| الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| |
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره الجمعة 10 مارس 2023, 6:06 pm | |
| البدايات الأولى الاستشراق: هـو علم الشرق أو علم العالم الشرقي [1]. وكلمة مستشرق بالمعنى العام تطلق على: كل عالم غربي يشتغل بدراسة الشرق كله؛ أقصاه ووسطه وأدناه، في لغاته وآدابه وحضارته وأديانه.
ولكننا هـنا لا نقصد هـذا المفهوم الواسع، ولا يعنينا هـنا أن نتعرض لبحثه، كما لا يعنينا أيضاً أن نتعرض للتغيرات الجغرافية والحضارية التي طرأت على مفهوم الشرق في مختلف العصور، وإنما كل ما يعنينا هـنا المعنى الخاص لمفهوم الاستشراق؛ الذي يعني الدراسات الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته بوجه عام.
وهذا المعنى هـو الذي ينصرف إليه الذهن في عالمنا العربي الإسلامي عندما يطلق لفظ: استشراق، أو مستشرق، وهو الشائع أيضاً في كتابات المستشرقين المعنيين.
ومن الصعب تحديد تاريخ معين لبداية الاستشراق، وإن كان بعض [ص: 18] الباحثين يشير إلى أن الغرب النصراني يؤرخ لبدء وجود (الاستشراق الرسمي) بصدور قرار مجمع (فيينا) الكنسي في 1312م بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية [2].
ولكن الإشارة هـنا إلى (الاستشراق الكنسي) تدل على أنه كان هـناك استشراق غير رسمي قبل هـذا التاريخ، فضلا عن أن هـناك باحثين أوروبيين -كما سنذكر فيما يلي- لا يعتمدون التاريخ المشار إليه بداية للاستشراق.ولذلك تتجه المحاولات في هـذا الصدد لا إلى تحديد سنة معينة لبداية الاستشراق وإنما إلى تحديد فترة زمنية معينة على وجه التقريب يمكن أن تعد بداية للاستشراق.
وليس هـناك شك في أن الانتشار السريع للإسلام في المشرق والمغرب قد لفت بقوة أنظار رجالات اللاهوت النصراني إلى هـذا الدين، ومن هـنا بدأ اهتمامهم بالإسلام ودراسته، ومن بين العلماء النصارى الذين أظهروا في وقت مبكر اهتماما بدراسة الإسلام -لا من أجل اعتناقه، وإنما من أجل حماية إخوانهم النصارى منه- كان العالم النصران يوحنا الدمشقي (676 - 749 م).
ومن بين مصنفاته في هـذا الصدد لإخوانه في الدين كتاب: (محاورة مع مسلم)، وكتاب: (إرشادات النصارى في جدل المسلمين) [3].
ولكننا لا نستطيع أن نعد مثل هـذه المحاولات بداية للاستشراق؛ فيوحنا الدمشقي كان رجلا شرقيا عاش في ظل الدولة الأموية وخدم في القصر الأموي، ولهذا سنصرف النظر عن مثل هـذه المحاولات من جانب النصارى الشرقيين، ونقصر حديثنا على العلماء الغربيين.
وهنا نجد أيضاً أنه ليس هـناك اتفاق على فترة زمنية معينة لبداية الاستشراق.
فبعض الباحثين يذهب إلى القول بأن البدايات الأولى [ص: 19] للاستشراق ترجع إلى مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، بينما يرى (رودي بارت [4] Rudi Paret) أن بدايات الدراسات الإسلامية والعربية في أوروبا تعود إلى القرن الثاني عشر، الذي تمت فيه لأول مرة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، كما ظهر أيضاً في القرن نفسه أول قاموس لاتيني عربي [5].
وما ذهب إليه بارت في هـذا الصدد سبق أن عبرعنه كتاب المستشرق جوستاف دوجا (تاريخ المستشرقين في أوروبا من القرن الثاني عشر حتى القرن التاسع عشر).
الذي صدر في باريس في نهاية الستينات من القرن الماضي، وهناك من الباحثين من يجعل بداية الاستشراق قبل ذلك بقرنين؛ أي في: القرن العاشر الميلادي.
ولعل هـذا هـو السبب الذي أدي بنجيب العقيقي إلى أن يجعل كتابه عن المستشرقين -في أجزائه الثلاثة- سجلا للاستشراق على مدى ألف عام، بدءا من الراهب الفرنسي جرير دي أو رالياك (940 - 1003 م) الذي قصد الأندلس، وتتلمذ على أساتذتها في أشبيلية وقرطبة حتى أصبح أوسع علماء عصره في أوروبا ثقافة بالعربية والرياضيات والفلك، ثم تقلد فيما بعد منصب البابوية في روما باسم سلفستر الثاني (999 - 1003) [6].
وعلى الرغم من أن الاستشراق -بناء على ذلك- يمتد جذوره إلى ما يقرب من ألف عام مضت فأن مفهوم (مستشرق) Orientalist لم يظهر في أوروبا إلا في نهاية القرن الثامن عشر.
فقد ظهر أولا في إنجلترا عام 1779م، وفي فرنسا عام 1799م، وأدرج مفهوم (الاستشراق) Orientalism في قاموس [ص: 20] الأكاديمية الفرنسية عام 1838م [7].
ولكن المهم هـنا ليس هـو متى ظهر مفهوم (مستشرق) أو (استشراق)؟ وإنما المهم هـو متى بدأت الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا؟ ومتى بدأ الاشتغال بالإسلام والحضارة الإسلامية؛ سواء بالقبول أو بالرفض؟ وهذا أمر موغل في القدم -كما رأينا- أما المصطلح ذاته فلا يعني شيئا أكثر من إقرار أمر واقع، وإطلاق وصف على الدراسات التي كانت قائمة بالفعل قبل ذلك بقرون عديدة، بصرف النظر عن مدى علمية هـذه الدراسات أو موضوعيتها، فهذه مسألة أخرى قابلة للنقاش حتى فيما يتعلق بالدراسات الاستشراقية في العصر الحاضر.
وعلى أية حال فإن الدافع لهذه البدايات المبكرة للاستشراق كان يتمثل في ذلك الصراع الذي دار بين العالمين الإسلامي والنصراني في الأندلس وصقلية، كما دفعت الحروب الصليبية بصفة خاصة إلى اشتغال الأوروبيين بتعاليم الإسلام وعاداته.
ولهذا يمكن القول بأن تاريخ الاستشراق في مراحله الأولى هـو تاريخ للصراع بين العالم النصراني الغربي في القرون الوسطى والشرق الإسلامي على الصعيدين الديني والأيديولوجي [8].
فقد كان الإسلام كما يقول (ساذرن Southern): يمثل مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم النصراني في أوروبا على المستويات كافة.
باعتباره مشكلة عملية استدعى الأمر اتخاذ إجراءات معينة كالصليبية والدعوة إلى النصرانية والتبادل التجاري، وباعتباره مشكلة لاهوتية، تطلب بإلحاح العديد من الإجابات على العديد من الأسئلة في هـذا الصدد، وذلك [ص: 21] يقتضي معرفة الحقائق التي لم يكن من السهل معرفتها.
وهنا ظهرت مشكلة تاريخية صار من المُتعذَّر حلها، كما ندر إمكانية تناولها دون معرفة أدبية ولغوية يصعب اكتسابها، وصارت المشكلة أكثر تعقيدا بسبب السرية والتعصب، والرغبة القوية في عدم معرفتها خشية الدنس [9].
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره الجمعة 10 مارس 2023, 6:07 pm | |
| اتجاهان مختلفان وقد نشط اللاهوتيون النصارى في ذلك الوقت المبكر ضد الإسلام، وراحوا ينشرون الافتراءات والأكاذيب حول الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، وزعموا فيما زعموا أن الإسلام قوة خبيثة شريرة، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس إلا صنما أو إله قبيلة أو شيطانا.
وغزت الأساطير الشعبية والخرافات خيال الكتاب اللاتينيين.
ولم يكن الهدف بطبيعة الحال هـو عرض صورة موضوعية عن الإسلام، فقد كان هـذا أبعد ما يكون عن أذهان المؤلفين في ذلك الزمان.
وهناك في هـذا الصدد حكايات في وصف الإسلام مغرقة في الخيال وفي الضلال، اخترعها خيال الكتاب في ذلك العصر مثل أنشودة رولاند الشهيرة The Song of Roland، وغيرها من آثار أدبية تصف المسلمين بأنهم عباد أصنام، أو أنهم يعبدون آلهة ثلاثة هـي (تيرفاجان Tervagan)، و (محمد، وأبو للو).
