منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الفصل الثالث: أَعلام الشعر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثالث: أَعلام الشعر Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثالث: أَعلام الشعر   الفصل الثالث: أَعلام الشعر Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:42 am

الفصل الثالث: أَعلام الشعر:
1- محمود سامي البارودي 1838-1904م:
أ- حياته:
لا نكاد نصل إلى أواخر عصر محمد علي حتى تُهلل ربَّةُ الشعر، وتُصفِّق نشوة وطربًا، فقد وُلد في سنة 1838 الشاعر الفذ، الذي كانت تبحث عنه في الأقاليم العربية منذ المتنبي والشريف الرضي ويعييها البحث ويضنيها.
وُلد محمود سامي البارودي الذي سيبعث الشعر العربي من سُباته الطويل، ويخلع عنه ثيابه البالية من البديع وغير البديع، ويرد إليه الحياة والنشاط، فيصبح شعرًا ممتعًا يغذي القلب والشعور، ويمنح قارئه لذة فنية حقيقية.
وقد نشأ في وسط ثري؛ إذ ولد لأبوين من الجراكسة، ينتميان إلى المماليك الذين حكموا مصر فترة من الزمن.
وكان أبوه من أمراء المدفعية، ثم جعله محمد علي مديرًا لبربر ودنقلة، وظل بهما إلى أن توفي وابنه في السابعة من عمره، فكفله بعض أهله وقاموا خير قيام على تربيته، حتى إذا بلغ الثانية عشرة ألحقوه بالمدرسة الحربية على غرار لداته من الجراكسة والترك.
وتخرج فيها سنة 1854 وكانت مصر حينئذ تجتاز دورة بائسة من حياتها الحديثة؛ إذ عطل عباس الأول آلة نهضتها الكبيرة التي أخذت تدور منذ عهد أبيه محمد علي، فأغلق المدارس وسرَّح الجيش إرضاء للدولة العثمانية، وخلفه سعيد، فاحتذاه في كثير من سياسته، وخاصة من حيث الجيش وتسريحه.
فلما تخرج البارودي في المدرسة الحربية لم يجد عملًا؛ ولكنه لم يخلد إلى الراحة؛ بل أخذ توًّا يعمل في ميدان جديد، هو ميدان الشعر العربي، وسُرعان ما تيقظت مواهبه فيه.
ونراه يقول إنه ورثه من قِبَل أمه:
أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله
كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله
وشَعَرَ من أول الأمر أنه لا بد له من التمرين والإعداد، فانكب على صحف الشعر العربي يحاول أن يتخذ لصوته منها سندًا وإطارًا، ولم يعجبه الشعر الرديء الذي كان يعاصره وما يتصل به مما نُظم في عهود الركود القريبة، فانطلق يبحث عن غايته في شعر العصر العباسي وما سبقه في العصرين الجاهلي والإسلامي، ولم يلبث أن وجد طلبته وما يملك عليه لُبَّه، وكلما ازداد قراءة في هذا الشعر القديم ازداد به شغفًا وإعجابًا.
وهذا الطموح الذي جعله يتجاوز ما في عصره من شعر مسف إلى ما في العصور القديمة من شعر خصب رائع هو فرع من طموح واسع في نفس الفتى، وقد دفعه هذا الطموح إلى البحث عن بيئة جديدة غير بيئته، كما بحث في الشعر عن عصر جديد غير عصره، فسافر إلى الآستانة، واشتغل بوزارة الخارجية فيها، وثَقِف هناك آداب اللغتين الفارسية والتركية، ونظم فيهما بعض أشعاره، وظل ينظم في العربية، وأتاحت له مكتبات الآستانة وما فيها من ذخائر الشعر العربي فرصة ذهبية جديدة؛ ليتزود من دواوين العباسيين ومَن سبقوهم من الإسلاميين والجاهليين.
وفي هذه الأثناء زار إسماعيل الآستانة سنة 1863 ليشكر أولي الأمر فيها على تقليده ولاية مصر، فتعرف على البارودي، وقَرُبَ من نفسه، فضمه إلى حاشيته، وأصبحت له مكانة أثيرة عنده، فلما عاد إلى مصر صحبه معه.
وأخذ الحظ يبتسم له فعُيِّن في سلاح الفرسان، وما هي إلا فترة قليلة حتى سافر إلى فرنسا مع طائفة من الضباط؛ ليشاهدوا استعراض الجيش الفرنسي السنوي، ولم يكتفوا بذلك فقد عبروا المانش إلى لندن؛ ليشاهدوا بعض الأعمال العسكرية في الديار الإنجليزية.
ورجع إلى وطنه ينعم بما ورث من ثراء وما تغدقه عليه الوظيفة من مال وجاه، وأخذ شعره في هذه الحقبة من حياته يصور متاعه بدنياه وما تجتليه عينه من مشاهد الطبيعة المصرية، كما أخذ يصور ما انطبعت عليه نفسه من الشجاعة والقوة والروح العسكرية.
وحدث أن اندلعت ثورة ضد الدولة العثمانية في جزيرة إقريطش "كريت" سنة 1866 ورأى إسماعيل أن يمدها بفرقة مصرية، ورحل البارودي مع الفرقة، وأبلى في حرب الثوار بلاء حسنًا، فكافأته الدولة العلية ببعض أوسمتها، وفي هذه الحرب نظم نونيته المشهورة:
أخذ الكَرى بمعاقد الأجفان ... وهفا السرَى بأعنة الفرسان
ولما أعلنت روسيا الحرب على تركيا سنة 1877 مدت مصر قوسها تساعدها في تلك الحرب، وكان البارودي من خير من رموا عن هذه القوس، فأنعم عليه بأوسمة مختلفة، وتغنى ببلائه حينئذ، ومزج غناءه بشوق وحنين شديد إلى وطنه على نحو ما يرى قارئه في قصيدته:
هو البَيْنُ حتى لا سلامٌ ولا رَد ... ولا نظرة يقضي بها حقه الوَجْدُ
ورجع إلى مصر مرفوع الرأس، فعين مديرًا للشرقية، ثم محافظًا للعاصمة.
وكانت الحركة القومية قد أخذت في الظهور، بعامل الصحف وقيام طائفة من المصلحين ينددون بإسماعيل وسياسته المالية الفاسدة وتمكينه للأجانب أن يتدخلوا في شئون الحكم المختلفة، وما رضي به من صندوق الدين والمراقبة الثنائية، ومد البارودي يده إلى القائمين على هذه الحركة تحدوه في ذلك نفسه الطموح، وكأنما حلم برجوع مجد آبائه من المماليك ممثَّلًا في شخصه.
ونزل إسماعيل عن ولاية مصر لابنه توفيق، فحاول في أول الأمر أن يستجيب إلى دعوة المصلحين، فوعد بإقامة الحكم النيابي، وعين البارودي ناظرًا أو وزيرًا للأوقاف، ثم أسند إليه وزارة الحربية.
وسرعان ما نكث توفيق عهده للأمة، فلم يُقم لها مجلس الشورى الذي تنتظره، واستقال البارودي، ثم عاد مع وزارة جديدة، ولكن توفيقًا لم يمضِ في طلبات الشعب، فتطورت الأمور.
وعُهد إلى شاعرنا بتأليف الوزارة، وثار الجيش بقيادة عرابي ثورته المعروفة سنة 1882 واستعان توفيق بحراب الإنجليز ضد الوطن وجيشه؛ حينئذ انضم البارودي إلى الثورة، وكان مترددًا كما يصور ذلك شعره؛ ولكنه عاد فحزم رأيه.
ولما أخفقت الثورة قُدم إلى المحاكمة وحُكم عليه بالنفي إلى "سرنديب"، فظل بها سبعة عشر عامًا وبعض عام، يتغنى بآلامه وغربته وجروحه النفسية.
وهناك تعلم الإنجليزية، وأخذ يؤلف مختاراته من الشعر القديم، فجمع لثلاثين شاعرًا عيون قصائدهم وأشعارهم.
وأخيرًا صدر العفو عنه في سنة 1900 فعاد إلى وطنه، واتخذ من بيته منتدى للأدباء والشعراء، إلا أن حياته لم تطل به، فقد اختطفه الموت سنة 1904 ولم يكن قد طُبع ديوانه ولا مختاراته فطبعتهما أرملته، وبذلك قدَّمت للأجيال التالية هذين الكنزين النادرين من شعره ومنتخباته.


ب- شعره:
ما قدمنا من حياة البارودي يدل دلالة واضحة على أن مؤثرات كثيرة اشتركت في تكوين شخصيته الأدبية، وكان منها ما ترك أثرًا عميقًا في نفسه، ومنها ما وقف عند السطح والظاهر، فلم يترك أثرًا بعيدًا لا في نفسه ولا في شعره.
وأول ما يلاحظ من ذلك أنه من عنصر شركسي، كان له حكم مصر في وقت من الأوقات، وأورثه هذا العنصر حدة في المزاج وطموحًا واسعًا، وميلًا إلى حياة الحرب والفروسية.
وهذا العنصر الوراثي يقابله عنصر عربي مكتسب من قراءاته للشعر القديم، وأضاف إلى هذا العنصر قراءات في الآداب التركية والفارسية، وفي الآداب الإنجليزية أخيرًا، ودعته ظروف حياته العسكرية إلى أن يسافر إلى أوربا ويشهد الحياة الأوربية.
وهو بهذا كله يشبه الشعراء العباسيين الذين كانوا يلمون بالثقافات الأجنبية المعروفة لعصورهم، وإن كان من المحقق أنه لم يتأثر في شعره تأثرًا واضحًا بما ألم به من ثقافات غير الثقافة العربية؛ ولكنها -على كل حال- تضيف إلى شخصيته شيئًا جديدًا لا نراه عند معاصريه من الشعراء المصريين.
وليس هذا كل ما يُكوِّن شخصيته الأدبية، فهناك عنصر خطير كان له أعمق الأثر في تكوينه، وهو عنصر البيئة المصرية التي اضطرب في مشاهدها الطبيعية وأحداثها القومية والسياسية، وأثرت هذه البيئة في روحه وكيانه الأدبي؛ بل لقد استبدت به استبدادًا؛ حتى غدا في القرن الماضي شاعر مصر الذي لا يبارَى في تصوير الحياة المصرية من جميع أطرافها المكانية والزمانية.
وإذا أخذنا ننعم النظر في شعره -على ضوء هذه العناصر التي ألفت شخصيته- لاحظنا قوة العنصر العربي المكتسب، وهو عنصر لم يكتسبه بطريق التعلم على أساتذة اللغة والأدب في عصره؛ وإنما اكتسبه بطريق مباشرة؛ هي قراءة النماذج القديمة للعباسيين ومن سبقوهم من الإسلاميين والجاهليين، وما زال يقرأ فيها حتى استقرت في نفسه سليقة الشعر العربي الأصيلة، فصدر عنها في نظمه وشعره.
يقول الشيخ حسين المرصفي عنه في كتابه "الوسيلة الأدبية": "هذا الأمير الجليل ذو الشرف الأصيل والطبع البالغ نقاؤه والذهن المتناهي ذكاؤه لم يقرأ كتابًا في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلًا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع بعض مَن له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ بحضرته، حتى تصور في برهة يسيرة هيآت التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسب ما تقتضيه المعاني ... ثم استقل بقراءة دواوين الشعر ومشاهير الشعراء من العرب وغيرهم؛ حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقدًا شريفها من خسيسها، واقفًا على صوابها وخطئها، مدركًا ما ينبغي وفق مقام الكلام وما لا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر باللائق بالأمراء".
ومعنى ذلك أنه لم يستنَّ سنة معاصريه من تعلم النحو والعروض والبديع حتى يُحسن نظم الشعر؛ وإنما استن سنة جديدة صحح بها موقف الشعر والشعراء، فردهم إلى الطريقة القديمة، أو بعبارة أدق: ارتد هو إلى تلك الطريقة، ونقصد طريقة الرواية التي كان يتلقن بها الشاعر الجاهلي والأموي أصول حرفته.
وكان هذا حدثًا خطيرًا في تاريخ شعرنا الذي تدهور إلى أساليب غثة مكسوة بخرق البديع البالية، تُكرَّرُ في صور من الهذيان على كل لسان.
فأزال البارودي من طريقه هذه الأساليب، واتصل مباشرة بينابيع الشعر العربي القديمة في العصر العباسي وما قبله من عصور، ولم يلبث أن أساغها وتمثلها تمثلًا دقيقًا، فقد أُشْربتها روحه، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من شعره وفنه.
وواضح من ذلك أن مذهبه الفني لم يكن يقوم على نبذ القديم كله؛ وإنما كان يقوم على نبذ صورة خاصة هي صورة الشعر الغث الذي ينتجه عصره والعصور القريبة منه، أما الشعر العباسي وما سبقه فينبغي للشاعر ألا يَنْبذه؛ بل عليه أن يسير في دروبه ويصب على صيغه وقوالبه.
وكان هذه الاتجاه يعد ثورة في عصره؛ لأنه خروج عن مألوف معاصريه، وعَوْدٌ بهم إلى أساليب لا يعرفونها ولا يألفونها، وكانت قد فسدت أذواقهم فأصبحت لا تقدرها قدرها ولا تشعر بما فيها من متاع وجمال.
أما البارودي فقد شعر بهذا المتاع والجمال إلى أبعد حد، وانطلق يصوغ شعره على طريقة العباسيين ومن سبقوهم، واتخذ ذلك مذهبًا له، وأعلنه في صراحة واضحة، فكان يحاكي الشعراء القدماء ويعارضهم من مثل: النابغة وبشار وأبي نواس والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي، وأتيح له أن يتفوق في أكثر معارضاته.
وهذا هو مذهبه الفني؛ بَعْثُ الأسلوب القديم في الشعر وتعمد إحيائه، وهو لا يموه في ذلك ولا يكذب؛ بل يصرح به ويدعو الشعراء إلى تقليده، ولعل من الطريف أن الشعر حين انفك عنده من الأساليب التي عاصرته أخذ يعبر في حرية عن مزاج الشاعر ونفسيته وكل ما يتصل به من أحداث.
فالبارودي إنما يستعير من القدماء إطارهم الذي يقوم على قوة الأسلوب وجزالته؛ ولكنه يملأ هذا الإطار بروحه وبشخصيته، وكأنها خاتم يطبع على كل مأثور له اسمه. ومن هنا يأخذ مكانته في الشعر العربي الحديث، فقد رد إليه متانته ورصانته، وفرض عليه نفسه وبيئته وعصره؛ بحيث أصبح شعرًا حيًّا يصور منشئه وقومه تصويرًا بارعًا.
ويستطيع القارئ أن يقرن ما قدمناه عن حياة البارودي الخاصة والعامة إلى ديوان فسيراها مرسومة فيه رسمًا دقيقًا بكل جزئياتها وتفصيلاتها، فحياته الأولى قبل الثورة العرابية وما ارتبط بها من نعيم العيش ورغده مصورة أوضح تصوير، فهو يصف لهوه ومرحه ومُتعه، كما يصف بيئته المصرية وما فيها من مشاهد الطير والأشجار والنبات، وله في ذلك طرائف كثيرة؛ كقوله في القطن وهو على سوقه:
القطن بين مُلوِّز ومنور ... كالغادة ازدانت بأنواع الحلَى1
فكأن عاقده كُرات زمرد ... وكأن زاهره كواكب في الروَا2
دبت به روح الحياة فلو وهت ... عنه القيود من الجداول قد مشى3
فأصوله الدكناء تسبح في الثرى ... وفروعه الخضراء تلعب في الهوا4
لم يَسْرِ فيه الطرف مذهب فكرة ... محدودة إلا تراجع المنى5
ويشترك في حروب الدولة العثمانية فيصف وقائعها وصفًا دقيقًا تسعفه مخيلة ماهرة في التقاط المرئيات، وعاطفة حماسية ملتهبة.
وبذلك يعيد لنا فن الحماسة القديم الذي عَفَّى عليه الزمن؛ إذ ينفخ فيه حياة وروحًا جديدة.
وكان في قرارة نفسه يستشعر مجد آبائه المماليك الذين حكموا مصر، كما كان يستشعر مجد وطنه وما كشف علم الآثار المصرية من هذا المجد،

===========================
1 الغادة: المرأة الشابة الجميلة.
2 العاقد: لوز القطن قبل تفتحه، والزاهر: الأبيض المشرق، والروا: حسن المنظر.
3 يقول: إن روح الحياة سرت فيه، ولولا مياه الجداول التي تمسك به لمشى.
4 الدكناء: الضارب لونها إلى السواد.
5 مذهب فكرة محدودة: مقدار جولة الفكر المحدودة، ويريد اللمحة، يقول: إنه كلما لمح هذا النبات رأى فيه ما يحقق آماله.
===========================

وصور هذا الشعور في قصيدة وصف بها الهرمين، وهي أول قصيدة حديثة في آثارنا الفرعونية، ومما يقول فيها:
سل الجيزة الفيحاء عن هرمَيْ مصر ... لعلك تدري بعض ما لم تكن تدري
بناءان ردا صولة الدهر عنهما ... ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر
أقاما على رغم الخطوب ليشهدا ... لبانيهما بين البرية بالفخر
فكم أمم في الدهر بادت وأعصر ... خلت، وهما أعجوبة العين والفكر
وبينهما بلهيب في زي رابض ... أكب على الكفين منه إلى الصدر1
مصانع فيها للعلوم غوامض ... تدل على أن ابن آدم ذو قدر
وتدعوه الحركة القومية، فيلبي الدعاء، ويأخذ في نظم شعره السياسي الذي يدعو فيه إلى الإصلاح والأخذ بنظام الشورى، ويزداد للدعوة حمية، فيطالب بتغيير الساسة ومن في يدهم الحكم لعهد إسماعيل، ويندفع في ثورة قوية، ملوحًا بأمله في أن يصير الأمر له، فمن ذلك قوله من قصيدة طويلة:
لكننا غرض للشر في زمن ... أهل العقول به في طاعة الْخمَل2
قامت به من رجال السوء طائفة ... أدهى على النفس من بؤس على ثَكَل3
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ... قواعد الملك حتى ظل في خلل
وأصبحت دولة الفسطاط خاضعة ... بعد الإباء وكانت زهرة الدول4
فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا ... شكالة الريث فالدنيا مع العجل5
وقَلِّدوا أمركم شهمًا أخا ثقة ... يكون ردءًا لكم في الحادث الجلل6
يجلو البديهة باللفظ الوجيز إذا ... عز الخطاب وطاشت أسهم الجدل

=====================
1 بلهيب: أبو الهول.
2 الخمل: جمع خامل.
3 الثكل: فقد الولد.
4 دولة الفسطاط: دولة مصر.
5 الشكالة: قيد الدابة، والريث: الإبطاء.
6 الردء: العون، والجلل: الخطير.
=====================

ويظله عهد توفيق، ويتولى الوزارة، فلا يخمد ما في نفسه من آمال؛ بل تزداد توهجًا واشتعالًا، وينضم إلى عرابي مع غيره من الثوار منشدًا مثل قوله:
فيا قوم هبوا إنما العمر فرصة ... وفي الدهر طرق جمة ومنافع
أرى أرؤسًا قد أينعت لحصادها ... فأين ولا أين السيوف القواطع1
وتخفق الثورة، ويَصْلى البارودي نار أعدائها بعد الإخفاق، فيُحاكم ويُنفى إلى سرنديب، ويتحول إلى دورة بائسة في حياته، ويتحول معه شعره، فيفيض بالألم والشكوى والشوق والحنين إلى وطنه، ويرثي من يموت من أهله، وكأنه يرثي نفسه.
ومرثيته في زوجه الأولى:
أيد المنون قدحت أي زناد ... وأطرت أية شعلة بفؤادي2
سيل لاذع من الحزن والشجى والتفجع المرير.
ويعود إلى وطنه، فيفرح فرحة الطائر ينطلق من قفصه، وينشد قصيدته:
أبابل مرأى العين أم هذه مصر ... فإني رأى فيها عيونًا هي السحر
وعلى هذه الشاكلة كان البارودي يصور نفسه وبيئته ووطنه وما مر به من أحداث تصويرًا صادقًا. ومن تمام هذا الصدق فيه شعوره الدقيق بعصره لا بأحداثه فحسب؛ بل أيضًا بمخترعاته، وكان يُجريها في تشبيهاته واستعاراته كقوله في الغزل:
وسرت بجسمي كهرباءة حسنه ... فمن العروق به سلوك تخبر
وبما قدمنا كله كان البارودي أول المجددين في الشعر العربي الحديث، وهو تجديد كان يقوم عنده على أصلين: بعث الأسلوب القديم في الشعر؛ بحيث تعود إليه جزالته ورصانته، وتصوير الشاعر لنفسه وقومه وبيئته وعصره تصويرًا مخلصًا صادقًا.

==========================
1 أينعت: أدركت وحان قطافها.
2 المنون: الموت، والزناد: حجر تقدح به النار.
==========================



الفصل الثالث: أَعلام الشعر 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثالث: أَعلام الشعر Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث: أَعلام الشعر   الفصل الثالث: أَعلام الشعر Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:44 am


2- إسماعيل صبري 1854-1923م:
أ- حياته:
وُلد إسماعيل صبري في القاهرة سنة 1854 لأسرة متوسطة، وأخذ يختلف منذ نشأته إلى المدارس على غرار نُظَرائه من أبناء هذا الزمان، فالتحق بمدرسة المبتديان سنة 1866 ثم بمدرستي التجهيزية والإدارة "الحقوق" وأتم دراسته في الأخيرة سنة 1874.
وبمجرد تخرجه فيها أُرسل في بعثة إلى فرنسا، فنال شهادة الليسانس في الحقوق من كلية إكس سنة 1878، وفتحت هذه الشهادة الأبواب أمامه كي ينتقل في وظائف السلك القضائي بمصر، وفي سنة 1896 عُيِّن محافظًا للإسكندرية، وظل بهذه الوظيفة ثلاث سنوات انتقل في نهايتها وكيلًا لوزارة العدل "الحقانية حينئذ".
وما زال يشغل هذا المنصب حتى طلب إحالته إلى المعاش في سنة 1907.
وخلص منذ هذا التاريخ لشعره وفنه حتى لبَّى نداء ربه في سنة 1923.
وحياته على هذا النحو كانت حياة سهلة، ليس فيها شظف ولا حرمان؛ فقد وفَّر له راتبه غير قليل من الرزق وطيب العيش.
وانعقدت أواصر الصداقة بينه وبين مصطفى كامل، ويقال: إن أولي الأمر طلبوا إليه ذات مرة -وهو محافظ بالإسكندرية- أن يحول بين مصطفى وبين الشعب هناك، فلا يدعه يخطب فيه، فأبى ذلك، وخلى بين الشعب وزعيمه الشاب، وقال: أنا مسئول عن الأمن والنظام.
ويُؤْثَرُ عنه أنه لم يزر دار المندوب السامي الإنجليزي على نحو ما كان يصنع كبار الموظفين في عصره؛ إذ كان يرى في ذلك أكبر وصمات الذل والاستعباد.
وظل وفيًّا لمصطفى كامل يزوره ويتردد على دار اللواء، حتى إذا عصفت به المنون انتظم في سلك مشيعيه، ووقف على قبره يندبه بقصيدته:
أداعي الأسى في مصر ويحك داعيا ... هددْتَ القُوَى إذ قمت بالأمس ناعيا
وهي تصور جزعه عليه من ناحية، وتصور من ناحية ثانية مدى إخلاصه له وحزنه عليه، وكل بيت فيها دمعة وفاء يذرفها على صديقه وزعيمه.
ومن الحق أن نفسه كانت كبيرة، وأنه كان يستشعر معاني الكرامة في أبلغ صورها.
وقد تحول بيته إلى منتدى يألفه الأدباء والشعراء، وعُرف بين الأخيريين خاصة بذوقه الدقيق وحسه المرهف، فكانوا يعرضون عليه أشعارهم، ويستجيبون لنقده وملاحظاته، ولعل ذلك هو السبب في أن معاصريه كانوا يلقبونه "شيخ الشعراء" فهو شيخهم المجلِّي، واعترف بذلك حافظ وشوقي في رثائهما له، يقول حافظ:
لقد كنت أغشاه في داره ... وناديه فيها زها وازدهر
وأعرض شعري على مسمع ... لطيف يحس نبو الوَتَر
ويقول شوقي:
أيام أمرح في غبارك ناشئًا ... نَهْجَ الْمِهار على غبار خصاف1
أتعلم الغايات كيف ترام في ... مضمار فضل أو مجال قواف
ويُجمع معاصروه على أنه كان رقيقًا دمثًا وديعًا حلو النادرة، وهو من هذه الناحية يمثل رقة أهل القاهرة، وما يشتهرون به من خفة الظل ولطف الحس.
وكانت في عصره "صالونات" أو ندوات لبعض السيدات كن يُقمنها على الطريقة الفرنسية، كندوة الأديبة المشهورة "مي".
وقد دعمت هذه الندوات الرقة التي امتاز بها.
وأنت لن تجد مثله شاعرًا استولى على معاصريه برقته ودعته ودماثته، ولعل ذلك هو السبب في أنه خرج من معارك النقاد في أيامه دون أن ينالوه بسوء.
ومما يتصل بهذا الجانب عنده أنه لم يكن يهمه أن يسمى شاعرًا كبيرًا، فحسبه أن يغنِّي شعره لنفسه وفي خلواته.

=======================
1 مهار: جمع مهرة، وخصاف: فرس مشهور لدى العرب.
=======================

وعلى نحو ما كان يختلط بالأدباء والشعراء كان يختلط بالمغنين وأهل الموسيقى من الملحنين، وقد وضع لهم أدوارًا شاعت في عصره وما زال بعضها يغنَّى في عصرنا، وهو فيها يرتفع بعيدًا عن السفح الذي كان لا يتجاوزه أصحاب هذه الأدوار حينئذ؛ إذ أشاع فيها الطهر والعفة ومعاني الحب السامية.


ب- شعره:
لعل فيما قدمناه من حياة إسماعيل صبري ما يدل على أن عناصر مختلفة أسهمت في تكوين شاعريته، فهو مصري صميم؛ بل هو قاهري، يمثل الروح القاهرية المصرية الخالصة، وما عُرف عن أهل القاهرة من اللين والدماثة والميل إلى الدعابة.
وهو قد تعلم في فرنسا وعرف الآداب الفرنسية في عصر الرومانسية: عصر لامارتين وغيره، ولا ريب في أن ذلك أضاف إلى شاعريته شيئًا جديدًا، فقد نهل من منابع لا عهد للعرب ولا للعربية بها، وفي ديوانه إشارات إلى بعض أمثال وعبارات فرنسية استوحى منها بعض أبياته ومقطوعاته.
على أننا نلاحظ أن أكبر شيء أثَّر في شاعريته حقًّا وسطه المصري وندوات السيدات التي كان يختلف إليها، فقد أثرا جميعًا أثرًا بعيدًا في روحه ومزاجه وتكوين شخصيته الأدبية.
وأيضًا أثرت فيه أثرًا عميقًا قراءاته في الأدب العربي، ويظهر أنه قرأ كثيرًا في البهاء زهير وابن الفارض، ففي شعره آثار مختلفة منهما؛ بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه امتداد لهما في كثير من جوانبه.
وقد بدأ حياته الفنية أو الشعرية مبكرًا قبل بعثته إلى فرنسا؛ إذ كان ينشر في مجلة "روضة المدارس" مديحًا في إسماعيل، وظل ينظم بعد عودته في هذا الموضوع الرسمي.
وشعره فيه تقليدي، وفيه كثير من فنون البديع على طريقة معاصريه.
ومعنى ذلك أن العنصر الفرنسي أو الآداب الفرنسية لم تترك أثرًا سريعًا في فنه، فقد مضى في أشعاره الأولى يرسف في قيود التقليد.
غير أننا لا نمضي طويلًا معه، حتى نراه يتبين نفسه فينزع عنها رداء الشعر الرسمي، ويخلص للتغني بعواطفه الصادقة، وحينئذ تتراءى جميع العناصر التي أشرنا إليها آنفًا في تكوين شخصيته الأدبية، فإذا هو شاعر قاهري رقيق، وإذا هو امتداد للروح المصرية التي مثلها في عصورنا السابقة البهاء زهير من طرف وابن الفارض من طرف آخر، وأيضًا إذا هو يتأثر في بعض معانيه وأخيلته بما عرَف من معانٍ وأخيلة في الأدب الفرنسي.
أما أنه امتداد للبهاء زهير، فإن ذلك يتضح فيما نظمه في الحب والمرأة؛ فقد عمد فيه إلى ضرب من الشعر الوجداني الصافي الذي يشف عن كل ما وراءه، في أسلوب ليس فيه تكلف ولا ما يشبه التكلف.
ليس فيه ما كان يردده القدماء من وصف صخامة الرِّدْف ورقة الخصر والريق والنهود واللثم وغير ذلك مما يصور اللذة الحسية، وتأنف منه الأذواق السليمة؛ إنما فيه عاطفة الحب الطاهرة العفيفة، على شاكلة قوله في بعض الحِسَان:
إن هذا الحسن كالماء الذي ... فيه للأنفس ري وشفاء
لا تذودي بعضنا عن ورده ... دون بعض واعدلي بين الظماء
وتجلي واجعلي قوم الهوى ... تحت عرض الشمس في الحكم سواء
أقبلي نستقبل الدنيا وما ... ضُمِّنَتْه من معدات الهناء
واسفري تلك حُلًى ما خُلقت ... لتُوارَى بلثام أو خباء
واخطري بين الندامى يحلفوا ... أن روضا راح في النادي وجاء
وابسمي من كان هذا ثغره ... يملأ الدنيا ابتسامًا وازدهاء
لا تخافي شططًا من أنفس ... تعثر الصبوة فيها بالحياء
راضت النخوة من أخلاقنا ... وارتضى آدابنا صدق الولاء
أنت روحانية لا تدعي ... أن هذا الحسن من طين وماء
وانزعي عن جسمك الثوب يَبِنْ ... للملا تكوين سكان السماء
وأرِي الدنيا جناحي ملَك ... خلف تمثال مصوغ من ضياء
وواضح أن هذا غزل من نوع جديد يخالف ما كنا نألفه عند كثير من شعرائنا الماضين، أولئك الذين كانوا يتعبون أنفسهم في رصف أصداف التشبيهات حين يتغزلون بالمرأة على نحو ما نرى عند قائلهم:
فأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت ... وردًا وعضت على العُنَّاب بالبَرَد
وقلما يصورون حركة نفس؛ إنما يحشدون الشتبيهات والاستعارات حشدًا، ويتبارون في ذلك، حتى طلع الشعراء المصريون من أمثال البهاء زهير، فإذا هم يفكون الغزل من هذه الأصداف أو من هذه القيود، ويرجعون به إلى نمط طبيعي، يعبرون فيه عن روحهم المصرية البسيطة؛ بل يعبرون عن أنفسهم وعن وجداناتهم وعواطفهم.
ومن الحق أن إسماعيل صبري خطا بهذا الشعر الوجداني خطوات بتأثير البهاء زهير من جهة وتأثير ثقافته الفرنسية من جهة ثانية، وما نوعت في تفكيره ومعانيه، واقرأ له هذين البيتين:
ولما التقينا قرَّب الشوق جهده ... شَجِيَّيْنِ فاضا لوعة وعتابا
كأن صديقًا في خلال صديقه ... تسرب أثناء العناق وغابا
فإنك ترى فيهما دقة الخيال والتصوير، كما ترى صورة النفس والعاطفة مع الرقة والحس الدقيق. ومهما قرأت في غزله فلن تجد عنده ما يخدش الذوق أو ينبو عنه، ومن المؤكد أنه كان لوسطه أثر في ذلك، ونقصد ندوات السيدات اللائي كان يختلط بهن، فإن معاشرته لهن أصابت غزله برقة شديدة، وجعلته يرتفع فيه إلى ضرب وجداني سام، ليس فيه حس ووصف للمتاع إلا ما يأتي عفوًا.
وغزله لذلك يمتاز عن غزل معاصريه وسابقيه، وحقًّا أنه -كما قلنا- امتداد لغزل البهاء زهير؛ ولكنه امتداد فيه تنويع واسع للمعاني بفضل ما قرأ في الآداب الغربية، وفيه رقة حس وارتفاع بالذوق بفضل اختلاطه بالمرأة المصرية الحديثة.
وجانب آخر في غزله لم نتحدث عنه، وهو واضح في أساليبه؛ وذلك أنه يدنو من لغتنا اليومية المألوفة دنوًّا يجعلنا نذكر سلفه البهاء زهير، وما كان يصطنع في شعره من هذا القرب الشديد إلى ألفاظ العامة، واقرأ لصبري هذا المطلع لإحدى مقطوعاته:
أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة ... ولا بشافعة في رد ما كانا
فإنك تراه يتأثر تأثرًا واضحًا بما يشيع على ألسنة المصريين في حياتهم اليومية من قولهم: "لا ينفع ولا يشفع"، وكأنه يريد أن يعبر في غزله عن الروح المصرية بخواصها اللغوية.
وكان يُشيع ذلك في جميع أشعاره؛ كقوله في رثاء مصطفى كامل:
أجل أنا من يرضيك خلا موافيا ... ويرضيك في الباكين لو كنت واعيا
فقد استخدم كلمة "واعيا" في القافية كما تستخدمها العامة، فهي ليست بمعناها المعروف في العربية وهو الحافظ؛ وإنما هي بمعنى ملتفت، أو كما نقول في العامية: "واخد بالك".
ولا ريب في أن هذا القرب من لغتنا اليومية هو الذي جعل المغنين يقبلون على مقطوعات صبري الغزلية، فيغنونها أدوارًا، كأغنيته المشهورة:
يا آسيَ الحي هل فتشت في كبدي ... وهل تبينت داء في زواياها
أوَّاه من حُرَق أودت بأكثرها ... ولم تزل تتمشى في بقاياها
يا شوقُ رفقًا بأضلاع عصفت بها ... فالقلب يخفق ذُعْرًا في حناياها
وحاول أن يقترب أكثر من ذلك إلى روحنا المصرية، فنظم للمغنين أدوارًا عامية ذاعت على كل لسان، من مثل قوله في بعض أغانيه:
الحلو لما انعطف ... أخجل جميع الغصون
والخد آه ما انأطف ... وَرْدُه بغير العيون
وقوله:
يا ألب ادانت حبِّيت ... ورجعت تندم
صبحت تشكي ما لإيت ... لك حد يرحم
ومن تمام هذه الروح المصرية في شعر صبري أننا نجد عنده الدعابة الخفيفة والتهكم الساخر اللذين عُرف بهما المصريون على طوال عصورهم في تنكيتهم وتبكيتهم، في أدبهم العامي وأدبهم العربي الفصيح جميعًا؛ إذ تتأصل الفكاهة الحلوة والسخرية المرة في نفوسهم؛ حتى ليصبحان جوهرًا ثابتًا في أمزجتهم وطباعهم، وهو جوهر يتألق في شعر صبري، فتارة يكون دعابة بسيطة، وتارة يكون نقدًا ساخرًا وهجاء لاذعًا على نحو ما نرى في الأبيات التالية التي نظمها في مصطفى فهمي حين سقطت وزارته في سنة 1908 مصورًا مدى ولائه للإنجليز، وكيف كان يصدر في حكمه عن مشيئتهم، يقول مخاطبًا له:
عجبتُ لهم قالوا سقطت ومن يكن ... مكانك يأمن من سقوط ويسلم
فأنت امرؤ ألصقت نفسك بالثرى ... وحرمت خوف الذل ما لم يحرَّم
فلو أسقطوا من حيث أنت زجاجة ... على الصخر لم تُصْدَع ولم تتحطم
وقد وقف مع أمته في حادثة دنشواي يصور فظائع الإنجليز وما ساموا أهل هذه القرية من الخسف والقتل وعذاب السجون، يقول:
إنْ أنَّ فيها بائس مما به ... أو رن جاوَبه هناك مطوَّقُ
ومضاجع القوم النيام أواهل ... بمعذَّب يُرْدَى وآخر يُرْهَق
لن تبلغ الجرحى شفاء كاملًا ... ما دام جارحها المهنَّد يبرق
ونراه يفزع فزعًا شديدًا حين طمَّ الخلاف بين المسلمين والأقباط سنة 1911، وكاد يأتي على وحدتنا الوطنية، فينظم مثل قوله:
خَفِّفوا من صياحكم ليس في مصـ ... ـر لأبناء مصر من أعداء
دينُ عيسى فيكم ودين أخيه ... أحمد يأمراننا بالإخاء
مصر أنتم ونحن لا إذا قا ... مت بتفريقنا دواعي الشقاء
مصر ملك لنا إذا ما تماسكـ ... ـنا وإلا فمصر للغُرَباء
وقد تغنَّى في سنة 1909 غناء خالدًا بعظمة مصر وأمجادها في قصيدته المشهورة التي جعلها على لسان فرعون مصر، والتي يستهلها بقوله:
لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا وَنَى يوم تحصيل العُلا واني
وهي تدور على كل لسان، وفيها يُلهب فرعون مشاعر الشباب ويذكي حماستهم بما ينفخ في روحهم من حمية ويستشير من عزيمة؛ لطلب العلا، تأسيًا بسيرة الأجداد، وما شادوا من مفاخر وأمجاد.
وأشرنا -فيما أسلفنا- إلى أن صبري يُعد في بعض جوانبه امتدادًا لابن الفارض، الشاعر المصري المصري الصوفي الذي عاش يتغنَّى بالمحبة الإلهية وما يطوي فيها من ابتهال وعبادة.
وحقًّا أن صبري لم يكن صوفيًّا على نحو ما كان ابن الفارض، فلم يكن يعشق الذات الإلهية عشقه، ولا كان يفنى فيها فناءه، ومع ذلك فهو متأثر به تأثرًا إن بدا ضيئلًا من الناحية الصوفية الخالصة فإنه قوي من الناحية الدينية والعقيدة الإلهية قوة يعبر فيها لا عن صلته بابن الفارض فحسب؛ بل أيضًا عن صلته بنفسية شعبه، هذا الشعب الذي يرسب الإيمان في أعماقه منذ أقدم أزمانه.
فنحن نراه دائمًا يخلص وجهه لربه ودينه، مبتهلًا داعيًا، طالبًا لما عنده، مؤثرًا له على دنياه الزائلة، منيبًا إلى عفوه ورحمته. ويتردد هذا الشعور الديني ويفوح أريجه عنده في شكل دعاء حينًا ومناجاة حينًا آخر على هذه الشاكلة:
يا رب أين تُرى تقام جهنم ... للظالمين غدًا وللأشرار
لم يُبق عفوُك في السموات العلا ... والأرض شبرًا خاليًا للنار
يا رب أهلني لفضلك واكفني ... شطط العقول وفتنة الأفكار
ومر الوجود يشف عنك لكي أرى ... غضب اللطيف ورحمة الجبار
ويتصل بهذا الجانب عنده استسلام عميق للقضاء، وما تأتي به الأقدار، فهو يتقبل كل ما في الحياة راضيًا قرير العين، حتى الموت، فإنه يرحب بمقدمه:
يا موت هأنذا فخذ ... ما أبقت الأيام مني
بيني وبينك خطوة ... إن تخطها فرجت عني
إن الموت أمر مقدور وفريضة مكتوبة كتبها الله على عباده، وينبغي أن نرضى بما كتب لنا، فتلك مشيئته، ولا رادَّ لمشيئته؛ بل إن في الموت والهمود في باطن الأرض لراحة لنا من هموم الحياة، يقول:
إن سئمتَ الحياة فارجع إلى الأر ... ض تَنَمْ آمنًا من الأوصاب
تلك أمٌّ أحنَى عليك من الأ ... م التي خلَّفَتْك للأتعاب
وهي خطرات كانت تمر بنفسه، فيسجلها في هذا الرواء الشعري، وربما كان من أسبابها اعتلال طال عليه في صحته؛ لكنها -على كل حال- تدل على نزعة دينية كانت تتغلغل في أعماقه.
وهذا هو صبري في شعره: رقيق الحس، عذب النفس، دمث الطبع، خفيف الظل، قلما ينظم القصائد المطولة؛ إنما ينظم المقطوعات القصيرة التي يضمنها مشاعره في الحب والسياسة والدين في صدق وإخلاص.



الفصل الثالث: أَعلام الشعر 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثالث: أَعلام الشعر Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث: أَعلام الشعر   الفصل الثالث: أَعلام الشعر Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:46 am


3- حافظ إبراهيم 1870-1932م:
أ- حياته:
كان يقيم في ديروط إحدى بلدان الصعيد حوالي سنة 1870 طائفة من المهندسين المصريين للإشراف على قناطرها القائمة على النيل، وكان من بينهم مهندس مصري صميم يسمى إبراهيم فهمي، اختار لسكناه سفينة "ذهبية"
أقام فيها مع زوجته التركية "هانم بنت أحمد البورصه لي".
وفي هذه الذهبية وُلد لهما على صفحة النيل حافظ، ففرح به الأبوان، وعاشا بجانبه هانئين، إلا أن الدهر لم يلبث أن قلب لهما ظهر المجن، فإذا الأب يموت، وابنه يخطو على عتبة السنة الرابعة.
فانتقلت به أمه إلى القاهرة حيث كفله خاله، وكان مهندس تنظيم، فرعاه وقام على تربيته، وألحقه أولًا "بالكُتَّاب"، ثم تحول به إلى مدارس مختلفة كان آخرها المدرسة الخديوية.
وتصادف أن نُقل خاله إلى بلدة "طنطا" فصحبه معه.
ولم يختلف في هذه البلدة إلى مدرسة؛ بل أخذ يختلف إلى الجامع الأحمدي، وكانت تُلقى فيه دروس على نمط ما يلقى في الأزهر.
وحافظ لا ينتظم في هذه الدروس؛ بل يُلم بها من حين إلى حين في غير نظام.
وأخذ يتضح فيه ميله إلى الأدب والشعر، فكان يطارح بعض الطلاب ويستعرض معهم طرائف الشعراء القدماء والمحدثين وخاصة البارودي.
وعلى هذا النحو مضى في حياته لا يحملها محمل الجد، فمله خاله، وأشعره بملله، فابتأس وأحس غير قليل من الألم، وعزم على أن يبدأ محاولاته في كسب قوته، ونوَّه بذلك في بيتين وجَّههما إلى خاله، على هذا النحو:
ثَقُلتْ عليك مئونتي ... إني أراها واهيه
فافرَحْ فإني ذاهب ... متوجِّهٌ في داهيه
وتوجه توًّا إلى المحاماة، وكانت لا تزال مهنة حرة، وكأنما أغرته بها ذلاقة لسانه وحسن منطقه، فالتحق بمكاتب بعض المحامين، إلا أن القلق عاوده.
وفجأة نجده راحلًا إلى القاهرة ليلتحق بالمدرسة الحربية، وينتظم بين طلابها، ويتخرج فيها سنة 1891، ويعين في وزارة الحربية ويظل بها ثلاث سنوات.
ثم ينقل إلى وزارة الداخلية، فيمضي فيها عامًا وبعض عام، ثم يعود إلى الحربية، ويُدْعى إلى مرافقة الحملة الأخيرة إلى السودان، وكانت بقيادة اللورد كتشنر، فيرافقها على مضض، ولا يكاد يضع قدمه هناك حتى يتبرم، ويضج بالشكوى ويراسل الشيخ محمد عبده معلنًا تبرمه وسخطه.
وتقوم ثورة في الجيش فيشترك فيها ويُحاكَم، ويُحكم عليه في سنة 1900 بإحالته إلى الاستيداع، ولا يلبث أن يطلب إحالته إلى المعاش.
وحافظ في كل هذه الأطوار التي مرت بنا في حياته قلق ضيق بعيشه؛ فقد نشأ يتيمًا في أسرة متوسطة، ولم يلبث أن اضطر إلى كسب قوته بنفسه، وحاول أن ينظِّم حياته فدخل المدرسة الحربية وتخرج فيها؛ ولكن سوء الطالع لازمه، فأحيل إلى الاستيداع والمعاش.
وكانت شاعريته قد استوت له، وكان ذا نفس حساسة مرهفة الشعور، فأحس بعمق بؤسه، وحاول أن يشتغل في صحيفة الأهرام؛ ولكنها أغلقت أبوابها من دونه، فاتجه إلى الشيخ محمد عبده، ولزمه حتى ليقول: "فلقد كنت ألصق الناس بالإمام، أغشى داره، وأرِدُ أنهاره، وألتقط ثماره".
وقد تعرَّف عن طريقه على الطبقة الممتازة من المصريين أمثال: سعد زغلول وقاسم أمين وحسن عاصم ومصطفى كامل ولطفي السيد ومحمود سليمان، وهي الطبقة التي كانت تفكر في الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، والتي لا تزال آثارها فاعلة في حياتنا المصرية.
وبذلك هيأ له اتصاله بالشيخ محمد عبده أن يعيش في البيئة الطامحة إلى الإصلاح، وكان في الوقت نفسه يعيش في بيئة الشعب الفقيرة التي نشأ فيها ويختلط بها بحكم بؤسه.
وكانت قد نشأت فيها طائفة من الأدباء البائسين أمثال إمام العبد، وكانوا يجلسون في مقاهي الأحياء الوطنية، وينتقلون فيها بأدبهم، وهي طبقة أوجدتها ظروف الحياة الحديثة، فقد كان الشعراء والأدباء في القديم يرعاهم الملوك والخلفاء والأمراء، وبطلت هذه السنة في العصر الحديث، واضطر الأدباء والشعراء إلى أن يعتمدوا على أنفسهم في كسب أرزاقهم وسد حاجاتهم، وسرعان ما تكونت بينهم هذه الطبقة البائسة التي أخذ يتنازع إمامتها في أول القرن إمام العبد وحافظ إبراهيم.
واضطر حافظ أن ينقطع إلى الطبقة الممتازة التي أشرنا إليها، وكان خفيف الظل فقربوه منهم، فكان يمدحهم ويتندر لهم ويضحكهم، وينظم لهم الشعر في المناسبات المختلفة.
وكان أكثر هذه الطبقة من أبناء الفلاحين الذين وصلوا بفضل جهودهم إلى المناصب العليا في مرافق الدولة، وكانوا يمتازون بشدة شعورهم بآمال الشعب وآلامه؛ فكان حافظ يجد في صحبتهم لذة، وكانوا يوسعون له في مجالسهم، فكان يروي لهم الشعر القديم وينشئ لهم قصائد فيما ينزعون إليه من وجوه إصلاح.
وفي هذه الأثناء كتب "ليالي سطيح" وهي مقالات نثرية على طريقة المقامات، صوَّر فيها على لسان سطيح الكاهن الجاهلي كثيرًا من عيوب الشعب الاجتماعية، متأثرًا في ذلك أوضح التأثر بآراء الشيخ محمد عبده الإصلاحية.
وحاول أن يتعلم الفرنسية ولم يتقنها، ومع ذلك ترجم البؤساء لفيكتور هيجو، ولم يستطع أن يترجمها ترجمة دقيقة، فاحتفظ بروحها، وزاد فيها ونقص حسب ذوقه.
وأخيرًا ينقذه في سنة 1911 حشمت "باشا" وزير التربية والتعليم حينئذ من هذه الحياة البائسة، ويعيِّنه في القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، ويظل في هذه الوظيفة إلى سنة 1932.
وأخذت الوظيفة تغلُّ لسانه، فلم يعد ينظم في شئوننا السياسية والاجتماعية كما كان شأنه قبل توظفه، حتى إذا وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ورُدت إلينا حريتنا أخذ يعود سيرته الأولى، غير أنه كان -فيما يظهر- يخشى أن يُفْصَل من وظيفته، فلم ينشر كثيرًا مما نظمه في الأحداث السياسية خشية أن يطرد من عمله ويحرم من قوته.
وأحيل إلى المعاش في عهد وزارة صدقي "باشا"، وكانت الحريات مكبوتة فنظم كثيرًا من الشعر الثائر، ولكنه لم ينشره على الملأ في الصحف؛ بل ظل يخاف السجن.
ومن هنا كان ديوانه لا يشتمل على جميع ما نظمه؛ بل إن جزءًا قيمًا منه -وخاصة في السياسة- ضاع ولم يصل إلينا.
على أن القدر لم يمهله بعد خروجه إلى المعاش؛ إذ سرعان ما نعاه الناعون باكين فيه وطنيته ودماثته وتواضعه وسماحة نفسه وجمال عشرته.


2- شعره:
إذا أخذنا نبحث في شخصية حافظ الأدبية وجدنا عناصر مختلفة تشترك في تكوينها، وأول هذه العناصر الدم المصري الذي ورثه عن أبيه، حقًّا كانت أمه تركية، ولكن تركيتها لم تخلف أثرًا واضحًا فيه، فقد غلبتها مصريته، بل لقد استبدت به، وأصبحت كل شيء يجري في روحه ومزاجه، حتى غدا مثالًا حيًّا للمصري في عصره، مثالًا لروحه القومية ومزاجه الفكه الباسم، وما تزال الصحف والمجالس تتناقل نوادره وفكاهاته إلى اليوم.
وأضاف إلى هذا العنصر الوراثي عنصرًا عربيًّا من قراءاته للأدب القديم، وتطاول طموحه منذ أخذ في نظم الشعر إلى مقام البارودي، وربما كان دخوله في المدرسة الحربية ناشئًا عن رغبة ملحة في نفسه لأن تصبح سيرته مثل سيرة البارودي من جميع الوجوه، وكذلك اشتراكه في ثورة الجيش على كتشنر في السودان هو الآخر يطوي رغبته في احتذائه وتقليده.
فالبارودي كان مثله الأعلى، وأخذ يطابق مطابقة تامة بين هذا المثل وشعره، واستطاع أن يظفر من ذلك بما كان يطمح إليه، فقد أحيا في شعره صيغه الجزلة الرصينة، وإن كان قد حاول تبسيطها، إلا أن قوالبه تمتاز دائمًا بما تمتاز به قوالب البارودي من الرصانة والجزالة والبعث لأساليب العربية الأصيلة.
ومن الحق أن البارودي كان أوسع ثقافة منه، حتى في صلته بالشعر العباسي وما قبله وبعده من شعر عربي، وقد استطاع أن يؤلف فيه مختاراته التي تقع في أربعة مجلدات، وهو من هذه الناحية مثل: البحتري وأبي تمام، اللذين ألفا لأنفسهما بجانب ديوانهما مختارات من الشعر القديم باسم الحماسة. ولم يستطع حافظ أن يصنع صنيع الشاعرين العباسيين ولا صنيع أستاذه الحديث؛ لأنه لم يكن منظَّم الثقافة؛ إذ كان يقرأ بدون نظام في العقد الفريد والأغاني ودواوين العباسيين.
وكان له ذوق جيد وذاكرة لاقطة تعرف كيف تختزن ما تقرأ.
وهو يختلف عن البارودي أيضًا في أن ثقافته بالآداب الأجنبية كانت ضيقة محدودة، فقد مر بنا أن البارودي ثَقِفَ آداب اللغتين الفارسية والتركية، وحاول أن يتعلم الإنجليزية في منفاه وسافر إلى أوربا قبل ذلك، ورأى الحضارة الغربية المادية، وهيأت له أرستقراطيته أن يتأثر بها في معيشته.
وكل ذلك يجعل البارودي واسع الثقافة، أما حافظ فقد تعلم تعليمًا متوسطًا كما يتعلم أنداده من أفراد الطبقة الوسطى، وعرف أطرافًا من الفرنسية، ولكنها كانت معرفة قاصرة لم تتح له التعمق في آداب هذه اللغة.
فحافظ كان ضيق الثقافة بالقياس إلى البارودي، وكان أشد ضيقًا بالقياس إلى معاصريه من أمثال: شوقي ومطران، اللذين كانا يتقنان الفرنسية وآدابها، مما أفادت منه طبيعتهما الأدبية إفادة واسعة.
أما هو فكان محدود الثقافة، واضطرته إلى ذلك ظروف مادية قاسية، فهو لم ينشأ في طبقة أرستقراطية مثل: البارودي وشوقي، وشتان السفر إلى أوربا والسفر إلى السودان، ومع ذلك لا بد أن نجلَّ عصاميته؛ إذ كان شاعرًا بطبعه لا بثقافته، واستطاع أن يثبت للمنافسة مع شوقي ومطران وغيرهما ممن رفدوا طبيعتهم بجداول الفكر الغربي وينابيعه العقلية.
وهنا لا بد أن نلاحظ العنصر الثالث المهم في تكوين شخصيته الأدبية، وهو عنصر بيئته المصرية الاجتماعية، وكان عنصرًا مركبًا، فهو من جهة نشأ في طبقة وسطى ودعته ظروف الحياة إلى أن يحس آلام الشعب وما ينطوي فيها من بؤس وفقر وشقاء، وهو من جهة ثانية أخذ يختلط بالطبقة الممتازة من المصريين التي لم تكسب امتيازها عن الوراثة، وإنما كسبته بجهودها، وكانت هذه الطبقة التي نشأت في البيئة الشعبية وتهيأ لها أن تسمو بحياتها وأن تصبح من الطبقة الأرستقراطية تشعر بكل ما يشعر به الشعب من حزن وألم، وتتمنى لو استطاعت أن تغير حياته في السياسة والاجتماع والثقافة.
ونشأة حافظ في الطبقة الأولى واختلاطه بالطبقة الثانية طبعا شعره بطوابع قوية؛ بحيث أصبح شاعرًا مصريًّا تامًّا يصور النفس المصرية الطامحة في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن تصويرًا دقيقًا، وماذا تريد من تصوير الشعب؟ أما إن كنت تريد تصوير شكواه وحزنه وبؤسه وفقره فقيثارة حافظ تسمعك كل هذه الألحان الشجية، وأما إن كنت تريد ما يضطرب في قلوب زعمائه ومصلحيه من دعوات عقلية وروحية وسياسية ووطنية، فالقيثارة نفسها تتدفق عليها هذه الأنغام وكأنه تعتصرها اعتصارًا.
وكثر في أول هذا القرن المتعلمون، وأخذت الصحف تظهر بانتظام وتنشر الشعر والمقالات الأدبية، وأخذ الشعراء يتنافسون في نشر إنتاجهم بالصحف، ودعاهم ذلك إلى أن يفكروا في الجمهور، وأن يخاطبوا طبقاته الوسطى ويغنوا عواطفها السياسية والوطنية والاجتماعية، وكان حافظ هو الصوت الأول الذي لبى حاجة الجماعة المصرية.
وانقسم المصريون حزبين: الحزب الوطني وحزب الأمة، وكثر الحوار في الآراء السياسية، وكثرت المقالات، وأخذ الكُتاب يكتبون في عيوبنا الاجتماعية، وتبعهم الشعراء ينظمون شعرًا سياسيًّا واجتماعيًّا، وتقدمهم حافظ ينشئ هذا الشعر ويذيعه في صورة قوية.
وحافظ في هذه الجوانب يبلغ -وخاصة في أول القرن- ما لم يبلغه شوقي والبارودي، أما شوقي فكان موظفًا بالقصر، وكان بعيدًا عن الشعب ومصلحيه، وأما البارودي فمعروف أنه ممن ثاروا في ثورتنا الأولى مع عرابي، إلا أن المتعلمين في أيامه كانوا قلة قليلة، ولم تكن الصحف قد شاعت، ولم يكن قد تكوَّن جمهور واسع من القراء، ثم هو نشأ نشأة أرستقراطية، فكان شعوره بنفسه أقوى من شعوره بالشعب؛ بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه في شعره السياسي إنما كان يصور نفسه وطموحه لحكم مصر أكثر من تصويره لحرية الشعب التي يريدها المصريون ويحلمون بها.
على كل حال لم يقصد البارودي بشعره إلى الجمهور أولًا، أما حافظ فقد قصد به أولًا إلى الجمهور، ولعل ذلك ما جعل شعره أكثر وضوحًا وأقرب فهمًا؛ إذ كان يبسِّط لغته وأساليبه.
حقًّا صب شعره في القوالب القديمة ولكنها عنده أدنى إلى الجمهور منها عند البارودي لسبب بسيط؛ وهو أنه كان يذيعها في صحفه اليومية، وكان كثير منها يُطْبَع بطابع السياسيين من معاصريه، وخاصة الخطباء منهم، فنحن في أحوال كثيرة نشعر عنده أنه يخطب، على نحو ما يخطب مصطفى كامل وغيره.
وحافظ بذلك صورة حية لعصره، فهو ينقله إلينا في شعره بأفكاره وآراء كتابه وخطبائه، وأساليبهم أحيانًا.
فكل ما يضطرب في نفوس معاصريه يستوعبه استيعابًا رائعًا ويحوِّله شعرًا، فإذا وجدته يقول:
وما أنتِ يا مصر دار الأديب ... ولا أنتِ بالبلد الطيب
أيعجبني منك يوم الوفاق ... سكوت الجماد ولعب الصبي
يقولون في النشء خير لنا ... وللنش شر من الأجنبي
فإنما يعبر عن سخط من حوله من السياسيين والاجتماعيين، فهو يشير إلى سكوت المصريين على الاتفاق الذي تم بين فرنسا وإنجلترا سنة 1904، وكان يتيح لأولاهما أن تطلق يدها في مراكش، ولثانيتهما أن تطلق يدها في مصر وتأخذها بما تريد من حكم جائر.
ونراه يعيب على الشباب عكوفه على الملاهي وانصرافه عن الجد والعمل المثمر لأمته.
ولحافظ شعر كثير يقرِّع فيه الشباب كأنه يريد أن يستثيرهم بما يغرس من الحميَّة فيهم.
وكان لا يجد بِرًّا ولا عملًا نبيلًا إلا يشيد به ويتغنى بالقائمين على أمره، وله في فتح المدارس والجامعة القديمة وإنشاء الملاجئ شعر كثير؛ كقوله في رعاية الطفولة:
أنقذوا الطفل إن في شقوة الطفـ ... ـل شقاء لنا على كل حال
أنقذوه فربما كان فيه ... مصلح أو مغامر لا يبالي
شاع بؤس الأطفال والبؤس داء ... لو أتيح الطبيب غير عضال
وبجانب هذا الضرب من الشعر الاجتماعي، يكثر عنده الشعر السياسي، ومن أروع ما قاله في قصيدته في حادثة دنشواي، وقد نظمها على هذا النمط الساخر:
أيها القائمون بالأمر فينا ... هل نسيتم ولاءنا والودادا
خفِّضوا جيشكم وناموا هنيئًا ... وابتغوا صيدكم وجُوبوا البلادا
وإذا أعوزتكم ذات طوق ... بين تلك الرُّبَى فصيدوا العبادا
إنما نحن والحمام سواء ... لم تغادر أطواقنا الأجيادا
ويمضي في القصيدة فيصور ظلم الإنجليز وبغيهم وسخط الأمة المصرية عليهم سخطًا شديدًا. ويلاحَظُ عليه في هذه القصيدة وغيرها من شعره السياسي ضرب من الحذر والاحتياط، فهو لا يثور على الإنجليز ثورة عنيفة، بل يشفع الثورة عليهم بضرب من اللباقة والحيلة، حتى يتقي غياهب سجونهم.
وفي رأينا أن هذا الاحتياط جاءه من الطبقة المثقفة الممتازة التي كان يعيش في كنفها؛ إذ كانت تصطنع مع الإنجليز الحذر والتقية.
وإن من الظلم أن نقيس حافظًا في شعره الوطني بما نُشر منه، فقد مر بنا أن كثيرًا من هذا الشعر لم يُنشر، وأنه كان يكتفي بإنشاده في النوادي والمجالس.
وقد أنشأ بعد إحالته إلى المعاش قصيدة ثائرة تربو على مائة وخمسين بيتًا، وليس في ديوانه منها سوى أبيات معدودة.
وحسبه قلادته الرائعة التي أنشدها على لسان مصر، والتي تُغَنَّى في عصرنا وتدور على كل لسان، وهي تلك التي يفتتحها بقوله:
وقف الخلق ينظرون جميعًا ... كيف أبني قواعد المجد وحدي
وفيها رسَم مصرَ تحوطها هالة من أمجادها الفرعونية، وما زال يعرض هذه الأمجاد في الفن والتشريع والسياسة، ثم عرض لغزاتها وكيف أن راميًا لم يرمها بسهم إلا رُد في نحره.
وتحول الى الاستعمار البغيض، وصور كفاحنا وصراعنا له، وكيف نبني مصرنا الحديثة بناء شامخًا.
وهذه النزعة الوطنية يقترن بها في شعره نزعتان: عربية وإسلامية، وتبدو الأولى في كثير من قصائده، وخاصة في قصيدته التي تكلم فيها بلسان اللغة العربية، وقد نشرها في أول القرن حين كانت تهب عاصفة العامية ضد العربية، وهي من غُرَرِ قصائده، ومطلعها:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي1
وأما النزعة الإسلامية فتبدو في قصيدته العمرية التي قصرها على عمر بن الخطاب وأعماله، كما تبدو في شعر كثير له نظمه في الخلافة العثمانية؛ إذ كان المسلمون يتجهون إليها في أول القرن كما يتجهون إلى مكة، فهذه قلب الإسلام الخافق وتلك سنده الذي يذود عنه بالسلاح.
وكل هذا كان في سبيل الغاية الجديدة من التغني بأهواء الجماهير.
ونشأ عن ذلك أن أصبح شعرنا في كثير من جوانبه -وعلى الأخص عند هؤلاء الرواد- شعرًا صحفيًّا يصور أحداثنا السياسية.
وانطلق الشعراء به يصورون الأحداث العالمية، فإذا انتصرت اليابان تغنَّى حافظ بالشرق وأمجاده، وإذا حدث بركان أو زلزال في صقع من الأصقاع ذهب يصور بؤس المنكوبين فيه، وكأنه يصور بؤسه وبؤس المصريين.
وأخذ هو وغيره من الشعراء يصفون المخترعات، كأنهم يرون في ذلك مجاراة لروح العصر، وله شعر مختلف في القطار والطيارة والباخرة.
وليس من شك في أن حافظًا كان بذلك مجددًا في شعره بالمقدار الذي يستطيعه؛ وهو تجديد يستجيب فيه لبيئته وعصره، أما الآداب الأجنبية فلم تسعفه معرفته لها بغذاء عقلي جديد.
وقد نظم في موضوعات قديمة كالإخوانيات والخمريات والغزل، وهو فيها مقلد، وإن كان له جمال السبك والصياغة أحيانًا.

==========================
1 الحصاة: العقل والرأي، احتسب حياته: عدها عند الله فيما يدخر.
==========================

وربما كان خير موضوع قديم أجاد فيه فن الرثاء، ومرجع ذلك إلى أنه كان يتفق وطبعه الحزين ونفسه القلقة الشاكية، وأيضًا فإنه كان شديد التأثر بالشعب وآلامه، فإذا حزن الشعب لموت مصلح كبير مثل الشيخ محمد عبده أو مصطفى كامل انطبع هذا الحزن في نفسه.
وعلى هذا النحو كان حافظ يشعر بما يشعر به شعبه شعورًا دقيقًا؛ لأن نفسه كانت خالصة، واستطاع أن يصوغ هذا الشعور في لغة جزلة متينة صياغة باهرة، وبذلك يتبوأ مكانته في تاريخ شعرنا الحديث.



الفصل الثالث: أَعلام الشعر 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثالث: أَعلام الشعر Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث: أَعلام الشعر   الفصل الثالث: أَعلام الشعر Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:47 am


4- شوقي 1869-1932م:
أ- حياته:
في مهد من مهاد الترف والثراء وُلد شوقي سنة 1869 لأب وأم تنحدر إليهما عناصر مختلفة، فقد كان أبوه يجري فيه الدم العربي والكردي والشركسي، وكانت أمه يجري فيها الدم التركي واليوناني؛ إذ كان أبوها تركيًّا من بطانة إبراهيم ومن خلفوه إلى إسماعيل، وأصبح في عهد الأخير وكيلًا لخاصته، أما أمها فكانت يونانية من سبي إبراهيم في بلاد المورة.
فشوقي نشأ في بيئة أرستقراطية مترفة، وأخذ يختلف منذ سنته الرابعة إلى الكُتاب، ثم انتقل إلى المدارس الابتدائية والثانوية، فكان ذلك فرصة له ليختلط بأبناء الشعب وحياتهم الديمقراطية؛ ولكنه سرعان ما كان يعود إلى بيئته وما بها من نعيم الحياة.
ولما أتم تعليمه الثانوي في سنة 1885 ألحقه أبوه بمدرسة الحقوق ليدرس فيها القانون، وأُنشئ بها قسم للترجمة فالتحق به.
وفي هذه المدرسة تعرَّف إلى أستاذه في العربية الشيخ محمد البسيوني، وكان قد أخذ يتفجر ينبوع الشعر على لسانه، فأعجب به أستاذه، وكان هو الآخر يجيد نظم الشعر إلا أنه لم يكن يفهم منه إلا مديح الخديو توفيق في المواسم والأعياد.
فدفع تلميذه في هذا الاتجاه.
وتخرج شوقي في قسم الترجمة سنة 1887، فعينه توفيق بالقصر، ثم أرسله في بعثة إلى فرنسا ليدرس الحقوق، فانتظم في مدرسة بمبونبلييه لمدة عامين، ثم انتقل إلى باريس، وظل بها عامين آخرين، حصل فيهما على إجازته النهائية.
وهُيئت له فرص مختلفة ليذرع فرنسا طولًا وعرضًا، وليزور لندن وبلاد الإنجليز.
وكان طوال إقامته في باريس يشاهد مسارحها ويتصل بحياتها الأدبية، وأقبل على قراءة فيكتور هيجو ودي موسيه ولافونتين ولامرتين، وترجم للأخير قصيدة البحيرة شعرًا.
وعاد شوقي إلى مصر، فعمل رئيسًا للقسم الإفرنجي بالقصر، وسرعان ما أصبح شاعر عباس، بل سرعان ما أصبحت له حظوة كبيرة عنده، فقد جعل له تدبير كثير من الأمور وتصريفها، وأصبح مقصد طلاب الجاه والرتب والألقاب.
وأمضى في هذا العمل الرتيب عشرين عامًا هي زهرة حياته. ومن محاسن الصدف أنه تزوج من سيدة ثرية كانت مثالًا للزوجة الصالحة، وقد رزق منها بابنيه علي وحسين وابنته أمينة.
وكان أهم ما يعجب عباسًا فيه مدائحه له في أعياد حكمه لمصر وفي كل مناسبة كبيرة تمر به. وأخذ شوقي يدور معه في كل أهوائه السياسية، فتارة يمدح له الخليفة العثماني الذي كان يبتغي رضاه، وتارة يلوم الإنجليز ويندد بهم حين يغاضبهم وينازعهم بعض السلطان.
ولم يكن شوقي حينئذ يختلط بالشعب؛ لذلك تفوق عليه حافظ في ميدان الوطنية وما يتصل بها من عواطف الجمهور السياسية؛ إذ كان ابن الشعب وكان يحس آلامه في عمق وقوة.
ومن المحقق أن شوقي لم تكفل له حريته في هذه الحقبة؛ إذ كان مشدودًا بحكم وظيفته إلى القصر وصاحبه، ولكنه مع ذلك حاول أن يفرغ لنفسه ولفنه، فنظم على ألسنة الحيوان شعرًا على نسق ما قرأه في الفرنسية للشاعر لافونتين.
وحاول محاولة أروع من تلك المحاولة؛ إذ قرأ عند بعض الشعراء الفرنسيين شعرًا تاريخيًّا رائعًا من مثل "أساطير القرون" لفيكتور هيجو، فرأى أن ينظم على هذا المثال قصيدته الطويلة "كبار الحوادث في وادي النيل"، وألقاها في مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في سنة 1894.
واستمر طويلًا في هذا الاتجاه، فنظم فرعونياته المشهورة في أبي الهول والنيل وتوت عنخ آمون وقصر أنس الوجود.
ومدَّ شعره إلى ينابيع الإسلام، فاستقى منها قصائد رائعة في مديح الرسول، من مثل الميمية التي عارض فيها بردة البوصيري، كما استقى في شعره أحيانًا من ينابيع العروبة.
وكل ذلك معناه أنه كان يريد الانطلاق من قيود القصر وصاحبه والتحليق في آفاق أوسع وأرحب.
وأُعلنت الحرب العالمية الأولى وكان عباس غائبًا بتركيا، فمنعه الإنجليز من دخول مصر، وأقاموا عليها السلطان حسين كامل، وأخذوا يُبعدون عن القصر من يستشعرون الولاء لعباس، ولم يسكت شوقي؛ بل نظم قصيدة تحدث فيها عن الحماية التي أعلنتها إنجلترا على مصر، وقال فيها: "إن الرواية لم تتم فصولًا".
فنفاه الإنجليز إلى إسبانيا، وظل بها طوال الحرب هو وأسرته، وهناك أخذ ينظم قصائده في أمجاد العرب ودولتهم الزاهرة التي اندثرت في الأندلس، ويضمنها حنينًا شديدًا إلى وطنه.
ورجع إلى مصر، فوجد أرضها تخضبها دماء شبابنا في ثورتنا الوطنية الأولى، ولم تلبث حريتنا أن رُدت إلينا، كما ردت حرية شوقي إليه.
ومن هنا تبدأ الدورة الثانية في حياته الأدبية، فإنه لم يعد يفكر في القصر ولا في وظيفته فيه، فقد أصبح حرًّا طليقًا، وهيأ له ثراؤه أن ينعم إلى أقصى حد بهذه الحرية، فخلص لفنه ولشعبه وأخذ يغنيه أغاني وطنية رائعة.
ولم يكن يبدأ هذه الأغاني حتى بذ حافظًا الذي كان يتفوق عليه في هذا المجال قبل الحرب وقبل توظفه في دار الكتب المصرية.
ومرجع ذلك أن فنه كان أروع من فن حافظ، فلما اتجه به إلى تصوير عواطفنا الوطنية وحياتنا السياسية بلغ من ذلك الغاية التي لا تمتد إليها الأعناق.
ولم يُغنِّ مواطنيه وحدهم أهواءهم وعواطفهم السياسية؛ بل أخذ يغني الشعوب العربية أهواءها وعواطفها القومية، وله في ثورات سوريا على الفرنسيين قصائد باهرة.
ولا نبالغ إذا قلنا: إنه كان بشيرًا بفكرة الجامعة العربية التي تأسست من بعده، فشعره في هذه الدورة من حياته يَفيض بالوَحْدَة العربية، وأن العرب جسم واحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ومن أبياته الدائرة في نوادي العرب ومجالسهم قوله:
ونحن في الشرق والفصحى بنور حم ... ونحن في الجرح والآلام إخوان وقوله:
كلما أنَّ بالعراق جريح ... لمس الشرق جنبه في عمانه
وبمثل هذا الشعر الذي نظمه في العرب، وبما نظمه من سياسيات ووطنيات في قومه، احتل شوقي مكانة مرموقة في سِنيه الأخيرة، فلما أعاد طبع ديوانه "الشوقيات" في سنة 1927 أقيم له حفل تكريم عظيم، اشتركت فيه الحكومة المصرية والبلاد العربية؛ إذ قدمت منها وفود مختلفة تمجِّد شاعر مصر وتشيد بعبقريته ونبوغه.
وقد وضع الشعراء في هذا الحفل على مفرقه تاج إمارة الشعر لا في مصر وحدها؛ بل في سائر الأقطار العربية.
وأعلن حافظ هذا التتويج أو هذه البيعة قائلًا:
أميرَ القوافي قد أتيتُ مبايعًا ... وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
ولم تسترح نفس شوقي الكبيرة عند هذا الظفر العظيم؛ بل طمحت إلى أن تحقق أملًا منشودًا كان يراود دعاة التجديد عندنا منذ أوائل القرن الحاضر، وهو إدخال الشعر التمثيلي إلى دوائر شعرنا العربي، فنظم مسرحياته التي تحدثنا عنها في غير هذا الموضع، ولقيت نجاحًا منقطع النظير، ورأى أن يصوغ بعض الأزجال للغناء، فنظم منها طائفة بديعة من مثل زجله:
النيل نجاشي ... حليوه أسمر
عجب للونه ... دهب ومرمر
غير أن قيثارة الشعر العربي لم تلبث أن سقطت من يده في أكتوبر سنة 1932 فلبى داعي ربه، مخلفًا لمصر والبلاد العربية تراثه الشعري الخالد.


ب- شعره:
تتشابك في تكوين شاعرية شوقي وشخصيته الأدبية عناصر كثيرة، منها الجنسي ومنها الثقافي، أما من حيث الجنس فقد التأمت فيه خمسة عناصر، جعلته عربيًّا كرديًّا تركيًّا شركسيًّا يونانيًّا، وازدواج هذه العناصر الجنسية فيه يؤذن منذ أول الأمر بأنه سيكون شاعرًا كبيرًا، وخاصة أنه يجمع بين الجنسين العربي واليوناني، اللذين يشتهران من قديم بالشعر والشاعرية.
وأما من حيث الثقافة فقد حذق العربية والفرنسية، وتلقَّن التركية في بيته، ولكن أثرها لم يكن واسعًا في فنه سوى بعض أبيات ترجمها منها وأثبتها في ديوانه، أما تيارا العربية والفرنسية فيجريان واضحين في شعره، وكان للتيار الأول الغلبة، فهو الذي تتدفق في شعره مياهه أروع ما يكون التدفق وأبهجه.
وكان أكبر نبع يستقى منه هذه المياه كتاب "الوسيلة الأدبية" للشيخ حسين المرصفي، وهو يضم بين دفتيه أروع ما للقدماء من نماذج كما يضم بعض نماذج البارودي الحديثة، ولم يكد يلم شوقي بهذه النماذج الأخيرة حتى احتواها لنفسه وفنه، فقد تمثلها تمثلًا رائعًا.
وعكف على تمثل النماذج العباسية عند أبي نواس والبحتري وأبي تمام والمتنبي والشريف الرضي وأبي فراس وأمثالهم، وكان إعجابه شديدًا بالبحتري والمتنبي خاصة.
وسُرعان ما اهتدى إلى أسلوبه، وهو أسلوب يسلك نفس الدروب التي سلكها البارودي من قبله، أسلوب يقوم على الاحتذاء للقوالب العباسية، ولا يجد صاحبه جرحًا في أن يعارض أصحابها؛ بل يعلن ذلك إعلانًا كما كان يعلنه سلفه، فتلك أمارة الإجادة الفنية، وهي إجادة تقوم على بعث الصياغة القديمة وإحيائها.
وعلى هذا النحو استطاع شوقي أن يكوِّن لنفسه أسلوبًا أصيلًا، أسلوبًا لا يتحرر من القديم؛ ولكن في الوقت نفسه يعبر عن الشاعر وعصره وكل ما يريد من معانٍ وأفكار، وهو أسلوب يقوم على الجزالة والرصانة والمتانة والقوة؛ بحيث تؤلف الكلمات ما يشبه البناء الضخم الشاهق.
وهو في ذلك يقترب من ذوق البارودي بأكثر مما كان يقترب حافظ، فقد كان بحكم نشأته في الشعب يميل أكثر منهما إلى لغته، فكان يستخدم في كثير من شعره لغة الصحف السهلة.
أما شوقي والبارودي جميعًا فكانا يميلان إلى تقليد العباسيين، وكانا لذلك أكثر منه محافظة على التقاليد الفنية الموروثة.
وليس معنى ذلك أن صياغة شوقي لا تفترق عن صياغة البارودي في شيء، فشعره أكثر سلاسة من شعر أستاذه، وكأنما أشربت روحه روح البحتري، فموسيقاه أكثر صفاء وعذوبة من موسيقى البارودي، وكأنه كان يعرف أسرار مهنته معرفة دقيقة، وخاصة من حيث الصوت وما يتصل به من أنغام وألحان، ولعل ذلك ما جعل شعره أطوع للغناء من شعر صاحبيه البارودي وحافظ معًا، فقد أكثر المغنون في عصرنا من تلحين شعره وتوقيعه.
وربما كانت موسيقاه أروع خصاله الفنية، فلا تستمع إلى شيء من شعره حتى تعرفه، وإن لم يذكر لك اسمه ما دامت أذنك قد تعودت سماع شعره، وثبتت في نفسك نغماته التي تتوالى نغمة حلوة بجانب نغمة حلوة.
ولا نغلو إذا قلنا: إن شعره يؤلف أروع ألحان عرفت في عصرنا الحديث؛ إذ نراه يعتصر من الألفاظ والأساليب خير ما فيها من ألحان، تسعفه في ذلك فطرة موسيقية رائعة، تقيس قياسًا دقيقًا ذبذبات الحروف والحركات وتآلف النغم في الألفاظ والكلمات.
وهذه الخصلة الموسيقية في شعره تسندها عنده خصلة التصوير البارع؛ إذ كان يعرف كيف يفيد من كنوز التشبيهات والاستعارات القديمة، ولم يكن يكتفي بذلك؛ بل كان يضيف إلى هذا الاستغلال للقديم كثيرًا من الأخيلة الحالمة.
ويتضح ذلك في جوانب كثيرة من شعره، وخاصة حين يعمد إلى الوصف أو إلى الفرعونيات والتاريخ، وقصيدته في "قصر أنس الوجود" لوحة باهرة.
ومن رائع أخيلته قوله على لسان توت عنخ آمون، وقد تخيل أنه بُعِثَ من قبره، وشهد أقدام الإنجليز تطأ ثرى دياره، والمصريون لاهون عنهم يدقون على "الجازبند" وكأنهم لا يشعرون:
فقال والحسرة ما أشدها ... ليت جدار القبر ما تدهدها
وليت عيني لم تفارق رقدها ... قم نبني يا بنتؤور مادها
مصر فتاتي لم توقر جدها ... دقت وراء مضجعي جازبندها
ويطيل النظر في الأهرام وفي تاريخ مصر القديمة، وما تلبث أن تتراءى الأهرامات في مخيلته ومن حولها الرمال كأنها السواري الباقية من سفينة غارقة، هي سفينة أمجادنا الدائرة:
كأنها ورمالًا حولها التطمت ... سفينة غرقت إلا أساطينا
وتحوط هاتين الخصلتين من الخيال والموسيقى خصلة ثالثة من العاطفة الرقيقة والإحساس المرهف، ويتجلى ذلك في شعره الذي نظمه في ابنته "أمينة" وفي هِرَّته الصغيرة، كما يتجلى في شوقه وحنينه إلى وطنه الذي بثه في قصائده بمنفاه، من مثل قوله في سينيته:
وسلا مصر هل سلا القلب عنها ... أو أسا جرحه الزمان المؤسِّي
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي
وله في خريف حياته كثير من الأشعار التي يحن فيها إلى شبابه حنينًا فيه لهفة وحرقة، ومن خير ما يصور هذا الحنين قصيدته في "زحلة" بلبنان، وفيها يقول:
شيَّعتُ أحلامي بطرف باكِ ... ولممتُ من طرق الملاح شباكي
ورجعت أدراج الشباب وورده ... أمشي مكانهما على الأشواك
وهذه الخصال الثلاث من العاطفة والخيال والموسيقى ترفع شعر شوقي إلى ذروة الفن وقممه الشمَّاء.
وشعره ينقسم قسمين واضحين: قسم قبل منفاه وقسم بعده، وهو في القسم الأول يعيش في القصر ويسوق شعره في قيود هذه المعيشة، فهو شاعر الخديو عباس الثاني، وشعره يكاد يكون مقصورًا على ما يتصل به من قريب أو بعيد، فهو يمدحه في جميع المناسبات، وهو يشيد له بالترك والخلافة العثمانية.
وهو في ذلك يسير سيرة الشعراء القدماء، وإن كان يتأثر بالثقافة الأوربية.
وقد حدث في هذه الحقبة من حياته تطور في فنه، كالذي كان يحدث عند شعراء العصر العباسي، فهو يُعْنَى أحيانًا بالأوزان القصيرة بوصف الرقص والخمر، على نحو ما نرى في قصيدته:
حف كأسها الحبب ... فهي فضة ذهب
وحدث تطور آخر أعمق من هذا التطور؛ إذ تأثر -كما مر بنا- شعراء الغرب في شعرهم التاريخي وما كانوا يقولونه في أطلال اليونان والرومان، فنظم قصيدته "كبار الحوادث في وادي النيل" وهي أم قصائده الأولى، ونظم قصيدته المشهورة في النيل:
من أي عهد في القرى تتدفَّق ... وبأي كف في المدائن تُغْدق
وشوقي في كل ذلك لم يكن يُعْنَى بالجمهور عناية دقيقة، فهو شاعر القصر، وهو بعيد عن الجمهور بحكم أسرته الأرستقراطية وبحكم وظيفته الرسمية.
ومع ذلك لا بد أن نحدد من هذا القول، وألا نطلقه إطلاقًا، فإن شوقي طبَع ديوانه للجمهور طبعته الأولى في سنة 1898، وكان ينشر شعره في الصحف، ونفس أميره كان يفكر في الجمهور.
ومن هنا حدث تطور حتى في مدائحه؛ إذ كان يراعي فيها مناسبة تهم الجمهور، كأن يفتتح عباس مدرسة أو يأخذ بنظام الشورى في حكمه أو يغاضب الإنجليز في سياسته.
وكان يمد آفاق شعره إلى حدود أبعد من ذلك خارج وطنه؛ إذ كان يعتصر في بعض مدائحه اللحن الإسلامي الذي يهم المسلمين في جميع الأقطار على نحو ما نرى في قصيدته التي مدح بها عباسًا حين حج إلى بيت الله.
ولعل ذلك ما جعله يصوغ قصائده في مديح الرسول حتى يُرضي عواطف قرائه الدينية، وأشاد مرارًا بعيسى ليرضي قراءه من المسيحيين، وله وقفات نبيلة يدعو فيها المصريين إلى توحيد صفوفهم من أقباط ومسلمين.
ويُنْفَى إلى إسبانيا، فينظم قصائد يقارن فيها بين فردوسه المفقود وفردوس العرب الضائع في الأندلس، وينشج وينوح ويصور قروحه النفسية لا في سينيته فقط؛ بل أيضًا في نونيته، ولكن دون أن يشعر بهوان؛ بل إنه يستشعر كبرياء قومه في أقوى صورة، كما نرى في مثل قوله:
نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا ... ولم يَهُنْ بيد التشتيت غالينا
لم تنزل الشمس ميزانًا ولا صعدت ... في ملكها الضخم عرشًا مثل وادينا
وهذه القصيدة الرائعة صاغها على نسق قصيدة لابن زيدون، وكذلك صاغ سينيته على نسق قصيدة البحتري في إيوان كسرى.
ومعنى ذلك: أنه كان لا يزال في الأندلس شاعرًا تقليديًّا من بعض جوانبه؛ إذ يُعْنَى ببعض القصائد القديمة الرائعة، فيعارضها، وينظم من وزنها وقافيتها، وإن اختلفت القوالب بالقياس إلى ما تؤديه، فإن القوالب القديمة عنده دائمًا لا تستعصي على أداء ما يريد من معانٍ وأفكار، وهي لذلك تصبح عنده كيانًا فنيًّا حيًّا، له روعته وجماله.
ويعود من المنفى بعد الحرب، فيجد الشعب في ثورته السياسية، ويجد أبواب القصر مغلقة من دونه فيتجه إلى الجمهور، ويصور عواطفه وأهواءه السياسية تصويرًا قويًّا باهرًا يتفوق فيه على حافظ؛ لأن مواهبه أقوى من مواهب حافظ، ولأن حافظًا كان حبيسًا في قفص الوظيفة بدار الكتب المصرية.
على كل حال، أهم ما يميز شعر شوقي في هذه الدورة الثانية من حياته أنه تحول من القصر إلى الشعب، فصوَّره في آماله الوطنية وحركاته السياسية، ولم يعد شاعرًا تقليديًّا، بل أصبح شاعرًا شعبيًّا، ولكن بطريقته الفنية الخاصة، وهي طريقة لم تعد تعتمد على معارضات الشعراء القدماء؛ وإنما تعتمد اعتمادًا عامًّا على الجزالة والمتانة.
ومن خير ما قاله في هذه الفترة قصيدته التي نظمها في سنة 1924 يدعو فيها الأحزاب إلى الاتحاد والائتلاف، ومطلعها:
إلام الخلف بينكم إلاما؟ ... وهذي الضجة الكبرى علاما؟
وفيها صوَّر تطاحن الأحزاب على كراسي الحكم ونسيانهم لمصالح الأمة العامة في سبيل مصالحهم الشخصية.
وليس هناك مفاوضة يُذكر فيها السودان إلا وينادي شوقي بالمحافظة على الإخوة الأشقاء وتخليصهم من براثن الاستعمار، ولا ينشأ مشروع ولا تقوم مؤسسة إلا ويجلجل فيها صوته من مثل: إنشاء بنك مصر وإنشاء الجامعة المصرية ومشروع القرش، فله في كل ذلك وغيره قصائد رنانة.
ونظم كثيرًا من الأناشيد الوطنية رجاء أن تذيع بين طبقات الشعب وشبابه.
وأخذ يغني الشعب مطامحه الاجتماعية في التعليم وفي وجوه الإصلاح الاجتماعي المختلفة، وقصيدته في العمال:
أيها العمال أفنوا الـ ... ـعمر كدا واكتسابا
أين أنتم من جدود ... خلدوا هذا الترابا
قلدوه الأثر المعـ ... ـجز والفن العجابا
من رائع شعره وأعذبه.
وكان لا يغيب عن ذهنه مجدنا القديم، فدائمًا يلحنه على قيثارته، وقصيدتاه في أبي الهول وتوت عنخ آمون مما لا يتطاول معاصروه من الشعراء إليه.
ولم يكتفِ بوطنه، فقد ذهب يتغنَّى بأمجاد العرب، وقصيدته أو موشحته في عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" من آياته.
وله ديوان شعر سماه "دول العرب وعظماء الإسلام"، وقد قصره كما يتضح من عنوانه على تاريخ العرب في عصورهم الزاهية.
وقد تغنى بعد عودته من منفاه عواطف الأوطان العربية المختلفة، وشاركها في ثوارتها مشاركة قلبية حارة، أنَّ فيها وناح مقابلًا بين حاضر العرب وماضيهم، وحقًّا ما يقوله: كان شعري الغناء في فرح الشر ... ق وكان العزاء في أحزانه وللرثاء جزء خاص من دواوينه، وحافظ يسبقه في هذا الفن، وإن كان لشوقي فيه بعض قصائد طريفة.
ومرجع ذلك أن حافظًا كان من الشعب وكان يتأثر -أكثر منه- حين يموت مصلح من المصلحين، وشتان بين مراثيه ومراثي شوقي في الشيخ محمد عبده ومصطفى كامل.
وربما كان أروع مراثي شوقي مرثيته في أبيه:
ما أبي إلا أخ فارقته ... وده الصدق وود الناس مين
لأنها صدرت من قلبه.
وله مرثية مشهورة "على قبر نابليون".
وللمخترعات العصرية صحف مختلفة في دواوينه، نظمها بداعي هذا التحول الذي تحدثنا عنه مرارًا في الشعر؛ إذ أصبح جزءًا من الصحافة الحديثة، وأصبح يتناول موضوعاتها المختلفة من أخبار وأحداث، وربما كان ذلك هو الذي دعاه ليرثي تولستوي وليحيِّي ذكرى شكسبير.
وعلى هذا النحو كان شوقي يحلق بشعره في كل الأجواء.
وقام أخيرًا بمحاولة رائعة؛ إذ حاول تمصير الفن المسرحي، فنظم طائفة من المسرحيات تحدثنا عنها في غير هذا الموضع.
وعلى الرغم مما في هذه المحاولة من عيوب، أهمها أنه طبع شعره التمثيلي بطوابع شعره الغنائي، لا تزال أروع محاولة تمثيلية في الشعر العربي الحديث.
وإذا قلنا: إنه سابق الشعراء في النصف الأول من هذا القرن غير منازَع ولا مدافَع لم نكن مغالين ولا مبالغين.
وحقًّا تلقى قوالب شعره عن البارودي؛ ولكنه صب فيها مشاعر أمته والأمم العربية، كما صب فيها التمثيل صبًّا بديعًا، وهو صب لا يزال مثار الدهشة وموضع الإعجاب بين الأدباء والنقاد.



الفصل الثالث: أَعلام الشعر 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثالث: أَعلام الشعر Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث: أَعلام الشعر   الفصل الثالث: أَعلام الشعر Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:49 am


5- خليل مطران 1872-1949م:
أ- حياته:
في أسرة عربية عريقة من أسر بعلبك في لبنان وُلد خليل عبده مطران لأب مسيحي كاثوليكي.
ولم تكن أمه "ملكة الصباغ" لبنانية الأصل؛ بل كانت فلسطينية، هاجر أبوها إلى لبنان فرارًا من اضطهاد الحاكم العثماني له في بلده، واتخذها وطنًا.
وعنها ورث ابنها الشعر إذ كانت أمها شاعرة، أما هي فكانت حصيفة راجحة العقل، وظل يستشعر لها إلى آخر حياته حنانًا وحبًّا عميقًا، مما يدل على أثرها العميق في تكوين شخصيته.
وإذا كان قد ورث الشعر عن أمه، فقد ورث عن آبائه بغض الظلم والوقوف في وجه الجبارين.
ولما رأى فيه أبوه مخايل الذكاء اهتم بتعليمه، فأرسله إلى الكلية الشرقية بزحلة، ولا يزال اسمه منقوشًا على أحد مقاعدها إلى اليوم.
ولما أتم دروسها ألحقه أبوه بالمدرسة البطريركية للروم الكاثوليك في بيروت، وفيها نهل اللغة العربية على أديب عصره إبراهيم اليازجي، وفي ديوانه مرثية له أشاد فيها به إشادة رائعة، افتتحها بقوله:
رب البيان وسيد القلم ... وفَّيْت قسطك للعلا فنم
وفي هذه المدرسة حذق الفرنسية على معلم فرنسي.
ولم يكد يتم دروسه فيها حتى أظهر موهبة غير عادية في نظم الشعر وصوغه، وكانت نفسه أُشربت حب الحرية، فأخذ يتغنى بشعر ضد العثمانيين الذين كانوا يحكمون وطنه حكمًا جائرًا، وكان يخرج مع بعض رفاقه إلى مشارف بيروت، وينشدون نشيد المارسيلييز الفرنسي، ينفِّسون بما فيه من حب للحرية عن أمانيهم القومية.
ويقال: إن أعوان الحاكم العثماني رموا فراشه بالرصاص في بعض الليالي، ومن حسن حظه وحظ الأدب أن كان غائبًا، فلم يصبه سوء، إلا أن ذلك دفع أهله إلى أن يرسلوه إلى باريس، حتى لا يغاضبهم الحاكم، وحتى يكفوا ابنهم شر نقمته.
فنزل باريس في سنة 1890، وعكف فيها على دراسة الآداب الفرنسية، واتصل هناك بفريق من جماعة تركيا الفتاة، وهم من حزب تألف في تركيا لمناهضة خليفتها عبد الحميد وسياسته الفاسدة.
وخشي على نفسه بعد هذا الاتصال من الرجوع إلى بلاده، ففكر في النزوح إلى أمريكا الجنوبية متأسيًا ببعض من كان يهاجر إليها من مواطنيه، وتعلم لذلك الإسبانية، إلا أنه لم يلبث أن عزم على الهجرة إلى مصر، فنزلها في سنة 1892، وكانت حينئذ ملجأ الأحرار من البلاد العربية، ينزلون بها فرارًا من العثمانين وبطشهم.
ومن هذا التاريخ تبنته مصر، واحتضنته، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في سنة 1949.
وبدأ حياته فيها صحفيًّا بجريدة الأهرام، ولم يلبث في سنة 1900 أن أنشأ لنفسه مجلة مستقلة هي "المجلة المصرية"، ثم حولها يومية وسماها "الجوائب المصرية"؛ لكنه لم يلقَ النجاح الذي كان ينشده، فأكب على الأعمال التجارية، إلا أنه خسر كل ماله في بعض المضاربات، وأظلمت الدنيا في عينه، ومدت مصر الحانية عليه يدها إليه، فعُين في الجمعية الزراعية الخديوية، وأخذ يسهم في المجال الاقتصادي بأبحاث دقيقة، كما أسهم من قبل في المجال الصحفي، وجعله ذلك يتصل مباشرة بأحداث مصر المختلفة من اقتصادية وسياسية واجتماعية، فكان صوته يدوِّي في هذه الأحداث.
وتدل دلائل مختلفة على أن ثقافته بالآداب الفرنسية كانت واسعة، ولم يقف بها عند التأثير في شعره، فقد طمح إلى النهوض بالمسرح المصري، وترجم لذلك عطيل وهملت وماكبث وتاجر البندقية لشكسبير. ولعل ذلك ما جعل أولي الأمر يسندون إليه إدارة الفرقة القومية منذ سنة 1935 حتى ينهض بمسرحنا، وأدَّى في ذلك خدمات جُلَّى.
وأحيل إلى التقاعد، ولكن ظلت مصر ترمقه، وأقامت له في سنة 1947 مهرجانًا أدبيًّا في دار الأوبرا تكريمًا له ولشعره، وما أدى لوطنه الثاني، بل وطنه الحقيقي من أعمال وآثار، وجُمعت القصائد والخطب التي قيلت في تكريمه ونُشرت في مجلد ضخم؛ اعترافًا بفضله، وما أدى لمصر والعرب من روحه وعقله.


ب- شعره:
يجري في شعر خليل مطران كما يجري في شعر شوقي تياران من القديم العربي والجديد الغربي، وهما إن كانا يتفقان في هذه الظاهرة العامة فإنها يختلفان بعد ذلك في كل شيء؛ ذلك لأن خليل مطران لا يسرف على نفسه في الصب على القوالب القديمة، فقد كان شوقي وخاصة قبل منفاه يبدو شاعرًا تقليديًّا، فهو يُعْنَى أشد ما يعنى بمعارضة الأقدمين، وهو يصرح بذلك ولا يخفيه كما كان يصنع سلفه البارودي.
أما خليل مطران فلم يلجأ إلى المعارضة والاحتذاء التام على قصائد العباسيين وغيرهم في الوزن والرَّوِيِّ، بل كان يكتفي باللفظ الفصيح والمفردات السليمة من كل شائق في العربية ورائق؛ ومعنى ذلك أنه يحتفظ بشخصيته إزاء القدماء بأكثر مما يحتفظ شوقي، هو يأخذ منهم المادة، ولكنه يدخلها إلى مخيلته ليحملها أفكاره ومعانيه.
ومن ثم لا يبدو التقليد واضحًا عنده؛ بل لقد اندفع إلى التجديد حتى في الصياغة والأسلوب، فلم يعد همه التمسك بأهداب القدماء لا في معانيهم ولا في تشبيهاتهم واستعاراتهم؛ بل همه التعبير عما في نفسه تعبيرًا حرًّا مستقيمًا لا تحجبه تراكيب قديمة ولا أصداف خيال قديمة.
ومع ذلك تقرأ فيه فتشعر شعورًا واضحًا بأن صورة الشعر العربي لم تتغير؛ لأنه يحتفظ بالأصول المسبوقة مع التحرر منها، فهو يتابع في الظاهر والخارج، أما في الباطن والداخل فإنه يجدد ويخالف ويعبر عما في نفسه تعبيرًا كاملًا، يصور فيه معانيه العقلية والنفسية، وشرح ذلك أجمل شرح في مقدمته لديوانه؛ إذ يقول: "شرعت أنظم الشعر لترضية نفسي حيث أتخلى أو لتربية قومي عند وقوع الحوادث الجلى، متابعًا عرب الجاهلية في مجاراة الضمير على هواه ومراعاة الوجدان على مشتهاه، موافقًا زماني فيما يقتضيه من الجرأة على الألفاظ والتراكيب، لا أخشى استخدامها أحيانًا على غير المألوف من الاستعارات والمطروق من الأساليب، ذلك مع الاحتفاظ جهدي بأصول اللغة وعدم التفريط في شيء منها إلا ما فاتني علمه، ولم أكن مبتكرًا فيما صنعت، فقد فعل فصحاء العرب قبلي ما لا يُقاس إليه فعلي، فإنهم توسعوا في مذاهب البيان توسع الرشد والحزم".
فهو يعلن أنه يفك نفسه وشعره من القوالب الجامدة ويعود إلى الفطرة والسليقة، وحسبه أنه تمثَّل مادة اللغة العربية، وأنه لا يخرج على أصولها.
وهو بذلك يسير خطوة إلى الإمام في الدرب الذي سلكه البارودي وشوقي؛ فقد كانا حريصين على القوالب القديمة وما يتصل بها من تشبيهات واستعارات، أما هو فيرى من الواجب التخلص تمامًا من هذه القوالب والاكتفاء بالإطار بالعام، ولكن لا تظن أنه تخلص وتحرَّر إلى آخر الشوط، فقد كان يصنع ذلك في توازن بارع؛ إذ احتفظ لشعره بالأوزان القديمة ولم يخرج عنها إلا إلى المزدوج والموشح والدوبيت، وكل ذلك عرفه القدماء.
وهو كذلك في ألفاظه احتفظ فيها بالجزالة والرصانة اللتين احتفظ بهما البارودي وشوقي؛ لذلك لا نكون مبالغين إذا وضعناه في هذه المدرسة المصرية التي كان يقوم شعرها على البعث والإحياء، وإن كان يبدو أكثر من أفرادها تحررًا، ولكن مما لا شك فيه أنه عاش على نفس المائدة التي بسطها البارودي للشعراء من بعده.
وقد يكون من أهم ما يوضح ذلك عند مطران كثرة نظمه في التهاني والأعراس والمواليد مما يندمج في الشعر العربي القديم، ومما يظهر في دواوينه على شكل رُقع غريبة عن ذوق العصر.
ولعل الذي دفعه إلى ذلك ما فُطر عليه من رقة وشعور مرهف وميل متأصل في نفسه إلى مجاملة الناس من حوله؛ ولذلك لا نعجب إذا وجدنا باب الرثاء في ديوانه أكثر الأبواب التي شغلته وهو باب قديم، ومن المحقق أنه لا يبرز فيه على شوقي وحافظ؛ بل إنهما يتفوقان عليه فيه تفوقًا ظاهرًا.
على كل حال، لم ينفصل مطران عن القديم؛ بل له عنده ظواهر مختلفة؛ إذ يجري في شعره، ولكنه لا يجري منفردًا؛ بل يجري معه تيار جديد صب في شعره من الغرب وآدابه، وكان يحس هذا التيار إحساسًا عميقًا، وهو الذي دفعه للاحتفاظ بشخصيته، فلم يفنَ في القديم، بل مضى يجدد على ألوان شتى.
وكان من أهم ما اتجه إليه في تجديده أن يعبر تعبيرًا مستقيمًا عن أحاسيسه غير متكلف لتشبيهات القدماء واستعاراتهم على نحو ما يصنع شوقي، وبذلك أحلَّ الشعورَ الدقيق محل الخيال، وأعطى لشعره فسحة واسعة من الابتكار في المعاني والأفكار.
وتبع ذلك أن القصيدة عنده أصبحت تعبيرًا نفسيًّا متكاملًا، وبعبارة أخرى: أصبحت عملًا ذاتيًّا تامًّا، فتجلت فيها الوَحْدَة الفنية، وأصبحت في مجموعها تعالج موضوعًا واحدًا؛ إذ لم يعد يسلك إلى موضوعاته الأدبية مقدمات القدماء، ولم يعد ينهج نهجهم في بعثرة موضوعات مختلفة في القصيدة الواحدة؛ بل القصيدة تقف عند تجربة نفسية خاصة، والشاعر يصوغها في أبيات متعاقبة، كل بيت فيها جزء في التجربة، فلا نبو ولا شذوذ ولا تفكك بين الأبيات؛ وإنما الالتحام والاتساق؛ إذ هي خيوط في نسيج واحد أُحْكمت صياغته إحكامًا دقيقًا.
ومطران إنما يستمد في ذلك من نموذج القصيدة الغنائية عند الغربيين؛ إذ تصل بين الأبيات فيها وَحْدَة عضوية تامة.
وليس هذا كل ما جاءه من الاتصال الأدبي والذهني بالغرب، فقد شعر مثل أدبائهم -وخاصة عند أصحاب الرومانسية منهم- بآلام النفس البشرية، وتغنَّى هذه الآلام غناء مليئًا بالحزن والشجَى، وتمثِّل ذلك قصيدته "الأسد الباكي" وكذلك قصيدته "في تشييع جنازة" وهي جنازة عاشق انتحر يأسًا من عشقه، كما تمثله قصيدة "الجنين الشهيد" الذي صور فيها حزن فتاة أغواها شاب ثم رماها في الطريق.
وهذا الجانب عند مطران يفوح على قارئه بشذى وجداني ينفذ إلى قلبه وأعماقه، وهو يمد عين بصيرته فيه إلى عناصر الطبيعة على نحو ما يصنع شعراء الغرب، فإذا هو يحيلها كائنات حية، تنعكس عليها أحزانه وآلامه وحبه وعواطفه ونوازعه.
ومن أروع ما يصور ذلك كله عنده قصيدة المساء التي يستهلها بقوله:
داء ألم فخلت فيه شفائي ... من صبوتي فتضاعفت بُرَحائي
وهو يذكر لنا في مفتتحها أنه كان مريضًا مرضين: مرض الحب والقلب، ومرض الجسد.
وأشار عليه أصدقاؤه أن يعزِّي نفسه بالذَّهاب إلى الإسكندرية، وهناك عاوده المرضان، فبث شكواه ومزَج الطبيعة معه في هذه الشكوى، فإذا كل ما فيها صورة من جروحه:
ثاوٍ على صخر أصم وليت لي ... قلبًا كهذي الصخرة الصماء
ينتابها موج كموج مكارهي ... ويفتها كالسقم في أعضائي
والبحر خفَّاق الجوانب ضائق ... كمدًا كصدري ساعة الإمساء
تغشى البرية كدرة وكأنها ... صعدت إلى عيني من أحشائي
ويناجي صاحبته في وسط هذه الهموم التي تدافعت على نفسه وعلى كل ما في الطبيعة من حوله، فيقول:
ولقد ذكرتك والنهار مودِّع ... والقلب بين مهابة ورجاء
وخواطري تبدو تجاه نواظري ... كَلْمَى كدامية السحاب إزائي
والدمع من جفني يسيل مشعشعًا ... بسنا الشعاع الغارب المترائي
والشمس في شفق يسيل نضاره ... فوق العقيق على ذرًى سوداء
مرت خلال غمامتين تحدرا ... وتقطرت كالدمعة الحمراء
فكأن آخر دمعة للكون قد ... مُزجت بآخر أدمعي لرثائي
وهي قصيدة باهرة، وبها كل طوابع الجديد عند خليل مطران، فهي تجربة شعورية كاملة، صب فيها نفسه المليئة بالأوجاع والآلام، ولم يصبها فقط؛ بل صب أيضًا عناصر الطبيعة من حوله بعد أن أودعها نفس القروح والأوصاب.
وتحتل الطبيعة في شعر مطران حيزًا واضحًا، ومن أجمل قصائده "وردة ماتت" و"النوارة أو زهرة المارغريت" و"بنفسجة في عروة" و"نرجسة" و"من غريب إلى عصفورة مغتربة"، وهو فيها جميعًا يبتكر في المعاني، فيحلل الأحاسيس، ويأتي بأخيلة جديدة، ويطوف بك في خواطر وخلجات إنسانية حزينة.
وليس هذا كل ما جاء به في شعره من تأثيرات غربية، فقد حاكى الغربيين في اتجاه جديد لم تكن تعرفه العربية، ولا نقصد اتجاه الشعر التمثيلي الذي جاء به شوقي، إنما نقصد اتجاهًا آخر هو الاتجاه القصصي، وليس قصص الحيوان الذي نجده عند شوقي، وإنما القصص الدرامي الذي يتصل بالحياة الإنسانية، وله فيه طرائف بديعة يستمدها من الحياة اليومية؛ كقصة "الجنين الشهيد" التي أشرنا إليها، ومثلها "الطفلان" وهي قصة طفلة ثرية عشقت طفلًا فقيرًا، وظلت تذكره إلى الممات، و"فنجان قهوة" وهي قصة ابنة أمير عشقت حارس أبيها.
وخليل مطران يسوق هذه القصص في أسلوب درامي لا عهد للعربية به، ولا يقف بهذا الأسلوب عند الحوادث اليومية أو الخيالية؛ بل يوسعه ويدخل فيه بعض حوادث التاريخ؛ كالحرب بين فرنسا وألمانيا من سنة 1806 إلى سنة 1870 وهي من بواكير شعره، فكأن هذا المنزع صحبه منذ تيقظت فيه مواهبه.
وكتب بعد ذلك قصيدة "مقتل بزرجمهر" و"فتاة الجبل الأسود" و"نيرون" ولا تلفتنا في هذه القصائد النزعة القصصية أو الدرامية وحدها؛ بل تلفتنا أيضًا نزعة رمزية فيها، فقد كتبها ليصور حياة الشعوب العربية المظلومة التي يظلمها المستعمرون وحكامها الجائرون، فهو يعرض للطغاة وغدرهم بالشعوب، ونراه يدعو دعوة حارة إلى الحرية والكرامة القومية ويستشير الحمية في الأمم الغربية من مثل قوله في قصيدة "نيرون" محرِّق روما المشهور، وقد امتدت إلى أكثر من ثلاثمائة بيت:
من يلم "نَيْرُون" إني لائم ... أمَّة لو كهرته ارتد كهرا1
أمة لو ناهضته ساعة ... لانتهى عنها وشيكا واثبجرَّا2

=========
1 كهرته: انتهرته.
2 اثبجر: ارتدع وتراجع.
=========

كل قوم خالقو نيرونهم ... قيصر قيل له أم قيل كسرى
ومن هذا الشعر الرمزي قصيدته "شيخ أثينا"، وفيها يصف استيلاء الرومان على أثينا، وكأنه يحذر المصريين من مغبة الاحتلال الإنجليزي.
ومثلها قصيدته "السور الكبير في الصين"، وفيها يستثير عزائم المصريين ضد الإنجليز المستعمرين في أثناء محاورة طريفة.
وشارك حافظًا وشوقي في كثير من الأحداث السياسية والاجتماعية، وتبع شوقي ينظم في الآثار المصرية القديمة، وتعظيم الفراعنة والإشادة بأمجادهم، ومن أجمل قصائده في ذلك قصيدته "في ظل تمثال رمسيس" وهي من بدائعه، وفيها يقول:
تاريخ مصر ورمسيس فريدته ... عِقدٌ من الدر منظوم بعقيان1
ولوطنه الأول "لبنان" شعر كثير في دواوينه يدل على شدة تعلقه به، وكان كثيرًا ما يزوره، وأروع قصائده فيه "قلعة بعلبك"، وهو يستهلها بذكرياته السعيدة في الطفولة والشباب، ثم يصف آثارها الفينيقية وصفًا بارعًا.
والحق أنه كان شاعرًا ممتازًا من شعراء النهضة الذين بثوا في الشعر العربي الحديث روح العصر، متأثرين بالآداب الغربية مع دعمهم لوَحْدَة القصيدة، ومع الاحتفاظ الشديد بمقومات شعرنا الأصيلة من الجزالة والقوة والمتانة.

===========
1 فريدته: جوهرته النفيسة.
العقيان: الذهب الخالص.
===========



الفصل الثالث: أَعلام الشعر 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثالث: أَعلام الشعر Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث: أَعلام الشعر   الفصل الثالث: أَعلام الشعر Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:50 am


6- عبد الرحمن شكري 1886-1958م:
أ- حياته:
في أسرة مغربية الأصل وُلد عبد الرحمن شكري لأب يُسمى محمد شكري عياد، كان في أيام الثورة العرابية يشتغل معاونًا في "الضابطية" بالإسكندرية، فاتصل برجال هذه الثورة وعلى رأسهم عبد الله نديم، ولم يلبث أن انضم إليهم،
وعمل تحت لوائهم.
ولما أخفقت الثورة سُجن مع من سجنوا من الثائرين، ثم عُفي عنه، وظل بدون عمل مدة، ثم عُين ضابطًا في معاونة محافظة القنال ببورسعيد، ومكث في هذه الوظيفة بقية حياته.
ورُزق بابنه في هذه البلدة سنة 1886، وتصادف أن مات كل أبنائه الذين يكبرونه، فاهتم به اهتمامًا خاصًّا، وعلق عليه أمانيَّ واسعة.
فألحقه أولًا "بالكُتَّاب"، ثم نقله إلى المدرسة الابتدائية، فالمدرسة الثانوية، وتخرج فيها سنة 1904.
وكانت في هذا الأب نزعة أدبية، ولعل هذه النزعة هي التي عقدت الصلة بينه وبين أديب الثورة العرابية عبد الله نديم؛ بل يقال: إنه كان من أدباء هذه الثورة.
وكان النديم كثيرًا ما ينزل عليه ضيفًا بعد صدور العفو عنه، كما كان ينزل عليه بعض أدباء العصر مثل الشيخ حمزة فتح الله.
وكان يصل ابنه بالرجلين، كما كان يتعجل إيقاظ مواهبه بما يعرض عليه من كتابات العصر ومؤلفاته، وخاصة كتاب "الوسيلة الأدبية" للشيخ المرصفي.
وكان في مكتبته ديوان ابن الفارض وديوان البهاء زهير، فعكف عبد الرحمن على هذا كله، ولم تلبث مخايل نبوغه أن تراءت لأستاذه في العربية الشيخ عبد الحكيم، وهو لا يزال في المدرسة الثانوية، فكان يشجعه ويُعجب بما يكتب وينظم.
والتحق بمدرسة الحقوق، ولكنه لم يلبث أن فُصل منها بسبب تحريضه الطلاب على الإضراب استجابة لزعماء الحزب الوطني.
فترك التشريع ودراسة القانون، واتجه إلى دراسة الآداب التي كانت تتفق وميوله، وتحقيقًا لهذه الغاية التحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها سنة 1909.
وقد التزم فيها الدرس الصارم للأدبين العربي والغربي، وكان أكثر ما يعجبه من الأدب الأول كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وديوان الحماسة لأبي تمام، وديواني الشريف الرضي ومهيار، فاقبل يعبُّ منها جميعًا، أما الأدب الغربي فوجد بغيته منه في كتاب "الذخيرة الذهبية" الذي وُزِّع عليهم في مدرسة المعلمين، وهو يضم أروع ما لشعراء الإنجليز من شعر غنائي.
وفي هذه الأثناء كان يكتب في صحيفة الجريدة التي يحررها لطفي السيد بعض ما ينشئه من مقالات ومن أشعار، وهي الجريدة التي كانت تحمل راية التجديد حينئذ، وكان يُقبل على الكتابة فيها شباب الأدباء من مثل: محمد حسين هيكل وطه حسين.
ومقالاته فيها تدل على أنه يفهم الشعر في ضوء آراء النقاد الغربيين، فهو يكتب عن عَلاقة الشعر بالفنون ونحو ذلك من موضوعات كانت تُعد حينئذ جديدة؛ بل بدعًا جديدًا.
ونراه في سنة 1909 ينشر أول ديوان له، ويسميه "ضوء الفجر".
ثم يذهب في بعثة إلى إنجلترا، ويعود من البعثة سنة 1912، ويعين في مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية.
وينشر الجزء الثاني من ديوانه، ويقدِّم له العقاد مقدمة رائعة سبق أن تحدثنا عنها في فصل "الشعر وتطوره".
وتتعاقب أجزاء الديوان التي بلغت سبعة، وقد ظهر الأخير منها في سنة 1919.
ويتقلب في وظائف وزارة التربية والتعليم بين النظارة والتفتيش، ولا نراه يخرج ديوانًا بعد هذا التاريخ؛ بل يكتفي بما ينشره من قصائد ومقالات في مجلات المقتطف والرسالة والثقافة والهلال، وفي صحيفتي الأهرام والمقطم.
وأحيل إلى المعاش سنة 1944؛ ولكن شعلة النشاط لم تخمد في نفسه، فقد ظل يكتب في هذه الصحف والمجلات، واختار بورسعيد -مسقط رأسه- ليمضي فيها بقية حياته، ثم تركها إلى الإسكندرية، وفيها لبَّى داعي ربه في 15 من ديسمير سنة 1958.


ب- شعره:
شعر شكري تعبير واضح عن التقاء العقلين: المصري العربي، والغربي الإنجليزي وغير الإنجليزي، وقد كان الشعراء قبله -ونقصد شعراء النهضة- يتصلون أكثر ما يتصلون بالأدب الفرنسي، أما هو فأكثر صلته بالأدب الإنجليزي.
وأخذ نفسه -منذ أن كان طالبًا في مدرسة المعلمين- بالتعمق في هذا الأدب وبالقراءة الواسعة في الأدب العربي.
وتصادف أن قرأ مختارات "الذخيرة الذهبية" فرأى فيها نموذجًا جديدًا لشعر غنائي يخالف الصورة التقليدية للشعر العربي، فليس فيه مديح ولا هجاء، وإنما فيه التعبير الواسع عن العاطفة والتأمل الواسع في آمال البشرية وآلامها وكل ما يتصل بالحياة والطبيعة من أفكار وأنغام.
واستقرت هذه الصورة في نفسه، فلم يعد يعجب بشعرنا التقليدي في أبوابه الكبيرة المعروفة وخاصة باب المديح.
وتصادف أن اطلع على كتاب "الأغاني" و"ديوان الحماسة" لأبي تمام فأعجب بما فيهما من غزل وجداني لا تصنع فيه ولا تكلف، واطلع على ديواني الشريف الرضي ومهيار، فوجد فيهما نفس الغزل الطبيعي الذي يشف عن قلب صاحبه، دون أي حجاب كثيف من طباق وجناس وغير ذلك من ضروب البديع.
حينئذ نزعت به نفسه أن يدخل الشعر من هذا الباب ومن الأبواب الواسعة التي فتحها أمامه شعراء كتاب "الذخيرة الذهبية".
وديوانه الأول الذي نشره عقب تخرجه من مدرسة المعلمين وسماه "ضوء الفجر" يصور خير تصوير هذا الاتجاه، الذي كان يعد ثورة في أوائل القرن.
والديوان يخلو خلوًّا تامًّا من المديح، وفيه رثاء لزعماء الإصلاح الذين لبوا نداء ربهم؛ وهم: الشيخ محمد عبده ومصطفى كامل وقاسم أمين، وهو رثاء من نوع جديد، يقتصر فيه الشاعر على التفكير في الحياة والموت، ولا نراه يصور حزن الشعب المصري كما صوره حافظ مثلًا في رثائه لهؤلاء الأعلام، فهو مشغول بنفسه وبخواطره الذاتية.
إنه شاعر وجداني ذاتي بالمعنى الكامل الذي يفهمه الغربيون عن الشاعر الغنائي، فالشعر نسيج نفسه وليس نسيج الأحداث السياسية والعواطف القومية، ومن أجل ذلك كان أكثر النغم في الديوان نغم الحب، وهو حب محروم، فيه يأس وشجى.
ووراء هذا الحب تصوير واسع للنفس البشرية وأحاسيسها إزاء الكون والطبيعة، وهي أنغام استمدها مما قرأه في الشعر الإنجليزي، وقد طُبعت عنده كما طبعت عند أصحاب المنزع الرومانسي بالحزن والتشاؤم، فهي تذيع أنات الشاعر ويأسه القاتل، حتى ليقول في قصيدة بعنوان "شكوى الزمان":
لقد لفظتني رحمة الله يافعًا ... فصرت كأني في الثمانين من عمري
وفي آخر الديوان قصيدة طويلة من الشعر المرسل الذي يتحرر فيه الشاعر من القافية على نمط ما هو معروف عن شكسبير وغيره من شعراء الغرب، وفيها يصور أحزانه ومطامحه إلى حياة أكمل من هذه الحياة.
ويُرْسَل شكري في بعثة إلى إنجلترا، فتتسع معرفته بالأدب الإنجليزي، ولا يقف بقراءاته عند هذا الأدب؛ بل يأخذ نفسه منذ هذا التاريخ بقراءة آداب الأمم الغربية المختلفة من فرنسية وألمانية وغير فرنسية وألمانية.
ويعود إلى مصر، فتشتد الصلة بينه وبين شاعرين من طرازه وذوقه في فهم الشعر وما ينبغي أن يكون عليه في ضوء الأدب الإنجليزي وغيره من الآداب الغربية؛ وهما: إبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد، ويؤلفون معًا هذا الجيل الجديد الذي ثار على شعرنا القديم كما ثار على شعر شوقي وغيره ممن كانوا يضطربون بين التقليد والتجديد.
ويأخذ شكري في إخراج دواوينه واحدًا تلو الآخر، وتارة يقدم لما يخرج من دواوين، وتارة يقدم له العقاد مما وصفناه في غير هذا الموضع.
وألف قصة سماها قصة الحلاق المجنون، وفيها ما يدل على تأثره بالآداب الروسية حينئذ، كما ألف "الاعترافات" وفيها تأثر واضح بما قرأه في الآداب الفرنسية من اعترافات "جان جاك روسو" و"شاتوبريان" وإن لم يجعلها على لسانه فقد نسبها إلى شخص رمز إليه بالحرفين م.  ن.
وهي اعترافات رائعة؛ إذ كلها تحليلات وتأملات، وقد وصف فيها الشباب المصري بأنه "عظيم الأمل؛ ولكنه عظيم اليأس، وكل منهما في نفسه عميق مثل الأبد".
وشكري بمثل هذا الاعتراف يضع في يدنا مفتاح هذا التشاؤم وهذا الضيق والتبرم اللذين وقَّعتْ مدرسته شعرها على أوتارهما، فقد كان يجثم الاحتلال الإنجليزي على صدر وادي النيل، ولم يكن الشباب المصري حينئذ مبتهجًا؛ بل كان حزينًا حزنًا شديدًا؛ إذ كان يعاني أزمة الحياة، وكان لا يستطيع تحقيق آماله؛ بل كان يرتد دائما عن تحقيقها بائسًا يائسًا.
ومن هنا أصبح قرار النغم عنده قاتمًا، فالحياة قاتمة من حوله، ولا يستطيع شاب أن ينال منها غير الضنى والحزن والمرارة.
وهذا هو طابع شعر شكري في جميع دواوينه، وهو طابع حزين لا يستمد فيه من شعر المنزع الرومانسي فحسب؛ بل يستمد فيه من حقائق بيئته وحقائق حياته وحياة الشباب المصري من حوله.
ولعل ذلك ما جعله يردد الحديث كثيرًا عن الموت، وهو يفتتح الجزء الثالث بقصيدتين عنوانهما على التوالي: "الحب والموت" و"بين الحياة والموت".
ومن قوله في أولاهما:
وما الدهر إلا البحر والموت عاصف ... عليه وأعمار الأنام سفين
وفي نفس الديوان قصيدة بعنوان "الأزاهير السود"؛ إذ تتراءى له كل أزهار الحياة أزهار ضنك وشقاء، ونراه يرثي نفسه في هذا الديوان بقصيدة عنوانها "شاعر يحتضر" يستهلها بقوله:
أألقي الموت لم أنبه بشعري ... ولم يعلم سواد الناس أمري
وفي نفسي من الأبد اتساع ... تدور الكائنات بها وتجري
وأكثر أشعاره في دواوينه من هذا الضرب القاتم الحزين، ونراه يُلقي بظلال حزنه على مشاهد الطبيعة من حوله، ومن قصائده الرائعة في ذلك قصيدته في الجزء الخامس "إلى الريح"، وفيها يقول:
يا ريح أي زئير فيك يفزعني ... كما يروع زئير الفاتك الضاري
يا ريح أي أنين حن سامعه ... فهل بُليت بفقد الصحب والجار
يا ريح ما لك بين الخلق موحشة ... مثل الغريب غريب الأهل والدار
أم أنت ثكلى أصاب الموت واحدها ... تظل تبغي يد الأقدار بالثار
واستلهم في هذه القصيدة قصيدة "أغنية الريح الغربية" للشاعر الإنجليزي الرومانسي شللي؛ ولكنه لم يَسْطُ على معانيه؛ بل اهتدى من بعيد على ضيائه إلى هذه الأنغام العربية الشجية، وكان على هذا النحو دائمًا يستضيء بالنماذج الغربية؛ ولكن لا ينقلها نقلًا في أساليبه العربية، وإنما يكتفي بالإلهام من بعيد، ثم يغني عواطفه وشجونه في شعره.
وفي دواوينه أمثلة مختلفة من ذلك، ومن أوضحها قصيدته "نابليون والساحر المصري" في الجزء الثاني، وقد استلهم فيها قصيدة الشاعر "The Bard" لتوامس جراي، وهي كقصيدة "الريح الغربية" من قصائد "الذخيرة الذهبية".
ودائمًا يتردد النغم الحزين في شعره، وصوَّر ذلك في اعترافاته -كما قدمنا- إذ قال عن الشباب المصري: إنه يتقاذفه الأمل واليأس؛ ولكن اليأس كان أشد عنفًا به؛ إذ ينفذ إلينا من أكثر قصائده.
وطبيعي أن يدفعه تفكيره في الحياة وبؤسها إلى تفكير واسع في عالم الكون والغيب وأحواله، وناموس الحياة ووجودها المطلق وحقائقها الكلية.
وكل ذلك يتراءى أمامه كأنه بحر بغير ضفاف، ومن خير ما يصور ذلك قصيدته في الجزء الخامس "إلى المجهول"، وهو يفتتحها بقوله:
يحوطني منك بحر لست أعرفه ... ومهمه لست أدري ما أقاصيه
أقضي حياتي بنفس لست أعرفها ... وحولي الكون لم تُدْرَك مجاليه
يا ليت لي نظرة للغيب تسعدني ... لعل فيه ضياء الحق يبديه
كأن روحي عود أنت تحكمه... فابسط يديك وأطلق من أغانيه
ووقفة شكري أمام الكون وأسراره لا تنتهي به إلى شك ولا إلى قطع حبل الرجاء في معرفة حقائق الوجود وروحه الخالدة.
وقلبه من هذه الناحية كان عامرًا بالإيمان، وتصور ذلك أوضح تصوير قصائد مختلفة مثل: "في عرفات" و"عظة الهجرة" و"يا رحمة الله التي عمت الورى"، وقصيدته في الجزء الرابع "صوت الله"، وهو يستهلها بقوله:
أنصت ففي الإنصات نجوى النفوس ... فإن صوت الله دانٍ كليم
ويقول في الجزء الخامس من قصيدته "قوة الفكر":
الفكر نور الله في الوجود ... فعمره كخُلْده المديد
وله في الجزء السابع قصيدة بعنوان "الملَك الثائر"، صوَّر فيها ملَكًا ثار على ربه؛ لما تمتلئ به الأرض من شرور، ونزل إلى الأرض يحاول الإصلاح، فهب في وجهه العصاة والتقاة، وأراد الصعود ثانية إلى الملأ الأعلى، فأغلقت أبواب السماء في وجهه عقابًا على ثورته وعصيانه لربه.
وقد زعم بعض النقاد أن قصيدته "حلم البعث" في الجزء الثالث تصور تمردًا على الإيمان بالله واليوم الآخر، وهي ليست أكثر من سخرية بالناس وشرورهم التي لا تفارقهم حتى بعد موتهم.
وله منظومتان في "أبي الهول" و"هرم خوفو"؛ ولكنه لا يذهب بشعره فيهما مذهب شوقي في فرعونياته، فهو لا يعنيه الإشادة بمجد الآباء بقدر ما تعنيه نفسه وخواطره في الكون والحياة. وربما كانت قصيدته في الجزء الخامس "العبد الروماني" رمزًا لحكام الشعب الطغاة، فقد قتل العبد في القصيدة سيده الطاغية، وتغنَّى بالحرية قائلًا:
رضينا بنيرون فكنا بناره ... جديرين إن الأتقياء حُطام
وربما كانت هذه القصيدة هي التي ألهمت خليل مطران قصيدته في "نيرون".
وله في الجزء السابع قصيدة تسمى "هز الأنوف" وفيها صور ملِكًا جائرًا حكم شعبه حكمًا ظالمًا، فأمر كل فرد فيه أن يهز أنفه صباح مساء، وأخيرًا ثار عليه أحد أبناء شعبه قائلًا:
إذا نحن طامنا لكل صغيرة ... فلا بد يومًا أن تساغ الكبائر
وعلى هذا النحو كان شعر شكري شعرًا جديدًا؛ بل كان حدثًا جديدًا في شعرنا المصري الحديث، إلا أن الجمهور لم يقبل عليه لسببين: أما أولهما فيرجع إلى أنه لم يكن قد بلغ من النضج العقلي ما يمكِّنه من تذوق هذا اللون الجديد من الشعر، وأما ثانيهما فيرجع إلى شكري نفسه؛ لأنه لم يستطع أن يوازن بين جديده وبين الصياغة القديمة كما وازن شعراء النهضة.
ومع ذلك فله -مع العقاد والمازني- فضل هذه المحاولة الجديدة التي أخرجت شعرنا من دوائر التقليد القديمة، وجعلته يطوف في مجالات أرحب وأوسع، من العواطف الإنسانية العامة، والتأمل في الكون والحياة البشرية تأملا فيه شره عقلي شديد إلى التفكير في كل فكر والإحساس بكل إحساس.



الفصل الثالث: أَعلام الشعر 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثالث: أَعلام الشعر Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث: أَعلام الشعر   الفصل الثالث: أَعلام الشعر Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:51 am


7- عباس محمود العقاد 1889-1964م:
أ- حياته وآثاره:
وُلد عباس محمود العقاد بأسوان في سنة 1889 لأسرة مصرية متوسطة، وقد أخذ يختلف -منذ نشأته الأولى- إلى "الكُتَّاب"، ثم إلى المدرسة الابتدائية، وتخرَّج فيها سنة 1903، وكان يلفت معلميه بذكائه ومواهبه الأدبية.
وكأنه رأى أن يختصر الطريق، فرحل عن بلدته وهو في السادسة عشرة من عمره، ولم يُكمل دراسته في المدارس والمعاهد الرسمية؛ بل أخذ يكلمها بنفسه معتمدًا على ذهنه الخصب، والتحق ببعض الوظائف الحكومية، ثم تركها إلى القاهرة وعمل بالصحافة.
ولا نكاد نمضي في الحلقة الثانية من هذا القرن حتى نجده في المدرسة الإعدادية يعلم بها التلاميذ مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني، وارتبط بهذه الصداقة عبد الرحمن شكري، وبذلك تألف هذا الجيل الذي كان يفهم الشعر على طريقة جديدة في ضوء ما يقرأ من الأدب الإنجليزي؛ بل الآداب الغربية المختلفة.
ويخرج شكري الجزء الثاني من ديوانه سنة 1913، فيقدم له العقاد كما يقدم لديوان المازني الذي أخرجه في سنة 1914، وتتم لمصر على أيدي هذا الجيل دورة جديدة في شعرها.
وقد أخذ المازني والعقاد يكتبان في النموذج الجديد ويهاجمان النموذج القائم عند حافظ وشوقي.
وتصدى المازني لحافظ في مجلة عكاظ سنة 1914، وتصدَّى العقاد لشوقي في كتاب "الديوان" سنة 1921.
وأخرج العقاد أول ديوان من دواوينه سنة 1916، وتعاقبت دواوينه حتى بلغت أربعة، وطُبعت في سنة 1928 مجموعة باسم "ديوان العقاد".
ولا تضع الحرب الأولى أوزارها حتى نجد المازني والعقاد جميعًا يتركان التعليم إلى الصحافة، ويتعرف العقاد على سعد زغلول، ويصبح كاتب حزب الوفد ولسانه في الجمهور.
وكان يكتب في جريدة البلاغ الوفدية، فنهض فيها بالمقالة السياسية، مقتبسًا كثيرًا من آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين، وخاصة في مجال الحرية وحقوق الشعب السياسية.
وقاد في هذه المقالة معارك مع كُتَّاب الأحزاب الأخرى مثل هيكل كاتب الأحرار الدستوريين، وهي معارك ارتقت بفن الهجاء العربي القديم، فلم يعد هجاء شخصيًّا؛ بل أصبح هجاء حزبيًّا يستمد من المبادئ العامة ومن فكر راقٍ نشيط.
وفي هذه الفترة -أي: في العشرة الثالثة من هذا القرن- رأى العقاد وهيكل وطه حسين والمازني أن ينقلوا إلى قرائهم مباحث الأدب والنقد الغربية، ويشفعوها بنظرات تحليلية في المفكرين الغربيين.
وكان ذلك سببًا في ظهور ملاحق أدبية للصحف اليومية، فأخرج هيكل السياسة الأسبوعية، وأخرج العقاد أو أخرجت جريدة البلاغ الوفدية مجلة البلاغ الأسبوعية، ونتج عن ذلك نهضة أدبية واسعة.
وأخذ هؤلاء الكُتاب يجمعون مقالاتهم الممتازة في كتب وينشرونها، فنشر العقاد غير كتاب مثل: "مراجعات في الآداب والفنون" و"مطالعات في الكتب والحياة" و"الفصول"، وهي تصور هذا الجهد العقلي الخصب الذي اضطلع به في حياتنا الأدبية، فقد نقل إلينا كثيرًا من الأفكار الأوربية التي لم تكن تعرفها العربية، وسلَّط عليها من شخصيته ما طبعها بطابعه الخاص.
وفي أثناء حكم صدقي "1930-1934" دخلت مصر في ظلال عهد استبدادي أُلغي فيه الدستور والحياة النيابية، فثارت ثائرة كُتاب الأحزاب وعلى رأسهم العقاد، فكتب كتابه "الحكم المطلق في القرن العشرين" وهو أغنية بارعة في الديمقراطية وصلاحيتها للأم الشرقية.
وتناول في بعض مقالاته الملك الطاغية فؤادًا، وقُدِّم بسببها إلى المحاكمة، وحُكم عليه بالسجن تسعة أشهر.
وقد وصف حياته في السجن بكتابه "عالم السجون والقيود".
وبعد خروجه من السجن نشر ديوانه "وحي الأربعين"، كما نشر بحثًا له في "شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي"، ونشر أيضًا بحثًا في ابن الرومي كما نشر قصته "سارة" وديوانه "هدية الكروان"، غير مقالاته المختلفة في المقتطف والهلال.
وتوالت الأحداث فانشق النقراشي وأحمد ماهر على حزب الوفد، فانضم إليهما، وظل يكتب في جريدة الأساس حتى امتنعت عن الظهور.
وعُين عضوًا في مجلس الشيوخ وفي مجمع اللغة العربية.
ووالى نشاطه فأخرج دواوينه: "عابر سبيل" و"أعاصير مغرب" و"بعد الأعاصير".
واتجه إلى كتابة التراجم والسير، فكتب في "محمد" و"المسيح" عليهما السلام، وفي أبي بكر الصديق وعمر وعلي، كما كتب في مجالات كثيرة، فتارة يكتب عن الفلاسفة الغربيين والفلاسفة الإسلاميين، وتارة يكتب في موضوعات عامة مثل "عقائد المفكرين في القرن العشرين".
ومن طريف كتبه "الله" وله أيضًا "إبليس" و"أبو نواس".
وبلغ ما كتبه نحو ستين مؤلفًا كلها تمتاز بحيوية التفكير.
وعباس العقاد بدون ريب عَلَمٌ من أعلام نثرنا الحديث، وقد ظفر نثرنا عنده ببراعة فائقة على أداء المعاني في لفظ جزل رصين، فيه قوة ومتانة، وفيه دقة تشعرك بسيطرة صاحبها على المادة اللغوية، فهو يعرف كيف يصوغ كلمه، وكيف يلائم بينها ملاءمة، يجد فيها قارئوه اللذة والمتعة.
والعقاد يمتاز بهذا الأسلوب الرصين منذ أخذ يكتب مقالاته في أوائل هذا القرن، وهو أسلوب يدل على ما وراءه من ثقافة عميقة بآدابنا العربية، استطاع أن يشتق لنفسه خلال التعمق فيها صياغته البديعة، التي لا ينبو فيها لفظ؛ بل تجري الألفاظ في نسق محكم مطرد.
ولم يتمثل الآداب العربية وحدها، فقد تمثل أيضًا الآداب الغربية تمثلًا دقيقًا، نفذ من خلاله إلى ثراء عريض في معانيه، وهو ثراء لا يستمد فيه من الغرب فحسب؛ بل يطبعه بملكاته، فإذا هو له وإذا هو من صنعه، صنع عقله المشتعل الذي يستقل -رغم محصوله الواسع من الثقافات- بتفكيره وإلحاحه في هذا التفكير إلحاحًا يستحدث في تضاعيفه كثيرًا من الخواطر والآراء.
واقرأه في كل ما يكتب فيه من سياسة وأدب وفلسفة ونقد واجتماع وتحليل للشخصيات فسيروعك عقله الخصب، الذي لا يزال يلح على الفكرة بتوليداته واستنباطاته؛ حتى تتحول من بذرة صغيرة محدودة إلى شجرة باسقة الظلال.
وحقًّا قد نجد عنده أحيانًا ضربًا من الصعوبة؛ ولكنها ليست الصعوبة التي تنشأ من الغموض في أفكاره، وإنما الصعوبة التي تنشأ من العمق فيها، فإذا تعمقت معه أصبت لذة لعقلك وشعورك معًا.
فنثره في بعض جوانبه يحتاج منك إلى التمهل والروية، وهما لا يضيعان عبثًا؛ بل تجد فيهما متعة حقًّا، وهي متعة لا تأتي فقط من طرافة تفكيره وعمقه البعيد؛ وإنما تأتي أيضًا مما يشفع به كتاباته من منطق حاد، يأخذ بزمام قارئه، فلا يستطيع منه إفلاتًا؛ بل يذعن ويخضع لأدلته الصارمة.
ومن ثم كان إذا ناضل في أي رأي سرعان ما ينتصر؛ بفضل براهينه وأسلحته المنطقية وملاءمته بين هذه البراهين والأسلحة ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة.
ومن أهم ما يميزه مواقفه الثابتة في الحياة وفي الآراء الأدبية، فهو يقف دائمًا عند رأيه ويثبت ثباتًا، كأنه حصن من حصونه، يعيش فيه، ويعيش له، ويذود عنه ذياد العربي الأصيل عن عِرْضِه. ويروعك عنده دائمًا أنه يؤمن بوطنه وعروبته، وأنه يشعر في أعماقه بأنه يستمد حياته من حياة أمته، فهي دائمًا نصب عينه لا تغيب؛ بل هي دائمًا النبع الروحي لأحاسيسه ومشاعره، بكل ما تموج به من أحداث سياسية وكل ما تُزْهى به من أمجاد ماضية.
وقد نال في سنة 1960 جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بأعماله الأدبية.


ب- شعره:
يتضح مما قدمنا من حياة العقاد أن عناصر كثيرة تُسهم في تكوين شعره وشخصيته الأدبية، فهو مصري، يستشعر أمجاد المصريين في ضميره وقلبه، وهو عربي، وقد توفر على قراءة الأمهات العربية في النثر والشعر والفلسفة والتصوف، وهو غربي التفكير، تزوَّد من آداب الغرب بكل ما استطاع من غذاء عقلي، فهو مع إيغاله في قراءة الأدب الإنجليزي يتوغل في قراءة الآداب الغربية المختلفة عن طريق اللغة الإنجليزية التي يتقنها، كما يتوغل في قراءة الآثار النقدية.
وعرفنا أنه لم يكمل دراسته العالية؛ ولكنه عوضها بأستاذ صارم من نفسه، دفعه إلى تعهد عقله بالقراءة والتثقيف وشحذ مواهبه بالإدمان الطويل على النظر في آثار الشعراء المختلفين.
ونراه في مطالع شبابه يقود مع شكري والمازني معارك التجديد في شعرنا.
ومن الغريب أنهما خرجا من الميدان مع الحرب العالمية الأولى، أما هو فثبت فيه إلى اليوم، وكأنه يقوم عنده على دعائم ثابتة، وليست هذه الدعائم إلا روحه القوية التي تؤمن دائمًا بمثل أعلى، ثم تسعى إلى تحقيقه في جهاد متواصل لا يعرف التواني ولا الفتور.
ونحن نلقاه في ديوانه الأول المؤلف من أربعة أجزاء كما نلقاه في ديوانه الأخير "بعد الأعاصير" بنفس الشخصية.
ومن يطلع على ديوانه الأول يستطيع أن يلاحظ فيه قصيدة نونية نظمها على نمط قصيدة لابن الرومي وأخرى نظمها خمرية على نمط ابن الفارض؛ ولكن النمط الأول هو الذي كان يتفق مع روح جماعته الأدبية المتشائمة.
ولعل ذلك ما جعله يخص ابن الرومي بكتاب، فقد شُغف به منذ فجر حياته الشعرية؛ لأنه وجد عنده نفس الأنغام التي كانت تعجب بها مدرسته، أنغام الحزن والشكوى من الدهر والناس.
وليس معنى ذلك أن العقاد كان يُعْنَى بمعارضة ابن الرومي والصب في قوالبه على مثال ما عُنِيَ شوقي بمعارضة البحتري مثلًا.
فالعقاد يستقل في شعره وقوالبه عن ابن الرومي وغيره على نحو ما يستقل خليل مطران عن شعراء العرب، فهو مثله يستوعب الصياغة القديمة؛ ولكنه لا يفنى فيها ولا يتحول إلى قوالبها يصب فيها أو يسكب ما في نفسه، فحسبه أن يتمثلها، ثم تصبح ملكًا له يستخدمها كما تشاء ملكته الفنية دون أن يظهر عنده اتباع أو تقليد واضح إلا في القليل النادر.
وهو من هذه الناحية يُعْنَى بأسلوبه عناية واسعة، وهي عناية تقوم على الجزالة والمتانة واستخدام اللفظ الفصيح؛ بل لا بأس أحيانًا من استخدام اللفظ الغريب، ولعل ذلك ما جعله يكثر في هوامش ديوانه الأول من شرح الكلمات؛ ولكنها غرابة في حدود ضيقة؛ إذ يغلب على أساليبه الوضوح، كما تغلب عليها المرونة.
ويدخل في هذا الاتجاه محافظته على الأوزان العروضية القديمة، فهو ليس ممن يرون التجديد في الأوزان ولا ممن ينزعون إلى استخدام الموشحات الأندلسية وإن كان يستخدم الشعر الدوري كثيرًا؛ لكنه على كل حال شكل قديم.
وكأنما كان يرى التجديد في المعاني دون الألفاظ والعروض، وهذا ما يجعل لشعره الجديد إطاره المستقل، وهو إطار لا يخرج على الأوضاع القديمة؛ بل يستغلها ويوسع في جنباتها لتحتمل تجربته الحديثة.
ومن غير شك هو من هذا الجانب يختلف عن شكري الذي حاول التحلل أحيانًا من القوافي القديمة، كما حاول التحلل أحيانًا من اللغة الجزلة الفصيحة.
وهو يختلف عنه من ناحية ثانية، فإنه لا يبلغ مبلغه من البؤس والتشاؤم والحزن العميق؛ بل تتألق أمام عينيه في ظلمات يأسه الآمال، فهو حزين، ولكنه طامح، وهو طموح ينتهي عنده إلى تمرد على الحياة، وسخرية مرة بها وبالناس، بل هو طموح ينتهي عنده في كثير من الأحوال إلى فرح بالحياة وما فيها من متع ونعيم.
ومن أهم ما يميزه استيعابه للفكر الغربي، وهو يعلنه منذ ديوانه الأول ولا يخفيه، فقصيدته الرابعة فيه معربة عن شكسبير وعنوانها "فينوس على جثة أدونيس"، ونمضي في الديوان فنجده يترجم له قطعة من مسرحية "روميو وجولييت"، كما نجده يترجم قطعة عن الشاعر الإنجليزي كوبر بعنوان "الوردة"، ويترجم عن بوب قطعة بعنوان "القدر".
وهذه القطع المترجمة ليست أكثر من رموز إلى ثقافته بالآداب الغربية، وهي ثقافة تتعمقه، ومع ذلك استطاع أن يتحرر منها كما تحرر من ثقافته العربية؛ ليجد نفسه وشخصيته وروحه المصرية الجديدة.
وهي روح تبرز عنده -كما يمثلها ديوانه- في اتجاهين، أما أولهما فالوقوف بآثار الفراعنة وإشادته بحضارتنا القديمة، ومن خير ما يصور ذلك قصيدتاه "أنس الوجود" و"تمثال رمسيس".
وأما ثانيهما فوصف عواطفنا السياسية والوطنية، وأروع ما يصور ذلك قصيدته "يوم المعاد" التي نظمها بعد رجوع سعد زغلول من منفاه، وفيها يقول:
ما يبتغ الشعب لا يدفعه مقتدر ... من الطغاة ولا يمنعه مغتصب
فاطلب نصيبك شعب النيل واسم له ... وانظر بعينيك ماذا يفعل الدأب
ما بين أن تطلبوا المجد المعد لكم ... وأن تنالوه إلا العزم والطلب
وهو في الاتجاهين جميعًا يختلف عن زميله شكري الذي لم يكن يُعْنَى بالتغني بأمجادنا القديمة وعواطفنا الوطنية إلا نادرًا؛ إنما كان يُعْنَى قبل كل شيء بنفسه وخواطره الذاتية.
ومما يمتاز به العقاد أيضًا في ديوانه الأول أن الوَحْدَة العضوية للقصيدة تتكامل عنده، فلم تعد أنغامها تتبدد بين موضوعات مختلفة؛ بل أحكم التآلف بينها؛ بحيث أصبح للبيت في القصيدة مكانه الذي لا يعدوه، فهو جزء من كل، أو هو عضو من جسد واحد، ومن الصعب أن ينقل إلى غير مكانه أو ينزع من موضعه.
وليس هذا وحده ما يمتاز به العقاد في تجربة المدرسة الجديدة، فقد نَمَّى بناء القصيدة العام تسعفه في ذلك ثقافته الواسعة بالآداب الغربية، ولسنا نقصد البناء اللفظي؛ وإنما نقصد البناء المعنوي، وما يزخر به شعره من تأملات وتوليدات عقلية يرسلها على كل ما حوله خاضعًا للمنطق خضوعًا شديدًا.
وأهم الموضوعات التي تستنفد شعره في ديوانه الأول بأجزائه الأربعة الحب والطبيعة، أما الحب فنراه يعبر فيه تعبيرًا دقيقًا عن المشاعر والإحساسات الدفينة، ومن خير قصائده فيه "نفثة" التي يستهلها بقوله:
ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا ... عذب المدام ولا الأنداء ترويني
وقصيدته التي نظمها في قطعتين بعنوانين متواليين "مولد الحب، وموت الحب"، وفيها قارن بين مولد الحب ونهايته السريعة مقارنة طريفة.
وتحتل الطبيعة الصامتة والمتحركة حيزًا واسعًا في الديوان، وقد خص النيل بقصائد كثيرة لعل أهمها "على النيل".
ووقف كثيرًا عند الليل، وله قصيدة بديعة في الصحراء وقصائد مختلفة في البحر، ويحرك القمر ببهائه فيه كثيرًا من العواطف الحية.
ونراه يولع بتصوير فصول السنة، كما يولع بعالم الزهور وخاصة بالوردة.
ويقف طويلًا أمام عالم الطير تملؤه الرحمة كما يملؤه العطف والشفقة.
وهو في كل ذلك يحلق بأفكاره في مدى بعيد من الحس والشعور والتأمل العقلي الواسع.
ولا يخلو شعره من الفكاهة على نحو ما في قصيدته "ثقيل" كما لا يخلو من الأفكار الفلسفية الدقيقة على نحو ما نرى في قصيدتيه "الدنيا الميتة" و"الموسيقى".
وهذه الأنغام التي نستقبلها من ديوانه الأول المكوَّن من أربعة أجزاء هي نفس الأنغام التي نستقبلها بعد ذلك في دواوينه التي أخرجها من بعده، أو هي على الأقل أغلب تلك الأنغام.
فقد أخرج ديوانًا سماه "وحي الأربعين"، وأكثره تأملات في الحياة وخواطر في الحب والطبيعة.
وتلاه بديوان سماه "هدية الكروان"، نظم فيه كثيرًا من القصائد في هذا الطائر المصري الذي يملأ ليالي الوادي بأناشيده العذبة وترتيلاته الشجية، وأمُّ هذه القصائد قصيدته:
هل يسمعون سوى صدى الكرْوان ... صوتًا يُرفرف في الهزيع الثاني
وهي من قصائد ديوانه الأول، جعلها فاتحة قصائده في هذا الديوان والنبع الذي يستمد منه أنغامه وألحانه فيه.
ولا نشك في أنه يستلهم في هذه القصيدة وذلك الديوان قصيدة شللي الشاعر الإنجليزي "إلى قبرة"، وهي من روائع هذا الشاعر وبدائعه، وفيها يشبه القبرة بالفرح المجرد.
وليس معنى ذلك أن العقاد يقتبس من شللي أو ينقل، فهو يلهمه ويوحي إليه، أما بعد ذلك فمعانيه في قصائده له.
وقد نحس نفس الإحساس إزاء كثير من قصائده بدواوينه المختلفة في الطبيعة والحب، ففيها جميعًا أثر قراءاته في الآداب الغربية؛ ولكنها مطبوعة بشخصيته، وتستمد من أفكاره وأحاسيسه ما يجعلها مصرية عربية صميمة.
ورأى في الغرب منزعًا نما بعد الحرب العالمية الأولى؛ إذ انصرف بعض الشعراء عن الحب والطبيعة والميثولوجيا القديمة إلى حياتهم الحاضرة، وحولوا كل ما فيها مما يُعد يوميًّا عاديًّا أو تافهًا إلى شعر لا يقل عن شعر الحب والطبيعة جمالًا وجلالًا.
وفي داخل هذا الاتجاه أصدر ديوانه "عابر سبيل"، وفيه نراه يأخذ بعض الموضوعات اليومية ويفيض عليها من تأملاته العقلية والنفسية، على نحو ما نرى في قصيدته "كواء الثياب ليلة الأحد"، وهو يستهلها بقوله:
لا تنم لا تنم ... إنهم ساهرون
ومن قصائده في هذا اللون الجديد التي تؤثر في قارئها حقًّا قصيدة "صورة الحي في الأذن" و"نداء الباعة قبل انصرافهم في الساعة الثامنة".
ونجد بجانب هذه القصائد متفرقات لعل أروعها قصيدته التي حيَّا فيها "دار العمال" ونعى ظلم الأغنياء لهم، بينما ينعمون بعرق جبينهم وجهد أيديهم.
وأخرج في الحرب العالمية الثانية ديوانه "أعاصير مغرب"، وسماه هذا الاسم إشارة إلى ظهوره وعالم الدنيا مضطرب بأعاصير الحرب وعالم نفسه مضطرب بأعاصير مختلفة من حب وغير حب.
وهو موزع فيه بين العالَمين، وفيه كثير من الرثاء وشعر المناسبات، ولعل أروع قصائده فيه قصيدته في المذياع أو كما سماه "صَدَّاح الأثير"، وهو يفتتحها بقوله:
ملأ الآفاق صداح الأثير ... لا فضاء اليوم بل صوت ونور
وآخر دواوينه "بعد الأعاصير"، وأكثره مراثٍ ومناسبات، وضمنه مرثية ومقالة بديعة في صديقه المازني.
وهذا هو العقاد، عالم كبير من عوالم شعرنا الحديث، وربما كان أكثر شعرائنا أصالة في تجديده؛ لأنه تجديد يقوم على استيعاب الآداب الغربية والعربية جميعًا واستخلاص صورة جديدة للشاعر، فيها روحه وقومه وشخصيته.
وكل ما يمكن أن يلاحظ عليه أنه يسرف أحيانًا في توليداته العقلية، حتى يصبح أسلوب شعره قريبًا من الأسلوب النثري؛ لكثرة ما فيه من منطق ووضوح.



الفصل الثالث: أَعلام الشعر 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثالث: أَعلام الشعر Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث: أَعلام الشعر   الفصل الثالث: أَعلام الشعر Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:52 am


8- أحمد زكي أبو شادي 1892-1955م:
أ- حياته:
وُلد أحمد زكي أبو شادي في 9 من فبراير سنة 1892 بحي عابدين في القاهرة لأب كان محاميًا وخطيبًا مفوهًا، اشتهر بمواقفه الوطنية، هو محمد أبو شادي، ولأم كانت تنظم الشعر وتشدوه هي أمينة أخت الشاعر مصطفى نجيب.
فالجو الذي نشأ فيه كان جوًّا أدبيًّا.
وقد اختلف على شاكلة لداته إلى المدارس الابتدائية فالثانوية، وتفتحتْ فيه مبكرة مواهبه الأدبية والشعرية؛ إذ لا نصل معه إلى سن السادسة عشرة حتى نجده ينشر طائفة من شعره ونثره بعنوان: "قطرة من يراع في الأدب والاجتماع"، ولا يلبث أن يلحقها في العام التالي بقطرة ثانية، ويتبعهما بقطرتين أخريين من النثر والنظم.
وتتضح في هذه الكتب جميعًا ثقافته المنوعة بالآداب العربية والغربية وإحساسه بمشاكل قومه السياسية والاجتماعية ومشاكل الشعر العربي في المادة والشكل والمضمون.
ونراه معجبًا بخليل مطران وبآراء "برادلي" أستاذ الشعر حينذاك في جامعة أوكسفورد، ويترجم بعض أشعار غربية، ويعرض لبعض الرسامين، وكأنه يضع تحت أيدينا المؤثرات التي ستظل تؤثر في روحه وفي شاعريته.
وفي إبريل من سنة 1912 أرسله أبوه إلى إنجلترا ليدرس الطب، وأتم هذه الدراسة في ديسمبر من سنة 1915، وظفر بجائزة "وب" في علم "البكتريولوجيا" أو علم الجراثيم، وظل هناك يشتغل بهذا العلم نحو سبع سنوات، وفي أثناء ذلك تيقظ اهتمامه بتربية النحل، وأسس جمعية له، وأسس بجانب الجمعية مجلة عالم النحل "Bee-world".
وعُني بالتصوير كما عُني بالشعر، وكأنه كان هناك خلية نحل دويًّا ونشاطًا.
وقد أخذ يعمق معرفته بالأدب الإنجليزي وغيره من الآداب الغربية، وخاصة النزعة الرومانسية التي كان قد أعجب بظلالها عند خليل مطران، فعكف على شللي وكيتس وأضرابهما من شعراء الوجدان الفردي.
وأتقن الإنجليزية بحيث أخذ ينظم بها، غير أنه لم ينسَ وطنه وقومه، فكان يرسل بمقالاته وأشعاره إلى الصحف المصرية.
وأنشأ جمعية آداب اللغة العربية، وأخذ يجمع أبناء وطنه حوله في النادي المصري بلندن، ويتحدث معهم في شئون بلاده، وتنبهت له الشرطة هناك، فضيقت عليه تضييقًا جعله يؤثر العودة إلى وطنه ومعه زوجته الإنجليزية في ديسمبر سنة 1922.
عاد أبو شادي إلى مصر بنشاطه الجم، فلم يمضِ عليه شهران حتى أنشأ "نادي النحل المصري" الذي حيَّاه شوقي بقصيدته المعروفة "مملكة النحل".
وفي إبريل من سنة 1923 تولى إدارة قسم "البكتريولوجيا" في معهد الصحة بالقاهرة.
ودار العام فنُقل إلى السويس ثم إلى بورسعيد فالإسكندرية، ولم يمكث طويلًا خارج القاهرة، فقد عاد إليها في سنة 1928.
وكان في كل مكان يحل فيه يؤسس الجمعيات كجمعية رابطة مملكة النحل "والاتحاد المصري لتربية الدجاج" و"جمعية الصناعات الزراعية" و"الجمعية البكتريولوجية المصرية".
وبجانب هذه الجمعيات كان ينشئ المجلات التي تخدم أهدافها مثل "مملكة النحل" و"الدجاج" و"الصناعات الزراعية".
وكان في أوقات فراغه يُقبل على نظم الشعر في سرعة شديدة، فكثر إنتاجه الشعري كثرة مفرطة، وما نصل إلى سنة 1932 حتى نراه يؤلف جماعة أبولو التي تحدثنا عنها في غير هذا الموضع، والتي ظلت قائمة إلى سنة 1935، وكان لها أثر كبير في نهضتنا الشعرية حينئذ؛ إذ أسس باسمها مجلة فتحتْ صدرها للشباب وغذتهم بآداب الغرب وآراء نقاده في الشعر والشعراء.
وكانت مصر في هذه الأثناء تجتاز محنتها بصدقي؛ إذ كان يحكمها بالحديد والنار تسنده حراب الإنجليز الغاشمين، فانطوى شعراؤنا على أنفسهم متغنين بشعر رومانسي حزين، ويظهر أن كوارث مالية حَفَّت بأبي شادي، فرأيناه في بعض أشعاره يفزع إلى صدقي الجائر ومليكه الطاغية، وهي سقطة يشفع فيها لأبي شادي شعره الوطني الكثير الذي ناصر فيه أحرارنا وزعماءنا الشعبيين منذ مصطفى كامل.
ونمضي مع أبي شادي إلى سنة 1935، فتنفضُّ جمعية أبولو وتحتجب مجلتها، وقد أخرج من بعدها مجلتي "الإمام" و"أدبي" ولم يكتب النجاح لهما.
ويظل في القاهرة إلى أن تنشأ جامعة الإسكندرية، فيختار أستاذًا "للبكتريولوجيا" بها.
وتتوفَّى زوجه، وكأنه ضاق ذرعًا بالحياة بعدها في موطنه فيرحل في سنة 1946 إلى أمريكا.
وهناك عاوده نشاطه، فاشترك في الأندية الأدبية، وحرر جريدة "الهدى" العربية، وعمل في "صوت أمريكا"، وأسس "جماعة منيرفا" على غرار جماعة أبولو، ونشر ديوانه "من السماء".
وما وافاه القدر سنة 1955 حتى كان قد أعد للطبع أربعة دواوين؛ هي: "من أناشيد الحياة" و"النيروز الحر" و"الإنسان الجديد" و"إيزيس".
وحياة أبي شادي على هذا النحو مكتظة بالنشاط، فقد أسس -كما رأينا- جمعيات ومجلات مختلفة، وكتب مقالات أدبية وعلمية كثيرة، بالإضافة إلى ما كان يذيعه من محاضرات في أجوائنا الأدبية وأحاديث في "صوت أمريكا".
وقد نقل إلى العربية من الإنجليزية غير قصيدة ومقطوعة، كما نقل رباعيات عمر الخيام وحافظ الشيرازي.
ومن مصنفاته العلمية: "تربية النحل" و"أوليات النحالة" و"الطبيب والمعمل" و"إنهاض تربية النحل في مصر" و"مملكة الدجاج" و"مملكة العذارى في النحل وتربيته".
ونُشر له بعد وفاته ثلاثة كتب؛ هي: "دراسات إسلامية" و"دراسات أدبية" و"شعراء العرب المعاصرون".


ب- شعره:
لعل عصرنا لم يعرف شاعرًا كثر إنتاجه الشعري على نحو ما عرف ذلك عند أبي شادي؛ إذ كان الشعر يتدفق على لسانه منذ نشأته تدفقًا.
وأتاحت له ثقافته الواسعة بالآداب الغربية أن يطلع على أنواع الشعر هناك من قصصية وغنائية وتمثيلية، وعلى مذاهبه من واقعية ورومانسية ورمزية.
ومن ثم مضى يتأثر في شعره بكل هذه الأنواع والمذاهب، وإن كنا نلاحظ غلبة المذهب الرومانسي عليه، وقد اجتمعت ظروف كثيرة دفعته إلى المعيشة الفنية فيه دفعًا؛ إذ اتصل مبكرًا بأكبر من تأثروا من شعرائنا بهذا المذهب في مطالع القرن، ونقصد خليل مطران الذي يسميه في غير قصيدة أستاذه، وهام في حداثته بفتاة تدعى زينب، غير أنها هجرته، فانسكب الألم في قلبه ومضى يتغناه إلى آخر حياته.
وكان مما ضاعفه في نفسه البؤس الجاثم على وطنه؛ بسبب تسلط الإنجليز وظلمهم وطغيانهم، وأيضًا ضاعفته حملات شعواء على شعره، جاءته من عدم تأنيه في صنعه.
فعاش يجتر الألم والحزن والحب المحروم، باحثًا عن عزاء له في الطبيعة والأساطير القديمة.
ومما لا شك فيه أن أبا شادي بثقافته الواسعة ومواهبه الشعرية كان معدًّا لأن يحتل منزلة رفيعة في شعرنا المعاصر غير أنه كان متعجلًا، لا يستقر عند موقف في الحياة ولا في الشعر؛ بل ينتقل من موقف إلى موقف في سرعة شديدة، وهي سرعة أصابت معانيه بالضحولة وحالت بينه وبين الافتنان في الفكر والخيال؛ ومن ثم كانت كثرة أشعاره مغسولة من كل وميض للذهن إلا ما جاء نادرًا وفي الحين بعد الحين، ولم يأته ذلك من سرعته في نظم الشعر وحدها؛ بل أتاه أيضًا من أنه وزع نفسه في اتجاهات الشعر المختلفة على شاكلة توزيعه لها في حياته العملية؛ بحيث كانت له شخصيات متعددة، فهو طبيب وهو بكتريولوجي، وهو يهتم بتربية الدجاج وبمملكة النحل، كما يهتم بتأسيس الجمعيات المختلفة وإخراج المجلات العلمية والأدبية.
وهو على هذا القياس في شعره إذ حاول أن يجمع فيه بين الشعر القصصي والشعر الدرامي والشعر الرومانسي الحزين والشعر الصوفي والشعر الوعظي والشعر الفلسفي والشعر الواقعي والشعر الرمزي والشعر المرسل والشعر الحر.
ولم يكتفِ بفن الشعر؛ إذ ضم له عناية بفني التصوير والموسيقى.
فتعددت اتجاهاته، وكثر ما يحمله من أدوات؛ إذ كان يحمل في يد مبضعًا ومجهرًا ومجلات علمية، وفي يد قلمًا وريشة وآلة موسيقية ومجلات أدبية، وربَّة الشعر توحي إليه بين ضجيج المعامل وطنين النحل ودويه.
وأول ديوان أخرجه "أنداء الفجر" إذ نشره في الثامنة عشرة من عمره، وتتضح فيه نزعته الرومانسية المبكرة؛ إذ نراه يفسح فيه للحب والطبيعة وأصدائهما في نفسه، غير متناسٍ لمشاكلنا السياسية والاجتماعية.
ولا نمضي في قراءته حتى نحس ضعف صياغته ونزارة معانيه وأخيلته؛ لسبب بسيط؛ هو أنه لا يزال ناشئًا، ولم يتمرس بعدُ بصناعة الشعر تمرسًا كافيًا.
ويرحل إلى إنجلترا، ويعود، وقد نظم كثيرًا، وما تلبث دواوينه ومنظوماته أن تتعاقب كالمطر، وكان أول ما ظهر منها ديوانه "زينب" الذي نشره في سنة 1924، وقد اختار له اسم صاحبته القديمة، فذكراها لا تفارقه، والحب والطبيعة هما محور هذا الديوان، وتلقانا فيه قوالب الموشح والدوبيت وقصيدة غزل في زينب "ص16" حاول أن يجدد بها في القوالب الشعرية، ومن خير قصائده فيه قصيدته "الحلم الصادق" التي يفتتحها بقوله:
هات لي العود وغنى ... واسمعي شجوى وأني
تطرحي الأحزان عني ... فأؤدي صلواتي
وفي السنة التالية نشر ديوانين بنفس النغم هما "أنين ورنين" و"شعر الوجدان"، ونجد فيهما مشاعر وطنية صادقة.
ونشر في نفس السنة ديوانه "مصريات"، صوَّر فيه أمانيه الوطنية محركًا همم المصريين للخلاص من الإنجليز الغاشمين.
ولم يلبث في سنة 1926 أن أخرج ديوانه "وطن الفراعنة"، وفيه
يتغنى بأمجاد مصر وآثارها القديمة.
ونراه في نفس السنة يخرج ديوانه الضخم "الشفق الباكي"، وهو يقع في أكثر من ألف صحيفة، تسبقها مقدمات وتليها دراسات في شعره.
ونراه في هذا الديوان ينظم بعض الأقاصيص ويترجم عن الإنجليزية بعض الأشعار، ويذكر بين يدي بعض منظوماته أنها من الشعر المرسل، وقد تكون من الشعر الحر "ص535".
وقد علق في طائفة من أشعاره على كثير من الأخبار العالمية، وشكا من أعباء مهنته التي تعوق ميله إلى الشعر "ص197"، غير أنه عاد فاعترف بأن ملكة الملاحظة التي تعوَّد عليها في الطب أفادته في شعره، ومن ثم خص مجهره "الميكروسكوب" بقصيدة أطراه فيها، جعل عنوانها "رفيقي الكشاف".
وفي رأينا أن هذه الملكة جارت عليه أكثر مما ينبغي؛ إذ جعلته يحوِّل كل ملاحظاته إلى شعر، ونراه يحتفظ في هذا الديوان بطائفة من قصائده التي نظمها في إنجلترا؛ كقصيدته في سقوط الجليد وحديث البحر وصحبة الآلام.
وعلى شاكلة دواوينه السابقة تبرز في "الشفق الباكي" أمانيه الوطنية ومشاعره القومية، سواء في بعث الذكرى لدانشوي ويوم التل الكبير، أو في تحيته لعبد الكريم بطل الريف المغربي، وتألمه لكارثة دمشق حين قذفها الفرنسيون بالمدافع سنة 1925، وقد رد على "كبلنج" الشاعر الإنجليزي الاستعماري في قولته: "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" ردًّا مفحمًا.
ودائمًا نجده يرتبط بأحداثنا السياسية وكثير من المشاهد اليومية.
ويحدثنا عن أعياد أسرته التذكارية.
ولما توفي سعد زغلول خصه بكتيب ضمنه رثاءه له، حتى إذا كانت ذكرى الأربعين نظم فيه مرثية أخرى بعنوان "التراث الخالد".
ولا يكاد يفرغ من نشر ديوانه الكبير "الشفق الباكي" حتى يتخذ العدة لنشر ديوانه "وحي العام"، معلنًا أنه سيصدر كل عام ديوانًا بهذا العنوان على طريقة الحوليات.
ونمضي معه إلى سنة 1931، فنراه يخرج ديوانه "أشعة وظلال" نازعًا عن نفس القوس التي رأيناها في الدواوين السابقة، وهو فيه كثيرًا ما يأتي بإحدى الصور لبعض الرسامين العالميين، ويحلل خواطره إزاء موضوعها، كما أنه كثيرًا ما يترجم مقطوعات ومنظومات عن بعض الشعراء الغربيين، وقد يذكر الأصل الذي نقله، ويفجؤنا أحيانًا بوضعه عنوانين لبعض قصائده: عنوانًا عربيًّا وآخر إنجليزيًّا! ولا نصل إلى سنة 1933 حتى نراه يخرج ديوانيه: "الشعلة" و"أطياف الربيع".
ويقدم الحب والطبيعة والأساطير المصرية واليونانية أخصب البواعث في الديوانين جميعًا، ولا ينسى آماله الوطنية، فقد كان يحس مشاعر شعبه، ومن قصائده الجيدة في الديوان الأول "الناس"، وفيها يصور صراعهم وعدوانهم بعضهم على بعض.
وتلقانا في ديوانه الثاني قصيدته "الفنان"، وفيها يصور حبه الظامئ أبدًا إلى لقاء الحبيبة، على شاكلة قوله:
أمانًا أيها الحب ... سلامًا أيها الآسي
أتيت إليك مشتفيا ... فرارًا من أذى الناس
أطِلي يا حياة الرو ... ح في عينيَّ تحييني
شرابي منكِ أضواء ... وقوتي أن تنجايني
ويخرج في سنة 1934 ديوانه "الينبوع" بنفس المادة والمضمون.
ونراه فيه يشكو شكوى مرة من نقاده في قصيدته "المهزلة"، وكثيرًا ما تلقانا هذه الشكوى عنده.
وفي سنة 1935 نشر ديوانه "فوق العباب" بنفس الروح ونفس الانطلاق في موضوعات الحب والطبيعة والأساطير القديمة ومشاهد الحياة.
ويتكاثر غبار النقد من حوله، فيقف إنتاجه الشعري ولكن إلى حين، فقد أخرج في عام 1942 ديوانه "عودة الراعي"، ونراه لا يزال يفكر في الشعر المرسل فينظم منه بعض قصائده كما نراه يحلم بمثالية إنسانية دقيقة في "حلم الغد".
وهو في هذا الديوان -كدواوينه السالفة- يحاول دائمًا إيقاظ الوعي في الشعب المصري وإثارته للحصول على حقوقه المقدسة والثورة على الحكام الفاسدين، على نحو ما نجد في قصيدته "حداد القطن"، وفيها يقول:
يا شعب قم وانشد حقو ... قك فالخنوع هو الممات
تشكو الغريب وعلة الـ ... ـشكوى الزعامات الموات
ويرحل إلى أمريكا، وينشر بها ديوانه "من السماء" سنة 1949، وفيه كثير من صور البحر والطبيعة والحياة هناك.
وقد تُوفي -كما أسلفنا- وهو على أهبة إصدار أربعة دواوين.
ودفعتْ أبا شادي معرفته الدقيقة بالآداب الغربية وما رآه عند أستاذه مطران من أشعار قصصية إلى أن يقوم بمحاولات في هذا الاتجاه، وكانت أولى محاولاته "نكبة نافارين" التي نشرها في سنة 1924، وفيها خلد ذكرى القوات البحرية المصرية التي ذادت عن الخلافة العثمانية والترك في موقعة نافارين لعهد محمد علي.
وقد صور فيها الأسطول المصري منذ خروجه من قواعده إلى أن حاقت به الهزيمة في صور زاخرة بالحياة، وختمها بندب سيز وستريس للقتلى وبكائهم.
وفي سنة 1925 نظم قصة جديدة بعنوان "مفخرة رشيد" خلد فيها ذكرى القوات المصرية التي ردت عدوان الإنجليز الآثم عن هذه المدينة في موقعة إبريل سنة 1807.
وأتبع ذلك بقصتين اجتماعيتين هما: "عبده بك" و"مها"، وهو فيهما أقل توفيقًا من الناحية القصصية والشعرية.
وعلى نحو ما عالج القصة في شعره عالج المغناة "الأوبرا"، فقد مضى منذ سنة 1927 يؤلف فيها آثارًا مختلفة، ومعروف أن المغناة لا تعتمد على الشعر والتمثيل فحسب؛ بل تعتمد أيضًا على موسيقى مركبة.
وقد يكون اعتمادها على هذه الموسيقى وألحانها أكثر من اعتمادها على التمثيل والشعر.
ولعل ذلك هو السبب في أن مغنياته أو "أوبراته" لم تلقَ النجاح المنشود، وكأنه أحس بما كان ينتظرها، فكتب في ذيل مغناته الأولى "إحسان" بحثًا مسهبًا في تعريف المغناة "الأوبرا" وتاريخها ومدارسها الإيطالية والفرنسية والألمانية، مبينًا أن المدرسة الأولى وحدها هي التي تعوِّل فيها على الموسيقى والغناء، بينما تعترف المدرسة الثانية بالنص الأدبي، وتبالغ الثالثة في الاعتماد عليه وتجعله الأساس.
وقد مضى مهتديًا بالمدرسة الأخيرة في صنع مغنياته، محاولًا أن تكون لها قيمة درامية مستقلة.
ومما لا شك فيه أنه وفق في الوعاء الذي اختاره لمغنياته؛ إذ اتخذ موضوعها من التاريخ تارة ومن الأسطورة تارة ثانية، غير أنه لم يستكمل لها القيمة الدرامية التي كان ينشدها، سواء في بنائها وعناصرها الفنية أو في رسم شخوصها وتوليد حوارها وتتابعه بينهم.
وهو أيضًا لم يستكمل لها القيمة الغنائية الخالصة؛ إذ يقصر شعره عن النهوض بأعباء الغناء والتلحين وما يستلزمان من أناشيد بسيطة عذبة.
وأول ما أخرجه في هذا الاتجاه "مغناة إحسان" -كما قدمنا- وحوادثها تجري في أثناء الحرب المصرية الحبشية التي نشبت في سنة 1876، وكانت إحسان زوجة لابن عم لها ضابط اشترك في تلك الحرب وأظهر بسالة نادرة، غير أنه وقع في الأسر، فأشاع بعض رفاقه أنه مات.
وعاد بعد خمس سنوات ليجد امرأته وقرة عينه قد تزوجت ومرضت، وهي في النزع الأخير، وتراه فيُغشى عليها من الدهشة وتموت.
وأتبع هذه المغناة بمغناته "أردشير وحياة النفوس" اقتبسها من "ألف ليلة وليلة" وهي في أربعة فصول.
وينظم مغناة "الآلهة" وهي مغناة رمزية، يجري فيها حوار بين شاعر فيلسوف وإلهتي الجمال والحب وإلهتي الشهوة والقوة، وهي في حقيقتها حوار خيالي وليست عملًا دراميًّا.
ويعود إلى التاريخ فيؤلف مغناة "الزباء" ملكة تدمر.
وعلى هذا النحو كان أبو شادي غزير الإنتاج في شعرنا المعاصر غزارة مفرطة، ومن المحقق أنه لم تكن تنقصه موهبة الشعر، وأنه كان يستطيع أن ينظم توًّا في أي موضوع يعن له أو يفكر فيه، غير أنه استرسل في ذلك استرسالًا حال في أكثر الأحيان بينه وبين نضوج تجاربه الشعرية، كما حال بين كثير من شعره وبين إرضاء الفن فيه والنهوض بحقه.



الفصل الثالث: أَعلام الشعر 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثالث: أَعلام الشعر Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث: أَعلام الشعر   الفصل الثالث: أَعلام الشعر Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:53 am


9- إبراهيم ناجي 1898-1953م:
أ- حياته:
في "شَبْرَا" أحد أحياء القاهرة وُلد إبراهيم ناجي سنة 1898 لأسرة مصرية مثقفة، وأخذ يختلف -مثل أقرانه- إلى الكُتَّاب، ثم المدرسة الابتدائية، فالمدرسة الثانوية.
ووجد في أبيه الذي كان ينزع إلى قراءة الآثار الأدبية في العربية والإنجليزية موجِّهًا ممتازًا، فقد كانت له مكتبة حافلة بالكتب القيمة في اللغتين، وكان يعرض عليه طرائفهما، ويقرأ معه في كتبهما، فكان يقرأ معه في دواوين الشريف الرضي وشوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم، وكان يقرأ معه آثار الكاتب الإنجليزي ديكنز، ويشرح له ما يغمض عليه من قصصه وأساليبه.
وكان أهم شاعر أُعجب به ناجي في نشأته خليل مطران، وقد تعرف عليه مبكرًا، وكان لذلك أثره في شعره وشاعريته.
ولما أتم دراسته الثانوية التحق بكلية الطب، وتخرج فيها سنة 1923 وهو يحذق الإنجليزية.
وتعلم الفرنسية وأخذ يقرأ في بعض آثارها الأدبية، وعُين طبيبًا بوزارات مختلفة، وكان آخر منصب تولاه إدارة القسم الطبي بوزارة الأوقاف.
وحياته من هذه الجهة كانت حياة هادئة، ليس فيها ما يعكر الصفاء غير أنه كان منهومًا بمتاع الحياة، فعاش مضطربًا قلقًا، لا يستقر على حال.
وفتحت له معرفته باللغتين الإنجليزية والفرنسية نافذتين كبيرتين، وكان شغوفًا بالقراءة، فعبَّ ونهل ما شاء من الآداب الغربية، وخاصة آداب الرومانسيين الذين كانوا يتفقون وهواه وأحلامه بالحب والحياة.
ووسَّع قراءته، فشملت آداب الرمزيين ومن خلفوهم في القرن العشرين من الشعراء، كما شملت علم النفس ونظرياته الحديثة.
ولما أسس الدكتور أحمد زكي أبو شادي جماعة أبولو سنة 1932 اختاره وكيلًا لها، ونهض معه بإخراج مجلة أبولو المعروفة، فكان ينشر فيها أشعاره كما كان ينشر أبحاثه في بعض أدباء الإنجليز، ونقل قصيدة شللي "أغنية الريح الغربية" في شعر عربي مرسل.
وفي سنة 1934 نشر ديوانه "وراء الغمام"، ووالَى من هذا التاريخ أبحاثه في الشعر الغربي الحديث، وكان كثيرًا ما يحاضر في نزعاته الأخيرة بهذا القرن، وكان يعجب أشد الإعجاب بالشاعر الإنجليزي لورانس "د.هـ"، كما كان يعجب بالشاعر الفرنسي بودلير، وطبعت له بعد وفاته دراسة عن هذا الشاعر مصحوبة بترجمة طائفة من قصائده المبثوثة في ديوانه "أزهار الشر".
وأسهم مع إسماعيل أدهم في كتاب "توفيق الحكيم الفنان الحائر".
وشارك في النهوض بمسرحنا، فترجم للفرقة القومية مسرحية "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي، كما ترجم لها المسرحية الإيطالية "الموت في أجازة".
وفي سنة 1944 نشر ديوانه الثاني "ليالي القاهرة".
وفي أثناء ذلك كان يكتب كثيرًا في علم النفس، وله فيه رسالة بعنوان "كيف تفهم الناس"، وأيضًا له كتاب بعنوان "رسالة الحياة"، ضمنه طائفة من خواطره في الأدب والنفس والعقل والحضارة والنقد والشباب.
وترك مخطوطات كثيرة لآثار مترجمة عن شكسبير وغيره، وحاول كتابة القصة بأخرَة.
وكان كثير الاتصال بالناس، مشرق الروح، أنيس المجلس، تحس وأنت تجلس معه كأنه عصفور فزع، فهو كثير التلفت، لا يهدأ له قرار، ولكنه يملأ الجو من حوله مرحًا بفكاهته الخفيفة وعذوبة روحه القلقة.
وأنشأ رابطة الأدباء في سنة 1946، ولما أنشئت جميعة أدباء العروبة اختير وكيلًا لها.
وما زال يشدو بصوته الشجي في الجمعيات والمجالس وعلى واجهات الصحف حتى لبَّى داعي ربه في مارس سنة 1953.
وقد نشرت له دار المعارف بعد وفاته ديوانه الثالث "الطائر الجريح".


ب- شعره:
رأينا ناجيًا يبدأ حياته الأدبية بالتزود من شعر جماعة النهضة، وكان يعجب منهم خاصة بخليل مطران، ويظهر أنه أصيب به في شكل حمى، حتى قيل: إنه كان يحفظ أكثر شعره.
وكان أهم ما يعجبه عنده شعره الوجداني، والتفت من ذلك إلى المعين الغربي الذي ينهل منه مطران، فأقبل على أصحاب المنزع الرومانسي يقرأ في شعرهم وآثارهم وتحمس لهم كما تحمس لأستاذه؛ إذ أعجب إعجابًا شديدًا بمنجهم الذاتي الذي يقوم على تصوير خلجات النفس إزاء الحب والطبيعة دون العناية بحياة المدينة أو حياة الناس من حولهم.
فهم شعراء فرديون، يؤمن كل منهم بنفسه ويصدر عنها في شعره، فالفرد هو كل شيء، وشعره إنما هو تجارب نفسية خاصة به، يصور فيها حبه ومشاعره وخواطره الوجدانية دون أن يحسب للمجتمع أي حساب، فهو ليس تعبير المجتمع؛ وإنما هو تعبير النفس.
وكان خليل مطران يوازن بين التعبير عن النفس والتعبير عن المجتمع، فكان ينظم في الأحداث السياسية رامزًا وغير رامز، وكان ينظم في أحداثه الوجدانية، وكثيرًا ما كان يتخلى عن نفسه وعن المجتمع لينظم في التاريخ.
أما ناجي فقد أسلم زمام شعره لنفسه ولحمى الرومانسيين، وسرعان ما ظهر على شعره "طفح" هذه الحمى.
وأخرج في هذا التعبير أو هذا الاتجاه أول دواوينه "وراء الغمام"، وفيه قصيدتان مترجمتان هما: التذكار لألفريد دي موسيه، والبحيرة للامرتين.
وكأنه يضع في يدنا مفتاح النغم الذي ينصب في ديوانه، فالشاعران من زعماء الرومانسية في فرنسا وشعرهما يفيض بالحب اليائس الحزين، وخاصة دي موسيه الذي لازمه في مغامراته سوء الطالع، والذي يصور في شعره نفسًا مضطربة قلقة، وكأنه يشرب الحياة من كوب ماء مرير.
وعلى هذا النسق فهم ناجي الشعر، فلم يصور عواطف الناس السياسية والوطنية من حوله؛ بل انصرف إلى نفسه يتغنى بحب شقي عاثر، وهو غناء كله ألم وشجن وارتياب وقلق وهم، غناء عاشق، يخفق دائمًا في حبه، ولا يجد في نفسه ولا في يده منه إلا الذكرى الممضة المحرقة، ومن خير ما يصور ذلك قصيدتاه: "الناي المحترق" و"العودة"، وفيها يتغنى بذكرياته الحزينة لمعاهد شبابه، وما كان له فيها من حب ذبل قبل أوانه، على مثل ما نرى في قوله:
رفرف القلب بجنبي كالذبيح ... وأنا أهتف يا قلب اتئد
فيجيب الدمع والماضي الجريح ... لِمَ عدنا؟ ليت أنا لم نعد
لم عدنا؟ أولم نطو الغرام ... وفرغنا من حنين وألم
ورضينا بسكون وسلام ... وانهينا لفراغ كالعدم
موطن الحسن ثوى فيه السأم ... وسرت أنفاسه في جَوِّه
وأناخ الليل فيه وجثم ... وجرت أشباحه في بهوه
والبِلى أبصرته رأى العيان ... ويداه تنسجان العنكبوت
صحت: يا ويحك تبدو في مكان ... كل شيء فيه حي لا يموت
كل شيء من سرور وحزن ... والليالي من بهيج وشَجِي
وأنا أسمع أقدام الزمن ... وخُطى الوحدة فوق الدَّرَج
وهذا النغم الذي يزخر بالألم نجده في كل صفحة من صفحات "وراء الغمام"، فليس فيه تفاؤل وليس فيه فرح بحاضر ولا مستقبل؛ إذ لا يبدو في ظلام حياته خيط من الأمل؛ بل هو دائمًا غارق في لجج من الشقاء والحرمان.
وقد يقف بالطبيعة كما في قصيدته "خواطر الغروب"؛ ولكنه لا يقف بها منفصلة عما في نفسه؛ بل يستغلها لتصوير ما يعتلج في قلبه من مشاعر الأسى والحزن؛ كقوله في القصيدة:
ما تقول الأمواج؟ ما آلم الشمـ ... ـس فولت حزينة صفراء
تركتنا وخلفَتْ ليل شك ... أبديٍّ والظلمة الخرساء
ويخص "الشك" بقصيدة يبكي فيها قرب حبيبه.
فهو يبكي نعيمه كما يبكي شقاءه، إن حياته كلها أنات ودموع، وهو دائمًا يبث عطفه على المرأة، فهي عنده مخلوق نبيل طاهر، وتمثل ذلك أوضح تمثيل قصيدته "قلب راقصة"، وفيها يقص تجربة واقعية له، وكيف أنه دخل أحد المراقص فرأى راقصة يهفو لها قلب الناظرين، وهي ترقص رقصة الذبيح من الألم، والجمهور من حولها يتهلل فرحًا وبشرًا، وما يزال بها حتى يجعلها طاهرة النفس، فقد صهرتها وصفَّتها ناران: نار الصبر ونار الألم:
تمضي وتجهل كيف أكبرها ... إذ تختفي في حالك الظُّلَمِ
روحًــا إذا أثـمـت يطـهِّرها ... نـــاران نار الصبر والألم
وكل هذا شعر ورمانسي خالص، وهو شعر -كما في هذه القصيدة- يصور تجربة حقيقية، ولناجي السبق في هذا الباب؛ إذ أخرج جوانب من شعرنا من الباب القديم باب الرؤية والخيال إلى باب الحقيقة والتجربة الواقعة.
ويتسع هذا الجانب عنده في ديوانه الثاني "ليالي القاهرة" وهو اسم استعاره من "ليالي دي موسيه" المشهورة في الأدب الرومانسي الفرنسي، والتي يصور فيها صاحبها ما ألَمَّ به من آلام الحب، تلك الآلام التي انبعثت من قلبه، وتحولت قصائد رائعة تصور الحب واليأس منه والحسرة والفراغ.
ويبدأ ديوان "ليالي القاهرة" بسبع قصائد تحت هذا العنوان تصور ظلام القاهرة في الحرب العالمية الثانية وما حدث للشاعر فيها من تجارب حب.
ونراه يقول في إحداها وقد سماها "لقاء في الليل":
يا لحظة ما كان أسعدها ... وهناءة ما كان أعظمها
مر الغريب فباعدتْ يدها ... وخلا الطريق فقرَّبت فمها
وهو يصور هنا ما يكون بين العاشقين من عناق الأيدي، وما يعتريهم من الخوف والقلق أن يراهم الناس، وهم لذلك يهابونهم.
ولا تظن أنه يجد في هذا المتاع وما يماثله ما يداوي قلقه المستحوذ على كيانه أو ما يحقق له السعادة المنشودة، فهمومه لا تزال تصيح في قلبه، وقد رسم خطوطها في لوحتين أو قصيدتين كبيرتين هما: "الأطلال" و"السراب".
والأطلال قصة حب عاثر لعاشقين تحابَّا، وتقوض حبهما، فأصبح العاشق أطلال روح وأصبحت عشيقته أطلال جسد، ويصور ناجي وقائع هذا الحب كما حدثت على نحو ما نرى في قوله على لسان العاشق:
يا غرامًا كان مني في دمي ... قدرًا كالموت أو في طعمه
ما قضينا ساعة في عُرْسه ... وقضينا العمر في مأتمه
ما انتزاعي دمعة من عينه ... واغتصابي بسمة من فمه
ليت شعري أين منه مهربي ... أين يمضي هارب من دمه
أما قصيدة السراب، فهي قصيدة الهزيمة في الحب، وهي هزيمة لا حدود لها؛ إذ تشمل كل عَلاقاته الاجتماعية من مودة وصداقة.
وهو يستغل عناصر الطبيعة في هذه القصيدة لتصور أحزانه ومتاعسه من مثل قوله فيها:
عندي سماء شتاء غير ممطرة ... سوداء في جنبات النفس جرداء
خرساء آونة هوجاء آونة ... وليس تخدع ظني وهي خرساء
وكيف تخدعني البيداء غافية ... وللسوافي على البيداء إغفاء
أأنتِ ناديتِ أم صوت يخيل لي ... فلي إليك بأذن الوهم إصغاء
ومن قصائده الطريفة في هذا الديوان قصيدته "رسائل محترقة"، وهو فيها يعاني من حب أخفق فيه، ويشتد به العناء والانفعال، فيهجم على رسائل صاحبته، ويحرقها منشدًا:
أحرقتُها ورميتُ قلـ ... ـبي في صميم ضرامها
وبكى الرماد الآدمـ ... ـي عـلـى رمـاد غرامها
وعلى هذا النحو نمضي في قراءة هذا الديوان، فلا نجد إلا الأنات والصيحات، وهي أنات وصيحات تقترن بإحساس الانعزال في الحياة، وأن الشاعر غريب في دنياه.
وكنا نود لولم يسلك في هذا الديوان كثيرًا من أشعار المناسبات التي اضطرته إليها المجاملات، حتى يكون كامل التعبير عن هذه الشخصية الفذة التي يصرخ الألم والحزن في أعماقها.
ولعل من الغريب أن نجد عنده أحيانًا دعابات مثل قطعته "هجو شاعر"، وهي أيضًا من باب المناسبات، ولا تتصل بالنغم الأساسي للديوان.
ونمضي في ديوانه الثالث "الطائر الجريح" الذي نُشر بعد وفاته، فنجده كديوانيه السابقين يتأوه الطعين، ولا مسعف ولا معين؛ إذ لم يعد له من حبه سوى الألم العميق، وهو يتفجر على لسانه شعرًا حارًّا ملتهبًا، شعرًا يصيح فيه كطائر جريح حقًّا، وقد تغلغلت جراحه إلى الشغاف، وكل ما حوله ينذر بالحزن والهم، يقول في قصيدته "قصة حب":
يا للمقادير الجسام ولي ... من ظلمها صرخات مجنون
باكي الفؤاد مشرَّد الأمل ... وقف الزمان وبابه دوني
لقد سُدَّت أمامه جميع أبواب الأمل في استعادة حبه، ولم يبقَ له منه إلا صرخات وإلا ذكريات كأنها حديث خرافة، أو كأنها أضغاث أحلام، يقول في "بقية القصة":
حلم كما لمع الشهاب توارى ... سدلت عليه يد الزمان ستارا
وحبيس شجو في دمي أطقلته ... متدفقًا ودعوته أشعارا
فقد ولَّى حبه أو حلمه، ولم يعد له منه إلا أشباح الهجر وأطياف الحرمان تمر به مواكبها صاخبة، وقد مدت من حوله قضبان سجن مظلم يشكو فيه غربته ووَحْدَته وحبه الشقي التعس، واقرأ قصائده: "بقايا حلم" و"في ظلال الصمت" و"ظلام" و"الطائر الجريح" فستراه يصور لك لوعته في هذا الحب؛ بل احتراقه في لهيبه كفراشة، يقول في القصيدة الأخيرة:
إني امرؤ عشت زما ... ني حائرًا معذَّبا
فراشة حائمة ... على الجمال والصبا
تعرَّضت فاحترقت ... أغنية على الرُّبَى
تناثرت وبعثرت ... رمادها ريح الصبا
وتلك صورة ناجي وحبه في دواوينه جميعًا، فهو فراشة تحوم دائمًا على مصباح الهوى، ولا تلبث أن تتلظى بنيرانه، وتحيل ألمها بهذا اللظى؛ بل احتراقها فيه، شعرًا يأخذ بمجامع القلوب؛ لصدقه وحرارته وقوة تأثيره.
وواضح من أكثر ما أنشدناه من أشعاره أنه كان يُعْنَى في شعره بالتجديد في عروضه، فأكثر من الرباعيات على طريقة عمر الخيام؛ ولكن هذا التجديد ليس شيئًا بالقياس إلى تجديده في مضمونه وما أذاع فيه من مشاعره وأحاسيسه إزاء حبه التعس المحروم.



الفصل الثالث: أَعلام الشعر 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الفصل الثالث: أَعلام الشعر Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثالث: أَعلام الشعر   الفصل الثالث: أَعلام الشعر Emptyالإثنين 29 أبريل 2024, 1:54 am


10- علي محمود طه 1902-1949م:
أ- حياته:
في بلدة المنصورة المطلة على فرع دمياط بشمال الدلتا وُلد علي محمود طه سنة 1902 لأسرة متوسطة على حظ من الثقافة.
وأرسله أبوه إلى "الكُتَّاب" فالمدرسة الابتدائية.
وهنا نراه يحاول اختصار الطريق فلا يدخل التعليم الثانوي؛ بل يلتحق بمدرسة الفنون التطبيقية ويتخرج فيها سنة 1924، ويعين بهندسة المباني في بلدته.
وربما كانت النزعة الفنية هي التي جعلته يختصر طريق تعليمه، فعاش من أول الأمر لشعره الذي كان ينظمه في أثناء تعلمه، واختار لنفسه حياة هيِّنة ليس فيها مشقة في التثقيف والتحصيل، وكأنه لم يكن ينزع به في أول حياته أمل كبير.
وكان أهله على شيء من الثراء، فلم يحس بشظف الحياة وما يكون فيها من حرمان وشقاء؛ بل لكأني به دُلِّل طفلًا، وظلت آثار هذا الدلال فيه رجلًا، فهو لا يعرف من الحياة إلا الهناءة والرغد.
ومكث طويلًا في وظيفته وفي بلدته يتنقل في محيطها وفي البلاد المجاورة لها وخاصة دمياط؛ فقد كان كثير النزول بها وببلدة "السنانية" التي تقابلها، وهي بستان كبير يمتد إلى مصيف رأس البر، وتقابلها على الضفة اليمنى للنيل بحيرة المنزلة.
وكل هذه الأماكن مصورة في ديوانه الأول "الملاح التائه".
وقد أخذ يسعى للتعرف على الأدب الفرنسي والاطلاع على روائعه وآثاره، ونراه يراسل مجلتي أبولو والرسالة.
ويحاول أن يتصل بالنهضة الأدبية في القاهرة منذ سنة 1933، فترحِّب به دوائر الأدباء.
وفي ديوان "ليالي الملاح التائه" ما يدل على أنه زار إيطاليا في سنة 1938، وأخذ منذ هذا التاريخ يتردد على سويسرا والنمسا وأواسط أوربا، وكان لذلك أثره في شعره؛ إذ وصف كثيرًا من المشاهد التي رآها هناك.
ويترك وظيفته في وزارة الأشغال ليعمل مدير الْمَعْرِض الخاص بوزارة التجارة، ثم يعين مديرًا لمكتب الوزير، ثم يلحق بسكرتارية مجلس النواب، ويقيم في هذه الفترة بالقاهرة، ويغرق إلى أذنه في مباهج الحياة.
ويكثر من الرحلات الصيفية إلى أوربا.
ويخرج مع استقالة الوزارة الوفدية من الحكومة.
ويعين في سنة 1949 وكيلًا لدار الكتب ولكن القدر لم يمهله، فلبى نداء ربه في نفس العام مبكيًّا عليه من أصدقائه وعارفيه؛ إذ كانت فيه نواحٍ إنسانية تستحق التقدير، وطالما أعان إخوانه وزملاءه من الأدباء، وكان بيته منتدًى حقيقيًّا لصحبه، وحوَّله إلى ما يشبه متحفًا فنيًّا؛ إذ ملأه باللوحات الباهرة.
ومما يؤثر له أنه أهدى مكتبته قبل وفاته إلى مكتبة بلدته "المنصورة"، ولعل في هذا ما يدل على ضرب من الوفاء لقديمه وذكرياته.


ب- شعره:
يتبين مما قدمناه من حياة علي محمود طه أنه نشأ في إحدى بلدان الوادي الجميلة، وتيقظت مواهبه الشعرية في وقت مبكر، إلا أنها لم تتغذَّ تغذية كاملة بأصول الشعر العربي، وأكبر الظن أن قراءاته في هذا الشعر لم تكن تتجاوز دواوين حافظ وشوقي ومطران إلا في القليل النادر، فقد كان يقرأ أحيانًا في البحتري وغيره من شعراء العصر العباسي.
وقراءاته في الآداب الغربية لم تكن واسعة؛ إذ لم تتح له ثقافة عالية، ومع ذلك تعلم بنفسه اللغة الفرنسية، إلا أنه لم يتقنها؛ إنما كان يتقن الإنجليزية، وهو على كل حال لم يكن واسع الثقافة بآثار الغربيين، وإن كان قد حاول أن يتأثرهم.
وكان أهم من أعجب به "لامرتين" وأضرابه من شعراء الرومانسية.
وقرأ أو عرف أشياء مختلفة عن أصحاب الرمزية الفرنسية مثل: "بودلير" و"فرلين".
ومن هذا كله تتكوَّن شخصيته الأدبية، وهي شخصية ترجع في جوهرها إلى ملكاته أكثر مما ترجع إلى قراءاته، وكان يقرأ كثيرًا في أدباء شعراء المهاجر، وهم يتأثرون تأثرًا عميقًا بالنزعة الرومانسية الغربية، كما كان يقرأ كثيرًا في مجلة أبولو وما بها من أبحاث أدبية.
ومع هذه القراءات غير المتعمقة هنا وهناك لم تنكسر نفسه؛ إذ كان يؤمن بشخصيته وأتاح له هذا الإيمان أن يحتل مكانة بارزة في صفوف الشعراء الذين عاصروه؛ إذ استطاع أن يكوِّن لنفسه أسلوبًا شعريًّا براقًا.
وهو من هذه الناحية أكثر شعرائنا بعد شوقي توفيقًا في صياغته الشعرية، وكأنما كانت لديه خبرة تمكِّنه من أن يقتنص الكلمات الشعرية في القصيدة التي يصنعها، فإذا هي كعقد من الجواهر تتألق فيه حَبَّاته.
ويظهر أنه عرف عن شعراء الرمزية
أنهم يعنون عناية شديدة بموسيقاهم، فاستقر ذلك في نفسه، وصدر عنه في شعره؛ ولكن لا تظن أنه نظم قصائد رمزية يجاري بها أصحاب هذا المذهب في شعرهم المجنح الغامض.
وليس من شك في أنه فهم المذهب الرومانسي بخير مما فهم المذهب الرمزي؛ لوضوحه وعدم غموضه والتوائه؛ ولكنه على كل حال أفاد من المذهب الرمزي هذه العناية الشديدة بموسيقاه وبالكلمات الشعرية، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه وقع فريسة لهذه الكلمات، فقد استولت عليه بتموجاتها المختلفة وما ترسله من إشعاعات.
وشعر كأن هذه كل مهمته، فما عليه إلا أن يطلق هذه الكلمات في تجربة تسمى قصيدة، فإذا هي كالشِّباك السحرية تصيد له المعجبين من كل مكان.
وقد يكون السبب في ذلك ضعف ثقافته الفكرية، فحاول ملء هذا الفراغ بطنين ألفاظه الخلابة التي تستهوي قارئه برنينها، وتؤثر على حواسه بإيقاعاتها.
وهذه هي أروع خصائصه، فهو يؤلف القصيدة وكأنه يؤلف جوقات موسيقية، وهي جوقات لفظية، ليس فيها فكر عميق ولا استبطان في الإحساس؛ وإنما فيها هذا الشرر اللفظي الذي يجعل أشعاره -بل ألفاظه- تتوهج توهجًا.
وأول دواوينه التي نشرها "الملاح التائه"، وهو يصور منزعه الرومانسي، فأكثره في الحب والطبيعة، وقد ترجم فيه قصيدة البحيرة للامرتين أحد أصحاب هذا المنزع المشهورين في فرنسا، ووضع في مقدمة قصيدة له تسمى "الله والشاعر" عبارة من عباراته يناجي فيها ربه، وهو بذلك يضع في يدنا الدليل المادي على تأثره بنزعة لامرتين وشعره في الطبيعة والحب.
ويُكثر في هذا الديوان من ذكريات الشباب وتأثره بالطبيعة في دمياط وببلدة السنانية وجمال مشاهداته في بحيرة المنزلة وما رآه هناك من العراك بين البر والبحر، ومن خير قصائده في ذلك "على الصخرة البيضاء"، وهو في كل قصيدة يذيع حيرة حُلوة، فهو تائه في الكون ضال في مجالي الطبيعة. وعلى الرغم من بساطة تأملاته ووضوح أفكاره -فوجهها دائمًا مكشوف- نجد عنده جمال الأسلوب الشعري المصفى، حتى لكأنه ناي يصدح أو قيثارة تشدو وتغني.
وهو لا يهدف إلى رسم صورة الطبيعة أو الريف المصري من حيث هو؛ إنما يهدف إلى وصف شعوره وحسه وحيرته في الحياة، مازجًا ذلك في أغلب الأحيان بحبه.
وربما كانت أجمل قصائده في هذا الديوان قصيدته "غرفة الشاعر"، وهو يستهلها على هذا النمط:
أيها الشاعر الكئيب مضى الليـ ... ـل وما زلتَ غارقًا في شجونك
مسلما رأسك الحزين إلى الفكـ ... ـر وللسُّهْد ذابلات جفونك
ويد تمسك اليراع وأخرى ... في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم ناضب به حر أنفا ... سك يطغى على ضعيف أنينك
ومضى يصور سراجه الشاحب وعبء عبقريته الشاعرة وما يتردد في نفسه من حزن لعدم تقدير مواطنيه له.
ونشر بعد هذا الديوان "ليالي الملاح التائه" بنفس الروح وبنفس الشخصية، وهو يستهله بأغنية "الجندول" التي تَذيع في عصرنا على كل لسان، فقد غناها عبد الوهاب.
وهي من خير الأمثلة التي تدل على مهارته في استخدام الألفاظ الشعرية، فإنك إذا حللتها لم تجد فيها فكرًا عميقًا ولا واسعًا؛ وإنما تجد الألفاظ البراقة التي تروعك وتأسر لُبَّك.
والقصيدة في وصف "كرنفال فينسيا"؛ إذ يحتفل أهلها بعيد سنوي لهم ينطلقون فيه بشوارعها المائية في سفن، يسمون واحدتها "الجندول" فيغنون ويمرحون.
وفي هذا الديوان قصيدة أخرى في بحيرة "كومو" الإيطالية وقصيدة في "خمرة نهر الرين".
وجميعها قصائد أوحتها زياراته لأوربا ومواطن الجمال في بلدانها المختلفة.
ومن أروع قصائده في هذا الديوان "الموسيقية العمياء".
وهي فتاة رآها بمطعم في القاهرة على رأس إحدى الفرق الموسيقية، فأثَّر فقد بصرها في نفسه تأثيرًا عميقًا، صوره في تلك القصيدة تصويرًا رائعًا.
ونظم قصيدة سماها "سيرانادا مصرية" والسيرانادا عند الأوربيين أغنية يشدو بها العشاق على الناي تحت نوافذ معشوقاتهم، وهو يستهلها بقوله:
دنا الليل فهيا الآ ... ن يـا ربـــة أحلامي
دعانا ملك الحب ... إلى محرابه السامي
تعالَيْ فالدجى وحي ... أناشيد وأنغام
وفي سنة 1941 أخرج كتابه "أرواح شاردة"، وأكثره مقالات عن الأدب الإنجليزي والفرنسي، وقد تحدث فيه عن "فرلين" و"بودلير" الشاعرين الفرنسيين، وترجم قصائد مختلفة لشعراء إنجليز وفرنسيين، وألحق بذلك قصيدة له في دخول الألمان باريس.
وتأليفه لهذا الكتاب غريب؛ ولكن يظهر أنه أراد أن يرد به على مَن يتهمونه بقصور ثقافته بالآداب الغربية.
ونراه في سنة 1942 يحاول محاولة جديدة في قصيدته الطويلة "أرواح وأشباح"، وهي حوار شعري فلسفي بين شخصيات استمدها من الأساطير الإغريقية وقصص التوراة، مصورًا خلاله ما انبث من صراع عنيف الأرواح والأشباح أو الأجساد منذ هبط دم ابن الطين من السماء يحمل قبس الروح، وهو صراع بين غرائز الطين ومواجد الإنسان الروحية السامية.
وأكبر عيب في القصيدة يجثم في شخصياتها الأسطورية الإغريقية، فإنه لم يدرسها حق الدرس، ومن ثم بدت مخالفة في كثير من حقائقها لنسيجها الأسطوري القديم.
وأخرج بعد ذلك في سنة 1943 ديوانه "زهر وخمر"، وهو يصور نزعته الإبيقورية التي غمس فيها حياته، وهي ليست نزعة حادة ولا جامحة؛ وإنما هي نزعة مرحة يقبل فيها على كئوس اللذة والمتعة دون تمادٍ في تصوير الغرائز الجسدية، ونراه يفتتحه بقصيدته "ليالي كليوباترا" التي غناها عبد الوهاب، وهي مثل "الجندول" تزخر بالأشراك اللفظية، وقلما نجد فيها فكرًا عميقًا؛ وإنما نجد كليوباترا في زورق بين ضفاف النيل، وفي جوانحها هذا الحب المحموم وتلك الحواس الملتهبة للعشق، ثم جوقات موسيقية متراصة الألفاظ بدون أن يصور الشاعر إحساسًا عميقًا أو فكرًا بعيدًا، فكل همه أن يجمع كلمات متموجة، تنشر بموسيقاها ما يريد من تأثير في نفوس السامعين.
ومن خير قصائده في هذا الديوان "حانة الشعراء"، وهو يستهلها على هذا النحو:
هي حانة شتى عجائبها ... معروشة بالزهر والقصب
في ظُلَّة بـاتـت تـداعبها ... أنفاس ليل مقـمـر السحب
وله قصيدة بديعة في طارق بن زياد فاتح الأندلس سماها "من قارة إلى قارة"، وقد صور فيها طموح هذا الفاتح العربي وظفره العظيم.
ونراه ينشر "أغنية الرياح الأربع" وهي أغنية فرعونية اكتشفها "دريتون" عام 1942 وترجمها إلى الفرنسية، فحاول علي محمود طه أن ينقلها إلى العربية في شعره الموسيقي الجميل، محاولًا أن يجعل منها عملًا تمثيليًّا؛ ومن ثم جعل لها بدءًا ونهاية كما جعلها تدور في شكل حوار بين أشخاص مختلفين تتخلله أجزاء من الغناء.
ومن الحق أنه لم يستطع أن يحورها إلى مسرحية كاملة؛ إذ كان شاعرًا غنائيًّا ولم يكن شاعرًا مسرحيًّا؛ ومن ثم كان شعره لا يصلح للتمثيل؛ بسبب ما فيه من وفرة الموسيقى والغناء.
ويعود إلى مجاله الغنائي، فينشر في سنة 1945 ديوانه "الشوق العائد"، وفيه يتحدث عن بعض ذكرياته لرحلاته إلى أوربا قبل الحرب العالمية الثانية، ويخص جزيرة كابري في إيطاليا ويسميها جزيرة العشاق بقصيدة طريفة، كما يخص برلين التي نزل بها في سنة 1939 بقصيدة أخرى يسميها "بين الحب والحرب"، وفيها يأمل في غد مرتقب يحقق حلمه وحبه، ويخص موسوليني حين سقط بقصيدة طويلة.
وأكثر شعره في هذا الديوان يصور روحه الإبيقورية المرحة، وكيف كان يقبل على متع الحياة وملذاتها، وهو القائل في أولى قصائده به:
حياتي قصة بدأت بكأس ... لها غنَّيْتُ وامرأة جميله
وآخر دواوينه "شرق وغرب" الذي نشره في سنة 1947، وهو كما يبدو من عنوانه موزع على الغرب والشرق.
أما قسمه الغربي فنراه فيه يصدر عن نزعته الإبيقورية متحدثًا عن ذكرياته في أثناء رحلاته بأوربا.
وقد استهله بقصيدة رائعة قالها على أثر احتفال بذكرى فاجنر الموسيقار المشهور، شاهده في سويسرا.
وكان قد تعرف في هذا الاحتفال على فتاة، قضى معها بعض نزهاته، فأثارت شاعريته، واندفع يتغنى بهذه القصيدة وبأختٍ تالية لها، وهما من أروع شعره؛ لما بث فيهما من لظى ولواعج فؤاده.
أما القسم الشرقي، فقد خصه بأحداث الشرق السياسية والقضايا الوطنية والعربية الإسلامية.
وكان قبل هذا الديوان يلم أحيانًا بعيد الهجرة أو بالعرب كما في قصيدة طارق؛ ولكنه لم يوسع هاتين النغمتين الإسلامية والعربية، فقد كان مشغولًا بنفسه وبحبه وما يرى في الطبيعة المصرية والغربية من فتنة وجمال.
أما في هذا الديوان فقد نزع إلى التخلص قليلًا من إحساساته وعواطفه؛ ليتحدث عن الوطن والجماعة العربية والإسلامية.
وله في فلسطين وفوزي القاووقجي وعبد الكريم بطل المغرب وأندونيسيا شعر كثير.
ومن أجمل قصائده "مصر"، وفيها يصور فساد الأحزاب السياسية وشيوخها القائمين عليها، كما نرى في قوله:
أحقا ما يقال؟ شيوخ جيل ... على أحقادهم فيه أكبوا
وكانوا الأمس أرسخ من جبال ... إذا ما زُلزلزت قمم وهُضْب
فما لهم وهت منهم حلوم ... لها بيد الهوى دفع وجذب
ونظن ظنًّا لو أن القدر مد في حياته لتحول تمامًا من صوته الأول الشخصي إلى هذا الصوت العام الذي يتغنى فيه أهواءنا وعواطفنا السياسية.
ومن قصائده الذائعة في هذا المضمار قصيدته "نداء الفداء" التي يستصرخ فيها العرب لنجدة فلسطين:
أخي! جاوز الظالمون المدى ... فحَقَّ الجهادُ وحق الفدا
وقد غناها عبد الوهاب، وهي تدور اليوم على كل لسان.
ولم نستشهد بقطع طويلة من شعره؛ ليتضح تجديده في الأوزان والقوافي، فقد كان يكثر من الرباعيات، وقصيدته الجندول مثال بيِّن لاستخدامه "فن الموشحات".
ومن الواجب أن نشير إلى أن مثله مثل ناجي، كان يفهم وَحْدَة القصيدة، وأنها بناء متناسق، لا نشاز فيه ولا اضطراب.



الفصل الثالث: أَعلام الشعر 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الفصل الثالث: أَعلام الشعر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الفصل الثاني: الشعر وتطوره
» الفصل الثالث
» الفصل الثالث
» الفصل الثالث
»  الفصل الثالث

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: الأدب العربي المعاصر-
انتقل الى: