إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [١٧]فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [١٨]كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [١٩]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
ذِكْر المتقابلات سمة من سمات الأسلوب القرآني، ومظهر من مظاهر عظمته، فكما قلنا: الضد يظهر حُسْنه الضد، لذلك كثيراً ما نقرأ هذه المتقابلات كما في قوله سبحانه:
{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }
[الانفطار: 13-14].
وهنا بعد أنْ تكلَّم عن الكافرين وجزائهم في جهنم والعياذ بالله يُحدِّثنا سبحانه عن المتقين وما ينتظرهم من النعيم.
فساعة نقرأ هذه الآيات ونستحضر الصورتين المتقابلتين يقول المؤمن: الحمد لله أن إيماني أنقذني من هذا المصير المخزي.
ويقول الكافر: يا حسرتي لقد أبعدني الكفر وحرمني هذا النعيم.
فالمقابلة تُفرح المؤمن وتُحزن الكافر، تُعِز المؤمن وتُذل الكافر، لذلك قال تعالى:
{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ..}
[آل عمران: 185].
وقوله تعالى: {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ ..} [الطور: 17] معنى التقوى أنْ تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وقلنا: إن الحق سبحانه قال:
{ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ..}
[البقرة: 278]
وقال:
{ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ..}
[البقرة: 24] والمعنى واحد هو أنْ تجعلَ بينك وبين صفات الجلال لله وقاية، وحين تقي نفسك من النار فإنك تقي نفسك من الله، لأنها جُند من جنود الله.
وتلاحظ هنا {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور: 17] (المتقين) جمع و(جنات) جمع.
وهذا يعني أن لكلِّ مُتَّق جنة خاصة به، كما لو قلنا للتلاميذ: أخرجوا كتبكم.
أي: ليُخرج كلُّ واحد منكم كتابه، فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً.
لذلك قلنا في آية الرحمن:
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }
[الرحمن: 46]
فكيف نجمع بينهما؟ قالوا: جنتان، لأن الحديث هنا عن الإنس والجن الثقلان
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ }
[الرحمن: 31].
فالمراد: مَنْ خاف مقام ربه من الجن له جنة، ومن خاف مقام ربه من الإنس له جنة.
وحرف الجر {فِي جَنَّاتٍ ..} [الطور: 17]
يعني: أن الجنات ظرف والمتقين مظروف، الجنة محيطة بالمتقي، ثم قال: {وَنَعِيمٍ} [الطور: 17] لأن مَنْ في الجنة ليس بالضرورة أنْ يكون في نعيم.
كما نرى مثلاً الباشا يجلس في حديقة منزله، وفيها الأشجار والزهور والثمار، وعنده العامل يقصف الأشجار يُقلِّمها ويرويها، فالحديقة نعيم فقط لصحابها، لكنها لستْ نعيماً لمَنْ يعمل فيها.
أما هؤلاء المتقون فهم في جنات وفي نعيم، فهم يتنعَّمون فيها، لذلك أكّد الحق سبحانه هذا المعنى، فقال بعدها: {فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ..} [الطور: 18] أي: فاكهين بما هم فيه من النعيم، وفاكهين يعني: فرحين.
هذه إضافة أخرى لأن الإنسان قد يكون في جنة وفي نعيم لكنه غير فرح بما هو فيه.
وهذه المسألة رأيناها مثلاً في مصر بعد الثورة، حيث رأينا الباشا فلان عنده الحدائق والبساتين وفيها ألوان الفاكهة والثمار ويأكل منها، لكنه غير فرح بها ويُنغِّصها عليه خوفُ التأميم، لأنهم كانوا يأخذون الأرض منهم ويُؤممونها للدولة، فهو في جنة، وفي نعيم، لكنه غير فاكه بها.
ومعنى {بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ..} [الطور: 18] أي: بالمسبِّب لا بالأسباب.
فالمتقون في جنات وفي نعيم وهم فرحون به فاكهون بما آتاهم ربهم، وفوق ذلك وقبله: {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ} [الطور: 18] وهذا من تمام النعمة، فيمكن بعد أنْ يدخل الجنة يخاف أنْ يخرج منها النار.
فيقول له: لا لأن الذي يدخلها يبقى فيها لا يخرج منها، أو وقاهم عذاب الجحيم بداية قبل أنْ يدخلوا الجنة كما قال سبحانه:
{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ..}
[آل عمران: 185].
وقوله تعالى: {كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19] وفي آية آخرى قال تعالى:
{ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }
[النساء: 4]
أي: في الجنة كلوا منها واشربوا هنيئاً مريئاً.
فالهنيء هو الطعام أو الشراب تتناوله فتجد له طعماً ولذة تمتعك لحظة تأكل أو تشرب، لكن ربما أحسسْتَ بعدها بآثار غير مرغوب فيها، كأنَّ بعده حموضة في المعدة مثلاً أو غازات وانتفاخات وغير ذلك.
فهو إذن هنيء لكن ليس مريئاً، فالله يصف طعام الجنة وشرابها بأنه هنيء ومريء.
يعني: يمري عليك ولا تجد له آثاراً ضارة.
وإنْ كان طعام الجنة وشرابها ليس فيه شيء من هذا لأن الإنسان هناك لا يأكل عن جوع، بل يأكل تفكُّهاً، وحتى لو لم يأكل لا فرق.
ثم يذكر سبحانه ألواناً أخرى من ألوان النعيم.