أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة آل عمران الآيات من 051-055 الأحد 21 أبريل 2019, 11:24 pm | |
| إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [٥١] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
إذن اجتمع الرسول والمرسل إليهم في أنهم جميعاً مربوبون إلى إله واحد، هو الذي يتولَّى تربيتهم والتربية تقتضي إيجاداً من عدم، وتقتضي إمداداً من عدم، وتقتضي رعاية قيومية، وعيسى ابن مريم يقر بعبوديته لله وكأنه يقول: وأنا لم أصنع ذلك لأكون سيداً عليكم، ولكن أنا وأنتم مشتركون في العبودية لله.
{إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} [آل عمران: 51].
ومعنى "هذا صراط مستقيم" أي أنه صراط غير مُلْتَوٍ لأن الطريق إذا التوى؛ انحرف عن الهدف، وحتى تعرف أن الكل يسير على طريق مستقيم واحد، فلتعلم أنك إذا نظرت على سبيل المثال إلى الدائرة، فستجد أن لها محيطاً، ولها مركزاً، ومركز الدائرة هو الذي نضع فيه "سن الفرجار" حتى نرسم الدائرة، وبعد ذلك تصل من المركز إلى المحيط بأنصاف أقطار، وكلما بعدنا عن المركز زاد الفرق، وكلما تقرب من المركز تتلاشى الفروق.
فإذا ما كان الخلق جميعاً يلتقون عند المركز الواحد فهذا يعني الاتفاق، لكن الاختلاف يحدث بين البشر كلما بعدوا عن المركز ولذلك لا تجد للناس أهواء ولا نجد الناس شيعاً إلا إذا ابتعدوا عن المركز الجامع لهم.
والمركز الجامع لهم هو العبودية للإله الواحد، وما دامت عبوديته لإله واحد ففي هذا جمع للناس بلا هوى أو تفرق.
إنه حتى في الأمر الحسي وهو الدائرة المرسومة، نجد أن الأقطار المأخوذة من المحيط وتمر بمركز الدائرة، سنجد أنه في مسافة ما قبل المركز تتداخل الأقطار إلى أن تصير عند نقطة المركز شيئاً واحداً لا انفصال بينها أبداً.
وهكذا الناس إذا التقوا جميعاً عند مركز عبوديتهم للإله الواحد، فإذا ما اختلفوا، بعدوا عن العبودية للإله الواحد بمقدار ذلك الاختلاف.
ولذلك دعا المسيح عيسى ابن مريم الناس لعبادة الله {إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} [آل عمران: 51] ذلك هو منطق عيسى.
كان منطقه الأول حينما كان في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم: 30].
إن قضية عبوديته لله قد حُسمت من البداية، وهي قضية القمة، إنه عبد الله والقضية الثانية هي قضية الرسالة ونقل مراد الله وتكليفه إلى خلق الله حتى يبنوا حركة حياتهم على مقتضى ما أنزل الله عليهم، ومن الطبيعي أن أي رسول عندما يأتي بمنهج من عند الله، فالهدف أن يحمل الناس جميعاً على سلوك هذا المنهج، ويحدد حركة حياتهم بـ "افعل كذا" و"لا تفعل كذا" وعندما يسمع الواحد من الناس الأمر بـ"افعل" فقد يجد في التكليف مشقة،
لماذا؟
لأنها تلزمه بعمل قد يثقل عليه، و"لا تفعل كذا" فيها مشقة؛ لأنها تبعده عن عمل كان يحبه.
والمرء في الأحداث بين اثنين: عمل يشق عليه فيحب أن يجتنبه، وعمل يستهويه فيحب أن يقترب منه، والمنهج جاء من السماء ليقول للإنسان "افعل" ولا "تفعل" إذن فهناك مشقة في أن يحمل الإنسان نفسه على أن يقوم بعمل ما من أعمال التكليف، ومشقة أخرى في أن يبتعد عن عمل نهى عنه التكليف.
ومعظم الناس لا تلتفت إلى الغاية الأصيلة؛ ولا يفهمونها حق الفهم، فيأتي أنصار الشر؛ ولا يعجبهم حمل نفوسهم على مرادات خالقهم.
إن أفكار الشر تلح على صاحبها فيتمرد على التكليف الإيماني، وأفكار الشر تحاول الاقتراب بصاحبها من فعل الأمور التي حرمها التكليف.
ولذلك ينقسم الناس لأنهم لم يحددوا هدفهم في الوجود.
إن كل حركة في الوجود يمكننا أن نعرف أنها حركة إيمانية في صالح انسجام الإنسان مع الكون، أو هي حركة غير إيمانية تفسد انسجام الإنسان مع فطرته ومع الكون، فإذا كانت الحركة تصل بالإنسان إلى هدفه الإيماني.
فستكون حركة طيبة وحسنة بالنسبة للمؤمن، وإذا كانت تبعده عن هدفه تكون حركة سيئة وباطلة، وهكذا نرى أن الهدف هو الذي يحدد الحركة.
إن التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة له هدف بأن يتخرج في مهنة ما، وما دام ذلك هو هدفه فنحن نقيس حركة سلوكه، هل هي حركة تقربه إلى الهدف أن تبعد به عنه؟
فإن كان مجتهداً.
فاجتهاده حركة تقرب له الهدف، وإن كان كسولاً، خاملاً فإنه يبتعد بنفسه عن الهدف.
إذن يجب أن نحدد الهدف حتى نعرف هل يكون هذا العمل صالحاً.
أو غير صالح.
وآفة الناس أنهم عندما يحددون أهدافهم يقعون في اعتبار ما ليس بالهدف هدفاً وغاية.
وما دام هناك من يعتبر غير الهدف هدفاً فلابد من حدوث اضطراب وضلال، فالذي يعتبر أن الحياة هي الهدف، فهو يريد أن يحقق لنفسه أكبر قدر من اللذة فيها.
أما الذي يعرف أن الهدف ليس هو الحياة، إنما الحياة مرحلة، نسأله.
ما الهدف إذن، فيقول: إنه لقاء الله والآخرة.
هذا المؤمن سيكون عمله من أجل هذا الهدف.
لكن الضال الذي يرى الدنيا وحدها هدفه ولا يؤمن بالجنة أو النار، هو غارق في ضلاله ويقبل على ما تشتهيه نفسه، ويبتعد عما يتعبه وإن كانت فيه سعادته.
ولكن المؤمن يعرف أن الهدف ليس هو الدنيا، وأن الهدف في مجال آخر، لذلك يسعى في تطبيق التكاليف الإيمانية ليصل إلى الهدف، وهو الجنة.
إذن ما يفسد سلوك الناس هو جهلهم بالهدف، وحين يوجد الهدف، فالإنسان يحاول أن يعرف العمل الذي يقربه من الهدف, فيفعله، فهذا هو الخير.
أما الذي يبعده عن الهدف ويفعل عكس الموصل إليه فهذا هو الشر.
وإذا كان الأمر كذلك والمسألة هي في تحديد الهدف يجب أن تعلم أن الناس يستقبلون الكثير من الأحداث بما يناقض معرفة الهدف، وما دام الهدف هو أن تذهب إلى الآخرة لتلقى الله فلماذا يغرق في الحزن إنسان لأن له حبيباً قد انتقل إلى رحمة الله؟
هذا الإنسان يمكننا أن نسأله، لماذا تحزن وقد قصر الله عليه خطواته إلى الهدف؟
لابد أنك حزين على نفسك لأنك مستوحش له، ولأنك كنت تأنس به، أما حزنك من أجله هو، فلا حزن، لأنه اقترب من الهدف ووصل إليه.
وفي حياتنا اليومية عندما يكون هدف جماعة أن تصل إلى الإسكندرية من القاهرة، نجد إنساناً ما يذهب إلى الإسكندرية ماشياً، لأنه لا يجد نقوداً أو وسيلة توصله، وتجد آخر يذهب إليها راكباً حماراً، وثالثاً يذهب إليها راكباً حصاناً، ورابعاً يصل إليها راكباً "أتوبيساً"، وخامساً يصل إليها بركوب الطائرة، وسادساً يصل إليها بصاروخ، وكل ما حدث هو أن كل واحد في هذه الجماعة قد اقترب من الهدف بالوسيلة التي توافرت له، وهكذا نجد إنساناً يذهب إلى الله ماشياً في سبعين عاماً، وآخر يستدعيه الله فوراً، فلماذا تحزن عليه؟
إن لنا أن نحزن على الإنسان الذي لم يكن موفقاً في خدمة الهدف، أما الموفق في خدمة الهدف فلنا أن نفرح له، ونقول: إن الله قد قصر عليه المسافة، وأغلبنا إن كان عنده ولد حبيب إلى قلبه وصغير ويفقده فهو يغرق في الحزن قائلاً "إنه لم ير الدنيا" لهذا الإنسان نقول: يا رجل إن الله جعل ابنك يقفز الخطايا ويتجاوزها وأخذه إلى الغاية، فما الذي يحزنك؟
إن علينا أن نحسن استقبال ما يقضي به الله في خلقه، ونعرف أنه حكيم وأنه رحيم وأن كل شيء منه يجب ألا نفهمه خارجاً عن الحكمة.
وبعد تلك الآيات الكريمة التي تحدث فيها الحق عن مريم وعيسى عليه السلام.
قال الحق سبحانه: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ...}. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 051-055 الأحد 21 أبريل 2019, 11:27 pm | |
| فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [٥٢] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
لقد ذكر عيسى ابن مريم القضية الجامعة المانعة أولاً حين قال: {إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51].
وأوضح عيسى ابن مريم بما لا يقبل الجدل: "أنا معكم سواء في مربوبيتنا إلى إله واحد، وأنا لم أجيء أعلمكم لأني تميزت عنكم بشيء.
فيما يتعلق بالعبادة نحن سواء، فالله رب لي ورب لكم، والصراط المستقيم هو عبادة الله الحق.
ونحن ساعة نسمع "الصراط المستقيم" فإننا نتخيل على الفور الطرق الموصلة إلى الغاية، ونعرف جميعاً أنه لا يوجد طريق في الحياة مصنوع لذات الطريق، إنما الطريق يصنع ليوصل إلى غاية.
وساعة تسمع "صراط" فإننا نفهم على الفور الغاية التي نريد أن نصل إليها.
والحق سبحانه يقول:ة{وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وما دام هناك طريق لغاية ما فلابد أن نحدد الغاية أولاً، وتحديد الغاية إنما يهدف إلى إيضاح السبيل أمام الإنسان ليسلك الطريق الموصل إلى تلك الغاية.
وهكذا يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم: {إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ} [آل عمران: 51].
والعبادة هي إطاعة العابد لأمر المعبود، وهكذا يجب أن نفطن إلى أن العبادة لا تقتصر على إقامة الأركان التعبدية في الدين من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، إن هذه هي أركان الإسلام ولا يستقيم أن ينفصل الإنسان المسلم عن ربه بين أوقات الأركان التعبدية، إن الأركان التعبدية لازمة، لأنها تشحن الطاقة الإيمانية للنفس حتى تقبل على العمل الخاص بعمارة الدنيا، ويجب أن نفطن إلى أن العبادة في الدنيا هي كل حركة تؤدي إلى إسعاد الناس وعمارة الكون.
ويجب أن نعرف أن الأركان التعبدية هي تقسيم اصطلاحي وضعه العلماء في الفقه كباب العبادات وباب المعاملات، لكن علينا أن نعرف أن كل شيء يأمر به الله اسمه "عبادة”.
إذن فالعبادة منها ما يصل العبد بالمعبود ليأخذ الشحنة الإيمانية من خالقه، خالق الكون، ومنها ما يتصل بعمارة الكون.
ولذلك قلنا: إنك حينما تتقبل من الله أمراً بعبادة ما، فأنت تتلقاه وأنت موصول بأسباب الله بحثاً عن الرزق وغير ذلك من أمور الحياة، والمثل الواضح لذلك هو قول الحق: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
إن هذا الأمر بالصلاة الجامعة يوم الجمعة يخرج بالإنسان من أمر البيع، وهذا الأمر بالصلاة لم يأخذ الإنسان من فراغ، إنما أخذ الإنسان من عمل، هو البيع.
ولو نظرنا إلى دقة الأداء في البيع لوجدناها قمة الأخذ المباشر للرزق.
إن كلام الله يصل في دقته إلى ما لا يصل إليه كلام بشر، فلم يقل الله مثلاً "اتركوا الصنعة" "اتركوا الحرث" ولكن الحق جاء بالبيع هنا لأنه قمة النفعية العاجلة.
إن الذي يحرث ويزرع ينتظر وقتاً قد يطول حتى تنضج الثمار، لكن الذي يبيع شيئاً، فإنه ينال المنفعة فوراً، لقد جاء الأمر بترك هذه الثمرة العاجلة لأداء صلاة الجمعة، ويتضمن هذا الأمر ترك كل الأمور التي قد تأتي ثمراتها من بعد ذلك لأداء الصلاة.
إن البيع هو التعبير الدقيق لأن المتكلم هو الله، والحق لم يتكلم هنا مثلاً عن الشراء، لأن الشاري قد يشتري وهو كاره، لكن البائع يملأه السرور وهو يبيع فقد يذهب رجل لشراء أشياء لبيته فيسمع الأذان فيسرع إلى الصلاة ويقول لأهله من بعد ذلك: لقد ذهبت إلى الشراء، لكن المؤذن قد أذن لصلاة الجمعة، ذلك أن الإنسان يجب ألا يدفع نقوداً، لكن البائع يستفيد بقمة الفائدة.
لذلك يخرجنا الحق من قمة "كل الأعمال ونهاية كل الأعمال وهي مبادلة السلع بأثمانها”.
لكن ماذا بعد انقضاء الصلاة؟
{فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
لقد أخرجنا من الصلاة إلى الحياة نبتغي من فضل الله، ولذلك يكون الانتشار في الأرض والبحث عن الرزق عبادة.
ولننظر إلى الدقة في قوله الحق: "فانتشروا في الأرض" إن الانتشار يعني أن ينساح البشر لينتظموا في كل حركات الحياة، وبذلك تعمر كل حركة فيها.
إن كل حركة في الحياة هي عبادة، وهكذا نستوعب قوله الحق على لسان عيسى ابن مريم: "إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم" ومن بعد ذلك يقول الحق: "فلما أحس عيسى منهم الكفر" لقد حسم عيسى بن مريم أمر العقيدة حينما قال: "إن الله ربي وربكم" إن في ذلك تحذيراً من أن يقول أتباع عيسى أي شيء آخر عن عيسى غير أنه عبد الله خاضع لله، مأمور بالطاعة والعبادة لله.
ووضع أمامهم المنهج، فقال: "هذا صراط مستقيم”.
وقول الحق: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ} [آل عمران: 52] يدل على أن كل صاحب فكرة، وكل صاحب مهمة، وكل صاحب هدف لابد أن يكون يقظ الأحاسيس، لأن صاحب الفكرة وخاصة الدينية يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وقد يقول قائل: لماذا يعيش الناس في الظلام ولا يتجهون إلى النور من أول الأمر؟
وتكون الإجابة: إن هناك أناساً يستفيدون من وجود جموع الناس في الظلمات، لذلك يكون بينهم أناس ظالمون وأناس مظلومون، والظالم الذي يأخذ -اغتصاباً- خيرَ الآخرين ويعربد في الكون يخاف من رجل الدعوة الذي ينهاه عن الظلم ويدعوه إلى الهداية إلى منطق العقل، ومثل هذا الظالم عندما يسمع كلمة المنطق والدعوة إلى الإيمان لا يحب أن تُنطق هذه الكلمة، إنه يكره الكلمة والقائل لها.
