الفصل الرابع:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة في أحكام الصيام
وفيه سبعة مباحث:
• المبحث الأول: أثر استخدام المواد المُخدِّرة في وجوب الصيام.
• المبحث الثاني: أثر استخدام المواد المُخدِّرة في تبييت نية الصيام.
• المبحث الثالث: أثر استخدام المواد المُخدِّرة قبل طلوع الصبح في صحة الصيام
• المبحث الرابع: أثر استخدام المواد المُخدِّرة في النهار في صحة الصيام.
• المبحث الخامس: أثر استخدام المواد المُخدِّرة في نهار رمضان في حـكم الكفارة.
• المبحث السادس: حكم السفر في رمضان لأجل الترخص باستخدام المـواد المُخدِّرة.
• المبحث السابع: أثر استخدام المواد المُخدِّرة في الاعتكاف.
المبحث الأول:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة في وجوب الصيام.
وصورتها:
هل المتعاطي إذا كان زائل العقل مخاطب بالصيام فيجب عليه أم لا؟.
يتخرج الكلام فيه على ما ذكروه في من غاب عقله بسبب محرم هل يجب عليه الصيام أم لا؟.
لم أجد من نصّ على هذا سوى الشافعية، جاء في الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: ((و) الثالث (العقل) فلا يجب على مجنون إلا إذا أثم بمزيل عقله من شراب أو غيره، فيجب ويلزمه قضاؤه بعد الإفاقة).
أما الحنفية فقد نصوا على أن العقل ليس من شرائط الوجوب فأوجبوا الصيام على المجنون والمغمى عليه، جاء في بدائع الصنائع: (أما العقل فهل هو من شرائط الوجوب وكذا الإفاقة, واليقظة؟ قال عامة مشايخنا: إنها ليست من شرائط الوجوب, ويجب صوم رمضان على المجنون والمغمى عليه والنائم؛ لكن أصل الوجوب لا وجوب الأداء،...).
وأما المالكية فقد نصوا على أن صيام السكران حكمه حكم صيام المغمى عليه، جاء في بلغة السالك: (حاصله أنه متى أغمي عليه كل اليوم من الفجر للغروب, أو أغمي عليه جله, سواء سلم أوله أم لا, أو أغمي عليه نصفه أو أقله ولم يسلم أوله فيهما؛ فالقضاء في هذه الخمس.
فإذا أغمي عليه قبل الفجر ولو بلحظة, واستمر بعدها ولو بلحظة, وجب عليه قضاء ذلك اليوم, فإن أغمي عليه نصف اليوم أو أقله, وسلم أوله فلا قضاء فيهما؛ فالصور سبع يجب القضاء في خمس, وعدمه في اثنتين.
وما قيل في الإغماء يقال في الجنون, ومثلهما السكر كان بحلال أو حرام،...).
وإيجابهم القضاء عليه في بعض الصور يدل على أنهم يرون وجوب الصيام عليه، لأن وجوب القضاء مبني على وجوب الأداء.
وأما الحنابلة فقد نصوا على أن المغمى يقضي ما فاته زمن إغمائه، جاء في كشاف القناع: ((ويلزم) القضاء (المغمى عليه)؛ لأنه مرض, وهو مغط على العقل غير رافع للتكليف, ولا تطول مدته ولا تثبت الولاية على صاحبه).
وما قالوه في المغمى عليه، ليس بأولى من السكران؛ لأن غياب عقله بسبب منه؛ ولأنه أيضاً لا تطول مدة سكره، ولا تثبت عليه الولاية.
أما ابن حزم رحمه الله تعالى فانطلق من ظاهريته، ولم ير وجوب الصيام على السكران فضلاً عن قضائه، حيث يقول: (وبقي حكم من جن, أو أغمي عليه أو سكر, أو نام قبل غروب الشمس فلم يفق ولا صحا ولا انتبه ليلته كلها والغد كله إلى بعد غروب الشمس-: أيقضيه أم لا؟.
فوجدنا القضاء إيجاب شرع؛ والشرع لا يجب إلا بنص, فلا نجد إيجاب القضاء في النص إلا على أربعة: المسافر, والمريض -بالقرآن- والحائض, والنفساء, والمتعمد للقيء -بالسنة- ولا مزيد. ووجدنا النائم, والسكران, والمجنون المطبق عليه ليسوا مسافرين ولا متعمدين للقيء, ولا حيضاً, ولا من ذوات النفاس, ولا مرضى؛ فلم يجب عليهم القضاء أصلاً, ولا خوطبوا بوجوب الصوم عليهم في تلك الأحوال؛ بل القلم مرفوع عنهم - بالسنة).
وعلى هذا فليس استخدام المواد المُخدِّرة مانع من وجوب الصيام، أو وجوب قضاء ما تُرك أو فسد منه بسببها، جاء في المجموع: (أما من زال عقله بمحرم كخمر أو غيره... فيلزمه القضاء -يعني: قضاء الصوم- ويكون آثما بالترك).
* * *
المبحث الثاني:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة في تبييت نية الصيام.
صورتها:
لو غاب عقل متعاطٍ الليل كله بسبب المواد المُخدِّرة، ولم يفق إلا مع طلوع الفجر الثاني، فهل يصح منه الصيام الواجب مع كونه لم يبيت نية الصيام من الليل أم لا؟.
يتخرج الكلام في هذه الصورة على ما ذكروه في مسألتين:
الأولى: حكم النية، وهل يجب تبييتها من الليل أو تصح من النهار؟.
الثانية: حكم تجديد النية لكل يوم، هل هو واجب أو تكفي نية واحدة لجميع الشهر؟.
أما المسألة الأولى، وهي حكم تبييت النية، فقد اختلفوا فيها على قولين:
القول الأول: لا يجب تبييت النية، فتصح في النهار.
وهذا مذهب الحنفية.
القول الثاني: يجب تبييت النية.
وهذا قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة واختاره ابن تيمية.
الأدلـــــة.
أدلة القول الأول:
1. لما جاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: " من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن أصبح صائما فليصم ".
قالوا: وصوم عاشوراء كان واجباً، (وفي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إياهم بصومه, بعدما أصبحوا دليل على أن من كان في يوم عليه صومه بعينه؛ ولم يكن نوى صومه من الليل؛ أنه يجزيه أن ينوي صومه بعدما أصبح).
نوقش من ثلاثة أوجه:
أ- لا يسلم أن صيام عاشوراء كان واجباً، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر".
ب- وعلى فرض التسليم بأن صيام يوم عاشوراء كان واجباً، يقال: إنما سمي الإمساك - أعني: في قوله -صلى الله عليه وسلم-: " من كان أكل فليصم بقية يومه " - صياماً تجوزاً، إذ الإمساك بقية اليوم بعد الأكل ليس بصيام شرعي.
ت- ولو ثبت أنه صيام حتى بعد الأكل أول النهار، يقال: إن الفرق بين عاشوراء وبين رمضان، أن وجوب الصيام في عاشوراء تجدد في أثناء النهار فأجزأته النية حين تجدد الوجوب، كمن كان صائماً تطوعاً، فنذر في أثناء النهار صوم بقية يومه، فإنه تجزئه نيته عن نذره بخلاف ما إذا كان النذر متقدماً.
2. القياس على صحة صيام النفل بنية من النهار.
نوقش:
بأنه قياس مع الفارق، وبيانه من وجهين:
أ- أن التطوع يمكن الإتيان به في بعض النهار بشرط عدم إتيانه بالمفطر في أوله، ثم إذا نوم صوم التطوع من النهار، كان صائماً بقية النهار دون أوله، والصوم الواجب لا يصح إلا بصومه كله.
ب- أن التطوع عموماً مبناه على التخفيف بخلاف الفرض، ولذا سُومح في نيته من الليل تكثيراً له، فإنه قد يبدوا للمرء الصوم في النهار، فاشتراط النية في الليل يمنع ذلك، فسامح الشرع فيها، كمسامحته في ترك القيام في صلاة التطوع.
أدلة القول الثاني:
1. قوله -صلى الله عليه وسلم-: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له "، والحديث نص في المسألة يستقيم به الاستدلال، فإن قلنا: إنه مرفوع للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا إشكال، وإن قلنا: إنه موقوف على الصحابي -رضي الله عنه- فيصح به الاستدلال؛ لأن مثله لا يقال بالاجتهاد أو الرأي.
نوقش:
بأن النفي في قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا صيام له "، محمول على نفي الفضيلة والكمال.
أجيب: بأن الأصل حمل النفي على نفي الحقيقة، إلا لدليل يقتضي حمله على نفي الكمال، ولا دليل.
2. ولأن الصوم عمل، والأعمال بالنيات، وأجزاء النهار غير منفصلة من الليل بفاصل يتحقق، فلا يتحقق إلا إذا كانت النية واقعة في جزء من الليل.
3. وقياساً على إيجاب الحنفية النية من الليل لما هو واجب في الذمة كالقضاء والنذر والمطلق، بجامع أنه صيام واجب.
الترجيح.
الراجح -والله أعلم- هو القول الثاني، القاضي باشتراط تبييت النية من الليل؛ لما سبق ذكره من أدلة، ولما ورد على أدلة القول الأول من مناقشة، ولأن اشتراط تبييت النية هو قول جمع من الصحابة لا يعرف لهم مخالف.
الثانية: حكم تجديد النية لكل يوم، هل هو واجب أو تكفي نية واحدة لجميع الشهر؟.
اختلف في اشتراط تجديد النية لصوم كل يوم واجب على قولين:
القول الأول: يشترط تجديد النية لصوم كل يوم واجب.
وهذا قول الجمهور، واختاره بعض المالكية.
القول الثاني: تكفي نية واحدة لكل صوم يجب تتابعه.
اختاره بعض الحنفية، وهو مذهب المالكية، ورواية عن أحمد.
الأدلــــة:
دليل القول الأول:
قالوا: لأن صوم كل يوم عبادة منفردة فاحتاج إلى نية مستقلة.
ويدل على أن كل يوم عبادة مستقلة: أنه لا يفسد صوم يوم بفساد صوم يوم آخر، كما أنه يتخلل بين الأيام زمان لا يقبل الصوم وهو الليل، وأيضاً فإن انعدام الأهلية في بعض الأيام لا يمنع تقرر الأهلية فيما بقي فكانت بمنزلة صلوات مختلفة، فيستدعي كل واحد من الصلاة والصيام نية على حدة.
دليل القول الثاني:
قالوا: لأنها عبادة مرتبط بعضها ببعض لا يجوز تفريقها، فإن سببها واحد, وهو شهود جزء من الشهر، والشروع فيها في وقت واحد، والخروج منها كذلك فكانت بمنزلة ركعات صلاة واحدة، فكفت فيها النية الواحدة؛ كالعبادة الواحدة.
نوقش:
لا يسلم ما ذكر، فإن بين كل يومين ليل يفصل بين صيامهما، أشبه السلام بين الصلاتين.
ولا قائل: إن الصلاتين التي يفصل بينهما سلام تكفيهما نية واحدة.
الترجيح:
الراجح والله أعلم هو القول الأول القاضي باشتراط تجديد النية لكل يوم لما سبق ذكره من دليلهم، ولما ورد على دليل القول الثاني من مناقشة، ولعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له "، فهو لم يفرق بين الصيام الواجب المتتابع وبين غيره.
وسبب الخلاف هو:
هل صوم رمضان وكل صيام واجب التتابع عبادة واحدة، أو كل يوم عبادة مستقلة؟.
فمن رأى أن كل يوم عبادة مستقلة -وهم الجمهور-، أوجب لكل يوم نية مستقلة.
ومن رأى أنها عبادة واحدة - وهم أصحاب القول الثاني - قالوا: يكفي نية واحدة.
ومما ذكر في هاتين المسألتين والراجح فيهما يقال: لو غاب عقل المتعاطي بسبب المواد المُخدِّرة الليل كله فلا صيام له، وعليه قضاء ذلك اليوم؛ لأنه لا يخلو: أمَّا أنه لم يبيت النية من الليل، أو لم يجددها، والله أعلم.
* * *
المبحث الثالث:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة قبل طلوع الصبح على صحة الصيام.
وفيه مطلبان:
• المطلب الأول: أثر استخدام المواد المُخدِّرة قبل طلوع الصبح على صحة الصيام إذا زال عقله جميع النهار.
• المطلب الثاني: أثر استخدام المواد المُخدِّرة قبل طلوع الصبح على صحة الصيام إذا زال عقله بعض النهار.
المطلب الأول:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة قبل طلوع الصبح على صحة الصيام إذا زال عقله جميع النهار.
صورتها:
لو استخدم شخص المواد المُخدِّرة قبل طلوع الفجر وبعد تبييته نية الصيام، ثم غاب عقله جميع النهار بسببها، فهل يصح صومه أم لا؟.
يتخرج الكلام في هذه الصورة على ما ذكروه في حكم من نوى الصيام من الليل، ثم غاب عقله - في غير نوم - النهار كله إلى غروب الشمس.
وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:
القول الأول: يصح صيامه.
وهذا مذهب الحنفية، وقول لبعض الشافعية، وخرجه بعض الحنابلة وجهاً.
القول الثاني: لا يصح صيامه.
وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلـــــة.
دليل القول الأول:
قالوا: لأن نية الصيام صحت منه؛ لأنها وجدت في الليل، كما أن ركن الصيام وهو الإمساك في النهار موجود منه؛ فأشبه النائم.
نوقش:
بأنه وإن وجدت منه نية الصيام في الليل، إلا أن من شرط الصيام أيضاً أن يكون إمساكه عن المفطرات نهاراً بنية، وهذا غير موجود فيه؛ لأنه زائل العقل.
وأما قياسه على النائم فقياس مع الفارق، وبيانه: أن النوم عادة، لا تزيل الإحساس بالكلية، بدليل أنه متى نبه انتبه، أمَّا من زال عقله بغير نوم كسكر أو إغماء فلا يتنبه بالتنبيه لكونه زائل الإحساس بالكلية.
أدلة القول الثاني:
1. أن الصيام هو الإمساك عن المفطرات مع النية، يدل لهذا قول الله تعالى في الحديث القدسي: " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي"، فأضاف ترك الطعام والشهوة لأجله سبحانه، وزائل العقل لا يُتصور منه قصد الإمساك لأجله سبحانه وتعالى.
2. ولأن النية أحد ركني الصوم فلم تجزئ وحدها؛ كالإمساك وحده.
الترجيح:
الراجح والله أعلم هو القول الثاني، القاضي بعدم صحة صيام من زال عقله جميع النهار، لقوة أدلته؛ ولما ورد على دليل القول الأول من مناقشة.
وعلى هذا فمن نوى الصيام من الليل وزال عقله جميع النهار بسبب تعاطي المواد المُخدِّرة، فلا يصح صومه، ويجب عليه قضاء ذلك اليوم، والله أعلم.
* * *
المطلب الثاني:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة قبل طلوع الصبح على صحة الصيام إذا زال عقله بعض النهار.
صورتها:
لو استخدم شخص المواد المُخدِّرة قبل طلوع الفجر بعد تبييته نية الصيام، ثم غاب عقله بعض النهار بسببها، فهل يصح صومه أم لا؟.
يتخرج الكلام في هذه الصورة على ما ذكروه في حكم من نوى الصيام من الليل، ثم غاب عقله - بغير نوم - بعض النهار.
وقد اختلفوا في حكم صيامه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن أفاق قبل الزوال وجدد نية الصيام أجزأه وإلا فلا.
وهذا مذهب الحنفية.
القول الثاني: إن زال عقله نصف النهار أو أقله وكان عقله حاضراً أول النهار فلا قضاء عليه وإلا فعليه القضاء.
هذا مذهب المالكية.
القول الثالث: صومه صحيح مطلقاً.
اختاره بعض المالكية، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة.
الأدلـــــة.
دليل القول الأول:
لم يذكروا دليلاً.
والذي يظهر أن هذا القول مبني على أصلهم في وقت نية الصوم، وأنها تجوز في النهار قبل الزوال.
يمكن أن يُناقش:
بأنه لا يسلم الأصل وما بُني عليه، فلا يصح الصوم الواجب إلا بنية من الليل - كما سبق بيانه في المبحث الثاني من هذا الفصل -.
دليل القول الثاني:
قالوا: يصح صومه إن زال عقله نصف النهار أو أقله وكان عقله حاضراً أول النهار، ولا يصح في غيرهما: لأن زوال العقل بغير النوم في آخر لحظة من الليل وأول لحظة من النهار مبطل للنية، ولا يصح الصوم بغير نية.
نوقش من وجهين:
أ- لا يسلم ذلك، فإن النية قد حصلت من الليل، فيستغنى عن ذكرها في النهار، كما لو نام أو غفل عن الصوم، ولو كانت النية إنما تحصل بالإفاقة في أول النهار، لما صح منها صوم الفرض بالإفاقة؛ لأنه لا يجزئ بنية من النهار.
ب- ولأن الإفاقة حصلت في جزء من النهار فأجزأ كما لو وجدت في أول النهار.
أدلة القول الثالث:
1. قالوا: الصيام هو الإمساك عن المفطرات مع النية، وهما موجودان فيمن نوى الصوم من الليل ثم غاب عقله وأفاق في جزء من النهار، نعم لو غاب عقله جميع النهار لما تُصور منه قصد الإمساك؛ لكن لما أفاق في جزء منه ووجدت منه النية في هذا الجزء، تبع الباقي الذي لا نية فيه حكم ما فيه النية.
2. ولأن زوال العقل بالسكر فوق النوم ودون الجنون، فلو قيل: إنه لا يضر كالنوم لألحق الأقوى بالأضعف، ولو قيل: إن اللحظة منه تضر كالجنون لألحق الأضعف بالأقوى، فتوسطنا وقلنا إن الإفاقة في اللحظة كافية.
الترجيح:
الراجح والله أعلم هو القول الثالث، القاضي بصحة صيام من زال عقله بعض النهار وأفاق في أي جزء منه مطلقاً، لقوة أدلته ولما ورد على أدلة الأقوال الأخرى من مناقشة، ولأن نية الصيام وجدت منه في الليل وجزء من النهار، كما لو نام بعد نية الصيام
ولأنه حصل منه تبييت للنية مع كونه أمسك جزءً من النهار بقصد التعبد الله تعالى، فدخل في قوله عز وجل " يدع شهوته وطعامه من أجلي ".
والله أعلم.
وعلى هذا فمن تعاطى المواد المُخدِّرة قبل طلوع الصبح بعد نية الصيام، ثم إذا زال عقله بعض النهار، وأفاق في أي جزء منه فصومه صحيح والله أعلم.
* * *
المبحث الرابع:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة في النهار في صحة الصيام.
وفيه ثلاثة مطالب:
• المطلب الأول: أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة الفم في النهار في صحة الصيام.
• المطلب الثاني: أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة الأنف في النهار في صحة الصيام.
• المطلب الثالث: أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة الإبر في النهار في صحة الصيام.
المطلب الأول:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة الفم في النهار في صحة الصيام.
وفيه ثلاثة فروع.
• الفرع الأول: أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة التدخين في النهار في صحة الصيام
• الفرع الثاني: أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة الأكل في النهار في صحة الصيام.
• الفرع الثالث: أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة التخزين في النهار في صحة الصيام.
الفرع الأول:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة التدخين في النهار في صحة الصيام
وصورتها:
لو تعاطى متعاطٍ المواد المُخدِّرة في نهار رمضان، وكان تعاطيه للمادة المُخدِّرة بواسطة تدخينها - كالحشيش والتبغ - فهل يبطل صيامه أم لا؟.
حكى بعض المتأخرين الإجماع على أن من فعل ذلك أفطر.
وجاء في حاشية ابن عابدين أن بعض الحنفية نظم في حكم شربه فقال: (ويمنع من بيع الدخان وشربه وشاربه في الصوم لا شك يفطر).
وجاء في الشرح الكبير: ((و) بترك إيصال (بخور) بفتح الباء أي الدخان المتصاعد من حرق نحو العود ومثله بخار القدر فمتى وصل للحلق أوجب القضاء ومنه الدخان الذي يشرب أي يمص بالقصب ونحوه).
وجاء في حاشية الشرواني على تحفة المحتاج: ((قوله أي عين كانت إلخ) ومن العين الدخان المشهور، وهو المسمى بالتتن، ومثله التنباك فيفطر به الصائم).
وجاء في كشاف القناع: ((وإن دخل حلقه ذباب أو غبار طريق أو) غبار (دقيق أو دخان من غير قصد) لم يفطر لعدم القصد كالنائم، وعلم منه أن من ابتلع الدخان قصداً فسد صومه)، ومتعاطي المواد المُخدِّرة بواسطة التدخين قاصد لبلع الدخان.
وعلى هذا فتدخين المواد المُخدِّرة في نهار رمضان مفسد للصيام؛ لأنه دخان واصل إلى الجوف يمكن التحرز عنه؛ ولأنه يحصل لمتعاطيها بسبب دخانها كيفية وقوة، ومن اعتاد تعاطيها يتكيف بها دماغه تكيفاً شديداً يستغني بها عن الأكل والشرب - استغناء مؤقتاً -، ويفضلها عليهما، ويتضرر لتركها تضرراً شديداً، قد يشرف به على الهلاك، حتى قال بعض المالكية: إن الفطر بالدخان معروف للعوام، وإذا سمعوا قول من قال: بأنه لا يفطر أو توقفه في ذلك استغربوه، ونسبوه للجهل وقلة المعرفة.
ولأنها تحتوي على مواد لها جرم يظهر أثرها في فلتر التدخين، وعلى الرئتين، وتصطبغ الطبقة المخاطية التي تغطي جدار البلعوم بلون داكن ناتج عن تدخينها.
ولأنها وإن لم تكن طعاماً أو شراباً فهي شهوة، وفي الحديث: " يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ".
* * *
الفرع الثاني:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة الأكل في النهار في صحة الصيام.
وصورتها:
لو تعاطى متعاطٍ المواد المُخدِّرة في نهار رمضان، وكان تعاطيه للمادة المُخدِّرة بواسطة الفم - سواء كان أكلاً أو شرباً - فهل يبطل صيامه أم لا؟.
يتخرج الكلام في هذه الصورة على ما ذكروه في أثر الأكل والشرب في نهار رمضان على الصيام.
وقد أجمعوا على أن أكل أو شرب ما يُتغذى به مفطر مبطل للصيام؛ لقوله تعالى: (ُحِلَّ لَڪُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآٮِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٌ۬ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٌ۬ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّڪُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَڪُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا ڪَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِى ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٲلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ (١٨٧) (البقرة) فأمر بالصيام عن الأكل والشرب بعد تبين الفجر.
ولما جاء في الحديث القدسي: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".
وأما ما لا يُتغذى به كالحصى والتراب فعامة أهل العلم على أنها مفطرة مفسدة للصيام، وفيه خلاف ضعيف نُقل عن بعض الحنفية.
والصحيح قول الأكثر؛ لعموم النهي عن الأكل والشرب من غير تفرقة بين ما يُتغذى به وبين غيره.
ولأن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف، ومن أكل ما لا يُتغذى به لا يسمى ممسكاً.
ولأنه يُشغل المعدة إشغالاً ما، فكان له حكم الطعام المعتاد.
وعلى هذا فتناول المواد المُخدِّرة في نهار رمضان بواسطة الفم سواء كان أكلاً أو شرباً، يفسد صيام فاعله. والله أعلم.
* * *
الفرع الثالث:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة التخزين في النهار في صحة الصيام.
وصورتها:
لو تعاطى متعاطٍ المواد المُخدِّرة في نهار رمضان، وكان تعاطيه للمادة المُخدِّرة بطريقة الاستحلاب، وذلك أمَّا بوضعها في الفم أو في أحد طرفيه ومضغها وامتصاص عصارتها، وأمَّا بوضعها تحت اللسان واستحلابها وامتصاص ما بها من مادة مخدرة.
فإذا تعاطاها بهذه الطريقة هل يبطل صيامه أم لا؟.
لم أقف على كلام لأحد من أهل العلم عن هذه الصورة بعينها، إلا لصاحب فتح العلي المالك، فقد سئل عن حكم وضع الدخان في الفم بين الشفة السفلى والأسنان ومج الريق المتغير به، هل يفطر الصائم ويوجب الكفارة في أداء رمضان إن كان عمداً بلا تأويل قريب أفيدوا الجواب؟
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: (الحمد لله, والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وضع الدخان في الفم على الوجه المذكور مضاد لحقيقة الصيام، التي هي الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، من طلوع الفجر الصادق إلى تمام غروب الشمس بنية...، فلا شك في إفطاره الصائم وإيجابه الكفارة الكبرى إن كان في أداء رمضان عمداً بلا تأويل قريب).
واستدل لذلك بأدلة:
1. أنه نوع من التكيف تسميه العامة مضغاً، ويتكيف به الدماغ مثل تكيفه بالدخان الذي يمص بالعود أو يتنشق به من الأنف أو أشد.
2. ولأن طعمه يصل إلى الحلق.
3. أن القول بأنه مفطر أولى من التفطير بدهن الرأس إذا وصل طعمه للحلق من المسام.
4. أن القول بأنه مفطر أولى من التفطير باستنشاق بخار القدر.
ولاحظ أن كلامه رحمه الله فيمن استحلب المادة ثم مج الريق المتغير بالمادة خارج فمه، ومع ذلك رأى أنه مفطر، فمن ابتلعه كما في استحلاب القات ونحوه أولى.
ويمكن أن يستدل لذلك أيضاً بما يلي:
1. أن القول بأنه مفطر أولى من القول بفطر من جمع ريقه في فمه عمداً ثم بلعه.
2. أن القول بأنه مفطر أولى من القول بفطر من ابتلع بقايا الطعام التي بين أسنانه إذا كانت هذه البقايا يمكن التحرز منها.
3. أن القول بأنه مفطر أولى من القول بفطر من دميت لثته ووصل الدم إلى جوفه.
وعلى هذا فتعاطي المواد المُخدِّرة في نهار رمضان بواسطة استحلابها مفسد للصيام، لما سبق ذكره؛ ولأن تعاطيها بطريقة الاستحلاب شبيه بما لو وضع قصب سكر في فمه واستحلب العصارة الموجودة فيه، أو بما لو وضع ملحاً واستحلبه، فهو داخل في عموم مسمى الأكل أو الشرب.
والله أعلم.
* * *
المطلب الثاني:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة الأنف في النهار في صحة الصيام.
وفيه فرعان:
• الفرع الأول: أثر استخدام المواد المُخدِّرة على هيئة سعوط في النهار في صحة الصيام.
• الفرع الثاني: أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة الشــــم (التشفيط) في النهار في صحة الصيام.
الفرع الأول:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة على هيئة سعوط في النهار في صحة الصيام.
وصورتها:
لو تعاطى متعاطٍ المواد المُخدِّرة في نهار رمضان، وكان تعاطيه للمادة المُخدِّرة بواسطة شمها بحيث يجتذب المادة المدقوقة أو المطحونة عن طريق أنفه، فهل يبطل صيامه أم لا؟.
يتخرج الكلام في هذه الصورة على ما ذكره الفقهاء في أثر السعوط على الصيام.
وقد اتفقت المذاهب الأربعة على أن السعوط إذا تجاوز الأنف مفطر.
جاء في بدائع الصنائع: (وما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ عن المخارق الأصلية كالأنف والأذن والدبر، بأن استعط أو احتقن أو أقطر في أذنه فوصل إلى الجوف أو إلى الدماغ فسد صومه).
وجاء في التاج والإكليل: ((وإن من أنف) من المدونة قال ابن القاسم: كره مالك السعوط للصائم...، ورأى عليه القضاء إذ لا يكاد يسلم أن يصل إلى حلقه).
وجاء في المجموع: (أما السعوط فإن وصل إلى الدماغ أفطر بلا خلاف, قال أصحابنا: وما جاوز الخيشوم في الاستعاط فقد حصل في حد البطن وحصل به الفطر).
وجاء في مطالب أولي النهى في أثناء تعداده للمفطرات: ((أو استعط) في أنفه بدهن أو غيره, فوصل إلى حلقه أو دماغه).
فالمذاهب الأربعة متفقة على الفطر بالسعوط إذا تجاوز الأنف، ودليل ما ذهبت إليه المذاهب الأربعة ما جاء في السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً "، واستثناء الصائم من المبالغة في الاستنشاق للاحتراز عن فساد الصوم، وإلا لم يكن للاستثناء معنى.
وعلى هذا يقال: إن تعاطي المواد المُخدِّرة في نهار رمضان بواسطة شمها، بحيث يجتذب المادة المدقوقة أو المطحونة عن طريق أنفه، مفسد لصيامه -والله أعلم-.
* * *
الفرع الثاني:
أثر استخدام المواد المُخدِّرة بواسطة الشــــم (التشفيط) في النهار في صحة الصيام.
وصورتها:
لو تعاطى متعاطٍ المواد المُخدِّرة في نهار رمضان، وكان تعاطيه للمادة المُخدِّرة بواسطة شمِّ رائحتها النفاذة - كما في الغراء والبنزين -، من غير أن يجتذب مادة مدقوقة أو مطحونة، فهل يبطل صيامه أم لا؟.
الذي يظهر -والله أعلم- أن حكم هذه الصورة يأخذ حكم غازات التخدير (البنج) التي تستخدم في العمليات الجراحية، بحيث يشم مادة غازية تؤثر على أعصابه فيحدث غياب للعقل أو تخدير.
وقد قرر مجموعة من الباحثين أن غازات التخدير غير مفطرة؛ لأنها لا علاقة لها بالجهاز الهضمي للإنسان؛ ولأنها مواد ليس لها جرم ولا تحمل مواد غذائية.
ومن الباحثين من يرى: أن شمَّ المواد المُخدِّرة كالغراء والبنزين مفسد للصيام؛ ولم يذكر لقوله تعليلاً. ولعله التفت إلى كونه معصية، أو بناه على أن غياب العقل بعض النهار مفسد للصيام.
والذي يترجح -والله أعلم- أنها غير مفطرة، كغازات التخدير، فلا فرق بينهما إلا أن تلك تستخدم استخداماً مشروعاً - وسيلة إلى التداوي - يلتفت الشارع إلى مثله، وهنا تستخدم استخداماً محرماً.
وليس كل معصية ترتكب في نهار رمضان تؤثر على الصيام فتوجب فساده؛ كما لو اغتاب الصائم، أو استمع حراماً، أو نظر إلى حرام.
كما أن غياب العقل على المرجح ليس مما يفطر به الصائم إلا إذا غاب عقله جميع النهار -كما مرَّ في المبحث الثالث من هذا الفصل -.
وهذه المواد المُخدِّرة وإن كانت لها رائحة؛ إلا أنها شبيهة بكل ما له رائحة نفاذة كالجيف المنتنة، وزبل البهائم وحظائرها ونحو ذلك.
فهل يقال: إن شمَّ هذا الروائح النفاذة التي توجب تغير المزاج وفساده إلا أنها لا تصل إلى تغييب العقل مفسدة للصيام؟!.
اللهم لا.
وعلى هذا يُقال:
إن تعاطي المواد المُخدِّرة في نهار رمضان بواسطة شمِّ رائحتها النفاذة فقط، من غير أن يجتذب مادة مدقوقة أو مطحونة؛ غير مفسد للصيام إلا إذا غاب عقله جميع النهار.
والله أعلم.
* * *