أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الباب الثامن والسبعون في القضاء والقدر الثلاثاء 29 نوفمبر 2022, 10:04 pm | |
| الباب الثامن والسبعون في القضاء والقدر وأحكامه والتوكل على الله عز وجل إعلم أن كل ما يجري في العالم من حركة وسكون وخير وشر ونفع وضر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية، فكلّ بقضاء الله وقدره، وكذلك فلا طائر يطير بجناحيه ولا حيوان يدب على بطنه ورجليه، ولا تطن بعوضة ولا تسقط ورقة إلا بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته، كما لا يجري شيء من ذلك إلا وقد سبق علمه به. واعلم أن كل ما قضاه الله تعالى وقدَّره، فهو كائن لا محالة كما أن ما في علم الله تعالى يكون فهو كائن قريب، وما قدَّر الله وصوله إليك بعد الطلب فهو لا يصل إليك إلا بالطلب، والطلب أيضا من القدر فإن تعسَّر شيء فبتقديره، وإن اتفق شيء فبتيسيره، فمن رام أمرا من الأمور ليس الطريق في تحصيله أنه يغلق بابه عليه ويفوض أمره لربه، وينتظر حصول ذلك الأمر، بل الطريق أن يشرع في طلبه على الوجه الذي شرعه له فيه. وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين «1» واتخذ خندقا حول المدينة حين تحزبت عليه الأحزاب يحترس به من العدو وأقام الرماة يوم أحد ليحفظوه من خالد بن الوليد، وكان يلبس لأمة الحرب ويهيىء الجيوش ويأمرهم وينهاهم لما فيه من مصالحهم، واسترقى وأمر بالرقية، وتداوى وأمر بالمداواة، وقال: الذي أنزل الداء أنزل الدواء، فإن قيل: قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استرقى أو اكتوى فهو بريء من التوكل، قلنا: أليس قد قال: أعقلها وتوكل. فإن قيل: فما الجمع بين ذلك؟ قلنا: معناه من استرقى أو اكتوى متكلا على الرقية أو الكي، وإن البرء من قبلهما خاصة، فهذا يخرجه عن التوكل، وإنما يفعله كافر يضيف الحوادث إلى غير الله، وقد أمرنا بالكسب والتسبب. ألا ترى أن الله قال لمريم عليها السلام: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ«1» فهلا أمرها بالسكون وحمل الرطب إلى فمها وأنشدوا في ذلك: ألم تر أن الله قال لمريم ... وهزّي إليك الجذع يسّاقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزّها ... جنته ولكن كلّ شيء له سبب وقد تقدم هذا الشعر في باب الكسب والتسبب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا «2» وتروح بطانا «3» ، فلم يحمل أرزاقها إليها في أوكارها بل ألهمها طلبه بالغدو والرواح». وقد جمعوا بين الطلب والقدر فقالوا: إنهما كالعدلين على ظهر الدابة، إن أحمل في واحد منهما أرجح مما في الآخر سقط حمله وتعب ظهره وثقل عليه سفره. وإن عادل بينهما سلم ظهره ونجح سفره وتمت بغيته. وضربوا فيه مثالا عجيبا، فقالوا: إن أعمى ومقعدا كانا في قرية بفقر وضر لا قائد للأعمى ولا حامل للمقعد، وكان في القرية رجل يطعمهما قوتهما في كل يوم احتسابا لله تعالى، فلم يزالا بنعمة إلى أن هلك ذلك الرجل فلبثا أياما واشتد جوعهما وبلغ الضر منهما جهده، فأجمع رأيهما على أن الأعمى يحمل المقعد فيدله المقعد على الطريق ببصره، فاشتغل الأعمى بحمل المقعد ويدور به ويرشده إلى الطريق وأهل القرية يتصدقون عليهما، فنجح أمرهما ولولا ذلك لهلكا. فكذلك القدر سببه الطلب. والطلب سببه القدر وكل واحد منهما معين لصاحبه، ألا ترى أن من طلب الرزق والولد ثم قعد في بيته لم يطأ زوجته ولم يبذر أرضه معتمدا في ذلك على الله واثقا به أن تلد امرأته من غير مواقعة، وأن ينبت الزرع من غير بذر، كان عن المعقول خارجا ولأمر الله كارها. قال الغزالي: أما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبرا لضعفهم وتسكينا لقلوبهم وقد ادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوت سنة، ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر شيئا، وقال: أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا. وقال عبد الله بن الفرج: أطلعت على إبراهيم بن أدهم، وهو في بستان بالشام فوجدته مستلقيا على قفاه، وإذا بحية في فمها باقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى انتبه.فحسبك توكل يؤدي إلى هذا. وعن عبد الله الهروي قال: كنا مع الفضيل بن عياض على جبل أبي قيس فقال: لو أنّ رجلا صدق في توكله على الله ثم قال لهذا الجبل اهتز لاهتز، فو الله لقد رأيت الجبل اهتز وتحرك. فقال له الفضيل رحمه الله تعالى: لم أعنك رحمك الله فسكن. وفي الإسرائيليات أن رجلا احتاج إلى أن يقترض ألف دينار، فجاء إلى رجل من المتمولين فسأله في ذلك وقال له: تمهل علي بدينك إلى أن أسافر إلى البلد الفلاني فإن لي مالا آتيك به، وأوفيك منه، وتكون مدة الأجل بيني وبينك كذا وكذا، فقال له: هذا غرر، فأنا ما أعطيك مالي إلا أن تجعل لي كفيلا إن لم تحضر طلبته منه. فقال الرجل: الله كفيل بمالك وشاهد على أن لا أغفل عن وفائك، فإن رضيت فافعل، فداخل الرجل خشية الله تعالى، وحمله التوكل على أن دفع المال للرجل فأخذه ومضى إلى البلد الذي ذكر، فلما قرب الأجل الذي بينه وبين صاحبه جهز المال وقصد السفر في البحر فعسر عليه وجود مركب، ومضت المدة وبعدها أيام وهو لا يجد مركبا، فاغتم لذلك، وأخذ الألف دينار وجعلها في خشبة وسمّر عليها ثم قال: اللهم إني جعلتك كفيلا بإيصال هذه إلى صاحبها، وقد تعذر علي وجود مركب وعزمت على طرحها في البحر وتوكلت عليك في إيصالها إليه، ثم نقش على الخشبة رسالة إلى صاحبها بصورة الحال، وطرحها في البحر بيده وأقام في البلدة مدة بعد ذلك، إلى أن جاءت مركب فسافر فيها إلى صاحب المال، فابتدأه وقال: أنت سيرت الألف دينار في خشبة صفتها كيت وكيت وعليها منقوش كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: قد أوصلها الله تعالى إلي، والله نعم الكفيل. فقال: فكيف وصلت إليك؟ قال: لما مضى الأجل المقدر بيني وبينك بقيت أتردد إلى البحر لأجدك أو أجد من يخبرني عنك، فوقفت ذات يوم إلى الشط وإذا بالخشبة قد استندت إلي ولم أر لها طالبا، فأخذها الغلام ليجعلها حطبا. فلما كسرها وجد ما فيها، فأخبرني بذلك، فقرأت ما عليها، فعلمت أن الله تعالى حقق أملك لمَّا توكلت عليه حق التوكل. وقيل: إن سبب بداية ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه رأى طيرا أعمى بعيدا عن الماء والمرعى، فبينما هو يتفكر في أمر ذلك الطائر، فإذا هو بسكرجتين برزتا من الأرض إحداهما ذهب والأخرى فضة، هذه فيها ماء والأخرى فيها قمح، فلقط القمح وشرب الماء. ثم غابا بعد ذلك فذهل ذو النون، وانقطع إلى الله تعالى من ذلك الوقت.
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الباب الثامن والسبعون في القضاء والقدر الثلاثاء 29 نوفمبر 2022, 10:05 pm | |
| وحكي أن رجلا من أبناء الناس كانت له يد في صناعة الصياغة، وكان أوحد أهل زمانه، فساء حاله وافتقر بعد غناه، فكره الإقامة في بلده، فانتقل إلى بلد آخر، فسأل عن سوق الصاغة، فوجد دكانا لمعلم السلطنة وتحت يده صناع كثيرة يعملون الأشغال للسلطنة، وله سعادة ظاهرة ما بين مماليك وخدم وقماش وغير ذلك، فتوصل الصائغ الغريب إلى أن بقي من أحد الصناع الذين في دكان هذا المعلم وأقام يعمل عنده مدة، وكلما فرغ النهار دفع له درهمين من فضة، وتكون أجرة عمله تساوي عشرة دراهم، فيكسب عليه ثمانية دراهم في كل يوم، فاتفق أن الملك طلب المعلم وناوله فردة سوار من ذهب مرصعة بفصوص في غاية من الحسن قد عملت في غير بلاده كانت في يد إحدى محاظيه، فانكسرت، فقال له: إلحمها، فأخذها المعلم وقد اضطرب عليه في عملها، فلما أخذها وأراها للصناع الذين عنده وعند غيره فما قال له أحد أنه يقدر على عملها، فازداد المعلم لذلك غما، ومضت مدة وهي عنده لا يعلم ما يصنع، فاشتد الملك على إحضاره، وقال: هذا المعلم نال من جهتنا هذه النعمة العظيمة ولا يحسن أن يلحم سوارا، فلما رأى الصانع الغريب شدة ما نال المعلم قال في نفسه هذا وقت المروءة أعملها ولا أؤاخذه ببخله علي وعدم إنصافه ولعله يحسن إلي بعد ذلك، فحط يده في درج المعلم وأخذها وفك جواهرها وسبكها ثم صاغها كما كانت، ونظم عليها جواهرها، فعادت أحسن مما كانت، فلما رآها المعلم فرح فرحا شديدا، ثم مضى بها إلى الملك، فلما رآها استحسنها وادعى المعلم أنها صنعته، فأحسن إليه وخلع عليه خلعة سنية، فجاء وجلس مكانه، فبقي الصائغ يرجو مكافأته عما عامله به، فما التفت إليه المعلم، ولما كان آخر النهار ما زاده على الدرهمين شيئا، فما مضت إلا أيام قلائل وإذا الملك اختار أن يعمل زوجين أساور على تلك الصورة، فطلب المعلم ورسم له بكل ما يحتاج إليه وأكد عليه في تحسين الصفة وسرعة العمل، فجاء إلى الصانع وأخبره بما قال الملك، فامتثل مرسومه ولم يزل منتصبا إلى أن عمل الزوجين، وهو لا يزيده شيئا على الدرهمين في كل يوم ولا يشكره ولا يعده بخير ولا يتجمل معه، فرأى المصلحة أن ينقش على زوج الأساور أبياتا يشرح فيها حاله ليقف عليها الملك، فنقش في باطن أحدهما هذه الأبيات نقشا خفيفا يقول: مصائب الدهر كفّي ... إن لم تكفّي فعفّي خرجت أطلب رزقي ... وجدت رزقي توفّي فلا برزقي أحظى ... ولا بصنعة كفّي كم جاهل في الثريا ... وعالم متخفّي قال: وعزم الصانع على أنه إن ظهرت الأبيات للمعلم شرح له ما عنده وإن غم عليه ولم يرها كان ذلك سبب توصله إلى الملك، ثم لفهما في قطن وناولهما للمعلم فرأى ظاهرهما ولم ير باطنهما لجهله بالصنعة، ولما سبق له في القضاء، فأخذها المعلم ومضى بهما فرحا إلى الملك، وقدمهما إليه، فلم يشك الملك في أنهما صنعته، فخلع عليه وشكره، ثم جاء فجلس مكانه ولم يلتفت إلى الصانع، وما زاده في آخر النهار شيئا على الدرهمين، فلما كان اليوم الثاني خلا خاطر الملك فاستحضر الحظية التي عمل لها السوارين الذهب فحضرت وهما في يديها، فأخذهما ليعيد نظره فيهما وفي حسن صنعتهما، فقرأ الأبيات، فتعجب وقال: هذا شرح حال صانعهما والمعلم يكذب، فغضب عند ذلك، وأمر باحضار المعلم، فلما حضر قال له: من عمل هذين السوارين؟ قال: أنا أيها الملك، قال: فما سبب نقش هذه الأبيات؟ قال: لم يكن عليهما أبيات. قال: كذبت. ثم أراه النقش. وقال: إن لم تصدقني الحق لأضربن عنقك، فأصدقه الحق، فأمر الملك بإحضار الصانع، فلما حضر سأله عن حاله، فحكى له قصته، وما جرى له مع المعلم.فرسم الملك بعزل المعلم وأن تسلب نعمته وتعطى للصانع، وأن يكون عوضا عنه في الخدمة ثم خلع عليه خلعة سنية، وصار مقدما سعيدا، فلما نال هذه الدرجة. وتمكن عند الملك تلطف به حتى رضي عن المعلم الأول وصارا شريكين ومكثا على ذلك إلى آخر العمر. ورحم الله من قال: إذا كان سعد المرء في الدهر مقبلا ... تدانت له الأشياء من كلّ جانب وقال آخر: ما سلّم الله هو السالم ... ليس كما يزعم الزّاعم تجري المقادير التي قدرت ... وأنف من لا يرتضي راغم وقال كعب بن زهير «1» : لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... والنفس واحدة والهم منتشر والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينتهي ذاك حتى ينتهي العمر وروي في الإسرائيليات أن نبيا من الأنبياء عليهم الصلاة السلام مرّ بفخ منصوب وإذا بطائر قريب منه، فقال له الطائر: يا نبي الله: هل رأيت أقل عقلا ممن نصب هذا الفخ ليصيدني به وأنا أنظر إليه؟ قال: فذهب عنه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع وإذا بالطائر في الفخ، فقال له: عجبا لك ألست القائل كذا وكذا آنفا؟ فقال: يا نبي الله إذا جاء الحين لم يبق أذن ولا عين. ويروى أن رجلا قال لبزرجمهر: تعال نتناظر في القدر، قال: وما تصنع بالمناظرة؟ قال: رأيت شيئا ظاهرا استدللت به على الباطن، رأيت جاهلا مبرورا وعالما محروما، فعلمت أن التدبير ليس للعباد. ولما قدم موسى بن نصير بعد فتح الأندلس على سليمان بن عبد الملك قال له يزيد بن المهلب: أنت أدهى الناس وأعلمهم، فكيف طرحت نفسك في يد سليمان؟ فقال: إن الهدهد ينظر إلى الماء في الأرض على ألف قامة، ويبصر القريب منه والبعيد على بعد في التخوم، ثم ينصب له الصبي الفخ بالدودة أو الحبة فلا يبصره حتى يقع فيه وأنشدوا في ذلك: وإذا خشيت من الأمور مقدّرا ... وفررت منه فنحوه تتوجّه وقال آخر: أقام على المسير وقد أنيخت ... مطاياه وغرّد حادياها وقال أخاف عادية الليالي ... على نفسي وأن ألقى رداها مشيناها خطا كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطا مشاها ومن كانت منيّته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها ولما قتل كسرى بزرجمهر وجد في منطقته «2» كتاب فيه: إذا كان القضاء حقا فالحرص باطل. وإذا كان الغدر في الناس طبعا فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت بكل أحد نازلا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق. وقال ابن عباس وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما«3». إنما كان الكنز لوحا من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن. وعجبت لمن يوقن بالرزق كيف ينصب، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح، وعجيبت لمن يوقن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله. وحكى الطرطوشي رحمه الله تعالى في كتابه «سراج الملوك» قال: من عجيب ما اتفق بالاسكندرية أن رجلا من خدم نائب الإسكندرية غاب عن خدمته أياما، ففي بعض الأيام قبض عليه صاحب الشرطة وحمله إلى دار النائب فانفلت في بعض الطرق وترامى في بئر والمدينة إذ ذاك مسردبة بسرداب يمشي الماشي فيه قائما، فما زال الرجل يمشي إلى أن لاحت له بئر مضيئة، فطلع منها فإذا البئر في دار النائب، فلما طلع أمسكه النائب وأدبه، فكان فيه المثل السائر: الفار من القضاء الغالب كالمتقلب في يد الطالب. وأنشدو فيه: قالوا تقيم وقد أحاط ... بك العدوّ ولا تفرّ لا نلت خيرا إن بقي ... ت ولا عداني الدهر شر إن كنت أعلم أن ... غير الله ينفع أو يضر |
|