وقد اعترف أعلم المؤلفين المسئولين عن هـذا الأدب وهو (جيبير النوجنتي Guibert de Nogent) [ت 1124م] بأنه لا يعتمد في كتاباته عن الإسلام على أية مصادر مكتوبة، وأشار فقط إلى آراء العامة، وأنه لا يوجد لديه أية وسيلة للتمييز بين الخطأ والصواب، ثم قال مبررا كتاباته غير العلمية عن الإسلام ونبيه: [ص: 22]
(لا جناح على المرء إذا ذكر بالسوء من يفوق خبثه كل سوء يمكن أن يتصوره المرء).
وقد أطلق ساذرن على هـذه الفترة في كتابه: (نظرة الغرب إلى الإسلام في القرون الوسطى) عنوان: (عصر الجهالة).
وهو عصر كان أبعد ما يكون عن روح العلم والموضوعية، وفي ذلك يقول ساذرن: (على أن الشيء الوحيد الذي يجب أن لا نتوقع وجوده في تلك العصور هـو الروح المتحررة الأكاديمية، أو البحث الإنساني الذي تميز به الكثير من البحوث التي تناولت الإسلام في المائة سنة الأخيرة) [1].
وفي مقابل تلك الصورة البغيضة للإسلام كانت هـناك جهود أخرى للوصول إلى معرفة موضوعية في مجال العلوم العربية مثل الفلسفة والطلب والعلوم الطبيعية، يقول مكسيم رودنسون عن تلك الفترة: (ولا يصادف المرء موقفا موضوعيا في مجال مختلف تماما لا يمت إلى الدين الإسلامي إلا بصلة بعيدة، وأعني العلم بأوسع معانيه) [2].
وقد أخطأ (رودنسون) هـنا في جعله العلم لا يمت إلى الإسلام إلا بصلة بعيدة؛ فقد كان الإسلام في حقيقة الأمر وراء كل إنجاز علمي حققه المسلمون في مختلف المجالات. [ص: 23]
وبدءا من عام 1130م كان العلماء النصارى في أوروبا يعملون جاهدين على ترجمة الكتب العربية في الفلسفة والعلوم، وكان لرئيس أساقفة طليطلة وغيره الفضل في إخراج ترجمات مبكرة لبعض الكتب العلمية العربية، بعد الاقتناع بأن العرب يملكون مفاتيح قدر عظيم من تراث العالم الكلاسيكي.
وهذه الحركة التي قامت في أوروبا لترجمة العلوم العربية إلى اللاتينية تشبه تلك الحركة التي قامت في العالم الإسلامي في عهد المأمون ومن سبقه لترجمة العلوم اليونانية وغيرها إلى العربية.
وتخدم أيضاً الأغراض نفسها التي قامت من أجلها الترجمة في العالم الإسلامي، والتي تتمثل في نشر العلم ورفع المستوى الثقافي من أجل خدمة الحياة الإنسانية وبناء الحضارة.
ولكن هـذا الاتصال العلمي العميق بحضارة الإسلام لم يكن له تأثير في تغيير النظرة الغربية للصورة العقيدية أو الإلهية أو التاريخية للإسلام.
وقد كانت هـناك في القرن الثاني عشر أيضاً بعض المحاولات للتعرف على الإسلام بقدر من الموضوعية، ولكن مع الهدف الواضح والمعلن وهو محاربة هـذه التعاليم الإسلامية (الإلحادية) ومن أجل ذلك قام بطرس الموقر [ت 1156م] رئيس رهبان كلوني بتشكيل جماعة المترجمين في إسبانيا، يعملون كفريق واحد من أجل الحصول على معرفة علمية موضوعية عن الدين الإسلامي، وقد كان بطرس الموقر وراء ظهور أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية في عام 1143م، تلك الترجمة التي قام بها العالم الإنجليزي (رو برت أوف كيتون Robert of KettoK) [3].
وقد حاول بطرس الموقر -الذي كان يعتبر الإسلام هـرطقة نصرانية- أن يجد مبررات للجهود التي يقوم بها في مجال الترجمة من أجل التعرف على الإسلام؛ حتى يحظى هـذا العمل بالقبول لدى إخوانه النصارى فقال: [ص: 24]
"إذا كان هـذا العمل يبدو من النوافل الزائدة؛ لأن العدو ليس عرضة للهجوم بمثل هـذا السلاح، فإني أرد بأن في بلاد ملك عظيم تكون بعض الأشياء للدفاع وبعضها للزينة وبعضها لكليهما معا.
إن سليمان المسالم صنع الأسلحة للدفاع، ولو أنها لم تكن ضرورية في زمانه، وداود صنع الزينات للهيكل، ولو أنه لم تكن هـناك وسائل لاستعمالها في عصره [4].
وكذلك الحال مع هـذا العمل، فإذا لم يكن بالإمكان تنصير المسلمين به، فمن حق العالم على الأقل أن يساند إخوانه الضعفاء في الكنيسة الذين يسهل افتضاحهم بأشياء صغيرة" [5].
ولم تجد (الموضوعية) التي كان يبحث عنها بطرق الموقر تجاوبا في ذلك الزمان، على الرغم من أنها لم تكن موضوعية بالمعنى الصحيح.
وإنما يمكن أن تعد (موضوعية موجهة) إن صح التعبير.
يقول (رودي بارت): (حقيقة أن العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتصلون بالمصادر الأولى في تعرفهم على الإسلام، وكانوا يتصلون بها على نطاق أوسع، ولكن كل محاولة لتقييم المصادر على نحو موضوعي نوعا ما كانت تصطدم بحكم سابق يتمثل في أن هـذا الدين المعادي للنصرانية لا يمكن أن يكون فيه خير.
وهكذا كان الناس لا يولون تصديقهم إلا لتلك المعلومات التي تتفق مع هـذا الرأي المتخذ من قبل، وكانوا يتلقفون بينهم كل الأخبار التي تلوح لهم مسيئة إلى النبي العربي وإلى دين الإسلام) [6]. [ص: 25] ويمكن القول بصفة عامة بأنه قد كان هـناك في هـذه الفترة المبكرة للاستشراق اتجاهان مختلفان فيما يتعلق بالأهداف والمواقف إزاء الإسلام:
أمَّا الاتجاه الأول: فقد كان اتجاها لاهوتيا متطرفا في جدله العقيم، ناظرا إلى الإسلام من خلال ضباب كثيف من الخرافات والأساطير الشعبية.
أمَّا الاتجاه الثاني: فقد كان نسبيا بالمقارنة إلى الاتجاه الأول أقرب إلى الموضوعية والعلمية، ونظر إلى الإسلام بوصفه مهد العلوم الطبيعية والطب والفلسفة.
ولكن الاتجاه الخرافي ظل حيا حتى القرن السابع عشر وما بعده [7].
ولا يزال هـذا الاتجاه للأسف حيا في العصر الحاضر في كتابات بعض المستشرقين عن الإسلام ونبيه.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره الجمعة 10 مارس 2023, 6:08 pm | |
| الثقافة العربية في قصر الإمبراطور وبين حين وآخر كانت تظهر هـناك بعض شخصيات أوروبية مستنيرة لها وزنها تتخذ إزاء الإسلام بعض المواقف الإيجابية.
ومن بين هـؤلاء القلائل الذين كانوا يتبنون إزاء الإسلام موقفا أقرب إلى الاعتدال نجد فريدريك الثاني حاكم صقلية، الذي أصبح إمبراطورا لألمانيا عام 1215م.
وقد كان فريدريك هـذا يعرف العربية، ويتشبه بالعرب في لباسهم وعاداتهم، ويتحمس للفلسفة والعلوم العربية.
وقد كانت هـذه العلوم تدرس بشغف في قصره في (بالرمو) وبذلك أصبحت في متناول اللاتينيين.
وقد أهدى هـذا الإمبراطور وابنه (مانفرد) إلى جامعات بولونيا وباريس ترجمات لكتب [ص: 26] فلسفية مترجمة عن العربية.
وفي عام 1224م أسس الإمبراطور جامعة نابولي، وجعل منها أكاديمية لإدخال العلوم العربية إلى العالم الغربي [1].
وقد كان نصيب هـذا الإمبراطور أن طرده البابا جريجوري التاسع Gregory lX من الكنيسة عام 1239م، وقد كانت إحدى التهم التي وجهت إليه هـي ما يبديه من مظاهر الود تجاه الإسلام [2].
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره الجمعة 10 مارس 2023, 6:09 pm | |
| الاستشراق والتنصير إذا كان الاستشراق لا يقوم إلا على أساس معرفة اللغات الشرقية، التي هـي الوسيلة للتعرف على عقائد وحضارات الشرق، فإن التنصير يتفق مع الاستشراق في هـذا الصدد، ويحتم أيضاً معرفة لغات من يراد تنصيرهم، وقد كان هـناك اقتناع تام لدى دعاة التنصير في القرن الثالث عشر بضرورة تعلم لغات المسلمين، إذا أريد لمحاولات تنصير المسلمين أن تؤتي ثمارها بنجاح.
وقد كان هـذا الاقتناع -الذي ترجم فيما بعد إلى خطة عمل- عاملا هـاما بالنسبة لتطور الاستشراق.
ولم يكن من السهل في ذلك الزمان فصل الاستشراق عن التنصير أو عن الدافع الديني بصفة عامة، فالدافع الديني كان هـو السبب الأول في نشأة الاستشراق.
وقد كان من بين الدعاة المتحمسين الذين طالبوا بضرورة تعلم لغات المسلمين لغرض التنصير (رو جر بيكون) [1214م - 1294م]، الذي كان يرى أن التنصير هـو الطريقة الوحيدة التي يمكن بها توسيع رقعة العالم [ص: 27] المسيحي.
ولبولغ هـذا الغرض لا بد من شروط ثلاثة هـي: 1 - معرفة اللغات الضرورية. 2 - دارسة أنواع الكفر، وتمييز بعضها من بعضها الآخر. 3 - دراسة الحجج المضادة حتى يمكن دحضها [1].
وقد شارك بيكون في أفكاره (رايموند لول Raymond Lull) [1235م - 1316م] الذي ولد في جزيرة ميورقة الإسبانية، وتعلم العربية على يد عبد عربي، وكانت له جهود كبيرة في إنشاء كراسي لتدريس اللغة العربية في أماكن مختلفة.
وكان الهدف من كل هـذه الجهود في ذلك العصر وفي العصور التالية هـو التنصير، وهو إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام واجتذابهم إلى الدين النصراني [2].
وقد صادق مجمع (فينا) الكنسي في عام 1312م على أفكار بيكون ولول بشأن تعلم اللغات الإسلامية، وتمت الموافقة على تعليم اللغة العربية في خمس جامعات أوروبية هـي جامعات: باريس، وأكسفورد، وبولونيا، وسلمنكا، بالإضافة إلى جامعة المدينة البابوية (Kurie).
وقدر لرايموند لول أن يعيش حتى يشهد تحقيق حلم طالما نادى به، وكان يعتقد أن الوقت بذلك قد حان لإخضاع المسلمين عن طريق التنصير، وبذلك تزول العقبة الكبيرة التيتقف في سبيل تحويل الإنسانية كلها إلى العقيدة الكاثوليكية [3].
وقد ساعد على تقدم الدراسات الاستشراقية في نهاية العصر الوسيط تلك الصلات السياسية والدبلوماسية مع الدولة العثمانية، التي اتسعت رقعتها حينذاك.
وكان للروابط الاقتصادية لكل من إسبانيا وإيطاليا مع كل من تركية وسورية ومصر أثر كبير في دفع حركة الدراسات الاستشراقية. [ص: 28]
وفي القرن السادس عشر الميلادي وما بعده أدت النزعة الإنسانية في عصر النهضة الأوروبية إلى دراسات أكثر موضوعية من ذي قبل، ومن ناحية أخرى شجعت البابوية الرومانية دراسات لغات الشرق من أجل مصلحة التنصير.
وفي عام 1539م تم إنشاء أول كرسي للغة العربية في الكوليج دي فرانس في باريس، وشغل هـذا الكرسي جيوم بوستل (Gguillaume Postel [ت 1581م]، الذي يعد أول المستشرقين الحقيقين.
وقد أسهم كثيرا في إثراء دراسة اللغات والشعوب الشرقية في أوروبا، وجمع في الوقت نفسه -وهو في الشرق- مجموعة هـامة من المخطوطات.
وقد سار على نهجه تلميذه (جوزيف اسكاليجر Joseph Scaliger) [ت 1609م].
ولكن عمل بوستل لم يكن أبدا منقطع الصلة بجهود التنصير، صحيح أنه يمتدح ثراء الآداب العربية وبوجه خاص في المؤلفات الطبية والفلكية ويقول: (ليس هـناك أحد يستطيع أن يرفض وسائل علاج الطب العربي، فابن سينا يقول في صفحة واحدة أو صفحتين أكثر مما يقوله جالينوس في خمسة أو ستة مجلدات كبيرة).
ولكن بوستل يذكر أيضاً بقرار مجمع (فينا) الكنسي الذي سبق أن أشرنا إليه، ويجمل قيمة معرفة اللغة العربية بقوله: (إنها تفيد بوصفها لغة عالمية في التعامل مع المغاربة والمصريين والسوريين والفرس والأتراك والتتار والهنود، وتحتوي على أدب ثري، ومن يجيدها يستطيع أن يطعن كل أعداء العقيدة النصرانية بسيف الكتاب المقدس، وأن ينقضهم بمعتقداتهم التي يعتقدونها.
وعن طريق معرفة لغة واحدة (العربية) يستطيع المرء [ص: 29] أن يتعامل مع العالم كله).
وقد كان يتباهى بأنه يستطيع عبور آسيا وبلوغ الصين دون مترجم [4].
وفي عام 1586م أصبح من السهل طباعة الكتب العربية في أوروبا عن طريق المطابع التي أقامها الكاردينال فريناند المديسي Ferdinand deMedici دوق تسكانيا الكبير Tuscany.
وقد تم حينذاك طباعة كتب عربية مختلفة من بينها مؤلفات ابن سينا في الطب والفلسفة [5].
وفي القرن السابع عشر بدأ المستشرقون في جمع المخطوطات الإسلامية، وأنشئت كراسي للغة العربية في أماكن مختلفة.
ومما هـو جدير بالذكر أن قرار إنشاء كرسي اللغة العربية في جامعة كامبردج عام 1636م قد نص صراحة على خدمة هـدفين؛ أحدهما: تجاري، والآخر: تنصيري.
فقد جاء في خطاب للمراجع الأكاديمية المسئولة في جامعة كامبردج بتاريخ 9 مايو (أيار) 1636م، إلى مؤسس هـذا الكرسي ما يأتي: (ونحن ندرك أننا لا نهدف من هـذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد بتعريض جانب كبير من المعرفة للنور بدلا من احتباسه في نطاق هـذه اللغة التي نسعى لتعلمها، ولكننا نهدف أيضاً إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية، وإلى تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة والدعوة إلى الديانة المسيحية بين هـؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات).
ومن هـذا يتضح أنه قد كان هـناك تجاوب متبادل بين الاستشراق والتنصير، إن لم يكن هـناك تماثل في القصد بين المستشرق الأكاديمي والمبشر الإنجيلي. [ص: 30] ويمكن القول بأن التحالف بين الجانبين لا يزال مستمرا بشكل من الأشكال حتى العصر الحاضر [6].
ومن بين الشخصيات التي كان لها أثر كبير في إرساء دعائم الدراسات العربية في أوروبا المستشرق (توماس إربنيوس Thomas Erpenius) [1548م - 1624م] الذي كان أول أستاذ يشغل كرسي اللغة العربية في جامعة ليدن (1613م).
وقد استطاع عن طريق جهوده العلمية ومؤلفاته في النحو العربي أن يجعل لهولندا مكان الصدارة في الدراسات العربية في أوروبا؛ لما يقرب من قرنين من الزمان.
أمَّا موقفه من الإسلام فإنه على الرغم من أنه كان يرى أن القرآن يعد القمة من حيث اللغة، إلا أنه لم يكن يرى فيه من حيث المضمون شيئا أكثر من تقليد مضحك للكتاب المقدس.
وكان رأيه في النبي صلى الله عليه وسلم وتعاليمه متفقاً تماماً مع ذلك النفور الذي كان سائداً حينذاك في الغرب إزاء النبي العربي صلى الله عليه وسلم وتعاليمه [7].
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره الجمعة 10 مارس 2023, 6:10 pm | |
| محاولات جادة نحو فهم الإسلام وعلى الرغم من هـذه الأهداف التنصيرية الواضحة والمعادية في طبيعتها للإسلام فقد شهد نهاية القرن السابع عشر من ناحية أخرى اتجاها آخر مختلفا، استمر أيضاً في القرن الثامن عشر، وقد نظر هـذا الاتجاه إلى الإسلام [ص: 31] نظرة موضوعية محايدة، فيها شيء من التعاطف مع الإسلام.
وقد شجع على ذلك ظهور النزعة العقلية الجديدة التي بدأت تسود أوروبا حينذاك، والتي كانت في عمومها مخالفة للكنيسة.
وهكذا سنحت الفرصة أمام بعض العقلاء من الأوروبيين للوقوف في وجه الظلم والإجحاف الذي لقيه الإسلام في الغرب في القرون الوسطى، وظهرت بعض المؤلفات العامة المعتدلة عن الإسلام والحضارة الإسلامية، وحل محل الآراء التي تبناها اللاهوتيون حتى ذلك الوقت، والتي تمثلت في وصف محمد صلى الله عليه وسلم بأنه شيطان، وفي وصف القرآن الكريم بأنه مزيج من اللغو الباطل حل محلها آراء أخرى أقل عنفا، وأقرب إلى الاعتدال والإنصاف للإسلام والمسلمين.
ومن بين الأمثلة على ذلك (ريتشا رد سيمون (Richard Simon فقد تناول في كتابه: (التاريخ النقدي لعقائد وعادات أمم الشرق) 1684م عادات وعقائد المسلمين في وضوح واتزان، مستندا في عرضه لها على مرجع لأحد علماء المسلمين، مبديا تقديره وإعجابه بالعادات الإسلامية.
وقد اتهمه (أرنو Arnould) بأنه كان في حديثه عن الإسلام موضوعيا أكثر من اللازم، فنصحه سيمون بأن يتأمل التعاليم الأخلاقية الرائعة للأخلاقيين الإسلاميين.
وكان الفيلسوف بيير بايل Pierre Bayle من المعجبين بالتسامح الإسلامي، وقد ظهر أثر ذلك في عرضه لحياة محمد صلى الله عليه وسلم في قاموسه التاريخي والنقدي، الذي ظهرت طبعته الأولى في روتردام عام 1697م.
أمَّا (سيمون أوكلي Simon OcKley) [1678م - 1720 م] فإن كتابه: تاريخ السراسنة؛ (أي: العرب المسلمين) يعد نسبيا غير متحيز، وقد مجد في هـذا الكتاب الشرق [ص: 32] الإسلامي ورفعه فوق الغرب [1] وتعد هـذه الأمثلة المشار إليها أمثلة رائدة في الاتجاه الجديد نحو الفهم الصحيح للإسلام.
أما أول المحاولات العلمية الجادة للتعرف على الإسلام فقد كانت على يد (هـادريان ريلاند Hadrian Reland) [ت 1718م] أستاذ اللغات الشرقية في جامعة أوترشت بهولاندا.
فقد صدر كتاب باللغة اللاتينية عن الإسلام عام 1705م بعنوان: (الديانة المحمدية) في جزأين، عرض في أولهما: العقيدة الإسلامية معتمدا على مصادر بالعربية واللاتينية.
وفي الجزء الثاني: قام بتصحيح الآراء الغربية التي كانت سائدة حينذاك عن تعاليم الإسلام.
وقد أثار الكتاب اهتماما عظيما لدرجة أدت إلى إثارة الشبهات حول المؤلف؛ بإتهامه بأنه يريد القيام بعمل دعائي للإسلام، في حين أنه لم يكن يقصد إلا الوصول إلى فهم الدين الإسلامي فهما صحيحا، ممهدا بذلك السبيل إلى محاربته من جانب النصرانية بطريقة أفضل من ذي قبل.
ولكن الكنيسة الكاثوليكية أدرجت الكتاب في قائمة الكتب المحرم تداولها، وعلى الرغم من ذلك ترجم الكتاب إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والإسبانية ويشير ريلاند في مقدمة الكتاب إلى ما تتعرض له كل الأديان باستمرار من جانب خصومها؛ إما بعدم فهمها أو برميها بكل سوء بطريقة تنبىء عن قصد خبيث، وقد تعرض الإسلام إلى مثل ذلك من جانب خصومه مثلما تعرضت الأديان الأخرى.
ويقول ريلاند: (إن المرء يصح له حقا أن يبحث عن الحقيقة حيثما كانت).
ولهذا يريد أن يعرض الإسلام لا كما يظهر من خلال ضباب الجهل وخبث الناس، [ص: 33] وإنما كما يدرس حقيقة في مساجد المسلمين ومدارسهم.
فلم يحدث أن تعرض دين من الأديان في هـذا العالم في أي عصر من العصور إلى مثل ما تعرض له الإسلام من جانب خصومه من الاحتقار والتشويه والوصف بكل أوصاف السوء.
وقد وصل الأمر إلى حد أن من يريد أن يصف نظرية من النظريات بوصف مشين، يصفها بأنها نظرية محمدية.
كما لو كان الأمر أنه لا يوجد في تعاليم محمد شيء صحيح، وأن كل ما فيها فاسد.
وإذا أبدى أحد رغبة صادقة في التعرف على الإسلام لا تقدم له إلا الكتب المضادة الخبيثة والمليئة بالضلالات.
ويضيف ريلاند قائلا: (ينبغي على المرء بدلا من ذلك أن يتعلم اللغة العربية، وأن يسمع محمدا نفسه وهو يتحدث في لغته، كما ينبغي على المرء أن يقتني الكتب العربية، وأن يرى بعينيه هـو وليس بعيون الآخرين، وحينئذ سيتضح له أن المسلمين ليسوا مجانين كما نظن.
فقد أعطى الله العقل لكل الناس.
وقد كان في رأيي دائما أن ذلك الدين الذي انتشر انتشارا بعيدا في آسيا وأفريقيا، وفي أوروبا أيضاً ليس دينا ماجنا أو دينا سخيفا كما يتخيل كثير من المسيحيين).
وبعد ذلك يقول ريلاند: (صحيح أن الدين الإسلامي دين سيء جدا وضار بالمسيحية إلى حد بعيد.
ولكن، أليس من حق المرء لهذا السبب أن يبحثه؟ ألا ينبغي للمرء أن يكتشف أعماق الشيطان وحيله؟ إن الأحرى هـو أن يسعى المرء للتعرف على الإسلام في حقيقته لكي يحاربه؟ بطريقة أكثر أمانا وأشد قوة) [2]. [ص: 34]
ونعتقد أن عبارات ريلاند الأخيرة هـذه لم تنجه من بطش الكنيسة، التي لم تقتنع بهذه المبررات، فحرمت تداول الكتاب؛ لأنها لم تكن تريد للحقيقة أن ترى النور حتى يطلع عليها جمهور الناس.
وقد شهد القرن الثامن عشر أيضاً أنموذجا آخر رائدا في عالم الاستشراق الألماني ممثلا في (يوهان ج.رايسكه J0J ReisKe)
[1716م - 1774م] الذي كان واحدا من عباقرة علماء العربية في عصره، وأول مستشرق ألماني جدير بالذكر، وإليه يرجع الفضل في إيجاد مكان بارز للدراسات العربية في ألمانيا.
ولكن عصره ومعاصريه تجاهلوه، وحاربه رجال اللاهوت متهمينه بالزندقة، ولعل ذلك يرجع إلى موقفه الإيجابي من الإسلام.
فقد امتدح الدين الإسلامي في كتاب له باللاتينية، ورفض وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب أو التضليل، أو وصف دينه بأنه خرافات مضحكة، كما كان ذلك سائدا حينذاك، كما رفض تقسيم تاريخ العالم إلى: تاريخ مقدس، وتاريخ غير مقدس.
ووضع العالم الإسلامي في قلب التاريخ العالمي، وفوق ذلك عبر عن آرائه بأعظم قدر من الصراحة، غير مكترث بكل العواقب المترتبة على ذلك؛ وقد جر عليه ذلك ويلات كثيرة، وعاش طول حياته في ضائقة مالية، ومات بائسا مسلولا وهو في الثامنة والخمسين من عمره.
وقد قال عنه (فوك): (لقد أصبح شهيد الأدب العربي، وصارت حياته تاريخا لتلك الآلام التي سجلها في مذكراته، وقد كان من المخجل أن أحدا من الرجال البارزين (في عصره) لم يعرف الأهمية الفائقة لهذا الرجل العبقري الذي كان واحدا من أعظم علماء العربية [3]. [ص: 35]
ولكن هـذه الأمثلة من المحاولات الجادة في التعرف على الإسلام عن قرب وبلا أحكام سابقة لم تستطع أن ترسخ في الفكر الأوروبي تيارا عاما، ولم تستطع بالتالي أن تقضي تماما على الصورة المشوهة للإسلام في أذهان الأوروبيين بصفة عامة، تلك الصورة التي رسختها القرون الوسطى في الأذهان، والتي لا تزال آثارها عالقة بالعقول حتى اليوم.
فقد بقيت الصورة في إطارها العام على مر العصور كما هـي، وإن حدث فيها بين الحين والحين -بفضل بعض الظروف- بعض التعديل في الظلال والألوان (والرتوش) الخفيفة.
والدليل على ذلك هـو أن صورة الإسلام في أذهان الأوروبيين لا تزال حتى اليوم صورة مشوهة بعيدة عن الحقيقة.
ولسنا ننكر أن الاستشراق في ذلك العصر بدأ يتخفف من أثقال اللاهوت، وأن حدة الاتهامات ضد الإسلام قد خفت عن ذي قبل، كما أعيد النظر في الاتهامات السابقة، ولكن الانفتاح الفكري كان في محصلته النهائية محدود الأثر، وإن كان من وجهة نظر مكسيم رودنسون يمثل تحولا كبيرا.
وفي هـذا الصدد يقول: (والواقع أن القرن الثامن عشر كان ينظر إلى الشرق الإسلامي نظرة أخوية متفهمة، وقد مكنت الفكرة القائلة بتساوي المواهب لدى جميع الناس، والتي ساعد على انتشارها تفاؤل يفيض بالحيوية كان هـو الدين الحقيقي لذلك العصر، مكنت الناس من القيام بدراسة نقدية للتهم التي وجهتها العصور السابقة إلى العالم الإسلامي... ففي عصر التنوير أصبح المسلمون يعتبرون أناسا مثل غيرهم، وكثير منهم كانوا يفضلون على الأوروبيين) [4]. [ص: 36]
وإذا سلمنا بما يقوله رودنسون في هـذا الصدد فإنه هـو نفسه لا ينكر أن تلك النظرة التي يتحدث عنها تحولت فيما بعد إلى نظرة أسوأ من ذي قبل، وفي ذلك يقول: (وفي القرن التاسع عشر كان الشرق الإسلامي لا يزال عدواً، ولكنه عدو محكوم عليه بالهزيمة، وكانت البلاد الشرقية أشبه بالشهود المنهارين لماض عريق.
فقد كان المرء يستطيع أن يستمتع بترف امتداحهم في الوقت الذي فيه السياسيون ورجال الأعمال يفعلون كل ما في وسعهم للإسراع في انهيارهم.
ولم يكن إمكان صحوهم ولحاقهم بالعصر الحديث يثير أية حماسة، بل إنهم يفقدون في خلال عملية تحديثهم نكهة الغرابة التي كانت مبعث سحرهم) [5].
وقد أدى ذلك إلى تغيير في نظرة الغربي إلى الشرقي؛ إذ أصبح الشرقي في نظر الغربي في القرن التاسع عشر كما يقول رودنسون أيضا: (مخلوقا مختلفا بعد أن كان في ظل أيديولوجية الثورة الفرنسية إنسانا قبل كل شيء أصبح الآن سجين خصوصيته، وموضوعا للثناء الذي يمن به عليه بعضهم) [6].
وهكذا بعد أن كانت النظرة الأوروبية التي كانت توجهها الأيديولوجية العالمية للعصر تحترم غير الأوربيين وتحترم ثقافاتهم، أصبحت الآن في [ص: 37] القرن التاسع عشر نظرة متعالية متغطرسة، وظهرت نظريات تقسم الشعوب إلى أجناس راقية وأجناس مختلفة، فالأولى شعوب آرية والثانية شعوب سامية.
وانبرى (رينان) ومن سار على نهجه من المستشرقين والمفكرين الأوروبيين لبيان ما يزعمونه من خصائص للآريين صناع الحضارة وحملة الإبداع الخلاق، والساميين السطحيين في تفكيرهم وفلسفاتهم [7].
ونكتفي الآن بهذا القدر من الاستطراد حول هـذه النقطة لنستكمل الحديث عن تطور الاستشراق في العصر الحديث.
ولنا عودة للحديث مرة أخرى عن النظرة الغربية للشرق الإسلامي عند الحديث عن صلة الاستشراق بالاستعمار.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره الجمعة 10 مارس 2023, 6:11 pm | |
| عصر ازدهار الاستشراق يعد القرن التاسع عشر والقرن العشرين عصر الازدهار الحقيقي للحركة الاستشراقية.
ففي نهاية القرن الثامن عشر، وبالتحديد في شهر مارس (آذار) من 1795م قامت الحكومة الثورية في باريس بإنشاء مدرسة اللغات الشرقية الحية.
وقد كان التركيز فيها على وجه الخصوص على عنصر الفائدة العملية، بالإضافة إلى ما يمكن أن تسـهم به اللغات الشرقية في تقدم الأدب والعلم [1].
وبدأت حركة الاستشراق في فرنسا تتجه نحو اتخاذ طابع [ص: 38] علمي على يد (سلفستر دي ساسي Silvestre de Sacy) [ت 1838م] الذي أصبح إمام المستشرقين في عصره، وإليه يرجع الفضل في جعل باريس مركزا للدراسات العربية، وكعبة يؤمها التلاميذ والعلماء من مختلف البلاد الأوروبية؛ ليتعلموا على يديه [2].
وكانت أغلب جهود (دي ساسي) العلمية منصبة على الدراسات العربية في النحو والأدب؛ شعرا ونثرا، وليست له دراسات حول الإسلام، وقد أصبحت مدرسة اللغات الشرقية الحية في عهده تعد الأنموذج لمؤسسة الاستشراق العلمي والعلماني، وخاصة بعد أن كان قد تم في القرن الثامن عشر انفصال الاستشراق عن اللاهوت في كل من فرنسا وإنجلترا.
أما البلاد التي كانت تسود فيها اللغة الألمانية فقد كانت الجامعات فيها لا تزال حتى ذلك الوقت تحت سيطرة علماء اللاهوت.
ولهذا السبب ظهر الاستشراق العلماني في ألمانيا والنمسا في بداية الأمر على يد هـواة، كان أبرزهم العالم النمساوي (جوزيف فون هـامر برجشتال Hammer -Purgstall J.v.) [ت 1856م].
وهكذا يمكن القول -كما يقول بارت- بأن الاستشراق قد تشكل كعلم في القرن التاسع عشر، وذلك: (عندما تأكد استعداد الناس للانصراف عن الآراء المسبقة وعن كل لون من ألوان الانعكاس الذاتي، وللاعتراف لعالم الشرق بكيانه الخاص الذي تحكمه نظمه [ص: 39] الخاصة، وعندما اجتهدوا في نقل صورة موضوعية له ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً) [3].
ومن ذلك يتضح أنه بتخليص الاستشراق من سيطرة اللاهوت أصبح علماً قائماً بنفسه هـدفه دراسة اللغات الشرقية وآدابها، وبرزت هـناك نزعة علمية تتجه إلى دراسة الآداب والعقائد الشرقية لذاتها مستهدفة المعرفة وحدها [4].
أما مدى نجاح هـذه النزعة في التحرر نهائيا من التعصب الديني فهذه مسألة أخرى سنقف على حقيقتها في الفصل الثاني إن شاء الله.
أمَّا متى بدأ هـذا الاتجاه الجديد على وجه التحديد؟ فإن هـذا أمر لا يمكن القطع فيه برأي على وجه الدقة، وإن كان يمكن اعتبار منتصف القرن التاسع عشر بداية لظهور تلك الصفة العلمية كما يقول بارت: (فإذا وضعنا بقصد التبسيط منتصف القرن التاسع عشر فإننا نعني بهذا فقط أن الصفة العلمية بالمعنى الحديث ظهرت في هـذا الوقت على الاستشراق بوضوح أكثر من ذي قبل، ولكن النية المتجهة إلى فهم الموضوعات فهما موضوعيا، كانت موجودة قبل ذلك بكثير، وجودا يمكن إثباته بالأدلة والشواهد، وكانت أوضح ما تكون في مجال الدراسات اللغوية ودراسات اللغة العربية خاصة... وهذا هـو السبب الذي يظل من أجله المستشرقون العاملون في الصعيد اللغوي بمنأى عن هـجوم الرأي العام العربي الإسلامي في أيامنا هـذه، بينما يتهم المستشرقون العاملون في صعيد الدراسات الإسلامية بسوء النية في أحوال ليست بالنادرة) [5]. [ص: 40]
وفي نهاية القرن التاسع عشر أصبحت الدراسات الإسلامية تخصصا قائما بذاته داخل الحركة الاستشراقية العامة.كان كثير من علماء الإسلاميات والعربية في ذلك الوقت؛ مثل: نولدكه، وجولد تسيهر، وفلهاوزن، مشهورين في الوقت نفسه بوصفهم علماء في الساميات على وجه العموم أو متخصصين في الدراسات العبرية أو في دراسة الكتاب المقدس [6].
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره الجمعة 10 مارس 2023, 6:12 pm | |
| من مظاهر النشاط الاستشراقي بدأ المستشرقون في النصف الأول من القرن التاسع عشر في مختلف بلدان أوروبا وأمريكا بإنشاء جمعيات لمتابعة الدراسات الاستشراقية.
فقد تأسست أولاً الجمعية الآسيوية في باريس عام 1822م ثم، الجمعية الملكية الآسيوية في بريطانيا وإيرلندا عام 1823م، والجمعية الشرقية الأمريكية عام 1842م، والجمعية الشرقية الألمانية عام 1845م [1].
وسرعان ما نشطت هـذه الجمعيات في إصدار المجلات والمطبوعات المختلفة، وقد كان (هـامر برجشتال) قد أصدر أول مجلة استشراقية متخصصة في أوروبا وهي مجلة (ينابيع الشرق)، التي صدرت في فيينا من عام 1809م إلى عام 1818م.