إن الداعية مأمور من الله بأن يكون يقظاً لأنه إن اهتدى بكلماته أناس وسعدوا بها، فإنّه يغضب أناساً آخرين، ذلك أن المجتمع الفاسد يوجد به المستفيدون من الفساد، فالداعية عليه أن يعرف يقظة الحس، ويقظة الحس معناها الالتفاف إلى الأحاسيس الخفية الموجودة عند كل إنسان، ونحن نسمى الأشياء الظاهرة منها الحواس الخمس، اللمس، والرؤية، والسمع، والتذوق، والشم.
إن رجل الدعوة مأمور بأن تعمل كل حواسه حتى يعرف من الذي يجبن ويرتجف لحظة أن تأتي دعوة الخير، ومن الذي يطمئن ويحسن الراحة لدعوة الخير.
إن رجل الدعوة مأمور بدقة اليقظة والإحساس ليميز بين الذي تتغير سحنته لحظة دعوة الخير، ومن الذي يستبشر ويفرح.
وعندما أعلن عيسى ابن مريم منهج الحق، وجد أنصار الظلم وأنصار البغي، وأنصار الظلمات غير معجبين بالمنهج الواضح للإيمان بالله، لذلك أحس منهم الكفر لقد كان مليئاً باليقظة والانتباه.
إنه يعلم أنه قد جاء برسالة من الله؛ ليخرج أناساً من مفسدة إلى مصلحة.
وعندما أحس منهم الكفر، أراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر الدعوة.
{قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ} [آل عمران: 52]؟
إن الدعوة تحتاج إلى معركة، والمعركة تحتاج إلى تضحية.
والتضحية تكون بالنفس والنفيس، لذلك لابد أن يستثير ويحرك من يجد في نفسه العون على هذه المسألة.
وهو لم يناد أفراداً محددين، إنما طرح الدعوة ليأتي الأنصار الذين يستشرفون في أنفسهم القدرة على حمل لواء الدعوة، ولتكون التضحية بإقبال نفس لا استجابة لداع.
{فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ} [آل عمران: 52] وكلمة "أنصار" هي جمع "نصير”.
والنصير هو المعين لك بقوة على بُغْيَتِك.
وعندما سأل عيسى: {مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ} [آل عمران: 52]؟
كانت إلى في السؤال تفيد الغاية، وهي الله، أي من ينصرني نصراً تصير غايته إلى الله وحده لا إلى أهواء البشر؟
إنه لا يسأل عن أناس يدخلون في لواء الدعوة من أجل الغنيمة أو يدخلون من أجل الجاه, أو غير ذلك, إنه يسأل عن أهل العزم ليكون كل منهم متجهاً بطاقته إلى نصرة الله وحده.
ومثال ذلك ما دار بين رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وبين رجال من المدينة في أثناء مبايعتهم له في العقبة فقد قال لهم رسول الله: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون فيه نساءكم وأبناءكم" فأخذ الداء بن معرور بيده ثم قال: "نعم, والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مِما نمنع منه أزرنا" فبايعوا رسول الله على ذلك فقام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين اليهود حبالاً وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعنَا"؟
فتبسم رسول الله ثم قال: "بل الدم الدم, والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني, أحاربُ مَنْ حاربتُم وأسالمُ مَنْ سالمتُم" أي ذِمَّتِي ذِمَّتكُمْ وحُرْمَتِي حُرْمَتُكُمْ.
أقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستمتلكون الأرض, وستسودون الدنيا، أو ستنتصرون على أعدائكم؟
لا.
بل قال صلى الله عليه وسلم أنا منكم وأنتم مِنِّي.
لماذا؟
لأنه لو قال لهم ستنتصرون على أعدائكم، فقد يدخلون المعركة، ويموت واحد منهم؛ ولا يرى النصر، لكن الأمر الذي سيراه كل المؤمنين أن رسول الله منهم وأنهم من رسول الله وما داموا كذلك فسيدخلون معه الجنة وهي الغاية الأصيلة.
وعندما سأل عيسى ابن مريم {مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ} [آل عمران: 52] فكأنه كان يسأل: من يعينني معونة غايتها الله؟
ولماذا نأخذ هذا المعنى؟
تكون الإجابة: أنا آخذ المعنى على قدر ذهني؛ لأن مرادات الله في كلماته لا تتناهى كمالاً، وقد يأتي غيري ويأخذ منها معنى آخر.
ومعنى "النصير": هو "من ينصر بجهد وقوة”.
وننظر النصر في الإيمان كيف يأتي؟
إن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن النصر في الإيمان قال: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
إذن فالنصر منا لله بأن نُطبق دينه، وهذا مراد الله، ولذلك يأتي النصر مرة من المؤمن لربه، ومرة من الرب لمربوبه، وقد يكون مراد عيسى -عليه السلام- من الذي ينصرني كي ينضم إلى الله في النصر؟
ونحن هنا أمام معسكرين, معسكر الإيمان، ومعسكر الكفر.
لقد سأل عيسى {مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ} [آل عمران: 52] أي أنه يسأل عن الذين بإمكانهم أن ينضموا إلى غاية هي الله, ونتفهم نحن هذا المعنى على ضوء ما قاله الحق: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
ونعرف أيضاً أن هناك نصراً من المؤمن لله، وهناك نصر من الله للمؤمن.
وهكذا يكون سؤال عيسى ابن مريم {مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ} [آل عمران: 52]؟
قد أفاد المعنيين معاً.
وكانت الإجابة: {قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ, آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].
والحواريون مأخوذة من الحور، وهو شدة البياض, وهم جماعة أشرقت في وجوههم سيماء الإيمان, فكأنها مشرقة بالنور.
ونور الوجه لا يقصد به البشرة البيضاء، ولكن نور الوجه في المؤمن يكون بإشراقة الإيمان في النفس، ولذلك يصف الحق المؤمنين برسالة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ} [الفتح: 29].
فحتى لو كان المؤمن أسود اللون فإن له سمة على وجهه.
كيف؟
لماذا؟
لأن الإنسان مكون من أجهزة، ومكون من ذرات، وكل جهاز في الإنسان له مطلوب محدد وساعة أن تتجه كل الأجهزة إلى ما أراده الله، فإن الذي يحدث للإنسان هو انسجام كل أجهزته، وما دامت الأجهزة منسجمة فإن النفس تكون مرتاحة، ولكن عندما تتضارب مطلوبات الأجهزة، تكون السحنة مكفهرة.
عندما قال عيسى: {مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ} [آل عمران: 52] سمع الاستجابة من الحواريين، والحواريون قوم لهم إشراقات انسجام النفس مع الإيمان، أو هم قوم بيض المعاني, أي أن معانيهم بيضاء ومشرقة.
والنبي صلى الله عليه وسلم سمى بعضاً من صحابته حواري رسول الله, وهم الذين جعلهم رسول الله معه طوال الوقت.
وحين قال الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ} [آل عمران: 52] كان ذلك يعني أن كل إنسان منهم يريد نصرة الله.
فينضم إلى الله ناصراً للمنهج, وهذا يتطلب أن يعرف كل منهم المنهج.
ونحن نعرف مقومات النصرة لله.
إنه الإيمان: وما الإيمان؟
إنه اطمئنان القلب إلى قضية ما، هذا هو الإيمان في عمومه.
فلو لم أكن مؤمناً بأن الطريق الذي أسير فيه موصلٌ إلى غاية مطلوبة لي لما سرت فيه. مثال ذلك المسافر من القاهرة إلى دمياط لو لم يعتقد صحة الطريق لما سلك هذا الطريق، وإن لم اعتقد أنني إن لم أذاكر دروسي سوف أرسب لما ذاكرت.
إذن فكل أمر في الدنيا يتم بناؤه على الإيمان، لكن إذا أُطلق الإيمان بالمعنى الخاص، فهو اطمئنان القلب إلى قمة القضايا، وهي الإيمان بالله، لذلك فأسلحة النصر إلى الله هي: إسلام كل جوارح الإنسان إلى الله.
ولذلك قال الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ, آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].
لماذا يشهد الرسول لهم؟
لأن المفروض في الرسول أن يبلغ القوم عن الله، فيشهد عليهم كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ} [الحج: 78].
ولنا أن نلحظ أن الحق أورد على لسانهم -الحواريين- الإيمان أولاً، لأنه أمر غيبي عقدي في القلب، وجاء من بعد ذلك على لسان الحواريين طلب الشهادة بالإسلام؛ لأن الإسلام خضوع لمطلوبات الإيمان وأحكامه.
إن قولهم: {وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] هو أيضاً طلب منهم يسألونه لعيسى ابن مريم أن يبلغهم كل مطلوبات الإسلام قل لنا افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا إنهم قالوا: "آمنا" وما داموا قد أعلنوا الإيمان بالله، فهم آمنوا بمن بلغهم عن الله، والمطلوب من عيسى ابن مريم أن يشهد بأنهم مسلمون، ولا تتم الشهادة إلا بعد أن يبلغهم كل الأحكام وقد بلغهم ذلك وعملوا به وقالوا من بعد ذلك: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ...}. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 051-055 الأحد 21 أبريل 2019, 11:29 pm | |
| رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [٥٣] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
فهل يكون إعلانهم للإيمان، يعني إيمانهم بتشريعات رسالة سابقة، لا، إن الإيمان هنا مقصود به ما جاء به عيسى من عند الله؛ لأن كل رسول جاء بشيء من الله، فوراء مجيء رسول جديد أمر يريد الله إبلاغه للناس، ونحن نعلم أن العقائد لا تغيير فيها؛ وكذلك الأخبار؛ وكذلك القصص، ولكن الأحكام هي التي تتغير.
فكأن إعلان الحواريين هو إعلان بالإيمان بما جاء سابقاً على عيسى ابن مريم من عقائد وبما جاء به عيسى ابن مريم من أحكام وتشريعات.
وقولهم: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ} [آل عمران: 53] كلمة "بما أنزلت" تدل على منهج منزل من أعلى إلى أدنى، ونحن حين نأخذ التشريع فنحن نأخذه من أعلى.
ولذلك قلنا سابقاً: إن الله حينما ينادي من آمن به ليتبع مناهج الإيمان يقول: "تعالوا" أي ارتفعوا إلى مستوى التلقي من الإله وخذوا منه المنهج ولا تظلوا في حضيض الأرض، أي لا تتبعوا أهواء بعضكم وآراء بعضكم أو تشريع بعضكم، وما دام المؤمن يريد العلو في الإيمان، فليذهب بسلوكه في الأرض إلى منهج السماء.
وقولهم: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ} [آل عمران: 53].
إن المتبع عادة يقتنع بمن اتبعه أولاً، حتى يكون الاتباع صادراً من قيم النفس لا من الإرغام قهراً أو قسراً، فنحن قد نجد إنساناً يرغم إنساناً آخر على السير معه، وهنا لا يقال عن المُرغَم: إنه "اتبع" إنما الذي يتبع، أي الذي يسير في نفس طريق صاحبه يكون ذلك بمحض إرادته ومحض اختياره.
فلو سار شخص في طريق شخص آخر بالقهر أو القسر لكان ذلك الاتباع بالقالب، لا بالقلب.
ولذلك فمن الممكن لمتجبر أن يمسك سوطاً ويقهر مستضعفاً على السير معه، وفي ذلك إخضاع لقالب المستضعف، لكنه لم يخضع قلبه، فالإكراه يخضع القالب لكنه لا يخضع القلب.
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
إن الحق يخبر رسوله أن أحدا من العباد.
لا يستعصي على خالقه، وأنه سبحانه القادر على الإحياء والإماتة، ولو أراد الله أن ينزل آية تخضع أعناق كل العباد لَفَعَل، لكن الحق لا يريد أعناق الناس، ولكنه يطلب القلوب التي تأتي طواعية وبالاختيار، وأن يأتي العبد إلى الإيمان وهو قادر ألا يجيء.
هذه هي العظمة الإيمانية.
وقال الحواريون بعد إعلانهم الإيمان بما جاء به عيسى: {فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] إنه الطلب الإيماني العالي الواعي، الفاهم.
إنهم يحملون أمانة التبليغ عن الرسول، ويشهدون كما يشهد الرسل لأممهم، ويطلبون أن يكتبهم الله مع الذين يشهدون أن الرسل يبلغون رسالات الله وأنهم يحملونها من بعدهم؛ ولذلك قلنا عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام: إنها الأمة التي حملها الله مهمة وصل بلاغ الرسالة المحمدية إلى أن تقوم الساعة.
لماذا؟
ها هو ذا القول الحق: {وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ} [الحج: 78].
ولذلك فلن يأتي أنبياء أو رسل من بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لقد ائتمن الله أمة محمد؛ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لذلك فلا نبوة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك يخبرنا الحق: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ...}. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 051-055 الأحد 21 أبريل 2019, 11:34 pm | |
| وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [٥٤] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
إن الأشياء التي يدركها العقل هي مسميات ولها أسماء وتكون أولاً بالحس؛ لأن الحس هو أول مصاحب للإنسان لإدراك الأشياء، وبعد ذلك تأتي المعاني عندما نكبر ونعرف الحقائق.
إن البداية دائماً تكون هي الأمور المحسة، ولذلك يقول الله عن المنهج الإيماني: إنه طريق مستقيم، أي أن نعرف الغاية والطريق الموصل إليها، وكلمة "الطريق المستقيم" من الأمور المحسة والتي يتعرف الناس عليها بالتطبيق لقواعد المنهج.
إن كلمة "مكر"، مأخوذة من الشجر، فساعة أن ترى الشجرة التي لا تلتف أغصانها على بعضها فإن الإنسان يستطيع أن يحكم أن ورقة ما، هي من فرع ما، ولكنْ هناك نوع من الأشجار تكون فروعه ملفوفة على بعضها بحيث لا يستطيع الإنسان أن يعرف أي ورقة من أي فرع هي، ومن هذا المعنى أخذنا كلمة "المكر" فالرجل الذي يلف ويدور، هو الذي يمكر، فالذي يلف على إنسان من أجل أن يستخلص منه حقيقة ما، والذي يحتال من أجل إبراز حقيقة، فإن كان ذلك بغير قصد الضرر نسميه حيلة، وإن كان بقصد الضرر فهذا هو المكر السيء. ولذلك فالحق يقول: {وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ ٱلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
ومعنى ذلك أن هناك مكراً غير سيء، أي أن المكر الذي لا يقصد منه إيقاع الضرر بأحد، فإننا نسميه مكرَ خير، أما المكر الذي يقصد منه إيقاع الضرر فهو "المكر السيء”.
ولنا أن نسأل: ما الذي يدفع إنساناً ما إلى المكر؟
إن الذي يمكر يداري نواياه، فقد يظهر لك الحب بينما هو مبغض، ويريد أن يزين لك عملاً ليمكر بك، فيحاول مثلاً أن يصحبك إلى مكان بعيد غير مأهول بالناس ويريد أن يوقع بك أبلغ الضرر، وقد يكون القتل.
إذن، فمن أسس المكر التبييت، والتبييت يحتاج إلى حنكة وخبرة، لأن الذي يحاول التبييت قد يجد قبالته من يلتقط خبايا التبييت بالحدس والتخمين، وما دام المكر يحتاج إلى التبييت، فإن ذلك علامة على الضعف في البشر لأن القوي لا يمكر ولا يكيد ولكن يواجه.
