|
| الباب الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام القضاء والعقوبات ومسائل متفرقة. | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52683 العمر : 72
| موضوع: الباب الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام القضاء والعقوبات ومسائل متفرقة. الخميس 12 مايو 2022, 3:08 pm | |
| الباب الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام القضاء والعقوبات ومسائل متفرقة.
وفيه ثلاثة فصول: • الفصل الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام القضاء. الفصل الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام العقوبات. • الفصل الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في مسائل متفرقة. الفصل الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام القضاء
وفيه ثلاثة مباحث: • المبحث الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في حكم تولي المتعاطي القضاء وحكم قضائه. • المبحث الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في الشهادة. وفيه ثلاثة مطالب. • المبحث الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في الإقرار. المبحث الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في حكم تولي المتعاطي القضاء وحكم قضائه.
وفيه مطلبان: • المطلب الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في حكم تولي المتعاطي القضاء. • المطلب الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في حكم قضاء المتعاطي.
المطلب الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في حكم تولي المتعاطي القضاء.
وصورتها: لو وجد شخص متعاطٍ للمواد المخدرة فهل يجوز ويصح للحاكم أن يوليه القضاء بين المسلمين أم لا؟. يتخرج الكلام في هذه المسألة على ما ذكروه في حكم تولية الفاسق القضاء. الفقهاء متفقون على اشتراط العدالة فيمن يولى القضاء؛ لكونه أمانة عظيمة، لا يقوم بوفائها إلا من كمل ورعه وتمّت تقواه. قال ابن عبد البر: (لم يختلف العلماء بالمدينة وغيرها فيما علمت، أنه لا ينبغي أن يتولى القضاء إلا الموثوق به في دينه وصلاحه). إلا أن الخلاف بينهم واقع في هل شرط العدالة شرط كمال أم شرط صحة؟، على قولين: القول الأول: العدالة شرط صحة، فلا يصح تولية الفاسق. وهذا قول أكثر الحنفية، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة. القول الثاني: العدالة شرط كمال، فيصح تولية الفاسق. وهذا مذهب الحنفية، وقال به بعض المالكية. إلا أن بعض من قال بهذا من الحنفية يرى أنه يصح تولية الفاسق مع تأثيم من ولاّه.
الأدلـــة. أدلة القول الأول: 1. قوله تعالى: (يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٍ۬ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَـٰلَةٍ۬ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَـٰدِمِينَ (٦) (الحجرات)، والحاكم لا يجوز أن يكون ممن لا يقبل قوله ويجب التبين عند حكمه. أو يقال: إن القاضي مخبر بقول، فلا يجوز قبول قوله مع فسقه. 2. ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهداً، فلأن لا يكون قاضياً أولى. 3. ولأن الفاسق ممنوع من النظر في مال ولده مع وفور شفقته، فنظره في أمر العامة أولى بالمنع. 4. ولأن الفاسق ليس بأهل للقضاء؛ لأنه لا يؤمن عليه لفسقه، فلم يصح قضاؤه. 5. ولأن القضاء طريقه الأمانة، والفاسق متهم في دينه فليس من أهل الأمانة حتى يصح قضاؤه.
أدلة القول الثاني: 1. أن الصحابة -رضي الله عنهم- أجازوا حكم من تغلب من الأمراء مع جورهم، وتقلدوا منه الأعمال وصلوا خلفه، ولولا أن توليته صحيحة لما فعلوا ذلك.
نوقش: بأن قياس القضاء على الإمارة قياس مع الفارق، وبيانه: أن مبنى الإمارة على السلطنة والقهر والغلبة، ولذا صلت الصحابة خلف من تغلب وجار وتقلدوا منه الأعمال؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-:" اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ". أمَّا القضاء فمبناه على العدالة والأمانة، وإذا بطلت العدالة بطل القضاء ضرورة. وأيضاً: فإن الإمارة من باب الولاية الكبرى، وهي تصح من كل برَّ وفاجر، واشتراط العدالة في الولاية الكبرى يفضي إلى تعذرها بالكلية في كثير من الأزمان، بخلاف القضاء. 2. أن الفساد لمعنى في غيره، فلا يمنع جواز تقليد الفاسق القضاء في نفسه.
نوقش: بأنه لا يسلم أن الفساد هنا لمعنى في غيره؛ بل القضاء والفساد هنا متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن القضاء صادر عن محل الفساد ولا بدّ من تأثيره فيه. 3. ولأن الفاسق ممن تصح شهادته، ومن قبلت شهادته صح قضاؤه.
نوقش: لا يسلم أن الفاسق ممن تصح شهادته؛ لقوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ۬ وَأَشۡہِدُواْ ذَوَىۡ عَدۡلٍ۬ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٲلِڪُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأَخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُ ۥ مَخۡرَجً۬ا (٢) (الطلاق)؛ ولأن دين الفاسق لا يزعه عن ارتكاب محظورات الدين، فلا يؤمن أن لا يزعه عن الكذب وقبول الرشوة؛ فلم تحصل الثقة بخبره.
الترجيح. الراجح -والله أعلم- هو القول الأول القاضي بأنه لا يصح تولية الفاسق القضاء؛ لقوة أدلته ولما ورد على أدلة القول الثاني من مناقشة. ولأن كل خبر يتعلق به اللزوم فقول الفاسق لا يكون حجة فيه؛ لأن الشرع نص على التوقف في خبر الفاسق، وذلك يمنع ثبوت اللزوم بخبره. وعلى هذا فلا يولى القضاء فاسق؛ لأن قوله غير ملزم وإذا خرج قول القاضي عن الإلزام لم تعد لولايته فائدة. وفرض المسألة هنا إذا وجد فاسق وعدل، أمَّا إذا لم يوجد إلا فساق فإن الإمام يجتهد في تولية أصلح الفساق. جاء في مواهب الجليل: (إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول أقمنا أصلحهم وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم؛ لئلا تضيع المصالح وما أظنه يخالفه أحد في هذا؛ لأن التكليف مشروط بالإمكان، وإذا جاز نصب الشهود فسقة لأجل عموم الفساد جاز التوسع في أحكام المظالم). وجاء في قواعد الأحكام في مصالح الأنام: (...، وكذلك القول في العدالة المشروطة في القضاة والخلفاء والولاة؛ إذ لو شرطت الزيادة على ذلك لفاتت المصالح المتعلقة بالقضاة والخلفاء وغيرهما من الولاة؛ بل لو تعذرت العدالة في جميع الناس لما جاز تعطيل المصالح المذكورة بل قدمنا أمثل الفسقة فأمثلهم, وأصلحهم للقيام بذلك فأصلحهم, بناء على أنا إذا أمرنا أتينا منه بما قدرنا عليه ويسقط عنا ما عجزنا عنه, ولا شك أن حفظ البعض أولى من تضييع الكل, وقد قال شعيب عليه السلام: (قَالَ يَـٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ۬ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنً۬اۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَٮٰڪُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِىٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ (٨٨) (هود), وقال الله تعالى: (فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرً۬ا لِّأَنفُسِڪُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (١٦) (التغابن 16), فعلق تحصيل مصالح التقوى على الاستطاعة, فكذلك المصالح كلها). وقال ابن تيمية: (يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود). وعلى هذا فمتعاطي المواد المخدرة لا يصح أن يولى القضاء بين الناس ما وجد الحاكم عدلاً يصلح للقضاء؛ لأنه فاسق بتعاطيه المواد المخدرة. أمَّا إذا لم يجد الحاكم أمثل من متعاطي المواد المخدرة وأعدل فحينئذ يصح أن يولى مع تعاطيه للضرورة، على أن يسعى الحاكم (في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس مالا بد لهم منه من أمور الولايات والأمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه). والله أعلم. * * * المطلب الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في حكم قضاء المتعاطي.
وصورتها: لو ولّى حاكم متعاطٍ للمواد المخدرة القضاء بين الناس، فهل ينفذ قضاؤه أم لا؟. القول في هذه المطلب فرع عمّا كتب في المطلب الأول من هذا المبحث، فمن قال: بأنه لا يصح أن يولى الفاسق القضاء يرى أنه لا ينفذ قضاء الفاسق وإن وافق الحق، ومن صحح تولية الفاسق قال: ينفذ قضاؤه في كل ما لم يتبين جوره. وقد سبق بيان أن الراجح -والله أعلم- أنه لا يصح تولية القاضي الفاسق. وعلى هذا يقال: لا ينفذ قضاء متعاطي المواد المخدرة؛ لأنه لا يصح توليته أصلاً. والله أعلم. * * * المبحث الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في الشهادة.
وفيه ثلاثة مطالب: • المطلب الأول: حكم شهادة مستخدم المواد المخدرة. • المطلب الثاني: حكم شهادة مستخدمي المواد المخدرة بعضهم على بعض. • المطلب الثالث: حكم شهادة مستخدم المواد المخدرة بعد توبته. المطلب الأول: حكم شهادة مستخدم المواد المخدرة.
وصورتها: لو أن متعاطي المواد المخدرة أدلى بشهادة في قضية ما، فهل تقبل شهادته أم أن تعاطيه المواد المخدرة مانع من قبول شهادته؟. يتخرج الكلام في هذه المسألة على ما ذكروه في حكم شهادة الفاسق. وقد اتفق الفقهاء على ردّ شهادة الفاسق، جاء في بدائع الصنائع: (ومنها العدالة لقبول الشهادة، فإنها لا تقبل على الإطلاق دونها). وجاء في التاج والإكليل: (أمَّا ما يفيد قبول الشهادة وهو ما يشترط الاتصاف به بعد ثبوت الأهلية فوصفان: الأول: العدالة،...). وجاء في المنهاج: (شرط الشاهد مسلم حر مكلف عدل ذو مروءة غير متهم) وقال في مغني المحتاج عند قول الماتن (عدل): (فلا تقبل من فاسق). وقال ابن قدامة: (فالفسوق نوعان: أحدهما من حيث الأفعال، فلا نعلم خلافاً في رد شهادته).
ويدل لذلك ما يلي: 1. قوله تعالى: (يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٍ۬ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَـٰلَةٍ۬ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَـٰدِمِينَ (٦) (الحجرات)، والناس أمَّا فاسق أو غير فاسق، والفاسق هو الذي يكون منه الفسق، فسقط قبول خبر الفاسق، فلم يبق إلا العدل وهو من ليس بفاسق. 2. قوله تعالى: (يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٍ۬ مُّسَمًّ۬ى فَٱڪۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ ڪَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ ڪَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَڪۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِى عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ ۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـًٔ۬اۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُ ۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡہِدُواْ شَہِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِڪُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٌ۬ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّہَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَٮٰهُمَا فَتُذَڪِّرَ إِحۡدَٮٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّہَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ ڪَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٲلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّہَـٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْۖ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةً۬ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَڪُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ۬ وَلَا شَهِيدٌ۬ۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُ ۥ فُسُوقُۢ بِڪُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُڪُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِڪُلِّ شَىۡءٍ عَلِيمٌ۬ (٢٨٢) (البقرة)، والشاهد المرضي هو العدل، والفاسق غير مرضي لكونه ليس عدلاً. 3. قوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ۬ وَأَشۡہِدُواْ ذَوَىۡ عَدۡلٍ۬ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٲلِڪُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأَخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُ ۥ مَخۡرَجً۬ا (٢) (الطلاق)، والفاسق ليس بعدل. 4. ولأن الخبر يحتمل الصدق والكذب، والحجة في خبر الصادق، وبالعدالة يترجح جهة الصدق؛ إذ من ارتكب غير الكذب من المحظورات قد يرتكب الكذب أيضاً. 5. ولأن غير العدل لا يؤمن أن يتحامل على غيره فيشهد عليه بغير حق. ومع اتفاق الفقهاء على رد شهادة الفاسق إلا أنه ينبغي التنبيه على أمرين: الأول: أن أبا يوسف يستثني من الفاسق ذا الوجاهة إن كان ذا مروءة، فيقول: من كان وجيهاً في الناس ذا مروءة تقبل شهادته؛ لأنه لا تتمكن تهمة الكذب في شهادته فلوجاهته لا يتجاسر أحد من استئجاره لأداء الشهادة ولمروءته يمتنع من الكذب من غير منفعة له في ذلك. وقد صحح الأحناف عدم قبولها، وناقشوا قول أبي يوسف من وجهين: أ- أنه تعليل في مقابل النصوص الدالة على عدم قبول شهادته. ب- أن في قبول شهادة الفاسق إكراماً له، وقد أُمرنا ألا نكرمه، كما أن معلن الفسق لا مروءة له شرعاً فلهذا لا تقبل شهادته. الثاني: يحسن الإشارة إلى أن الحنفية مع قولهم بأنه لا تقبل شهادة الفاسق، إلا أنهم قالوا: إذا قضى القاضي بشهادة الفاسق صح ونفذ مع إثم القاضي، لأن العدالة شرط وجوب قبول الشهادة، لا شرط جواز. ومن الأحناف من قيد قبول شهادته بما إذا تحرّى القاضي الصدق في شهادته، بحيث يغلب على ظنه صدقه. وابن القيم وافق الحنفية في هذا القيد، حيث يقول: (إذا غلب على الظن صدق الفاسق قبلت شهادته وحكم بها، والله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق فلا يجوز رده مطلقاً؛ بل يتثبت فيه حتى يتبين هل هو صادق أو كاذب؟ فإن كان صادقاً قبل قوله وعمل به وفسقه عليه، وإن كان كاذباً رد خبره ولم يلتفت إليه.
ولرد خبر الفاسق وشهادته مأخذان: أحدهما: عدم الوثوق به؛ إذ تحمله قلة مبالاته بدينه، ونقصان وقار الله في قلبه على تعمد الكذب. الثاني: هجره على إعلانه بفسقه ومجاهرته به. فقبول شهادته إبطال لهذا الغرض المطلوب شرعاً، فإذا علم صدق لهجة الفاسق وأنه من أصدق الناس -وكان فسقه بغير الكذب- فلا وجه لرد شهادته... وحرف المسألة أن مدار قبول الشهادة وردها على غلبة ظن الصدق وعدمه، والصواب المقطوع به أن العدالة تتبعض، فيكون الرجل عدلاً في شيء فاسقاً في شيء، فإذا تبين للحاكم أنه عدل فيما شهد به قبل شهادته ولم يضره فسقه في غيره. ومن عرف شروط العدالة، وعرف ما عليه الناس تبين له الصواب في هذه المسألة). وقد تعقب بعض الحنفية ما قرره أصحابه، فقال: (وهذا قول يرده الإجماع ويدفعه النظر؛ لأن شرط قبول قول الشاهد يقف على وجود العدالة ورضاء المسلمين عن الشهود، والفاسق غير مرضي ولا عدل، فلا يجوز الحكم بشهادته، والحاكم إذا حكم بهذا مع العلم فقد فسق وخرج عن الحكم، وفساد هذا القول أوضح من تكلف الدلالة عليه). والذي يظهر لي -والعلم عند الله تعالى- أن الأئمة مع قولهم أنه لا تقبل شهادة الفاسق إلا أنه ليس كل فسق يمنع قبول الشهادة بإطلاق، وما قد يكون مانعاً في عصر لا يكون مانعاً في غيره، وكذا ما يكون مانعاً في مكان لا يكون مانعاً في مكان آخر. وأظن هذا هو مقصود ابن القيم رحمه الله، أمَّا الحنفية فالذي أفهم أنهم يطلقون قبول قول الفاسق حتى ولو كان فسقه يمنع قبول خبره في ذلك العصر أو ذلك المكان. والذي مشى عليه ابن القيم هو ما عليه العمل فيما أحسب ولا يسع الناس إلا هذا، فقد تُرد شهادة فاسق بفعل معين في عصر وتقبل في غيره، فمثلاً شارب الدخان في المملكة كانت ترد شهادته في أول دخول الدخان المملكة، والعمل الغالب الآن على قبولها. جاء في مواهب الجليل: (إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول أقمنا أصلحهم وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم؛ لئلا تضيع المصالح وما أظنه يخالفه أحد في هذا؛ لأن التكليف مشروط بالإمكان، وإذا جاز نصب الشهود فسقة لأجل عموم الفساد جاز التوسع في أحكام المظالم). وجاء في قواعد الأحكام في مصالح الأنام: (...، وكذلك القول في العدالة المشروطة في القضاة والخلفاء والولاة؛ إذ لو شرطت الزيادة على ذلك لفاتت المصالح المتعلقة بالقضاة والخلفاء وغيرهما من الولاة؛ بل لو تعذرت العدالة في جميع الناس لما جاز تعطيل المصالح المذكورة بل قدمنا أمثل الفسقة فأمثلهم, وأصلحهم للقيام بذلك فأصلحهم, بناء على أنا إذا أمرنا أتينا منه بما قدرنا عليه ويسقط عنا ما عجزنا عنه, ولا شك أن حفظ البعض أولى من تضييع الكل, وقد قال شعيب عليه السلام: (قَالَ يَـٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ۬ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنً۬اۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَٮٰڪُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِىٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ (٨٨)(هود), وقال الله تعالى: (فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرً۬ا لِّأَنفُسِڪُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (١٦)(التغابن), فعلق تحصيل مصالح التقوى على الاستطاعة, فكذلك المصالح كلها). وقال ابن تيمية: (العدل في كل زمان ومكان وطائفة بحسبها، فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدله على وجه آخر، وبهذا يمكن الحكم بين الناس، وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة أن لا يشهد عليهم إلا من يكون قائماً بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كان الصحابة لبطلت الشهادات كلها أو غالبها... ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة، مثل الحبس وحوادث البدو وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل، وله أصول منها: قبول شهادة أهل الذمة في الوصية، وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجل، وشهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه الرجال، ويظهر ذلك بالمحتضر في السفر إذا حضره اثنان كافران، واثنان مسلمان يصدقان وليسا بملازمين للحدود، أو اثنان مبتدعان؛ فهذان خير من الكافرين. والشروط التي في القرآن إنما هي في استشهاد التحمل لا الأداء، وينبغي أن نقول في الشهود ما نقول في المحدثين، وهو أنه من الشهود من تقبل شهادته في نوع دون نوع أو شخص دون شخص كما أن المحدثين كذلك). واستدل لذلك ابن تيمية فقال: (قوله تعالى: (يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٍ۬ مُّسَمًّ۬ى فَٱڪۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ ڪَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ ڪَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَڪۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِى عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ ۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـًٔ۬اۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُ ۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡہِدُواْ شَہِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِڪُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٌ۬ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّہَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَٮٰهُمَا فَتُذَڪِّرَ إِحۡدَٮٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّہَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ ڪَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٲلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّہَـٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْۖ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةً۬ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَڪُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ۬ وَلَا شَهِيدٌ۬ۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُ ۥ فُسُوقُۢ بِڪُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُڪُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِڪُلِّ شَىۡءٍ عَلِيمٌ۬ (٢٨٢)(البقرة) يقتضي أنه يقبل في الشهادة على حقوق الآدميين من رضوه شهيداً بينهم ولا ينظر إلى عدالته، كما يكون مقبولاً عليهم فيما ائتمنوه عليه. وقوله تعالى في آية الوصية والرجعة: (يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَہَـٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٍ۬ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِى ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَـٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِى بِهِۦ ثَمَنً۬ا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۙ وَلَا نَكۡتُمُ شَہَـٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذً۬ا لَّمِنَ ٱلۡأَثِمِينَ (١٠٦) (المائدة)، (أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡہِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَـٰتِ حَمۡلٍ۬ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡہِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۖ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٍ۬ۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُ ۥۤ أُخۡرَىٰ (٦) (الطلاق) ولم يصف الرجلين نفسهما بأنهما عدل؛ بل وصفهما بأنهما ذوا عدل، أي: صاحبا عدل. والعدل في المقال: هو الصدق والبيان، الذي هو ضد الكذب والكتمان كما بينه الله تعالى في قوله: (وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُ ۥۖ وَأَوۡفُواْ ٱلۡڪَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ ڪَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٲلِڪُمۡ وَصَّٮٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) (الأنعام). وقال أيضاً: (ونبأ الفاسق ليس بمردود؛ بل هو موجب للتبين والتثبت، كما قال تعالى: (يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٍ۬ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَـٰلَةٍ۬ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَـٰدِمِينَ (٦)(الحجرات)، وفي القراءة الأخرى (فتثبتوا)، فعلينا التبين والتثبت إذا جاء فاسق، وإنما أُمرنا بالتبين والتثبت عند خبر الفاسق الواحد ولم يؤمر به عند خبر الفاسقين؛ وذلك أن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد مالا يوجبه خبر الواحد أمَّا إذا علم أنهما لم يتواطئا فهذا قد يحصل به العلم).
وعلى هذا يقال: إن شهادة متعاطي المواد المخدرة لا تقبل من حيث الأصل، لأنه فاسق بتعاطيه المادة المخدرة، والفسق بتعاطيها موجب لرد شهادته. وقد تقبل شهادة أمثل المتعاطين إذا انتشر تعاطيها في بلدة معينة أو مكان معين، لأنه لا تقوم حقوق الناس إلا بقبولها. والمرجع في ذلك إلى تقدير القاضي. والله أعلم. * * * المطلب الثاني: حكم شهادة مستخدمي المواد المخدرة بعضهم على بعض.
وصورتها: لو أن قضية حدثت بين متعاطي المواد المخدرة، فهل تقبل شهادة بعضهم على بعض؟. أو يقال: لو قدح المشهود ضده في الشهود بأنهم من متعاطي المواد المخدرة، وكان القادح يتعاطاها أيضاً فهل يُلتفت لقدحه أم لا؟. الذي يظهر والله أعلم أن شهادة بعضهم تقبل على بعض ما لم يغلب على الظن كذبه لوجود تهمة، بأن يكون بينه وبين المشهود ضده لوث، أو يجر لنفسه بشهادته نفعاً ونحو ذلك. ولو قيل بغير هذا لضاعت الحقوق؛ لأن المتعاطي لا يجالس في الغالب إلا من على شاكلته، فلا يشهد ما يكون في مجالسهم إلا من يُجالسهم. فقبول شهادة بعضهم على بعض من باب الضرورة.
ولقبول شهادة بعضهم على بعض نظائر: منها: قبول شهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه الرجال، وقبول شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجل، وقبول شهادة الكافر على وصية المسلم في السفر. قال ابن القيم في الطرق الحكمية: (وعلى هذا فإذا كان الناس فساقاً كلهم إلا القليل النادر، قبلت شهادة بعضهم على بعض، ويحكم بشهادة الأمثل من الفساق فالأمثل، هذا هو الصواب الذي عليه العمل، وإن أنكره كثير من الفقهاء بألسنتهم). وجاء في فتاوى ورسائل الشيخ ابن إبراهيم: (من محمد بن إبراهيم إلى المكرم قاضي محكمة خيبر سلّمه الله،....، وأن الجرح في شاهدين من الشهود الثلاثة كان هو بشرب الدخان، فقد ثبت لديكم الطعن، وتسألون عن الحكم في قبول شهادة شارب الدخان إذا كان غالبية أهل تلك البلد يشربونه والقليل منهم سالم من شربه... إلى آخره. ونفيدكم: أنه ما زال الحال كما ذكرتم من أن غالبية أهل تلك الناحية يشرب الدخان فإنه والحالة هذه تعتبر العدالة حسب الإمكان، ولا سيما مَنْ عُرِفَ باستقامة الحال. هذا والسلام عليكم). * * * المطلب الثالث: حكم شهادة مستخدم المواد المخدرة بعد توبته.
وصورتها: لو أراد متعاطي المواد المخدرة بعد توبته من التعاطي، أن يشهد على أمر ما، فهل يكون تعاطيه للمواد المخدرة في السابق قادحاً في شهادته أم لا؟. اتفق أصحاب المذاهب الأربعة على قبول شهادة الفاسق غير المحدود بقذف بعد توبته، وحُكي الإجماع على قبولها. ويدل على قبول شهادة الفاسق التائب عموماً، ومتعاطي المواد المخدرة على وجه الخصوص ما يلي: أ- قوله تعالى: (إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٲلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ۬ رَّحِيمٌ۬ (٥) (النور)، والاستثناء من النفي في قوله: (إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ): إثبات، فيكون تقديره: إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، وليسوا بفاسقين. ب- ومتعاطي المخدرات إذا تاب يدخل في عموم الآية. ج- عموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، وتعاطي المواد المخدرة ذنب، فإذا تاب من التعاطي كان كمن لا ذنب له. د- ولأن التوقف في شهادة المتعاطي كان لفسقه، والفسق زال بتوبته، فلا معنى لرد شهادته بعد توبته. وعلى هذا فشهادة متعاطي المواد المخدرة تقبل بعد توبته؛ لما سبق ذكره. والله أعلم. * * * المبحث الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في الإقرار.
وصورتها: لو أقر متعاطي المواد المخدرة على نفسه، وهو حال إقراره غائب العقل بسبب تعاطيه المواد المخدرة، فهل يؤاخذ بإقراره أم لا؟. يتخرج الكلام في هذه المسألة على ما ذكروه في إقرار السكران.
وقد اختلفوا في حكم إقراره على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه مؤاخذ بإقراره إلا في الحدود. وهذا قول للحنفية، واستثنى بعضهم من الحدود حد القذف، فقال: يؤاخذ به كبقية إقراراته في غير الحدود. القول الثاني: أنه مؤاخذ بإقراره مطلقاً. وهذا قول للحنفية، وهو قول للشافعية، وقول مخرج للحنابلة. القول الثالث: أنه غير مؤاخذ بإقراره مطلقاً. وهذا قول المالكية، وقول للشافعية، ورواية عند الحنابلة.
الأدلـــة. أدلة القول الأول: قالوا: لا يؤاخذ بإقراره في الحدود؛ لأن كلام السكران حال سكره هذيان يحتمل الكذب، ومع احتمال الكذب لا يحد؛ لأن الحدود يحتال لدرئها لا لإثباتها. ويؤاخذ في غيرها؛ لأنه أدخل السكر على نفسه، فيلحق بالصاحي عقوبة له. ولأن حقوق العباد تثبت مع الشبهة بخلاف حقوق الله تعالى. ومن استثنى القذف من الحدود، قال: لأن حد القذف فيه حق للعبد، والسكران كالصاحي فيما فيه حقوق العباد؛ عقوبة له. يمكن أن يناقش بأدلة القول الثالث.
دليل القول الثاني: 1. أن السكران زال عقله بتعديه، فعقوبة له وزجراً لغيره عن ارتكاب جنس معصيته، أقيم مقام الصاحي في مؤاخذته بتصرفاته، ومن جملة تصرفاته إقراره.
نوقش: بأن العقل هو شرط التكليف، ولا فرق بين زوال الشرط بمعصية أو غيرها؛ بدليل أنه لو وقع سكران فانكسرت ساقه، له من الرخصة في الصلاة قاعداً كالذي أصابه ذلك في سبيل الله تعالى بلا خلاف. كما أن عقوبة السكران هي الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة ما لم يُغفر له، وكونه عاصياً لا يوجب إلزامه حكماً زائداً لم يلزمه الله تعالى إياه، وإلا كان هذا من تغيير حدود الله. 2. واستدل في المبسوط على مؤاخذته بإقراره فقال: (السكر عبارة عن غلبة السرور فلا يؤثر في عقله شيئاً فينفذ إقراره كما ينفذ ممن هو صاحٍ).
يمكن أن يناقش: لا يسلم أن السكر لا يؤثر في عقله شيئاً، بدليل قوله تعالى: (يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٌ۬ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآٮِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءً۬ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدً۬ا طَيِّبً۬ا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (٤٣)(النساء)، فبَيَّنَ اللهُ تعالى أن السكران لا يعلم ما يقول. أمَّا إن كان مقصوده رحمه الله السكران الذي في أوائل النشوة، فهذا لا خلاف أنه كالصاحي في كل ما يصدر عنه، وليس هو محل النزاع هنا.
أدلة القول الثالث: ما جاء في خبر ماعز -رضي الله عنه- وفيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أبه جنون؟". فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: "أشرب خمراً؟". فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. فماعز -رضي الله عنه- لمَّا أقر بالزنى سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حال عقله، فسأل أهو مجنون؟. فلما أخبر أنه ليس بمجنون، سأل أهو سكران؟. فاستُنكه فلم يُوجد منه ريح الخمر، ثم أمر -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك بإقامة الحد عليه. فيفهم من هذا أن ماعزاً -رضي الله عنه- لو كان سكران لما اعتد بإقراره. ولأنه حال سكره غير عاقل، فلا يؤاخذ بإقراره قياساً على المجنون الذي سَبَّبَ جنونه فعل محرم. ولأنه لا يوثق بصحة ما يقول، ولا تنتفي عنه التهمة فيما يخبر به، فلم يوجد فيه معنى الإقرار الموجب لقبول قوله.
الترجيح. الراجح -والله أعلم- هو القول الثالث، القاضي بعدم مؤاخذة السكران بإقراره مطلقاً، لقوة أدلته، ولما ورد على أدلة الأقوال الأخرى من مناقشة.
وعلى هذا فإقرارات متعاطي المواد المخدرة حال غياب عقله بسبب التعاطي، لا يُعتد بها أياً كان الإقرار، في حقوق الله تعالى أو في حقوق عباده. والله أعلم. * * *
|
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52683 العمر : 72
| موضوع: رد: الباب الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام القضاء والعقوبات ومسائل متفرقة. الخميس 12 مايو 2022, 3:09 pm | |
| الفصل الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام العقوبات.
وفيه تسعة مباحث: • المبحث الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في الجنايات. • المبحث الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في إقامة الحدود على المتعاطي. • المبحث الثالث: أثر القذف باستخدام المواد المخدرة. • المبحث الرابع: أثر استخدام المواد المخدرة في عقوبة المتعاطي. • المبحث الخامس: عقوبة حيازة المواد المخدرة. • المبحث السادس: عقوبة مروج المواد المخدرة. • المبحث السابع: عقوبة مهرب المواد المخدرة. • المبحث الثامن: أثر استخدام المواد المخدرة في ردة المتعاطي. • المبحث التاسع: حكم الشفاعة في إسقاط عقوبة المواد المخدرة.
المبحث الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في الجنايات. وصورتها: لو جنى شخص غائب العقل بسبب المواد المخدرة، فقتل أو أتلف عضواً من معصوم الدم، فهل يؤاخذ بجنايته أم لا؟. يتخرج الكلام في هذه المسألة على حكم جناية السكران، وهل يؤاخذ بجنايته وهو غائب العقل أم لا؟. وقد اختلفوا في جناية السكران على قولين: القول الأول: أنه مؤاخذ بجنايته. وهذا قول الحنفية، والمالكية، ومذهب الشافعية، ورواية عن أحمد. القول الثاني: أنه غير مؤاخذ بجنايته. وهذا قول للمالكية، وقول للشافعية، ورواية عن أحمد، وهو قول الظاهرية.
الأدلـــة. أدلة القول الأول: 1. ما جاء أن سكرانين قتل أحدهما صاحبه، فقتله معاوية -رضي الله عنه-. نوقش: بأن هذا الأثر لا يصح عن معاوية -رضي الله عنه-. 2. ولأن الصحابة -رضي الله عنهم- أقاموا السكر مقام القذف، فأوجبوا على السكران حد القذف؛ ولولا أن قذفه موجب للحد عليه، لما وجب الحد بمظنته، وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى. نوقش: بأن الخبر المروي عن الصحابة -رضي الله عنهم- ضعيف. 3. ولأنه لو لم يجب على السكران القصاص؛ لأفضى إلى أن مَنْ أراد أن يعصي الله تعالى شرب ما يُسكره، ثم يجني، ولا يلزمه عقوبة ولا مأثم، ويصير عصيانه سبباً لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة. نوقش: بأن هذا أيضاً قد يوجد في المجنون، فيُقال: (لو كان هذا لما شاء أحد أن يقتل أحداً, أو يتلف ماله إلا تحامق وتجنن, حتى يبلغ من ذلك ما يريد ولا فرق. فقالوا: ومن يعرف أنه سكران؟ فقلنا: ومن يعرف أنه مجنون؟). ويُقال أيضاً: بأن هذا المأخذ في مؤاخذته بجنايته مفروض في أن السكران يعي ما يقول وله قصد صحيح، وهذا لا يكون إلا في بدايات السكر -أوائل النشوة- ومؤاخذة السكران الذي في أوائل نشوته خارجة عن محل النزاع. وإنما الخلاف واقع في السكران الذي تعدى مرحلة أوائل النشوة، فهو وإن كان ناوياً بشربه قتل شخص إلا أنه حال سكره ليس له قصد صحيح في قتله؛ لأنه لا يعي ما يقول وعياً يؤاخذ به، فقد ينوي قتل شخص قبل سكره فيقتل غيره توهماً منه أنه هو صاحبه، أو لا يقتل أحداً أصلاً لأنه ما عاد يعي ما يريد. وقد يقتل حال سكره وهو لم ينو القتل حال صحوه. فالحاصل أن هذه الذريعة ليست أولاً مفضية إلى الشر كثيراً أو غالباً. وثانياً: أن الخلاف فيمن تعدى أوائل النشوة، وهذا وإن قصد الجناية قبل الشرب إلا أنه بعد الشرب لا قصد له صحيحاً حتى يؤاخذ بها. وثالثاً: أن هذه الذريعة موجودة أيضاً فيمن قصد قتل شخص وأظهر التحامق أو الجنون، فأمَّا أن يُقال بقتل المجنون والمتحامق سداً لهذه الذريعة وطرداً لها كما قيل في السكران، أو يُقال في السكران ما قيل في المجنون، والتفريق بينهما تحكم. أدلة القول الثاني: 1. ما جاء أن سكارى تضاربوا بالسكاكين، فجرح بعضهم بعضاً وهم أربعة، فمات اثنان وبقي اثنان، فجعل علي -رضي الله عنه- الدية على الأربعة جميعاً، وقص للمجروحين ما أصابهما من جراحاتهما. 2. فهذا علي -رضي الله عنه- جعل دية المقتولين على الجميع، ولو كان يقتص من السكران لقاد للميتين بالحيين. فإن قيل: إن علياً -رضي الله عنه- لم يقتص من الحيين؛ لاحتمال أن كلاً من الميتين قتل صاحبه؟. فالجواب: إن في ذلك أيضاً دليلاً لقول من لم يؤاخذه، ووجهه: أنه لو كان لأجل هذا الاحتمال لما قضى -رضي الله عنه- بالدية على الأربعة بمن فيهم الميتين؛ إذ لو كان كل منهما قتل صاحبه لما وجبت الدية؛ لأنه لا يجمع بين القصاص والدية. ولاكتفى -رضي الله عنه- بتضمين كل من الحيين ثلث دية كل واحد من الميتين لاحتمال مشاركته في القتل؛ وضمن كلاً من الحيين جراحات الآخر. ويمكن أن يرد هذا الجواب، فيُقال: بأن قصة هؤلاء السكارى فيها ثلاث احتمالات، الأول: أن كلاً من الميتين قتل الآخر، الثاني: أن كلاً من الحيين قتل الميتين، الثالث: أن أحد الميتين قتل صاحبه والآخر قتله الحيين أو أحدهما، ومع هذه الاحتمالات التي لم يتبين أحدها؛ ولأن الأصل في القصاص ألا يؤخذ فيه بالظنة، فلا بد فيه من القطع، لأجل ذلك قضى علي -رضي الله عنه- بما قضى به. 3. قياسه على المجنون، بجامع عدم العقل، والمجنون لا يؤاخذ بجنايته، يؤيد هذا القياس أن عثمان -رضي الله عنه- لم يوقع طلاق السكران؛ فدل على أن السكران عنده بمنزلة المجنون. يمكن أن يناقش: بأنه قياس مع الفارق وبيانه: أن الطلاق الأصل فيه الإباحة، والجناية الأصل فيها الحرمة، ثم إن الطلاق حق الله تعالى فيه أغلب، أمَّا الجناية فحق الآدمي فيها أغلب. 4. قياسه على المجنون والصبي، بجامع عدم التكليف، وغير المكلف لا يؤاخذ بجنايته. الترجيح. الراجح -والله أعلم- هو القول الثاني، القاضي بعدم مؤاخذة السكران؛ لأنه قول صحابي لا يُعلم له مخالف صحيح؛ ولأن من شرط القصاص وجود القصد، والسكران ليس له عقل حتى يكون له قصد صحيح يؤاخذ به. نعم إذا علمنا أن رجلاً سكر ليجني يؤاخذ حينئذٍ؛ لأنه قصد بشربه الجناية. ويقوي هذا الترجيح: أن جملة من العلماء الذين قالوا بمؤاخذته بجنايته جعلوا السكران الطافح غير مكلف مطلقاً وألحقوه بالمجنون بل إن بعضهم حكى الإجماع عليه. قال في المنتقى: (السكران إذا قصد إلى القتل قتل؛ لأنه يبقى معه من الميز ما يثبت به عليه القصاص وسائر الحقوق, ولو بلغ حد الإغماء الذي لا يصح معه قصد ولا فعل لكانت جنايته كجناية المغمى عليه والنائم). وقال في موطن آخر: (أمَّا السكران فيقاد منه, وإن قصده يصح, وهو مكلف, ولو بلغ إلى أن يكون مغمى عليه لا يصح منه قصد, ولا يسمع, ولا يرى، قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: فعندي لا يلزمه شيء, وهو كالعجماء). وجاء