أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [٣٠]قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [٣١]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
قالوا عن رسول الله بعد أنْ أعيتهم الحيل ولم يجدوا صَدىً لقولهم: كاهن ومجنون قالوا (شاعر) ولم يفلحوا في هذه أيضاً، لأن رسول الله جاء في أمة أفصح ما يكون.
عندهم مَلكة البلاغة ودقّة الأداء اللغوي والبياني، فهم أدرى الناس بالشعر، ويعرفون أن ما جاء به محمد وما يتلوه عليهم ليس شعراً وما جرَّبوا عليه شيئاً من هذا قبل بعثته.
لذلك قال تعالى في إبطال دعواهم:
{ قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
[يونس: 16].
أين عقولكم المفكرة، فقد عشْتُ بين أظهركم أربعين سنة ما جرَّبتم عليَّ قول الشعر، فهل تفجَّر عندي بعد الأربعين، ومعلوم أن العبقريات تأتي في العقد الثاني من العمر.
ثم ما الذي كان يضمن لي أن عندي عبقرية تأتي بهذا الكلام قبل أنْ أموت؟ ثم أنا لا أقول لكم هذا كلامي أنا.
إنما هو من عند الله بوحي من الله لا يُعطى لكاهن، لأن الكاهن إنما يتلقَّى عن الشياطين
{ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ ..}
[الأنعام: 121]
ولا يُعطى لمجنون، ولا يُعطى لساحر ولا لشاعر.
فلما فشلوا في هذه أيضاً قالوا:
{ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }
[القلم: 15]
وقالوا: إن محمداً يختلف إلى رجل من أهل الكتاب يُعلِّمه هذا الكلام، لكن فضحهم القرآن وبيَّن كذبهم وتضارب أقوالهم، فقال تعالى:
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }
[النحل: 103].
إذ: هذا كله عناد ولدد في الخصومة لا يثبت أمام العاقل المتأمل.
ومعنى {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ} [الطور: 30] ننتظر ما يجري عليه من أحداث الحياة ومباغتة الموت الذي يُريحنا منه، فردَّ الله عليهم {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 31].
فالأمر هنا {قُلْ تَرَبَّصُواْ ..} [الطور: 31] أمر للتهديد، كما تقول لخصمك (أعلى ما في خيلك اركبه) يعني: افعل ما شئت، والمعنى: مهما فعلتَ فلن تنال مني شيئاً.
فالله يقول لهم: تربَّصوا كما تريدون، فلنْ تنالوا منا ولنْ تكيدوا لنا، لأننا في حضانة الله وفي أعين الله.
وسبق أنْ جرَّبتم، آذيتمونا بالكلام فلم تنالوا منّا، وآذيتمونا بالفعل فما تخلينا عن رسالتنا، آذيتمونا بالمكر والتبييت على قتلنا، فردّ الله كيدكم في نحوركم، ولما لم تفلحوا في الكيد الظاهر ذهبتم إلى الكيد الخفي واستعنتم علينا بالجن وبالسحرة، فما وصلتُم إلى بُغيتكم، وخيَّب الله سعيكم.
إذن: ترَّبصوا كما شئتُم، واعلموا أننا أيضاً نتربَّص بكم، وقد شرح الله تعالى هذه المسألة في آية أخرى، فقال سبحانه:
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ }
[التوبة: 52].
أي: ماذا تنتظرون فينا إما النصر عليكم، وإما أنْ نُقتل فننال الشهادة وكل منهما حُسْنى، ونحن ننتظر فيكم: إما أنْ يُعذِّبكم الله في الآخرة بكفركم، أو يُعذِّبكم بأيدينا حينما ننتصر عليكم.
فتربصوا بنا فلن تصلوا من الكيد لنا إلى شيء، لأننا في حضانة الله وفي أعين الله.