أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الفصل الثاني: الشعر وتطوره الإثنين 29 أبريل 2024, 1:28 am | |
| الفصل الثاني: الشعر وتطوره: 1- استمرار التقليد: كان الشعر يجري في مصر في أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر على الصورة السيئة التي كان يجري عليها في أثناء العصر العثماني، وهي صورة رديئة مسفة سواء في الأغراض والمعاني والأساليب، أما الأغراض فكانت ضيقة تافهة، وكانت المعاني مبتذلة ساقطة، وأما الأساليب فكانت متكلفة، مثقلة بأغلال البديع وما يتصل بها من حساب الجمل الذي كانوا يؤرخون به حوادث شعرهم وقصيدهم. ولم يكن أمام الشعراء مُثل فنية عليا يحلمون بها؛ إنما كل ما كان يحلم به الشاعر أن يتعلم فن العروض وصياغة النظم، ثم يعالج هذه الصناعة على نحو ما يعالج طلاب المدارس الثانوية تمارين النحو والبلاغة، فشعرهم أشبه ما يكون بكراريس التطبيق، ليس فيه رُوح ولا حياة ولا عاطفة حقيقية أو شعور؛ وإنما فيه المحاكاة والتقليد. ونحن حين نقرأ هذا الشعر الآن لا نقرؤه لنجد فيه متعة أدبية، ولا لنغذي عواطفنا ومشاعرنا، ولا لنزيد من ثروتنا الذهنية؛ وإنما لنؤرخ طورًا من أطوار حياتنا الأدبية وكان المظنون أن يتغير شعراؤنا منذ الحملة الفرنسية، ومنذ أخذنا نتصل بالحياة الغربية ونكوِّن لأنفسنا حياة عقلية جديدة، ولكن يظهر أن هذه الحياة لم تتعمق إحساس الشعراء، فظلوا في حياتهم الفنية مع القديم، وظلوا يَحْجُلون في هذه السلاسل الممقوتة من البديع الذي لا تقبله النفس، ولا يطمئن إليه الذوق، ولا يأنس له العقل؛ لأنه لا يحوي معنًى؛ وإنما هو زخارف لفظية تخنق الشعور، وتقتله قتلًا. وقد أخذت مصر مع أوائل القرن التاسع عشر في النهوض؛ ولكن محمد علي وجَّه هذا النهوض إلى العلم والفن التطبيقي ولم يعنَ بالشعر والشعراء؛ فقد كان تركيًّا في ثياب مصرية؛ بل لقد كان تركيًّا في ثياب تركية، فكسد الشعر في سوقه وسوق خليفتيه: عباس وسعيد، وأيضًا فإنه قتل الروح المصرية الناشئة -ونقصد الروح القومية- فلم تتفتح عيون المصريين لعهده على حياة كريمة. ومن أجل ذلك لم يتحرر -في رأينا- الشعر المصري من قيوده الغليظة؛ إذ لم توجد بواعث تدفعه إلى هذا التحرر، لا بواعث من قِبَلِ حرية قومية ولا من قبل حرية شخصية؛ فإن المصريين أُخذت أراضيهم؛ إذ ألغى محمد علي الملكية الزراعية إلغاء تامًّا، وسخرهم في الأرض يفلحون ويزرعون، وكأنهم ليسوا أكثر من أدوات تستغل لضرائبه ورغباته. ومعنى ذلك أن المصريين لم يفرغوا لحياة روحية، أو بعبارة أخرى: لحياة أدبية؛ فقد كان الحاكم يضيِّق عليهم في الرزق، ولم يكن يتيح لهم ما ينبغي من حرية، فطبيعي ألا تنهض حياتهم الفنية حينئذ؛ لأنها لا تزال تسير في نفس الدروب والمسالك الضيقة التي كانت تسير فيها في أثناء الحكم العثماني، ولا يزال الشعراء يشعرون بكثير من الضنك والفقر والبؤس. ولا بد لجودة الإنتاج الأدبي أو لنهوضه أن ييسَّر لأصحابه شيء من لين العيش ويُسْر الحياة، وشيء من الحرية الفردية التي تردُّ إليهم كرامتهم، وتشعرهم أنهم أحياء، وهي حرية تستمد من حرية الشعب نفسه تلك الحرية التي تمكنه من تحقيق آماله ومطامحه واعتداده بوجوده، فيحس كل شخص أنه يعيش معيشة كريمة، ويتعاون مع مواطنيه في بعث الحياة في كل مرفق وكل شأن من شئون أمته. وقد حقق محمد علي لمصر كثيرًا مما كانت تحلم به في السياسة والعلم، ولكنه لم يكن يريد بذلك مصر؛ إنما كان يريد شخصه ومطامعه في تحقيق إمبراطورية ضخمة، فلم تكن مصر هي الموضوعة نصب عينيه؛ إنما كانت أحلامه هي التي تدفعه إلى النهوض بالجيش وإعداد حياة علمية من أجله؛ ولذلك لم يحقق للمصريين حرياتهم الفردية والسياسية، ولا حقق لهم رخاء ماديًّا ينتهي بهم إلى رخاء أدبي، فوقف الأدب ووقف الشعر معه عند حياة جامدة خاملة. واقرأ في دواوين الشعراء الذين عاصروا محمد علي وعباسًا الأول وسعيدًا من مثل: إسماعيل الخشاب، والشيخ حسن العطار، والشيخ محمد شهاب الدين، والسيد الدرويش؛ فلن تجد سوى صور لفظية قد تدثرت بثياب غليظة من محسنات البديع، ولن تجد شعورًا ولا عاطفة وفيمَ الشعور والعاطفة وكل شيء في الحياة المصرية خامد هامد؟ ولقد تبلدت الحياة، ولم تصب فيها تيارات قومية ولا نفسية جديدة، فجمد الشعر والشعراء، ولم يعد هناك إلا التقليد، وهو تقليد قاصر يقف عند النماذج العثمانية وما يقترب منها، تقليد يشهد بقصور الأدب وضعف الذوق والعجز عن التعبير الحر الصادق. وعن أي شيء يعبِّر الشاعر وكل ما يتصوره من الشعر أنه نظم لمعانٍ معروفة، وكل ما له من فضل تكديس ألوان البديع بل إثقاله، وإضافة أثقال جديدة من مثل أن ينظم الشاعر قصيدة من حروف معجمة أو مهملة، أو تُقرأ أبياتها من آخرها إلى أولها على نحو ما تقرأ من أولها إلى آخرها، أو ينظم قصيدة تأتلف من أوائل الحروف في أبياتها أبياتًا أخرى، أو يستخرج منها تاريخًا بحساب الجمل. وليس وراء هذا جميعه إلا الفساد؛ فقد أصبح الشعر حسابًا وأرقامًا وتمارين هندسية عسيرة الحل؛ فإن ترك ذلك الشاعر فإلى الاقتباس والتضمين والتشطير والتخميس لقصائد معروفة وليس للشاعر من فضل في هذا العمل إلا أنه يُجري كلامًا على آلات العروض والقوافي، وهو كلام مفكك؛ إذ يرص الشاعر الألفاظ على نحو ما يصنع عمال المطابع، فتتألف صناديق من الحروف؛ ولكن لا تتألف أبيات من الشعر؛ وإنما تتألف ألعاب بهلوانية. ولا تستطيع في أثناء هذا العبث أن تقرأ معنًى مبتكرًا؛ بل لا تستطيع أن تقرأ لفظًا جميلًا، فتلك مرتبة عليا كانت تستعصي على الشعراء في ذلك الحين ومن الغريب أن معاصريهم مع هذا الإسفاف كانوا يعجبون بهم؛ لأن الذوق الفني كان واحدًا، وكان هذا الذوق عند الشاعر ومن يستمعون إليه لا يقوِّم الشعر تقويمًا صحيحًا؛ إذ كان يقومه بمقدار ما يتضمن من أغلال البديع والألعاب اللفظية المختلفة فكان ذلك مقياس الشاعر والشاعرية، وكأنما أصبحت هذه الطرق الرديئة الملتوية هي كل المهارة التي تُطلب من الشعراء، فالناس لا يطلبون منهم ما يمتعون به أنفسهم أو يغذون به عواطفهم؛ إنما يطلبون هذا التكلف العقيم، وهو تكلف سقطت فيه حقائق الشعراء الذاتية، فقد أصبحوا أمثلة متشابهة، لا يتميز منهم شاعر عن شاعر لا بوجهة عاطفية، ولا بنزعة فكرية، ولا بسمة شخصية.
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني: الشعر وتطوره الإثنين 29 أبريل 2024, 1:28 am | |
| 2- نهضة وإحياء: رأينا شعرنا في النصف الأول من القرن التاسع عشر لا يكاد يخرج عن الإطار العثماني السقيم؛ ولكننا لا نكاد نمضي في النصف الثاني من هذا القرن حتى يأخذ هذا الإطار في التغير والتحطم في بعض جوانبه. وهيأت لهذا التطور بواعثُ مختلفة؛ فإن جذوة الحقوق السياسية التي استشعرتها مصر منذ مفتتح القرن التاسع عشر أخذ ينزاح عنها رماد الظلم الثقيل، وأخذ المصريون يحسون هذه الحقوق المقدسة، ويستضيئون بها في حياتهم وكان قد وصل كثير منهم -منذ عهد سعيد ومنذ رجوع البعثات- إلى المناصب الكبرى وكان لاستكشاف حجر رشيد، وقيام علم الآثار المصرية، وتأسيس المتحف المصري -فضل كبير في شعورهم بكرامتهم وكرامة أصلهم؛ فقد وقفوا على تاريخهم وعرفوا فيه حقائق غير تلك الأساطير القديمة التي كان يرويها المؤرخون -من مثل المقريزي- عن بلادهم. واضطُر إسماعيل أن يستجيب لهذه الروح الجديدة؛ فأنشأ الحياة النيابية وفي هذه الأثناء كانت تُطْبَع دواوين الشعر القديم، فاطلع المصريون على نماذج لم يكونوا يألفونها؛ إذ تخالف في جملتها النماذج التي كانوا يعرفونها، فقرءوا لشعراء العصر العباسي وما سبقه من عصور، وأمعنوا في ذلك حتى العصر الجاهلي ولا بد أنهم التفتوا إلى أن الشعر العربي -وخاصة في منابعه الأولى- كان شعرًا طبيعيًّا يصور حياة أصحابه تصويرًا دقيقًا، فالشاعر في العصر الجاهلي مثل امرئ القيس وفي العصر الإسلامي مثل جرير كان يمثل حياة قبيلته تمثيلًا دقيقًا، فهو مرآة صافية نقية لها يسجل حوادثها ومفاخرها ومحامدها وكل ما يتصل بها، وهو في العصر العباسي مرآة صافية أيضًا تعكس كل ما في العصر من حياة، ولا تحول أعشاب البديع دون هذه الغاية، فهي وسيلة لا أقل ولا أكثر؛ ولكن حدث بعد ذلك أن اضطربت الغاية من تمثيل القبيلة والعصر، وأصبحت الوسيلة هي الغاية، فغاية الشاعر -وخاصة منذ العصر العثماني- أن يعبر عن لون من ألوان البديع. فكان اطلاع المصريين على النماذج القديمة المغرقة في القدم سببًا في انصرافهم عن الصورة السقيمة التي انتهى إليها الشعر في موطنهم ورشح لذلك اطلاعهم على الآداب الأجنبية وخلو الشعر فيها من هذه الأثقال البديعية التي تفسد المعاني في أغلب الأمر، والتي تقف حائلًا بين الشاعر وبين التعبير الحر عن عصره ونفسه وكان ذلك وما يتصل به من وقوف المصريين على حياة الأوربيين العلمية وحياتهم المادية دافعًا إلى تغير ذوقهم، فلم يعد ذوقًا متخلفًا؛ بل أصبح ذوقًا حيًّا تغذيه وترقيه الآداب الأجنبية وكلما تعمقنا أو سرنا مع الزمن ازداد اتصالنا بالأدب العربي القديم والأدب الغربي الحديث، فمن جهة كثر طبع الدواوين العباسية وغير العباسية، ومن جهة أكثرنا من المدارس والبعوث إلى الغرب، ونما اتصالنا به لا عن طريق التعليم والبعوث فحسب، فقد نزلت بلادنا -وخاصة منذ فتح قناة السويس- طبقات من الأوربيين شاركت في حياتنا الثقافية بما فتحت من مدارس كما شاركت في حياتنا الاقتصادية والمادية، حتى أصبحت طائفة منا متحضرة تحضرًا أوربيًّا خالصًا، وخاصة صاحب القصر ومن اتصلوا به. |
|