في شرح كفاية الطالب الرباني: (والسكران) بمحرم عالما بحرمته قاصداً شربه (إن قتل قتل) ظاهره طافحاً كان أو نشواناً؛ لأنه أدخل السكر على نفسه فلا يعذر مطلقاً نشواناً أو طافحاً قاله ق. وقال ع: يريد النشوان الذي معه شيء من عقله, وأمَّا الطافح الذي لا يميز فجنايته على العاقلة. حكى بعضهم الإجماع على هذا وحكى الخلاف في النشوان). وليس معنى هذا الترجيح أنه لا يعزر لجنايته إذا رأى الإمام أو القاضي مصلحة في ذلك -حتى ولو وصل التعزير إلى قتله- لأن باب التعزير واسع؛ ولهذا قد يعزر الصبي على جنايته مع أنه غير مكلف. وكذلك يُقال أيضاً في الجنايات التي لا توجب قصاصاً، بل تعزيراً، فالأمر فيها راجع إلى تقدير القاضي؛ لأن باب التعزير أوسع من غيره. وعلى هذا يُقال: إن جناية غائب العقل بسبب المواد المخدرة، لا يؤاخذ بها، إلا إذا عُلم أنه سكر ليجني. والله أعلم. هذا ما تحرر لي مبدئياً أثناء كتابتي لهذه المسألة، وما زالت موطن إشكال عندي. وقد وقفت بَعْدُ على كلام لابن القيم في كتابه عدة الصابرين في أثناء تقسيمه لأنواع الصبر على ما يخالف الهوى، حيث يقول رحمه الله: (فصل: القسم الثالث ما يكون وروده باختياره فإذا تمكن لم يكن له اختيار ولا حيلة في دفعه، وهذا كالعشق أوله اختيار وآخره اضطرار، وكالتعرض لأسباب الأمراض والآلام التي لا حيلة في دفعها بعد مباشرة أسبابها، كما لا حيلة في دفع السكر بعد تناول المسكر، فهذا كان فرضه الصبر عنه في أوله فلما فاته بقى فرضه الصبر عليه في آخره... فإن قيل: فهل يثاب على الصبر في هذا القسم، إذا كان عاصياً مفرطاً يتعاطى أسبابه، وهل يكون معاقباً على ما تولد منه وهو غير اختيارى له؟. قيل: نعم، إذا صبر لله تعالى وندم على ما تعاطاه من السبب المحظور، أثيب على صبره؛ لأنه جهاد منه لنفسه، وهو عمل صالح، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وأمَّا عقوبته فإنه يستحق العقوبة على السبب وما تولد منه؛ كما يعاقب السكران على ما جناه في حال سكره، فإذا كان السبب محظوراً لم يكن السكران معذوراً، فإن الله سبحانه يعاقب على الأسباب المحرمة وعلى ما تولد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها وعلى ما يتولد منها؛ ولذا كان من دعا إلى بدعة وضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من تبعه؛ لأن اتباعهم له تولد عن فعله، ولذلك كان على ابن آدم القاتل لأخيه كفل من ذنب كل قاتل ظلماً إلى يوم القيامة، وقد قال تعالى: (لِيَحۡمِلُوٓاْ أَوۡزَارَهُمۡ كَامِلَةً۬ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِۙ وَمِنۡ أَوۡزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۗ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥) (النحل)، وقال تعالى: (وَلَيَحۡمِلُنَّ أَثۡقَالَهُمۡ وَأَثۡقَالاً۬ مَّعَ أَثۡقَالِهِمۡۖ وَلَيُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ عَمَّا ڪَانُواْ يَفۡتَرُونَ (١٣) (العنكبوت) أهـ. هذا نص كلامه رحمه الله تعالى مع أنه من القائلين بعدم مؤاخذته بأقواله كطلاقه وردته... إلخ. وشيخه ابن تيمية قال في أثناء بيانه لمآخذ من قال بصحة تصرفات السكران ورده عليها: (المأخذ الثالث -وهو مأخذ الأئمة منصوصاً عنهم, الشافعي وأحمد-: أن حكم التكليف جار عليه ليس كالمجنون المرفوع عنه القلم, ولا النائم, وذلك أن القلم مرفوع عن المجنون, والسكران معاقب كما ذكره الصحابة, وليس مأخذ أجود من هذا. وكذلك قال أحمد ما قيل فيه أحسن من هذا, وهذا ضعيف أيضا, فإنه إن أريد أنه وقت السكر يؤمر وينهى, فهذا باطل, فإن من لا عقل له ولا يفهم الخطاب لم يدر بشرع ولا غيره على أنه يؤمر وينهى, بل أدلة الشرع والعقل تنفي أن يخاطب مثل هذا, وإن أريد أنه قد يؤاخذ بما يفعله في سكره, فهذا صحيح في الجملة, لكن هذا؛ خوطب في صحوه, بأن لا يشرب الخمر الذي يقتضي تلك الجنايات, فإذا فعل المنهي عنه لم يكن معذوراً فيما فعله من المحرم, كما قلت في سكر الأحوال الباطنة إذا كان سبب السكر محذوراً لم يكن السكران معذوراً. هذا الذي قلته قد يقتضي أنه في الحدود كالصاحي, وهذا قريب...) أهـ. فيحتمل أن يُقال: إن السكران يؤاخذ بجنايته في حقوق العباد لما يلي: 1. أن النصوص الواردة في هذا الباب -وهي قصة حمزة وماعز -رضي الله عنهم-، والتي تُرجح قول من لا يؤاخذه بتصرفاته؛ كلها تشترك في أنها كانت في حقوق الله تعالى، وكذلك الطلاق والردة وإقامة الحدود عليه هي حقوق لله تعالى، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، بخلاف حقوق العباد المبنية على المشاحة. 2. أن جميع الأمثلة التي مثلها القائلون بعدم مؤاخذة السكران، عند تقريرهم بأنه لا فرق بين زوال العقل بمعصية أو غيرها؛ وهي أن من كسر ساقيه جاز له أن يصلي قاعداً, ولو ضربت المرأة بطنها, فنفست, سقطت عنها الصلاة, ولو ضرب رأسه فجن, سقط التكليف. تشترك أيضاً في أن جميعها حقوق لله تعالى. لكن يُشغب على هذا أن لازمه طرده في كل حقوق العباد؛ فيؤاخذ ببيعه وشرائه لترتب حقوق العباد عليه، ويؤاخذ بإقراره فيما هو من حقوق الخلق، ونحو ذلك من التصرفات التي يترتب عليها حق للعباد. * * * المبحث الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في إقامة الحدود على المتعاطي.
وصورتها: لو فعل متعاطي المواد المخدرة ما يوجب حداً؛ بأن زنى أو لاط أو سرق أو قذف أو شرب خمراً، وهو حال فعله غائب العقل بسبب المواد المخدرة، فهل يؤاخذ أم لا؟. يتخرج الكلام في هذه المسألة على ما ذكروه في مؤاخذة السكران بالزنى واللواط والسرقة والقذف. وقد اختلفوا في ذلك على قولين: القول الأول: أنه يؤاخذ. وهذا قول الحنفية، والمالكية، والصحيح عند الشافعية، والحنابلة في رواية. القول الثاني: أنه لا يؤاخذ. وهذا قول للمالكية، والشافعية وهو رواية عن أحمد.
الأدلــــة. أدلة القول الأول: 1. أن الصحابة -رضي الله عنهم- أوجبوا على السكران حد الفرية؛ لكون السكر مظنة للفرية، فهذا يدل على أنه مؤاخذ بحد القذف، وكذلك بقية الحدود قياساً عليه. نوقش: بما سبق من أن الخبر ضعيف. 2. أنه تسبب في ارتكاب موجب الحد بسبب لا يُعذر فيه، فأشبه من لا عذر له. ناقش ابن حزم هذا الدليل فقال: (وأجازه قوم ولا نعلم لهم حجة أصلاً أكثر من أن قالوا: هو عصى الله -تعالى وعز وجل- وأدخل ذلك على نفسه؟. فقلنا: نعم, وحقه على ذلك الحد في الدنيا, والنار في الآخرة إلا أن يغفر الله -تعالى- له, وليس ذلك بموجب إلزامه حكماً زائداً لم يلزمه الله -تعالى- إياه, وهم لا يختلفون في سكران عربد فوقع فانكسرت ساقه, فإن له من الرخصة في الصلاة قاعداً كالذي أصابه ذلك في سبيل الله, ولا فرق. وكذلك التيمم إذا جرح جراحات تمنعه من الوضوء والغسل -وهذا تناقض سمج- وبالله التوفيق. ويقولون فيمن تناول البلاذر عمداً فذهب عقله: أن حكمه حكم المجنون الذي لم يدخل ذلك على نفسه في البيع, والطلاق وغير ذلك, فأي فرق بين الأمرين). 3. ولأن إسقاط الحدود عن السكران يُفضي إلى أن من أراد فعل هذه المحرمات شرب المسكر، وفعل ما أحب فلا يلزمه شيء. يمكن أن يناقش بما يلي: أ- لا يسلم تصور هذا الدليل إلا في من كان في أوائل النشوة، فهو الذي معه قصد صحيح قبل الشرب وبعده، بحيث يدرك فعل ما يريد وما يحب، ومؤاخذة هذا خارجة عن محل النزاع. والخلاف فيمن تعدى أوائل النشوة، حتى صار لا يعي ما يقول ولا يدري ما يفعل وعياً كاملاً صحيحاً. ب- ثم إن ما قيل من مؤاخذته سداً للذريعة التي ذُكرت موجودة أيضاً فيمن يجنن نفسه بضرب رأسه أو بشرب دواء، كي يفعل ما يؤاخذ به في حال حضور عقله. فأمَّا أن يُقال بمؤاخذة المجنون أيضاً سداً لهذه الذريعة وطرداً لها كما قيل في السكران، أو يُقال في السكران ما قيل في المجنون، والتفريق بينهما تحكم. 4. ولأن السكر مظنة لفعل المحارم وسبب إليه، والسكران تسبب إلى فعلها حال صحوه. يناقش: بما ذكر في مناقشة الدليل الثاني: من أن السكران لو وقع حال سكره وانكسرت ساقه، فإن له أن يصلي قاعداً مع أنه هو من تسبب في كسرها بسبب سكره. أدلة القول الثاني: 1. قياسه على المجنون بجامع عدم العقل. 2. أنه غير عاقل حال ارتكابه موجب الحد، وهذا شبهة توجب درء الحد؛ إذ الحدود تدرأ بالشبهات. 3. قياسه على النائم فيما لو أتى موجب حد، بجامع عدم العقل. الترجيح. الراجح والله أعلم هو القول الثاني، القاضي بعدم مؤاخذته بما فعله حال سكره؛ لقوة أدلته، ولما ورد على أدلة القول الأول من مناقشه، ولأن الأصل درأ الحدود بالشبهات، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات). ولأن الشارع يتشوف إلى إسقاط الحدود؛ ولذا يشرع تلقين المقر بموجب الحد بالرجوع، ويشرع الستر على مرتكب موجب الحد من جهتين، من جهة نفسه بألا يقر وأن يستتر بستر الله تعالى ولا يجاهر بذنبه، ومن جهة غيره بألا يبلغ أمره للسلطان مالم يكن مجاهراً أو مصراً. ولأن الحق في الحدود لله تعالى، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة. وليس معنى إسقاط الحد عنه أنه لا يعزر للمصلحة العامة، فالتعزير بابه واسع. وعلى هذا يُقال: لا يؤاخذ غائب العقل بسبب المواد المخدرة بما يرتكبه من موجبات الحد حال غياب عقله. والله أعلم. * * * المبحث الثالث: أثر القذف باستخدام المواد المخدرة. وصورتها: لو رمى شخص آخر بتعاطي المواد المخدرة، كأن يقول له: يا حشاش أو يا محشش، ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها رمي بتعاطي المواد المخدرة أو نوع منها، فهل يوجب هذا الرمي عقوبة؟. يتخرج الكلام في هذا الصورة على ما ذكروه، فيمن رمى آخر بشرب الخمر. والمذاهب الأربعة متفقة على أن ذلك من موجبات التعزير، وهو الذي عليه جماعة من السلف. جاء في المبسوط: (ولو قال: يا آكل الربا أو يا خائن أو يا شارب الخمر لا حد عليه في شيء من ذلك, ولكنه عليه التعزير). وجاء في تبصرة الحكام: (فرع: لو قال رجل لرجل: يا شارب الخمر أو يا آكل الربا أو يا خائن أو يا ثور, أو يا حمار أو يا ابن الحمار أو يا يهودي أو يا نصراني أو يا مجوسي فإنه يعزر). وجاء في الإقناع: (ويعزر بقوله يا كافر يا منافق يا سارق يا أعور يا أقطع يا أعمى يا مقعد يا ابن الزمن الأعمى الأعرج يا نمام يا حروري يا مرائي يا مرابي يا فاسق يا فاجر يا حمار يا تيس يا رافضي يا خبيث البطن أو الفرج يا عدو الله يا جائر يا شارب الخمر..). أمَّا الشافعية فلم ينصوا صراحة على هذا اللفظ، وإنما ذكروا أن من موجبات التعزير السب بما ليس بقذف، وقول شخص لآخر: يا شارب الخمر، هو سب بما لا يعد قذفاً، فيدخل في كلامهم. جاء في أسنى المطالب: (باب التعزير) هو لغة التأديب، وشرعاً تأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة، كما يؤخذ من قوله. (وهو) مشروع (في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة)، سواء أكانت حقاً لله تعالى أم لآدمي، وسواء أكانت من مقدمات ما فيه حد؛ كمباشرة أجنبية في غير الفرج وسرقة ما لا قطع فيه, والسب بما ليس بقذف أم لا...). واستدلوا على أن قول شخص لآخر: (يا شارب الخمر) من موجبات التعزير، بما يلي: 1. أن رمي مسلم بشرب الخمر حرام يوجب العقوبة، وليس في عقوبته حد مقدر، فكانت عقوبته التعزير. 