| سورة البقرة الآيات من 26-35 | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة البقرة الآيات من 26-35 الإثنين 25 مارس 2019, 9:14 pm | |
| إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [٢٦]. تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ) بعد أن تحدث الحق تبارك وتعالى عن الجنة، وأعطانا مثلاً يُقَرِّبُ لنا صور النعيم الهائلة التي سينعم بها الإنسان في الجنة، أراد أن يوضح لنا المنهج الإيماني الذي يجب أن يسلكه كل مؤمن، ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف كافراً بعبادته، ولكن الإنسان الذي ارتضى دخول الإيمان بالله جل جلاله قد دخل في عقد إيماني مع الله تبارك وتعالى، وما دام قد دخل العقد الإيماني فإنه يتلقى عن الله منهجه في "افعل، ولا تفعل"، وهذا المنهج عليه أن يطبقه دون أن يتساءل عن الحكمة في كل شيء، ذلك أن الإيمان هو إيمان بالغيب، فإذا كان الشيء نفسه غائباً عنا فكيف نريد أن نعرف حكمته.
إن حكمة أي تكليف إيماني هي: أنه صادر من الله سبحانه وتعالى، وما دام صادراً من الله فهو لم يصدر من مُساوٍ لك كي تناقشه، ولكنه صادر من إله وجبت عليك له الطاعة؛ لأنه إله وأنت له عابد، فيكفي أن الله سبحانه وتعالى قال افعل حتى نفعل، ويكفي أنه قال لا تفعل حتى لا نفعل.
الحكمة غائبة عنك، ولكن صدور الأمر من الله هو الحكمة، وهو الموجب للطاعة.
فأنا أصلي لأن الله فرض الصلاة، ولا أصلي كنوع من الرياضة، وأنا أتوضأ لأن الله تبارك وتعالى أمرنا بالوضوء قبل الصلاة، ولكنني لا أتوضأ كنوع من النظافة، وأنا أصوم لأن الله أمرني بالصوم، ولا أصوم حتى أشعر بجوع الفقير، لأنه لو كانت الصلاة رياضة لاستبدلناها بالرياضة في الملاعب، ولو أن الوضوء كان نظافة لقمنا بالاستحمام قبل كل صلاة، ولو أن الصوم كان لنشعر بالجوع ما وجب على الفقير أن يصوم لأنه يعرف معنى الجوع.
إذن فكل تكاليف من الله نفعلها لأن الله شرعها ولا نفعلها لأي شيء آخر، وكل ما يأتينا من الله من قرآن نستقبله على أنه كلام الله، ولا نستقبله بأي صيغة أخرى، ذلك هو الإيمان الذي يريد الله منا أن نتمسك به، وأن يكون هو سلوك حياتنا.
تلك مقدمة كان لابد منها إذا أردنا أن نعرف معنى الآية الكريمة: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26].
وعندما ضرب الله مثلاً بالبعوضة، استقبله الكفار بالمعنى الدنيوي دون أن يفطنوا للمعنى الحقيقي، قالوا: كيف يضرب الله مثلا بالبعوضة، ذلك المخلوق الضعيف الذي يكفي أن تضربه بأي شيء أو بكفك فيموت؟.
لماذا لم يضرب الله تبارك وتعالى مثلاً بالفيل الذي هو ضخم الجثة شديدة القوة، أو بالأسد الذي هو أقوى من الإنسان.
وضرب لنا مثلا بالبعوضة فقالوا: {مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً} [البقرة: 26].
ولم يفطنوا إلى أن هذه البعوضة دقيقة الحجم خلقها معجزة، لأن في هذا الحجم الدقيق وضع الله سبحانه وتعالى كل الأجهزة اللازمة لها في حياتها، فلها عينان ولها خرطوم دقيق جداً ولكنه يستطيع أن يخرق جلد الإنسان، ويخرق الأوعية الدموية التي تحت الجلد ليمتص دم الإنسان.
والبعوضة لها أرجل، ولها أجنحة، ولها دورة تناسلية، ولها كل ما يلزم لحياتها، كل هذا في هذا الحجم الدقيق، كلما دَقَّ الشيء احتاج إلى دقة خلق أكبر.
ونحن نشاهد في حياتنا البشرية أنه مثلاً عندما اخترع الإنسان الساعة، كان حجمها ضخماً جداً لدرجة أنها تحتاج إلى مكان كبير، وكلما تقدمت الحضارة وارتقى الإنسان في صناعته وحضارته وتقدمه، أصبح الحجم دقيقاً وصغيراً، وهكذا أخذت صناعة الساعات تَدِقُّ، حتى أصبح من الممكن صنع ساعة في حجم الخاتم أو أقل، وعندما بدأ اختراع المذياع (الراديو) كان حجمه كبيراً، والآن أصبح في غاية الدقة لدرجة أنك تستطيع أن تضعه في جيبك أو أقل من ذلك، وفي كل الصناعات عندما ترتقي، يصغر حجمها لأن ذلك محتاج إلى صناعة ماهرة وإلى تقدم علمي.
وهكذا حين ضرب الله مثلاً بالبعوضة وما فوقها، أي: بما هو أقل منها حجماً، فإنه تبارك وتعالى أراد أن يلفتنا إلى دقة الخلق، فكلما لَطُفَ الشيء وصَغُر حجمه احتاج إلى دقة الخلق، ولكن الكفار لم يأخذوا المعنى على هذا النحو، وإنما أخذوه بالمعنى الدنيوي البسيط الذي لا يمثل الحقيقة.
فالله سبحانه وتعالى حينما ضرب هذا المثل، استقبله المؤمنون بأنه كلام الله، واستقبلوه بمنطق الإيمان بالله، فصدقوا به سواء فهموه أم لم يفهموه، لأن المؤمن يصدق كل ما يجيء من عند الله سواء عَلِمَ الحكمة أو لم يعلمها، واقرأ قوله تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [الأعراف: 52-53].
إن كل مصدق بالقرآن لا يطلب تأويله أو الحكمة في آياته، ولذلك قال الكافرون: {مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً،} [البقرة: 26].
ويأتي رد الحق تبارك وتعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِين} [البقرة: 26].
ومَنْ هم الفاسقون؟
هم الذين ينقضون عهد الله، أول شيء في الفسق أن ينقض الفاسق عهده، ويقال فسقت الرطبة أي: بعدت القشرة عن التمرة، فعندما تكون التمرة أو البلحة حمراء تكون القشرة ملتصقة بالتمرة بحيث لا تستطيع أن تنزعها منها، فإذا أصبحت التمرة أو البلحة رُطَبة تسود قشرتها وتبتعد عن الثمرة بحيث تستطيع أن تنزعها عنها بسهولة، هذا هو الفاسق المبتعد عن منهج الله، ينسلخ عنه بسهولة ويُسْر، لأنه غير ملتصق به، وعندما تبتعد عن منهج الله فإنك لا ترتبط بأوامره ونواهيه، فلا تؤدي الصلاة مثلاً وتفعل ما نهى الله عنه؛ لأنك فسقت عن دينه.
والذي أوجد الفسق هو أن الإنسان خُلِقَ مختاراً، قادراً على أن يفعل أو لا يفعل، وبهذا الاختيار أفسد الإنسان نظام الكون، فكل شيء ليس للإنسان اختيار فيه تراه يؤدي مهمته بدقة عالية كالشمس والقمر والنجوم والأرض، كلها تتبع نظاماً دقيقاً لا يختل لأنها مقهورة، ولو أن الإنسان لم يُخْلَقْ مختاراً، لكان من المستحيل أن يفسق، وأن يبتعد عن منهج الله ويفسد في الأرض، ولكن هذا الاختيار هو أساس الفساد كله.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأربعاء 08 يوليو 2020, 2:57 pm عدل 3 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة البقرة الآيات من 26-35 الإثنين 25 مارس 2019, 9:27 pm | |
| الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [٢٧]. تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ) بعد أن بَيَّنَ الله لنا مفهوم الإيمان في أننا نتلقى عن الله وننفذ الحُكْم ولو لم نعرف الحكمة.
فكل ما يأتي من الله نأخذه بمنطق الإيمان، وهو أن الله الذي قال، وليس بمنطق الكفر والتشكك.
فكل شيء عن الله، حكمته أنه صادر عن الحق سبحانه وتعالى وأخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الفاسقين هم المبتعدون عن منهج الله، وأراد الحق أن يبين لنا صفات الفاسقين، فحددها في ثلاث صفات: أولاً: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
ثانياً: الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل.
ثالثاً: الذين يفسدون في الأرض.
ثم حدد لنا الحق تبارك وتعالى حكمهم فقال: {أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27].
