أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: الباب الحادي والسبعون في ذكر العشق ومن بلي به الثلاثاء 29 نوفمبر 2022, 7:17 pm | |
| الباب الحادي والسبعون في ذكر العشق ومن بلي به والافتخار بالعفاف وأخبار من مات بالعشق وما في معنى ذلك وفيه فصول الفصل الأول في وصف العشق قال الجاحظ: العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود. وقال أعرابي: العشق خفي أن يرى وجلي أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته تواري، وقيل: أو العشق النظر وأول الحريق الشرر، وكان العشاق فيما مضى يشق الرجل برقع حبيبته، والمرأة تشق رداء حبيبها. ويقولان إنهما إذا لم يفعلا ذلك عرض البغض بينهما. وقال عبد بني الحسحاس: وكم قد شققنا من رداء محبّر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس إذا شقّ برد شقّ بالبرد برقع ... من الحبّ حتى كلنّا غير لابس وقيل لأعرابي: ما بلغ من حبك لفلانة؟ قال: إني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف، فأجد من ذكرها رائحة المسك. وقيل: رأى شبيب أخو بثينة جميلا عندها، فوثب عليه وآذاه، ثم إن شبيبا أتى مكة وجميل فيها، فقيل لجميل دونك شبيبا، فخذ بثأرك منه فقال: وقالوا يا جميل أتى أخوها ... فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب وأنشد الأخفش الحداد يقول: مطارق الشوق منها في الحشى أثر ... يطرقن سندان قلب حشوه الفكر ونار كور الهوى في الجسم موقدة ... ومبرد الحبّ لا يبقي ولا يذر «1» وفي الجليس الأنيس لأبي العالية الشامي قال: سأل أمير المؤمنين المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟ فقال: هو سوانح تسنح للمرء، فيهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه، وقال ثمامة: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس وصاحب ملك مسالكه ضيقة ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي عنان طاعتها وقوة تصريفها، توارى عن الأبصار مدخله، وخفي في القلوب مسلكه. وكان شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور قال لسليمان بن عمرو ومن معه: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة ولكم حداء ونغم، فهل فيكم عاشق؟ قال: لا. قال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان، ويفتح جبلة البليد، والبخيل، ويبعث على التلطف وتحسين اللباس وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، وتشريف الهمة. وقال المجنون: قالت جننت على ذكري فقلت لها ... الحبّ أعظم ممّا بالمجانين الحبّ ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنّما يصرع المجنون في الحين قال ذو الرياستين: إن بهرام جور كان له ابن وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس مسيء الأدب، فغمه ذلك، فوكل به من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يلازمه ويعلمه وكان يسألهم عنه، فيحكون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوما، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صيرنا إلى الرجاء في فلاحه، قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها، فغلبت عليه، فهو لا يهدأ إلا بها ولا يتشاغل إلا بها، فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه، ثم دعا بأبي الجارية، فقال له: إني مسر إليك سرا، فلا يعدوك، فضمن له ستره، فأعلمه ان ابنه قد عشق ابنته، وانه يريد أن ينكحها أياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها، وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها تجتنبه وتهجره، فإن استعلمها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك، ثم لتعلمني خبرها وخبره، ولا تطلعهما على ما أسره إليك، فقبل أبوها ذلك منه، ثم قال للمؤدب، والموكل بأدبه حضه وشجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك، وفعلت المرأة كما أمرها أبوها فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته لأجله أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصولجان حتى مهر في ذلك. ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء، وما أشبه ذلك. فسر الملك بذلك، وأمر له بما طلب، ثم دعا مؤدبه، فقال له: إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من خبر هذه المرأة لا يدري به، فتقدم إليه وأمره أن يرفع أمرها إليّ ويسألني أن أزوجه إياها، ففعل المؤدب ذلك، فرفع الفتى ذلك لأبيه، فدعا بأبيها وزوجه إياها وأمر بتعجيلها إليه، وقال: إذا اجتمعت أنت وهي فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك، فلما اجتمعا صار إليه، فقال: يا بني لا يضعن قدرها عندك مراسلتها إياك، وليست في خبائك، فإني أمرتها بذلك وهي أعظم الناس منة عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك، ففعل الفتى وعاش مسرورا بالجارية، وعاش أبوه مسرورا به وأحسن ثواب أبيها، ورفع منزلته لصيانة سره، وأحسن جائزة المؤدب لامتثال ما أمر به. وكان عبد الله بن عبيدة الريحاني يهوى جارية، فزارته يوما، فأقام يحدثها ويشكو إليها ألم الفراق، فحان وقت الظهر، فناداه إنسان الصلاة يا أبا الحسن، فقال له: رويدك حتى تزول الشمس أي حتى تقوم الجارية. وقالت ليلى العامرية في قيسها: لم يكن المجنون في حالة ... إلا وقد كنت كما كانا لكنه باح بسرّ الهوى ... وإنّني قد ذبت كتمانا وقال أحمد بن عثمان الكاتب: وإنّي ليرضيني الممر ببابها ... وأقنع منها بالشتيمة والزجر وقال الفتح بن خاقان صاحب المتوكل: أيّها العاشق المعذّب صبرا ... فخطايا أخي الهوى مغفورة زفرة في الهوى أحط لذنب ... من غزاة وحجّة مبرورة وقال عمر بن أبي ربيعة: كنت بين امرأتين هذه تساررني وهذه تعضني فما شعرت بعضة هذه من لذة هذه، وأنشد شيبان العذري يقول: لو حزّ بالسيف رأسي في محبّتها ... لطار يهوي سريعا نحوها رأسي وقال يحيى بن معاذ الرازي: لو أمرني الله أن أقسم العذاب بين الخلق ما قسمت للعاشقين عذابا.
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الباب الحادي والسبعون في ذكر العشق ومن بلي به الثلاثاء 29 نوفمبر 2022, 7:18 pm | |
| الفصل الثاني من هذا الباب فيمن عشق وعف والافتخار بالعفاف روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشق فعف، فمات، فهو شهيد، وقال صلى الله عليه وسلم: عفوا تعف نساؤكم. وقال بعضهم: رأيت امرأة مستقبلة البيت في غاية الضعف والنحافة رافعة يديها تدعو، فقلت لها: هل من حاجة؟ فقالت: حاجتي أن تنادي في الموقف بقولي: تزوّد كلّ الناس زادا يقيهم ... ومالي زاد والسلام على نفسي فناديت كما أمرتني، وإذا بفتى نحيل الجسم قد أقبل إليّ، فقال: أنا الزاد، فمضيت به إليها، فما زاد على النظر والبكاء، ثم قالت له: انصرف بسلام، فقلت: ما علمت أن لقاء كما يقتصر على هذا، فقالت: أمسك يا هذا، أما علمت أن ركوب العار ودخول النار شديد؟ قال إبراهيم بن محمد المهلبي: كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر وكم خلوت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتأنيس والنظر أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر «1» كذلك الحبّ لا إتيان معصية ... لا خير في لذّة من بعدها سقر «2» وقال بعض بني كلب: إن أكن طامح اللحاظ «3» فإنّي ... والذي يملك الفؤاد عفيف ونحو ذلك قول القائل: فقالت بحق الله إلّا أتيتنا ... إذا كان لون الليل شبه الطيالس فجئت وما في القوم يقظان غيرها ... وقد نام عنها كل واش وحارس فبتنا بليل طيّب نستلذه ... جميعا ولم أقلب لها كفّ لامس ونزل رجل على صديق له مستترا خائفا من عدو له، فأنزله في منزله وتركه فيه، وسافر لبعض حوائجه، وقال لامرأته: أوصيك بضيفي هذا خيرا، فلما عاد بعد شهر قال لها: كيف ضيفنا: قالت: ما أشغله بالعمى عن كل شيء، وكان الضيف قد أطبق عينيه، فلم ينظر إلى امرأة صاحبه ولا إلى منزله إلى أن عاد من سفره. وكان عمر بن أبي ربيعة عفيفا يصف ويعف ويحوم ولا يرد. ودخلت بثينة على عبد الملك بن مروان، فقال لها يا بثينة: ما أرى فيك شيئا مما كان يقوله جميل، فقالت: يا أمير المؤمنين، إنه كان يرنو إليّ بعينين ليستا في رأسك، قال: فكيف رأيتيه في عشقه؟ قالت: كان كما قال الشاعر: لا والذي تسجد الجباه له ... مالي بما تحت ذيلها خبر ولا بفيها ولا هممت بها ... ما كان إلّا الحديث والنظر وقد قدمت هذين البيتين في الجزء الأول، فيما جاء في الكتابة على سبيل الرمز وعن أبي سهل الساعدي قال: دخلت على جميل وبوجهه آثار الموت، فقال لي: يا أبا سهل، إن رجلا يلقى الله ولم يسفك دما، ولم يشرب خمرا، ولم يأت فاحشة أفترجو له الجنة؟ قلت: أي والله، فمن هو؟ قال: إني لأرجو أن أكون ذلك، فذكرت له بثينة، فقال: إني لفي آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن كنت حدثت نفسي بريبة قط. وعن عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعته بغي إلى نفسها، وبذلت له مالا، وكانت تتكهن وتسمع بإتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت جميلة، فأرادت أن تخدع عبد الله رجاء أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منها للنور الذي رأته بين عينيه، فأبى وقال: أمّا الحرام فالحمام دونه ... والحلّ لا حل فنستبينه «1» فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه وقال آخر: وأحور مخضوب البنان محجّب ... دعاني فلم أعرف إلى ما دعا وجها بخلت بنفسي عن مقام يشينها ... ولست مريدا ذاك طوعا ولا كرها «2» وراود شاب ليلى الأخيلية عن نفسها فاشمأزت، وقالت: وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل وقال ابن ميادة: موانع لا يعطين حبّة خردل ... وهنّ دوان في الحديث أوانس «3» ويكرهن أن يسمعن في اللهو ريبة ... كما كرهت صوت اللجام الشوامس «4» وقال آخر: حور حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكّة صيدهنّ حرام يحسبن من لين الكلام فواسقا ... ويصدّهن عن الخنى الإسلام «5» وكان الأصمعي يستحسن بيتي العباس بن الأحنف: أتأذنون لصبّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر لا يظهر الشوق إن طال الجلوس به ... عفّ الضمير ولكن فاسق النظر واختفى إبراهيم بن المهدي في هربه من المأمون عند عمته زينب بنت أبي جعفر، فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، وكانت واحدة زمانها في الحسن والأدب طلبت منها بخمسمائة ألف درهم، فهويها إبراهيم، وكره أن يراودها عن نفسها، فغنى يوما وهي قائمة على رأسه: يا غزالا لي إليه ... شافع من مقلتيه أنا ضيف وجزاء الم ... ضيف إحسان إليه ففهمت الجارية ما أراد، فحكت ذلك لمولاتها فقالت: إذهبي إليه، فأعلميه أني وهبتك له، فعادت إليه، فلما رآها أعاد البيتين، فأكبت عليه، فقال لها: كفى، فلست بخائن، فقالت: قد وهبتني لك مولاتي وأنا الرسول، فقال: أما الآن فنعم. وأنشد المبرد: ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلّا نهاني الحياء والكرم فلا إلى فاحش مددت يدي ... ولا مشت بي لزلة قدم وقال آخر: يقول لا تنظر فذاك بلية ... بلى كل ذي عينين لا بدّ ناظر وهل باكتحال العين بالعين ريبة ... إذا عفّ فيما بينهنّ السرائر «1» وكان بعض الخلفاء قد نذر على نفسه أن لا ينشد شعرا، ومتى أنشد بيت شعر فعليه عتق رقبة. قال: فبينما هو في الطواف يوما إذ نظر إلى شاب يتحدث مع شابة جميلة الوجه، فقال له: يا هذا اتق الله أفي مثل هذا المكان؟ فقال يا أمير المؤمنين: والله ما ذاك لخنى، ولكنها ابنة عمي وأعز الناس عليّ وإن أباها منعني من تزوجها لفقري وفاقتي، وطلب مني مائة ناقة، ومائة أوقية من الذهب، ولم أقدر من ذلك. قال: فطلب الخليفة أباها، ودفع إليه ما اشترطه على ابن أخيه، ولم يقم من مقامه حتى عقد له عليها، ثم دخل الخليفة إلى بيته وهو يترنم ببيت من الشعر، فقالت له جارية من حظاياه: أراك اليوم ما مولاي تنشد الشعر، أفنسيت ما نذرت أم تراك قد هويت، فأنشد هذه الأبيات يقول: تقول وليدتي لما رأتني ... طربت وكنت قد أسليت حينا أراك اليوم قد أحدثت عهدا ... وأورثك الهوى داء دفينا بحقك هل سمعت لها حديثا ... فشاقك أو رأيت لها جبينا فقلت شكا إليّ أخ محبّ ... كمثل زماننا إذ تعلمينا وذو الشجو القديم وإن تعزّى ... محبّ حين يلقى العاشقينا ثم عدّ الأبيات فإذا هي خمسة أبيات، فأعتق خمس رقاب، ثم قال: لله درك من خمسة أعتقت خمسة، وجمعت بين رأسين في الحلال «2». وروي عن عثمان الضحاك قال: خرجت أريد الحج فنزلت بخيمة بالأبواء فإذا بجارية جالسة على باب الخيمة، فأعجبني حسنها فتمثلت بقول نصيب. بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل لا تملينا فما ملّك القلب فقالت: يا هذا أتعرف قائل هذا البيت؟ قلت: بلى هو نصيب، فقالت: أتعرف زينبه؟ قلت: لا. قالت: أنا زينبه. قلت: حياك الله وحباك. قالت: أما والله إن اليوم موعده، وعدني العام الأول بالاجتماع في هذا اليوم، فلعلك أن لا تبرح حتى تراه. قال: فبينما هي تكلمني إذا أنا براكب قالت: ترى ذلك الراكب؟ قلت: نعم. قالت: إني لأحسبه إياه، فأقبل فإذا هو نصيب، فنزل قريبا من الخيمة، ثم أقبل فسلم، ثم جلس قريبا منها، فسألته أن ينشدها، فأنشدها، فقلت في نفسي: محبان قد طال التنائي بينهما، فلا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة، فقمت إلى بعيري لأشد عليه، فقال: على رسلك إني معك، فجلست حتى نهض معي فسرنا وتسامرنا، فقال لي: أقلت في نفسك محبان التقيا بعد طول تناء فلا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة. قلت: نعم قد كان ذلك. قال: ورب البيت منذ أحببتها ما جلست منها مجلسا هو أقرب من مجلسي هذا، فتعجبت لذلك، وقلت: والله هذه هي العفة في المحبة. وعن محمد بن يحيى المدني قال: سمعت بعض المدنيين يقول: كان الرجل إذا أحب الفتاة يطوف حول دارها حولا يفرح أن يرى من يراها، فإن ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار، واليوم هو يشير إليها، وتشير إليه ويعدها وتعده، فإن التقيا لم يتشاكيا حبا ولم يتناشدا شعرا بل يقوم إليها، ويجلس بين شعبتيها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة. وقال الأصمعي: قلت لأعرابية: ما تعدون العشق فيكم؟ قالت: الضمة والغمزة والقبلة، ثم أنشأت تقول: ما الحبّ إلّا قبلة ... وغمز كف وعضد ما الحبّ إلّا هكذا ... إن نكح الحبّ فسد ثم قالت: كيف تعدون أنتم العشق؟ قلت: نمسك بقرنيها ونفرق بين رجليها. قالت: لست بعاشق أنت طالب ولد، ثم أنشأت تقول: قد فسد العشق وهان الهوى ... وصار من يعشق مستعجلا يريد أن ينكح أحبابه ... من قبل أن يشهد أو ينحلا وقيل لرجل: وقد زفت عشيقته على ابن عم لها: أيسرك أن تظفر بها الليلة؟ قال: نعم والذي أمتعني بحبها وأشقاني بطلبها. قيل، فما كنت صانعا بها قال: كنت أطيع الحب في لثمها وأعصي الشيطان في إثمها، ولا أفسد عشق عشرين سنة بما يبقى ذميم عاره، وينشر قبيح أخباره، إني إذن للئيم لم يلدني كريم. ومر سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في ليلة في بعض سكك المدينة، فسمع امرأة تقول: ألا طال هذا الليل وازوّر جانبه «1» ... وليس إلى جنبي خليل ألا عبه فو الله لولا الله تخشى عواقبه ... لحرك من هذا السرير جوانبه مخافة ربّي والحياء يعفّني ... وإكرام بعلي أن تنال مراتبه قال، فسأل عمر رضي الله تعالى عنه عنها، فقيل له: إنها امرأة فلان، وله في الغزاة ثمانية أشهر، فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يغيب الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر. ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم الأثر عن محمد بن عثمان بن أبي خيثمة السلمي عن أبيه عن جده قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يطوف ذات ليلة في سكك المدينة إذ سمع امرأة تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل ... سهل المحيا كريم غير ملجاج «2» تنميه أعراق صدق حين تنسبه ... أخي وفاء عن المكروب فرّاج فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لا أرى معي بالمدينة رجلا تهتف به العواتق «3» في خدورهن «4». عليّ بنصر بن حجاج، فلما أصبح أتي بنصر بن حجاج، فإذا هو من أحسن الناس وجها وأحسنهم شعرا، فقال عمر: عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذن من شعرك، فأخذ من شعره، فخرج من عنده وله وجنتان كأنهما شقتا قمر، فقال له: اعتم فاعتم، فافتتن الناس بعينيه، فقال له عمر: والله لا تساكنني في بلدة أنا فيها، فقال يا أمير المؤمنين: ما ذنبي؟ قال: هو ما أقول لك، ثم سيره إلى البصرة وخشيت المرأة التي سمع منها عمر ما سمع أن يبدر من عمر إليها شيء فدست إليه المرأة أبياتا وهي: قل للإمام الذي تخشى بوادره ... مالي وللخمر أو نصر بن حجاج لا تجعل الظنّ حقّا أن تبيّنه ... إن السبيل سبيل الخائف الراجي إن الهوى زمّ بالتقوى فتحبسه ... حتى يقرّ بإلجام وإسراج قال، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه وقال: الحمد لله الذي زم الهوى بالتقوى قال: وطال مكث نصر بن حجاج بالبصرة، فخرجت أمه يوما بين الأذان والإقامة متعرضة لعمر فإذا هو قد خرج في إزار ورداء وبيده الدرة، فقالت له: يا أمير المؤمنين والله لأقفن أنا وأنت بين يدي الله تعالى، وليحاسبك الله أيبيتن عبد الله وعاصم إلى جنبيك، وبيني وبين ابني الفيافي، والأودية، فقال لها: إن ابني لم تهتف بهما العواتق في خدورهن، ثم أرسل عمر إلى البصرة بريدا إلى عتبة بن غزوان فأقام أياما ثم نادى عتبة من أراد أن يكتب إلى أمير المؤمنين، فليكتب، فإن البريد خارج، فكتب نصر بن حجاج: بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك يا أمير المؤمنين أما بعد، فاسمع مني هذه الأبيات: لعمري لئن سيرتني أو حرمتني ... وما نلت من عرضي عليك حرام فأصبحت منفيّا على غير ريبة ... وقد كان لي بالمكّتين مقام لئن غنت الذلفاء يوما بمنية ... وبعض أماني النساء غرام ظننت بي الظن الذي ليس بعده ... بقاء ومالي جرمة فألام فيمنعني ممّا تقول تكرّمي ... وآباء صدق سالفون كرام ويمنعها ممّا تقول صلاتها ... وحال لها في قومها وصيام فهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... فقد جبّ مني كاهل وسنام «5» قال، فلما قرأ عمر رضي الله تعالى عنه هذه الأبيات قال: أما ولي السلطان، فلا، وأقطعه دارا بالبصرة في سوقها، فلما مات عمر ركب راحلته وتوجه نحو المدينة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الباب الحادي والسبعون في ذكر العشق ومن بلي به الثلاثاء 29 نوفمبر 2022, 7:18 pm | |
| الفصل الثالث من هذا الباب في ذكر من مات بالحب والعشق حدّث أبو القاسم بن إسماعيل بن عبد الله المأمون قال: حدثني أبي قال: كان بالمدينة قينة من أحسن الناس وجها وأكملهم عقلا وأكثرهم أدبا قد قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه فقال لها ذات يوم: ويحك أما لك قرابة أو أحد تحبين أن أضيفه وأسدي إليه معروفا؟ قالت: يا أمير المؤمنين أما قرابة فلا ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاي وأحب أن ينالهم خير مما صرت إليه. فكتب إلى عامله بالمدينة في إحضارهم إليه وأن يدفع إلى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم في الدخول عليه فأذن لهم وأكرمهم غاية الإكرام وسألهم عن حوائجهم فأما اثنان منهم فذكرا حوائجهما فقضاها، وأما الثالث فسأله عن حاجته فقال: يا أمير المؤمنين ما لي حاجة، قال: ويحك أو لست أقدر على حوائجك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين ولكن حاجتي ما أظنك تقضيها فقال: ويحك فاسألني فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها، قال: بلى، فلي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا بسببها تغني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال فافعل قال: فتغير وجه يزيد ثم قام من مجلسه فدخل على الجارية فأعلمها فقالت: وما عليك يا أمير المؤمنين فأمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فنصبت فقعد يزيد على أحدها والجارية على الآخر والفتى على الثالث ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتك فقال: تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر: لا أستطيع سلوّا عن مودتها ... أو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا «1» فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت وقال للفتى سل حاجتك فقال: مرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر: تخيرت من نعمان عود أراكة ... لهند ولكن من يبلّغه هندا ألا عرّجا بي بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى سل حاجتك؟ قال: تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر: منيّ الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرّق بيننا الدّهر والله لا أسلوكمو أبدا ... ما لاح بدر أو بدا فجر فأمرها فغنت قال: فلم تتم الأبيات حتى خرّ الفتى مغشيا عليه فقال يزيد للجارية: قومي انظري ما حاله فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت، فقال لها يزيد: ابكيه، فقالت: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي، فقال لها: ابكيه فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك، فبكت الجارية وبكى أمير المؤمنين وأمر بالفتى فجهز ودفن، وأما الجارية فلم تمكث بعده إلا أياما قلائل وماتت. وحكي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قدم على عبد الملك بن مروان فجلس ذات ليلة يسامره فتذاكرا الغناء والجواري المغنيات والعشق فقال عبد الملك لعبد الله: حدثني بأمر ما مر لك في هذه الأغاني وما رأيت من الجواري؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين اشتريت جارية مولدة بعشرة آلاف درهم وكانت حاذقة مطبوعة فوصفت ليزيد بن معاوية فكتب إلي في شأنها فكتبت إليه: والله لا تخرج مني ببيع ولا هبة فأمسك عني فكانت عندي على تلك الحالة لا أزداد فيها إلا حبا، فبينما أنا ذات ليلة إذ أتتني عجوز من عجائزنا فذكرت لي أن بعض أعراب المدينة يحبها وتحبه ويراها وتراه وإنه يجيء كل ليلة متنكرا فيقف بالباب فيسمع غناءها ويبكي شغفا وحبا، فراعيت ذلك الوقت الذي قالت عليه العجوز فإذا به قد أقبل مقنعا رأسه وقعد مستخفيا فلم أدع بها في تلك الليلة وجعلت أتأمل موضعها وموضعه فإذا بها تكلمه ويكلمها ولم أر بينهما إلا عتبا ولم يزالا كذلك حتى ابيض الصبح فدعوت بها وقلت لقيّمة الجواري أصلحي فلانة بما يمكنك فأصلحتها وزينتها، فلما جاءت بها قبضت على يديها وفتحت الباب وخرجت فجئت إلى الفتى فحركته فانتبه مذعورا فقلت: لا بأس عليك ولا خوف هي هبة مني إليك، فدهش الفتى ولم يجبني فدنوت إلى أذنه وقلت: قد أظفرك الله تعالى ببغيتك فقم وانصرف بها إلى منزلك فلم يرد جوابا فحركته فإذا هو ميت فلم أر شيئا قط كان أعجب من أمره. قال عبد الملك: لقد حدثتني بعجب فما صنعت الجارية؟ قلت: ماتت والله بعده بأيام بعد نحول عظيم وتعليل وماتت كمدا ووجدا على الغلام. وقيل أن عبد الله بن عجلان الهندي رأى أثر كف عشيقته في ثوب زوجها فمات. وذكر محمد بن واسع الهيتي أن عبد الملك بن مروان بعث كتابا إلى الحجاج بن يوسف الثقفي يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عند عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد ... إذا ورد عليك كتابي هذا وقرأته فسير لي ثلاث جوار مولدات أبكارا يكون إليهن المتنهى في الجمال وأكتب لي بصفة كل جارية منهن ومبلغ ثمنها من المال فلما ورد الكتاب على الحجاج دعا بالنخاسين وأمرهم بما أمره به أمير المؤمنين وأمرهم أن يسيروا إلى أقصى البلاد حتى يقعوا بالغرض وأعطاهم المال وكتب لهم كتبا إلى كل الجهات فساروا يطلبون ما أراد أمير المؤمنين فلم يزالوا من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم حتى وقعوا بالغرض ورجعوا إلى الحجاج بثلاث جوار مولدات ليس لهن مثيل قال: وكان الحجاج فصيحا فجعل ينظر إلى كل واحدة منهن ومبلغ ثمنها فوجدهن لا يقام لهن بقيمة وأن ثمنهن ثمن واحدة منهن ثم كتب كتابا إلى عبد الملك بن مروان يقول فيه بعد الثناء الجميل: وصلني كتاب أمير المؤمنين أمتعني الله تعالى ببقائه يذكر فيه أني أشتري له ثلاث جوار مولدات أبكارا وأن أكتب له صفة كل واحدة منهن وثمنها فأما الجارية الأولى أطال الله تعالى بقاء أمير المؤمنين فإنها جارية عيطاء السوالف عظيمة الروادف كحلاء العينين حمراء الوجنتين قد أنهدت نهداها والتفت فخذاها كأنها ذهب شيب بفضة وهي كما قيل: بيضاء فيها إذا استقبلتها دعج ... كأنها فضّة قد شابها ذهب وثمنها يا أمير المؤمنين ثلاثون ألف درهم، وأما الثانية فأنها جارية فائقة في الجمال معتدلة القدر والكمال تشفي السقيم بكلامها الرخيم وثمنها يا أمير المؤمنين ستون ألف درهم، وأما الثالثة، فإنها جارية فاترة الطرف لطيفة الكف عميمة الردف شاكرة للقليل مساعدة للخليل بديعة الجمال كأنها خشف الغزال وثمنها يا أمير المؤمنين ثمانون ألف درهم ثم أطنب في الشكر والثناء على أمير المؤمنين وطوى الكتاب وختمه ودعا النخاسين فقال لهم: تجهزوا للسفر بهؤلاء الجواري إلى أمير المؤمنين. فقال أحد النخاسين: أيد الله الأمير إني رجل كبير ضعيف عن السفر ولي ولد ينوب عني أفتأذن لي في ذلك؟ قال: نعم، فتجهزوا وخرجوا ففي بعض مسيرهم نزلوا يوما ليستريحوا في بعض الأماكن فنامت الجواري فهبت الريح فانكشف بطن إحداهن وهي الكوفية فبان نور ساطع وكان اسمها مكتوم فنظر إليها ابن النخاس وكان شابا جميلا ففتن بها لساعته فأتاها على غفلة من أصحابه وجعل يقول: أمكتوم عيني لا تملّ من البكا ... وقلبي بأسهام الأسى يترشّق أمكتوم كم من عاشق قتل الهوى ... وقلبي رهين كيف لا أتعشّق فأجابته تقول: لو كان حقا ما تقول لزرتنا ... ليلا إذا هجعت عيون الحسّد قال: فلما جن الليل انتضى الفتى ابن النخاس سيفه وأتى نحو الجارية فوجدها قائمة تنتظر قدومه فأخذها وأراد أن يهرب ففطن به أصحابه فأخذوه وكتفوه وأوثقوه بالحديد ولم يزل مأسورا معهم إلى أن قدموا على عبد الملك بن مروان فلما مثلوا بالجواري بين يديه أخذ الكتاب ففتحه وقرأه فوجد الصفة وافقت اثنتين من الجواري ولم توافق الثالثة ورأى في وجهها صفرة وهي الجارية الكوفية فقال للنخاسين: ما بال هذه الجارية لم توافق حليتها التي ذكرها الحجاج في كتابه وما هذا الاصفرار الذي بها والانتحال فقالوا يا أمير المؤمنين نقول ولنا الأمان، قال: وإن كذبتم هلكتم. فخرج أحد النخاسين وأتى بالفتى وهو مصفّد بالحديد فلما قدموه بين يدي أمير المؤمنين بكى بكاء شديدا وأيقن بالعذاب ثم أنشأ يقول: أمير المؤمنين أتيت رغما ... وقد شدّت إلى عنقي يديّا مقرّا بالقبيح وسوء فعلي ... ولست بما رميت به بريّا فإن تقتل ففوق القتل ذنبي ... وأن تعفو فمن جود عليّا فقال عبد الملك: يا فتى ما حملك على ما صنعت? استخفاف بنا أم هوى الجارية، قال: وحق رأسك يا أمير المؤمنين وعظم قدرك ما هو إلا هوى الجارية فقال: هي لك بما أعددته لها فأخذها الغلام بكل ما أعده لها أمير المؤمنين من الحلي والحلل وسار بها فرحا مسرورا إلى نحو أهله حتى إذا كانا ببعض الطريق نزلا بمرحلة ليلا فتعانقا وناما فلما أصبح الصباح وأراد الناس السير نبهوهما فوجدوهما ميتين فبكوا عليهما ودفنوهما بالطريق ووصل خبرهما إلى عبد الملك فبكى عليهما وتعجب من ذلك. ومن ذلك ... ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخرج خالد بن الوليد المخزومي رضي الله تعالى عنه إلى مشركي خزاعة قال خالد: فأخرجني إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف فارس من أهل النجدة والبأس قال: فجد بنا المسير إليهم فسبق إليهم الخبر فخرجوا إلينا فقاتلناهم قتالا شديدا حتى تعالى النهار وطار الشرار وهاجت الفرسان وتلاحمت الأقران فلولا الله تعالى أيدنا بنصره لكادت الدائرة أن تكون علينا ولكن تداركنا الله برحمة منه فهزمناهم وقتلناهم قتلا ذريعا ولم ندع لهم فارسا إلا قتلناه. ثم طلبنا البيوت فنهبنا وسبينا. فلما هدأ القتال والنهب أمرت أصحابي بجمع السبايا لنقدم بهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما خرجنا وأحصيناهم، خرج منهم غلام لم يراهق الحلم، ولم يجر عليه القلم، وهو ماسك بشابة جميلة فقلنا له: يا غلام انعزل عن النساء فصاح صيحة مزعجة وهجم علينا فو الله لقد قتل منا في بقية نهارنا مائة رجل، قال خالد: فرأيت أصحابي قد كرهوا قتاله، وتأخروا عنه فملك منهم جوادا وعلا على ظهره ونادى: البراز يا خالد قال: فبرزت إليه بنفسي بعد أن أنشدت شعرا فو الله لم يمهلني حتى أتم شعري بل حمل علي فتطاعنا حتى تكسرت القنا وتضاربنا بالسيوف حتى تفللت فوالله لقد اقتحمت الأهوال ومارست الأبطال فما رأيت أشد من حملاته ولا أسرع من هجماته فبينما نحن نعترك إذ كبا به فرسه فصار بين قوائمه فوثبت عليه وعلوت على صدره وقلت له: إفد نفسك بقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنا أردك من حيث جئت، قال: يا خالد ما أنصفتني أتركني حتى أجد من نفسي القوة، قال خالد: فتركته، وقلت: لعله أن يسلم ثم شددته وثاقا وصفدته بالحديد وأنا أبكي إشفاقا على حسن شبابه ثم أوثقته على بعير لي فلما علم أن لا خلاص له قال: يا خالد سألتك بحق إلهك إلا ما شددت ابنة عمي على ناقة أخرى إلى جانبي؟ قال خالد: فأخذتها وشددتها على ناقة أخرى إلى جانبه ووكلت بهما جماعة من أشد القوم بالقواضب والرماح وسرنا، فلما استقامت مطاياهما جعل الغلام والجارية يتناشدان الأشعار ويبكيان إلى آخر الليل فسمعته يذكر قصيدة يسب فيها الإسلام ويذكر أن لا يسلم أبدا فأخذت السيف وضربته فرميت رأسه فصاحت الجارية وأكبت صارخة فحركتها فوجدتها ميتة فأبركنا الأباعر وحفرنا ودفناهما فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلنا نحدثه بعجيب ما رأينا مع الغلام فقال: لا تحدثوني شيئا أنا أحدثكم به فقلنا: من أعلمك به يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل عليه السلام وتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من موافقتهما وموافقة أجلهما. ومن ذلك، ما حكاه الثوري، قال: حدثني جبلة بن الأسود وما رأيت شيخا أصبح ولا أوضح منه قال: خرجت في طلب إبل لي ضلت، فما زلت في طلبها إلى أن أظلم الظلام، وخفيت الطريق، فسرت أطوف وأطلب الجادة فلا أجدها فبينما أنا كذلك إذ سمعت صوتا حسنا بعيدا وبكاء شديدا فشجاني حتى كدت أسقط عن فرسي؛ فقلت: لأطلبن الصوت ولو تلفت نفسي فما زلت أقرب إليه إلى أن هبطت واديا فإذا راع قد ضم غنما له إلى شجرة وهو ينشد ويترنم: وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها قال فدنوت منه وسلمت عليه فرد السلام وقال: من الرجل؟ فقلت: منقطع به الممالك، أتاك يستجير بك، ويستعينك، قال: مرحبا وأهلا انزل على الرحب والسعة فعندي وطاء وطيء وطعام غير بطيء. فنزلت فنزع شملته وبسطها تحتي ثم أتاني بتمر وزبد ولبن وخبز ثم قال: اعذرني في هذا الوقت. فقلت: والله ان هذا لخير كثير. فمال إلى فرسي فربطه وسقاه وعلفه فلما أكلت توضأت وصليت واتكأت فإني لبين النائم واليقظان إذ سمعت حس شيء وإذا بجارية قد أقبلت من كبد الوادي فضحت الشمس حسنا فوثب قائما إليها وما زال يقبل الأرض حتى وصل إليها وجعل يتحادثان.فقلت: هذا رجل عربي ولعلها حرمة له، فتناومت وما بي نوم فما زالا في أحسن حديث ولذة مع شكوى وزفرات إلا أنهما لا يهم أحدهما لصاحبه بقبيح فلما طلع الفجر عانقها وتنفسا الصعداء وبكى وبكت ثم قال لها: يا ابنة العم سألتك بالله لا تبطئي عني كما أبطأت الليلة، قالت: يا ابن العم أما علمت أني أنتظر الواشين والرقباء حتى يناموا. ثم ودعته وسارت وكل واحد منهما يلتفت نحو الآخر ويبكي. فبكيت رحمة لهما وقلت في نفسي: والله لا أنصرف حتى أستضيفه الليلة وأنظر ما يكون من أمرهما فلما أصبحنا قلت له: جعلني الله فداءك، الأعمال بخواتيمها وقد نالني أمس تعب شديد فأحب الراحة عندك اليوم، فقال: على الرحب والسعة لو أقمت عندي بقية عمرك ما وجدتني إلا كما تحب؛ ثم عمد إلى شاة فذبحها وقام إلى نار فأججها وشواها وقدمها إلي فأكلت وأكل معي إلا أنه أكل أكل من لا يريد الأكل فلم أزل معه نهاري ذلك ولم أر أشفق منه على غنمه ولا ألين جانبا ولا أحلى كلاما إلا أنه كالولهان ولم أعلمه بشيء مما رأيت فلما أقبل الليل وطأت وطائي فصليت وأعلمته أني أريد الهجوع لما مر بي من التعب بالأمس، فقال لي: نم هنيئا، فأظهرت النوم ولم أنم فأقام ينتظرها إلى هنيهة من الليل فأبطأت عليه فلما حان وقت مجيئها قلق قلقا شديدا وزاد عليه الأمر فبكى ثم جاء نحوي فحركني فأوهمته أني كنت نائما فقال: يا أخي، هل رأيت الجارية التي كانت تتعهدني وجاءتني البارحة، قلت: قد رأيتها، قال: فتلك ابنة عمي وأعز الناس علي وإني لها محب ولها عاشق وهي أيضا محبة لي أكثر من محبتي لها وقد منعني أبوها من تزويجها لي لفقري وفاقتي وتكبر علي فصرت راعيا بسببها فكانت تزورني في كل ليلة وقد حان وقتها الذي تأتي فيه واشتغل قلبي وتحدثني نفسي أن الأسد قد افترسها، ثم أنشأ يقول: ما بال ميّة لا تأتي كعادتها ... أعاقها طرب أم صدّها شغل نفسي فداؤك قد أهللت بي سقما ... تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل «1» قال: ثم انطلق عني ساعة فغاب وأتى بشيء فطرحه بين يدي فإذا هي الجارية قد قتلها الأسد وأكل أعضاءها وشوه خلقتها ثم أخذ السيف وانطلق فأبطأ هنيهة وأتى ومعه رأس الأسد فطرحه ثم أنشأ يقول: إلا أيها الليث المدلّ بنفسه ... هلكت لقد جرّيت حقا لك الشّرا وخلفتني فردا وقد كنت آنسا ... وقد عادت الأيام من بعدها غبرا «2» ثم قال: بالله يا أخي إلا ما قبلت ما أقول لك فإني أعلم أن المنية قد حضرت لا محالة فإذا أنا مت فخذ عباءتي هذه فكفني فيها وضم هذا الجسد الذي بقي منها معي، وادفنا في قبر واحد وخذ شويهاتي «3» هذه وجعل يشير إليها فسوف تأتيك امرأة عجوز هي والدتي فأعطها عصاي هذه وثيابي وشويهاتي وقل لها: مات ولدك كمدا بالحب فإنها تموت عند ذلك فادفنها إلى جانب قبرنا وعلى الدنيا مني السلام. قال: فو الله ما كان إلا قليل حتى صاح ووضع يده على صدره ومات لساعته، فقلت: والله لأصنعن له ما أوصاني به فغسلته وكفنته في عباءته وصليت عليه ودفنته ودفنت باقي جسدها إلى جانبه وبت تلك الليلة باكيا حزينا فلما كان الصباح أقبلت امرأة عجوز وهي كالولهانة فقالت لي: هل رأيت شابا يرعى غنما فقلت لها: نعم، وجعلت أتلطف بها ثم حدثتها بحديثه وما كان من خبره فأخذت تصيح وتبكي وأنا ألاطفها إلى أن أقبل الليل وما زالت تبكي بحرقة إلى أن مضى من الليل برهة فقصدت نحوها فإذا هي مكبة على وجهها وليس لها نفس يصعد ولا جارحة تتحرك فحركتها فإذا هي ميتة فغسلتها وصليت عليها ودفنتها إلى جانب قبر ولدها وبت الليلة الرابعة فلما كان الفجر قمت فشددت فرسي وجمعت الغنم وسقتها فإذا أنا بصوت هاتف يقول: كنّا على ظهرها والدهر يجمعنا ... والشمل مجتمع والدار والوطن فمزّق الدهر بالتفريق ألفتنا ... وصار يجمعنا في بطنها الكفن قال: فأخذت الغنم ومضيت إلى الحي لبني عمهم فأعطيتهم الغنم وذكرت لهم القصة فبكى عليهم أهل الحي بكاء شديدا ثم مضيت إلى أهلي وأنا متعجب مما رأيت في طريقي. ومن ذلك ... ما حكي أن زوج عزة أراد أن يحج بها فسمع كثير الخبر فقال: والله لأحجنّ لعلي أفوز من عزة بنظرة، قال: فبينما الناس في الطواف إذ نظر كثير لعزة وقد مضت إلى جملة فحيته ومسحت بين عينيه وقالت له: يا جمل فبادر ليلحقها ففاتته فوقف على الجمل وقال: حيتّك عزة بعد الحجّ وانصرفت ... فحيّ ويحك من حيّاك يا جمل لو كنت حيّيتها ما كنت ذا سرف ... عندي ولا مسّك الإدلاج والعمل قال: فسمعه الفرزدق فتبسم وقال له: من تكون يرحمك الله قال: أنا كثير عزة فمن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا الفرزدق بن غالب التميمي، قال: أنت القائل: رحلت جمالهم بكلّ أسيلة ... تركت فؤادي هائما مخبولا «1» لو كنت أملكهم إذا لم يرحلوا ... حتى أودّع قلبي المتبولا «2» ساروا بقلبي في الحدوج وغادروا ... جسمي يعالج زفرة وعويلا «3» فقال الفرزدق: نعم، فقال كثير: والله لولا إني بالبيت الحرام لأصيحن صيحة أفزع هشام بن عبد الملك وهو على سرير ملكه، فقال الفرزدق: والله لأعرّفن بذلك هشاما ثم توادعا وافترقا فلما وصل الفرزدق إلى دمشق دخل إلى هشام بن عبد الملك فعرّفه بما اتفق له مع كثير فقال له: اكتب إليه بالحضور عندنا لنطلق عزة من زوجها ونزوجه إياها، فكتب إليه بذلك فخرج كثير يريد دمشق فلما خرج من حيه وسار قليلا رأى غرابا على بانة وهو يفلي نفسه وريشه يتساقط فاصفر لونه وارتاع من ذلك وجدّ في السير ثم إنه مال ليسقي راحلته من حي بني فهد وهم زجرة الطير فبصر به شيخ من الحي فقال: يا ابن أخي أرأيت في طريقك شيئا فراعك؟ قال: نعم رأيت غرابا على بانة يتفلى وينتف ريشه فقال له الشيخ: أما الغراب فإنه اغتراب والبانة بين والتفلي فرقة، فازداد كثير حزنا على حزنه لما سمع من الشيخ هذا الكلام وجدّ في السير إلى أن وصل إلى دمشق ودخل من أحد أبوابها فرأى الناس يصلون على جنازة فنزل وصلى معهم، فلما قضيت الصلاة صاح صائح لا إله إلا الله ما أغفلك يا كثير عن هذا اليوم، فقال: ما هذا اليوم يا سيدي؟ فقال: إن هذه عزة قد ماتت وهذه جنازتها فخر مغشيا عليه، فلما أفاق أنشأ يقول: فما أعرف الفهدي لا درّ دره ... وأزجره للطير لا عزّ ناصره رأيت غرابا قد علا فوق بانة ... ينتّف أعلى ريشه ويطايره فقال غراب واغتراب من النوى ... وبانة بين من حبيب تعاشره ثم شهق شهقة فارقت روحه الدنيا ومات من ساعته ودفن مع عزة في يوم واحد. وحكى الأصمعي: قال: بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت: أيا معشر العشّاق بالله خبروا ... إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع فكتبت تحته: يداري هواه ثم يكتم سرّه ... ويخشع في كلّ الأمور ويخضع ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوبا تحته: فكيف يداري والهوى قاتل الفتى ... وفي كلّ يوم قلبه يتقطع فكتبت تحته: إذا لم يجد صبرا لكتمان سرّه ... فليس له شيء سوى الموت أنفع ثم عدت في اليوم الثالث فوجدت شابا ملقى تحت ذلك الحجر ميتا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد كتب قبل موته: سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا ... سلامي على من كان للوصل يمنع وحكي أيضا عن الأصمعي رحمه الله تعالى أنه قال: بينما أنا نائم في بعض مقابر البصرة إذ رأيت جارية على قبر تندب وتقول: بروحي فتى أوفى البرية كلها ... وأقواهم في الحبّ صبرا على الحب قال: فقلت لها: يا جارية بم كان أوفى البرية وبم كان أقواها؟ فقالت: يا هذا، إنه ابن عمي هويني فهويته فكان إن أباح عنفوه وإن كتم لاموه فأنشد بيتي شعر وما زال يكررهما إلى أن مات؛ والله لأندبنه حتى أصير مثله في قبر إلى جانبه فقلت لها: يا جارية فما البيتان؟ قالت: يقولون لي إن بحت قد غرّك الهوى ... وإن لم أبح بالحبّ قالوا تصبّرا فما لامرىء يهوى ويكتم أمره ... من الحبّ إلّا أن يموت فيعذرا ثم إنها شهقت فارقت روحها الدنيا رحمة الله تعالى عليها والحكايات في ذلك كثيرة، وفي الكتب مشهورة ولولا الإطالة والخوف من الملالة لجمعنا في هذا المعنى أشياء كثيرة، ولكن اقتصرنا على هذه النبذة اليسيرة والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
|
|