2. ولأنه ألحق نوع شين بما نسبه إلى المسلم من شرب الخمر، والناس بين مصدق ومكذب، فوجب التعزير لدفع ذلك الشين عنه. وعلى هذا يُقال: إن رمي شخص آخر بتعاطي المواد المخدرة، من موجبات التعزير، قياساً على ما ذكروه في الرمي بشرب الخمر. والله أعلم. * * * المبحث الرابع: أثر استخدام المواد المخدرة في عقوبة المتعاطي. كانت مغيبات العقل في العصر الأول محصورة في خمر يتخذ من أغذية معينة، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (لقد حرمت الخمر، وكانت عامة خمورهم يومئذٍ خليط البسر والتمر). وجاء أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطب على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أمَّا بعد: ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل، وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل، والخمر ما خامر العقل...). والمواد المخدرة تعد طارئة على المجتمع الإسلامي؛ ولهذا وقع الخلاف بين فقهاء كل عصر في المواد التي شاع وظهر استخدامها تباعاً. وسبب الخلاف يرجع إلى ثلاثة أمور: 1. خلافهم في حقيقة هذه المواد، وهل هي مفترة أم مسكرة؟. 2. خلافهم في المسكر هل يختص بالمائع، أم يشمل المائع وغيره؟. 3. خلافهم في المسكر هل يشترط فيه تغييب العقل فقط، أو تغييب العقل مع اللذة، أو هما مع الشجاعة؟. وبعد هذه المقدمة اليسيرة، فإن الفقهاء اختلفوا في عقوبة تعاطي المواد المخدرة على أقوال: القول الأول: لا يحد متعاطيها وإنما يعزر. وهذا قول الحنفية، والمعتمد عند المالكية، والشافعية، وقول للحنابلة. ويلاحظ هنا أنهم نصوا على مواد معينة عرفت في عصرهم،؛ كالحشيشة، والأفيون، والبنج، وجوزة الطيب. جاء في الدر المختار ((ويحرم أكل البنج والحشيشة) هي ورق القنب (والأفيون)؛ لأنه مفسد للعقل ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، (لكن دون حرمة الخمر, فإن أكل شيئاً من ذلك لا حد عليه وإن سكر) منه؛ (بل يعزر بما دون الحد)، كذا في الجوهرة, وكذا تحرم جوزة الطيب لكن دون حرمة الحشيشة). وجاء في بلغة السالك: (قوله: [بخلاف نحو الحشيشة والأفيون]: أي فليست من المسكر، ولا من النجس، ولا توجب حداً, وإنما فيها الأدب إن تعاطى منها ما يغيب العقل). جاء في تحفة المحتاج: (كل شراب أسكر كثيره) من خمر أو غيرها...، وخرج بالشراب ما حرم من الجامدات، فلا حد فيها وإن حرمت وأسكرت -على ما مر أول النجاسة-؛ بل التعزير لانتفاء الشدة المطربة عنها؛ ككثير البنج والزعفران والعنبر والجوزة والحشيشة المعروفة). وجاء في المبدع: (بخلاف البنج وجوزة الطيب). القول الثاني: يحد متعاطي الحشيشة. اختاره بعض المالكية، والشافعية، وهو قول للحنابلة اختاره ابن تيمية. القول الثالث: يحد متعاطي المواد المخدرة سواء حشيشة أو غيرها من المسكرات. وإلى هذا ذهبت هيئة كبار العلماء في السعودية وبعض المعاصرين. وبعض الحنفية ذكر أن الذي يُفتى به وجوب الحد على آكل البنج. جاء في قرار هيئة كبار العلماء بالسعودية رقم 85 في 11/11/1401 ما نصه: (من يتعاطها للاستعمال فقط فهذا يجري في حقه الحكم الشرعي للمسكر، فإن أدمن على تعاطيها ولم يجد في حقه إقامة الحد كان للحاكم الشرعي الاجتهاد في تقرير العقوبة التعزيرية الموجبة للزجر والردع ولو بقتله)أهـ.
الأدلـــة. أدلة القول الأول: 1. قالوا: لأنه لا يلذ ولا يطرب، والحد إنما يكون فيما يجمع الوصفين اللذة والطرب. يمكن أن يُناقش من وجهين: الأول: لا يُسلم أن المواد المخدرة ليس فيها نشوة وطرب؛ فهي تحدث لمتعاطيها ما يحدثه الخمر من الطرب والنشوة، بدليل المداومة عليها والانهماك فيها الثاني: جاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث أبا موسى -رضي الله عنه- إلى اليمن، قال له أبو موسى: (يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ أَرْضَنَا بِهَا شَرَابٌ مِنَ الشَّعِيرِ الْمِزْرُ، وَشَرَابٌ مِنَ الْعَسَلِ الْبِتْعُ؟. فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ". فلم يستفصل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الشراب أيحدث لشاربه نشوة وطرباً مع إسكاره، أو هو مسكر بلا نشوة وطرب، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ويحسن به الاستدلال. كما أنه لو كان لهذا الوصف -أعني: النشوة والطرب- تأثير في الحكم لما أخر النبي -صلى الله عليه وسلم- بيانه عن وقت الحاجة؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. 2. ولأن تناول قليل المخدرات لا يدعو إلى كثيرها، بخلاف الخمر فإن تناول قليلها يدعوا إلى كثيرها. يمكن أن يناقش: لا يسلم أن قليل المواد المخدرة لا يدعو إلى كثيرها، فقل أن يتعاطى أحد هذه المواد إلا اعتادها، والقليل منها يدعو إلى الكثير، فمن كتب في الإدمان وخصائصه ذكر: أن جملة من المتعاطين إذا وصل إلى مرحلة الإدمان، يحتاج إلى زيادة الجرعات بصورة تصاعدية؛ لتعود الجسم على المادة المخدرة وعدم اكتفائه بالجرعة السابقة. 3. ولأنها وإن كانت حراماً، إلا أنها حرمة محل الاجتهاد، فلم يكن شربها جناية محضة فلا تتعلق بها عقوبة محضة ولا بالسكر منها. يمكن أن يناقش: بأنه ليس كل اجتهاد يلتفت إليه خاصة إذا كانت الأدلة تدل على ضعف هذا الاجتهاد. ومن ذلك في هذا الباب اجتهاد الحنفية في حد من شرب القليل من نبيذ غير التمر والزبيب، فإن الجمهور على حد من شربه. دليل القول الثاني: قالوا: لأن الحشيشة داخلة في تحريم الخمر أمَّا نصاً أو تقديراً، نصاً: لأن كل مسكر خمر، بنص الحديث (ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولاً أو مشروباً أو جامداً أو مائعاً فلو اصطبغ بالخمر كان حراماً، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراماً). وتقديراً: لو قدر بأن اللفظ لا يتناولها فهي ملحقة بالخمر بطريق الاعتبار والقياس؛ لأن جميع المواد المسكرة -سواء كانت خمراً أو غيره- متساوية في كونها تسكر، والمفسدة الموجودة في هذا موجودة في هذا، والله تعالى لا يفرق بين متاثلين؛ بل التسوية بين هذا وهذا من العدل والقياس الجلي. وأمَّا أنه لا يجب في البنج وجوزة الطيب ونحوهما مما ليس فيه طرب: فلأن العقوبات الشرعية المقدرة -ومنها الحدود-، مرتبة على المحرمات التي تشتهيها النفوس وتدعو إليها، أمَّا ما لا تدعو إليه النفس ولا تشتهيه فليس فيه سوى التعزير. ومن ذلك المسكر فما لا لذة فيه ولا طرب لا يحد عليه وإن غيب العقل. يمكن أن يناقش من وجهين: الأول: بما سبق ذكره في مناقشة الدليل الأول للقول الأول. الثاني: الاشتهاء وداعيه من النفس وكذا الطرب أمر نسبي، فقد يطرب ويشتهي عمرو ما لا يطرب به غيره ولا يشتهيه وهكذا، يؤيد ذلك أن اللواط لم تكن تعرفه بنو آدم ولا تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم حتى صنع ذلك قوم لوط عليه السلام، وأصحاب الفطر السليمة تأبى هذا الفعل وتنأى عنه، ومع ذلك فقد رتب الشارع عليه عقوبة مقدرة. وكذلك وطء الأم والبنت والأخت لا تدعو إليه النفوس ولا تشتهيه، ومع ذلك رُتب عليه عقوبة مقدرة؛ بل إن الحد فيه من أغلظ الحدود في أحد قولي أهل العلم، وهو القتل بكل حال محصناً كان أو غير محصن. دليل القول الثالث: قالوا: لأن المخدرات أشد خطراً من الخمر على متعاطيها في نفسه وأخلاقه وماله، وأسوأ عاقبة على المجتمع، فهي أشد تحريماً من الخمر سواء قيل إنها مسكرة أم لا فيجب التشديد في عقوبتها. يقول ابن تيمية وهو يتحدث عن الحشيشة: (هي شرٌّ من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شرٌّ منها من وجه آخر، فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولاً، تورث التخنيث والديوثة، وتفسد المزاج، فتجعل الكبير كالسفنجة، وتوجب كثرة الأكل، وتورث الجنون، وكثير من الناس صار مجنوناً بسبب أكلها، ومن لم يجن منهم فقد أعطته نقص العقل، ولو صحا منها فإنه لابد أن يكون في عقله خبل، ثم إنها تورث من مهانة آكلها ودناءة نفسه وانفتاح شهوته مالا يورثه الخمر، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، وإن كان في الخمر مفسدة ليست فيها، وهي الحدة فهي بالتحريم أولى من الخمر؛ لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر، وضرر شارب الخمر على الناس أشد، إلا أنه في هذه الأزمان لكثرة أكل الحشيشة صار الضرر الذي منها على الناس أعظم من الخمر). وكذلك جملة من أنواع المواد المخدرة، فهي أشد ضرراً من الحشيشة بمراحل، كالهروين مثلاً، بل إن الامفيتامينات ومع كونها لا تغيب العقل إلا أن ضررها على المتعاطي وعلى أسرته ومجتمعه ضرر كبير. الترجيح: الراجح -والله أعلم-: أن المواد المخدرة لا تخلو أمَّا أن تغيب العقل أو لا، فإن كانت مما يغيب العقل وجب الحد على متعاطيها؛ لما سبق ذكره من عمومات الأدلة التي رتبت السكر على غياب العقل من غير اشتراط لنشوة وطرب، ولأن المعنى الذي حُرم الخمر لأجله موجود فيها. وإن كانت المواد المخدرة مما لا يغيب العقل وإنما تحدث فتوراً -كالقات-، أو تنبيهاً -كالامفيتامينات-، فلا يجب حد وإنما تعزير؛ لأن التحريم فيها لأجل ضررها؛ لا لكونها مسكرة، فتدخل فيما عقوبته غير مقدرة شرعاً، ويُرجع في تقديرها إلى اجتهاد القاضي. * * *
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 12 مايو 2022, 10:51 pm عدل 1 مرات |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52683 العمر : 72
| موضوع: رد: الباب الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام القضاء والعقوبات ومسائل متفرقة. الخميس 12 مايو 2022, 3:10 pm | |
| المبحث الخامس: عقوبة حيازة المواد المخدرة. الحيازة في اللغة: جاء في لسان العرب: (كل من ضَمَّ شيئاً إِلى نفسه من مال أَو غير ذلك فقد حازَه، حَوْزاً، وحِيازَة، وحازَه إِليه، واحْتازَهُ إِليه). والمقصود بها هنا: أن يحوز شخص مواد مخدرة بأي صفة كانت. فحيازة المواد المخدرة معصية أو من لوازم المعصية؛ لأنه لا يحوزها -في الأعم الأغلب- إلا ليتعاطاها أو يدفعها لمن يتعاطاها ببيع أو غيره، وهذه المعصية توجب عقوبة، والعقوبة هنا غير مقدرة شرعاً، ولذا يُرجع في قدرها إلى القاضي، فيعزره بما يراه مناسباً. جاء في معين الحكام: (ولو وجد يحمل آنية فيها خمر يعزر). وجاء عن الإمام أحمد أنه سئل عن رجل مسلم وجد في بيته خمر، فقال: (يراق الخمر ويؤدب، وإن كانت تجارته يحرق بيته كما فعل عمر برويشد). فأحمد رحمه الله أفتى بتأديب من وجد في بيته خمر حتى ولو لم يثبت شربه له؛ اكتفاء بحيازته له؛ وكذلك يُقال في المواد المخدرة: فيعاقب من يحوزها حتى ولو لم يثبت تعاطيه. إلا أنه ينظر إلى حال الحائز وسابقته وما عرف به، فقد يُبلى شخص بها، فتوضع في سيارته -مثلاً- نكاية به، فإن كان الرجل معروفاً بالخير أو أثبت أنه معروف به وشهد بذلك من ترضى شهادته، فلا ينبغي أن يعزر مثله. * * * المبحث السادس: عقوبة مروج المواد المخدرة. المقصود بالمروج: الشخص الذي يسعى إلى إشاعة ونشر تعاطي المواد المخدرة بين الناس، سواء كان ببيعها أو إهدائها ونحو ذلك من طرق إشاعتها ونشرها. ولا يخفى ما في الترويج من إعانة على تيسير التعاطي، ودعوة إليه، فهو من التعاون على الإثم والعدوان الذي نهى الشارع عنه، كما أنّ في الترويج نشراً للفاحش من الفعل وإشاعة له، والله تعالى يقول: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ۬ فِى ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأَخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ (١٩) (النور) فـ (أل) في قوله: (تَشِيعَ) للاستغراق، فتشمل كل فعل قبيح مفرط القبح. ومن عذاب الدنيا الأليم معاقبة المروج بما يزجره ويردع غيره عن شين فعلته. وبلغ عمر -رضي الله عنه- أن رجلاً أثرى من بيع الخمر، فقال -رضي الله عنه-: (اكسروا كل آنية له، وسيروا كل ماشية له)، كما أحرق -رضي الله عنه- بيت رويشد الثقفي لبيعه الخمر. وكذلك يُقال في ترويج المخدرات بجامع الإسكار أو التحريم. جاء في معين الحكام: (ويضرب المسلم ببيع الخمر ضرباً وجيعاً). وجاء في المدونة: (قال مالك في النصراني يبيع من المسلم خمراً: إن النصراني يضرب على بيعه الخمر من مسلم، إذا كان النصراني يعرف أنه مسلم فباعه وهو يعرف أنه مسلم أدباً للنصراني, قال: وأرى أن يؤخذ الثمن فيُتَصدق به على المساكين أدباً للنصراني، وتكسر الخمر في يد المسلم)، وإذا كان هذا في بيع النصراني، فأولى منه بيع المسلم للمسلم. وكذلك يُقال في ترويج المواد المخدرة قياساً على الخمر بجامع الإسكار أو التحريم. ولكون ترويج المواد المخدرة معصية غير مقدرة العقوبة شرعاً، فإنه يُرجع في تقديرها إلى القاضي، فيعزره بما يراه مناسباً. والعمل في المحاكم في عقوبة المروج على ما جاء في قرار هيئة كبار العلماء رقم 85 في 11/11/1401، وهو تعزيره في المرة الأولى تعزيراً بليغاً، وفي الثانية قد يصل التعزير إلى قتله، جاء في قرار هيئة كبار العلماء المذكور ما نصه: (من يروجها سواء كان ذلك بطريق التصنيع أو الاستيراد بيعاً وشراءً أو إهداءً ونحو ذلك من ضروب إشاعتها ونشرها، فإن كان ذلك للمرة الأولى فيعزر تعزيراً بليغاً بالحبس أو الجلد أو الغرامة المالية أو بهما جميعاً حسبما يقتضيه النظر القضائي، وإن تكرر منه ذلك فيعزر بما يقطع شره عن المجتمع، ولو كان ذلك بالقتل؛ لأنه بفعله هذه يعتبر من المفسدين في الأرض وممن تأصَّل الإجرام في نفوسهم، وقد قرر المحققون من أهل العلم أن القتل ضرب من التعزير،..). * * * المبحث السابع: عقوبة مهرب المواد المخدرة. المقصود بالمهرب: الشخص الذي ينقل المواد المخدرة من بلد إلى آخر بأي وسيلة. فهو الوسيط بين المنتج الخارجي للمواد المخدرة -سواء بزراعة أو تصنيع- وبين المروج الذي ينشر المواد المخدرة بين الناس. وهو كما لا يخفى وسيط شرَّ، ومعين إثم، وحلقة من أهم حلقات سلسلة بيع المواد المخدرة. جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه: " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ". فالحاصل أن تهريب المواد المخدرة معصية توجب عقوبة، ولكون هذه العقوبة غير مقدرة شرعاً، فإنه يُرجع في تقديرها إلى اجتهاد الحاكم الشرعي. والذي عليه العمل في المحاكم هو ما جاء في قرار هيئة كبار العلماء رقم 85 في 11/11/1401، ونصه: (...، بالنسبة للمهرب فإن عقوبته القتل لما يسببه تهريب المخدرات وإدخالها البلاد من فساد عظيم لا يقتصر على المهرب نفسه، وأضرار جسيمه وأخطار بليغة على الأمة بمجموعها ويلحق بالمهرب الشخص الذي يستورد أو يتلقى المخدرات من الخارج فيمون بها المروجين...). * * * المبحث الثامن: أثر استخدام المواد المخدرة في ردة المتعاطي. وصورتها: لو أن متعاطياً للمواد المخدرة أتى في حال غياب عقله بسببها، بما يوجب الردة، فهل يكون مرتداً أم يعذر بسبب غياب عقله؟. يتخرج الكلام في هذه المسألة على حكم ردة السكران، وقد اختلفوا في ردته على قولين: القول الأول: لا يكون مرتداً. وهذا قول الحنفية، وقول للمالكية، والشافعية، ورواية عن أحمد. القول الثاني: أنه لا أثر لغياب عقله، فيكون مرتداً. وهذا المشهور عند المالكية، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد. الأدلــــة. أدلة القول الأول: 1. قوله تعالى: (يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٌ۬ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآٮِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءً۬ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدً۬ا طَيِّبً۬ا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (٤٣)(النساء)، (فصح أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن لا يعلم ما يقول لم يلزمه ما يقول، حتى لو كفر بكلام لا يدري ما هو لم يلزمه). 2. ولما جاء في قصة ناقتي علي -رضي الله عنه- لما اجتب أسنمتهما حمزة -رضي الله عنه- وفيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه: جاؤا البيت الذي فيه حمزة فاستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأذنوا لهم فإذا هم شرب، فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة قد ثمل محمرة عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم صعد النظر فنظر إلى ركبته، ثم صعد النظر فنظر إلى سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة: (هل أنتم إلا عبيد لأبي)، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قد ثمل فنكص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عقبيه القهقرى وخرجنا معه. فحمزة -رضي الله عنه- قال ما هو موجب للكفر؛ ومع ذلك لم يُكفّر -رضي الله عنه-، -وأعاذه الله من الكفر-؛ لأنه -رضي الله عنه- تلفظ بذلك وهو سكران، فدل على أن السكران لا يؤاخذ بموجبات الردة حال سكره. 3. ولأن الردة تنبني على الاعتقاد، ومعلوم أن السكران لا يعتقد ما يقوله. أدلة القول الثاني: 1. لأن الصحابة -رضي الله عنهم- جعلوا السكران بمنزلة الصاحي، يدل لذلك: قول علي -رضي الله عنه- لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما استشاره في الخمر يشربها الرجل: (نرى أن تجلده ثمانين؛ فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى). وإذا كان السكران بمنزلة الصاحي، صحت ردته كالصاحي. نوقش: بأن الخبر المروي ضعيف. وعلى فرض صحته فهو محمول على أن الصحابة -رضي الله عنهم- عاقبته بما السكر مظنته -وهو الهذيان والافتراء في القول-، فجعلوا إقدامه على السكر الذي هو مظنة الافتراء ملحقاً بالمقدم على الافتراء، إقامة لمظنة الحكمة مقام الحقيقة؛ لأن الحكمة هنا خفية منتشرة؛ إذ قد لا يُعلم افتراؤه، ولا متى يفتري، ولا على من يفتري كما أن المضطجع يحدث ولا يدري هل أحدث أم لا، فقام النوم مقام الحدث. 2. ولأن السكران يصح طلاقه ويقع، فكذا ردته تصح منه ويؤاخذ بها. يمكن أن يناقش: بأنه لا يسلم وقوع طلاق السكران، وقد سبق بيان أن الراجح عدم وقوع طلاقه. 3. ولأن السكران لا يزول عقله بالكلية؛ ولهذا يتقي المحذورات، ويفرح بما يسره ويُساء بما يضره، ويزول سكره عن قريب من الزمان فأشبه الناعس، بخلاف المجنون. يمكن أن يناقش: بأن هذا أيضاً موجود في المجنون، فإنه يتقي المحذورات ويفرح بما يسره ويساء بما يضره. وأمَّا أنه يزول سكره عن قريب فلا أثر له في التكليف، إذ مناط التكليف وجود العقل، وهو هنا لا عقل له، ويظهر هذا بالمجنون جنوناً غير مطبق فإنه قد يرجع عقله من قريب ومع ذلك هو غير مكلف. الترجيح. الراجح والله أعلم هو القول الأول، القاضي بعدم مؤاخذة السكران بردته؛ لقوة أدلته ولما ورد على دليل المخالف من مناقشة؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، والسكر شبهة فيدرأ الحد به. وعلى هذا فإذا أتى المتعاطي بما يوجب الردة حال غياب عقله -بسبب المواد المخدرة-، فإنه لا يؤاخذ؛ لغياب عقله. وعلى هذا لا يحد حد الردة، ولا يجب عليه أن يعيد إسلامه، ولو مات صلي عليه،... إلخ. والله أعلم. * * * المبحث التاسع: حكم الشفاعة في إسقاط عقوبة المواد المخدرة. وفيه مطلبان: • المطلب الأول: حكم الشفاعة في إسقاط عقوبة المواد المخدرة الحدية. • المطلب الثاني: حكم الشفاعة في إسقاط عقوبة المواد المخدرة التعزيرية. المبحث التاسع: حكم الشفاعة في إسقاط عقوبة المواد المخدرة. وصورتها: لو أن متعاطي المواد المخدرة أو مهربها أو مروجها أو محتازها قبض عليه ولما يصل بعد إلى السلطان أو وصل إلى السلطان، فهل يجوز الشفاعة في عقوبته أم لا؟. يختلف الحكم بحسب نوع العقوبة، فيُقال لا يخلو: أمَّا أن تكون العقوبة من باب الحد. وهذا يدخل في حكم الشفاعة في الحدود. وأمَّا أن تكون العقوبة من باب التعزير. وهذا يدخل في حكم الشفاعة في التعازير. * * * المطلب الأول: حكم الشفاعة في إسقاط عقوبة المواد المخدرة الحدية. من كان عقوبته من باب الحد، وهو متعاطي المواد المخدرة التي تغيب العقل، فالشفاعة فيه لا تخلو: أمَّا أن تكون قبل بلوغها السلطان، أو لا. فإن كانت قبل بلوغها السلطان، فالجمهور على جوازها مطلقاً. وأمَّا المالكية ففرقوا بين حد السرقة وبين غيرها، فقالوا: يجوز في غير حدّ السرقة مطلقاً، أمَّا في السرقة فلا يجوز لمن كان معروفاً بالفساد. فهم متفقون على جواز الشفاعة في حد المسكر قبل بلوغ السلطان. ومما يدل على جواز الشفاعة قبل بلوغ السلطان ما يلي: أ- ما جاء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب". ب- ولأن (الحد لا يجب إلا بعد بلوغه إلى الإمام وصحته عنده. ج- فإذا الأمر كذلك فالترك لطلب صاحبه قبل ذلك مباح؛ لأنه لم يجب عليه فيما فعل حد بعد - ورفعه أيضاً مباح, إذ لم يمنع من ذلك نص أو إجماع, فإذاً كلا الأمرين مباح, فالأحب إلينا -دون أن يفتى به- أن يُعفى عنه). وأمَّا إن كانت بعد بلوغ السلطان: فلا يجوز الشفاعة حينئذٍ بالإجماع، قال النووي: (أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام...، وعلى أنه يحرم التشفيع فيه، فأمَّا قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شرِّ وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه). وقال ابن قدامة: (وأجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه). ويدل لذلك ما يلي: أ- ما جاء أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟. ب- فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟. فأتى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أتشفع في حَدٍّ من حدود الله؟"، فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. ج- فلمَّا كان العشي قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أمَّا بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، ثم أمر -صلى الله عليه وسلم- بتلك المرأة التي سرقت فقُطعت يدها. د- ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله". هـ- ولأن الحق في الحدود لله تعالى، وفي إسقاطها إسقاط حق وجب لله تعالى. وعلى هذا فيجوز الشفاعة في متعاطي المواد المخدرة التي تغيب العقل قبل أن يصل إلى السلطان، أمَّا إن وصل إليه فلا تجوز الشفاعة. والله أعلم. * * * المطلب الثاني: حكم الشفاعة في إسقاط عقوبة المواد المخدرة التعزيرية. من كانت عقوبته من باب التعزير؛ كعقوبة المروج، والمهرب، والمحتاز، ومتعاطي غير المسكر من المواد المخدرة؛ فإنه يجوز الشفاعة في إسقاط عقوبته سواء بلغت السلطان أم لا ما لم يكن المشفوع له صاحب أذى. قال النووي: (أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام...، وأمَّا المعاصي التي لا حد فيها وواجبها التعزير فتجوز الشفاعة والتشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا؛ لأنها أهون. ثم الشفاعة فيها مستحبة إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب أذى ونحوه). وجاء في المدونة: (قلت: أرأيت الشفاعة في التعزير أو النكال بعد بلوغ الإمام, أيصلح ذلك أم لا؟. قال: قال مالك في الذي يجب عليه التعزير أو النكال فيبلغ به الإمام. قال مالك: ينظر الإمام في ذلك, فإن كان الرجل من أهل المروءة والعفاف وإنما هي طائرة أطارها تجافى السلطان عن عقوبته, وإن كان قد عرف بذلك وبالطيش والأذى ضربه النكال). وعلى هذا فإن الشفاعة مقيدة بمن لم يكن ذا أذى، ولا يخفى أن أذى المروج والمهرب من أعظم أنواع الأذى على المجتمع والأفراد والمؤسسات الحكومية، فمثلهما ينبغي ألا يشفع لهما مطلقاً؛ زجراً لهما وردعاً لغيرهما. أمَّا متعاطي ما لا يسكر أو محتاز المواد المخدرة فقط من غير قصد ترويج، فيختلف حكم كل حالة منهما بحسب ما يحفها من ملابسات، والأصل أن أذاهما غير متعدٍ، وعلى هذا فالأصل استحباب الشفاعة في إسقاط التعزير عنهما؛ خاصة إذا ظهرت بوادر التوبة منهما، أو أن الضرر في عقوبتهما يتعدى إلى غيرهما؛ كما لو حبس المتعاطي وعنده أهل لا يعولهم غيره. ويدل على مشروعية الشفاعة لهما؛ عموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: " اشفعوا فلتأجروا وليقض الله على لسان نبيه ما شاء "، وإنما خرجت الحدود من هذا للنصوص الخاصة في النهي عن الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان. قال النووي في شرحه للحديث: (فيه استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة، سواء كانت الشفاعة إلى سلطان ووال ونحوهما، أم إلى واحد من الناس، وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلم أو إسقاط تعزير أو في تخليص عطاء لمحتاج أو نحو ذلك، وأمَّا الشفاعة في الحدود فحرام، وكذا الشفاعة في تتميم باطل أو إبطال حق ونحو ذلك فهي حرام). ويجدر التنبيه إلى أنه وإن جازت الشفاعة في التعازير سواء بلغت السلطان أم لا، إلا أنه ليس معنى هذا أنه يجوز للسلطان قبول الشفاعة مطلقاً، وأن له إسقاط التعزير لكل من شُفع له، جاء في إكمال المعلم للقاضي عياض عند شرحه للحديث السابق: (وفيه عموم الشفاعة للمذنبين، وهي جائزة فيما لا حد فيه عند السلطان وغيره، وله قبول الشفاعة فيه والعفو عنه إذا رأى ذلك كما له العفو عنه ابتداءً، وهذا فيمن كانت منه الزلة والفلتة وفي أهل الستر والعفاف، ومن طمع بوقوعه عند السلطان والعفو عنه من العقوبة أن يكون له توبة، وأمَّا المصرون على فسادهم المستهزئون في باطلهم، فلا تجوز الشفاعة لأمثالهم، ولا ترك السلطان عقوبتهم؛ ليزدجروا عن ذلك؛ وليرتدع غيرهم بما يُفعل بهم). * * *
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الخميس 12 مايو 2022, 10:59 pm عدل 1 مرات |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52683 العمر : 72
| موضوع: رد: الباب الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام القضاء والعقوبات ومسائل متفرقة. الخميس 12 مايو 2022, 10:53 pm | |
| الفصل الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في مسائل متفرقة وفيه خمسة مباحث: • المبحث الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في دخول المتعاطي في العاقلة. • المبحث الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في الذكاة ونحوها. • المبحث الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في الأيمان والنذور. • المبحث الرابع: أثر استخدام المواد المخدرة في إسلام المتعاطي. • المبحث الخامس: أثر استخدام المواد المخدرة في حكم الستر على المتعاطي. المبحث الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في دخول المتعاطي في العاقلة. وصورتها: لو جنى أحد أقارب المتعاطي جناية توجب دية على العاقلة، فهل المتعاطي داخل في العاقلة، أم لا؟. الذي يظهر -والله أعلم- أنه لا أثر لتعاطي المواد المخدرة في خروج المتعاطي من العاقلة، سواء كانت المواد المخدرة من مغيبات العقل أم لا؛ لأن من مقاصد المعاقلة المواساة، ومتعاطي المواد المخدرة -سواء غاب عقله بالتعاطي أم لا- هو من أهل المواساة؛ ولذا تجب الزكاة في ماله. وغياب عقله فترة يسيرة لا تدوم؛ بخلاف المجنون الذي تطول مدة غياب عقله. كما أن من مقاصد المعاقلة النصرة، ومتعاطي المواد المخدرة من أهل النصرة، فلا يقاس على المجنون الذي لا نصرة فيه أبداً لا بالعقل ولا بالرأي. ويحتمل أن يخرج قول للشافعية بأنه ليس من أهل العقل، فقد ذكر بعض الشافعية أن المجنون ليس من أهل النصرة سواء كان جنونه جنوناً مطبقاً أم متقطعاً. فيقاس على غير المطبق المتعاطي، بجامع عدم العقل في بعض الأزمان. والراجح -والله أعلم- أنه لا أثر لتعاطي المواد المخدرة في دخوله ضمن العاقلة؛ لما سبق ذكره من تعليل. * * * المبحث الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في الذكاة ونحوها وفيه مطلبان: • المطلب الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في الذكاة ونحوها إذا كان حاضر العقل. • المطلب الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في الذكاة ونحوها إذا كان غائب العقل. المطلب الأول: أثر استخدام المواد المخدرة في الذكاة ونحوها إذا كان حاضر العقل. وصورتها: لو أن متعاطي المواد المخدرة ذكى أو صاد صيداً، وهو حاضر العقل فهل يؤكل مما ذبحه و صاده أم لا؟. يتخرج الكلام في هذه الصورة على ما ذكروه في حكم ذكاة المسلم الفاسق، والجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة على إباحتها. جاء في الجوهرة النيرة: (والأقلف, والمجبوب, والخصي, والخنثى, والمخنث تجوز ذبيحتهم)، ويخرج على المخنث متعاطي المواد المخدرة بجامع الفسق. وجاء في المجموع: (لو أخبر فاسق أو كتابي أنه ذكى هذه الشاة قبلناه, وحل أكلها, لأنه من أهل الذكاة). وجاء في دقائق أولي النهى: (وكذا حل ذكاة الأقلف والفاسق). أمَّا المالكية: فإنهم نصوا على كراهة ذكاة الفاسق، جاء في منح الجليل شرح مختصر خليل: ((و) كره (ذكاة) أي: ذبح أو نحر شخص (خنثى) مشكل (وخصي) وأولى مجبوب (وفاسق) لنفسه أو غيره). أي سواء كانت ذكاته لنفسه هو بأن يريد أكلها، أو كانت ذكاته لغيره؛ كالجزار يذبح لغيره. واحتج المالكية لكراهة ذكاة الفاسق وصيده: بأن الفاسق ناقص الدين. ولا يخفى ضعف ما عللوا به؛ فإن الكتابي فاسق وزيادة، وهو لا يدين بالإسلام أصلاً، ومع ذلك أباح الله لنا ما ذكاه (ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ حِلٌّ۬ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلٌّ۬ لَّهُمۡ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَـٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِىٓ أَخۡدَانٍ۬ۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَـٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُ ۥ وَهُوَ فِى ٱلۡأَخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِينَ (٥)(المائدة)، وليس الكتابي الكافر بخير من فاسق المسلمين. وأيضاً فإن الله تعالى استثنى ما ذكاه المسلم في قوله: (حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَـٰمِ ذَٲلِكُمۡ فِسۡقٌ ٱلۡيَوۡمَ يَٮِٕسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِينً۬ا فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِى مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٍ۬ لِّإِثۡمٍ۬ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ۬ رَّحِيمٌ۬ (٣)(المائدة)، وهو خطاب لكل مسلم ومسلمة من غير تفريق بين عدل وفاسق. وعلى هذا فما ذكاه متعاطي المواد المخدرة أو صاده وهو حاضر العقل، يباح كذكاة وصيد العدل -والله أعلم-. * * * المطلب الثاني: أثر استخدام المواد المخدرة في الذكاة ونحوها إذا كان غائب العقل. وصورتها: لو أن متعاطي المواد المخدرة ذكى أو صاد بسهم ونحوه، وهو غائب العقل فهل تصح ذكاته -ونحوها- مع أنه غائب العقل حال التذكية؟. يتخرج الكلام في هذه المسألة على حكم ذكاة السكران، وقد اختلفوا في ذكاته على قولين: القول الأول: لا تصح ذكاة السكران. وهذا قول الجمهور، وهو قول للشافعية. القول الثاني: تصح ذكاة السكران لكن مع الكراهة. وهذا الأظهر عند الشافعية، ورواية عن أحمد. الأدلــــة: أدلة القول الأول: 1. لأن القصد إلى التسمية عند الذبح شرط، ولا يتحقق القصد الصحيح ممن لا يعقل. فأشبه من كان في يده سكين وهو نائم، فمرت على حلقوم الشاة فذبحها، أو ما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها، أو ما لو ضرب إنساناً بالسيف فقطع عنق شاة. 2. ولأن الذكاة ونحوها تحتاج إلى نية، والسكران لا نية له. 3. ولأن التذكية أمر يعتبر له الدين فيعتبر له العقل؛ كالغسل، والسكران ليس بعاقل. أدلة القول الثاني: قالوا: تحل ذكاته ونحوها؛ لما يلي: 1. قياساً على ما لو قطع حلق شاة وهو يظنها خشبة، فإنها تحل بالاتفاق. 2. ولأن السكران له قصد في الجملة بخلاف النائم، فإنه لا قصد له أصلاً. 3. ولأن السكران له حكم الصاحي. وتُكره: لأن السكران ربما أخطأ موضع الذكاة. الترجيح. الراجح -والله أعلم- هو القول الأول القاضي بعدم صحة ذبيحة السكران؛ لقوة أدلته؛ ولأن الذكاة ونحوها فيها جانب تعبدي: (قُلۡ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحۡيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِينَ (١٦٢) (الأنعام)، وعبادات السكران لا تصح -كما سبق بيانه في الباب الأول-. ولأن الأصل في الذبائح -باعتبار شروط الذبح- التحريم حتى يتبين حلها؛ ولا ينتقل عن هذا الأصل مع الشك، وذبيحة السكران مشكوك فيها حتى عند من أباحها؛ ولذلك قالوا بالكراهة لأجل هذا الشك. وعلى هذا فما ذبحه أو صاده متعاطي المواد المخدرة حال غياب عقله، فإنه لا يحل أكله؛ لما سبق. والله أعلم. * * * المبحث الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في الأيمان والنذور. وصورتها: لو أن متعاطي المواد المخدرة حلف أو نذر وهو غائب العقل بسبب المواد المخدرة، فهل يلزمه النذر واليمين، وتترتب عليهما آثارهما أم لا؟. يتخرج الكلام في هذه المسألة على حكم يمين ونذر السكران، ونص غير واحد على أن حكم يمينه ونذره يأخذ حكم طلاقه وتصرفاته. فالحنفية والمالكية والشافعية في المذهب والحنابلة في وجه يرون لزوم يمينه ونذره. والشافعية في قول والحنابلة في وجه -اختاره ابن تيمية-، والظاهرية : يرون أنه لا يلزمه نذر ولا يمين. قال ابن تيمية: (لا تنعقد يمين السكران ولا يقع أَيَّةُ طلاق إذا طلق). وقد سبق في بحث أثر المواد المخدرة على الطلاق أن الراجح عدم وقوع طلاقه، وعلى هذا يقال هنا: بأن الراجح أن غائب العقل بسبب المواد المخدرة لا تنعقد يمينه ولا نذره، لأنا متيقنون أنه لم يعقد اليمين أو النذر، والله تعالى لا يؤاخذ إلا بما عقد منها بنص القرآن. وقياساً على يمين ونذر الصبي والنائم والمجنون، بجامع عدم العقل أو التكليف. وعلى هذا يُقال: إذا حلف المتعاطي أو نذر حال غياب عقله بسبب المواد المخدرة، فيمينه ونذره غير منعقدين، والله أعلم. * * * المبحث الرابع: أثر استخدام المواد المخدرة في إسلام المتعاطي. وصورتها: لو أن متعاطياً نطق بالشهادتين وهو غائب العقل بسبب المواد المخدرة، أو أتى بما يدخله الإسلام، كما لو أذن أو صلى -على الخلاف- فهل يعد مسلماً أم لا؟. يتخرج الكلام في هذه المسألة على حكم إسلام السكران، وقد اختلف فيه على قولين: القول الأول: يصح إسلام السكران. وهذا قول الحنفية، والشافعية، وقول للحنابلة. القول الثاني: لا يصح إسلام السكران. وهذا قول للشافعية وقول للحنابلة. الأدلـــة. أدلة القول الأول: 1. يصح إسلام السكران قياساً على صحة إسلام المكره مع أنه لم يقصد الدخول في الإسلام قصداً صحيحاً. يمكن أن يناقش: بأنه لا يسلم الأصل المقيس عليه، فلا يسلم صحة إسلام المكره؛ لأنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه، كالمسلم إذا أكره على الكفر، ويدل على أنه لا أثر للإسلام مع الإكراه قوله تعالى: (لَآ إِكۡرَاهَ فِى ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَىِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)(البقرة). 2. ولأن السكران حكمه حكم الصاحي، فيعتد بأقواله كما يعتد بأقوال الصاحي. يمكن أن يناقش: بأنه قياس على مختلف فيه، فلا يسلم أن السكران كالصاحي. 3. وقياساً على صحة طلاقه، فإذا صح طلاقه صح إسلامه. يمكن أن يناقش: بأنه قياس على مختلف فيه، وسبق أن الراجح عدم وقوع طلاقه. 4. وقياساً على صحة ردّته، فإذا صحت ردته مع أنها محض مضرة وقول باطل؛ فلأن يصح إسلامه الذي هو محض مصلحة أولى. يمكن أن يناقش: بأنه قياس على مختلف فيه، وسبق بيان أن الراجح عدم وقوع ردته. أدلة القول الثاني: 1. قوله تعالى: (يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٌ۬ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآٮِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءً۬ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدً۬ا طَيِّبً۬ا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (٤٣) (النساء)، (فصح أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن لا يعلم ما يقول لم يلزمه ما يقول، حتى لو كفر بكلام لا يدري ما هو لم يلزمه). 2. قياساً على القول بأن ردته لا تصح، فإذا لم تصح ردته مع أنها محض مضرة؛ فلأن لا يصح إسلامه من باب أولى. 3. وقياساً على أنه لا يصح إسلام المجنون، بجامع عدم العقل. 4. وقياساً على أنه لا يصح إسلام المكره بجامع عدم القصد. الترجيح. الراجح -والله أعلم- هو القول الثاني، القاضي بأنه لا يصح إسلام السكران؛ لقوة أدلته ولما ورد على أدلة القول الأول من مناقشة. وعلى هذا إذا أسلم متعاطي المواد المخدرة وهو غائب العقل بسببها، لم يصح إسلامه، فلا تترتب عليه آثاره -والله أعلم-. * * * المبحث الخامس: أثر استخدام المواد المخدرة في حكم الستر على المتعاطي. المقصود بهذه المسألة هل لتعاطي المواد المخدرة أثر في حكم الستر عليه، أو أن مثله ينبغي أن يشاع أمره ويفضح بين الناس؟. ينبغي للمسلم المبتلى بالمواد المخدرة أو غيرها من المعاصي أن يستر نفسه، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه". قال ابن عبد البر بعد هذا الحديث: (وفيه ما يدل على أن الستر واجب على المسلم في خاصة نفسه إذا أتى فاحشة..، فإذا كان المرء يؤجر في الستر على غيره فستره على نفسه كذلك أو أفضل، والذي يلزمه في ذلك التوبة والإنابة والندم على ما صنع، فإن ذلك محو للذنب إن شاء الله)، ووصف في موضع آخر من يكشف ما يأتي من الفواحش: بأنه حمق لا يفعله إلا المجانين، وقال: (ليس من من شأن ذوي العقول كشف ما واقعه من الحدود والاعتراف به عند السلطان وغيره، وإنما من شأنهم الستر على أنفسهم والتوبة من ذنوبهم). وإنما استحب للمسلم أن يستر على نفسه لما في الجهر بالمعصية من استخفاف بحق الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وبحق صالحي المؤمنين، ولما فيه من ضرب من العناد لهم. ولما في الستر السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تذل أهلها، فيقام عليه الحد - إن كان فيه حد، أو التعزير -إن لم يوجب حداً-، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك. كما يستحب لمن يعلم بتعاطي شخص من الناس أن يستره ولا يفضحه، مع إنكاره عليه في السر، يدل لذلك عموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ". وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول: (لو أخذت شارباً لأحببت أن يستره الله، ولو أخذت سارقاً لأحببت أن يستره الله). وسُئل الإمام أحمد فقيل له: اطلعنا من رجل على فجور, وهو يتقدم يصلي بالناس أخرج من خلفه؟. فأجاب: (اخرج من خلفه خروجاً لا تُفحش عليه) وسُئل أيضاً: إذا عُلم من الرجل الفجور أنخبر به الناس؟. فقال: (لا بل يُستر عليه إلا أن يكون داعية). ويلحق بالداعية من اشتهر وعرف بالشر والفساد وإن أسر بالمعصية، قال الإمام أحمد: (ليس لمن يسكر ويقارف شيئاً من الفواحش حرمة ولا صلة، إذا كان معلناً بذلك مكاشفاً). وعلى هذا يُقال: إن ستر المتعاطي مستحب إذا كان غير مجاهر أو معلن، وإلا فلا يستحب حينئذٍ. قال القاضي عياض في شرحه لحديث: "من ستر مسلماً...": (في هذا فضل معونة المسلم للمسلم في كل خير وفعله المعروف إليه، وستره عليه، وهذا الستر في غير المستهترين، وأمَّا المنكشفون المستهترون الذين يقدم إليهم في الستر وستروا غير مرة فلم يُرعوا وتمادوا، فكشف أمرهم وقمع شرهم مما يجب؛ لأن كثرة الستر عليهم من المهادنة على معاصي الله تعالى ومصانعة أهلها، وهذا أيضاً في ستر معصية انقضت وفاتت، وأمَّا إذا عرف انفراد رجل بعمل معصية واجتماعهم لذلك فليس الستر هاهنا السكوت على ذلك وتركهم إياها؛ بل يتعين على من عرف ذلك إذا أمكنه بتغييرهم عن ذلك كل حال، وتغييره وإن لم يتفق ذلك إلا بكشفه لمن يعينه أو للسلطان). قال النووي في شرح مسلم: (وأمَّا الستر المندوب إليه هنا، فالمراد به: الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفاً بالأذى والفساد، فأمَّا المعروف بذلك فيستحب أن لا يُستر عليه؛ بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله، هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أمَّا معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها، فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة). وقال في جامع العلوم والحكم: (واعلم أن الناس على ضربين، أحدهما: من كان مستوراً لا يُعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة، فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها؛ لأن ذلك غيبة محرمة وهذا هو الذي وردت فيه النصوص...، قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام و أولى الأمور ستر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً وأقر بحده لم يفسره ولم يستفسر؛ بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه،...، ومثل هذا لو أُخذ بجريمته ولم يبلغ الإمام فإنه يشفع له لا يبلغ الإمام... والثاني: من كان مشتهراً بالمعاصي معلناً بها، ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له، هذا هو الفاجر المعلن وليس له غيبة...، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود، وصرح بذلك بعض أصحابنا …، ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ ولو لم يبلغ السلطان؛ بل يُترك حتى يقام عليه الحد ليكشف ستره ويرتدع به أمثاله). والسبب في التفريق بين المجاهر وبين غيره: أن الذنب ما دام مستوراً فمعصيته على صاحبه خاصة، فإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عأمَّا. ولعل من هذا ما كان يفعله أحد أمراء المدينة، إذا أُتي برجل أُخذ ومعه جرة من المسكر، فأمر به فَصُب المسكر على رأسه عند بابه؛ كيما يعرف بذلك ويُشهر به. ومنه ما جاء في حوادث سنة 667 أن الظاهـر بيبرس، لمَّا منع الحشيشة وأمر بإراقة الخمور وتبطيل المفسدات والخواطىء بالديار المصرية، وكتب بذلك إلى جميع بلاده، وأمسك كاتباً يُقال له: ابن الكازروني وهو سكران، فصلبه وفي عنقه جرة الخمر، فقال أحدهم يصف ما رأى: لقد كان حد السكر من قبل صلبه خفيف الأذى إذ كان في شرعنا الحد فلما بدا المصلوب قلت لصاحبي ألا تب فإن الحد قد جاوز الحدا ولهذا كان لإشهار الظاهر بيبرس أمر أولئك الفسقة والتنكيل بهم أثر ظاهر في التقليل من المنكر وفشوه، حتى قال أحدهم: منع الظاهر الحشيش مع الخمـ ـر فولى إبليس من مصر يسعى قال ما لي وللمقام بأرض لم أمتع فيها بماء ومرعى وقال غيره: لقد منع الإمام الخمر فينا وصير حدها حد اليماني فما جسرت ملوك الجن خوفاً لأجل الخمر تدخل في القناني |
| | | | الباب الثالث: أثر استخدام المواد المخدرة في أحكام القضاء والعقوبات ومسائل متفرقة. | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |