ما أنزل الله تعالى بشأن طلبهم تسيير الجبال وبعث الموتى
قال: وأنزل الله تعالى عليه فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وبعث من مضى من آبائهم من الموتى:
(ولوأن قرآنا سُيرِّت به الجبال، أو قُطعت به الأرض، أو كُلم به الموتى، بل لله الأمر جميعًا):
أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت.
ما أنزل الله تعالى رداً على قولهم للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: خذ لنفسك
وأُنزل عليه في قولهم: خذ لنفسك، ما سألوه أن يأخذ لنفسه، أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا، ويبعث معه ملكا يصدقه بما يقول، ويرد عنه:
(وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيرًا، أو يُلقى إليه كنزٌ، أو تكون له جنَّةٌ يأكل منها، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحورًا. اُنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلًا، تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرًاً من ذلك):
أي من أن تمشي في الأسواق وتلتمس المعاش (جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ، ويجعلْ لك قصورًا).
لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي لفعلت وأُنزل عليه في ذلك من قولهم:
(وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، أتصبرون وكان رَبُّكَ بصيرًا):
أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخُالَفوا لفعلت.
القرآن يرد على ابن أبي أمية
وأنزل الله عليه فيما قال عبدالله بن أبي أمية:
(وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجُر لنا من الأرض ينبوعًا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا . أو يكون لك بيتٌ من زُخرف أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرُقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا).
قال ابن هشام: الينبوع: ما نبع من الماء من الأرض وغيرها، وجمعه: ينابيع.
قال ابن هَرْمة، واسمه إبراهيم بن علي الفهري.
وإذا هرقت بكل دار عبرة نُزف الشئون ودمعك الينبوع
وهذا البيت في قصيدة له.
والكسف: القطع من العذاب، وواحدته: كسفة، مثل سدرة وسدر.
وهي أيضاً: واحدة الكسف.
والقبيل: يكون مقابلة ومعاينة، وهو كقوله تعالى: (أو يأتيهم العذاب قبلًا): أي عيانا.
وأنشدني أبو عبيدة لأعشى بني قيس بن ثعلبة:
أصالحكم حـتى تبوءوا بمـثـلهـا كصرخة حُبْلى يسَّرتها قبيلُها
يعني القابلة، لأنها تقابلها وتقبل ولدها.
وهذا البيت في قصيدة له.
ويُقال: القبيل: جمعه قُبُل، وهي الجماعات، وفي كتاب الله تعالى: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلًا) فقُبل: جمع قبيل، مثل سبل: جمع سبيل، وسرر: جمع سرير، وقمص: جمع قميص. والقبيل أيضاً: في مثل من الأمثال، وهو قولهم: ما يعرف قبيلا من دبير: أي لا يعرف ما أقبل مما أدبر
قال الكميت بن زيد:
تفـرقـت الأمـور بـوجهتـيهـم فما عـرفـوا الــدَّبير من الـقَـبـيلِ
وهذا البيت في قصيدة له، ويُقال: إنما أريد بهذا القبيل: الفتل، فما فتل إلى الذارع فهو القبيل، وما فتل إلى أطراف الأصابع فهو الدبير، وهو من الإقبال والإدبار الذي ذكرت.
ويُقال: فتل المغزل.
فإذا فُتل المغزل إلى الركبة فهو القبيل، وإذا فتل إلى الورك فهو الدبير.
والقبيل أيضاً: قوم الرجل.
والزخرف: الذهب.
والمزخرف: المزين بالذهب.
قال العجاج:
من طلل أمسى تخال المصحفا رسومه والمذهب المزخـرفـا
وهذان البيتان في أرجوزة له، ويُقال أيضاً لكل مزيَّن: مزخرف.
نفي القرآن أن رجلاً من اليمامة يعلمه
قال ابن إسحاق: وأُنزل في قولهم: إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة، يُقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبدا: (كذلك أرسلناك في أمَّةٍ قد خلت من قبلها أممٌ لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن، قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت، وإليه متاب).
ما أنزله الله تعالى في أبي جهل وما همَّ به
وأُنزل عليه فيما قال أبو جهل بن هشام، وما هم به: (أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى، أرأيت إن كان على الهُدى أو أمر بالتقوى، أرأيت إن كذب وتولّى، ألم يعلم بأن الله يرى، كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية، ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ، فليدع ناديه، سندع الزبانية، كلا لا تطعه واسجد واقترب).
قال ابن هشام: لنسفعا: لنجذبن ولنأخذن.
قال الشاعر:
قوم إذا سمعوا الصراخ رأيتهم من بين ملجم مُهْره أو سـافـع
والنادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم، وفي كتاب الله تعالى: (وتأتون في ناديكم المُنكر) وهو الندي.
قال عبيد بن الأبرص:
اذهب إليك فإن من بني أسد أهل الندي وأهل الجود والنادي
وفي كتاب الله تعالى: (وأحسنُ نديًا).
وجمعه: أندية.
فليدع أهل ناديه.
كما قال تعالى: (واسأل القرية) يريد أهل القرية.
قال سلامة ابن جندل، أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم:
يومان يومُ مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويبِ
وهذا البيت في قصيدة له.
وقال الكميت بن زيد:
لا مهاذير في النديّ مكاثيرَ ولا مصمتين بالإفحامِ
وهذا البيت في قصيدة له.
ويُقال: النادي: الجلساء.
والزبانية: الغلاظ الشداد، وهم في هذا الموضع: خزنة النار.
والزبانية أيضاً في الدنيا: أعوان الرجل الذين يخدمونه ويعينونه، والواحد: زِبْنِية.
قال ابن الزبعرى في ذلك:
مطاعيمُ في المقرى مَطاعين في الوغى زبانية غلب عظام حلومها
يقول: شداد.
وهذا البيت في أبيات له.
وقال صخر بن عبدالله الهذلي، وهو صخر الغي:
ومن كبير نفر زبانية
وهذا البيت في أبيات له.
ما أنزله تعالى فيما عرضوه عليه، عليه الصلاة والسلام من أموالهم
قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم:
(قل ما سألتكم من أجر فهو لكم، إن أجريَ إلا على اللهِ، وهو على كُلِّ شيءٍ شهيدٍ).
استكبار قريش عن الإيمان بالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-
فلما جاءهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بما عرفوا من الحق، وعرفوا صدقه فيما حدث، وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتِّباعه وتصديقه، فعتوا على الله وتركوا أمره عياناً، ولجوا فيما هم عليه من الكفر، فقال قائلهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون، أي اجعلوه لغواً وباطلاً، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك، فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يوما غلبكم.
تهكُّم أبي جهل بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وتنفير الناس عنه
فقال أبو جهل يوماً وهو يهزأ برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وما جاء به من الحق: يا معشر قريش، يزعم مُحَمَّد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عدداً، وكثرة، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم؟ فأنزل اللهُ تعالى عليه في ذلك من قوله:
(وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، وما جعلنا عِدَّتَهُم إلا فتنةً للذين كفروا) إلى آخر القصة.
فلمَّا قال ذلك بعضهم لبعض، جعلوا إذا جهر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالقرآن وهو يصلي، يتفرقون عنه، ويأبون أن يستمعوا له، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي، استرق السمع دونهم فرقاً منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، وإن خفض رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- صوته، فظن الذي يستمع أنهم لا يستمعون شيئاً من قراءته، وسمع هو شيئاً دونهم أصاخ له يستمع منه.
سبب نزول آية: (ولا تجهر... الخ)
قال ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، مولى عمرو بن عثمان، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثهم أن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- حدثهم: إنما أنزلت هذه الآية: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك سبيلًا) من أجل أولئك النفر.
يقول: لا تجهر بصلاتك فيتفرَّقوا عنك، ولا تُخافت بها فلا يسمعها مَنْ يُحِبُّ أن يسمعها مِمَّنْ يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به.
أول مَنْ جهر بالقرآن
عبدالله بن مسعود وما ناله من قريش في سبيل جهره بالقرآن
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بمكة عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه، قال: اجتمع يوماً أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجُهر لها به قط، فمن رجل يُسمعهموه؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا؛ قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه؛ قال: دعوني فإن الله سيمنعني.
قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) رافعاً بها صوته ((الرَّحمَنُ عَلَّمَ القُرآن)) قال: ثم استقبلها يقرؤها.
قال: فتأمَّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به مُحَمَّد، فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك؛ فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا؛ قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون.