الْمُحَاضَرَة الْخَامِسَة
دَرَسُنَا هَذَا الْمَسَاء سِلْسِلَة بِعُنْوَان مَدْرَسَةُ الْحَيَاة وَكُنْتُ قَدِيْماً مُنْذ نَحْو عَشْر سَنَوَات أَرَدْت أَبْتَدِئ هَذَا الْدَّرْس الَّذِي هُو عِبَارَة عَن تَجَارِب الْعُلَمَاء وَالْحُكَمَاء وَالْخُلَفَاء وَالْوُزَرَاء فِي شَتَّى أُمُوْر الْحَيَاة الُمخْتَلِفَة ، وَالَّذِي نُسَمِّيَه نَحْن بِالتَّجْرِبَة فَإِن الْتَّجْرِبَة مِن أَعْوَنِ مَا يُعِيْن الْعَبْد عَلَى تَأَمَّل الْأَحْدَاث الْجَارِيَة ، وَمَا مِن حَدَثِ مَضَى إِلَّا وَالَّذِي يَأْتِي شَبِيْه بِه مَع اخْتِلَاف الْشُّخُوْص ، إِنَّمَا يَحْتَاج الْمَرْء إِلَى تَأَمُل لَيُدْرِك الْعِبْرَة وَالْعِظَة فِيْمَا مَضَى لِيَسْتَعِيْن عَلَيْه فِي حَيَاتِه الْحَاضِرَة .
وَكَان عَلِي بْن أَبِي طَالِب قَد لَخَص بِقَوْلِه: (وَاسْتَدَل عَلَى مَا لَم يَكُن بِمَا كَان فَإِن الْأُمُور اشْتِبَاه)
فهذا هو المجلس الخامس في شرح هذه الخاطرة والتي جعلت عنوانها:( ويا نفس جدي وهذا هو اليوم يوم الأحد السادس عشر من شهر رمضان لسنة ألف وأربعمائة وثلاثين من هجرة خير من وطأ الحصى نبينا محمد- صلي الله عليه وآله وسلم- . يقول بن الجوزي- رحمه الله-: (واعجبًا من عَارف بالله- عز وجل- يُخَالفه ولَو في تَلفِ نَفسهِ هَل العَيش إلا مَعهُ ؟ هَل الدُّنيا والآخِرة إلا لَه ؟ أُفٍ لِمُتَرَخِصٍ في فعلِ ما يَكره لِنَيل ما يُحِب أي في فعل ما يكره الله لنيل ما يحب هو . تَالله لقَد فَاته أضعَافُ ما حصّل ، أَقبِل على ما أقوله يَا ذا الذَّوق ، هَل وقَع لك تَعثِيرٌ في عَيشٍ ؟ وتَخبيطٍ في حَالً ؟ إلا حَالَ مُخالفتِه): ولَا انثَنَى عَزمي عن بَابِكم * إِلَّا تَعثَرتُ بِأَذيَالِي .
أما سَمعتُ تِلك الحِكايةِ عن بَعض السَّلف أنَّه قَال: رأيتُ على سُورِ بَيروت شَابًا يَذكرُ الله تعالى فقُلتُ لَه: ألكَ حاجَة ؟ فقَال: إِذا وقَعَت لي حاجةٌ سَألتَه إِيَاهَا بقَلبي فقَضَاهَا يا أربَابَ المُعامَلة بالله عليكم لا تُكَدِرُوا المَشرب قِفُوا على بَابِ المُراقبةِ وِقُوفَ الحُرََّاس وادفَعُوا مالا يَصلُح أن يَلِجَ فَيُفسِد واهجروا أغَراضَكَم لِتحصيلِ مَحبوبَ الحبيبِ فإنَّ أغرَاضَكُم تحَصُل ، عَلى أَننِي أقُولُ أُفٍ لمن تَركَ بِقَصدِ الجزاء: أهذَا شَرطُ العُبُودية كَلا ؟ إنَّما يَنبغِي لي إذا كُنتُ مَملُوكًا أن أفعَل ليَرضَى لا لأُعطَى فإن كُنت مُحبًا رأيت قطَعَ الآرَابِ في رِضَاهُ وَصلًا وكنا وقفنا عند هذا المقطع في المرة الماضية ولم نتكلم عنه بشيء فهو هنا بن الجوزي- رحمه الله- يقول: عَلى أَننِي أقُولُ أُفٍ لمن تَركَ بِقَصدِ الجزاء .أي أفٍ لمن ترك معاصي الله بقصد أن يجزيه الله على تركه .يقول: ( أهذَا شَرطُ العُبُودية كَلا ؟ إنَّما يَنبغِي لي إذا كُنتُ مَملُوكًا أن أفعَل ليَرضَى لا لأُعطَى) .هذا الكلام فيه مشكلة مثل المشكلة التي طرحناها في المرة الماضية لما نقل عن الشاب الذي على سور بيروت ، قال: إذا وقعت لي حاجة سألتها بقلبي فقضاها ، وتكلمنا على( كلمة بقلبي) ولأنها فيها إيهام بترك الدعاء .
إِشْكَال عِنْد ابْن الْجَوْزِي_ رَحِمَه الْلَّه_ وَتَعْقِيب الْشَّيْخ _حَفِظَه الْلَّه_ عَلَيْه:هل العبد الذي يترك بقصد الجزاء هل نقول أف له ؟ هل المملوك يفعل ليرضي الله لا ليعطيه الله ؟ هذا الكلام فيه مشكلة ، وأنا أرد على بن الجوزي بكلامه هو ، وهذا أقوى أن تأني بكلام المتكلم التي يناقض كلامه في هذا الموضع ، على أن لكلامه مخرجًا سأذكره فيما بعد ، لكن المخرج الذي سأذكره فيه شيءٌ من التكلف .
أنظر بن الجوزي- رحمه الله- يقول: والعجيب أن هذه الخاطرة التي أرد عليه به بعد هذه الخاطرة مباشرة ، وأنا أعلم أن هذا لا يَحُجُه ، لماذا ؟ لأنه قد يكون بين الخاطرتين عشرين سنة ، والكتاب اسمه صيد الخاطر ، ولا يلزم أن تكون كل خاطرة كُتبت بعد أختها ، إنما كتبها هكذا على حسب الحوادث ، ثم جمعها في النهاية في كتاب ، فمن الجائز أن ينسى الإنسان حتى وإن كان إمامًا كبيرًا .
هَل يُقَد ح الْنِّسْيَان فِي ذَاكِرَة الْذَّاكِر؟لا يقدح النسيان في ذاكرة الذاكر ، وهذا معلوم عند علماء الحديث أن العالم إذا حدث بحديث فنسيه إن هذا لا يضر الحديث إذا ذكره من أخذ الحديث عنه ، وفي هذا أشياء كثيرة ، السيوطي عمل لها كتاب اسمه( تذكرة المؤتسي فيمن حدَّث ونسي) .أتى بكل الوقائع التي حدَّث فيها المحدث الثقة الثبت الذي لا يشك في حفظه بعد ، والخطيب البغدادي عقد في كتاب (الكفاية في علوم الرواية) فصلًا في هذا ، إذا حدث الثقة بالحديث ثم نسيه فإن هذا لا يضرّ الحديث فهذا بن الجوزي ونحن كلنا معرضون لهذا ، مثلًا منذ عشرون سنة حققت كلامًا والآن لما جئت أُحققه ربما وصلت إلى نتيجة ربما تخالف ما ذكرته في المرة السابقة ، فهذا لا يقدح في بن الجوزي- رحمه الله- ، لكنني أرد عليه بكلامه هو .