والخسران الذي وصلوا إليه هو من عملهم، لأنهم تركوا المنهج وبدأوا يُشَرِّعون لأنفسهم بهوى النفس؛ ولذلك يقول الحق جل جلاله عنهم: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [البقرة: 16].
إذن: هم الذين اختاروا، وهم الذين اشتروا الضلالة ودفعوا ثمنها من هدى الله، فكأنهم عقدوا صفقة خاسرة؛ لأن هدى الله هو الذي يقودنا إلى الحياة الخالدة والنعيم الذي لا يزول.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا الصورة في قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [التوبة: 111].
إذن: فالمؤمنون باعوا لله سبحانه وتعالى أموالهم وأنفسهم، وكانوا صادقين في عهدهم، أما الكفار والمنافقون فقد باعوا هدى الله، واشتروا به ضلال الدنيا.
فالحق سبحانه وتعالى ذكر لنا أول صفات الفاسقين أنهم لا عهد لهم.
ليس بينهم وبين الناس فقط، ولكن لا عهد لهم مع الله أيضاً، وكلما عاهدوا الله عهداً نقضوه، والله يحب الوفاء بالعهد.
ولذلك يقول جل جلاله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34].
ويقول تعالى: { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102].
ما هو العهد المُوَثَّقُ الذي أخذه الله على عباده فنقضوه؟ إنه الإيمان الأول.
الإيمان الفطري الموجود في كل منا.
فالله سبحانه وتعالى أخذ من البشر جميعاً عهداً، فوفَّى به بعضهم ونقضه بعضهم.
والله سبحانه وتعالى ذكر لنا في القرآن الكريم أن هناك عهدا مُوَثَّقاً بينه وبين ذرية آدم.
فقال جل جلاله: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 172].
وهكذا أخذ الله عهداً على ذرية آدم بأن يؤمنوا به، وأشهدهم أنه ربهم.
وجاءت الغفلة إلى القلوب بمرور الوقت، فنقضوا العهد واتخذوا آلهة من دون الله، إذن: أول صفات الفاسقين أنهم نقضوا عهد الله، والذي ينقض عهداً مع بشر، فسلوكه هذا لا يقبله الحق سبحانه وتعالى حتى مع الكفار وغير المؤمنين.
واقرأ قوله تبارك وتعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } [التوبة: 4].
وهكذا نرى أن الحق تبارك وتعالى حين أعلن براءته وبراءة رسوله صلى الله عليه وسلم وبراءة المؤمنين من كل كافر مشرك في قضية إيمانية كبرى، حَرَّمَ الله فيها على الكفار والمنافقين أن يقتربوا من بيته الحرام في مكة، احترم جل جلاله العهد، حتى مع المشركين، وطلب من المؤمنين أن يوفوا به.
فإذا كان هذا هو المسلك الإيماني مع كل كافر ومشرك إن كنت قد عاهدته عهداً فأَوْفِ به إلى مُدَّته.
فكيف بالمشركين وقد عاهدوا الخالق الأعظم، ثم ينقضون عهده الموثق، إنهم قد خانوا منهج الله وعهده، وإذا لم يكن لهم عهد مع الله سبحانه وتعالى، فهل يكون لهم عهد مع خلق الله؟!
إذن: فالفاسقون أول صفاتهم أنه لا عهد لهم مع خالقهم، ولا عهد لهم مع الناس، ولذلك لا نأمن لهم أبداً.
ثم تأتي بعد ذلك الصفة الثانية للفاسقين في قولهتعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ،} [البقرة: 27].
وما أمر الله به أن يوصل هو صلة الرحم.
فقد أمرنا الله تعالى بأن نصل أرحامنا، فنحن كلنا أولاد آدم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: "كلكم لآدم وآدم من تراب".
وهكذا نرى أن هناك روابط إنسانية يلفتنا الله سبحانه وتعالى إليها.
وهذه الروابط تبدأ بالأسرة ثم تتسع لتشمل القرية أو الحي، ثم تتسع لتشمل الدولة والمجتمع، ثم تتسع لتشمل المؤمنين جميعاً، ثم تتسع لتشمل العالم كله.
هذه هي الإخوة الإنسانية التي يريد الحق تبارك وتعالى أن يلفتنا إليها.
ولكن اللفتة هنا لا تقتصر على الناحية الإنسانية، بل تسجل أن ما فعلوا معصية، ومخالفة لأمر اللهتعالى.
فالله أمر بأن نصل الرحم، وجاء هؤلاء وخالفوا وعصوا ما أمر الله به، وقطعوا هذه الصلة.
إذن: فالمسألة فيها مخالفة لمنهج، وعصيان لأمر من أوامر الله سبحانه وتعالى.
فصلة الرحم توجد نوعاً من التكافل الاجتماعي بين البشر.
فإذا حدث لشخص مصيبة، أسرع أقاربه يقفون معه في محنته، ويحاول كل منهم أن يخفف عنه.
هذا التلاحم بين الأسرة يجعلها قوية في مواجهة الأحداث، ولا يحس واحد منها بالضياع في هذا الكون، لأنه متماسك مع أسرته، متماسك مع حَيِّه أو قريته، وهكذا يختفي الحقد من المجتمع، ويختفي التفكك الأسري.
ولعلنا إذا نظرنا إلي المجتمعات الغربية التي يعتريها تفكك الأسرة، نجد أن كل واحد منهم قد ضل طريقه وانحرف لأنه أحس بالضياع، فانحرف إلى المخدرات أو إلى الخمر أو إلى الزنا وغير ذلك من الرذائل التي نراها.
جيل ضائع.
مَنْ الذي أضاعه؟ عدم صلة الرحم.
وإذا تحدثنا عن الانحرافات التي نراها بين الشباب اليوم فلا نلوم الشباب، ولكن نلوم الآباء والأمهات الذين تركوا أولادهم وبناتهم وأهدروا صلة الرحم.
فشب جيل يعاني من عقد نفسية لا حدود لها، إن الابن الذي يفقد جو الأسرة، يفقد ميزان حياته.
والله سبحانه وتعالى يريد المؤمنين متضامنين متحابين خالين من كل العقد التي تحطم الحياة.
إذن فعدم صلة الرحم تضيع أجيالاً بأكملها.
ونأتي بعد ذلك إلي الصفة الثالثة من صفات الفاسقين بقوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ،} [البقرة: 27].
نقول: كل ما في الكون مخلوق على نظام دقيق: { وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 3].
أي: كل شيء له هدى لابد أن يتبعه.
ولكن الإنسان جاء في مجال الاختيار وأفسد قضية الصلاح في الكون.
ومن رحمة الله أنه جعل في كونه خلقاً يعمل مقهوراً، ليضبط حركة الكون الأعلى.
فالشمس والنجوم والأرض وكل الكون ما عدا الإنس والجن، يسير وفق نظام دقيق.
لماذا؟ لأنه يسير بلا اختيار له.
والحق جل جلاله أخبرنا بأنه لكي يعتدل ميزان حياتنا، فلنحكم أنفسنا بمنهج الله.
كما أن الكون المقهور محكوم بمنهج الله.
فليس معنى الاختيار الإنساني أن نبتعد عن منهج الله.
لأن الله له صفة القهر.
فهو يستطيع أن يخلقنا مقهورين، ولكنه أعطانا الاختيار حتى نأتيه عن حب.
وليس عن قهر.
فأنت تحب الشهوات ولكنك تحب الله أكثر، فتقيد نفسك بمنهج الله.
إذن: فالاختيار لم يُعْطَ لنا لِنُفْسِدَ في الأرض.
ولكنه أُعْطي لنا، لنأتي الله سبحانه وتعالى طائعين ولسنا مقهورين.
ولذلك فكل منا مختار في أن يؤمن أو لا يؤمن، وهذا الاختيار يثبت محبوبية الله سبحانه وتعالى في قلوبنا، ولكن الإنسان بدلاً من أن يأخذ الاختيار ليأتي الله عن حب، فينال الجزاء الأعظم، أخذه ليفسد في الأرض.
والفساد أن تنقل مجال "افعل، ولا تفعل".
فتضع هذه مكان هذه، فينقلب الميزان أي: أنك - فيما قال الله فيه "افعل".
لا تفعل، وفيما قال: "لا تفعل"، تفعل.
فتكون قد جعلت ميزان حياتك معكوساً، لماذا؟
لأننا غير محكومين بقاعدة كلية تنظم حياة الناس.
فكل واحد سيضع قاعدة له، وكل واحد لن يفعل، ما عليه، فيحدث تصادم في الحياة، وكل فساد يشكل قُبْحاً في الوجود، فهب أنك تسير في الطريق، وترى عمارة مبنية حديثاً قد تسربت المياه من مواسيرها.
عندما ترى ذلك تتأذى؛ لأن هناك قبحاً في الوجود، في عدم أمانة إنسان في عمله.
إذن: فحين يفسد عامل واحد، بعدم الإخلاص في عمله، يفقد الكون نعمة يحبها الله في أن ترى الشيء الجميل.
فتقول: الله.
فكل إنسان غير أمين في عمله يفسد في الكون، وكل إنسان غير أمين في خلقه يفسد في الكون، ويعتدي على حرمات الآخرين وأموالهم، وهذا يجعل الكون قبيحاً، فلا يوجد إنسان يأمن على عرضه وماله.
لقد أراد المعتدي أن يحقق ما ينفع به نفسه عاجلاً، ولكنه أحدث فساداً في الكون، كذلك عندما يغش التاجر الناس، وعندما يكتسب الإنسان المال بالنهب والسرقة، فيفتح الله عليه أسوأ مصارف المال في الوجود، فهو أخذ الحسرة بالفساد في الأرض.
والفساد في الأرض أن تخرج الشيء عن حد اعتداله، فَتُسْرف في شهواتك وتسرف في أطماعك، وتسرف في عقابك للناس، وتسرف باعتدائك على حقوق الغير.
والفساد في الأرض، أن يوجد منهج مطبق غير منهج الله.
إن غياب منهج الله معناه أن يصبح كل منا عبد أهوائه، وإذا صارت الأمور حسب أهواء الناس جاءت لهم حركة الحياة بالشقاء والشر بدلاً من السعادة والأمن.
إن ما نراه اليوم من شكوى الناس علامة على الفساد.
لأن معناها: أن الناس تعاني ولا أحد يتحرك ليرفع أسباب هذه الشكوى.
ولن يستقيم أمر هذا الوجود، ويتخلص من الفساد إلا إذا حَكَمَنَا مَنْهجٌ لا هوى له، والذي لا هوى له هو خالق البشر واضع ميزان الكون.
وأول مظاهر الفساد أن يُوكل الأمر إلى غير أهله.
لأنه إذا أعطي الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.
كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
لماذا؟ لأن المجتمع -حينئذ- يكون مبنياً على النفاق واختلال الأمور، لا على الإتقان والإخلاص.
فالذي يجيد النفاق هو الذي يصل إلى الدرجات العلا، والذي يتقن عمله لا يصل إلى شيء، وتكون النتيجة أن مجموعة من المنافقين الجهلة هم الذين يُسَيِّرون الأمور بدون علم.
والفساد في الأرض هو أن يضيع الحق، وتضيع القيم، ويصبح المجتمع غابة، كل إنسان يريد أن يحقق هواه بصرف النظر عن حقوق الآخرين، ويحس مَنْ يعمل ولا يصل إلى حقه أنه لا فائدة من العمل، فيتحول المجتمع كله إلى مجموعة من غير المنتجين.
والفساد في الأرض هو أن نجعل عقولنا هي الحاكمة، فلا نتأمل في ميزان الكون الذي خلقه الله، وإنما نمضي بعقولنا نخطط، فنقطع الأشجار ونرمي مخلفات المصانع في الأنهار فنفسدها، ونأتي بالكيماويات السامة نرشُّ بها الزرع أو مجاري المياه والأنهار؛ فنملؤه سُماً ثم نأكله ثم نجد التلوث قد ملأ الكون.
وطبقة الأوزون قد أصابها ضرر واضح يعرِّضُ حياة البشر على الأرض لأخطار كبيرة، وتفسد مياه الأنهار.
ولا تصبح صالحة للشرب ولا للري.
ويضيع الخير من الدنيا بالتدريج، والفساد في الأرض هو أن ينتشر الظلم، وتصبح الحياة سلسلة لا تنتهي من الشقاء.
والفساد في الأرض هو أن تضيع الأمانة.
فتفسد المعاملات بين الناس، وتضيع الحقوق.
هذه هي بعض أوجه الفساد في الأرض.
والله سبحانه وتعالى قد وضع قانوناً كليا، هو منهجه ليتعامل به الناس، ولكن الناس تركوه، ومشوا يتخبطون في ظلام الجهل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ استعمل رجلاً من عصابة، وفي تلك العصابة مَنْ هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين".
وهكذا يكون مدى حرص الإسلام على استقامة أمور الناس.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27].
خسروا ماذا؟ خسروا دنياهم وآخرتهم وخسروا أنفسهم؛ لأن الإنسان له حياتان، حياة قصيرة في الدنيا مليئة بالمتاعب، وحياة طويلة خالدة في الآخرة.
والذي يبيع الحياة الأبدية ونعيمها وخلودها بحياة الدنيا التي لا يضمن فيها شيئاً، يكون من الخاسرين، فعمر الإنسان قد يكون يوماً أو شهراً أو عاماً، والحياة الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما أعطت فهو قليل، فالذي يبيع آخرته بهذه الدنيا، أيكون رابحاً أم خاسراً؟ طبعاً يكون خاسراً؛ لأنه اشترى مالا يساوي بنعيم الله كله، وإذا كان الإنسان قد نسي الله سبحانه وتعالى وهو لاقيه حتماً، ثم يبعث يوم القيامة ليجده أمامه.
فيوفيه حسابه، أيكون قد كسب أم خسر؟!، طبعاً يكون خاسراً؛ لأنه أوجب على نفسه عذاب الله، وأوجب على نفسه عقاب الله.
إن قوله تعالى: "الخاسرون" تدل على أن الصفقة انتهت وضاع كل شيء لأن نتيجتها كانت الخسران، وليس الخسران موقوتاً، ولا هو خسران يمكن أن يُعَوَّضُ في الصفقة القادمة، بل هو خسران أبدي، والندم عليها سيكون شديداً.
واقرأ قوله تبارك وتعالى: { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [النبأ: 40].
لماذا يتمنى الكافر أن يكون تراباً؟
لهول العذاب الذي يراه أمامه، وهول الخسران الذي تعرَّض له، وهذا دليل على شدة الندم، يوم لا ينفع الندم، على أنه سبحانه وتعالى تحدث في هذه الآية عن الخاسرين، ولكنه جل جلاله، تحدث في آية أخرى عن الأخسرين، فقال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً }الكهف: 103-105].
إذن: فهناك خاسر، وهناك مَنْ هو أخسر منه، والأخسر هو الذي كفر بالله جل جلاله، وبيوم القيامة، واعتقد أن حياته في الدنيا فقط، ولم يكن الله في باله وهو يعمل أي عمل، بل كانت الدنيا هي التي تشغله، ثم فوجئ بالحق سبحانه وتعالى يوم القيامة، ولم يحتسب له أية حسنة، لأنه كان يقصد بحسناته الحياة الدنيا، فلا يوجد له رصيد في الآخرة.
والعجيب أنك ترى بعض الناس يُعِدُّون للحياة الدنيا إعداداً قوياً، فيرسلون أولادهم إلى مدارس لغات، ويتحملون في ذلك ما لا يطيقون، ثم يدفعونهم إلى الجامعات، أو إلى الدراسة في الخارج.
هم في ذلك يعدونهم لمستقبل مظنون، وليس يقيناً لأن الإنسان يمكن أن يموت وهو شاب؛ فيضيع كل ما أنفقوه من أجله، ويمكن أن ينحرف في آخر مراحل دراسته، فلا يحصل على شيء، ويمكن أن يتم هذا الإعداد كله، ثم بعد ذلك يرتكب جريمة يقضي فيها بقية عمره في السجن؛ فيضيع عمره.
ولكن اليقين الذي لا شك فيه هو أننا جميعاً سنلاقي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وسيحاسبنا على أعمالنا، ومع أن هذا يقين، فإن كثيراً من الناس لا يلتفتون إليه، يسعون للمستقبل المظنون، ولا يحس واحد منهم بيقين الآخرة، فتجد قليلاً من الآباء هم الذين يبذلون جهداً لحمل أبنائهم على الصلاة وعبادة الله والأمانة وكل ما يقربهم إلى الله، إنهم ينسون النعيم الحقيقي، ويجرون وراء الزائل، فتكون النتيجة عليهم وبالا في الآخرة. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة البقرة الآيات من 26-35 الإثنين 25 مارس 2019, 9:33 pm | |
| كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٨]. تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ) كلمة "كيف" في اللغة للسؤال عن الحال، والحق سبحانه وتعالى أوردها في هذه الآية الكريمة ليس بغرض الاستفهام، ولكن لطلب تفسير أمر عجيب ما كان يجب أن يحدث.