وفي عام 1895م ظهرت في باريس مجلة تمنح اهتمامها بصفة خاصة للعالم الإسلامي وهي مجلة الإسلام، وقد خلفتها في عام 1906م مجلة العالم [ص: 41] الإسلامي التي صدرت عن البعثة العلمية الفرنسية في المغرب، وقد تحولت بعد ذلك إلى مجلة الدراسات الإسلامية.
وفي عام 1910م ظهرت مجلة الإسلام الألمانية Der Islam، وفي بطرسبرج بـ (روسيا) ظهرت مجلة عالم الإسلامMir Islama عام 1912م، ولكنها لم تعمر إلا وقتا قصيرا.
وفي بريطانيا ظهرت مجلة العالم الإسلامي عام 1911م على يد صمويل زويمر [ت 1952م] الذي كان رئيس المبشرين في الشرق الأوسط [2].
وللمستشرقين اليوم في المجلات والدوريات عدد هـائل يزيد على ثلاثمائة مجلة متنوعة بمختلف اللغات [3].
وقد شهد القرن التاسع عشر أيضاً بداية المؤتمرات الدولية للمستشرقين، وقد أتاحت هـذه المؤتمرات للمستشرقين في كل مكان الفرصة لزيادة التنسيق وتوثيق أواصر التعاون، والتعرف بصورة مباشرة على أعمال بعضهم بعضا، وتجنب ازدواج العمل حرصا على تجميع الجهود وعدم تبديدها في أعمال مكررة.
وقد تم عقد أول مؤتمر دولي للمستشرقين في باريس في عام 1873، وتعقد هـذه المؤتمرات منذ ذلك الحين بصفة منتظمة.
وقد بلغ عددها حتى الآن أكثر من ثلاثين مؤتمراً.
وهذا عدا المؤتمرات والندوات واللقاءات الإقليمية التي يرجع بعضها إلى تاريخ أقدم من تاريخ أول المؤتمرات الدولية.
فقد عقد أول مؤتمر للمستشرقين الألمان في مدينة درسدن بألمانيا في عام 1849م.
ولا تزال مثل هـذه المؤتمرات تعقد بانتظام حتى اليوم [4]. [ص: 42]
وتضم المؤتمرات الدولية للمستشرقين مئات العلماء؛ فمثلا مؤتمر أكسفورد كان يضم تسعمائة عالم من خمس وعشرين دولة، وخمس وثمانين جامعة، وتسع وستين جمعية علمية.
ومجموعات العمل في كل مؤتمر تبلغ أربع عشرة مجموعة، تختص كل منها ببحث مجال معين من الدراسات الاستشراقية.
وتنشر بحوث هـذه المؤتمرات في مجلدات (للاهتداء بها كنظم ومناهج ووسائل، ثم أصبحت -مع دراسات مؤتمرهم الموضوعية والإقليمية- أصولا وأمهات وأسانيد للباحثين) [5].
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره الجمعة 10 مارس 2023, 6:13 pm | |
| الاستشراق والاستعمار لقد كان للمد الاستعماري في العالم الإسلامي دور كبير في تحديد طبيعة النظرة الأوروبية إلى الشرق، وخصوصا بعد منتصف القرن التاسع عشر، وقد أفاد الاستعمار من التراث الاستشراقي، ومن ناحية أخرى كان للسيطرة الغربية على الشرق دورها في تعزيز موقف الاستشراق، وتواكبت مرحلة التقدم الضخم في مؤسسات الاستشراق وفي مضمونه مع مرحلة التوسع الأوروبي في الشرق [1].
وقد شهد القرن التاسع عشر استيلاء المستعمرين الغربيين على مناطق شاسعة من العالم الإسلامي؛ ففي عام 1857م تم استيلاء الإنجليز سياسيا على الهند، وأصبحت الهند بذلك تابعة للتاج البريطاني رسميا، بعد أن كانت حتى ذلك الحين واقعة تحت نفوذ شركة الهند الشرقية منذ القرن السابع عشر.
وفي عام 1857م أيضاً تم استيلاء فرنسا على الجزائر كلها بعد أن كان الفرنسيون قد بدءوا [ص: 43] غزوها عام 1830م.
كما احتلت هـولندا قبل ذلك -في بداية القرن السابع عشر- جزر الهند الشرقية (إندونيسيا) عن طريق شركة الهند الهولندية.
وبعد عام 1881م تم احتلال مصر وتونس.
وظل الاستعمار يقوم بتقطيع أوصال البلاد الإسلامية شيئا فشيئا، ويضعها تحت سيادته، حتى استطاع في النهاية أن يطوق العالم الإسلامي من الشرق والغرب.
وبعد الحرب العالمية الأولى كان العالم الإسلامي كله تقريبا خاضعا لنفوذ الاستعمار الغربي [2].
وقد استطاع الاستعمار أن يجند طائفة من المستشرقين لخدمة أغراضه وتحقيق أهدافه، وتمكين سلطانه في بلاد المسلمين.
وهكذا نشأت هـناك رابطة رسمية وثيقة بين الاستشراق والاستعمار، وانساق في هـذا التيار عدد من المستشرقين، ارتضوا لأنفسهم أن يكون علمهم وسيلة لإذلال المسلمين وإضعاف شأن الإسلام وقيمه، وهذا عمل يشعر إزاءه المستشرقون المنصفون بالخجل والمرارة.
وفي ذلك يقول المستشرق الألماني المعاصر (استفان فيلد Stephan Wild): (والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم: مستشرقين، سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين.وهذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة) [3].
ومن بين الأمثلة العديدة لارتباط الاسشراق بالاستعمار نذكر المستشرق (كارل هـينر يش بيكر Karl Heinrich BecKer) [ت 1933م] مؤسس (مجلة الإسلام) الألمانية، الذي قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية الألمانية في [ص: 44] إفريقيا.
فقد حصل الرايخ الألماني في عام 1885 - 1886م على مستعمرات في إفريقيا تضم مناطق بعض سكانها من المسلمين، وظلت تلك المناطق تحت السيادة الألمانية حتى عام 1918م.
وقد أدَّى ذلك إلى تأسيس معهد اللغات الشرقية في برلين عام 1887م، وهو معهد كانت مهمته تتلخص في الحصول على معلومات عن البلدان الشرقية الحالية وبلدان الشرق الأقصى، وعن شعوب هـذه البلدان وثقافتها [4].
وفي هـذا يقول المستشرق الألماني (أوليريش هـارمان Ulrich Harmann: (كانت الدرسات الألمانية حول العالم الإسلامي قبل عام 1919م أقل براءة وصفاء نية.
فقد كان كرل هـينريش بيكر -وهو من كبار مستشرقينا- منغمسا في النشاطات السياسية، حتى إنه أصبح في عام 1914م شديد الحماس لمخطط استخدام الإسلام في إفريقيا والهند كدرع سياسية في وجه البريطانيين) [5].
أما (بار تولد Barthold) [ت 1930 م] مؤسس مجلة (عالم الإسلام) الروسيةMir Islama فقد تم تكليفه عن طريق الحكومة الروسية بالقيام ببحوث تخدم مصالح السيادة الروسية في آسيا الوسطى.
أما عالم الإسلاميات الهولندي الشهير (سنوك هـورجرونيه) [ت 1936م] فإنه في سبيل استعداده للعمل في خدمة الاستعمار توجه إلى مكة في عام 1885م بعد أن انتحل اسما إسلاميا هـو (عبد الغفار)، وأقام هـناك ما يقـرب من نصف عام.
وقد ساعده على ذلك أنه كان يجيد العربية كأحد أبنائها.
وقد لعب هـذا المستشرق دوراً هـاماً في تشكيل السياسة الثقافية [ص: 45] والاستعمارية في المناطق الهولندية في الهند الشرقية، وشغل مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولندية في إندونيسيا [6].
وفي فرنسا كان هـناك عدد من المستشرقين يعملون مستشارين لوزارة المستعمرات الفرنسية في شئون شمال إفريقيا.
وعلى سبيل المثال كان المستشرق الكبير (دي ساسي) اعتبارا من 1805م يشغل منصب المستشرق المقيم في وزارة الخارجية الفرنسية.
وعندما غزا الفرنسيون الجزائر عام 1830م كان (دي ساسي) هـو الذي ترجم البيان الموجه للجزائرين، وكان يُستشار بانتظام في جميع المسائل المتعلقة بالشرق من قبل وزير الخارجية، وفي حالات معينة من قبل وزير الحربية أيضاً.
وإلى عهد قريب كان (ماسينيون) مستشارا للإدارة الاستعمارية الفرنسية في الشئون الإسلامية [7].
ويكشف المستشرق الفرنسي (هـانوتو) [ت 1944م] في مقال له بعنوان: (قد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية)، يكشف بوضوح عن مقترحاته لتوجيه سياسة فرنسا في مستعمراتها الإفريقية الإسلامية، وما تهدف إليه هـذه المقترحات من إضعاف المسلمين في عقيدتهم حتى يسهل قيادهم [8].
أمَّا المصلحة البريطانية في العالم الإسلامي فقد كان الدافع إليها بطبيعة الحال هـو ممارسة السيادة البريطانية في الهند وغيرها من البلاد الإسلامية التي استولت عليها.
وقد كان (اللورد كيرزن CuzoK) في أوائل القرن الحالي من أشد المتحمسين في إنجلترا لفكرة إنشاء مدرسة للدراسات الشرقية، باعتبار أنها تعد (جزءا ضروريا من تأثيث الإمبراطورية)، وتساعد على [ص: 46] الاحتفاظ بالموقع الذي نالته بريطانيا في الشرق.
وقد تحولت المدرسة المذكورة فيما بعد إلى مدرسة جامعة لندن للدراسات الشرقية والإفريقية.
وقد كانت الحكومة البريطانية -من أجل تحقيق أهدافها الاستعمارية- ترسم سياستها في مستعمراتها في الشرق بعد التنسيق والتشاور مع فريق من المستشرقين، الذين يقدمون لها الدراسات المطلوبة.
يقول الدكتور إبراهيم اللبان رحمه الله: (والوقع أن رجال السياسة في الغرب على صلة وثيقة بأساتذة هـذه الكليات (كليات اللغات الشرقية في أوروبا)، وإلى آرائهم يرجعون قبل أن يتخذوا القرارات الهامة في الشئون السياسية الخاصة بالأمم العربية والإسلامية، وقد سمعت أحد كبار المستشرقين يتحدث أمامي فيذكر أن مستر (إيدن) كان قبل أن يضع قرارا سياسيا في شئون الشرق الأوسط يجمع المستشرقين المستعربين، ويستمع إلى آرائهم، ثم يقرر ما يقرر في ضوء ما يسمعه منهم، هـذا إلى أن بعضهم كان يؤسس صلات صداقة بالبارزين من رجال الأمة العربية، ويتخذ من هـذه الصلات ستاراً يقوم من ورائه بأعمال التجسس في أثناء الحرب) [9].
والاستعمار في حقيقة أمره هـو امتداد للحروب الصليبية التي كانت في ظاهرها حروبا دينية، وفي باطنها حروبا استعمارية.
وقد كانت العودة إلى احتلال بلاد العرب وبلاد الإسلام حلما ظل يراود الغربيين منذ هـزيمة [ص: 47] الصليبيين (فاتجهوا إلى دراسة هـذه البلاد في كل شئونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات؛ ليتعرفوا على مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى موطن الضعف فيغتنموه) [10].
ولم تكن علاقة الاستشراق بالاستعمار -كما يظن- هـي مجرد إضفاء طابع التبرير العقلي على المبدأ الاستعماري، بل كان الأمر -كما يقوله إدوارد سعيد أيضا- أبعد من ذلك وأعمق، فالتبرير الاستشراقي للسيادة الاستعمارية قد تم قبل حدوث السيطرة الاستعمارية على الشرق، وليس بعد حدوثها؛ فقد كان التراث الاستشراقي بمثابة دليل للاستعمار في شعاب الشرق وأوديته؛ من أجل فرض السيطرة على الشرق وإخضاع شعوبه وإذلالها.
(فالمعرفة بالأجناس المحكومة أو الشرقيين هـي التي تجعل حكمهم سهلا ومجديا؛ فالمعرفة تمنح القوة، ومزيد من القوة يتطلب مزيدا من المعرفة).
فهناك باستمرار حركة جدلية بين المعلومات والسيطرة المتنامية [11].
وهكذا اتجه الاستشراق المتعاون مع الاستعمار -بعد الاستيلاء العسكري والسياسي على بلاد المسلمين- إلى إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين، وتشكيك المسلمين في معتقداتهم وتراثهم؛ حتى يتم للاستعمار في النهاية إخضاعا تاما للحضارة والثقافة الغربية.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره الجمعة 10 مارس 2023, 6:14 pm | |
| اليهود والاستشراق لقد اتضح لنا مما تقدم أنه قد كانت هـناك أسباب معينة على مر العصور، دفعت بالباحثين الغربيين النصارى إلى الاستشراق، وحملتهم على تحقيق [ص: 48] أهداف معينة رسموها لأنفسهم؛ سواء أكانت هـذه الأهداف أهدافا علمية أم غير علمية.
وهنا يمكن لسائل أن يسأل: ما هـي الأسباب التي دفعت بعض اليهود إلى الإقبال على الاستشراق؟ وما الدور الذي قاموا به في إطار الحركة الاستشراقية؟
والإجابة على هـذا السؤال ليست سهلة، فمن الصعب الحصول على إجابة صريحة في هـذا الصدد؛ وذلك لأن المراجع التي تتحدث عن الاستشراق وتطوره قد أغفلت الحديث عن هـذا الجانب.
ونعتقد أن سبب إغفال الحديث عن هـذا الموضوع يرجع إلى أن المستشرقين اليهود قد استطاعوا أن يكيفوا أنفسهم؛ ليصبحوا عنصرا أساسيا في إطار الحركة الاستشراقية الأوروبية النصرانية، فقد دخلوا الميدان بوصفهم الأوروبي لا بوصفهم اليهودي.
وقد استطاع (جولد تسيهر) في عصره -وهو يهودي مجري- أن يصبح زعيم علماء الإسلاميات في أوروبا بلا منازع، ولا تزال كتبه حتى اليوم تحظى بالتقدير العظيم والاحترام الفائق من كل فئات المستشرقين.
وهكذا لم يرد اليهود أن يعملوا داخل الحركة الاستشراقية بوصفهم مستشرقين يهود حتى لا يعزلوا أنفسهم وبالتالي يقل تأثيرهم.
ولهذا عملوا بوصفهم مستشرقين أوروبيين، وبذلك كسبوا مرتين: كسبوا أولا: فرض أنفسهم على الحركة الاستشراقية كلها.
وكسبوا ثانيا: تحقيق أهدافهم في النيل من الإسلام، وهي أهداف تلتقي مع أهداف غالبية المستشرقين النصارى.
ويشير الأستاذ الدكتور محمد البهي رحمه الله في كتابه: (الفكر الإسلامي الحديث)، إلى ملاحظة لبعض الباحثين حول تفسير إقبال اليهود على الاستشراق، وتتلخص هـذه الملاحظة في أنهم أقبلوا على الاستشراق لأسباب دينية وسياسية؛ أمَّا الأسباب الدينية: فإنها تتمثل في محاولة إضعاف الإسلام، والتشكيك في قيمه؛ بإثبات فضل اليهودية عليه، وذلك بإدعاء أن اليهودية في [ص: 49] نظرهم هـي مصدر الإسلام الأول.
أمَّا الأسباب السياسية: فإنها تتصل بخدمة الصهيونية فكرةً أولاً ثم دولةً ثانياً.
ويرى الدكتور البهي أن وجهة النظر هـذه على الرغم من أنها لا تعتمد على مصدر مكتوب يؤيدها، فإن الظروف العامة والظاهرة المترادفة في كتابات هـؤلاء المستشرقين تعزز وجهة النظر هـذه، وتضفي عليها بعض خصائص الاستنتاج العلمي [1].
ونحن في الواقع لسنا في حاجة إلى دليل لإثبات كراهية اليهود للإسلام؛ وذلك لأن هـذه الكراهية قد ظهرت واضحة كالشمس منذ ظهور الإسلام، وقد أكد القرآن ذلك في قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) (المائدة: 82).
وقد ظل اليهود طوال تاريخهم يتحينون كل فرصة متاحة ليكيدوا للإسلام والمسلمين، وقد وجدوا في مجال الاستشراق بابا ينفثون منه سمومهم ضد الإسلام والمسلمين، فدخلوا هـذا المجال مستخفين تحت رداء العلم، كما وجدوا في الصهيونية باباً آخر يفرضون منه سيطرتهم على العرب والمسلمين.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره الجمعة 10 مارس 2023, 6:15 pm | |
| مستقبل الاستشراق وفي ختام هـذا الفصل تبرز أمامنا بعض الأسئلة الملحة حول مستقبل الاستشراق: هـل لا يزال الاستشراق يعيش الآن عصر ازدهاره، أم أن نجمه بدأ يأفل وتأثيره بدأ يقل ونشاطه بدأ يتضاءل، وخاصة بعد أن انحسر المد الاستعماري عن العالم الإسلامي؟ [ص: 50]
أين يقف الاستشراق الآن في العصر الحاضر؟
ما موقف الحكومات الأوروبية اليوم من دعم النشاط الاستشراقي؟
إن طرح هـذه الأسئلة له ما يبرره؛ فهناك بالفعل وجهات نظر تتحدث عن نهاية الاستشراق، وهناك من ناحية أخرى انتقادات واتهامات كثيرة موجهة إلى الاستشراق من جهات عديدة، وإن اختلفت منطلقات هـذه الانتقادات، فمثلا يقول أحد الساسة الألمان: (لقد آن الأوان كي يبتعد المستشرقون باهتماماتهم عن اللهجات العربية، ويعدوا أنفسهم لتقبل الدور الجديد كطاقة فاعلة في خدمة العلوم الاجتماعية، وكاحتياطيين للقيام بمهمة الترجمة والشرح في ميادين العمل المختلفة).
والمستشرقون وإن كانوا يرفضون أن ينخفض دورهم إلى هـذا المستوى فإنهم يعترفون في الوقت نفسه بالقصور في جوانب مختلفة هـي أيضاً مثار انتقادات عنيفة.
ويجمل (أوليريشن هـارمان) هـذه الانتقادات فيقول: (لقد اتهمنا بأننا متخلفون وأقل تطورا وتقدما في أساليبنا، لا ننفعل حيال التحديات الجديدة.
واتهمنا كذلك بأننا وصفيون نقليون، ولسنا تحليليين، وإذا كنا نقدر أنفسنا حق التقدير، فما علينا سوى الاعتراف بأن هـذا النقد صحيح إلى حد بعيد) [1].
ولكن أهم ما يؤخذ على الاستشراق من وجهة النظر الإسلامية هـو تمسك [ص: 51] المستشرقين بالأساليب الاستشراقية البالية في فهم الإسلام وتناوله، والروح العدائية التي تحملها دراساتهم حول الإسلام، تلك الروح التي لا تزال مسيطرة على غالبية علماء الإسلاميات من المستشرقين، وسنتعرف على بعض النماذج من دراساتهم الإسلامية في الفصل الثاني من هـذا الكتاب، وهذه الروح العدائية هـي العقبة الكأداء التي تجعل العربي المسلم يقف من الاستشراق موقف الحذر المتشكك، بل موقف الرافض للاستشراق.
فهل لدى المستشرقين استعداد لتطوير أساليبهم البالية فـي دراسة الإسلام والالتزام بالحيدة والموضوعية والنزاهة العلمية؟
إن هـناك بعض المؤشرات نحو الاقتراب من الاعتدال والاتزان في معالجة بعض المسائل الإسلامية لدى بعض المستشرقين المعاصرين؛ من أمثال: مكسيم رودنسون، وجاك بيرك، وأنا ماري شمل، على سبيل المثال لا الحصر، وهو اتجاه نقدره ونرجو أن يصبح في النهاية تيارا عاما، وعندئذ يمكن أن يسهم في دعم روح التفاهم والقضاء على الروح العدائية التي استمرت قرونا عديدة.
أما الحديث عن قرب نهاية الاستشراق فلست أظن أن مثل هـذه النهاية وشيكة الحدوث.
فالمسألة ليست بهذه البساطة، ولا يمكن القول بأن الحركة الاستشراقية بدأت تنحسر وأنها تعيش آخر أيامها.
فالحركة لا تزال متماسكة وقوية ومنظمة، ولا تزال جمعيات المستشرقين ومؤتمراتهم المختلفة تمارس نشاطها، ومعاهد الاستشراق منتشرة اليوم في أغلب الجامعات الأوروبية والأمريكية.
هـذا فضلاً عن تغلغل المصالح الغربية في بلدان العالم الإسلامي، وخاصة في بلاد الشرق الأوسط، الأمر الذي يجعل هـذه المصالح تساند الحركة الاستشراقية التي تقدم بدورها للجهات المعنية في الغرب الدراسات المختلفة عن بلدان العالم الإسلامي.
وبالإضافة إلى ذلك كله فإن مجالات التخصص لدى المستشرقين قد تعددت وهذا يعني إثراء الدراسات [ص: 52] الاستشراقية لا القضاء عليها.
ولكن الشيء المهدد بالزوال -كما يقول رودنسون- هـو سيطرة الدراسات الفيلولوجية (فقه اللغة).
فقد كان هـناك اتجاه سائد في الحركة الاستشراقية لفترة تزيد على قرن من الزمان يركز على التدريب الفيلولوجي بوصفه كافيا لحل جميع المشاكل الناشئة ضمن ميدان لغوي محدد.
وهناك دلائل تشير إلى التخلي عن هـذا الاعتقاد؛ وذلك نظرا للزيادة الكبيرة في المعلومات المتوفرة، بالإضافة إلى تعدد أدوات البحث وتقدم طرق الدراسة، الأمر الذي أصبح يمكن الباحث من تجاوز المرحلة الفيلولوجية أو على الأقل يخصص لها وقتا أقل من ذي قبل.
فقد كشف التقدم في العلوم الاجتماعية (عن مدى تعقيد المشاكل التي لا يمكن حلها بالالتجاء إلى الفهم العادي السليم وحده، وبالمعرفة العميقة باللغة، بل ربما أيضاً لا يمكن حلها عن طريق استلهام مبادئ فلسفية عامة.
لذا فقد أصبحت الدراسات الشرقية وبصورة خاصة الدراسات الإسلامية أكثر صعوبة وأقل خصوصية، وأصبح الربط بينها وبين العلوم الأخرى -الذي كان ترفا فيما مضى- حاجة لا مفر منها الآن) [2].
ويعني رودنسون بالعلوم الأخرى هـنا: علوم الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والأنثربولوجيا، والسكان...إلخ.
ومما هـو جدير بالذكر في هـذا المقام أنه قد عقدت ندوة عن علم الاجتماع الإسلامي في بروكسل عام 1961م، وهذا أمر يبين لنا بداية انفتاح مجالات جديدة أمام الدراسات الاستشراقية كانت مهملة تماما في السابق.
وهكذا يمكن القول بأن انحسار المد الاستعماري العسكري عن العالم الإسلامي لا يعني بالتالي القضاء على الحركة الاستشراقية؛ فالاستعمار العسكري كان مرحلة ارتبطت بها من غير شك جهود طائفة من المستشرقين، [ص: 53] ولكن هـناك طائفة أخرى لم ترتبط بالاستعمار، وليس يعني ذلك بالضرورة أنها كانت منصفة للإسلام والمسلمين.
وقد عاش الاستشراق عصر ازدهاره في النصف الثاني من القرن الماضي، والنصف الأول من هـذا القرن، وشهدت تلك الفترة جيل العمالقة من المستشرقين، وقد ظهرت الآن أجيال جديدة تسير على الدرب نفسه، وتترسم خطى السابقين.
وتهتم الحكومات الأوروبية بدعم الحركة الاستشراقية في أوروبا، ولا تبخل عليها بالمال اللازم لاستمرار نشاطها، يقول (رودي بارت): (الاستشراق في ألمانيا حاليا وفي العالم الأوروبي الحديث كله مادة علمية معترف بها من الجميع... نعترف شاكرين بأن المجتمع ممثلا في الحكومات والمجالس النيابية يضع تحت تصرفنا الإمكانات اللازمة لإجراء بحوث الاستشراق، وللحفاظ على نشاطنا التعليمي في هـذا المضمار... وما تطلبه الدولة والمجتمع منا -معشر المستشرقين- هـو بصفة عامة العمل كمدرسين وباحثين متخصصين... أما التصرف في أمر الموضوعات الخاصة التي ينصب عليها الدرس والبحث فمتروك لنا) [3].
ولكن هـناك مستشرقا آخر يعترف بأن مقدمي الدعم المالي يمارسون ضغوطا على الاستشراق، الأمر الذي يتناقض مع ما يقوله (بارت) من أن الحكومات التي تقدم الدعم لا تتدخل في أمر البحوث الاستشراقية، [ص: 54]
يقول (أوليريش هـارمان): (وطبعا هـناك أيضاً الضغط الملح من قبل أولئك الذين يقدمون الأموال لدعم النتائج التي تؤدي إلى احتواء العالم العربي الإسلامي والتشبث به؛ باعتباره منطقة اضطراب، حيث تكمن اهتمامات الغرب ومصالحه) [4].
فهناك إذن ارتباط وثيق بين مصالح الغرب واهتماماته ودعم الحركة الاستشراقية، وهذا أمر يجعل استمرار الاستشراق متوقفاً على استمرار الدعم المالي الذي تقدمه الحكومات والهيئات المختلفة، واستمرار الدعم المالي يتوقف على مدى تشبث الغرب بمصالحه في العالم العربي والإسلامي، والتشبث بهذه المصالح حقيقة واقعة تؤكدها جميع الشواهد.
ليس هـناك أي بارقة تلوح في الأفق توحي بأن الغرب على استعداد للتخلي عن هـذه المصالح، وما دام الأمر كذلك فإن الحاجة إلى الاستشراق في الغرب ستظل قائمة، بل وستزداد إلحاحاً. [ص: 55]
|
|
| |
| الفصل الأول: مدخل تاريخي حول نشأة الاستشراق وتطوره | |
|