وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [٨٨]
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
الله سبحانه وتعالى يذكر لنا كيف برر بنو إسرائيل عدم إيمانهم وقتلهم الأنبياء وكل ما حدث منهم، فماذا قالوا؟ لقد قالوا {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] والغلف مأخوذ من الغلاف والتغليف، وهناك غلْف بسكون اللام، وغلُف بضم اللام، مثل كتاب وكتب {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] أي مغلفة وفيها من العلم ما يكفيها ويزيد، فكأنهم يقولون إننا لسنا في حاجة إلى كلام الرسل، أو {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] أي مغلفة ومطبوع عليها، أي أن الله طبع على قلوبهم وختم عليها حتى لا ينفذ إليها شعاع من الهدية، ولا يخرج منها شعاع من الكفر.
إذا كان الله سبحانه وتعالى قد فعل هذا، ألم تسألوا أنفسكم لماذا؟ ما هو السبب؟ والحق تبارك وتعالى يرد عليهم فيقول: {بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]: لفظ "بل" يؤكد لنا أن كلامهم غير صحيح، فهم ليس عندهم كفاية من العلم بحيث لا يحتاجون إلى منهج الرسل، ولكنهم ملعونون ومطرودون من رحمة الله، فلا تنفذ إشعاعات النور ولا الهداية إلى قلوبهم، ولكن ذلك ليس لأن ختم عليها بلا سبب، ولكنه جزاء على أنهم جاءهم النور والهدى، فصدوه بالكفر أولاً، ولذلك فإنهم أصبحوا مطرودين من رحمة الله، لأن من يصد الإيمان بالكفر يطرد من رحمة الله، ولا ينفذ إلى قلبه شعاع من أشعة الإيمان.
وهنا يجب أن نتنبه إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يبدأهم باللعنة، وبعض الناس الذين يريدون أن يهربوا من مسئولية الكفر -علها تنجيهم من العذاب يوم القيامة- يقولون إن الله سبحانه وتعالى قال: { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ، } [فاطر: 8].
تلك هي حجة الكافرين الذين يظنون أنها ستنجيهم من العذاب يوم القيامة، إنهم يريدون أن يقولوا إن الله يضل من يشاء، وما دام الله قد شاء أن يضلني فما ذنبي أنا؟
وهل أستطيع أن أمنع مشيئة الله، نقول له: إن الله إذا قيد أمراً من الأمور المطلقة فيجب أن نلجأ إلى التقييد، والله تبارك وتعالى يقول: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [التوبة: 37].
ويقول سبحانه: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [التوبة: 19].
ويقول جل جلاله: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [التوبة: 24].
والحق سبحانه وتعالى أخبرنا أنه منع إعانته للهداية عن ثلاثة أنواع من الناس، الكافرين والظالمين والفاسقين، ولكن هل هو سبحانه وتعالى منع معونة الهداية أولاً؟ أم أنهم هم الذين ارتكبوا من الضلال ما جعلهم لا يستحقون هداية الله؟! إنسان واجه الله بالكفر، كفر بالله، رفض أن يستمع لآيات الله ورسله، ورفض أن يتأمل في كون الله، ورفض أن يتأمل في خلقه هو نفسه ومن الذي خلقه، ورفض أن يتأمل في خلق السماوات والأرض، كل هذا رفضه تماماً، ومضى يصنع لنفسه طريق الضلال ويشرع لنفسه الكفر، لأنه فعل ذلك أولاً، ولأنه بدأ بالكفر برغم أن الله سبحانه وتعالى وضع له في الكون وفي نفسه آيات تجعله يؤمن بالله، وبرغم ذلك رفض.
هو الذي بدأ والله سبحانه وتعالى ختم على قلبه.
الإنسان الظالم يظلم الناس ولا يخشى الله، يذكرونه بقدره الله وقوة الله فلا يلتفت، يختم الله على قلبه، كذلك الإنسان الفاسق الذي لا يترك منكراً إلا فعله، ولا إثماً إلا ارتكبه، ولا معصية إلا أسرع إليها، لا يهديه الله، أكنت تريد أن يبدأ هؤلاء الناس بالكفر والظلم والفسوق ويصرون عليه ثم يهديهم الله؟ يهديهم قهراً أو قَسْراً، والله سبحانه وتعالى خلقنا مختارين؟ طبعاً لا، ذلك يضيع الاختيار البشري في أن يطيع الإنسان أو يعصي.
والحق تبارك وتعالى أثبت طلاقة قدرته فيما نحن مقهورون فيه، في أجسادنا التي تعمل أعضاؤها الداخلية بقهر من الله سبحانه وتعالى وليس بإرادة منا كالقلب والتنفس والدورة الدموية، والمعدة والأمعاء والكبد، كل هذا وغيره مقهور لله جل جلاله، لا نستطيع أن نأمره ليفعل فيفعل، وأن نأمره ألا يفعل فلا يفعل، وأثبت الله سبحانه وتعالى طلاقة قدرته فيما يقع علينا من أحداث في الكون، فهذا يمرض، وهذا تدهمه سيارة، وهذا يقع عليه حجر، وهذا يسقط، وهذا يعتدي عليه إنسان، كل الأشياء التي تقع عليك لا دخل لك فيها ولا تستطيع أن تمنعها، بقي ذلك الذي يقع منك وأهمه تطبيق منهج الله في افعل ولا تفعل، هذا لك اختيار فيه.
إن الله سبحانه وتعالى أوجد لك هذا الاختيار حتى يكون الحساب في الآخرة عدلاً، فإذا اخترت الكفر لا يجبرك الله على الإيمان، وإذا اخترت الظلم لا يجبرك الله على العدل، وإذا اخترت الفسوق لا يجبرك الله على الطاعة، إنه يحترم اختيارك لأنه أعطاك هذا الاختيار ليحاسبك عليه يوم القيامة.
لقد أثبت الله لنفسه طلاقة القدرة بأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ولكنه سبحانه قال إنه لا يهدي القوم الكافرين ولا القوم الظالمين ولا القوم الفاسقين، فمن يرد أن يخرج من هداية الله فليكفر أو يظلم أو يفسق، ويكون في هذه الحالة هو الذي اختار فحق عليه عقاب الله، لذلك فقد قال الكافرون من بني إسرائيل إن الله ختم على قلوبهم فهم لا يهتدون، ولكنهم هم الذين اختاروا هذا الطريق ومشوا فيه، فاختاروا عدم الهداية، لقد أثارت هذه القضية جدلاً كبيراً بين العلماء ولكنها في الحقيقة لا تستحق هذا الجدل، فالله سبحانه وتعالى قال: {بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، ويتم ذلك بقدرة الله سبحانه وتعالى، لأن الطرد يتناسب مع قوة الطارد.
فمثلاً، ابنك الصغير يطرد حجراً أمامه تكون قوة الطرد متناسبة مع سنه وقوته، والأكبر أشد فأشد، فإذا كان الطارد هو الله سبحانه وتعالى فلا يكون هناك مقدار لقوة اللعن والطرد يعرفه العقل البشري.
قوله تعالى: {بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، أي طردهم الله بسبب كفرهم، والله تبارك وتعالى لا يتودد للناس لكي يؤمنوا، ولا يريد للرسل أن يُتْعِبُوا أنفسهم في حمل الناس على الإيمان، إنما وظيفة الرسل هي البلاغ حتى يكون الحساب حقاً وعدلاً، واقرأ قوله جل جلاله: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 3-4].
أي أنهم لا يستطيعون ألا يؤمنوا إذا أردناهم مؤمنين قهراً، ولكننا نريدهم مؤمنين اختياراً، وإيمان العبد هو الذي ينتفع به، فالله لا ينتفع بإيمان البشر، وقولنا لا إله إلا الله لا يسند عرش الله، قلناها أو لم نقلها، فلا إله إلا الله، ولكننا نقولها لتشهد علينا يوم القيامة، نقولها لتنجينا من أهوال يوم القيامة ومن غضب الله، وقوله تعالى: "بكفرهم" يعطينا قضية مهمة هي: أنه تبارك وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك.
فمن يشرك معه أحداً فهو لمن أشرك، لذلك يقول الحق جل جلاله في الحديث القدسي: أنا أغنى الشركاءِ عن الشِّركِ من عَمِلَ عملاً أَشْرَكَ فيه معي غيري تركْتُهُ وشِركُه).
وشهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه بالألوهية، هي شهادة الذات للذات، وذلك في قوله تعالى: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ، } [آل عمران: 18].
فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق خلقاً يشهدون أنه لا إله إلا الله، شهد لنفسه بالألوهية، ولنقرأ الآية الكريمة: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ، } [آل عمران: 18]، والله سبحانه وتعالى شهد لنفسه شهادة الذات للذات.
والملائكة شهدوا بالمشاهدة، وأولو العلم بالدليل، والحق تبارك وتعالى يقول: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، عندما تقول قليلاً ما يحدث كذا، فإنك تقصد به هنا صيانة الاحتمال، لأنه من الممكن أن يثوب واحد منهم إلى رشده ويؤمن، فيبقي اللهُ البابَ مفتوحاً لهؤلاء.
ولذلك نجد الذين أسرفوا على أنفسهم في شبابهم قد يأتون في آخر عمرهم ويتوبون، في ظاهر الأمر أنهم أسرفوا على أنفسهم، ولكنهم عندما تابوا واعترفوا بخطاياهم وعادوا إلى طريق الحق تقبل الله إيمانهم، لذلك يقول الله جل جلاله: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] أي أن الأغلبية تظل على كفرها، والقلة هي التي تعود إلى الإيمان.