وبعد كل ما رواه الحق سبحانه وتعالى في آيات سابقة من أدلة دامغة عن خلق السماوات والأرض وخلق الناس، أدلة لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يخطئها، فكيف بعد هذه الأدلة الواضحة تكفرون بالله؟، كفركم لا حجة لكم فيه ولا منطق، والسؤال يكون مرة للتوبيخ، كأن تقول لرجل: كيف تسبُّ أباك؟ أو للتعجب من شيء قد فعله وما كان يجب أن يفعله، وكلاهما متلاقيان، سواء أكان القصد التوبيخ أو التعجب، فالقصد واحد.
فهذا ما كان يجب أن يحدث منك.
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بأدلة أخرى لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يكذِّب بها، فيقول جل جلاله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ،} [البقرة: 28].
وهكذا ينتقل الكلام إلى أصل الحياة والموت، فبعد أن بَيَّنَ الحق سبحانه وتعالى ماذا يفعل الكافرون والفاسقون والمنافقون من إفساد في الأرض، وقَطْع لما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يوصل، صعد الجدل إلى حديث عن الحياة والموت.
وقوله تعالى "كنتم أمواتاً فأحياكم" قضية لا تحتمل الجدل، ربما استطاعوا المجادلة في مسألة عدم اتباع المنهج، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل.
ولكن قضية الحياة والموت لا يمكن لأحد أن يجادل فيها، فالله سبحانه وتعالى خلقنا من عدم، ولم يدع أحد قط أنه خلق الناس أو خلق نفسه، وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للناس إن الذي خلقكم هو الله، لم يستطع أحد أن يكذِّبه ولن يستطيع، ذلك أننا كنا فعلاً غير موجودين في الدنيا، والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجدنا وأعطانا الحياة.
وقوله تعالى: "ثم يميتكم"، فإن أحداً لا يشك في أنه سيموت، الموت مُقَّدر على الناس جميعاً، والخلق من العدم واقع بالدليل، والموت واقع بالحس والمشاهدة.
إن قضية الموت هي سبيلنا لمواجهة أي ملحد، فإن قالوا إن العقل كافٍ لإدارة الحياة، وأنه لا يوجد شيء اسمه غيب، نقول: الذي يتحكم في الخلق إيجاداً، هو الذي يتحكم فيه موتاً، والحياة الدنيا هي مرحلة بين قوسين: القوس الأول هو أن الله يخلقنا ويوجدنا، وتمضي رحلة الحياة إلى القوس الثاني، الذي تخمد فيه بشريتنا وتتوقف حياتنا، وهو الموت.
أي: أننا في رحلة الحياة من الله وإليه.
إذن: فحركة الحياة الدنيا هي بداية من الله بالخلق، ونهاية بالموت.
إنهم عندما تحدثوا عن أطفال الأنابيب، وهي عملية لعلاج العقم أكثر من أي شيء آخر، ولكنهم صوروها تصويراً جاهلياً، وكل ما يحدث أنهم يأخذون بويضة من رحم الأم التي يكون المهبل عندها مسدوداً، أو لا يسمح بالتلقيح الطبيعي، يأخذون هذه البويضة من رحم الأم، ويُخصِّبونها بالحيوانات المنوية للزوج، ثم يزرعونها في رحم الأم.
إنهم أخذوا من خلق الله وهي بويضة الأم والحيوان المنوي من الرجل، وكل ما يفعلونه هو عملية التلقيح، ومع ذلك يسمونه أطفال الأنابيب، كأن الأنبوبة يمكن أن تخلق طفلاً!! والحقيقة غير ذلك، فبويضة الأم، والحيوان المنوي للرجل هما من خلق الله، وهم لم يخلقوا شيئاً، إننا نقول لهم: إذا كنتم تملكون الموت والحياة فامنعوا إنساناً واحداً أن يموت بدلاً من إنفاق ألوف الجنيهات في معالجة عقم قد ينجح أو لا ينجح، ابقوا واحداً على قيد الحياة، ولن يستطيعوا.
إن الموت أمر حسي مشاهد، ولذلك فمن رحمة الله بالعقل البشري بالنسبة للأحداث الغيبية أن الله سبحانه وتعالى قرَّبها لنا بشيء مشاهد، كيف؟ عندما ينظر الإنسان إلى نفسه وهو حي، لا يعرف كيف أحياه الله وكيف خلقه، الله سبحانه وتعالى ذكر لنا غيب الخلق في القرآن الكريم، فقال جل جلاله إنه خلق الإنسان من تراب ومن طين، ومن حمأ مسنون، ثم نفخ فيه من روحه، واقرأ قول الحق سبحانه: { إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ، } [الحج: 5].
وقوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [المؤمنون: 12].
وقوله تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [الصافات: 11].
وقوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر: 26].
وقوله تعالى: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ص: 72].
فالحق تبارك وتعالى أخبرنا عن مرحلة في الخلق لم نشهدها، ولكن الموت شيء مشهود لنا جميعاً، وما دام مشهوداً لنا، يأتي الحق سبحانه وتعالى به كدليل على مراحل الخلق التي لم نشهدها، فالموت نَقْصٌ للحياة، والحياة أخبرنا الله تبارك وتعالى بأطوارها، ولكنها غيب لم نشهده.
ولكن الذي خلق قال: أنا خلقتك من تراب، من طين.
من حمأ مسنون.
من صلصال كالفخار، فالماء وضع على تراب فأصبح طيناً، والطين تركناه فتغير لونه وأصبح صلصالا، الصلصال، جف فأصبح حمأ مسنونا، ثم نحته في صورة إنسان ونفخ الحق سبحانه وتعالى فيه الروح فأصبح بشراً، ثم يأتي الموت وهو نقض للحياة، ونقض كل شيء يأتي على عكس بنائه.
بناء العمارة يبدأ من أسفل إلى أعلى، وهدمها يبدأ من أعلى إلى أسفل، ولذلك فإن آخر مرحلة من رحلة ما، هي أول خطوة في طريق العودة، فإذا كنت مسافراً إلى الإسكندرية، فأول مكان في طريق العودة هو آخر مكان وصلت إليه.
أول شيء يخرج من الجسد هو الروح وهو آخر ما دخل فيه، ثم بعد ذلك يتصلب الجسد ويصبح كالحمأ المسنون، ثم يتعفن فيصبح كالصلصال، ثم يتبخر الماء الذي فيه فيعود تراباً، وهكذا يكون الموت نقض صورة الحياة، متفقاً مع المراحل التي بينها لنا الحق سبحانه وتعالى وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].
أي: أن الله تبارك وتعالى يبعثكم ليحاسبكم، لقد حاول الكفار والملحدون وأصحاب الفلسفة المادية أن ينكروا قضية البعث، وهم في هذا لم يأتوا بجديد، بل جاءوا بالكلام نفسه الذي قاله أصحاب الجاهلية الأولى، واقرأ قوله تعالى عما يقوله أصحاب الجاهلية الأولى: { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } [الجاثية: 24].
وأمنية الكافر والمسرف على نفسه ألا يكون هناك بعث أو حساب، والذين يتعجبون من ذلك نقول لهم: أن الله سبحانه وتعالى الذي أوجدكم من عدم يستطيع أن يعيدكم وقد كنتم موجودين، يقول جل جلاله: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الروم: 27].
فإيجاد ما كان موجوداً أسهل من الإيجاد من عدم على غير مثال موجود، والله سبحانه وتعالى يرد على الكفار فيقول سبحانه: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 78-79].
وهكذا، فإن البعث أهون على الله من بداية الخلق، وكل شيء مكتوب عند الله سبحانه وتعالى في كتاب مبين، وما أخذته الأرض من جسد الإنسان ترده يوم القيامة ليعود من جديد.
وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الإنسان، واقرأ قوله تعالى: { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [غافر: 57].
وقول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].، هو اطمئنان لمَنْ آمن، وما دمنا إليه نرجع ومنه بدأنا.
فالحياة بدايتها من الله ونهايتها إلى الله، فلنجعلها هي نفسها لله، ولابد أن نلتفت إلى أن الله تبارك وتعالى أخفى عنا الموت زماناً ومكاناً وسبباً وعمراً، لم يخفه ليحجبه، وإنما أخفاه حتى نتوقعه في كل لحظة، وهذا إعلام واسع بالموت حتى يسرع الناس إلى العمل الصالح، وإلى المثوبة.
لأنه لا يوجد عمر متيقن في الدنيا، فلا الصغير آمن على عمره، ولا الشاب آمن على عمره، ولا الكهل آمن على عمره، ولذلك يجب أن يسارع كل منا في الخيرات حتى لا يفاجئه الموت، فيموت وهو عاصٍ، ونلاحظ أن قصة الحياة جاء الله بها في آية واحدة.
والرجوع إلى الله -وهو يقين بالنسبة للمؤمنين- يلزمهم بالمنهج، فيعيشون من حلال.
والتزامهم هذا هو الذي يقودهم إلى طريق الجنة.
ويطمئنهم على أولادهم بعد أن يرحل الآباء من الدنيا.
فعمل الرجل الصالح ينعكس على أولاده من بعده.
واقرأ قوله سبحانه وتعالى: { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [النساء: 9].
إذن: فصاحب الالتزام بالمنهج، يطمئن إلى لقاء ربه ويطمئن إلى جزائه، والذي لا يؤمن بالآخرة أخذ من الله الحياة فأفناها فيما لا ينفع.
ثم بعد ذلك لا يجد شيئاً إلا الحساب والنار، واقرأ قوله تبارك وتعالى: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39].
أي أن الكافر سيفاجأ في الآخرة بالله الذي لم يكن في باله أنه سيحاسبه على ما فعل، وقوله تعالى "إليه ترجعون" تُقْرأُ قراءتين.
بضمِّ على التاء.
ومرة بفتحها.
الأولى معناها.
أننا نُجْبَرُ على الرجوع، فلا يكون الرجوع إلى اللهتعالى بإرادتنا، وهذا ينطبق على الكفار الذين يتمنون عدم الرجوع إلى الله، أما الثانية "ترجعون" فهذه فيها إرادة.
وهي تنطبق على المؤمنين لأنهم يتمنون الرجوع إلى الله. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة البقرة الآيات من 26-35 الإثنين 25 مارس 2019, 9:38 pm | |
| هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [٢٩]. تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ) يذكِّرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه هو الذي خلق ما في الأرض جميعاً، وقد جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: { فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 28].
لتلفتنا إلى أن ما في الأرض كله ملك لله جل جلاله، وأننا لا نملك شيئاً إلا ملكية مؤقتة.
وأن ما لنا في الدنيا سيصير لغيرنا.
وهكذا.
والحق سبحانه وتعالى حين خلق الحياة وقال: { وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ، } [البقرة: 28].
كأن الحياة تحتاج إلى إمداد من الخالق للمخلوق حتى يمكن أن تستمر، فلابد لكي تستمر الحياة أن يستمر الإمداد بالنعم، ولكن النعم تظل طوال فترة الحياة، وعند الموت تنتهي علاقة الإنسان بنعم الدنيا، ولذلك لابد أن يتنبه الإنسان إلى أن الأشياء مُسخَّرة له في الدنيا لتخدمه.
وأن هذا التسخير ليس بقدرات أحد، ولكن بقدرة الله سبحانه وتعالى.
والإنسان لا يدري كيف تم الخلق، ولا ما هي مراحله إلا أن يخبرنا الله سبحانه وتعالى بها.
فهو جل جلاله يقول: { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51].
وما داموا لم يشهدوا خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، فلا بد أن نأخذ ذلك عن الله ما ينبئنا به الله عن خلق السماوات والأرض وعن خلقنا هو الحقيقة، وما يأتينا عن غير الله سبحانه وتعالى فهو ضلال وزيف، ونحن الآن نجد بحوثاً كثيرة عن كيفية السماوات والأرض وخلق الإنسان، وكلها لن تصل إلى حقيقة، بل ستظل نظريات بلا دليل.
ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51].
أي: أن هناك مَنْ سيأتي ويضل، ويقول: هكذا تم خلق السماوات والأرض، وهكذا خلق الإنسان، هؤلاء المضلون الذين جاءوا بأشياء هي من علم الله وحده، جاءوا تثبيتاً لمنهج الإيمان، فلو لم يأت هؤلاء المضلون، ولو لم يقولوا: خُلِقت الأرض بطريقة كذا، والسماء بطريقة كذا، لقلنا: إن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه العزيز أن هناك مَنْ سيأتي ويُضِلّ في خلق الكون وخلق الإنسان، ولكن كونهم أتوا فهذا دليل على صدق القرآن الذي أنبأنا بمجيئهم قبل أن يأتوا بقرون.
والاستفادة من الشيء لا تقتضي معرفة أسراره، فنحن مثلاً نستخدم الكهرباء مع أننا لا نعرف ما هي؟ وكذلك نعيش على الأرض ونستفيد بكل ظواهرها وكل ما سخره الله لنا.
وعدم علمنا بسر الخلق والإيجاد لا يحرمنا هذه الفائدة، فهو علم لا ينفع وجهل لا يضر.
والكون مسخر لخدمة الإنسان، والتسخير معناه التذليل، ولا تتمرد ظواهر الكون على الإنسان.
وإذا كانت هناك ظواهر في الكون تتمرد بقَدَر الله، مثل الفيضانات والبراكين والكوارث الطبيعية، نقول: إن ذلك يحدث ليلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن كل ما في الكون لا يخدمنا بذاتنا، ولا بسيطرتنا عليه، وإنما يخدمنا بأمر الله له، وإلا لو كانت المخلوقات تخدمك بذاتك.
فاقدر عليها حينما تتمرد على خدمتك، فكل ما في الكون خاضع لطلاقة قدرة الله، حتى الأسباب والمسببات خاضعة أيضاً لطلاقة القدرة الإلهية، فالأسباب والمسببات في الكون لا تخرج عن إرادة الله.
لذلك إذا تمرد الماء بالطوفان، وتمردت الرياح بالعاصفة، وتمردت الأرض بالزلازل والبراكين.
فما ذلك إلا ليعرف الإنسان أنه ليس بقدرته أن يسيطر على الكون الذي يعيش فيه.
واقرأ قوله سبحانه وتعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [يس: 71-72].
والإنسان عاجز عن أن يُخْضع حيواناً إلا بتذليل الله له، ومن العجيب أنك ترى الحيوانات تدرك ما لا يدركه الإنسان في الكون، فهي تحس بالزلزال قبل أن يقع، وتخرج من مكان الزلزال هاربة.
بينما الإنسان لا يستطيع بعقله أن يفهم ما سيحدث.
والحق سبحانه وتعالى في قوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً،} [البقرة: 29].
يستوعب كل أجناس الأرض، ولذلك فإن الإنسان لا يستطيع أن يوجد شيئاً إلا من موجود.
أي أن الإنسان لم يستحدث شيئاً في الكون، فأنت إذا أخذت حبة القمح، من أين جئنا بها؟ من محصول العام الماضي، ومحصول العالم الماضي من أين جاء؟ من محصول العام الذي قبله.
وهكذا يظل تسلسل الأشياء حتى تصل إلى حبة القمح الأولى.
من أين جاءت؟ جاءت بالخلق المباشر من الله.
وكذلك كل ثمار الأرض إذا أعدتها للثمرة الأولى فهي بالخلق المباشر من الله سبحانه وتعالى، فإذا حاولت أن تصل إلى أصل وجود الإنسان، ستجد بالمنطق والعقل، أن بداية الخلق هي من ذكر وأنثى، خُلقا بالخلق المباشر من الله، لأنك أنت من أبيك، وأبوك من جدك، وجدك من أبيه، وهكذا تمضي حتى تصل إلى خلق الإنسان الأول.
فنجد أنه لابد أن يكون خلقاً مباشراً من الله سبحانه وتعالى، وما ينطبق على الإنسان ينطبق على الحيوان وعلى النبات وعلى الجماد، فكل شيء إذا رددته لأصله تجد أنه لابد أن يبدأ بخلق مباشر من الله سبحانه وتعالى بعض الناس يتساءل عن الرقي والحضارة وهذه الاختراعات الجديدة.
أليس للإنسان فيها خلق؟، نقول فيها خلق من موجود.
والله سبحانه وتعالى كشف من علمه للبشر ما يستطيعون باستخدام المواد التي خلقها الله في الأرض أن يرتقوا ويصنعوا أشياء جديدة.
ولكننا لم نجد ولم نسمع عن إنسان خلق مادة من عدم.
الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق كل ما في هذا الكون من عدم.
ثم بعد ذلك تكاثرت المخلوقات بقوانين سخرها الله سبحانه وتعالى لها.
ولكن كل هذا التطور راجع إلى أن الله خلق المخلوقات وأعطاها خاصية التناسل والتزاوج لتستمر الحياة جيلاً بعد جيل، وكل خلق الله الذي تراه في الكون الآن قد وضع الله سبحانه وتعالى فيه من قوانين الأسباب ما يعطيه استمرارية الحياة من جيل إلى جيل حتى ينتهي الكون.
فإذا قال لك إنسان: أنا أزرع بذكائي وعلمي.
فقل له: أنت تأتي بالبذرة التي خلقها الله، وتضعها في الأرض المخلوقة لله، ويُنْزِلُ الله سبحانه وتعالى الماء عليها من السماء، وتنبت بقدرة الله الذي وضع فيها غذاءها وطريقة إنباتها.
إذن: فكل ما يحدث أنك تحرث الأرض، وترمي البذرة.
يقول الحق سبحانه وتعالى: { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [الواقعة: 63-64].
صحيح أن الإنسان يقوم بحرث الأرض ورمي البذرة، وربما تعهد الزرع بالعناية والري، ولكن ليس في كل ما يفعله مهمة خلق، بل إن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء، ولو كنت تزرع بقدرتك فأت ببذرة من غير خلق الله، وأرض لم يخلقها الله، وماء لم ينزله الله من السماء.
وطبعاً لن تستطيع، ولكن ما هو مصدر الأشياء التي استحدثت؟ نقول: إن هناك فرقاً بين وجود الشيء بالقوة ووجوده بالفعل، فالنخلة مثلاً حين كانت موجودة بالقوة، كانت نواة، ثم زرعت فأصبحت موجودة بالفعل.
وأنت لا عمل لك في الحالتين فلا أنت بقوتك خلقت النواة -التي هي البذرة- ولا أنت بفعلك جعلت النواة تكبر لتصير نخلة بالفعل.
على أن هناك أشياء مطمورة في الكون خلقها الله سبحانه وتعالى مع بداية الخلق، ثم تركها مطمورة في الكون حتى كشفها الله لمَنْ يبحث عن أسراره في كونه.
وكل كشف له ميلاد.
إذا أخذنا مثلاً ما تحت الثرى، أو الكنوز الموجودة تحت سطح الأرض.
لقد ظلت مطمورة حتى هدى الله الإنسان إليها، وعلَّمَه كيف يستخرجها.
فالإنسان لم يخترع مثلاً أو يوجد البترول أو المعادن.
ولكنها كلها كانت مطمورة في الكون حتى جاء الوقت الذي يجب أن تؤدي فيه دورها في الحياة.
فدَلَّنا الحق عليها، فليس معنى أن الشيء كان غائباً عنا أنه لم يكن موجوداً، أو أنه وُجِد لحظة اكتشافنا له.
فالشيء الحادث الآن، والشيء الذي سيحدث بعد سنوات، خلق الله سبحانه وتعالى كل عناصره، وأودعها في الأرض لحظة الخلق.
والإنسان بما يكشف الله له من علم يستطيع تركيب هذه العناصر، ولكنه لا يستطيع خلقها أو إيجادها.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ،} [البقرة: 29].
حينما يقول الله جل جلاله: "استوى"، يجب أن نفهم كل شيء متعلق بذات الله على أنه سبحانه ليس كمثله شيء.
فالله استوى، والملوك تستوي على عروشها، وأنت تستوي على كرسيك.
ولكن لأننا محكومون بقضية{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، } [الشورى: 11].
لابد أن نعرف أن استواء الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، والله حي، وأنت حي، هل حياتك كحياته؟ والله سبحانه وتعالى يعلم وأنت لا تعلم.
هل علمك كعلمه؟ والله سبحانه وتعالى يقدر.
وأنت تقدر.
هل قدرتك كقدرته، طبعا لا.
فعندما تأتي إلى "استوى" فلا تحاول أن تفهمها أبداً بالمفهوم البشري، فالله سبحانه وتعالى يعلم ما في الأرض وما في السماء.
وهو سبحانه يعلم المكان بكل ذراته، والموجودين في هذا المكان أو المكين بكل ذراته.
وأنت تعرف ظاهر الأمر، والله سبحانه وتعالى يعلم غيب السماوات والأرض حتى يوم القيامة، وبعد يوم القيامة.
إذن: فهو جل جلاله ليس كمثله شيء.
ولا يمكن أن تحيط أنت بعقلك بفعل يتعلق بذات الله سبحانه وتعالى.
فعقلك قاصر عن أن يدرك ذلك.
لذلك قل: سبحان الله.
ليس كمثله شيء في كل فعل يتصل بذات الله: "استوى إلى السماء" هذا الكلام هو كلام الله.
فالمتحدث هو الله عز وجل.
بعض الناس يقولون: تلقينا القرآن وحفظناه.
نقول لهم: إن الذي حفظ القرآن هو الله سبحانه وتعالى.
وما دام قد حفظ كلامه فهو جل جلاله يعلم أن الوجود كله لن يتعارض مع القرآن الكريم، والله سبحانه وتعالى حفظ القرآن ليكون حجة له على الناس.
وما دام الله جل جلاله هو الخالق، وهو القائل، فلا توجد حقيقة في الكون كله تتصادم مع القرآن الكريم، واقرأ قوله سبحانه وتعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
وهذا من عظمة الله أن حفظ كلامه ليكون حجة على الناس، والله سبحانه وتعالى وُجِدت صفاته قبل أن توجد متعلقات هذه الصفات، فهو جل جلاله خَلَقَ لأنه خالق.
كأن صفة الخلق وجدت أولاً وإلا كيف خلق أول خلقه، إن لم يكن سبحانه وتعالى خالقا؟ والله سبحانه وتعالى رزَّاق قبل أن يوجد مَنْ يرزقه.
وإلا فبأي قدرة رزق الله أول خلقه؟ والله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون بكمال صفاته.
وشهد أنه لا إله إلا هو قبل أن يشهد أي من خلق الله أنه لا إله إلا الله.
واقرأ قوله تعالى: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ، } [آل عمران: 18].
فالله سبحانه وتعالى شهد أنه لا إله إلا هو قبل أن يوجد أحد من خلقه يشهد بوحدانية ألوهيته، شهد أنه لا إله إلا هو قبل أن يخلق الملائكة ليشهدوا شهادة مشهد بأنه لا إله إلا الله، وأولو العلم شهادة علم.
فكأن شهادة الذات للذات في قوله تعالى: "شهد الله أنه لا إله إلا هو" هي التي يُعْتدُّ بها، وهي أقوى الشهادات؛ فالله ليس محتاجاً مِن خلقه إلى امتداد الشهادة.
الله سبحانه وتعالى بعد أن خلق الأرض وخلق السماء واستتب له الأمر.
قال: "وهو بكل شيء عليم" أي: لا تغيب ذرة من مُلْكه عن علمه.
فهو عليم بكل ذرات الأرض وكل ذرات الناس، وكل ذرات الكون، والكون كله لا يفعل إِلا بإذنه ومراده.
واقرأ قوله تعالى: { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [لقمان: 16]. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة البقرة الآيات من 26-35 الإثنين 25 مارس 2019, 9:39 pm | |
| وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [٣٠]. تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ) بعد أن أخبرنا الحق سبحانه وتعالى أنه خلق جميع ما في الكون، أراد أن يخبرنا عمن خلقه لعمارة هذا الكون، فكأن القصة التي بدأ الله سبحانه وتعالى بها قصص القرآن كانت هي قصة آدم أول الخلق، ولقد وردت هذه القصة في القرآن الكريم كثيراً لتدلنا لماذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى بهذه القصة؟ وجاءت لتدلنا أيضاً على صدق البلاغ عن الله. واقرأ قوله تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ } [الكهف: 13].
كلمة الحق التي جاءت هنا لتدلنا على أن هناك قصصاً، ولكن بغير حق، والله سبحانه وتعالى أراد أن يخرج قصصه عن دائرة القصص التي يتداولها الناس أو قصص التاريخ لإمكان مخالفتها الواقع وتأتي بغير حق، وهناك قصص تروى في الدنيا ولا واقع لها، بل هي من قبيل الخيال.
وكلمة: "قصة" مأخوذة من قَصّ الأثر، بمعنى: أن يتبع قصاص الأثر في الصحراء الآثار التي يشاهدها على الرمال حتى يصل إلى مراده عندما يصل إلى نهاية الأثر، وما دمنا قد عرفنا أن الله يقص الحق، فلابد -إذن- أن قصص القرآن الكريم كلها أحداث وقعت فعلا.
ولكل قصة في القرآن عبرة.
أو شيء مهم يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إليه.
فمرة تكون القصة لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت المؤمنين: واقرأ قوله تعالى: { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ، } [هود: 120].
فكل قصة تُثَبتُ فؤاد الرسول والمؤمنين في المواقف التي تزلزلهم فيها الأحداث.
وقصص القرآن ليست لقتل الوقت، ولكن الهدف الأسمى للقصة هو تثبيت ونفع حركة الحياة الإيمانية، ولو نظرنا إلى قصص القرآن الكريم نجد أنها تتحدث عن أشياء مضت وأصبحت تاريخاً، والتاريخ يربط الأحداث بأزمانها، وقد يكون التاريخ لشخص لا لحدث، ولكن الشخص حدث من أحداث الدنيا.
ولو قرأت تاريخ كل حدث لوجدت أنه يعبر عن وجهة نظر راويه، فكل قصص التاريخ كتبت من وجهات نظر مَنْ رَوَوْها؛ ولذلك، فالقصة الواحدة تختلف باختلاف الراوي.
