منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers (إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..) |
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)
(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.
|
|
| سورة آل عمران الآيات من 016-020 | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة آل عمران الآيات من 016-020 السبت 20 أبريل 2019, 6:22 am | |
| الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [١٦] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
إن قولهم: {رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا} [آل عمران: 16] هو أول مرتبة للدخول على باب الله، فكأن الإيمان بالله يتطلب رعاية من الذي تلقى التكليف لحركة نفسه، لأن الإيمان له حق يقتضي ذلك، كأن المؤمن يقول: أنا ببشرتي لا أستطيع أن أوفي بحق الإيمان بك، فيارب اغفر لي ما حدث لي فيه من غفلة، أو زلة، أو مِنْ كِبْر، أو من نزوة نفسي.
وهذا الدعاء دليل على أنه عرف مطلوب الإيمان كما أوضحه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيانه لمعنى الإحسان حين قال: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
كأن تستحضر الله في كل عمل؛ لأنه يراك.
وهل يتأتى لواحد من البشر أن يجترئ على محارم من يراه بعينه؟
حينئذ يستحضر المؤمن ما جاء إلينا من مأثور القول، كأنه سبحانه وتعالى يوجه إلينا الحديث: يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم.
وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟
وكأن الحق سبحانه يقول للعبد: هل أنا أقل من عبيدي؟
أتقدر أن تسيء إلى أحد وهو يراك؟
إذن فكيف تجرؤ على الإساءة لخالقك؟
إن قول المؤمنين: {إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا} [آل عمران: 16] دليل على أنهم علموا أن الإيمان مطلوباته صعبة.
{ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 16].
فلنر على ماذا رتبوا غفران الذنب؟
لقد رتبوا طلب غفران الذنب على الإيمان.
لماذا؟
لإنه ما دام الحق سبحانه وتعالى قد شرع التوبة، وشرع المغفرة للذنب، فهذا معناه أنه سبحانه قد علم أزلاً أن عباده قد تخونهم نفوسهم، فينحرفون عن منهج الله.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله على ألسنة المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} [آل عمران: 16] لأنه ساعة أن أعلم أن الحق سبحانه وتعالى ضمن لي بواسع مغفرته أن يستر عليّ الذنب، فإن العبد قد يخجل من ارتكاب الذنب، أو يسرع بالاستغفار.
ولماذا لا يكون قوله {فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 16] بمعنى استرها يارب عنا فلا تأتي لنا أبداً؟
وإن جاءت فهي محل الاستغفار والتوبة.
فإذا أذنبت ذنباً، واستغفرت ربي، وعلمت أن ربي قد أذن بالمغفرة؛ لأنه قال: {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10].
فإن الوجل يمتنع، والخوف يذهب عني، وأقبل على الله بمحبة على تكاليفه وأحمل نفسي على تطبيق منهج الله كله.
ولذلك حينما شرع الله الحق سبحانه وتعالى للخلق التوبة كان ذلك رحمة أخرى.
وهذه الرحمة الأخرى تتجلى في المقابل والنقيض.
هب أن الله لم يُشرع التوبة وأذنب واحد ذنباً، وبمجرد أن أذنب ذنباً خرج من رحمة الله، فماذا يُصيب المجتمع منه؟
إن كل الشرور تصيب المجتمع من هذا الإنسان لأنه فقد الأمل في نفسه، أما حينما يفتح الله له باب التوبة فإن ارتكب العبد ذنباً ساهياً عن دينه، فإنه يرجع إلى ربه.
وتلك واقعية الدين الإسلامي، فليس الدين مجرد كلام يقال، ولكنه دين يقدر الواقع البشري، فإنه -سبحانه- يعلم أن العباد سيرتكبون الذنوب، فيرسم لهم أيضاً طريق الاستغفار.
فإذا ما ارتكب العباد ذنوباً، فإن الحق يطلب منهم أن يتوبوا عنها.
وأن يستغفروا الله.
فإذا ما لذعتهم التوبة حينما يتذكر الذنب فإن هذه اللذعة كلما لذعتهم أعطاهم الله حسنة.
كأن غفران الذنب شيء، والوقاية من النار شيء آخر.
كيف؟ لأنه ساعة أن يعلم العبد أن الحق سبحانة وتعالى ضمن للعبد مغفرته، وهو الخالق المربي، فإن العبد يذهب إلى الله مستغفراً طامعاً في المغفرة والرحمة.
إنها دعوة المؤمنين إن كانوا قد نسوا أن يستغفروا لأنفسهم.
لماذا؟
لأن الاستغفار من الذنب تكليف من الله.
وكما قلنا: إن الإنسان قد ينسى بعضاً من التكاليف، لذلك فمن الممكن أن يسهو عن الاستغفار، ولذا يقول الحق على ألسنة عباده المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} [آل عمران: 16].
ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقاية، أو تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية، فإذا ما أخذت النعم من الله لتصرفها في منهج الله تكون حسنة لك، وقلنا: إن "اتقوا الله" و"اتقوا النار" ملتقيتان، لأن معنى "اتقوا النار" كي لا تصيبكم بأذى، و "اتقوا الله" تعني أن نضع بيننا وبين غضب الله وقاية، لأن غضب الله سيأتي.
وبعد ذلك يقول الحق: {ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ...}. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 016-020 السبت 20 أبريل 2019, 6:38 am | |
| الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [١٧] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
وهذه كلها صفات للذين اتقوا الله، وأعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والأزواج المطهرة، ورضوان من الله أكبر، وهم صابرون وصادقون وقانتون ومنفقون في سبيل الله، ومستغفرون بالأسحار. وصابرون على ماذا؟
إنهم صابرون على تنفيذ تكاليف الله، لأننا أول ما نسمع عن التكليف فلنعلم أن فيه كلفة ومشقة, والتكاليف الشرعية فيها مشقة لأنها قيدت حركة العبد.
لقد خلقك الحق خلقاً صالحاً لأن تفعل كذا أو لا تفعل.
فساعة يقول لك: افعل.
فإنه قد سَدَّ عليك باب "لا تفعل" وساعة يقول لك الحق: لا تفعل فإنه يكون قد سد عليك باب "افعل"، وهكذا يكون تقييد حركتك وتقييد المخلوق على هيئة الاختيار فيه مشقة، فإذا جاء أمر الله بـ "افعل" فقد يكون الفعل في ذاته شاقاً، فإن صبرت على مشقة الفعل الذي جاء بوساطة "افعل" فأنت صابر، لأنك صبرت على الطاعة.
وقد تصبر على المعصية، عندما يلح عليك شيء فيه غضب الله فترفض أن ترتكب الذنب، فتكون قد صبرت عن ارتكاب الذنب.
إذن ففي "افعل" صبر على مشقتها، وفي "لا تفعل" صبر عنها، فالصابرون لهم اتجاهان اثنان، لأن التكليف إما أن يكون بافعل، وإما أن يكون بلا تفعل.
فساعة يأتي التكليف بافعل فقد تأتي المشقة.
وعندما تنفذ التكليف بافعل فأنت قد صبرت على المشقة.
وعندما يأتي التكليف بـ "لا تفعل" كأمر الحق بعدم شرب الخمر، أو "لا تسرق" فأنت قد صبرت عنها.
إذن فـ "افعل" ولا "تفعل" قد استوعبت نَوْعَيْ التكليف، وبقيت بعد ذلك أحداث لا تدخل في نطاق افعل ولا تفعل، وهي ما ينزل عليك نزولاً قدرياً بدون اختيار منك بل هي القهرية والقسرية.
فساعة أن يطلب منك أن تفعل، أي إنه قد خلقك صالحاً ألا تفعل كما قلنا من قبل.
إلاّ إن كنت مجبراً على الفعل فقط.
وكذلك إذا قال لك الحق: "لا تفعل”.
والشيء القدري الذي لا صلاحية فيه للاختيار ماذا يفعل فيه المؤمن؟
إنه يصبر على الآلآم والمتاعب لأنه آمن بالله ربا، والرب هو الذي يتولى تربية المربى لبلوغه حد الكمال المنشود له، فإذا جاء لك الحق بأمر لا خيار لك فيه، كالمرض أو الكوارث الطارئة، كوقوع حجر من أعلى أو إصابة برصاصة طائشة، فكل ذلك هي أمور لا دخل لـ "افعل" ولا "تفعل" فيها.
وهناك يكون الصبر على مثل هذه الأمور هو إيمان بحكمة من أجراها عليك.
لأن الذي أجراها رب، وهو الذي خلقني فأنا صنعته.
وما رأينا أحدا يفسد صنعته أبدا.
فإذا ما جاء أمر على الإنسان بدون اختيار منه، فالذي أجراه له فيه حكمة, فإن صبر الإنسان على هذه الآلام فإنه يدخل في باب الصابرين.
إذن، فالصابرون أنواع هم: صابر على الطاعة ومشاقها، صابر على المعاصي ومغرياتها، صابر على الأحداث القدرية التي تنزل عليه بدون اختيار منه.
وإذا رأيت إنساناً قد صبر على أمر الطاعة وصبر عن شهوة المعصية وصبر على الأقدار النازلة به، فاعرف حبه لربه ورضاه عنه.
ونأتي بعد ذلك لوصف آخر يقول الله فيه : "الصابرين" و "الصادقين”.
والصدق كما نعلم يقابله الكذب، والصدق كما نعرف حقيقته: يأتي حين توافق النسبة الكلامية التي يتكلم بها الإنسان، النسبة الأخرى الخارجية الواقعة في الكون.
فإن قلت: "حصل كذا وكذا" فتلك نسبة كلامية صدرت من متكلم، فإن وافقها الواقع بأنه حصل كذا وكذا فعلاً يكون المتكلم صادقاً.
وإن لم يكن الواقع موافقاً لحدوث ما أخبر به يكون المتكلم كاذباً.
لماذا؟
لأن كلام المتكلم العاقل لا بد له من نسب ثلاث: الأولى وهي النسبة الذهنية: فقبل أن أتكلم أعرض الأمر على ذهني، وذهني هو الذي يعطي الإشارة للساني ليتكلم، هذه هي النسبة الأولى واسمها "نسبة الذهن”.
وقد يعن لي أن تأتي النسبة الذهنية ثم أعدل عنها فلا أتكلم، فتكون النسبة الذهنية قد وُجِدَت، والنسبة الكلامية لم توجد.
وقد أصر على أن أبرز إشارة ذهني على لساني فأقول النسبة الكلامية.
ونأتي بعد النسبة الكلامية لنرى: هل الواقع أن ما حدث وتحدثت به وقع أم لم يقع؟ فإن كان قد وقع، يكون الكلام مني صدقاً.
وإن لم يكن قد وقع، وكانت النسبة الخارجية على عكس ما أخبرت به.
فإننا نقول: "هذا كلام كذب" إذن: فالصدق: هو أن تطابق النسبة الكلامية الواقع.
والكذب: هو ألا تطابق النسبة الكلامية الواقع وكثيراً ما يخطىء الناس في فهم الواقع فيجدون تناقضاً في بعض الأساليب.
مثال ذلك، حينما تعرض بعض المستشرقين لقول الحق سبحانه وتعالى: {إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ} [المنافقون: 1].
تلك نسبة كلامية صدرت منهم، فهل هي مطابقة للواقع أم هي مخالفة له؟ إنها مطابقة للواقع.
ويؤكد الحق ذلك بقوله: {وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1].
وبعد ذلك يقول الحق سبحانة: {وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
ففيم كذب المنافقون؟ هل كذبوا في قولهم: "إنك لرسول الله"؟ لا.
إن الحق لم يكذبهم في قولهم: "إنك لرسول الله"؛ لأن الله قد أيد هذه الحقيقة بقوله: "والله يعلم إنك لرسوله”.
ولكن كذبهم الله فيما سها عنه المستشرق الناقد عندما قالوا: "نشهد إنك لرسول الله”.
لقد كذبهم الله في شهادتهم، لا في المشهود به، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من الله، إن الله يعلم أن محمداً رسوله المبعوث منه رحمة للعالمين، لكن الكذب كان في شهادتهم هم.
إن كلام المنافقين مردود من الله.
لماذا؟
لأن الشهادة تعني أن يواطئ اللسان القلب ويوافقه.
وقولهم: شهادة لا توافق قلوبهم وتعني كذبهم.