قال- رحمه الله-: ( قدرتُ فِي بَعْض الْأَيَّام عَلَى شَهْوَة الْنَّفْس هِي عِنْدَهَا أَحْلَى مِن الْمَاء الْزُّلال فِي فَم الْصَّادِي) الصادي: شديد العطش (وَقَال الْتَّأْوِيْل: مَا هَهُنَا مَانِع وَلَا مُعَوِّق إِلَا نَوْع وَرِع )
التأويل: أي نفسه قالت له أقدم ، المسألة كلها مسألة ورع لا يوجد حلال ولا حرام .(وَكَان ظَاهِر الْأَمْر امْتِنَاع الْجَوَاز.)المسألة ليست مسألة ورع ولا غير ذلك فترَدَّدْت بَيْن الْأَمْرَيْن، فَمَنَعَت الْنَّفْس عَن ذَلِك ، فَبَقِيَّت حَيْرَتِي لِمَنْع مَا هُو الْغَايَة فِي غَرَضِهَا مِن غَيْر صَادٍ عَنْه بِحَال ).عنده شهوة ولا يصده عنها شيء ، فقالت له نفسه أقدم إنما هو نوع ورع ، فجاء صوت العلم وقال: الظاهر امتناع الجواز ، المسألة بعيدة تمامًا عن الورع ، فبقيت حيرته ونفسه تؤذه أن يتقدم والعلم يمنعه أن يتقدم . (فَقُلْت لَهَا: يَا نَفْس وَالْلَّه مَا مِن سَبِيِل إِلَى مَا تَوَدّيَن ، وَلَا مَا دُوْنَه ؟ ، فَتَقَلَقُلت . أي:_ غضبت منه فَصِحْت بِهَا: كَم وَافَقْتُك فِي مُرَادٍ ذَهَبَت لَذَّتَه وَبَقِي الْتَّأَسُّف عَلَى فِعْلِه ؟ ، فَقَدْرَي بُلُوْغ الْغَرَضِ مِن هَذَا الْمُرَاد، أَلَيْس الْنَّدَم يَبْقَى فِي مَجَال الْلَّذَّة أَضْعَافَ زَمَانُهَا ؟ فَقَالَت: كَيْف أَصْنَع ؟ فَقُلْت: صَبَرْت وَلَا وَالْلَّه مَا بِي جَلَادَة ... عَلَّى الْحُب لَكِنِّي صَبَرْت عَلَى الْرَّغْم .أي: _مجبر أخوك لا بطر_ .وَقَد تَرَكْت بَاقِي هَذِه الْوَجِهَة الْبَيْضَاء أَرْجُو أَن أَرَى حُسْن الْجَزَاء عَلَى الْصَّبْر ).أليس هذا ضد الكلام ، ترك هذه الوجهة البيضاء لأنه لما كتب خاطرته كتبها في نصف صفحة ، ثم ترك الصف الباقي ليسطر جزاء ترك المخالفة ، هل ربنا سيخلف عليه أم لا ؟ هل سيعوضه مكان الصبر أم لا ؟ لأجل هذا قال: تركت هذه الوجهة البيضاء أرجو أن أرى حسن الجزاء على الصبر .( فأسطرَه فِيْه إِن شَاء الْلَّه تَعَالَى ، فَإِنَّه قَد يُعَجِّل جَزَاء الْصَّبْر وَقَد يُؤَخِّرُه. فَإِن عَجِل سَطَّرْتُه، وَإِن أَخَّر فَمَا أَشُك فِي حُسْنِ الْجَزَاء لَمِن خَاف مَقَام رَبِّه ، فَإِنَّه مَن تَرَك شَيْئاً لِلّه عَوَّضَه الْلَّه خَيْرَاً مِنْه ,وَالْلَّه إِنِّي مَا تَرَكْتُه إِلَا لَلَّه تَعَالَى وَيَكْفِيْنِي تَرْكُه ذَخِيْرَة ، حَتَّى لَو قِيَل لِي أَتَذَكَّر يَوْمَا آَثَرْت الَلّه عَلَى هَوَاك ، قُلْت: يَوْم كَذَا وَكَذَا ، فَافْتَخِرِي أَيَّتُهَا الْنَّفْس بِتَوْفِيْقك واحمدي مِن وَفَّقَك ، فَكَم قَد خُذِل سِوَاك . وَاحْذَرِي أَن تَخْذِلِي فِي مِثْلِهَا وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعَلِي الْعَظِيْم ، وَكَان هَذَا فِي سَنَة إِحْدَى وَسِتِّيْن وَخَمْسِمِائَة ، فَلَمَّا دَخَلَت سَنَة خَمْسَة وَسِتِّيْن .أي وخمسمائة . عُوِّضْتُ خَيَرًا مِن ذَلِك بِمَا لَا يُقَارِب مِمَّا لَا يمْنَع مِنْه وَرَع وَلَا غَيْرِه. فَقُلْت: هَذَا جَزَاء الْتَّرْك لِأَجْل الْلَّه سُبْحَانَه فِي الْدُّنْيَا، وَلَأَجْر الْآَخِرَة خَيْر وَالْحَمْد لِلَّه ) ترون طبعًا المسألة مختلفة .
وكلام بن الجوزي:( أُفٍ لمن تَركَ بِقَصدِ الجزاء .) يخالف كل الآثار بل يخالف كتاب الله- عز وجل-:، كثير من الأعمال معلقة بالجنة وكثير من الأعمال معلقة بالنار ، قال تعالى:﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾(الإنسان:12) ، ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾(يوسف::22) ، إلى آخر هذه الآيات وكذلك في الفعل السيئ قال الله- سبحانه وتعالي-:﴿ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾(الأنعام:93) .فكلمة الجزاء سواء على الجنة أو على النار كثيرٌ في كتاب الله- عز وجل- ،.وَالْلَّه- سُبْحَانَه وَتَعَالَى- لَمَّا خَلَق الْنَّفْس خَلَقَهَا بِهَذِه الْصِّفَة ، فَالَّذِي يُضَاد هَذِه الْصِّفَة إِنَّمَا يُعَانِد أَصْل الْخِلْقَة أَن الْعَبْد لَا يَفْعَل الْشَّيْء إِلَا لِجَزَاء .
ومما يدل علي أن العبد لا يفعل الشيء إلا لجزاء: 1-في الصحيحين من حديث أنس لما دخل النبي- ﷺ المدينة وظل أربعة عشر يومًا في المدينة ثم بدا له أن يبني المسجد ، فكان يوجد قطعة أرض ليتيمين من بني النجار ، فأرسل النبي ﷺ - إلى الأنصار وقال:" ثامنوني حائطكم هذا يا بني النجار" .ثامنوني: أي خذوا ثمنه وأعطوني هذه الأرض لأبني عليها المسجد ، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنها إلا إلى الله- عز وجل- ، وكان في هذه الأرض كان فيه قبور للمشركين وكان فيه نخل ، وكان فيه خرِب ، أما القبور فنبشت ، وأما الخرِب فسويت ، وأما النخل فقطع وجُعل في قبالة المسجد ، وجُعل عِضَادتيه الحجارة.
الشاهد من الكلام:، فهذا واضح أنا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله- عز وجل- أي يرجون حسن الجزاء على العطاء .
2-كذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة يرويه سعيد المرجان عن أبي هريرة أن النبي- ﷺ - قال:" من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله عنه بكل إربٍ إربًا منه من النار ، حتى إنه ليعتق الرِجل بالرِجل واليد باليد والفرج بالفرج " .الإرب: أي العضو .زاد أحمد في مسنده أن علي بن الحسين بن أبي طالب زين العابدين كان في هذا المجلس الذي يحدِّث فيه سعيد بن مُرجانة فقال يا سعيد أأنت سمعت هذا من أبي هريرة ؟ فقال له: نعم ، فنادي غلامًا من غِلمانه وقال: أدعوا لي مُطَرِّفًا ، ومُطَرِّف هذا كان غلامًا فرهًا أي جسده كبير ، ينتفع به على بن الحسين يجعله يحمل ويضع وغير ذلك ويستفيد منه فقال: أدعو لي مُطَرِّفًا ، فلما جاء مطرفٌ ووقف بين يديه قال له: أنت حر لوجه الله وهذا بقصد الجزاء .
3- كذلك في مسند الإمام أحمد وصححه بن حِبان من حديث أبي الزبير عن جابر- رضي الله عنه- قال:" مكث رسول الله- ﷺ عشر سنين يمشي بين الناس ويمشي في المواسم يقول من يؤويني ؟ من يحملني لأبلغ رسالة ربي وله الجنة ؟ وكان الرجل إذا أراد أ، يذهب إلى النبي- ﷺ - حذروه ، حتى أن الرجل ليأتي من مُضَر_، أي من مكان بعيد_ ليقول الرجل احذر غلام قريش لا يفتنك ، قال جابر: فبعثنا الله إليه من يثرب وتجمعنا وكنا نذهب إليه فيقرئنا القرءان فننقلب إلى أهلينا فنقرأ القرءان فلم يبقى بيت من الأنصار إلا وفيه رهط من المسلمين .ثم اجتمعنا جميعًا فقلنا: إلام :_ أي إلى متى_ يُطرد رسول الله- ﷺ - في جبال مكة ويُخاف ،_ أي لابد أن يفعلوا شيئًا ويؤمنوه _، قال: فذهبنا إليه سبعين رجلًا وقلنا يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال:" على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساء_كم وأموالكم وأولادكم ولكم الجنة , .قال: فقمنا إليه نبايعه رجلًا جلًا ، نعطيه صفقة يدنا ويعطينا الجنة على ذلك ، فلما قمنا _أي لنبايعه _ قام أسعد بن زُرارة وكان أصغر السبعين فقال: تمهلوا يا قوم ، فإن مبايعتكم إياه معناها أن تفارقوا العرب وأن تَعضَكم السيوف وجعل يحذرهم من هذا ، فإما أنكم قوم تصبرون على هذا فبايعوه وأجركم على الله ، وإن آنستم من أنفسكم جُبينةً فاتركوا هذا فهو أعذر لكم عند الله ، فقالوا له: أمط عنا يدك يا أسعد بن زُرارة ، والله هذه بيعة لا نقيلها ولا نستقيلها ن فقمنا إليه نبايعه رجلًا ، رجلًا ويعطينا على ذلك الجنة "، وهذا واضح .
4-حديث أبو بردة عن أبي موسى في صحيح مسلم ، لما سمع رجلٌ رثَّ الثياب أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله- ﷺ - قال:" إن الجنة تحت ظلال السيوف " فقام الرجل وقال يا أبا موسى أأنت سمعت هذا من رسول الله- ﷺ - ؟ قال: نعم ، فذهب إلى أصحابه_الرفقة التي كان يقاتل معها ، وخرج إلى الغزو معها _، فقال: سلام عليكم ثم دخل فقاتل حتى قُتل .وكذلك الرجل الذي قال للنبي- ﷺ مالي عند ربي إن قتلت في سبيله ، قال:" لك الجنة ، قال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات فرمى بالتمرات ودخل فقاتل حتى قُتل "
الشاهد من الكلام:واضح أن العبد يسأل عن جزائه عند ربه- سبحانه وتعالى- لأن النفس خُلقت هكذا ، تصور أن النبي- ﷺ لما سُئل هذا السؤال قال له الرجل: ما جزائي عند ربي إن قتلت في سبيله ؟ قال: لا شيء ، لو قال له هذه ، هل من الممكن أن يرمي التمرات ويدخل حتى يقتل ، إطلاقًا ، طالما المسألة كذلك .
5-وحديث أبو الدحداح أنتم تعرفونه جميعًا لما نزل قول الله تعالي:﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾(البقرة:245) قال: أبو الدحداح قال يا رسول الله أشهدك أني أقرضت حائطي هذا ربي ، قال:" بخ ، بخٍ بيع ربيح " ، بيع ربيح:_ أي أنه أعطى ما يملكه لربه سبحانه وتعالي ،_
واللافت الجميل في هذه المسألة:أن أبا الدحداح عندما رجع إلى بيته لم يدخل البستان لأنه لم يعد ملكًا له باعه .فوقف على باب البستان وقال :"يا أم الدحداح أخرجي بأولادك فإني أقرضت بحائطي هذا ربي ، فقالت المرأة المؤمنة ربح البيع يا أبا الدحداح" ، وكان هذا البستان به ستمائة نخلة ، أي هذا مليونير ، وكان العرب يعيشون على الأسودين التمر والماء فالذي عنده تمر ، بيعها مضمون مائة بالمائة لأنه الطعام الرئيس للمسلمين في المدينة .فأبو الدحداح- رضي الله عنه- لم يدخل بقدميه في البستان لأنه باعه ، مع أن الإنسان إذا باع لإنسان آخر يجوز له أن يدخل في ملكه ، يجوز لاسيما أن البيع قائم ، يأخذ امرأته ، يأخذ ملابسه ، يأخذ فرشه وهذا الكلام ، كل هذا جائز له ، ومع ذلك لم يدخل لأنه باعه إلى الله ، فأخذ أجره فورًا ، والمرأة طاوعته على ذلك ولم تقل له ضيعت الأولاد ، أو كنت تبرعت بمائتين نخلة أو أي حاجة ، أو أعطي ربنا النصف ونحن نأخذ النصف وهذا الكلام ، هناك ناس يفعلون ذلك .
هنا يسرد الشيخ حفظه الله يعد المواقف التي حدثت له من المتبرعين لأبواب البر.
ذات مرة كنا نريد أن نشتري لما اشترينا أرض مسجد شيخ الإسلام ، ثم كنت أدور على الناس التي معها فلوس لكي نستطيع أن نبني المسجد ، فذهبت لواحد قالوا لي أن معه فلوس ، فذهبت إليه فقلت له والله وأخذت أحرك فيه لكي يخرج ما في جيبه ، المهم قال: أنا ممكن أتبرع بعشرة جنيهات ، لكي نبني مسجد .
وهذا يذكرني بواحد يرسل لك كل ثلاثة شهور جواب ، هذا الجواب به مائتين جنيه ويرسل معه تقسيمه ، عشرة جنيه للمقاومة الفلسطينية ، وعشرة جنيهات للمقاومة في أفغانستان ، وعشرين جنيه لإخواننا في العراق ليقاتلوا ، فهذه العشرين جنيه أنا لو أرسلت ظرف فارغ سأرسله بعشرة جنيهات ثمن البريد فمشكلة ، وخمسة جنيه لمشروع كذا ، وثلاثة جنيه صدق جارية ، وهكذا ، هو له ما نوى وأنا لا أحقر هذا المبلغ ولا أحقر صانعه .لكن أنا أقول لك إن ممكن إنسان يتصور أنني وأنا أعيش في مصر هنا أنني أرسل عشرة جنيه للمقاومة الفلسطينية في غزة ، فكيف أرسلها ؟ وهذه العشرة جنيهات ماذا تغني ، هل هو مُغيب عن الواقع لا يعرف معنى المقاومة والسلاح وغير ذلك ، فسبحان الله أقول لك فيه ناس لا يستجيبون .
الشاهد من الكلام: أنظر أبو الدحداح آية واحدة أخرجته من البستان .
6-مثل آية واحدة أخرجت أبا طلحة كما في الصحيحين ، كان أبو طلحة أكثر الأنصار مالًا ، لم يكن أحدٌ في المدينة أكثر منه مالًا ، وكان له بستان قِبالة المسجد يقال له بيرحا ، وكان يحب هذا البستان وفيه ماء طيب ، كان النبي- ﷺ - يدخل هذا البستان فيشرب من الماء ويستظل ، فعندما نزل قوله تعالي:﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾(آل عمران: 92) ، ذهب إلي النبي- ﷺ - ، وقال: إني سمعت الله يقول كذا وكذا وذكر الآية ، وإن أفضل مالي بيرحا فقد وضعتها يا رسول الله بين يديك أريد ذُخرها ، وأجرها من الله - عز وجل- فضعها حيث شئت . قال: ضعها في أقربائك وبني عمك " ، فأعطاها لحسان بن ثابت ، وأعطاها لأبي بن كعب ، وآخرين ، مع أن الاحتفاظ بهذا البستان لأجل أن النبي- ﷺ يدخله غاية من الغايات أنه لا يفرط فيه ، ولا يبيعه ولا هذا الكلام ، يكفي أنه يخص هذا البستان أن يستظل به وأن يشرب من ماءه هذا شرف عظيم ، ومع ذلك الغاية الكبرى أنه يرجو ذخرها وأجرها من الله- سبحانه وتعالي- ، فيخرج أفضل ماله بهذه الآية .
7-هذه الآية أيضًا أخرجت بن عمر من شيء كان يحبه ، كان له جارية يقال لها روميساء وكان يحبها غاية الحب يحبها جدًا جِدًا ، جدًا جِدًا ، وأنا لا أريد أن أقول جدًا جِدًا لكي لا أواصل ، لكن كان يحبها كذلك فعلًا ، فعندما نزلت هذه الآية جعل يقلب ذهنه أي شيء أفضل عندي ؟ لم يجد إلا روميساء هذه الجارية التي يحبها ، وأنت تعرف النساء بالنسبة إلي الرجال شيء لا يفك من بعضه ، لأنها أعظم فتنة هي حلاله طبعًا ، لكن هي أعظم فتنة يفتتن بها الإنسان كما قال النبي- ﷺ - :" ما تركت بعدي فتنة أضر علي الرجال من النساء " .فيعطيها لمن ؟ أعطاها لنافع ، نافع هذا مولاه ، معه ليل نهار ، حتى أبعدها لكي لا تراها ، لأنك كلما تراها وقد خرجت من يديك ، وذهبت إلي رجل آخر ممكن النفس تهيج ، والغيرة تتقد وأشياء مثل هذه لا ، زوجها نافعًا مولاه ، ألسنا نقول أصح الأسانيد مالك عن نافع عن بن عمر هذا هو نافع.
8-وكان يحمل في جيبه حبات السكر ، فإذا لقي غلامًا يعطيه فيسأل في ذلك . فيقول: إني سمعت الله - عز وجل- يقول:﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ وأنا أحب السكر . أي شيء أنت تحبه ، إذا ملئت جيبك به وخرجت .
الشاهد من الآية: أي شيء أنت تحبه ، إذا ملئت جيبك به وخرجت وأعطيت الناس أخذت أجر هذه الآية ، فنكون نحن خسرنا كثير أم لا ؟ خسرنا كثير جدًا ، لأنك ممكن تملأ جيبك بأشياء أنت تحبها حلويات والكلام هذا ، وكل ما تلاقي إنسانًا تعطيه فتكون أخذت الأجر ، ما الذي يجعلك لا تفعل هكذا ؟ تفعل مثلًا خمسة جنيهات كل شهر لهذه الآية ، وتكون هكذا استفدت .
9-وهناك أحاديث كثيرة مذكورة في السنة : أن العبد لا يفعل إلا بقصد الجزاء :وحتى هناك حديث للنبي - ﷺ - يقول : " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها " الشاهد من الحديث:لماذا قال هذا الكلام ؟ هل هو حض علي الزراعة كما يقول أهل العلم في تفسير هذا الحديث ؟ نعم حض علي الزراعة ، لكن فيه معني أغمض من هذا وأقوي وأعمق وهو مقاومة النفس ، مقاومة النفس لهذا الشيء الذي جُبل المرء عليه , نحن قلنا أن المرء لا يفعل شيئًا إلا إذا كان له جزاء ، النخلة التي تزرعها كم تغيب حتى تأتي بالبلح ؟ خمس سنوات إذًا في ثمرة أم لا ، في جزاء أم لا ؟ في جزاء . أنا أغرز الفسيلة . الفسيلة : النخلة الصغيرة ، وأنا أغرسها رأيت أمارات الساعة ، هل النخلة هذه ستنتظر أحد ؟ الساعة ستقوم ، وستكون ﴿ قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ﴾(طه:107) ، لا يوجد شجر ولا بنيان ولا هذه القصة ، بل أرض بيضاء مسطحة ، فيكون الشيء الطبيعي للإنسان الذي يعمل بدراسة الجدوى ماذا يعمل ؟ يرمى الفسيلة ، يقول لأنه لن يأكل أحد منها ، الساعة قامت ، فكأنما قيل له خالف طبعك وأغرسها ، طبعه أنه لا يفعل لثمرة ، كأنه قيل له خالف طبعك وأغرسها .
أَهَمِّيَّة دِرَاسَة الْجَدْوَى فِي حَيَاتِنَا:ونحن عندنا حتى في حياتنا الدنيوية شيء اسمه دراسة الجدوى ، لابد أي واحد سيتاجر في بضاعة لابد أن يعمل دراسة جدوى قبل أن يتاجر إخواننا الذين فشلوا من الذين عملوا بالتجارة وهم لا يفهمون شيئًا عن التجارة ، ويأخذ ويوظف مثل ما أنا عملت ، آخذ أموال الناس وأمواله هو شخصية ويبدأ في عمل تجارة وهذا الكلام ، لا يعمل أي دراسة جدوى قبل أن يبدأ المشروع ، يعتقد أنه لما يفتح محل ويزينه ويعمل له ديكور بمائة ألف وأضواء باهرة وتخطف بصرة ويدخل ويشعل البخور الناس ستدخل تشتري ، لا .أنت تجد أحيانًا واحد محله اثنين في اثنين ، أو واحد ونصف في واحد ونصف ويبيع بسم الله ما شاء الله ، بياع ويكسب وهذا الكلام موجود في العتبة هناك في القاهرة ، وناس أنا أعرفهم ، محله فاترينة لا يمتلك غيرها ومع ذلك ربنا فتح عليه ودخل على الملايين ، الألوفات مر منها ، ويدخل على الملايين ، وعنده كشك ، أو فاترينة ، أو هذا الكلام ، وتجد واحد عنده محل طويل وعريض ولا يبيع ، لا لابد من دراسة جدوى في الموضوع .
دراسة الجدوى عندنا كبني آدم هذه فطرة عندنا ، فعندما نقول: نفعل أف كما يقول بن الجوزي لمترخص بقصد الجزاء ، لا هذا مخالف ، يخالف عشرات النصوص بل مئات النصوص قرءانًا وسنة ، وهذا يفتح الباب أمام الطائفة التي تمثلها رابعة العدوية فيما ينسب إليها ولا أضمن أن هذا يكون من كلامها ، فقد نسب إليها كثيرًا من الباطل تقول:( اللهم إن كنت أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني من جنتك ، وإن كنت أعبدك خوفًا من نارك فأحرقني بنارك ، وإن كنت أعبدك لذاتك فلا تحرمني من وجهك ) ، وهذا كلام متناقض لأنه إذا حرمها الجنة فلن ترى الله ، لأنه أين ستراه ، إنما يُرى الله في الجنة ، فإذا كانت تقول: ( اللهم إن كنت أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني من جنتك )، هل الجنة رمان وفاكهة وموز لا ،.
أَعْظَم مُتَع الْجَنَّة عَلَى الْإِطْلَاق هِي رُؤْيَة الْلَّه- عَز وَجَل-: صح كل هذا من المتع التي وعدنا الله- عز وجل- بها ونتمتع بها ، لكن أعظم هذه المتع هي رؤية الله- سبحانه وتعالى- فلما تُحرم من الجنة فلن تدخل وهذا كلام غير عقلي ليس له وزن شرعي حقيقي ,فالصوفية لهجوا بهذا ، حتى قال بعضهم وهو يتكلم عن المحبة بيتين شعر التقطهم وقد أعجبوني ، يقول الشاعر ، واحد يخاطب واحدة يقول لها:
بخلتِ فقلت لها بخلتِ عليَّ | يقظَى فجودي في المنام لمستهامِ |
يقول لها: أنت لا تريدين أن أراك في اليقظة وبخلت عليَّ، فتعالي لي في المنام
فقالت لي:
وصرت تنام أيضًا | وتطمع أن تراني في المنام . |
فماذا يعمل هو ؟ لا يراها في اليقظة فقال لها أراكِ في المنام ، تقول له وتريد أن تنام لكي تراني في المنام ، هذا نوع من التعسير ، وهذه الأبيات كما قلت لكم من قبل ، الأبيات قد تُقال في الواقع لامرأة ولكن الشاعر يقصد بها معنى آخر وهو محبة الله- سبحانه وتعالي أي لا تنام باختصار, ولن تراني في المنام حتى لو نمت ، لن آتيك في المنام هذا نوع من التعسير صح هو قد يؤخذ منه معني جميل ، لكن هذا نوع من التعسير ، والشريعة الغراء أسمح من هذا بكثير هي في متناول يد كل إنسان .
لكن يمكن أن نحمل كلام بن الجوزي- رحمه الله تعالي- علي شيء من هذا ، وإن كان لا يخلو من تكلف..
يتبع إن شاء الله...