ولكن قصص القرآن الكريم هو القصص الحق، والعبرة في قصص القرآن الكريم أنها تنقل لنا أحداثا في التاريخ تتكرر على مر الزمن.
ففرعون مثلاً هو كل حاكم يريد أن يُعْبَدَ في الأرض، وأهل الكهف مثلاً هي قصة كل فئة مؤمنة هربت من طغيان الكفر وانعزلت لتعبد الله، وقصة يوسف عليه السلام هي قصة كل إخوة نزغ الشيطان بينهم فجعلهم يحقدون على بعضهم، وقصة ذي القرنين هي قصة كل حاكم مصلح أعطاه الله سبحانه الأسباب في الدنيا ومكَّنه في الأرض، فعمل بمنهج الله وبما يرضي الله، وقصة صالح هي قصة كل قوم طلبوا معجزة من الله، فحققها لهم فكفروا بها، وقصة شعيب عليه السلام هي قصة كل قوم سرقوا في الميزان والمكيال.
وهكذا كل قصص القرآن، قصص تتكرر في كل زمان حتى في الوقت الذي نعيش فيه تجد فيه أكثر من فرعون، وأكثر من أهل كهف يَفرُّون بدينهم، وأكثر من قارون يعبد المال والذهب، ويحسب أنه استغنى عن الله.
ولذلك جاءت شخصيات قصص القرآن مُجَهَّلة إلا قصة واحدة هي قصة عيسى بن مريم ومريم ابنة عمران، لماذا؟ لأنها معجزة لن تتكرر.
ولذلك عرَّفها الله لنا فقال: "مريم ابنة عمران" وقال "عيسى بن مريم" حتى لا يلتبس الأمر، وتدَّعي أي امرأة أنها حملت بدون رجل، مثل مريم.
نقول: لا، معجزة مريم لن تتكرر.
ولذلك حددها الله تعالى بالاسم.
فقال: عيسى بن مريم، ومريم ابنة عمران، أما باقي قصص القرآن الكريم فقد جاءت مُجَهَّلة.
فلم يقل لنا الله تعالى: مَنْ هو فرعون موسى، ولا مَنْ هم أهل الكهف ولا مَنْ هو ذو القرنين ولا مَنْ هو صاحب الجنتين، إلى آخر ما جاء في القرآن الكريم.
لأنه ليس المقصود بهذه القصص شخصاً بعينه.
لا تتكرر القصة مع غيره، وبعض الناس يشغلون أنفسهم بمَنْ هو فرعون موسى؟ ومَنْ هو ذو القرنين؟... إلخ.
نقول لهم لن تصلوا إلى شيء لأن الله سبحانه وتعالى قد روى لنا القصة دون توضيح للأشخاص لنعرف أنه ليس المقصود شخصاً بعينه، ولكن المقصود هو الحكمة من القصة.
والقصص في القرآن لا ترد مكررة، وقد يأتي بعض منها في آيات، وبعض منها في آيات أخرى، ولكن اللقطة مختلفة، تعطينا في كل آية معلومة جديدة بحيث إنك إذا جمعت كل الآيات التي ذكرت في القرآن الكريم تجد أمامك قصة كاملة متكاملة كل آية تضيف شيئاً جديداً.
وأكبر القصص في القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام.
ويذكِّرنا القرآن الكريم بها دائماً لأن أحداثها تعالج قصة أسوأ البشر في التاريخ، وفي كل مناسبة يذكرنا الله بلقطة من حياة هؤلاء.
واقرأ قوله تعالى: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [القصص: 7].
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ، } [طه: 38-39].
والفهم السطحي يظن أن هذا تكرار ونقول لا.
فقوله تعالى: { { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ، } [القصص: 7].
هذه اللقطة تدل على أن الله سبحانه وتعالى يُعِدُّ أم موسى إعداداً إيمانياً للحدث، ولكن عند وقوع الحدث تتغير القصة على نمط سريع: { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ } [طه: 39].
كلام يناسب لحظة وقوع الحدث، فالآية الأولى، بينت لنا أن أم موسى أرضعته قبل أن تضعه في التابوت، وأنها ستلقيه في اليم عندما يحدث خطر وتخاف عليه من القتل، وفيه تطمين لها.
ألاَّ تخاف ولا تحزن.
لأن الله منجيه، وفيها بشارتان: أن الله سيرده لأمه، وأن الله قد اختاره رسولاً.
نأتي إلى الآية الثانية التي تكمل لنا هذه اللقطة، فتقول {أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ، } [طه: 39].
هنا نعرف أن أم موسى ستلقيه في تابوت، وهو ما لم يذكر في الآية السابقة، ثم بعد ذلك نعلم أن الله سبحانه وتعالى أصدر أمره إلى الماء أن يلقى التابوت إلى الساحل، وهذا ما لم يرد في الآية السابقة، ونعرف أيضاً أن الذي سيأخذه وهو فرعون، ستكون بينهما عداوة متبادلة، وهكذا نرى أن آيتي القصة يكمل بعضهما بعضاً، وليس هناك تكرار.
والله سبحانه وتعالى في الآية الثانية يريد أن يثبت أنه ستكون هناك عداوة متبادلة بين موسى وفرعون، كما أثبتت عداوة فرعون لله جل جلاله ولموسى، فقال: { عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [طه: 39].
ولكن العداوة لا تستقر إلا إذا كانت متبادلة.
فتأتي آية ثالثة لتكمل الصورة، في قوله تعالى: { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8].
وهكذا بينت لنا الآية الكريمة كيف أن العداوة بين فرعون وموسى ستسقر حتى يقضى على فرعون.
لأنه إذا كان إنسان عدواً لك، وأنت تقابل العداوة بالإحسان، تخمد العداوة بعد قليل.
إذن: هذه الآيات ليست تكراراً ولكنها آيات تكمل القصة، وتعطينا الصورة الكاملة المتكاملة.
ولكن لماذا لم تأت قصة موسى متكاملة كقصة يوسف؟ لأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يُثبِّتَ بها نبينا عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، فتأتي هنا لقطة وهنا لقطة لتؤدي ما هو مطلوب من التثبيت بما لا يُخِلُّ، لأن الآيات تعطينا القصة متكاملة.
وهكذا قصة آدم، جاءت لنا في آيات متعددة، لتعطينا في مجموعها قصة كاملة.
وفي الوقت نفسه كل آية لها حكمة يحتاجها التوقيت الذي نزلت فيه، فالله سبحانه وتعالى يروي لنا بداية الخلق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب".
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُعرِّفنا كيف بدأ الخلق، وقصة عداوة إبليس لآدم وذريته، فتكلم الله سبحانه وتعالى عن أول البشر.
عرَّفنا اسمه، وهو آدم عليه السلام.
وتكلم عن المادة التي خلق منها.
وتكلم عن المنهج الذي وضعه لآدم، وحدَّثنا عن النقاش الذي دار مع الملائكة.
كما أخبرنا بأن آدم سيكون خليفة في الأرض، وأنه علَّمه الأسماء كلها ليقود حركة حياته، وعلَّمنا منطق علم الأشياء، وعلم مسمياتها، وحدثنا عن الحوار الذي حدث بين إبليس أمام ربه حينما أبى السجود، وبين لنا حجة إبليس في الامتناع عن السجود، وخطة إبليس ومدخله إلى قلوب المؤمنين بالإغواء والوسوسة وغير ذلك.
إذن: فهناك أشياء كثيرة تتعرض لها قصة آدم، ولو أن بشراً يريد أن يؤرخ لآدم ما استطاع أن يأتي بكل هذه اللقطات، ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل كل لقطة تأتي للتثبيت.
والآية الكريمة التي نحن بصددها لم تأت في "سورة الأعراف" ولا في "الحجر" ولا في "الإسراء" ولا في "الكهف" ولا في "طه".
وبهذا نعرف أنه ليس هناك تكرار، فالله سبحانه وتعالى أخبر ملائكته بأنه جاعل في الأرض خليفة.
هنا لابد لنا من وقفة.
أخلق آدم كفرد أم خلقه الله وكل ذريته مطمورة فيه إلى يوم القيامة، إذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } [الأعراف: 11].
الخطاب هنا للجميع لآدم وذريته، فكأنه سبحانه وتعالى يشير إلى أن الأصل الأول للخلق آدم، وهو مطمور فيه صفات المخلوقين من ذريته إلى أن تقوم الساعة وراثة، أي: أنه ساعة خلق آدم، كان فيه الذرات التي سيأخذ منها الخلق كله.
هذا عن هذا، حتى قيام الساعة.