إذن، فالتكذيب هو لشهادتهم، فلو قالوا: "إنك لرسول الله" دون "نشهد" لكان قولهم: قضية "سليمة”.
ولذلك كان تكذيب الله لشهادتهم، ومن هنا ندرك السر في قول الله: "والله يعلم إنك لرسوله”.
إن الحق يؤكد الأمر المشهود به وهو بعث محمد رسولاً من عند الحق، وبعد ذلك يأتي لنا الحق بشهادته إن المنافقين كاذبون في قولهم: "نشهد”.
فالصدق أن تطابق النسبة الكلامية الواقع.
والصدق -كما قلنا من قبل- حق، والحق لا يتعدَّد، وضربت من قبل المثل بأن الإنسان الذي نطلب منه أن يروي واقعة شهدها بعينيه، وأن يحكيها بصدق لن يتغير كلامه أبداً، مهما تكرر القول؛ أو عدد مرات الشهادة.
لكن إن كانت الواقعة كذباً، فالراوي تختلط عليه أكاذيبه، فيروي الواقعة بألوان متعددة لا اتساق فيها، وقد ينسى الراوي الكاذب ماذا قال في المرة الأولى، وهكذا ينكشف سر الكذب.
لكن الراوي عن واقع مشهود وبصدق، هو الذي يحكي، وهو الذي لا تختلف رواياته في كل مرة عن سابقتها بل تتطابق.
فعندما نقول: "إن زيدا مجتهد"، فهذا يعني أن اجتهاد زيد قد حدث أولاً، ثم يأتي في ذهن من رأى اجتهاد زيد أن يخبر بأمر اجتهاده، ثم يخبر بالكلام عن اجتهاد زيد.
إن الأمر الخارج وهو اجتهاد زيد قد حدث أولاً، وبعد ذلك تأتي النسبة الذهنية، وبعد ذلك تأتي النسبة الكلامية.
ولكن الإنشاء وهو ضد الخبر، هو أن نطلب من واحد أن ينشئ أمراً لا واقع له، كأن نقول لواحد: اجتهد.
إننا قبل أن نقول لإنسان ما: "اجتهد" فمعنى ذلك أن الاجتهاد كان أمراً في ذهن القائل، وعندما ينطقها تصبح "نسبة كلامية”.
وبعد ذلك يحدث الواقع، بعد النسبة الذهنية، والنسبة كلامية، وهذا هو الإنشاء.
إن الإنشاء الطلبي يعني أن تحدث النسبة الخارجية بعد النسبة الكلامية.
والصادقون هم الذين أراد الله أن يمدحهم، لماذا؟
وأين هو مجال صدقهم؟
إنهم الذين تتطابق حركتهم مع منهج الله، لأنهم حين قالوا: "لا إله إلا الله"، وآمنوا به، فهم قد التزموا بكل مطلوبات الإيمان قدر الطاقة.
ومعنى "لا إله إلا الله" أي لا معبود إلا الله.
ومعنى لا معبود إلا الله أي أنه لا طاعة إلا لله.
والطاعة -كما نعرف- هي امتثال أمر، وامتثال نهي.
إذن فمجال "لا إله إلا الله" يشمل أنه لا معبود بحق إلا الله، ولا مُطاع في تكليفه إلاَّ الله، ولا امتثال لأمر أو لنهي إلاَّ للأمر القادم من الله؛ فإن امتثال إنسان الأمر من الله بعد قوله: "لا إله إلا الله" كان هذا الإنسان صادقاً في قوله: "لا إله إلا الله”.
وهذا هو صدق القمة، أن تكون كل تصرفات قائل: "لا إله إلا الله" متطابقة مع هذا القول.
والمؤمن الحق هو من يبني كل تصرفاته موافقة لمنهج الله.
هذا هو الإنسان الصادق.
أما الذي يقول بلسانه: "لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله" ثم يخالف ربه بعصيانه له، لنا أن نقول له: أنت كاذب في قولك "لا إله إلا الله" لماذا؟ لأنه لم يطابق النسبة التي قالها.
إن هذا الإنسان إذا آمن بأي تكليف ثم فعل ما يناقضه قلنا له: أنت منافق، لماذا؟
لأننا عندما تكلمنا في أول سورة البقرة عن المنافقين قلنا: إن المؤمن حين يؤمن بالله يكون صادقاً مع نفسه؛ لأنه قال: "لا إله إلا الله" وهو مؤمن بها، والكافر حين ينكر الألوهية يكون صادقاً مع نفسه أيضاً.
أما المنافق فهو لا يصدق مع نفسه، ولا يصدق مع الناس، إنه مذبذب بين هؤلاء وهؤلاء.
إن المنافق بلا صدق مع النفس، ولذلك يصفهم الحق: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ} [النساء: 143].
إن الكافر له صدق مع النفس فهو لا يقول: "لا إله إلا الله" لأنه لا يعتقدها.
أما المنافق فقد قال: "لا إله إلا الله" وهي غير مطابقة لسلوكه، لذلك يكون غير صادق مع نفسه، وغير صادق مع ربه.
إذن، فقول الحق: "الصادقين" مقصود به هؤلاء الناس الذين يأتون في كل حركاتهم صادرين عن منهج الله، فلا يؤمنون بقضية، ويفعلون أخرى.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
أي أنه حين يكون القول شيئاً مختلفاً عن الفعل، لا تتطابق النسبة.
فالصادقون هم الذين يصدقون في سلوكهم مع كلمة التوحيد في كل ما تتطلبه هذه الكلمة من هذه السلسلة: "لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله" أي لا مطاع في أمر أو نهي إلا الله، فإن جئت وطاوعت أحداً في غير ما شرع الله يحق للمؤمنين أن يقولوا لك: أنت كاذب في قولك: "لا إله إلا الله”.
"فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن“.
هذا هو سمو الإيمان عند المؤمن، إن المؤمن لا يمكن أن يكذب أو يخالف مقتضيات عقيدته؛ لأن المؤمن في كل تصرفاته خاضع لإيمانه بأنه لا إله إلا الله.
ثم يقول الحق: "والقانتين" والقانت: هو العابد بخشوع وباطمئنان وباستدامة.
والقانت صادق مع نفسه، لماذا؟
لأن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف عباده تكليفاً، فقد يكلهم بشيء يعز على أفهامهم أن تدرك حكمته.
وأقبل القانتون من العباد على هذا التكليف؛ لأن الذي أمرهم به إله قادر، فهم يثقون في حكمته فأدُّوا الأمر الصادر إليهم لأنهم خاضعون لحكمة الله.
إنهم منفذون للأمر القادم من الآمر لا لعلة الأمر.
وبعد أن يصنعوا ذلك؛ يريهم الله نورانية هذا الحكم بأن يعطيهم فرقاناً في أنفسهم: {يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
فيقول المؤمن منهم لنفسه بعد أن يرى هذا الفرقان: إن الله قد أراد لي بهذا الأمر أن أدرك حلاوة طاعة هذا الأمر، لذلك قال أحد العارفين بالله: إن كنت تريد أن تعلم عن الله حكماً كلفك الله به دون أن تعلم علته فاتق الله فيه، وحين تتقي الله في هذا الأمر، فإنك تجد الحكمة مستنيرة في ذهنك، ولذلك يقول الله: {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
فكأنك قبل التقوى لم يعلمك الله، أما بعد التقوى فإن الله يعلمك، فتقبل على تنفيذ التكليف لتلمس إشارة في نورانية نفسك، وهكذا هو الفارق بين الأمر من المساوى، والأمر من الأعلى.
وعندما ترتقي كلمة "الأعلى"، فإنها لا تنطبق إلا على الأعلى المطلق وهو الله، إنه الأعلى في الحكمة، والأعلى في المنزلة، والأعلى في المكانة، والأعلى في الربوبية.
إذن، فالإنسان لا يطلب علة حكم إلا من مساو له، فإن قال لك أحد من البشر: افعل الشيء الفلاني.
فإنك تسأله: لماذا؟
فإن أقنعك، فأنت تقوم بالفعل.
وتكون قد قمت بتنفيذ هذا الفعل؛ لأن المساوى لك قد أقنعك بالحكمة لا بالطاعة له.
ولكن عندما يصدر الأمر من الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى، فإنك أيها العبد المؤمن تنفذ الأمر فوراً عشقاً في طاعته.
والمثال الذي أضربه للتقريب لا للتشبيه، فالله الأعلى، وهو منزه عن كل شبيه، إن الأب يقول للابن في حياتنا اليومية: إن نجحت في المدرسة فسأحضر لك هدية هي الدراجة.
فهل معنى ذلك أن علة الذهاب إلى المدرسة هي الحصول على الدراجة كهدية؟
لا، ليست هذه هي العلة، إن العلة عند الأب هي أن يتعلم الابن ويتفوق في حياته، ويكبر، وعند ذلك يدرك العلة، ويقول لنفسه: لقد كان أبي على حق.
إذا كان هذا يحدث في الحياة بيننا نحن البشر، فكيف لنا بطاعة الأمر الصادر من الله؟ إن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف تكليفاً، فإن العبد قد يجد مشقة في فهم العلة.
والعبد المؤمن يعرف أن الرضوخ لتكليف الحق إنما هو خضوع للأمر الأعلى.
إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن بمن هو أعلى منه وأعلى من كل كائن، ولا يساويه أحد، إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن أولاً بأن الله هو الإله الواحد -سبحانه- له مطلق الحكمة، وله القوة وله كل شيء في الكون، وسبق أن ضربت المثل -ولله المثل الأعلى- إن الإنسان قد يمرض، وصحة الإنسان أثمن شيء عنده، فيفكر في الذهاب إلى طبيب، ويقول له: إنني أتعب من معدتي، أو من قلبي أو من أمعائي.
إنه يحدد ما يشكو منه.
وعقل الإنسان هو الذي هداه إلى الطبيب الذي يشخص العلة، وبعد ذلك يأخذ المريض من الطبيب ورقة مكتوباً فيها الأدوية اللازمة.
إن الإنسان يتناول كل دواء من هذه الأدوية دون أن يسأل الطبيب عن حكمة كل دواء؛ لأنه لو سأل عن ذلك فهذا معناه الدخول في متاهة كيميائية، فإن سأل أي إنسان ذلك المريض: لماذا تأخذ هذا الدواء؟
فيجيب المريض: لأن الذي كتب لي هذا الدواء هو الطبيب المتخصص بعلاج المعدة، أو القلب، أو الأمعاء أو أي عضو يشكو منه الإنسان.
والطبيب قد يخطىء، إنما حكم الله لا يخطئ أبداً، فهو جل شأنه منزه عن الخطأ تماماً.
إن الحكمة تكون عند الحق سبحانه وتعالى، وعندما ينفذ المؤمن مطلوب الله فإنه يدرك آثار الحكمة الربانية في نفسه.
وكلمة "قانتين" كما عرفنا هي وصف لمن يعيشون القنوت، والقنوت هو عباده مع خضوع، وخشوع واستدامة.
لماذا الخضوع، والخشوع؟ لأن الله جل وعلا لم يشرع العبادة لينفذها الإنسان، وينقذ نفسه من عذاب النار، لا؛ إننا نرى كثيرا من الناس -إذا ما لاحظنا واقع الحياة- إذا وجدوا رئيساً قوى الشكيمة وقوانينه صارمة في أن الموظفين تحت يده يجب أن يحضروا صباحاً في الميعاد المُحدَّد، وأن ينصرفوا في الميعاد المُحدَّد، ولا يسمح لهم بالانشغال بغير العمل، فلا يشربون الشاي، ولا يقرأون الصحف ولا يقابلون الأصدقاء، وغير ذلك من الأعمال.
ويأتي واحد من الموظفين فيقول عن هذا الرئيس "إنه شديد المراس، ولذلك فليس له عندي إلا أن أحضر في الثامنة إلا خمس دقائق، ولن أنصرف إلا في الثانية وخمس دقائق، ولن أقرأ الصحف ولن أفعل أي شيء مما يمنعه”.
إن هذا الموظف يفعل ذلك بجبروت واستعلاء على رئيسه حتى لا يسمح له بنقد أو تجريح، فهذا الموظف ممتثل ولكن باستعلاء.
إنها طاعة بلا حب، ولكنها باستعلاء.
وقد يحاول عبد أن يقول: ماذا يطلب الله مني؟
يطلب مني الصلاة والزكاة وإقامة العبادات؟ سوف أفعل ذلك.
لمثل هذا العبد نقول: لا، إن الله يطلب العبادة بحب منك وخشوع واطمئنان، لأن التكليف من الحق صدقة أخرى أجراها الله على العبد.
إن الحق سبحانه وتعالى قد كلف العبد بالتكاليف الإيمانية، حتى يكون الإنسان سوياً وله قيمة في الحياة.
إن معنى "قانت" هو العبد الذي يؤدي عبادة ربه بخشوع، وباطمئنان، وباستدامة.
لماذا؟
لأن الذي يقبل على الطاعة ثم ينصرف عنها كأنه قد جرب وده لله فلم يجد الله أهلاً للود.
أما العبد الطائع فهو لا ينصرف عن العبادة، لأنه ذاق حلاوة استدامة العبادة لله، وما دام قد أدرك حلاوة العبادة فهو يقبل عليها بخشوع، واطمئنان، واستدامة، ويدخل في دائرة القانتين.
وبعد "القانتين" يقول الله سبحانه: "والمنفقين" وكلمة أنفق و"نفق"، مأخوذة من كلمة "نفق الحمار" أي مات، و"نفقت السوق" أي انتهت بضائعها واشتراها الناس ولم يبق منها شيء.
و"نفقة" مأخوذة من هذا المعنى لتشعرنا بأن الإنسان حين ينفق فهو يُميت ما أنفقه من نفسه، فلا يتذكر أنه أنفق على فلان كذا، وعلى علان كذا، أي يعلم يقيناً أن ما أنفقه هو رزق من أنفقه عليهم وليس له إلا أجر إيصاله إليهم فلا مَنّ، ولا إذلال.
إن الله يريد من كل إنسان يُخرج شيئا من ماله أن ينهى من ذهنه هذا الشيء الذي خرج من المال فلا يذكره ولا يَمُنّ به على أحد.
"والنفقة"، تقتضي وجود مُنْفِق، ومنفَقاً عليه، ومنفَقاً به، المنفق كما نعرف هو المؤمن الذي عنده فضل مالٍ، والمنفَق عليه هو الفقير، والمنفَق به هو الخيرات.
ومن أين تأتي هذه الخيرات؟
إنها تأتي نتيجة الحركة في الحياة، وحركة المتحرك في الحياة تقتضي قدرة، فإذا كان الإنسان عاجزاً، ولا يجد القدرة على الحركة، فمن أين يعيش، إن الله لا بد يضمن له في حركة القادر ما يعوله.
لقد جعل الله القدرة عرضاً من أعراض الحياة، فالقادر اليوم قد يصير عاجزاً غداً.
وما دامت القدرة عرضاً من أعراض الحياة، فالقادر الآن عندما يسمع الأمر من الله بأن ينفق على غير القادر، فلابد أن يُقدر في نفسه أن قدرته هي عرض من أعراض الحياة، والقادر الآن من الأغيار، لذلك فهو عرضة لأن يصير غداً من العاجزين، ويقول القادر لنفسه: "عندما أصبح عاجزاً سوف أجد من يعطيني”.
أليس ذلك هو التأمين الحق؟ إنه تأمين المؤمن.
إن المؤمن يعطي عند قدرته، وذلك حتى يجنبه الله مشقة السؤال إن جاءت الأغيار، لأن الأغيار إن جاءت سوف يجد من يعطيه.
إننا يجب أن نلحظ في الحكم، لا ساعة أن تطالب أنت بأداء مطلوب الحكم، ولكن ساعة أن يؤدي الغير إليك مطلوب الحكم.
فالذي يطلب منه أن ينفق، عليه أن يقدر أنه قد يصبح عاجزاً، ولنا أن نسأله: لو كنت عاجزاً ألم تكن تحب أن يعطيك الناس دون مَنٍّ أو أذى؟
إن هذا هو التأمين الحق، لأن التأمين في يد الله، وما دامت الأغيار عرضة لأن يصير القادر عاجزاً ويصير العاجز قادراً، فساعة ينفق المنفق يجب عليه أن يميت أنه أنفق فلا يتذكر وجه من أنفق عليه، ولا يخبر أحداً بما أنفق.
عد الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أنفق حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله فقال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه“.
وبعد ذلك على المؤمن المنفق أن يُقدر ساعة عطائه أنه ادّخر ليأخذ، إما أن يأخذ إن طرأت له الأغيار في الدنيا، وإما أن يأخذ من يد الله في الآخرة أضعافاً مضاعفة.
إذن، فالمنفق هو الذي يُؤَمِّن لغير القادر حركته في الحياة ضماناً لنفسه حين لا يقدر؛ أو استثماراً مضاعفاً عند الله، وهؤلاء المنفقون الذين يَسَعُونَ العاجزين بفضل ما لديهم، يظهرون حكمة الله في الوجود، لأن الله ما دام قد خلقنا، وفينا القادر، وفينا العاجز، فقد أراد الله لنا أن نعرف أن القدرة ليست لازمة في الخلق.
فإن قدرت الآن فقد تُسلب -بضم التاء- منك هذه القدرة، وما دامت القدرة يتم سلبها، فلابد أن يتمسك المؤمن بالقيوم الذي يقيم القدرة لك أيها المؤمن دائماً، وذلك حتى يعرف الواحد منا أنه لم ينفلت من ربه، خلقنا قادرين وانتهت المسألة.
لا.
إنّ القدرة أغيار تذهب وتجيء.
وما دامت الأغيار تذهب وتجيء فلابد أن يضع المؤمن نصب عينيه عطاء القادر الأعلى.
وقلنا سابقاً: إن الله جعل المنفقين وصفا من أوصاف الذين اتقوا، والذين أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وذلك حتى يحمي الله الضعيف الذي خلقه الله لحكمة في الوجود.
إن الإنفاق ليس أخذاً من العبد، وإنما هو مناولة، هذه المناولة تتضح في أنه ما كان لك ما يزيد عن حاجتك، إلا بحركتك في الحياة.
وهذه الحركة في الحياة تتطلب عقلا يخطط للحركة وجوارح تنفذ المخطط الفكري، ومادة يتم الفعل فيها سواء كانت أرضا تتم زراعتها, أو آلة يتم الصنع بها، ولا شيء للإنسان من هذا في الكون.
إن المخ الذي يدبر هو عطاء من الله، والطاقة التي تنفذ هي عطاء من الله.
ونحن نرى في الحياة إنساناً قد نزع الله عنه المخ الذي يفكر ويدبر، ونجد إنساناً آخر قد نزع الله منه الطاقة التي تنفذ، فقد يمنع الله عن عبدٍ المادة التي يتفاعل معها.
إذن، فلا شيء من هذه الأشياء ذاتي للإنسان؛ إنها كلها عطاء من الله.
فليعمل المؤمن مضاربا عند الله، وليعط المؤمن للعاجز حق الله.
إن الله لا يأخذ هذا الحق لنفسه إنما يريده الله لأخيك العاجز، وسوف يطلب الله هذا الحق لك إذا عنَّت لك حاجة بسبب الأغيار.
هكذا تكون "المنفقين" صفة من صفات الذين اتقوا ربهم.
والحق سبحانه وتعالى قد جعل في الصبر، صلابة اليقين الإيماني في النفس البشرية.
وفي الصدق انسجاماً مع واقع لا إله إلا الله، وفي النفقة حماية العاجز الذي لا يقدر.
وبعد ذلك يعود إلى نفس المؤمن عودة أخرى فيقول: {وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] إننا يجب أن نأخذ هذا الوصف بعد مجيء الأوصاف الأخرى في النفس البشرية.
البداية هي إقرارهم بالإيمان، ودعاؤهم الحق -سبحانه- أن يغفر لهم وقد طلبوا الوقاية من عذاب النار، وصبروا، وصدقوا، وقنتوا في العبادة، وأنفقوا في سبيل الله، إن كل هذه الأوصاف تبرئ ذمتهم من أنهم مقصرون أيضاً في حقوق إلههم لذلك فهم يأتون حال السكون بالليل، ويستغفرون الله.
إما أن يستغفر العبد لأنه قد فرطت منه هفوة في ذنب، وإما أن يستغفر لأنه لم يَزد فيما يفعله من أمور الطاعة.
وكلمة "بالأسحار" توضح لنا لحظات من اليوم يكون الإنسان فيها محل الكسل والراحة، إن الذي سوف يصحو في السحر لا بد أن يكون قد اكتفى من الراحة، ولم يكن قد أخذ منه كد الحياة كل النهار، ثم إن بعضهم يأخذه لهو الحياة ليلا.
وهذا هو وجه الخيبة لما يحدث في زماننا.
إن كد الحياة -إن أخذ- يأخذ نهاراً، وبعد ذلك يأخذنا لهو الحياة ليلا، مما نشاهده من لهو الحديث، ولهو السهرات، وبعد ذلك يأتي الإنسان لينام متأخراً، فكيف نطلب من هذا الإنسان أن يصحو في السحر؟
إن الذي يصحو في السحر هو من أخذ حظه في الراحة، فبعد أن جاء من كد العمل نام نوماً هادئاً، ويصحو من بعد ذلك في السحر ليذكر ربه، في الوقت الذي نام فيه غيره من الناس، لماذا؟
لأن الحق سبحانه وتعالى في لحظة سكون الليل يوزع رحمته، وعندما يصحو إنسان في السحر ويدعو الله، ويستغفره فإنه يأخذ من رحمة الله النازلة.
وعندما يأخذ هذا العبد من رحمة الله النازلة في ذلك الوقت، فمعنى هذا أنه سيأخذ الكثير من رحمة الله.
وإياك أن تقول: لو صحونا جميعاً في الأسحار لنفدت الرحمة والعطاء "لا" لأن الله قد قال: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
إن قدرته جل وعلا تتسع لعطائنا جميعاً دون أن ينقص شيء من عنده.
إن كل هذه الأشياء من التقوى، والإقرار بالإيمان، وطلب المغفرة للذنوب، وطلب الوقاية من عذاب النار، والصبر، والصدق، والقنوت، والإنفاق في سبيل الله، والاستغفار بالأسحار، كل ذلك نتيجة للتقوى الأولى.
إنها الثمرة من "لا إله إلا الله”.
وما دامت هذه هي الثمرة من "لا إله إلا الله" فليعلم كل إنسان، أن الله لم يدعك لتستنبطها أنت من مفقود، بل اعلم أن الله قد شهد أنه لا إله إلا الله، وكفى بالله شهيداً.
لذلك يقول الحق: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ...}. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 016-020 السبت 20 أبريل 2019, 6:53 am | |
| شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [١٨] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
ولنأخذ الجملة الأولى من الآية الكريمة بمعناها: لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو، أي أنَّ الحق قد أخبر بما رآه، وشاهده، أو ما يقوم مقام ذلك.
إن "شهد" بمعنى علم.
إنه الحق الذي نصب الأدلة في الوجود على قيوميته، وعلى أنه إله واحد، أليس في ذلك إقامة للحجة على أنه إله واحد؟
ومن الذي خلق الأدلة وجاء بها؟
إنه الله.
إذن، فقد شهد الله أنه لا إله إلا هو.
وقلنا: إن شهادة الله أنه لا إله إلا هو هي شهادة الذات للذات، وشهادة الذات للذات تعني أنها كلمة مُمَكّنٌ منها.
فعندما يقول الحق: {بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117].
بالله لو لم يكن قد شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وليس هناك مَنْ يُعارض مبتغاه، أكان يجازف فيقولها؟
إنه الحق الأعلى الذي شهد أن لا إله إلا هو، فساعة أن يقول: "كن" فإنه قد علم، أنه لا يوجد إله آخر يقول: "لا تكن”.
إن الحق لابد أن يطمئننا أنه لا إله إلا هو، لذلك فلزم أن يشهد لنفسه أنه مؤمن بأنه لا إله إلا هو ويلقي الأمر، ويلقي الحكم التسخيري، ويعلم أنه لا إله يعارضه.
وأليس من مطلوبات الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد أنه رسول الله؟
لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في صلاته: "أشهد أن محمدا رسول الله”.
ولو لم يشهد بهذه لنفسه فكيف يجازف بالأشياء التي يقولها؟
ولذلك فسيدنا أبو بكر عندما بلغه أمر بعث محمد رسولاً، قال ما معناه: أقالها محمد؟ إنه صادق، وما دام قد قالها فهي حق.
إن أبا بكر الصديق واثق من الرصيد الذي سبق بعث محمد بالرسالة.
ونحن نرى في التاريخ امرأة كان السبب في إسلامها لمحة من سيرته صلى الله عليه وسلم.
قرأت هذه المرأة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان له حُرَّاسٌ من المؤمنين يقومون بحراسته من الكافرين.
وبعد ذلك جاء يوم وصرف الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الحُرَّاس، وقال لهم ما معناه: إن الله عصمني من الناس فاذهبوا أنتم.
وقد قرأنا هذه الواقعة كثيراً جداً، ولكن الفتح جاء من الحق لامرأة، فشغلتها هذه المسألة، وتساءلت: ألم يكن هؤلاء الحُرَّاس يحرسونه خوفاً على حياته؟ فلماذا قال لهم: "لا تحرسوني" لأن الله هو الذي يحرسني؟ فلو أن رسول الله قد غَشَّ الدنيا كلها؛ أكان من الممكن أن يغُشَّ نفسه في حياته؟
وأجابت المرأة على نفسها: لا يمكن، لابد أن رسول الله قد وثق تمام الثقة في أن الله قد أبلغه أمر حمايته بدليل أنه قام بصرف الحُرَّاس، وإلا فكيف يأمن أن يأتي أحد ليقتله؟
قالت المرأة: والله لو خَدع الناس جميعاً ما خَدع نفسه في حياته، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
حدث إسلام هذه المرأة من نفحة يسيرة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن، {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] هي شهادة الذات للذات، وكفى بالله شهيداً.
وشهدت الملائكة أيضاً، والملائكة هم الغيب الخفي عنا، وتتلقى الأوامر من الحق.
إن الملائكة لم يروا أحداً آخر يعطي لهم الأوامر، إنه الإله الواحد القادر.
وهذه هي شهادة المشهد.
ويضاف إلى الملائكة "أولوا العلم"، لقد أخذ "أولوا العلم" الأدلة وجلسوا يستنبطون من كون الله أدلة على أنه لا إله إلا الله.
إن هذه أعظم شهادة لأعظم مشهود به من أعظم شهود، الله في القمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم، والملائكة وأولوا العلم.
ولقد أخذ أولوا العلم منزلة كبيرة لأن الله قد قرنهم بالملائكة.
إن الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قد نثر في كونه الآيات العجيبة العديدة, والذي يجلس، ويتفكر ويتدبر ويتفطن وينظر، فإنه يستخرج الأدلة على أنه لا إله إلا هو، وكما قلنا من قبل: إن أبسط الطرق للتدليل على هذه الحقيقة.
إن كانت "لا إله إلا الله" صدقا فقد كُفينا، وإن كانت غير صدق فأين الإله الذي أخذ منه الله هذا الكون، ولم يخبرنا ذلك الإله أنه صاحب الكون؟ فإما أن هذا الإله الآخر لم يَدْر، أو أنه قد علم، ولا يستطيع فعل شيء، إذن فلا يصح أن يكون إلها يزاحم الحق الذي أبلغنا أنه لا إله إلا هو.
وتظل "لا إله إلا الله" لصاحبها - جل شأنه - "شهد الله أنه لا إله إلا هو" وفي كل حركة من حركات الحياة نجد أن الانفراد بصدور الحركة قد يعطي علوا، وقد يعطي استكباراً.
لذلك نقول: ها هو ذا الخالق الأعلى الذي "لا إله إلا هو" يخبرنا أنه قائم بالقسط.
ورغم أنه لا أحد في استطاعته أن يتدارك على الله، إلا أنه يطمئننا أنه قائم بالقسط.
ولنلحظ هنا ملحظاً جميلا في الأداء {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ} [آل عمران: 18] لماذا لم يقل الله إن "الملائكة" و"أولوا العلم"، الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو "قائمين" بالقسط؟ لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط، والملائكة شهدوا هذه القضية والعلماء شهدوا أيضاً بهذه القضية.
لماذا؟
لأن الله لو قال: "قائمين بالقسط" لكان الله مشهوداً عليه من هؤلاء، والشهادة هي له وحده أنه قائم بالقسط والعدل.
لأنه سبحانه خلق الملائكة بالقسط، فلو كانوا معه في ذلك لما استقام الأمر، وأولوا العلم أيضاً مخلوقون بالقسط؛ لأن الله قد وزع حركة الحياة على الناس، فَنَاسٌ يعملون بعقولهم، وآخرون يعملون بقلوبهم، وقوم غيرهم يعملون بجوارحهم، فهذا هو لون من عدل الله، وإلا، فهل يدعي أحد أن إنساناً تتجمع فيه كل المواهب التي تتطلبها الحياة.
لا، وهذه من عدالة الرحمن.
إن من عدالة الحق أنه وزع المواهب بين البشر، فبدلا من أن يعتمد الإنسان على نفسه في صناعة الملبس والمأكل، والمشرب، جعل الله المهارات موزعة بين البشر.
فأتقنت مجموعة من البشر حرفة الزراعة لإنتاج الطعام الذي يكفيهم، ويسد حاجة غيرهم، وكذلك تبادلوا مع غيرهم المنافع، فالإنسان - بمفرده - لا يستطيع أن يزرع القطن ويجمعه ويغزله وينسجه؛ ليلبس، والإنسان لا يستطيع أن يزرع القمح ويحصده ثم يطحنه ثم يخبزه.
إن الله لم يخلق الناس ليقوم كل فرد بإشباع حاجات نفسه المتنوعة، إنما وزع الله المواهب، لتتداخل هذه المواهب، ويتكامل المجتمع البشري، فواحد يزرع الأرض، وثانٍ يغزل القطن، وثالث ينسج القماش، ورابع يصنع الأدوات.
وهذا عدل عظيم؛ لأن الطاقة البشرية لا تقوى على أن تقوم بكل متطلبات الحياة، لذلك جعل الحق هذا التنوع في المواهب ليربط الناس بالناس قهراً عن الناس، فلم يجعل لأحد تفضلاً على أحد، فما دام واحد يعرف في مجال، وآخر لا يعرف في هذا المجال، فالذي لا يعرف محتاج للآخر، وهكذا يتبادل الناس المنافع رغما عنهم.
ولذلك نجد الكون متكاملاً.
ولينظر كل منا إلى حياته وليعدد كم زاوية من زوايا العلم، وكم زاوية من زوايا القدرات، وكم زاوية من زوايا المواهب تلزم حتى تخدم حركة الحياة؟
إن هذه الزوايا موزعة على الناس جميعاً ليخدموا جميعاً حركة الحياة.
وهذا قمة العدل.
وحتى يوضح لنا الحق قيمة العدل وكيفية العدالة في إقامة المحبة والاحترام بين البشر، فلينظر الواحد منا إلى الإنسان الآخر البعيد عنه، ويتساءل بينه وبين نفسه: أهذا الرجل البعيد عني يعمل من أجلي؟
وتكون الإجابة: نعم.
إذن، فعلى الإنسان عندما يرى إنساناً متفوقاً في صنعة ما، فليقل: إن تفوقه في صنعته عائد إليّ وتفوقه في موهبته عائد إليّ، وهكذا منع الله بالعدل الحقد والحسد وجعل الناس متكاتفين قهراً عنهم، لا تفضلاً منهم، إذن، فكل إنسان يسعى بحركة الحياة إنما يقيم نفسه في زاوية من زوايا الحياة، ومن العجيب أن الزاوية التي يُحسنها الإنسان تكون حاجته فيها أقل الحاجات، لذلك نجد المثل الريفي الذي يقول: "باب النجار مخلع"، وذلك حتى يعلم الإنسان أن موهبة ما تكون عند غيره سوف تنفعه هو، بدليل أن الموهبة التي عندك لم تنتفع أنت بها إلاّ قليلا.
وبذلك يشيع في الناس اقتناع بأن موهبة كل فرد فيهم، إنما تعود عليهم جميعاً، وبذلك تحل المحبة والاحترام بدلا من الحسد والحقد.
وعندما سأل أحد الظرفاء: ولماذا يكون باب النجار هو "المخلع"؟ قال أحد الظرفاء رداً عليه: لأنه الباب الوحيد الذي لن يأخذ النجار أجراً لإصلاحه، ونلتفت إلى العجائب في الحكمة الشائعة، فنجد أطباء أخصائيين في ألوان من المرض، وصاروا أعلاماً في مجالات تخصصاتهم، ويشاء الحق سبحانه وتعالى ألا يصابوا إلا بما برعوا فيه، كأن الذي برعوا فيه لم يفدهم هم بشيء، إنما أفاد الآخرين.
ولننظر إلى الآية في مجملها: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
لقد استهلها الله بقوله: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ} [آل عمران: 18] ثم قال بعد ذلك: {لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
فكأن الآية تقول لنا: إذا ثبتت شهادة الذات للذات، وشهادة المشهد من الملائكة، وشهادة الاستدلال من العلماء، فإن القاعدة تكون قد استقرت استقرارا نهائياً لا شك فيه، فخذوها مسلمة: "لا إله إلا هو”.
وما دام "لا إله إلا هو" فليكن اعتمادك عليه وحده، واعلم أنك إن اعتمدت عليه وحده إلها، فأنت قد اعتمدت على عزيز لا يُغْلب على أمره.
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَتْ الأقلامُ، وجَفَّتْ الصُّحُفْ“.
فلا يستطيع أحد أن يدخل مع الله في جدال.
إنما يدخل خلق الله مع خلق الله في خلاف أو نضال، لكن لا أحد يجرؤ على أن يدخل في نضال مع الله لأنه عزيز لا يُغْلَب.
فإن آمنت به وحده، فلك الفوز.
وكلمة "وحده" قد تبدو في ظاهرها تقليلاً للسند الذي تستند إليه في القياس البشري، فيقال: "أنا لاجئ إلى فلان وحده" وعندما تكون لاجئاً إلى عشرين ألا تكون أكثر قوة؟ لكن هنا لا يكون قياس بين اللجوء إلى الله وحده، بقياس اللجوء إلى مخلوق.
إنك هنا تلجأ إلى خالق أعلى بيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير، فكلمة "وحده" هنا تغنيك وتكفيك عن الكل.
اعمل لوجه واحد.
يكفك كل الأوجه، واعلم أنه لا يوجد من يغلبه على أمره.
وعظمة الحق أنه واحد أحد فرد متفرد صمد، وهو عزيز لا يُغْلب على أمره, وهو صاحب كل الحكمة في وضع الأشياء في مواضعها بحيث إذا ما عرفت حكمة ما يجريه الله سبحانه وتعالى على خلقه فأنت تتعجب من عظمة قدرة الله، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وما دمت قد وضعت الشيء في موضعه فإنه لا يكون هناك قَلَقٌ، وما دام الشيء موضوعاً في مكانه فهو مستقر، وما دام الشيء مستقراً فإنه لا يتلون وتزداد الثقة فيه، وهذه مأخوذة من "الحَكَمَة" التي تُوضع في فم الفرس، والتي نسميها "اللجام" وهي كما نعرف تتكون من قطعة من الجلد تدخل على اللسان وفيها قطعة من الحديد، فإن مال إلى غير الاتجاه الذي تريد، يكون من السهل جذبه إلى الاتجاه الصحيح.
إن وجود الحكمة يعني وجود شيء يحكمه فلا ينحرف يمينا ولا يساراً، وما دام الله قد شهد أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة وشهد أولوا العلم، وانتهت القضية بعد هذه الشهادات إلى أنه لا إله إلا هو، وأنه العزيز الحكيم، فكل منهج منه يجب أن يُسلم إليه، وأن ينقاد له.
وما دام الله قد شهد لنفسه بأنه إله واحد، أي لا يوجد له شريك ينازعه فيما يريد من خلقه، وليس لله شريك في الخلق، وليس لله شريك في الرزق، وليس له شريك في التشريع.
إذن.