إن القوي لحظة أن يمسك بخصم ضعيف، فمن الممكن أن يطلقه، لأن القوي مطمئن إلى أن قوته تستطيع أن تؤذي هذا الضعيف.
لكن الضعيف حين يملك قوياً، فإنه يعتبر الأمر فرصة لم تتكرر.
ولذلك فالشاعر يقول: وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت كذلك قدرة الضعفاء
إن الضعيف هو الذي يمكر ويُبَيِّتْ.
والذي يمكر قد يضع في اعتباره أن خصمه أقوى منه حيلة وأرجح عقلاً، وقد ينكل به كثيراً، لذلك يخفي الماكر أمر مكره أو تبييته.
فإذا ما أراد خصوم المنهج الإيماني أن يمكروا، فعلى من يمكرون؟
إن الرسول لا يكون في المعركة بمفرده ولكن معه الله.
{يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9].
فالله يعلم ما يبيت أي إنسان، ولذلك فعندما يريد الله أن يبرز شيئاً ويوجده فلن يستطيع أحد أن يواجه إرادة الله وأمره، إذن فمكر الله لا قبل لأحد لمواجهته.
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].
وساعة تجد صفة تستبعد أن يوصف بها الله فاعلم أنما جاءت للمشاكلة فقط وليست من أسماء الله الحسنى، إن المؤمنين بإمكانهم أن يقولوا للكافرين: إنكم إن أردتم أن تبيتوا لنا، فإن الله قادر على أن يقلب المكر عليكم، أما أسماء الله وصفاته فهي توقيفية، نزل بها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا وجد فعل لله لا يصح أن نشتق نحن منه وصفاً ونجعله اسماً لله، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، فليس من أسماء الله مخادع، أو ماكر، إياك أن تقول ذلك، لأن أسماء الله وصفاته توقيفية، وجاء القول هنا بمكر الله كمقابل لفعل من البشر، ليدلهم على أنهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله، ولا يستطيعون أن يمكروا بالله، لأن الله إذا أراد أن يمكر بهم، فهم لا يستطيعون مواجهة ذلك.
إن الحق يقول: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].
إذن فهناك "مكر خير”.
وذلك دليل على أن هناك من يصنع المكر ليؤدي إلى الخير.
ولماذا تأتي هذه الآية هنا؟
لأن هناك معركة سيدخلها عيسى ابن مريم عليه السلام، وعيسى عليه السلام لم يجيء ليقاتل بالسيف ليحمي العقيدة، إنما جاء واعظاً ليدل الناس على العقيدة، إن النصرة لا تكون بالسيف فقط، ولكن بالحجة.
ونحن نعرف أن السماء كانت لا تطلب من أي رسول أن يحارب في سبيل العقيدة لأن السماء هي التي كانت تتولى التأديب.
{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
ولم يجيء قتال إلا حينما طلب بنو إسرائيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ} [البقرة: 246].
ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي التي أذن الله لها أن تحمل السيف لتؤدب به الذين يحولون دون بلوغ العقيدة الصحيحة للناس.
إن السيف لم يأت ليفرض العقيدة، إنما ليحمي الاختيار في النفس الإيمانية، فبدلاً من أن يترك الناس مقهورين على اعتناق عقيدة خاطئة فالمسلمون يرفعون السيف في وجه الظالم القاهر لعباد الله.
وعباد الله لهم أن يختاروا عقيدتهم.
ولذلك فعندما يقول أعداء الإسلام: "أن الإسلام انتشر بالسيف”.
نرد عليهم: إن الله قد بدأ الإسلام بضعف حتى يسقط هذا الاتهام، لقد كان المسلمون الأوائل ضعفاء لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فيتجه بعضهم إلى الحبشة، ويهاجرون بحثاً عن الحماية، فلو كان الإسلام قد انتشر بالسيف فلنا أن نسأل: من الذي حمل أول سيف ليكره أول مؤمن؟
إن المؤمنين رضوا الإسلام ديناً وهم في غاية الضعف ومنتهاه.
إن الإسلام قد بدأ واستمر وما زال يحيا بقوة الإيمان.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في أمة أمية، ومن قبيلة لها شوكتها، وشاء الحق ألا ينصر الله دينه بإسلام أقوياء قريش أولاً، بل آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم الضعفاء وخاض رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلة الدعوة الإيمانية مدة ثلاثة عشر عاماً، دعوة للإيمان بالله، ثم هاجر رسول الله إلى المدينة، إلى أن صار كل المسلمين وحدة إيمانية قوية، وارتفع السيف لا ليفرض العقيدة، ولكن ليحمي حرية اختيار الناس للعقيدة الصحيحة.
ولو أن الإسلام انتشر بالسيف.
فكيف نفسر وجود أبناء لديانات أخرى في البلاد المسلمة؟
لقد أتاح الإسلام فرصة اختيار العقيدة لكل إنسان.
إذن فكل مسلم يمثل وحدة إيمانية مستقلة، وواجب كل مسلم أن يعرف أن الإسلام قد انتشر بالأسوة الحسنة، وأنه كمؤمن بالله وبدين الله، قد اصطفاه الله ليطبق السلوك الإيماني، فقد مكن الله للإسلام في الأرض بالسلوك والقدوة.
إن كل مسلم عليه واجب ألا يترك في سلوكه ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام إلى الإسلام، ذلك أن اختلال توازن سلوك المسلم بالنسبة لمنهج الله هو ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام؛ ولذلك فالمفكرون في الأديان الأخرى حينما يذهبون إلى الإسلام، ويقتنعون به، إنما يقتنعون بالإسلام لأنه منهج حق.
إنهم يمحصونه بالعقل، ويهتدون إليه بالفطرة الإيمانية.
أما الذين يريدون الطعن في الإسلام، فهم ينظرون إلى سلوك بعض من المسلمين، فيجدون فيه من الثغرات ما يتهمون به الإسلام.
إن المفكرين المنصفين يفرقون دائماً بين العقيدة، ومتبع العقيدة، ولذلك فأغلب المفكرين الذين يتبعون هذا الاتجاه، يلجئون إلى الإسلام ويؤمنون به.
ولكن الذين يذهبون إلى الإسلام من جهة أتباعه، فإن صادفوا تابعاً للإسلام ملتزماً دعاهم ذلك إلى أن يؤمنوا بالإسلام، ولذلك كانت الجمهرة الكثيرة الوفيرة في البلاد الإسلامية المعاصرة في بلاد لم يدخلها فتح إسلامي، وإنما دخلتها الأسوة الإسلامية في أفراد تابعين ملتزمين، فراق الناس ما عليه هؤلاء المسلمون من حياة ورعة، ومن تصرفات مستقيمة جميلة، ومن أسلوب تعامل سمح أمين، نزيه، نظيف، كل ذلك لفت جمهرة الناس إلى الإسلام، وجعلهم يتساءلون: ما الذي جعلكم على هذا السلوك الطيب؟
قالوا: لأننا مسلمون.
وتساءل الناس في تلك المجتمعات: وما معنى الإسلام؟
وبدأ المسلمون يشرحون لهم الإسلام.
إذن، فالذي لفت إلى الإسلام هو السلوك المنهجي الملتزم، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حين يعرض منهج الدعوة الناجحة يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
والدعوة إلى الله تكون باللسان والعمل الصالح، ليدل المؤمن على أن ما يدعو إليه غيره قد وجده مفيداً فالتزمه هو، فالعمل الصالح هو شهادة للدعوة باللسان، ولا يكتفي المؤمن بذلك، إنما يعلن ويقول: "إنني من المسلمين" يقول ذلك لمن؟
يقوله لمن يرونه على السلوك السمح الرضى الطيب.
إنها لفتة من ذاته إلى دينه.
إن هذا يفسر لنا كيف انتشر الإسلام بوساطة جماعة من التجار الذين كانوا يذهبون إلى كثير من البلاد، وتعاملوا مع الناس بأدب الإسلام، وبوقار الإسلام، وبورع الإسلام، فصار سلوكهم الملتزم لافتاً، وعندما يسألهم القوم عن السر في سلوكهم الملتزم، يقول الإنسان منهم: أنا لم أجيء بذلك من عندي ولكن من اتباعي لدين الله الإسلام.
ومثال ذلك في السلوك الأسوة: المسلمون الأوائل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان صحابته رضوان الله عليهم يخافون عليه من خصومه، فكانوا يتناوبون حراسته، ومعنى تناوب الحراس أنهم أرادوا أن يكونوا مصداً للأخطار يتداولون ذلك فيما بينهم. وأراد الحق سبحانه أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة خفية، ونام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه مكان الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقد أراد علي -كرم الله وجهه- أن يكون هو المصد، فإذا جاء خطر فإنه هو الذي يصده. لا شك أنه كان يفعل ذلك لأنه واثق أن بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم خير للإسلام حتى ولو افتداه بروحه.
هذا هو التسامي العالي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان الواحد منهم يحب الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الأسوة بالرسول واتباع دين الله إنّما يعود ذلك عليه بالخير العميم.
وعندما يموت واحد منهم في سبيل المحافظة على من أرسله الله رسولاً ليبلغ دعوته فقد نال الشهادة في سبيل الله.
هذا هو أبو بكر الصديق رضوان الله عليه مع رسول الله في الغار.
ألم يجد الصديق شقوقاً فيقطع من ثيابه ليسد الشقوق؟
ألم يضع قدمه في شق لأنه يخشى أن تجيء حشرة من الحشرات قد تؤذي حضرة النبي صلى الله عليه وسلم؟
لقد أراد أن يحافظ على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو افتداه، وهذه شهادة بأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بأن بقاء الرسول خير لهم وللإيمان ولنفوسهم من بقائهم هم أنفسهم.
وهكذا أراد الله نصرة رسوله على الكفار، عندما مكروا وبيتوا أن يقتلوه قبل الهجرة، وهكذا أراد الله نصر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة عندما واجه أعداء الإسلام في القتال، لقد مكروا، ولكن الله خير الماكرين.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول بهذا النصر من الله: لن تستطيعوا أن تقاوموا محمداً لا بالمواجهة ولا بالتبييت.
وها هو ذا تابع من أتباعه صلى الله عليه وسلم هو سيدنا عمر رضي الله عنه يهاجر علنا، ويقول: من أراد أن تثكله أمه، أو ترمل زوجته، أو ييتم ولدُه، فليلقني وراء هذا الوادي.بينما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية.
لماذا؟
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة للضعيف.
إن القوي يستطيع حماية نفسه ويخرج إلى الهجرة مجاهراً.
أما الضعيف فلابد أن يهاجر خفية؛ لذلك فالأسوة للضعيف كانت في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد مكر أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الله مكر بهم.
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ} [إبراهيم: 46].
إن مكرهم رغم عنفه وشدته والذي قد يؤدي إلى زوال الجبال، هذا المكر يبور عند مواجهته لمكر الله الذي يحمي رسله وعباده الصالحين.
لقد جاء مكر بني إسرائيل وأنزل فيه الله قوله الحكيم: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].
لأنهم أرادوا أن يتخلصوا من سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام.
فقال الحق سبحانه: {إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ...}. |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 051-055 الأحد 21 أبريل 2019, 11:35 pm | |
| إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [٥٥] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
لقد جاء الحق سبحانه بعد عرضه لمسألة المكر بهذا القول الحكيم، وذلك دليل على أن عيسى عليه السلام أحس من بني إسرائيل الكفر، والتبييت، ومؤامرة للقتل فطمأن الله عيسى إلى نهاية المعركة.
{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55].
إنها أربعة مواقف، أرادها الله لعيسى ابن مريم عليه السلام ونريد أن نقف الآن عند كلمة قول الحق: "متوفيك”.
نحن غالباً ما نأخذ معنى بعض الألفاظ من الغالب الشائع، ثم تموت المعاني الأخرى في اللفظ ويروج المعنى الشائع فنفهم المقصد من اللفظ.
إن كلمة "التوفي" نفهمها على أنها الموت، ولكن علينا هنا أن نرجع إلى أصل استعمال اللفظة، فإنه قد يغلب معنى على لفظ، وهذا اللفظ موضوع لمعان متعددة، فيأخذه واحد ليجعله خاصاً بواحد من هذه.
إن كلمة "التوفي" قد يأخذها واحداً لمعنى "الوفاة" وهو الموت.
ولكن، ألم يكن ربك الذي قال: "إني متوفيك"؟
وهو القائل في القرآن الكريم: {وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60].
إذن "يتوفاكم" هنا بأي معنى؟
إنها بمعنى ينيمكم.
فالنوم معنى من معاني التوفي.
ألم يقل الحق في كتابه أيضاً الذي قال فيه: "إني متوفيك”.
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42].
لقد سمى الحق النوم موتاً أيضاً.
هذا من ناحية منطق القرآن، إن منطق القرآن الكريم بين لنا أن كلمة "التوفي" ليس معناها هو الموت فقط ولكن لها معان أخرى، إلا أنه غلب اللفظ عند المستعملين للغة على معنى فاستقل اللفظ عندهم بهذا المعنى، فإذا ما أطلق اللفظ عند هؤلاء لا ينصرف إلا لهذا المعنى، ولهؤلاء نقول: لا، لابد أن ندقق جيداً في اللفظ ولماذا جاء؟
وقد يقول قائل: ولماذا يختار الله اللفظ هكذا؟
والإجابة هي: لأن الأشياء التي قد يقف فيها العقل لا تؤثر في الأحكام المطلوبة ويأتي فيها الله بأسلوب يحتمل هذا، ويحتمل ذلك، حتى لا يقف أحد في أمر لا يستأهل وقفة.
فالذي يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رفعه الله إلى السماء ما الذي زاد عليه من أحكام دينه؟
والذي لا يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رُفع، ما الذي نقص عليه من أحكام دينه، إن هذه القضية لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين، لكن العقل قد يقف فيها؟
فيقول قائل: كيف يصعد إلى السماء؟
ويقول آخر: لقد توفاه الله.
وليعتقدها أي إنسان كما يريد لأنها لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين.
إذن، فالأشياء التي لا تؤثر في الحكم المطلوب من الخلق يأتي بها الله بكلام يحتمل الفهم على أكثر من وجه حتى لا يترك العقل في حيرة أمام مسألة لا تضر ولا تنفع.
وعرفنا الآن أن "توفي" تأتي من الوفاة بمعنى النوم من قوله سبحانه: {وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60].
ومن قوله سبحانه وتعالى: {ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42].
إن الحق سبحانه قد سمى النوم موتاً لأن النوم غيب عن حس الحياة.
واللغة العربية توضح ذلك، فأنت تقول -على سبيل المثال- لمن أقرضته مبلغاً من المال، ويطلب منك أن تتنازل عن بعضه لا، لابد أن أستوفي مالي، وعندما يعطيك كل مالك، تقول له: استوفيت مالي تماماً، فتوفيته، أي أنك أخذته بتمامه.
إذن، فمعنى "متوفيك" قد يكون هو أخذك الشيء تاماً.
أقول ذلك حتى نعرف الفرق بين الموت والقتل، كلاهما يلتقي في أنه سلب للحياة، وكلمة "سلب الحياة" قد تكون مرة بنقض البنية، كضرب واحد لآخر على جمجمته فيقتله، هذا لون من سلب الحياة، ولكن بنقض البنية.
أما الموت فلا يكون بنقض البنية، إنما يأخذ الله الروح، وتبقى البنية كما هي، ولذلك فرق الله في قرآنه الحكيم بين "موت" و "قتل" وإن اتحدا معاً في إزهاق الحياة.
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
إن الموت والقتل يؤدي كل منهما إلى انتهاء الحياة، لكن القتل ينهي الحياة بنقض البنية، ولذلك يقدر بعض البشر على البشر فيقتلون بعضهم بعضاً.
لكن لا أحد يستطيع أن يقول: "أنا أريد أن يموت فلان"، فالموت هو ما يجريه الله على عباده من سلب للحياة بنزع الروح.
إن البشر يقدرون على البينة بالقتل، والبينة ليست هي التي تنزع الروح، ولكن الروح تحل في المادة فتحيا، وعندما ينزعها الله من المادة تموت وترم أي تصير رمة.
إذن، فالقتل إنما هو إخلال بالمواصفات الخاصة التي أرادها الله لوجود الروح في المادة، كسلامة المخ أو القلب.
فإذا اختل شيء من هذه المواصفات الخاصة الأساسية فالروح تقول: "أنا لا أسكن هنا”. إن الروح إذا ما انتزعت، فلأنها لا تريد أن تنتزع.
لأي سبب ولكن البنية لا تصلح لسكنها.
ونضرب المثل ولله المثل الأعلى: إن الكهرباء التي في المنزل يتم تركيبها، وتعرف وجود الكهرباء بالمصباح الذي يصدر منه الضوء.
إن المصباح لم يأت بالنور، لأن النور لا يظهر إلا في بنية بهذه المواصفات بدليل أن المصباح عندما ينكسر تظل الكهرباء موجودة، ولكن الضوء يذهب.
وكذلك الروح بالنسبة للجسد.
إن الروح لا توجد إلا في جسد له مواصفات خاصة.
وأهم هذه المواصفات الخاصة أن تكون خلايا البنية مناسبة، فإن توقف القلب، فمن الممكن تدليكه قبل مرور سبع ثوان على التوقف، لكن إن فسدت خلايا المخ، فكل شيء ينتهي لأن المواصفات اختلت.
إذن، فالروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات خاصة، والقتل وسيلة أساسية لهدم البنية؛ وإذهاب الحياة، لكن الموت هو إزهاق الحياة بغير هدم البنية، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى.
ولكن خلق الله يقدرون على البينة، لأنها مادة ولذلك يستطيعون تخريبها.
إذن، "فمتوفيك" تعني مرة تمام الشيء، "كاستيفاء المال" وتعني مرة "النوم”.
وحين يقول الحق: "إني متوفيك" ماذا يعني ذلك؟
إنه سبحانه يريد أن يقول: أريدك تاماً، أي أن خلقي لا يقدرون على هدم بنيتك، إني طالبك إلي تاماً، لأنك في الأرض عرضة لأغيار البشر من البشر، لكني سآتي بك في مكان تكون خالصاً لي وحدي، لقد أخذتك من البشر تامّاً، ومعنى "تاماً"، أي أن الروح في جسدك بكل مواصفاته، فالذين يقدرون عليه من هدم المادة لن يتمكنوا منه.
إذن، فقول الحق: "ورافعك إلي" هذا القول الحكيم يأتي مستقيماً مع قول الحق: "متوفيك”.
وقد يقول قائل: إني رافعك إليّ ثم أتوفاك بعد ذلك.
ونقول أيضاً: من الذي قال: إن "الواو" تقتضي الترتيب في الحدث؟
ألم يقل الحق سبحانه: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16].
هل جاء العذاب قبل النذر أو بعدها؟
إن العذاب إنما يكون من بعد النذر.
إن "الواو" تفيد الجمع للحدثين فقط.
ألم يقل الله في كتابه أيضاً: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب: 7].
إن "الواو" لا تقتضي ترتيب الأحداث، فعلى فرض أنك قد أخذت "متوفيك" أي "مميتك"، فمن الذي قال: إن "الواو" تقتضي الترتيب في الحدث؟
بمعنى أن الحق يتوفى عيسى ثم يرفعه.
فإذا قال قائل: ولماذا جاءت "متوفيك" أولاً؟
نرد على ذلك: لأن البعض قد يظن أن الرفع تبرئة من الموت.
ولكن عيسى سيموت قطعاً، فالموت ضربة لازب.
ومسألة يمر بها كل البشر.
هذا الكلام من ناحية النص القرآني.
فإذا ما ذهبنا إلى الحديث وجدنا أن الله فوّض رسوله صلى الله عليه وسلم ليشرح ويبين، ألم يقل الحق: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. فالحديث كما رواه البخاري ومسلم: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم)؟
إي أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن ابن مريم سينزل مرة أخرى.
ولنقف الآن وقفة عقلية لنواجه العقلانيين الذين يحاولون إشاعة التعب في الدنيا فنقول: يا عقلانيون أقبلتم في بداية عيسى أن يوجد من غير أب على غير طريقة الخلق في الإيجاد والميلاد؟
سيقولون نعم.
هنا نقول: إذا كنتم قد قبلتم بداية مولده بشيء عجيب خارق للنواميس فكيف تقفون في نهاية حياته إن كانت خارقة للنواميس؟
إن الذي جعلكم تقبلون العجيبة الأولى يمهد لكم أن تقبلوا العجيبة الثانية.
إن الحق سبحانه يقول: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ..} [آل عمران: 55].
إنه سبحانه يبلغ عيسى إنني سآخذك تاماً غير مقدور عليك من البشر ومطهرك من خبث هؤلاء الكافرين ونجاستهم، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.
وكلمة "اتبع" تدل على أن هناك "مُتَّبعاً" يتلو مُتّبعا.
أي أن المتبِعَّ هو الذي يأتي بعد، فمن الذي جاء من بعد عيسى بمَنهج من السماء؟
إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن على أي منهج يكون الذين اتبعوك؟
أعلى المنهج الذي جاؤا به أم المنهج الذي بلغته أنت يا عيسى؟
إن الذي يتبعك على غير المنهج الذي قلته لن يكون تبعاً لك، ولكن الذي يأتي ليصحح الوضع على المنهج الصحيح فهو الذي اتبعك.
وقد جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحح الوضع ويبلغ المنهج كما أراده الله.
{وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] فإن أخذنا المعنى بهذا؛ فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي التي اتبعت منهج الله الذي جاء به الرسل جميعاً، ونزل به عيسى أيضاً، وأن أمة محمد قد صححت كثيراً من القضايا التي انحرف بها القوم.
نقول ليس المراد هنا من "فوق" الغلبة والنصر، ولكننا نريد من "فوق" الحجة والبرهان.
وذلك إنما يحدث في حالة وجود قوم منصفين عقلاء يزنون الأمور بحججها وأدلتها وهم لن يجدوا إلا قضية الإسلام وعقيدة الإسلام.
إذن، فالفوقية هي فوقية ظهور دليل وقوة برهان.
ولذلك قال الحق سبحانه: {هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
وفي موقع آخر من القرآن الكريم، يؤكد الحق ظهور الإسلام على كافة الأديان وهو الشاهد على ذلك: {هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً} [الفتح: 28].
ومعنى ذلك أن الله قد أراد للإسلام أن يظهر على كل الأديان.
وقد يقول قائل: إن في العالم أدياناً كثيرة، ولم يظهر عليها الإسلام، والموجودون من المسلمين في العالم الآن مليار وأضعاف ذلك من البشر على ديانات أخرى.
نقول لمثل هذا القائل: إن الله أراد للإسلام أن يظهره إظهار حجة، لا من قِبَلِكم أنتم فقط ولكن من قِبَلهم هم كذلك، والناس دائماً حين يجتمعون ليشرعوا القوانين وليحددوا مصالح بعضهم بعضاً، يلجأون أخيراً إلى الإسلام.
فلننظر إلى من يشرع من جنس تشريع الأرض ولنسأل أرأيت تشريعاً أرضياً ظل على حاله؟
لا، إن التشريع الأرضي يتم تعديله دائماً.
لماذا لأن الذي وضع التشريع الأول لم يكن له من العلم ما يدله على مقتضيات الأمور التي تَجدّ، فلما جَدّت أمور في الحياة لم تكن في ذهن من شرع أولاً، احتاج الناس إلى تعديل التشريع.
ولنمسك بأي قانون بشري معدل في أي قضية من قضايا الكون، ولننظر إلى أي اتجاه يسير؟
إنه دائماً يتجه إلى الإسلام، وإن لم يلتق مع الإسلام فإنه يقرب من الإسلام.
وعندما قامت في أوروبا ضجة على الطلاق في الإسلام، ما الذي حدث؟
جاء التشريع بالطلاق في إيطاليا تحت سمع وبصر الفاتيكان.
هل شرعوا الطلاق لأن الإسلام أباح الطلاق؟
لا.
إنما شرعوه لأن أمور الحياة أخضعتهم إلى ضرورة تشريع الطلاق، فكأنهم أقاموا الدليل بخضوعهم لأمور الحياة على أن ما جاء به الإسلام قبل التجربة كان حقاً.
بدليل أن أوربا لجأت إلى تشريع الطلاق لا كمسلمين ولكن لأن مصالح حياتهم لا تتأتى إلا به. وهل هناك ظهور وغلبة أكثر من الدليل الذي يأتي من الخصم؟
تلك هي الغلبة.
لقد وصلوا إلى تشريع الطلاق، رغم كراهيتهم للإسلام كدليل على صدق ما جاء به الإسلام.
وفي الربا، الذي يريد البعض هنا أن يحلله، تجد أوربا تحاول التخلص منه، لأنهم توصلوا بالتجربة إلى أن المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى الصفر أي أنهم عرفوا أن إلغاء الربا ضروري حتى يؤدي المال وظيفته الحقيقية في الحياة، والذي ألجأهم إلى الوصول إلى هذه الحقيقة هو أن فساد الحياة سببه الربا، فأرادوا أن يمنعوا الربا.
لقد وصلوا إلى ما بدأ به الإسلام من أربعة عشر قرناً.
أتريد غلبة، وتريد فوقاً، وتريد ظهوراً، أكثر من هذا بالنسبة لدين الله؟
إذن، ففهم الخصوم ما يصلح أمر الحياة اضطرهم إلى الأخذ بمبادئ الإسلام ونتابع بالتأمل قول الحق: {وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55]، أي أن الحق جاعل الذين ساروا على المنهج الأصيل القادم من الله فوق الذين كفروا.
فالذين يقولون فيك يا عيسى ابن مريم ما لا يقال من ألوهية، هل اتبعوك؟
لا.
لم يتبعوك.
إن الذي يتبع عيسى هو الذي يأتي على المنهج القادم من الله.
إن عيسى ابن مريم رسول إلى بني إسرائيل.
وديانات السماء لا تأتي لعصبيات الجنس أو القومية أو الأوطان أو غير ذلك، ولكن المنهج هو الذي يربط الناس بعضهم ببعض؛ ولذلك جاء لنا الحق بقصة سيدنا نوح لنتعرف على هذه المعاني.
لقد وعد الله سيدنا نوحاً أن ينجي له أهله.
وعندما دعا نوح عليه السلام ابنه ليركب معه: ولكن ابن نوح رفض، فقال نوح عليه السلام لله: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ} [هود: 45].
فهل الأهلية بالنسبة للأنبياء هي التي قالها نوح هل أهلية الدم؟
لا، لأن الحق قال: {قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ} [هود: 46].
لماذا؟
لأن أهل النبوة هم المؤمنون بها فالذين اتبعوا المنهج الذي جاء به المسيح من عند الله ليس من يطلق على نفسه النسب للمسيح، ومن يطلق على نفسه أنه يهودي إن هذه أسماء فقط.
إن المتبع الحق هو من يتبع المنهج المنزل من عند الله.
إن الأنبياء ميراثهم المنهج والعلم.
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سليمان وهو فارسي لا يجتمع مع رسول الله في أرومة عربية: "سلمان منا آل البيت“.
وهكذا انتسب سلمان إلى آل البيت بحكم إيمانه، وبنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن: "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، أي أن الحق سبحانه قد جعل الفوقية للذين يتبعون المنهج الحق القادم من عند الله.
والذي يصوب منهج عيسى هو محمد رسول الله هل تكون الفوقية هي فوقية مساحة جغرافية؟
لأن رقعة من الأرض التي تتبع الديانات الأخرى غير الإسلام أكبر مساحة من رقعة أرض المؤمنين بالإسلام؟
لا.
فالفوقية تكون فوقية دليل.
وقد يقول قائل: إن الدليل لا يلزم.
نرد قائلين: كيف لا يلزم الدليل؟
ونحن نرى الذين لا يؤمنون به يدللون عليه.
كيف يدللون عليه؟
إنهم يسيرون فيما يقننون من قوانين البشر إلى ما سبق إليه تقنين السماء.
وما دام هنا في هذه الآية كلمة "فوق" وكلمة "كفروا" وهناك أتباع, إذن، فهناك قضية وخصومة، وهناك حق، وهناك باطل، وهناك هدى، وهناك ضلال.
فلابد من الفصل في هذه القضية.
ويأتي الفصل ساعة ألا يوجد للإنسان تصرف إرادي لا على ذات نفسه ولا على سواه.
إن الظالمين يستطيعون التصرف في الأرض، لكن عندما يكون المرجع إلى الله فالله يقول: أنا ملكتكم وأنتم عصاة لي في كثير من الأسباب، لكن هناك وقت تزول فيه ملكيتكم للأسباب.
إذن.
فالظالم قد يتحكم على الأرض وكذلك الباطل لأن الله أوجد لنا جميعاً إرادات ومرادات اختيارية.
لكن في يوم القيامة فلا إرادات إلا إرادة الله: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ} [غافر: 16].
إذن فالحكم قادم بدون منازع.
والذي يدل على ذلك قوله الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} [البقرة: 166-167].
إن الذي اتبع واحداً على ضلال يأتي يوم القيامة ليجد أن صاحب الضلال يتبرأ منه، فيقول المتبعون سائلين الله: يارب ارجعنا إلى الدنيا لننتقم ممن خدعونا، هذا من ناحية علاقة البشر بالبشر.
أما من ناحية الجسد الواحد نفسه، فسوف نجد شهادة الجلود والألسنة والأيدي، بعد أن تسقط عنها إرادة الإنسان ويسقط تسخير الحق لهذه الجوارح والحواس لخدمة الإنسان، تقول الجوارح والحواس: لقد كانت لصاحبي إرادة ترغمني على أن أفعل ما لا أحب، لكن ها هو ذا يوم القيامة، فلا قهر ولا إرغام ولا تسخير لأن الملك كله لله.
لذلك تشهد الألسنة والجلود ولهذا يقول الحق: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55].
إن الحق يحكم فيما كانوا فيه يختلفون لتكون ثمرة الحكم هي ماذا؟
هل هناك تكليف بعد ذلك؟
لا.
لكن ثمرة الحكم هي الجزاء.
ففي الآخرة لا عمل هنالك، والحكم فيها للجزاء، وكما قلنا: ما دام هناك متبعون وكافرون، وجماعة فوق جماعة، وإلى الله مرجعهم، فلابد لنا أن نرى ما هو الحكم الذي سوف يكون؟
ها هو ذا القول الحكيم: {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ...}. |
|