أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: فقه الاستشراف : الأصل الشرعي والضرورة الملحة الأربعاء 07 فبراير 2024, 1:37 am | |
| فقه الاستشراف: الأصل الشرعي والضرورة الملحة نايف عبوش لا جرَم أن إيقاعات التطور تتسارَع اليوم -وبشكل ملحوظ- في كل نواحي الحياة، فقد أفرَز عصر ثورة الاتصال والمعلوماتية الكثيرَ من التغيُّرات التي لم يَعد بالإمكان تجاهُلها، وغَضُّ النظر عنها، ولمواكبة التطوُّر والتغيرات؛ ظهَرت دراسات المستقبل، وزاد الاهتمام بالتنبؤ على أُسس علمية، وليس على أساس الرجْم بالغيب، كما كان عليه الحال في العصور المظلمة؛ حيث ظهر التخطيط بعيدُ المدى في العصر الحديث كعلمٍ يُدرَّس في الجامعات، ويُعتمَد في الحياة العملية كأداة لسبْر أغوار ملامح المستقبل؛ بهدف التعامل مع القادم الجديد من وقائعه بعلمية، ومعايشة مستجداته بآليَّات مناسبة معروفة مسبقًا، وليس بترْكها للتوفيق أو رفْضها، أو التهيُّب منها والاستسلام لها؛ لذلك بات من المسلَّم به اليوم، أن ترْك التعاطي مع مستجدات المستقبل للتعامل على أساس مبدأ الفعل وردِّ الفعل - يُوقع المجتمع والمَعنيِّين بإبداع آليَّات التفاعل والاستخدام في متاهات العشوائية والضياع؛ مما قد يُفوِّت على المجتمع المسلم فرصةَ الانتفاع من إنجازات التطور؛ سواء تَمَّ ذلك بذريعة الانتظار للتيقُّن من مطابقتها لمعايير الشرع، أو تَمَّ بذريعة الاعتياد على السائد من العادات والتقاليد، خصوصًا وأن اختراق المناخات القائمة باتجاه فضاءات التغيير غالبًا ما يكون مَدعاة للتبرُّم والكراهية في المجتمعات التقليدية، فغالبًا ما يتم تفسير الأمور المستجدة وَفقًا لمفاهيم المَوروث الثقافي، والمفاهيم والبِنى الفكرية الثابتة، بل وتوظيف الخرافة في التعليل في بعض الأحيان، ولكنها تبقى أدوات عاجزة عن مجاراة تأويل مستجدات التطور، الذي هو في حقيقة الأمر ناموس الحياة عمومًا. وإذا كانت المجتمعات التي قطَعت أشواطًا بعيدة في الوعي بمستلزمات التطور، قد تجاوزت حالة الركود، وتخطَّت حالة التهيُّب من التعايش مع المستجدات من المنجزات، وحسَمت أمر خياراتها منها سلفًا، باعتمادها دراسات التنبؤ والتخطيط القرني وآليَّات الإسقاط - فإن المطلوب من باب أولى أن تُبادر المؤسسة الفقهية في المجتمعات الإسلامية -على عجلٍ- إلى اعتماد فقه الاستشراف، أو فقه التوقُّع، أو فقه الإسقاط، كما يحلو للبعض أن يُسميه، وتُردفه بما أفرَزته الثورة العلمية والمعلوماتية من أدوات وآليَّات للاستشراف المستقبلي لما سيَستجد من معطيات إلى سقف زمني طويل الأمَد نسبيًّا؛ لتيسير اعتماد تلك المستجدات المستهدفة في إطار خُطط التنمية القومية، أو ما يَنتقل إلينا من معطيات من إنجازات الغير بيقين تامٍّ، يرتكز على مؤشرات ميدانيَّة وبيانات عملية، تتجاوز حالة الارتجال الشخصي، وردود الأفعال الآنية المُتسرعة في اتِّخاذ القرارات، وإصدار الفتاوى المُبتسرة ذات الصلة بهذا الأمر في حينه.
وإذا كان فقه استشراف المستقبل يقتضي الإيمان المطلق عقديًّا بأن التغير هو أحد سُنن الحياة؛ وذلك اعتمادًا على ما ورَد في القرآن والسُّنة من نصوص بهذا الخصوص - فإنه يتطلب الإلمام في نفس الوقت بمعارف العصر، وإدخال مادة دراسات التخطيط والاستشراف في مناهج كليات الشريعة، وكليات العلوم الإسلامية بمراحلها للدراسات الأولية والدراسات العليا؛ وذلك لتسليح الفقهاء المُحدَثين بأدوات العصر اللازمة للإحاطة بحقائق واقع الحال، وتمكينهم من استقراء متغيِّرات آفاق المستقبل بدراية تامَّة، تُؤهلهم للإفتاء السليم، واتِّخاذ المواقف الشرعية منها بأعلى درجة من اليقين والشمولية ومن دون تردُّدٍ، بانتظار زمن تحقُّقها على أهمية عامل الزمن في الفتوى، كما هو معروف في أدبيات أصول الفقه.
لذلك؛ فإن استمرار المجتمع المسلم في الغرق في هموم الحاضر، والانغماس في ثقافة الراهن، والتعكز على آليات الماضي في معالجة آفاق المستقبل – يَحرِمه من إمكانية التواصل الحركي المشروع مع المستقبل، ويعرقل مسعاه لرسم خُطوات الوصول إلى الحال المستهدف على أُسس علمية سليمة، فيَظل عندئذٍ يُراوح في متاهات التخلُّف كما يبدو عليه اليوم -وللأسف الشديد- حال الكثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، في حين أن الواقع العملي أثبت بما لا يدَع مجالاً للشك أن المجتمعات الناجحة اليوم هي التي تَنتهج الاستشراف، كأسلوب علمي في التعاطي مع إشكالات حياتها المستقبلية، وقد أفلحت فعلاً في تحقيق الكثير من الإنجازات الحضارية المشهودة، والتي انتفعت بها البشرية في كثيرٍ من المجالات.
وقد يثور السؤال: لماذا نستشرف المستقبل فقهيًّا ما دام المستقبل في عداد الغيب، وتَكتنفه عوامل المخاطرة وعدم التأكد، خصوصًا وأن القرآن الكريم قد امتدح الذين يؤمنون بالغيب، وخصَّهم بالفلاح؟!
والجواب أن المقصود بالإيمان بالغيب هو الإيمان بالأمور الغيبية التي أخبَر بها الشرع؛ كأحوال اليوم الآخر، والبرزخ، والملائكة، والجن، وغير ذلك كثير مما هو غيبي، والإيمان بوجوده من أركان الإيمان، وهذا بخلاف ما نحن فيه من الاستشراف الفقهي المبني على المُعطيات الواقعية والنظر في السُّنن الكونية وغيرها، فهذا ورد الأمر به في الشرع في مواضعَ أخرى؛ كالأمر بالسير في الأرض، والنظر في عواقب مَن سبقنا؛ لأخْذ العِبَر ونحن نستشرف المستقبل، وهذا كثير في القرآن والسنة النبوية لكل مَن طلبه. والمسلمون أحوج ما يكونون اليوم إلى اعتماد الاستشراف الفقهي، بعد أن أعياهم التخلف عن مواكبة التطوُّر، وأعاقهم العُقم الحضاري عن إعادة صياغة الحال على نحو أفضلَ! |
|