فالجهة التي نستمد منها مقومات منهجنا هي جهة واحدة، وكان من الممكن أن تظلم وتجور هذه الجهة الواحدة الخالقة على ما خلقت لأنه ليس لأحد من خلق الله حق على الله، لكن الله سبحانه وتعالى عادل، إنه سبحانه يطمئننا، فهذه الوحدانية بقدرتها وجبروتها وعلمها وحكمتها عادلة لا تظلم، لأنه قال: مع أني إله واحد، لا يُرد لي حكم ولا أمر فأنا قائم بالقسط.
والقيام بالقسط يجب أن نتوقف عنده لنفهمه جيداً، إن الحق يقول عن نفسه: "قائماً بالقسط" وكلمة قائم تعني أن الله قد خلقهم الخلقَ الأول، وهذا الخلق إنما قام على العدل والقسط.
وتكليف الحق للخلق قام على العدل والقسط.
والعدل والقسط يقتضي ميزاناً لا ترجح فيه كفة على كفة، وهذا الميزان ممسوك بيد القدرة القاهرة التي لا توجد قوة أعلى منها تميل في الحكم، والحق سبحانه قائم بالقسط في الخلق، فقبل أن يخلقنا أعدّ لنا ما تتطلبه حياتنا بالقسط أيضاً، فلم يجعل أمر الحياة قائماً على الأسباب التي يكلفنا بها لنعيش، بل حكم بالقسط، لقد جعل الحق بعضا من الأمور لا دخل لنا نحن العباد فيها، ولم يقض الحق بذلك على حركتنا ولا على حريتنا في الحركة، لذلك خلق لنا أسباباً إن شئنا أن نفعل بها وصلنا إلى المسببات، وإن شئنا ألا نفعل فنترك الأسباب والمسببات.
إذن.
فالحق سبحانه لم يحكمنا في قضية الخلق الأولى بشيء واحد، بأن يجبرنا على كل شيء، بل جبرنا بأنه -سبحانه- لم يدخل أسبابنا ولا حركتنا في كثير من الحركات التي تترتب عليها الحياة، فلم يجعل الشمس بأيدينا، ولا القمر، ولا الريح، ولا المطر.
كل هذه الأسباب جعلها بيده هو، لماذا؟ لأن هذه الأسباب ستفعل للمخلوق قبل أن تكون له قدرة.
هذه الأسباب تفعل للإنسان قبل أن توجد له حياة؛ لتمهد للحياة التي يهبك الله إياها، فلو ترك الله كل هذه الأشياء لأسباب الإنسان لتأخرت هذه الأشياء إلى أن يوجد للإنسان إرادة، وتوجد له قدرة وعلم.
لقد جعل الله أسباب الحياة بيده، كالتنفس مثلاً، إن التنفس لا يخضع لإرادة القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان -وهو سبحانه الإله القادر- تحرك التنفس إلى أن توجد له إرادة.
ولا توجد الإرادة إلا إن وُجد عند الإنسان علم بأنه يريد إدخال الأكسجين إلى الرئتين حتى يغذي الدم والمخ وينقي الدم والجسم من الأشياء التي تضره، هذا يقتضي العلم، فإذا كان هذا الأمر يقتضي العلم.
فماذا يصنع الطفل الذي ليس له علم؟
كيف يتنفس؟
لذلك فمن رحمة الله وعدالته أن جعل أمر التنفس -على سبيل المثال- بيده هو سبحانه، ولكن الحق سبحانه لم يقض على مخلوقه بأن يجعله في الكون بلا حرية أو اختيار، لا، لقد ترك الحق سبحانه بعضا من الأشياء لحرية الإنسان واختياره.
إذن، فالحق لم يلزم العبد تسخيراً، ولم يمنع تخييراً.
وذلك هو العدل المطلق.
لقد احترم الحق كينونة الإنسان، وحياة الإنسان، ومشيئة الإنسان، واختيار الإنسان، فقال: أنا سأعطيك أسباب الحياة الضرورية ولا أجعل لك دخلاً فيها؛ لأنك إن تدخلت فيها أفسدتها، وتأخر وصول خدمتها لك إلى أن تعرف وتعلم، وأنا -الحق- أريدُها لك، وأنت أيها الإنسان عاجز قبل أن توجد لك، وأنت قادر بوجودها الذي أمنحه لك؛ لذلك جعلتها بيدي أنا الخالق المأمون على خلقي.
ولكن لن أقضي على حريتك، فإن أردت ارتقاءً في الحياة فتحرك في الحياة، إن شئت أيها الإنسان أن تفعل فافعل.
وإن شئت أيها الإنسان ألا تفعل فلا تفعل.
وهذا مطلق العدل.
ثم جاء الحق سبحانه وتعالى وجعل قوله: {قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ} [آل عمران: 18] مشتملاً على التكليف أيضاً، أي إن عدالته في التكليف مطلقة.
فأناس يقولون: "لا إله" وأناس آخرون عددوا الآلهة، فقام الحق بالقسط بين الأمرين.
هو إله موجود يا من تقول: "لا إله”.
وهو إله غير متعدد يا من تشرك معه غيره.
وهذا قيام بالقسط وجاء الحق سبحانه في الأحكام.
ونحن نجد أحكاماً شرعية طلبها الحق سبحانه من العبد طلباً باتاً، ولم يتركها لاختيار الإنسان ونجد أشياء تركها الحق سبحانه ليجتهد فيها الإنسان، فلم يجعل الحق سبحانه العبد حراً طليقاً يعربد في الكون كما يشاء، ولم يجعل الحق سبحانه عبده مقهوراً أو مقسوراً بحيث لا توجد له إرادة أو اختيار.
لقد جعل الله للإنسان مجالاً في القسر ومجالاً في الاختيار، أوجد في الإنسان القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان -وهو الإله القادر- تحرك في الحياة وأنا أحمي نتيجة ما تتحرك فيه، ولكن لي في مالك الذي جعلتك فيه خليفة حق عليك أن تعطي بعضاً منه لأخيك المحتاج.
لقد أعطى الحق للنفس البشرية أن تكد، وأعطى لها أن تكدح، وحفظ لها ما تملك، ولكنه هو الحق لم يُطلق للنفس البشرية عنانها، بل قال: لي حق في ذلك.
وهكذا نجده سبحانه قد عدل في هذا الأمر.
إذن فقول الحق إنه قائم بالقسط.
نجده واضحاً في كل شيء؛ ففي الخلق والرزق والتكليف نجد أنه قائم بالقسط، وما دام هو إلهاً واحداً وقائماً بالقسط، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ...}. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 016-020 السبت 20 أبريل 2019, 7:14 am | |
| إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [١٩] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
بعد أن قال لنا: إنه إله واحد، وقائم بالقسط هو نتيجة منطقية لكونه -سبحانه- إلهاً واحداً فكأن قوله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] هو نتيجة لقوله: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ} [آل عمران: 18].
لماذا؟
لأنه لا تسليم لأحد إلا الله، وما دام الله إلهاً واحداً، فلا إله غيره يشاركه، يقول الحق: {مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـٰهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
وما دام قد ثبت أنه هو الإله الواحد، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟
إذن فقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] هو أمر منطقي جداً يجب أن ينتهي إليه العاقل، ومع ذلك رحمنا الله سبحانه وتعالى فأرسل لنا رسلاً لينبهونا إلى القضية السببية، والمسببية، والمقدمة والنتيجة {إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] وإذا سألنا: ما هو الدين؟ تكون الإجابة: إن الدين كلمة لها إطلاقات متعددة فهي من "دان" تقول: دنت لفلان: رجعت له وأسلمت نفسي له، وائتمرت بأمره.
ويُطلق الدِّين أيضاً على الجزاء، فالحق يقول عن يوم الجزاء: "يوم الدِّين" وهو يوم الجزاء على الطاعة وعلى المعصية، وعلى أن الإنسان المؤمن قد دان لأمر الله، فكلها تلتقي في قول الحق: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] يُشعرنا بأنه قد توجد أديان يخضع لها الناس، ولكنها ليست أدياناً عند الله؛ ألم يقل الحق: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6].
إن معنى ذلك أن هناك ديناً لغير الله فيه خضوع واستسلام، وفيه تنفيذ لأوامر، ولكن ليس ديناً لله، ولا ديناً عند الله.
إن الدين المعترف به عند الله هو الإسلام.
والدين يطلق مرة على الملة ومرة أخرى على الشريعة، فإن أراد المؤمن الأحكام المطلوبة فلك أن تسميها شريعة، وإن أراد المؤمن الطاعة، والخضوع، وما يترتب عليهما من الجزاء فليسمها المؤمن الدين، وإن أراد الإنسان كل ما ينتظم ذلك فليسمها الملة.
إذن فقوله سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] تعني أنه دين عند الله إلا الإسلام، وكلمة "إسلام" مأخوذة من مادة "سين" و"لام" و"ميم”.
و"السين" و"اللام" و"الميم" لها معنى يدور في كل اشتقاقاتها، وينتهي عند السلامة من الفساد.
وينتهي المعنى أيضاً إلى الصلح بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وربه، وبين الإنسان والكون، وبين الإنسان وإخوانه، إنه صلاح وعدم فساد، كل مادة السين واللام والميم تدل على ذلك، وما دامت المادة المكونة منها كلمة "إسلام" تدل على ذلك فلماذا لا نتبعها؟.
لقد قلنا سابقاً: إن الإنسان لا يخضع لمثيله إلا إذا اقتنع بما يقول، إن الإنسان يقول لمساويه الذي يأمره: لماذا تريدني أن أنفذ أوامرك؟ إنك لابد أن تقنعني بالحكمة من ذلك الأمر، لكن عندما يؤمن الإنسان بإله واحد قائم بالقسط، ويصدر من هذا الإله أمر،فعلى الإنسان الطاعة.
إذن.
فالإسلام معناه الخضوع، والاستسلام بعزة وفهم، وعزة وتعقل؛ لأن هناك عبودية تَعَقّل عندما يقف الإنسان عند المعنى السطحي، وهناك عزة تعقل عندما يقف الإنسان عند المعنى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، إن هذا هو عزة العقل فلا يستهويه أي شيء سوى الخضوع للأمر الثابت الذي لا يتناقض أبداً.
فما دام الله إلهاً واحداً قائماً بالقسط فإني كعبدٍ من عبيده حين أؤمن به وآخذ عنه، فهذه عزة في الفهم وعزة في التعقل، وعزة في العبودية أيضاً، لأنني أعبد الله الذي هو فوق كل المخلوقات والكائنات، ولا أعبد مساوياً لي، وإن الذي يعبد مساوياً له لا يملك إلا إنفة وحميّة الذليل، وما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام لله فهو خضوع لغير مساو، و"أسلم" أي دخل في السلم، أي دخل في الصلح، وعدم التناقض، وفي الأمان والراحة، أي خلص نفسه من كل شيء إلا وجه الله؛ ولذلك يقول الحق: {ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
كأن الله يريد أن يوضح لنا الفرق بين الخاضع لأمر سيد واحد، وبين الخاضع لِسَادَةٍ كثيرين.
وضرب الله لنا المثل بالأمر المشهور عندنا، فقال ما معناه: هب أن عبداً له من السادة عشرة، وكل سيد له منه طلب، فماذا يصنع ذلك العبد؟
وعبد آخر له سيد واحد، هذا العبد يكون مستريحاً لأنّ له سيداً واحداً، بينما الآخر المملوك لعشرة تتضارب حياته بتضارب أوامر سادته العشرة.
إذن فالعبد المملوك لشركاء تعيس؛ لأن الشركاء غير متفقين، إنهم شركاء متشاكسون، فإذا رآه سيده يفعل أمراً لسيد آخر، أمره بالعكس، وبذلك يتبدد جهد هذا العبد ويكثر تعبه، ولكن الرجل السلم لرجل، هو مستريح، وكذلك التوحيد، لقد جاء الحق سبحانه بمثل من واقعنا ليقرب لنا حلاوة التوحيد.
إن العبد المؤمن بإله واحد يحمد الله لأنه خاضع لإله واحد.
إذن فما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام ومعناه الدخول في السلم -بكسر السين- أو الدخول في السلم -بفتح السين- يقول الحق: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].
هذا الخضوع ليس لمساو، بل لأعلى.
والأعلى الذي نخضع له هو الذي خلق، وهو الأعلى الذي أمدنا بقيوميته بكل شيء.
إذن فإذا أسلم الإنسان، فإن هذا الإسلام له ثمن هو المثوبة من الله.
إن من مصلحة الإنسان أن يسلم.
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] وما دام الدين المعترف به عند الله هو الإسلام فهو الدين الذي يترتب عليه الثواب والإسلام هو دين الرسل جميعاً، وكلهم قد آمن به؛ فإبراهيم خليل الرحمن قد قال: {رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} [البقرة: 128].
ويعقوب عليه السلام يخبر الحق عنه في قوله لبنيه وإجابتهم له: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133].
ويقول -جل شأنه-: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161-163].
إذن فالإسلام دين شائع، والمسلمون كلمة شائعة في الأديان، وبذلك لا يقف الإسلام عند رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقط، إنما الإسلام خضوع من مخلوق لإله في منهج جاء به رسل مؤيدون بالمعجزات، إلاّ أن الإسلام بالنسبة لهذه الرسالات كان وصفاً، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تميزت بديمومة الوصف لدينها كما كان لأمم الرسل السابقة، وصار الإسلام -أيضاً- علماً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضمنت منتهى ما يوجد من إسلام في الأرض، فلم يعد هناك مزيد عليها، وانفردت أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن صار الإسلام علماً عليها.
إذن فالإسلام في الأمم السابقة كان وصفاً، وأما بالنسبة لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صار علماً لأنه لم يأت بعدها دين، فإسلامها إسلام عالمي، ولذلك فنحن بهذا الدين نقول: "نحن مسلمون" أما أصحاب الديانات الأخرى فهم أيضاً مسلمون لكن بالوصف فقط.
نحن الذين نتبع الدين الخاتم سمانا الله في كتابه المسلمين فهذا من إعجازات التسمية التي وافق فيها خليل الله إبراهيم عليه السلام مراد ربه: {وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ} [الحج: 78].
لقد صار الإسلام اسماً لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا يُطلق هذا الوصف اسماً إلا على من بالغ في التسليم.
كيف؟
نحن نعلم أن لفظ "الله" علم لواجب الوجود، ونعلم أن "حي" صفة من صفات الله سبحانه وتعالى.
ولكن صارت كلمة "حي" اسماً من أسماء الله؛ لأن الله حي حياة كاملة أزلية.
إذن لا تكون إلا إذا أخذ الوصف فيها الديمومة والإطلاق.
وعلى هذا القياس يكون الرسل السابقون على محمد صلى الله عليه وسلم، والأمم السابقة على أمة الإسلام، كانوا مسلمين، وكانوا أمماً مسلمة بالوصف، ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تميزت بالإسلام وصفاً وعَلَماً، فصار الأمر بالنسبة إليها اسماً، ونظراً لأنه لن يأتي شيء بعدها، لذلك صار إسلام أمة رسول الله "علماً”.
ولقد بشر سيدنا إبراهيم عليه السلام بهذا الأمر: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78].
إن الحق قد أورد على لسان سيدنا إبراهيم بالوضوح الكامل "هو سماكم المسلمين" ولم يقل الحق: "هو وصفكم بالمسلمين”.
لا، إنما قال: "هو سماكم المسلمين"، لأن الأمم السابقة موصوفة بالإسلام، وأما أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي مسماة بالإسلام.
وتجد من إعجازات التسمية، أننا نجد لأتباع الأديان الأخرى أسماء أخرى غير الإسلام، فاليهود يُسَمُّونَ أنفسهم باليهود نسبة لـ"يوها”.
ويقولون عن أنفسهم: "موسويون" نسبة إلى موسى عليه السلام.
والمسيحيون يُسَمُّونَ أنفسهم بذلك نسبة إلى المسيح عيسى بن مريم.
ولم نقل نحن أمة رسول الله عن أنفسنا: "إننا محمديون" لقد قلنا عن أنفسنا: "نحن مسلمون”.
ولم يأت على لسان أحد قط إلا هذه التسمية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وصار اسم الإسلام لنا شرفاً.
إذن، فيقول الله الحق: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] يعني، أنه، إن جاز أن يكون لرسول أو لأتباع رسول وصف الإسلام فقد يجيء رسول بشيء جديد لم يكن عند الأمم السابقة فنزيده نحن بالتسليم، وبزيادتنا - نحن المسلمين - بهذا التسليم خُتِمَ التسليم بنا نحن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا صار الإسلام لا يُطلق إلا علينا. إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الذين أُوتوا الكتاب قد اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم.
ولماذا اختلفوا؟
جاءت الإجابة من الحق الأعلى: (بغيًا بينهم) وكلمة الاختلاف هذه توحي أن هناك شيئاً متفقاً عليه، وما دام الإسلام هو خضوعاً لمنهج الله.
لأنه إله واحد وقائم بالقسط، فمن أين يوجد الاختلاف؟
وما الذي زاد حتى يوجد اختلاف؟
أَبَرَزَ إلهٌ آخر يُناقض الله في ملكه؟
لا لم يحدث.
وما دام الإله واحداً، وما دام المنهج القادم من عنده منهجاً واحداً، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟
إن الحق يوضح لنا أن الاختلاف قد جاء للذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءهم العلم وتلك هي النكاية، وذلك هو الشر، فلو كانوا قد اختلفوا من قبل أن يأتي إليهم العلم لقلنا: "إنهم معذورون في الاختلاف”.
ولكن أن يحدث الاختلاف من بعد أن جاء العلم من الإله الواحد القائم بالقسط فلنا أن نقول لهم: ما الذي جَدَّ لتختلفوا؟
إن الذي جَدَّ هو من عالم الأغيار، وما دام الجديد قد جاء إليهم من عالم الأغيار، فمعنى ذلك أن هوى النفس قد دخل، ونريد أن نعرف أولاً معنى الاختلاف، الاختلاف في حقيقته هو ذهاب نفس إلى غير ما ذهبت إليه نفس أخرى.
ولماذا حدث الاختلاف هنا رغم أن الإله واحد، وهو قائم بالقسط؟
لابد لنا أن نستنتج أن شيئاً جديداً قد نبت، ما هو هذا الشيء؟
إنه الهوى المختلف، وحينما يقال: "اختلفوا" فنحن نعلم أن جماعة قد ذهبت إلى شيء وجماعة أخرى ذهبت إلى شيء آخر.
وقد نستنتج أن طرفاً قد ذهب إلى حق، وأن الطرف الآخر قد ذهب إلى باطل، أو أنهم جميعاً قد ذهبوا إلى باطل.
والذهاب إلى الباطل قد يختلف؛ لأن كل باطل له لون مختلف.
هل أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقول: أنا أنزلت الأديان، ومن رحمتي بخلقي تركت بعضاً من الناس يحتفظون بالحق في ذاته وإن طرأ عليهم أناس يختلفون معهم.
وتجد المثال لذلك في اليهود، عندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد اختلفوا، وأسلم منهم أناس وآمنوا برسالة النبي الخاتم، بينما الآخرون لم يسلموا، ومن أسلم هم الذين كانوا على الحق، ومن رحمة الله تعالى أنه جعل الذين علموا برسالة رسول الله أن يعلنوا البشارة في كتبهم ولم يكتموا ذلك العلم بل أعلنوا الإيمان، بينما أصر البعض الآخر على كتمان ما جاءهم من العلم وأصروا على الإنكار.
إن الذين أسلموا هم الذين ينطبق عليهم قول الشاعر: إن الذي جعل الحقيقة علقما لم يخل من أهل الحقيقة جيلا
وإذا كان الله قد عصم الأجيال المتتالية من أمة الإسلام بأن حفظ لنا القرآن.
ففي الأديان الأخرى كان هناك أناس من أهل الحقيقة، وأنصفهم الله: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113-114].
لقد أنصفهم الله حق الإنصاف، والذين آمنوا برسول الله من أتباع تلك الديانات قد اهتدوا إلى الحق، واختلفوا مع غيرهم وقول الحق: {أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ} [آل عمران: 19] هذا القول يقتضي أن نقف عند "أوتوا" ونقف عند "الكتاب" وقفة أخرى، إن قول الحق "أوتوا" أي أن شيئاً قد جاء إليهم من جهة أخرى.
إذن فالكتاب ليس من أفكار البشر؛ لأن المنهج لو كان من أفكار البشر لكان من الممكن أن يختلفوا فيه أو حوله، وبناء "أوتوا" للمجهول يجعلنا نسأل: من الذي آتاهم الكتاب؟ إنه الله سبحانه وتعالى، والحق سبحانه وتعالى لا يأتي بمختلف فيه.
وما دام الكتاب من عند الله فلا يمكن أن يوجد فيه خلاف.
يقول الحق: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82].
وكأن الله ينبهنا بذلك القول إلى أن كل شيء ينبت من البشر للبشر، فلابد أن تحدث فيه خلافات.
إنما الشيء عندما يأتي من الواحد الأحد لا يمكن أن يحدث فيه خلاف أبداً.
لا يمكن أن يحدث خلاف فيما اتحد فيه المصدر والمنبع إلا إن وجدت -بضم الواو وكسر الجيم- أشياء زائدة عن ذلك، وهذه الأشياء الزائدة هي أهواء الذين يقولون: إنهم منسوبون إلى الله.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الكتاب لم يأت إليهم من بشر مثلهم، إنما من إله واحد قادر، وفي هذا تنبيه لأتباع الديانات السابقة.
أي إنكم أيها الأتباع لا تتبعون إلا منهج الله، وحين تتبعون منهج الله الذي جاء به الرسل فأنتم لا تتبعون أحداً من الخلق، لأن أي رسول أرسل إليكم إنما جاء ليبلغكم بمنهج قادم من ربكم، ولم يقل لكم أحد من الرسل إن المنهج قادم من عنده والرسول يحمل نفسه على الطاعة والخضوع للمنهج المنزل عليه قبلكم، وهذه عزة لكم، ولينتبه جميع الخلق أن المنهج الحق دائماً قد أخذه الرسل من الله.
وحين يقول الحق: "الكتاب" فلنا أن نعرف أن كلمة "الكتاب" قد وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع، إن الحق سبحانه وتعالى يسمي القرآن مرة "قرآنا" لأنه يقرأ، ويسميه الحق أيضاً "الكتاب" وذلك دليل على أنه يُكتب، وحين نقول: إن القرآن من "القراءة" فهذا يعني أن نبرز ما في الصدور بالقراءة ولكن ما في الصدور قد تلويه الأهواء؛ لذلك يحرس الحق قرآنه بما في السطور ولذلك فالقرآن مقروء ومكتوب.
وعندما يقول الحق "من أهل الكتاب"، فإن ذلك تنبيه لنا أن الكتاب هو منهج مكتوب، أي لم يتم وضعه في الصدور ونسيته النفوس، لا، إنه منهج مكتوب، هكذا حدد الحق أمر المنهج السابق على القرآن، إنه مكتوب، فإن لعبت أهواء النفوس كما لعبت، فإن ذلك يعني تحريف الكلم عن مواضعه.
ولنا أن ننتقل الآن إلى معرفة "العلم": ما هو العلم؟ إن العلم هو أن تدرك قضية وهذه القضية واقعة في الوجود تستطيع أن تقيم الدليل عليها، وغير ذلك من القضايا لا يصل إلى مرتبة العلم لأنه لا يستطيع أحد أن يدلل عليه.
مثال ذلك: نحن نقول: "الأرض كروية" إن كروية الأرض هي نسبة حدثت، ونقولها ونحن جازمون بها.
والسابقون لنا في عصور سابقة قال بعضهم: "إن الأرض مسطحة"، وحاول أن يجد من الأسباب ما يقيم الدليل على ذلك, ولكن الذين أقاموا الدليل على أن الأرض كروية كانوا صادقين بالفعل.
وفي العصر الحديث صارت كروية الأرض أمراً مرئياً من سفن الفضاء، وغيرها من الوسائل، ونحن نعرف أنه "ليس مع العين أين" إن الكروية بالنسبة للأرض، هي نسبة، نقولها ونجزم بها، والواقع أنها كذلك، ونستطيع أن نقيم على ذلك الدليل.
هذا هو العلم المستوفى، إن فساد الناس أنهم يأتون إلى قضية لن تصل إلى هذه المرتبة ويسمونها "علماً" كقولهم: إن الإنسان أصله قرد، لا، إن أحداً لا يستطيع الجزم بذلك، وتلك قضية ليست من العلم، إن كلمة "علم" تُطلق على القضية المجزوم بها؛ وهي واقعة في الوجود، ونستطيع أن ندلل عليها، وإذا كانت القضية مجزوماً بها؛ وواقعة في الوجود، ولكنك لا تستطيع أن تدلل عليها، فماذا تسمي هذه القضية؟ هذا ما يطلق عليه "تقليد" تماماً كما يقلد الولد أباه قبل أن ينضج عقله فيقول: "لا إله إلا الله، الله واحد”.
ومثلما يأخذ التلميذ عن أستاذه القضية العلمية، ولا يعرف كيفية إقامة الدليل عليها، فهذا نطلق عليه "تقليداً"، وإلى أن ينضج عقل التلميذ ويحسن استيعابه نقول له: ابحث بحثاً آخر لتقديم الدليل.
إذن فالتقليد هو قضية مجزوم بها، وواقعة، ولا يوجد عليها دليل.
وهكذا نعرف أن "العلم" يمتاز عن التقليد بوجود القدرة على التدليل، لكن إذا ما كانت هناك قضية ومجزوم بها ولكنها ليست واقعة، فماذا نسمي ذلك؟ إن هذا هو الجهل.
إن الجهل لا يعني عدم علم الإنسان، ولكن الجهل يعني أن يعلم الإنسان قضية مخالفة للواقع ومناقضة له.
أما الذي لا يعلم فهو أميّ يحتاج إلى معرفة الحكم الصحيح، فالجاهل أمره يختلف، إنه يحتاج منا أن نُخرج من ذهنه الحكم الباطل؛ ونضع في يقينه الحكم الصحيح، وهكذا تكون عملية إقناع الجاهل بالحكم الصحيح هي عملية مركبة من أمرين، إخراج الباطل من ذهنه، ووضع الحكم الصحيح في يقينه.
ولذلك فنحن نجد أن تعب الناس يتأتى من الجهلاء، لا من الأميين؛ لأن الجاهل هو الذي يجزم بقضية مخالفة للواقع ومناقضة له، أما الأميّ فهو لا يعرف، ويحتاج إلى أن يعرف.
وماذا يكون الأمر حين تكون القضية غير مجزوم بها، وتكون نسبة عدم الجزم، مساوية للجزم؟
هنا نقول: إن هذا الأمر هو الشك، وإن رجح أمر الجزم على عدم الجزم فهذا هو الظن، وإن رجح عدم الجزم يكون ذلك هو الوهم.
إذن فوسائل إدراك القضايا هي كالآتي:
أولاً: علم.
ثانياً: تقليد.
ثالثاً: جهل.
رابعاً: شك.
خامساً: ظن.
سادساً: وهم.
والعلم هو أعلى المستويات في إدراك القضايا.
ولذلك نجد أن الحق يحدد لنا على ماذا اختلف الذين أوتوا الكتاب، لقد اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم.
ولم يقل الحق: إنهم اختلفوا بعد ما جاءهم التقليد أو الظن، أو الجهل أو الشك، إنما قال الحق: إنهم قد اختلفوا من بعد ما جاءهم الاستيفاء الكامل، وهو العلم.
وما دام هناك أمر قد جاء من القائم بالقسط والإله الواحد، فالمسألة القادمة منه وهي الحق قد وصلت إلى مرتبة العلم.
إذن، ففيم الاختلاف؟
لابد أن أمراً ما قد جدّ والذي يجدُّ إنما هو قادم من الأغيار، وهي الأهواء، ولذلك يحدد لنا الحق هذا الأمر بقوله "بغياً بينهم”.
ما البغي؟
البغي هو طلب الاستعلاء بغير حق.
إذن فطلب الاستعلاء ليس ممقوتاً في ذاته؛ لأن طلب الاستعلاء هو قضية الطموح في الكون.
وأن يطلب إنسان الرفعة فيجد ويجتهد، ويبذل العرق ليصل إلى مكانة علمية أو غيرها، فهذا حق طبيعي، ونحن نعرف أن العالم قد ارتقى بالطموحات الإنسانية، إن العالم لو اكتفى وثبت عند الذي وصل إليه في جيل ما، فإن العالم يحكم على نفسه بالجمود، ولكن الناس طورت في العالم الذي تحياه بجهد بذله البعض منهم في قضايا نافعة، ثم حاولوا أن يرتقوا بها ونالوا حقهم من التقدير، وارتفعوا بالعلم بجهد حقيقي بذلوه، وبدراسة لما بذله السابقون عليهم.
إذن فطلب الاستعلاء في حد ذاته غير ممقوت، بل محمود ما دام قائما على الجهد.
لكن أن يطلب الإنسان الاستعلاء بغير حق، فهذا هو البغي.
لقد أثبت الله لنا في هذه الآية، أن كل خلاف بين رجال دين، أو بين دين ودين، إنما مرجعه إلى نشوء البغي، ونشوء البغي هو طلب رجال دين الاستعلاء بغير الحق.
ومظاهر طلب الاستعلاء بغير حق هو إعطاء الفتاوى التي توافق أمزجة القوم، وتخالف ما أنزله الحق.
إن الواحد من هؤلاء يدعي لنفسه التحضر، ويعطي من الفتاوى ما يناقض الذي أنزله الله، ويدعي أنه يأخذ الدين بروح العصر، ويدعي لنفسه عدم الجمود، ويذهب إلى حد اتهام المتمسكين بدينهم بأنهم متخلفون، والهدف الذي يختبئ في صدر مثل هذا الإنسان هو الاستعلاء في قومه بغير الحق، ويجب أن نفهم أن كل خلاف بين أهل دين واحد، أو بين دين ودين، منبعه قول الحق: "بغياً بينهم”.
وهذا يعني اتباع البعض للهوى النابع من بينهم ولم ينزله الله.
لماذا؟
لأن الله سبحانه وتعالى إمّا أن ينزل حكماً محكماً لا رأي فيه لأحد، ولا يستطيع أحد أن ينقضه، وإما أن ينزل الله حكماً قابلاً للفهم والاجتهاد.
ولم يجعل الله الأحكام كلها من لون واحد، إنما جعل الأحكام على لونين، وذلك حتى يحترم الإنسان ما وهبه الخالق له من عقل، ويجعل له مهمة، فيأتي بقضية ويبحثها ويرجح سبباً على سبب.
وفي ذلك استخدام من الإنسان لعقله، إنها رحمة من الله حتى لا يجمد العقل الإنساني.
إذن فإذا رأيت أي خلاف بين رجال الدين أو بين دين ودين فاعلم أن القول الفصل في هذا الأمر هو ما عبر عنه في القرآن: "بغياً بينهم" فمن البغي يهب الهوى الذي تنشأ منه الأعاصير، إن من يحب الاستعلاء بغير الحق هو الذي يحاول البغي فيدعي لنفسه أنه أرقى في الفكر، أو يستعلي عند من يملكون له أمراً، أو يستعلي عندما يوافق حاكماً في رأي من الآراء، ويبرر للحاكم حكماً من الأحكام.
إن كلمة "بغياً بينهم" يدخل في نطاقها كل موجات الخروج عن منهج الله، والتي نراها في الكون، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة ضد الأمراض النفسية الناشئة عن البغي، مثلما يعطي المعاصرون المصل ضد أمراض البدن التي تفتك بالإنسان، وحتى لا تفاجئنا أمراض البغي، نجد الرسول يعطينا المناعة.
فيقول لنا صلى الله عليه وسلم: "البِرُّ حُسْنُ الخُلُق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع عليه الناس“.
ويحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك كما في الحديث التالي: فيقول صلى الله عليه وسلم: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون“.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا ليوضح لنا أن أهل البغي لهم لجاج في أن يقولوا ويصدروا الفتاوى، وما معنى الإفتاء الذي يحذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل هو مجرد رأي؟
أم هو رأي يأتي من إنسان معروف عنه أنه مشتغل بعلم الله وبالأحكام؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى ذلك مناعة لنا.
فقد يصبح أصحاب الحق قلة، وليس لهم نصيب في إيصال رأيهم للناس، أو أن الذين يملكون الكلمة الإعلامية ليسوا مع أصحاب الحق بل في جانب رجل يساير الباطل أو الركب.
وهنا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطانا المناعة حتى لا ييأس المتمسكون بالحق، فأمر الدين لن يمر رخاء، أو بسلام دائم، بل سنجد قوماً يفسرون أحكام الدين بغياً بينهم، ويلوون الأشياء؛ لذلك أوضح لنا أن المؤمن حَكَمٌ في نفسه، ويحذرنا من الذين يفتون بالبغي، إن الإفتاء يحتاجه الناس من الذي يعلم، ولذلك جاءت كلمة "يستفتونك" أكثر من مرة في القرآن الكريم، لأن الذين يطلبون الفتوى هم الذين يحتاجون إلى توضيح لأمر ما؛ لأنهم مشغولون بقضية الإيمان، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى، ويحذر كل مؤمن من أن يستمع لكل فتوى.
ويقول الحق: {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ} [آل عمران: 19].
إذن فمن هو الذي يكفر بآيات الله؟ وفي أي مجال؟
إن الكفر بآيات الله هنا محدد في الاختلاف، وفي البغي بينهم، أي طلب الاستعلاء بغير حق، وسمى الحق كل ذلك "كفرا" والمراد منه هنا التنبيه لنا ألا نستر أحكام الله بالاختلاف أو البغي، وجاء التحذير في تذييل الآية بقوله: {فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ} [آل عمران: 19].
فإياك أن تستطيل أمر الجزاء وتقول: سأستمتع بنتيجة البغي والاختلاف لخدمة مَنْ يهمهم أمر الاختلاف، ويهمهم أمر البغي، لأنك تريد أن تتعجل أشياء تظن أنها نافعة لك، لكن ها هو ذا الحق سبحانه يحذرك أن تستبطئ حسابه، لماذا؟
لأنه من الجائز أن يأتي لك الحساب من الله في الدنيا، وهب أن الله لم يبتل مثل هذا الإنسان ببلاء كبير في الدنيا فإن هذا الإنسان سيكون له الحساب العسير في الآخرة.
وقد يقول قائل: إن الحساب في الدنيا قد يؤجله الله إلى الآخرة، والعلامات الصغرى للقيامة نحن في مراحلها، وما زالت العلامات الكبرى ليوم القيامة لم تظهر.
لمثل هذا القائل نقول: هناك فرق بين الحدث في ذاته، وبين الحدث فيمن يُجرى عليه الحدث.
هناك فرق بين أن تقوم القيامة على الناس جميعاً، وبين أن تُختصر حياة الإنسان بحادثة ليست في حسبانه، فقد يُفتي الإنسان فتوى اليوم، وتأتي له حادثة فورية تنقله فجأة إلى سريع الحساب، فإن استبطأ إنسان الحساب، فعليه أن يعرف أن الآخرة قد تجيء له أسرع من مسائل الدنيا, لأن الإنسان لا يملك القدرة على إطالة عمره، ومفتاح العمر عند الخالق الأكرم، وهو الذي يملك القدرة على أن ينقل إليه مَنْ يريد في أي وقت.
وهكذا تكون الآخرة بالنسبة للمستبطئ للحساب أسرع من حساب الدنيا، وكلمة "حساب" كلمة تطمئن المؤمن إلى أن الله قائم بالقسط لا يتخلى حتى عمن كفر به أو عصاه، إن كل إنسان يأخذ ماله ويدفع ما عليه، ويقول الحق من بعد ذلك: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ...}. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة آل عمران الآيات من 016-020 السبت 20 أبريل 2019, 7:23 am | |
| فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [٢٠] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
{فَإنْ حَآجُّوكَ} [آل عمران: 20] هذا القول يدل على أن الحق سبحانه وتعالى يلقي منهجه على الرسول الخاتم، ويعطيه الواقع الذي يحيا فيه، لقد جابه الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة معسكرات.
المعسكر الأول: هم مشركو قريش، وكان كفرهم في القمة.
والمعسكر الثاني: هو معسكر اليهود والنصارى ويجمعهم معا لأنهم أهل كتاب.
والمعسكر الثالث: هو معسكر المنافقين.
والمحاجّة قد أتت من المعسكر الثاني، لأن كفار قريش لم يدعوا أن عندهم ديناً قد نزل من السماء، أما أهل الكتاب فهم يدعون أن عندهم ديناً منزلاً من السماء، وعندما يناطح الشرك ديناً فهذا أمر معقول، أما أن يناطح أهل دين نزل من السماء رسولاً جاء بدين خاتم من السماء فهذا أمر يستحق أن نتوقف عنده.
ومعنى {فَإنْ حَآجُّوكَ} [آل عمران: 20] أي أنهم يحاججون الرسول صلى الله عليه وسلم وتم إدغام الحرفين المتشابهين وهما حرفا "الجيم" حتى لا تصبح ثقيلة على اللسان.
ومعنى المحاجة: أن يدلي كل واحد من الخصمين بحجته.
وهذا يعني النقاش، وما دام هناك نقاش بين حق وبين باطل، فإن الله لا يترك الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يقول له: {فَإنْ حَآجُّوكَ} [آل عمران: 20] أي إن ناقشوك في أمر الإسلام الذي جئت به كدين خاتم مناقض لوثنية أو شرك قريش ومناقض لما قام أهل الكتاب بتغييره من مراد الله فقل يا محمد: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} [آل عمران: 20] وقد قلنا من قبل: إننا عندما نسمع قول الحق "فقل" كان من الجائز أن يكتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقول القول, وضربنا مثلاً على ذلك، حين يقول الأب لابنه: اذهب إلى عمك وقل له: كذا وكذا.
وساعة أن يذهب الابن إلى العم فيقول له: الأمر كذا، وكذا.
إن الابن لا يقول لعمه: قل لعمك كذا وكذا.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حافظ على النص الذي جاءه من ربه لأن النص واضح.
{فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} [آل عمران: 20] فهل هذا رد بالحجة؟
نعم هذا هو الرد، لأن أهل الكتاب وكفار قريش يأتي فيهم القول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ} [الزخرف: 9].
ويأتي فيهم القول الحكيم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87].
والكون كما نعرف "مكان" و"مكين".
فالمكان: هو السماء والأرض.
والمكين وهو الإنسان.
والمكان مخلوق لله، والمكين مخلوق لله.
وكان المنطق أن نسلم وجهنا لمن خلق.
إذن فقول الحق: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} [آل عمران: 20] أي انتبهوا أيها الناس، إنني لم أخرج عن دائرة الإيمان بالإله الواحد، الذي تؤمنون به.
إنه هو الذي خلق وهو الذي أوجد الكون.
وبعد ذلك إذا كان في الإسلام خضوع، فإن الحق يأتي بأشرف شيء في الإنسان ليجعله مظهر الخضوع.
لأن الوجه هو السمة العالية المميزة، وهو الذي يظهر عليه انفعالات الأحداث في الكون من سرور أو حزن، ويظهر عليه أنك قد تكون قد سجدت وأنت كاره للسجود، أو سجدت وأنت مقرب لله سبحانه وتعالى فيمتلئ الوجه بالبشر والبشاشة.
وقول الحق: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} [آل عمران: 20].
تعني أن الوجه المسلم لله وهو أشرف شيء في الإنسان قد خضع للحق، وكأن القول الكريم لم ينسب الخضوع للبدن ولكن لأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه، والوجه يطلق مرة ويراد به الذات كلها، فعندما يقول إنسان: "أسلمت وجهي" فهو يعني "أسلمت ذاتي" بكل ما أوتيت الذات من جوارح ومن أعضاء، ولنقرأ قول الحق سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
أي كل شيء هالك إلا ذاته سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود بـ "إلا وجهه" وإلا إن أخذنا الوجه على أنه الوجه فقط فقد يقول قائل: أليس لله يد مثلاً؟
ونقول إن له يداً في نطاق ليس كمثله شيء، ولذلك فلا يد الله تهلك ولا أي شيء فيه يهلك، ووجهه يعني ذاته في نطاق ليس كمثله شيء.
وأطلق الوجه على الذات، لأن الوجه هو المشخص للذات، فلا يستطيع أحد أن يميز أعضاء بدن عن أعضاء بدن، إنما التمييز يأتي بسمة الوجه، لأنها السمة المميزة، وقول الحق في تلقينه لرسول الله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20].
تدل على أن الرسول قد أسلم وجهه لله؛ لأن الله خاطبه بوساطة الوحي، والوحي يباشره صلى الله عليه وسلم، ولكن حين يقول: {وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] فقد قام الدليل لمن اتبعني، وإن لم يكن مخاطباً من الله مباشرة.
إذن فلا مجال لأن يقول قائل للرسول صلى الله عليه وسلم: أنت أسلمت وجهك لله لأنه خاطبك وحدك، وكأن صاحب هذا القول يريد خطاباً لكل مؤمن، قال سبحانه: {وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] فمن اتبع الرسول فقد آمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول صدق مبلغ عن الله منهج حق، فلا مجال لطلب البلاغ لكل فرد؛ لأن البلاغ قد وصل إليهم بالإيمان بما أنزله الله على رسوله الكريم ويأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران: 20].
وساعة تقرأ أو تسمع أسلوباً فيه "همزة الاستفهام" فلك أن تعرف أن الاستفهام يُطلب منه أن تُعرف الحقيقة، كقول إنسان لآخر: أعندك محمد؟ أو أزارك فلان؟
إن هذا استفهام المراد به فهم الحقيقة، ومرة يريد الاستفهام مجرد الأمر بشيء، كأن يأتيك ضيف وتجلس معه ويدخل عليك والدك فيقول لك: أصنعت قهوة لضيفك؟ إن ذلك توجيه لك إن كنت لم تقم بواجب الضيافة فعليك أن تسرع في القيام بهذا الواجب.
وعلى ذلك نفهم قول الحق: "أأسلمتم" ولذلك نقرأ قول الحق سبحانه بعد الكلام عن الخمر: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91].
إن قول الحق: "فهل أنتم منتهون" يتضمن استفهاماً، والاستفهام هنا يعني الأمر بالانتهاء.
وفي مجال الآية التي نتعرض لها بالخواطر نجد قول الحق: "أأسلمتم" تعني الدعوة للإسلام، أي "أسلموا" وجاء بعد ذلك قول الحق الكريم: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ} [آل عمران: 20] ومعنى "اهتدوا" أنهم عرفوا الطريق الموصل للغاية التي خلق الله من أجلها الإنسان.
وهنا يجب أن نعلم أن كلمة "الإسلام" هنا جاءت لتدل على الخضوع, والخضوع لا يلمح إلا من خاضع، وعملية الخضوع تعرف بالحركة والسلوك، ولا تعرف فقط بالاعتقاد، ولذلك فالإمام عليّ كرم الله وجهه الذي أوتي شيئاً من نفح النبوة في الأداء الإيماني بالأسلوب البياني الجميل قال الإمام عليّ لإخوانه: سأنسب الإسلام نسباً لم ينسبه قبلى أحد: الإسلام هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار, والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، والمؤمن يُعرف إيمانه بالعمل.
ونحن في حياتنا العادية نسأل: ما نسب فلان؟
أي أننا نسأل "هو ابن مَن"؟
ومعنى كلمة "نسابة" عند العرب هو الرجل الذي يعرف سلسلة النسب، ومَن ابن مَن، ففلان ابن فلان ابن فلان، ابن فلان.
والإمام عليّ كرم الله وجهه، حين ينسب الإسلام ينسبه بالفعل إلى نسب لم ينسبه قبله أحد.
وحين ينتهي الإمام عليّ كرم الله وجهه إلى أن نسب الإسلام إلى العمل قال: المؤمن يعرف إيمانه بالعمل، فالدليل الصحيح على إيمان المؤمن هو عمله ويضيف الإمام عليّ كرم الله وجهه: والكافر يُعرف كفره بالإنكار، وإن المؤمن قد أخذ دينه من ربه، ولم يأخذه برأيه.
والسيئة في الإسلام خير من الحسنة في غيره؛ لأن السيئة في الإسلام تُغفر، والحسنة في غيره لا تُقبل؛ لأن الكفر يصاحبها بالله, هل هناك نسب للإسلام أروع من هذا؟
وهكذا نجد القول الكريم: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ} [آل عمران: 20].
والمقابل للإسلام يأتي بعد ذلك: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ} [آل عمران: 20] إن المقابل هو "تولوا" أي لم يسلموا، إنه الحق ينبه رسوله ألا يحزن, وألا يأسف إن تولوا, كما جاء في قوله الكريم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6].
لماذا؟
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه البلاغ فقط، وما دام قد جاء في صدر الآية: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] فإن البلاغ أيضاً يشمل النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه، ولذلك تأتي آية أخرى لتشرح هذه القضية الإيمانية، ولتبقى الرسالة في أمته صلى الله عليه وسلم، ولتخبرنا أيضاً لماذا لم يعد هناك داع لوجود أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أن المؤمنين برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمناء على أن يعدلوا فساد السلوك في الكون، فلم يعد العالم في حاجة إلى أنبياء جدد، ولهذا السبب قال الرسول: صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء“.
إذن "فعليك البلاغ" نأخذ منها الفهم الواضح أن البلاغ لا تنتهي مهمته عند الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يشمل كل عالم بالبلاغ الذي وصل إلى رسول الله وآمن به، فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة، ويوضح الحق ذلك في آية أخرى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
ويقول الحق في آية أخرى: {وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ} [الحج: 78].
ومعنى ذلك أنكم تشهدون على الناس أنكم أبلغتموهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن لم يقم بإبلاغ الناس برسالة رسول الله فهو لم يأخذ ميراث النبوة، وميراث النبوة كما يكون شرف تبليغٍ، فهو أيضاً تجلّد وتحمل، إن ميراث النبوة يكون مرة هو نيل شرف التبليغ لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة أخرى يكون ميراث النبوة هو جلادة التحمل، في سبيل أداء الرسالة، وجلادة التحمل هي التي يجب أن يتصف بها أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فكما ورثناه نحن المسلمين في شرف النبوة فإننا نرثه في جلادة التحمل، وهذا هو معنى القول الحق: {لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ} [الحج: 78].
فما معنى الأسوة إذن؟ إن الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتضي أنه ما دام قد تحمل بجلادة بلاغ الناس في رسالته، فعلينا أيضاً أن نقتدي به.
لقد ناضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أتباع رسول الله أن يناضلوا في سبيل نشر الدعوة، فإن رأيت أهل الدين في استرخاء وترهل وعدم قدرة على النضال في سبيل البلاغ عن الله فلتعلم أن هؤلاء القوم لن يأخذوا ميراث النبوة.
ولذلك إذا رأيت عالماً من علماء الإسلام ليس له أعداء فأعلم أنه قد نقص ميراثه من ميراث الأنبياء.
لماذا؟
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أعداء وكان يواجههم، فساعة أن ترى رجل دين له أعداء فاعرف أنه قد أخذ حظه من ميراث الأنبياء ولننظر الآن إلى قول الحق سبحانه تذييلاً للآية يوضح لنا ما الإسلام: {وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ} [آل عمران: 20] لم يقل الله: إنه عليم بالعباد، لأن "عليم" تكون للأمور العقدية، لقد قال الحق في وصف ذاته هنا: "إنه بصير بالعباد"، والبصر لا يأتي إلا ليدرك حركة وسلوكاً.
فماذا يرى الله من العباد؟
إنه -سبحانه- يرى العباد المتحركين في الكون، وهل حركة العبد منهم تطابق الإسلام أم لا؟
ومتابعة الحركة تحتاج إلى البصر، ولا تحتاج إلى العلم، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟
إذن فقول الحق: {وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ} [آل عمران: 20] نفهم منها أن الإسلام سلوك لا اعتقاد فقط، لأن الذي يُرى هو الفعل لا المعتقدات الداخلية.
وما دام الله بصيراً بكل سكنات الإنسان وحركاته، فإن الإنسان يستحي أن يراه ربه على غير ما يحب، وأضرب هذا المثل للتقريب لا للتشبيه فالحق سبحانه له المثل الأعلى وليس كمثله شيء، نحن في حياتنا العادية نجد أن الشاب الذي يدخن يستحي أن يظهر أمام كبار عائلته كمدخن، فيمتنع عن التدخين أثناء تواجده مع الكبار، فما بالنا بالعبد وهو يعتقد أن الله يراه؟
وبعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ...}. |
| | | | سورة آل عمران الآيات من 016-020 | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|