أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: المبحث التاسع: تطبيق الكتاب الأبيض وتطور الموقف العربي الإثنين 19 ديسمبر 2011, 11:25 pm | |
| المبحث التاسع تطبيق الكتاب الأبيض وتطور الموقف العربي (1939 – 1947) أولاً: السياسة البريطانية وتطبيق الكتاب الأبيض عندما ظهرت بوادر الحرب العالمية الثانية، كانت فلسطين تمثل في الإستراتيجية البريطانية العمق اللازم لدفاعاتها في مصر والقاعدة البديلة عن منطقة قناة السويس لحماية خطوط مواصلاتها الإمبراطورية وخطوط النفط عبر المنطقة، ومن هذا المنطلق جاء حرص الحكومة البريطانية عام 1939 على تسكين الأوضاع في فلسطين وتهدئة الرأي العام العربي بإصدارها كتابها الأبيض، الذي أعلنت إصرارها على تنفيذه بالرغم من الرفض الذي واجههه ذلك الكتاب على الساحتين العربية واليهودية.
إلا أن قيام الحرب وتطوراتها لم تسمح للحكومة البريطانية إلا بتنفيذ جزئي لسياسة الكتاب الأبيض بشأن انتقال الأراضي العربية إلى أيدي اليهود والهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وعلى أثر انسحاب قوات المحور من مصر تحت ضغط قوات الحلفاء في خريف عام 1942، عُهد إلى لجنة التخطيط المشتركة في وزارة الحرب القيام بدراسة متطلبات بريطانيا في الشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب، وعندما استعرضت اللجنة دول المنطقة، وجدت أن نظام الانتداب البريطاني القائم في دول شرق البحر المتوسط يفسح المجال لقيام أنظمة عربية مستقلة ترتبط بمعاهدات مع بريطانيا، وبالنسبة إلى فلسطين رأت اللجنة "أن احتياجات بريطانيا الإستراتيجية ـ في حالة إجراء أي تعديل للانتداب ـ ترتكز على ميناء حيفا مما يستلزم الحصول على تسهيلات لحماية طريق حيفا/ بغداد وأنابيب النفط الممتدة من كركوك إلى حيفا، بالإضافة إلى المنشآت البترولية في حيفا ذاتها. كما أشارت اللجنة إلى حاجة بريطانيا إلى تطوير قاعدة بحرية في حيفا وضرورة الإشراف على خط حديد حيفا/ القنطرة وعلى قواعد برية وجوية في المنطقة".
وفي يوليه عام 1944 شكَّلت الحكومة البريطانية لجنة لدراسة أوضاع فلسطين بعد انتهاء الحرب والتوصل إلى حل لمشكلاتها على المدى البعيد وإبلاغه إلى رئاسة الأركان الإمبراطورية، وقد رأت تلك اللجنة ضرورة المحافظة على المصالح البريطانية الإستراتيجية في فلسطين، فيما لو جرى تقسيمها، بتوقيع معاهدتين مع دولتي التقسيم تعطي الحكومة البريطانية حق إنشاء المطارات والمنشآت اللازمة لقواتها وتحريك تلك القوات دون معوقات داخل حدود الدولتين، كما اقترحت اللجنة أن تتمتع القدس باستقلال ذاتي تحت سيطرة المندوب السامي وضم القسم العربي من فلسطين إلى شرق الأردن، إلا أن اعتراض مخططي الإستراتيجية البريطانية على تقسيم فلسطين ظل حجر الزاوية بالنسبة إلى الخطط المتعلقة بمستقبل فلسطين.
وعندما اتخذ الكونجرس الأمريكي قرارين في أواخر يناير 1944 يطالب فيهما الحكومة الأمريكية بالعمل على فتح أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها، لفتت الحكومة البريطانية نظر حليفتها إلى "أن الموضوع الذي تعرضت له قرارات الكونجرس يتضمن التزامات كبيرة منها التزامات عسكرية، وإن القرار البريطاني في هذا الشأن سوف يكون متماشياً بالطبع مع الرغبات الأمريكية، لكن ذلك يقتضي أن تكون حكومة الولايات المتحدة على علم بالأعباء المترتبة على ذلك".
ومع تزايد الضغط الأمريكي على بريطانيا عام 1945، من أجل فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية وانتقاد سياستها بهذا الشأن، سأل "ونستون تشرشل" رؤساء الأركان عشية تركه الحكم لحزب العمال عن السبب الذي يدعو بريطانيا إلى التمسك بهذا المكان شديد الصعوبة في الوقت الذي لا تقتصر فيه الولايات المتحدة الأمريكية على موقفها السلبي، بل توجه الانتقاد تلو الانتقاد، ملمِّحاً إلى رغبته في ترك مسؤولية فلسطين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن تلميحه لاقى معارضة شديدة، كما كانت وزارة الخارجية البريطانية ترى أن ذلك سيفسر في الشرق الأوسط على أنه دليل على تخلي بريطانيا عن دورها كدولة عظمى، وقد يستتبع ذلك انهيار نفوذها في شتى أنحاء المنطقة، وهو ما دعا رئيس الوزراء البريطاني إلى تنحية الرغبة التي راودته جانبا، إلى أن جاء حزب العمال إلى الحكم برؤيته الجديدة بعد الحرب.
1. تقييد انتقال الأراضي العربية إلى اليهود كان تقييد انتقال الأراضي العربية إلى اليهود جزءاً أساسياً من سياسة الكتاب الأبيض بعد أن أجمعت تقارير الخبراء البريطانيين على أنه في ضوء النمو الطبيعي في أعداد الفلسطينيين، في الوقت الذي استمرت فيه عمليات انتقال الأراضي إلى أيدي اليهود دون قيود خلال السنوات السابقة، فإنه لم يعد هناك أراض في بعض المناطق يمكن أن تنتقل إلى أيدي اليهود، وأنه لابد من فرض قيود على بيع الأراضي العربية إليهم إذا كانت هناك نية للحفاظ على مستوى معيشة العرب آنذاك، وعدم تزايد أعداد المعدمين بينهم.
وإزاء اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر من نفس العام وتخوف الحكومة البريطانية من تهديد مصالحها في الدول العربية والإسلامية فيما لو استمرت في سياستها السابقة تجاه تهويد فلسطين، أصدرت حكومة الانتداب في 28 فبراير 1940 تعليمات جديدة للحد من انتقال الأراضي العربية إلى أيدي اليهود، وقد برر رئيس الوزراء البريطاني أمام مجلس العموم إصدار هذه التعليمات بما يلي: أ. ضمان عدم انحياز حكومة الانتداب لأيٍّ من الجانبين العربي واليهودي.
ب. تهيئة الظروف الملائمة للقوات البريطانية من أجل تحقيق النصر ضد النازيين.
ودعم رئيس الوزراء البريطاني وجهة نظره بتقارير الخبراء البريطانيين عن الأوضاع في فلسطين، ومساندة العرب للفلسطينيين والرسائل التي تلقاها من بعض زعماء المسلمين التي تدعوه إلى إيجاد حل عادل للأوضاع في فلسطين.
وقد أوضح البيان التفسيري لتعليمات انتقال الأراضي، أنها صدرت وفقاً للسلطات المخولة للمندوب السامي بمقتضى الكتاب الأبيض، وحدد ذلك البيان منطقتين في فلسطين تخضع فيهما عمليات انتقال الأراضي لرقابة الحكومة مع مراعاة أحكام المادة السادسة من صك الانتداب هما المنطقة (أ) والمنطقة (ب)، أما في غير هاتين المنطقتين فلم يكن هناك أية قيود على انتقال الأراضي.
وتشمل المنطقة الأولى الأراضي الجبلية بوجه عام مع بعض المناطق في قضاءي غزة وبئر السبع، حيث أصبحت الأراضي المتوفرة غير كافية لإعالة سكان تلك المنطقة وقتئذ، وعلى ذلك تقرر منع انتقال الأراضي فيها لغير عرب فلسطين، إلا في الأحوال الاستثنائية التي وضع لها أحكام خاصة في تلك التعليمات.
كما تضم المنطقة الثانية "مرج ابن عامر" وشرقي الجليل والسهول الساحلية الواقعة بين حيفا والطنطورة وبين الحد الجنوبي لقضاء الرملة وبير طوفيا والقسم الجنوبي من قضاء بئر السبع، وقد نصت المادة الرابعة من التعليمات الجديدة على حظر انتقال الأراضي العربية الواقعة في تلك المنطقة إلى غير عرب فلسطين، إلا في حالة الحصول على موافقة من المندوب السامي الذي له حق القبول أو الرفض.
