فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [٢٩]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
هذا أمر لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنْ يُذكِّر قومه، والتذكير أنْ تعيد ما أخبرت به وتكرره مراراً، والتذكير لا يكون إلا للنسيان، وهذه طبيعة البشر التي جبلهم الله عليها.
والتذكير ينفع من وجوه عدة: أولاًَ ينفع المذكّر لأنه حين يُكرِّر التذكرة لا يُحرَم ثوابها، ثم ينفع المؤمن الذي تُذكره
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }
[الذاريات: 55].
فأحداث الحياة تمر على المؤمن، ويمكن أنْ تُضبِّب عنده صفاء العقيدة، فالتذكير يزيل هذا الضباب ويمسح غبار الغفلة والنسيان.
لذلك كان سيدنا معاذ كثيراً ما يسأل سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن المسائل الفائتة.فقال (صلى الله عليه وسلم):
"تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّما قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء، وأيّما قلب أُشْرِبها نُكتتْ فيه نكتة سوداء، حتى تكون على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضرُّه فتنة ما دامت السماوات والأرض، وآخر كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً".
كذلك التذكير لا مانعَ أنْ ينفع الكافر بدليل أن صناديد الكفر في مكة آمنوا بالتذكير، المهم أنْ يصادف التذكيرُ قلباً صافياً ليطفىء فيه حمية الجاهلية.
وقد رأينا هذه المسألة في قصة إسلام سيدنا عمر، وكان جباراً في الجاهلية، ومع ذلك لما سمع القرآن تأثر به ورقَّ له قلبه، لأنه لما لطم أخته حتى سال الدم من وجهها تحركتْ عنده عاطفةُ الأخوة وما يلزمها من الحنان ورقة القلب، فلما انفتح قلبه دخله نور الهدى فأسلم، إذن: نفعه التذكير.
وقوله سبحانه: {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} [الطور: 29] الحق سبحانه ينفي عن رسوله هذه التهمة التي اتهموه بها، وأكد هذا النفي باستخدام أسلوب الخطاب.
{فَمَآ أَنتَ ..} [الطور: 29] واستخدام الباء في {بِكَاهِنٍ ..} [الطور: 29] يعني: ما فيك شيء من الكهانة أبداً، والكاهن هو العرّاف الذي يدَّعي علم الغيب، وكانوا كثيرين في هذا الوقت.
وكانت لهم خِلْقة شاذة عن الخلق، فمثلاً كان منهم (شِقّ أَنْمار) له نصف عين، ونصف أنف، ونصف فم، ونصف يد، ونصف رِجْل.
ومثل هذا ربنا رضي له شيئاً من الصفاء، فكان الشياطين ينزلون عليه ويُوحون إليه بأشياء من استراق السمع قبل بعثته (صلى الله عليه وسلم)، وقبل أنْ تُغلَق السماء في وجوههم، فكانوا يغرُّون الناس بأشياء فيها قليل من الحقيقة وكثير من الباطل يزيدونه من عندهم فيضلونهم.
وهؤلاء الكهان كانت لهم كلمة مسموعة، وكان الناس يستشيرونهم ويأخذون برأيهم في كلِّ أمور دينهم ودنياهم.
وسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبعد ما يكون عن هذه الصفة، كذلك نفى عنه صفة الجنون، والمجنون الذي لا عقلَ له، ولا يستطيع أنْ يُرتِّب الأشياء ولا أنْ يُدبر حركة حياته.
فهل شاهدتم شيئاً من هذا على رسول الله، وقد عُرِفَ بينكم برجاحة العقل وحُسْن التصرف والصدق والأمانة؟ كيف وقد مدحه الله بقوله:
{ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }
[القلم: 4].
وقوله سبحانه: {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ..} [الطور: 29] أي: أن نعم الله عليك كثيرة، ومنها أنك لستَ كما يقول، لا كاهن ولا مجنون، أو ذكِّر بنعمة ربك لا بنعمة الكاهن ولا بنعمة المجنون، ثم ينفي عنه تهمة أخرى، فيقول: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ ...}.