي مبرر للاستياء من حقيقة أن علي الولايات المتحدة الأمريكية أن تقاوم بشدة أي عمل ـ سواء من الإسرائيليين أو العرب ـ يتضمن تهديداً بتوسيع الصراع".
وهكذا يتأكد لنا مرة أخري أن أياَّ من التحركين الأمريكي أو البريطاني، لم يكن من أجل مصر، وإنما كانا في المقام الأول، حفاظا علي المصالح الأمريكية والبريطانية في المنطقة.