إلا أن الثغرات في هذه التعليمات ـ المترتبة على سلطة الاستثناء المعطاة للمندوب السامي البريطاني ـ سمحت للصندوق القومي لليهود بشراء ما يقرب من اثنين وثمانين ألفاً وخمسمائة دونم من الأراضي في المنطقتين (أ)، (ب) خلال السنوات السبع التالية لصدور ذلك النظام، وكان أغلب هذه الأراضي في مناطق الحدود التي رُسمت في مشروع التقسيم الذي سبقت الإشارة إليه، كما سمح المندوب السامي بانتقال 2514 دونم في المنطقة (أ) و10837 دونم في المنطقة (ب) إلى أيدي اليهود ما بين عامي 1940 و1946.
وتوضح إحصائيات حكومة الانتداب عام 1945 أن مساحة فلسطين (بعد استبعاد البحر الميت وبحيرتي طبرية والحولة) هي 26323023 دونم، وأن تلك المساحة كانت موزعة عند إجراء ذلك الإحصاء كما يلي: أ. الحيازات العربية 12766524 دونم تمثل 48.5% من الأراضي الفلسطينية.
ب. الحيازات اليهودية 1491699 دونم تمثل 5.67% من الأراضي الفلسطينية.
ج. الأراضي العامة 1491690 دونم تمثل 5.67% من الأراضي الفلسطينية.
د. منطقة بئر السبع والنقب غير المزروعة 10573110 دونم تمثل 40.16% من الأراضي الفلسطينية.
وبالرغم من أن الحيازات اليهودية السابقة كانت تمثل أقل من 6% من إجمالي الأراضي الفلسطينية في ذلك الوقت، إلا أن نسبة حيازات اليهود في الأراضي الزراعية كانت تقرب من 13% من جملة تلك الأراضي التي كانت مساحتها 9205538 دونم عند إجراء ذلك الإحصاء.
2. الحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين أوضحت الحكومة البريطانية عند إصدارها كتابها الأبيض عام 1939، أنه ليس في وسعها وقتئذ فتح أبواب فلسطين على مصاريعها أمام الهجرة اليهودية ـ حسبما تطالب المنظمات الصهيونية والوكالة اليهودية ـ لأن ذلك يخالف روح المادة الثانية والعشرين من ميثاق عصبة الأمم والتزاماتها قبل العرب بموجب صك الانتداب، كما أنه ليس من سياستها إيقاف تلك الهجرة نهائياً إذا تبين أن ذلك من شأنه إلحاق الضرر بالأوضاع الاقتصادية في فلسطين.
وقد وجدت الحكومة البريطانية أن تلك الأوضاع تسمح بتهجير نحو 75000 مهاجر يهودي خلال السنوات الخمس التالية اعتباراً من أول أبريل عام 1939، على أن ينظم دخولهم فلسطين بواقع عشرة آلاف كل سنة تبعاً لقدرة البلاد على الاستيعاب، مع إضافة 25 ألف مهاجر آخرين، من قبيل المساهمة في حل مشكلة اليهود في أوروبا عندما يرى المندوب السامي أن وسائل إعاشتهم واستيعابهم أصبحت مكفولة.
وفي تنفيذها للسياسة السابقة قررت حكومة الانتداب وقف إصدار شهادات الهجرة خلال الستة أشهر التي تبدأ في أكتوبر عام 1939 نتيجة لارتفاع معدلات الهجرة اليهودية غير الشرعية إلى فلسطين خلال الفترة السابقة، إلا أنه عندما قامت الحرب سمحت تلك الحكومة بقبول 9600 مهاجر يهودي من الذين تمكنوا من الفرار من ألمانيا والبلاد الأوروبية التي وقعت تحت الاحتلال، وعندما طالبت الوكالة اليهودية بتهجير كل اليهود الذين تمكنوا من الهرب إلى البلاد المحايدة، رفضت حكومة الانتداب هذا الطلب لدواعي الأمن التي فرضت عدم السماح لأي يهودي من "بلاد الأعداء" بالهجرة إلى فلسطين خوفاً من تسلل العملاء بينهم.
وبدأت الحكومة البريطانية منذ ديسمبر 1939 في تنفيذ نظام جديد للهجرة اليهودية يخضع لضوابط معينة فرضتها ظروف الحرب، كان منها رفض تهجير اللاجئين اليهود الألمان أو الذين ينتمون للأراضي التي احتلتها ألمانيا عدا الذين يحملون منهم شهادات الهجرة إلى فلسطين، وعندما فاضت أوروبا بأعداد كبيرة من اليهود الألمان الذين كانوا يحملون تلك الشهادات، اضطرت الحكومة البريطانية إلى رفض تهجيرهم إلى فلسطين، ومع تقدم الحرب شهد الالتزام بمبدأ رفض هجرة الذين ينتمون إلى "بلاد العدو" نوعاً من التراخي، حاولت الوكالة اليهودية استغلاله لتهجير أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين، وكانت تلك الوكالة تطالب منذ مايو 1940 بإعفاء ثلاث فئات من اليهود في البلاد الواقعة تحت سيطرة قوات المحور من قرار حظر قبول المهاجرين، إلا على حاملي شهادات الهجرة: هم الأطفال والزعماء اليهود البارزون، والقائمون على أمر مكاتب فلسطين الذين بقوا في مواقعهم حتى فقدوا فرصة الرحيل إلى فلسطين، إلا أن الحكومة البريطانية لم توافق إلا في ربيع عام 1942 على تهجير الأطفال دون سواهم، ثم وافقت بعد ذلك على تخصيص خمسة في المائة من شهادات الهجرة لرجال الدين والأطباء ورجال الأعمال الذين يقع عليهم اختيار الوكالة اليهودية.
ومع نهاية عام 1943 أوضحت سجلات إدارة الهجرة لحكومة الانتداب "أن عدد المهاجرين اليهود الشرعيين المفروض قبولهم خلال السنوات الخمس التي تنتهي في 31 مارس 1944 ـ طبقاً لما جاء في الكتاب الأبيض ـ لم يصل إلى خمسة وسبعين ألفاً، وقد عزا وزير المستعمرات هذا النقص في بيان ألقاه أمام مجلس العموم البريطاني في 10 نوفمبر 1943 ـ إلى ظروف الحرب التي وقفت حائلاً دون تحقيق البرنامج الذي رسمه الكتاب الأبيض، وقدر عدد اليهود الذين دخلوا البلاد سواء بالطرق الشرعية أو غير الشرعية – حتى آخر سبتمبر عام 1943 بنحو 43922 مهاجر"، وهو ما يعني أن على الحكومة البريطانية الموافقة على هجرة 31078 يهودياً حتى آخر مارس 1944.
ودارت في ربيع عام 1944 مفاوضات بين الوكالة اليهودية والحكومة البريطانية حول الهجرة اليهودية إلى فلسطين بعد نهاية السنوات الخمس المشار إليها، انتهت بموافقة الأخيرة على هجرة 10300 من اللاجئين اليهود في دول البلقان وإيطاليا وفرنسا وسويسرا وهولندا وعدن وتركيا، على ألا يسمح بتهجير أكثر من 1500 مهاجر شهرياً اعتباراً من أول أكتوبر 1944. وبنهاية عام 1944 كان عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين ابتداءً من عام 1939 وحتى ذلك التاريخ قد بلغ 75031 مهاجراً.
ولما لم تكن تلك الأعداد كافية في نظر الوكالة اليهودية فإنها قامت بإعداد الخطط لاستقبال مائة ألف مهاجر يهودي فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع بدء إحداق قوات الحلفاء بألمانيا في شتاء عام 1945، قامت الوكالة اليهودية بتقديم خطط الهجرة التفصيلية للأعداد السابقة إلى حكومة الانتداب، إلا أن الأخيرة رفضت طلبات الوكالة اليهودية وخططها، وكل ما سمحت به في مايو 1945 هو قبول هجرة ثلاثة آلاف يهودي إلى فلسطين، كما سمحت في سبتمبر من نفس العام بعودة المهاجرين غير الشرعيين الذين سبق أن أبعدتهم سلطات الانتداب إلى جزيرة "موريشوس" وظلو محجوزين هناك.
وبنهاية عام 1945 كانت أعداد المهاجرين اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين خلال الحرب وحتى ذلك التاريخ قد بلغت 92 ألف مهاجر، الأمر الذي يعود بدرجة كبيرة إلى نشاط الهجرة غير الشرعية في ذلك الوقت التي أصبحت تشرف عليها الوكالة اليهودية على نحو ما سيأتي فيما بعد.
ثانياً: تطور الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية شهد صيف عام 1939 تآكل الثورة العربية في فلسطين نتيجة لسياسة القمع الوحشية التي اتبعتها حكومة الانتداب والقوات البريطانية التي أعادت غزو فلسطين عند اشتعال الثورة وتناميها، فضلاً عن جسامة التضحيات التي تكبدها الشعب الفلسطيني وتشتت قياداته خارج البلاد، بعد أن عدَّتها السلطات البريطانية خارجة على القانون.
ومع بداية الحرب العالمية الثانية سعت الحكومة البريطانية إلى تهدئة الأوضاع في البلاد، وشجعت الزعماء الفلسطينيين المنفيين على العودة إلى البلاد ووعدتهم بإسقاط التهم الموجهة إليهم إذا لم يشتركوا في أية نشاطات سياسية، وقد قبل عدد من هؤلاء الزعماء العودة، إلا أن الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس اللجنة العربية العليا المنحلة لم يثق في الوعود البريطانية واستمر يتنقل من بلد إلى آخر هرباً من الاعتقال، مبتعداً بنفسه عن مناطق انتشار القوات البريطانية في الشرق الأوسط، وفي النهاية وجد أنه من الضروري أن يلوذ بالأراضي الواقعة تحت احتلال قوات المحور، طالباً المساعدة الألمانية ضد بريطانيا، عملاً بالقول "عدو عدوي يمكن أن يكون صديقي". وقد شجع المفتي على هذا التوجه اعتقاده بأن الحرب ستنتهي لصالح دول المحور بعد النجاح الذي حققته قواتها في المسارح المختلفة خلال المرحلة الافتتاحية للحرب.
ولكن جهود المفتي السابقة لم يكن لها أي تأثير على الشعب الفلسطيني الذي أنهكته الثورة المستمرة طوال السنوات الثلاث السابقة، حيث اتجه المعتدلون من قياداته العائدة إلى مهادنة الإنجليز، وفي عام 1943 كان هناك نحو ثمانية آلاف من عرب فلسطين يعملون في القوات البريطانية في فلسطين، وفي ظل اعتماد القوات البريطانية في سد بعض احتياجاتها على الصناعات المحلية، فقد أدى ذلك إلى نمو نسبي في الصناعات العربية والطبقة العاملة الفلسطينية، وانحصر الكفاح الفلسطيني خلال سنوات الحرب في المقاطعة اليهودية الشاملة، والحيلولة دون تسرب الأراضي للمستوطنين اليهود. وشكَّلت الحركة الوطنية "صندوق الأمة" لجمع الأموال والعمل على إنقاذ الأراضي العربية التي كانت تنوء تحت عبء الضرائب والحفاظ على ملكيتها العربية.
وعلى الصعيد السياسي ظل التنافس على الزعامة هي الآفة التي رسخت الفُرقة بين الأحزاب الفلسطينية خلال الحرب بعد هروب الحاج أمين الحسيني، وقام زعماء حزب الاستقلال عام 1943 بمحاولات لتشكيل لجنة موحدة إلا أن مشايعي آل الحسيني والأحزاب الأخرى عرقلوا قيام ذلك الاتحاد حينما كان ذلك ممكناً، إلا أن الزعماء العرب الذين كانوا يسعون إلى إنشاء الجامعة العربية عام 1944 شجعوا فكرة إحياء اللجنة العربية العليا. وفي سبتمبر من نفس العام زار فلسطين بعض الزعماء العرب لإقناع القيادات الفلسطينية بتوحيد صفوفها، وبالرغم من فشل هذه الجهود، فقد أبدى أنصار الحاج أمين الحسيني استعدادهم لإرسال مندوب فلسطيني للاشتراك في المشاورات الخاصة بإنشاء الجامعة العربية، وتم تفويض موسى العلمي للقيام بهذه المهمة.
وخلال الاجتماعات التي جرت في الاسكندرية لإعداد برتوكول جامعة الدول العربية رفض العلمي حضور تلك الاجتماعات بصفته مجرد مراقب وأصر على أن يتمتع بالعضوية الكاملة وتمثيل كل عرب فلسطين الذين لم يتفق قادتها على من يمثلهم، وأيده في ذلك مندوبو العراق وشرق الأردن، وعلى ذلك تم التوصل إلى حل وسط عند صياغة الملحق الخاص بفلسطين في المسودة النهائية لميثاق الجامعة الذي نص على قيام مجلس الجامعة العربية بتعيين ممثل عن عرب فلسطين يشترك في أعماله وله حق التصويت في ظروف معينة دون التوقيع على القرارات.
ونظراً لاستمرار الخلافات الحزبية بين الفلسطينيين وغياب القيادات الفعالة، انتقلت المبادرة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية بصورة متزايدة إلى الحكومات العربية في السنوات الأخيرة للحرب، وتزايد هذا الاتجاه بعد إنشاء جامعة الدول العربية في شهر مارس 1945، وقد تضمن ميثاق تلك الجامعة فصلاً مستقلاً يسمح للفلسطينيين بالمشاركة في اجتماعات الجامعة لحين حصولهم على العضوية الكاملة بعد استقلال فلسطين.
وقدمت بعض الحكومات العربية مشروعات لحل القضية الفلسطينية في إطار عربي مثلما حدث عندما قدم نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي مشروع الهلال الخصيب إلى "ريتشارد كيزي" وزير الدولة البريطاني للشرق الأوسط في ديسمبر عام 1942، حيث وجد نوري السعيد في ذلك المشروع حلاً للقضية الفلسطينية على أساس قيام اتحاد فيدرالي يضم العراق وسورية ولبنان وإمارة شرق الأردن وفلسطين، على أن يتمتع اليهود باستقلال إداري في إطار هذه الدولة العربية المتحدة بحيث لا يشكل المجتمع اليهودي المستقل إدارياً خطراً على هذه الدولة العربية المتسعة على عكس الوضع لو كانت فلسطين دولة قائمة بذاتها.
إلا أن مصر عارضت مثل هذه الاتحادات الإقليمية الجزئية ورأت أنها تلتف حول المشكلة الفلسطينية ولا تحلها، وأنه من الأفضل السعي لإيجاد حل ملائم لتلك القضية في إطار عربي شامل بتأسيس اتحاد عربي يضم كل الدول العربية المستقلة، وهو ما انتهى إلى قيام جامعة الدول العربية.
وعندما اجتمعت اللجنة التحضيرية للتوقيع على بروتوكول إنشاء الجامعة العربية بالإسكندرية في أكتوبر 1944 شرح موسى العلمي مندوب فلسطين المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، وفي نهاية كلمته طرح سؤالين أمام الحاضرين كان نصهما "هل ستبقى فلسطين عربية؟ وهل سيظل عربها آمنين في ديارهم؟ ورداً على هذين السؤالين اختصت فلسطين بقرار خاص في بروتوكول الإسكندرية قررت فيه اللجنة التحضيرية" أن فلسطين ركن مهم من أركان البلاد العربية، وأن حقوق العرب لا يمكن المساس بها من غير إضرار بالسلم والاستقرار في العالم، كما ترى اللجنة أن التعهدات التي ارتبطت بها الدولة البريطانية والتي تقضي بوقف الهجرة اليهودية والمحافظة على الأراضي العربية والوصول إلى استقلال فلسطين هي من حقوق العرب الثابتة التي تكون المبادرة إلى تنفيذها خطوة نحو الهدف المطلوب وكذا استتباب السلم وتحقيق الاستقرار، وتعلن اللجنة تأييدها لقضية عرب فلسطين بالعمل على تحقيق أمانيهم المشروعة وصون حقوقهم العادلة.
واتساقاً مع الموقف العربي السابق من القضية الفلسطينية، مارست الدول العربية – فرادى وجماعات – الضغط الدبلوماسي على بريطانيا والولايات المتحدة دفاعاً عن عرب فلسطين، وهو ما ظهر جلياً في المواقف التي اتخذتها تلك الدول في مواجهة قرارات وتصريحات أعضاء الكونجرس والرئيس الأمريكي المنحازة لليهود والحركة الصهيونية خلال عامي 1944، 1945.
فعلى أثر مناقشة الكونجرس الأمريكي في أواخر يناير 1944 لمشروع قرار يطالب الحكومة الأمريكية "بالقيام بكافة الخطوات الضرورية لفتح أبواب هجرة اليهود إلى فلسطين، وأن يكون لهـم الحق في استعمار هذه البلاد وإنشاء دولة يهودية حرة ديمقراطية فيها"، طالبت مصر والعراق في 9 فبراير من الحكومة الأمريكية إيضاحات حول هذا الموضوع على ضوء تأكيدات الرئيس الأمريكي السابقة أن موضوع فلسطين سوف يؤجل إلى ما بعد انتهاء الحرب.
وفي 24 فبراير قدمت الحكومة السورية احتجاجاً للحكومة الأمريكية جاء فيه "إن قرارات الكونجرس الأمريكي بشأن قيام دولة يهودية في فلسطين توجه ضربة مميتة إلى الحقوق العربية، وأن الدول العربية جميعها التي وضعت مواردها في خدمة الحلفاء لتحقيق النصر تشعر بالخيانة من أثر هذه القرارات التي تراها مخالفة لكل المبادئ المعلنة في ميثاق الأطلسي، إن إعطاء ميزة لليهود على حساب العرب لا يمكن تبريره أو قبوله، ونحن نطالب أن توضع الحقوق العربية في فلسطين موضع اعتبار قبل أي قرار"، ثم انضمت المملكة العربية السعودية ولبنان وشرق الأردن إلى مصر وسورية والعراق في ضغطها على الحكومة الأمريكية مما أعطى الموقف العربي وزناً إضافياً وحوله إلى إجماع عربي.
وفي محاولة لإزالة آثار الضغط العربي السابق قام الحاخامان "ستيفن وايز" و"أباهيلل سيلفر" نيابة عن الحركة الصهيونية بمقابلة الرئيس روزفلت يوم 9 مارس 1944وخرجاً من عنده يعلنان على لسان الرئيس الأمريكي "أن أبواب فلسطين سوف تفتح الآن أمام اللاجئين اليهود، وعندما يجئ الوقت لتقرير شؤون منطقة الشرق الأوسط، فإن الحقوق العادلة سوف تتأكد لكل هؤلاء الذين يطالبون بوطن قومي لليهود في فلسطين، إن ذلك هدف تنظر إليه الحكومة والشعب الأمريكي بعطف عميق".
وكان للتصريح السابق المنسوب إلى الرئيس الأمريكي صداه السيئ في العالم العربي وكانت مصر أول من تحرك، فاستدعى مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء المصري الوزير المفوض الأمريكي في القاهرة وأبلغه أستياء الشعب المصري كله من التصريح المنسوب إلى الرئيس الأمريكي وطلب إيضاحاً جديداً من الحكومة الأمريكية حول ذلك الموضوع.
وفي 15 مارس أرسلت وزارة الخارجية الأمريكية توضح للحكومة المصرية "أن البيان المنسوب للرئيس الأمريكي تحدث عن وطن قومي لليهود في فلسطين طبقاً لوعد بلفور، ولم يتحدث عن دولة يهودية في فلسطين كما جاء في قرار الكونجرس"، وأكدت الحكومة الأمريكية مرة أخرى، أنها "لن تحدث تغييرات أساسية بالنسبة إلى سياستها في فلسطين بدون تشاور كامل مع كل من اليهود والعرب.
وشهدت الشهور الأولى من عام 1945 ضغطاً عربياً متزايداً لمقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين وخاصة من جانب المملكة العربية السعودية، فخلال الأسبوع الأول من يناير 1945، طالب الملك عبدالعزيز بضرورة إنشاء تحالف عسكري بين الدول العربية يحميها إذا دعت الضرورة، والحصول على "تعهدات أمريكية بالدفاع عن العرب الفلسطينيين ضد الصهيونية"، وبالسلاح إذا اقتضى الأمر".
وعند استقباله للضباط الأمريكيين الملحقين على المفوضية الأمريكية بجدة يوم 31 يناير أدلى الملك عبدالعزيز بتصريح أكد فيه مرة أخرى الدعم العربي للفلسطينيين، فقد أوضح الملك لهؤلاء الضباط "أن الأمة العربية تواجه تهديدين: أولهما الضغط الفرنسي على سورية، والثاني (هو) الضغط اليهودي على فلسطين .. وفيما يتعلق بفلسطين، فإن أمريكا وبريطانيا أمامهما حرية الاختيار بين عالم عربي هادئ ومسالم أو دولة يهودية غارقة في الدم.
"إننا نطلب من أمريكا تسوية مشكلة فلسطين على أساس تقاليد العدل الأمريكي، وإذا اختارت أمريكا أن تمالئ اليهود الملعونين في القرآن إلى آخر الدنيا، فإنها تكون بذلك خسرت صداقتها معنا وسوف تندم على ذلك، إن الاختيار على أي حال لأمريكا، ونحن قلنا رأينا، ونرغب منكم أن تنقلوه إلى حكومتكم".
وقد أكد الملك عبدالعزيز موقفه الصلب من المشروع الصهيوني والهجرة اليهودية للرئيس روزفلت نفسه عندما التقى بالأخير على ظهر الطراز "كوينسي" في مياه البحيرات المرة المصرية يوم 14 فبراير من نفس العام، فعندما طلب الرئيس الأمريكي التشاور مع الملك بشأن مشكلة اليهود الذين طردوا من ديارهم في أوروبا، كان رد الملك عبدالعزيز: "أنه لا يجد سبيلاً لحل هذه المشكلة إلا أن يعود هؤلاء المطرودون إلى بلادهم الأصلية التي طُردوا منها، أما اليهود الذين لا يستطيعون العودة إلى بلادهم الأصلية، فإنه يمكن توطينهم في بلدان المحور التي اضطهدتهم". (اُنظر ملحق مذكرة بمحادثات الملك عبد العزيز آل سعود مع الرئيس روزفلت (14 فبراير 1945))
وعندما ضرب الرئيس الأمريكي المثل بما حدث لليهود على أيدي الألمان في بولندا في محاولة لإثارة عطف الملك وقبوله لتوطين بعض اللاجئين اليهود في فلسطين، أدرك الملك عبدالعزيز ما يرمي إليه الرئيس روزفلت، وأوضح للأخير قضية عرب فلسطين وحقوقهم المشروعة في أراضيهم، وأكد للرئيس الأمريكي استحالة التعاون بين العرب واليهود، ولفت نظره إلى التهديد المتزايد الذي يتعرض له وجود العرب، والأزمة التي نجمت عن استمرار الهجرة اليهودية وانتقال الأراضي العربية إلى أيدي اليهود، فطمأن الرئيس الأمريكي الملك عبدالعزيز وأكد له أنه "لن يفعل شيئا لمساعدة اليهود ضد العرب، كما لن يقوم بأي تحرك معاد للشعب العربي"، موضحاً "أن تأكيده هذا يتعلق بسياسته هو مستقبلاً كرئيس للسلطة التنفيذية في الولايات المتحدة الأمريكية". (اُنظر ملحق مذكرة بمحادثات الملك عبد العزيز آل سعود مع الرئيس روزفلت (14 فبراير 1945))
وعندما التقى الملك عبدالعزيز بونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني في الفيوم بعد أسبوع من لقائه بالرئيس روزفلت لم يكن الملك أقل صلابة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فعندما طلب تشرشل أن يساعده الملك في موضوع فلسطين بقيادة المعتدلين من العرب إلى حل وسط مع الصهيونيين، وتهيئة الرأي العام العربي لقبول تنازلات لصالح اليهود، كان رد الملك عبدالعزيز أن ما يطلبه تشرتشل "عمل من أعمال الخيانة لرسول الله ولكل المسلمين المؤمنين، ولو أني أقدمت عليه لأضعت شرفي ودمرت روحي، وأنا لا أوافق على أي تنازل للصهيونيين فضلاً عن أن أقنع به غيري، وحتى إذا قبلت أن أفعل ذلك، فلن يكون ما أفعله مساعدة لبريطانيا وإنما سيكون عبئا عليها، لأن تأييد المطامع الصهيونية من أي جهة سوف يؤدي إلى إراقة الدماء، وسوف ينشر الفوضى في العالم العربي، وهذا لن يكون في صالح بريطانيا".
وإزاء استمرار تصريحات السياسيين الأمريكيين المؤيدة للمطامع الصهيونية استمر الضغط العربي المضاد على الإدارة الأمريكية حتى الأيام الأخيرة للرئيس روزفلت، ففي العاشر من مارس 1945، أرسل كل من الملك عبدالعزيز والأمير عبدالإله الوصي على عرش العراق رسالة إلى الرئيس روزفلت يوضح فيها كل منهما المخطط الصهيوني في فلسطين وخطره على البلدان العربية ووحدتها إذا ما سقطت فلسطين في أيد غير عربية، ويحذران من الآثار الدامية التي ستترتب على قيام الدولة اليهودية في فلسطين "فإن العرب فُرادى وجماعات يعتبرون أن مستقبل فلسطين قضية حياة أو موت". (أنظر ملحق نص الكتاب الذي وجهه جلالة الملك عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية إلى الرئيس روزفلت بتاريخ 10 مارس 1945) و(ملحق برقية الوزير المفوض في بغداد لوي هندرسون إلى وزير الخارجية الأمريكية (بخصوص رسالة الأمير عبدالاله) (10 مارس 1945))
ورداً على هاتين الرسالتين أعاد الرئيس روزفلت تأكيد موقفه من القضية الفلسطينية، وأنه لن يتخذ حيالها أي قرار يؤثر على الوضع الأساسي في هذه البلاد دون استشارة كل من العرب واليهود، وأنه لن يقوم بأي عمل من شأنه أن يثير عداء الشعب العربي. (اُنظر ملحق الرد الذي بعث به الرئيس روزفلت إلى الملك عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية). |
|