ولقد قلتُ: إن كل واحد منا فيه ذرة أو جزئ من آدم، فأولاد آدم أخذوا منه والجيل الذي بعدهم أخذ من الميكروب الحي الذي أودعه آدم في أولاده، والذين بعدهم أخذوا أيضاً من الجزيء الحي الذي خُلِق في الأصل مع آدم، وكذلك الذين بعدهم والذين بعدهم.
والحياة لابد أن تكون حلقة متصلة، كل منا يأخذ من الذي قبله ويعطي الذي بعده.
ولو كان هناك حلقة مفقودة لتوقفت الحياة، كأن يموت الرجل قبل أن يتزوج، فلا تكون له ذرية من بعده.
وتتوقف حلقة الحياة.
فكون حلقة الحياة مستمرة دليل أنها حياة متصلة لم تتوقف.
وما دامت الحياة من عهد آدم إلى يومنا هذا متصلة، فلابد أن يكون في كل منا ذرة من آدم الذي هو بداية الحياة وأصلها.
وانتقلت بعده الحياة في حلقات متصلة إلى يومنا هذا وستظل إلى يوم القيامة.
فأنا الآن حي؛ لأنني نشأت من ميكروب حي من أبي، وأبي أخذ حياته من ميكروب حي من أبيه، وهكذا حتى تصل إلى آدم، إذن: فأنت مخلوق من جزيء حي فيه الحياة لم تتوقف منذ آدم إلى يومنا هذا، ولو توقفت لما كان لك وجود.
إذن: فحياة الذين يعيشون الآن موصولة بآدم، لم يطرأ عليها موت والذين سيعيشون وقت قيام الساعة حياتهم أيضاً موصولة بآدم أول الخلق.
والحق سبحانه وتعالى حين أمر الملائكة بالسجود لآدم فإنهم سجدوا لآدم ولذريته إلى أن تقوم الساعة، وذرية آدم كانت مطمورة في ظهره، وشهدت الخلق الأول.
إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ، } [الأعراف: 11].
فيه جزئية جديدة لقصة الخلق.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
أي أن الله سبحانه وتعالى يطلب من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أن يقول أنه عِنْد خَلْقِ آدم خَلَقَه خليفة في الأرض، والكلام هنا لا يعني أن الله سبحانه وتعالى يستشير أحداً في الخلق، بدليل أنه قال "إني جاعل" إذن: فهو أمر مفروغ منه، ولكنه إعلام للملائكة، والله سبحانه وتعالى، عندما يحدث الملائكة عن ذلك فلأن لهم مع آدم مهمة، فهناك المدبرات أمراً، والحفظة الكرام، وغيرهم من الملائكة الذين سيكلفهم الحق سبحانه وتعالى بمهام متعددة تتصل بحياة هذا المخلوق الجديد.
فكان الإعلام. لأن للملائكة عملاً مع هذا الخليفة.
قد يقول بعض الناس: إن حياة الإنسان على الأرض تخضع لقوانين ونواميس.
نقول: ما يدريك أن وراء كل ناموس مَلَكاً؟ ولكن هذا الخليفة سَيَخْلُفُ مَنْ؟ قد يخلف بعضه بعضاً.
في هذه الحالة يكون هنا إعلام من الله بأن كل إنسان سيموت ويخلفه غيره، فلو كانوا جميعاً سيعيشون ما خلف بعضهم بعضاً، وقد يكون الإنسان خليفة لجنس آخر، ولكن الله سبحانه وتعالى نفى أن يخلف الإنسان جنساً آخر.
واقرأ قوله جل جلاله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم: 19-20].
والخلق الجديد هو من نوع الخلق نفسه الذي أهلكه الله.
والله سبحانه وتعالى يخبرنا بأن البشر سيخلفون بعضهم إلى يوم القيامة، فيقول جل جلاله: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [مريم: 59].
ولكن هذا يطلق عليه خَلْفٌ.
ولا يطلق عليه خليفة.
والشاعر يقول: ذَهَبَ الذِينَ يُعَاشُ في أكْـنافِهِمْ وبَقـيتُ في خَلْفٍ كَجلْدٍ الأَجْرَبِ
ولكن الله جعل الملائكة يسجدون لآدم ساعة الخلق، وجعل الكون مسخراً له فكأنه خليفة الله في أرضه، أمده بعطاء الأسباب، فخضع الكون له بإرادة الله، وليس بإرادة الإنسان، والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: "يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى وأسُدُّ فقرك، وإلاّ تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسُدّ فقرك".
إذن: كلمة خليفة تأخذ عدة معان.
ماذا قالت الملائكة: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}.
كيف عرف الملائكة ذلك؟ لابد أن هناك حالة قبلها قاسوا عليها، أو أنهم ظنوا أن آدم سيطغى في الأرض، ولكن كلمة "سفك" وكلمة "دم" كيف عرفتهما الملائكة وهي لم تحدث بعد؟ لابد أنهم عرفوها من حياة سابقة.
والله سبحانه وتعالى يقول: { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [الحجر: 27].
فكأن الجن قد خلق قبل الإنسان.
وقوله تعالى: {إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
معنى ذلك أن علمك أيها المخلوق مناسب لمخلوقيتك، أما علم الله سبحانه وتعالى، فهو أزلي لا نهائي.
ولكن هل قال الملائكة حين أخبرهم الله بخلق آدم ذلك علنا أم أسروه في أنفسهم؟ سواء قالوه أم أسروه، فقد عَلِمَه الله لأنه يعلم ما يُسِرُّون وما يعلنون.
وأنه يعلم السر وأخفى.
فما هو السر.
وما هو الأخفى من السر؟ السر هو ما أسررته إلى غيرك.
فما أَسِرُّ به إلى غيري، فهو السر.
وما أخفيه في صدري ولا يطلع عليه أحد هو أخفى من السر.
فلا يقال: أسررت إلا إذا بُحْتُ به لغيري.
أما ما أخفيه في صدري، فلا يعلمه أحد إلا الله فهذا هو الأخفى من السر.
وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. أراد أن يعطي القضية بُعْدَها الحقيقي.
وقد حكى القرآن الكريم قول الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ،} [البقرة: 30].
والتسبيح هو التنزيه عمّا لا يليق بذات المُنَزَّه.
والتقديس هو التطهير مأخوذ من الْقَدَس وهو الدلو الذي كانوا يتطهرون به.
ولذلك نحن نقول سُبّوح قُدُّوس.
سُبّوح أي مُنزَّه عن كل ما لا يليق بجلاله.
وقدوس.
أي مُطَهَّرْ، التسبيح يحتاج إلى مُسبِّح.
وإلى ما نسبحه.
والملائكة قالوا: { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ، } [البقرة: 32].
وهذا تسبيح وتنزيه لله سبحانه وتعالى، والتسبيح والتنزيه لا يكونان إلا للكمال المطلق الذي لا تشوبه أية شائبة، والكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى وحده.
لذلك صرف الله ألسنة خلقه عن أن يقولوا كلمة سبحانك لغير الله تعالى.
فلا تسمع في حياتك أن إنساناً قال لبشر سبحانك.
وهكذا صرفت ألسنة الخلق عن أن تسبح لغير الله سبحانه وتعالى.
وقول الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ،} [البقرة: 30]. كأن نقول سبحان الله وبحمده.
ومعناها تنزيه لله سبحانه وتعالى في ذاته، فلا تشبَّه بذات، وفي صفاته.
فلا تُشَبَّه بصفات وفي أفعاله، فلا تُشَبَّه بأفعال، ولكن ما معنى كلمة وبحمده؟ معناها أننا نُنَزِّهك ونحمدك.
أي يا رب تنزيهي لك نعمة.
ولذلك فإني أحمدك على أنك أعطيتني القدرة لأنزهك، والتقديس هو تطهير الله سبحانه وتعالى من كل الأغيار.
ولأنك يا ربي قُدُّوس طاهر.
لا يليق أن يرفع إليك إلا طاهر.
ولا يليق أن يصدر عمن خلقته بيديك إلا طاهر.
إنه عرّفنا معنى {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ،} [البقرة: 30].
ثم أراد الله بحكمته أن يرد على الملائكة فقال: {إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. ولم يطلقها هكذا.
ولكنه سبحانه أتى بالقضية التي تؤكد صدق الواقع. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة البقرة الآيات من 26-35 الجمعة 19 أبريل 2019, 5:56 am | |
| وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٣١] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
فالحق سبحانه وتعالى رد على الملائكة بهذه الآية الكريمة، لأنه علَّم آدم الأسماء كلها.
وكلمة "كلها" تفيد الإحاطة، ومعنى الإحاطة معرفة كل شيء عن هذه الأسماء.
هنا يتبادر سؤال: هل علَّم الله سبحانه وتعالى آدم الأسماء منذ ساعة الخلق إلى قيام الساعة ما دام الحق سبحانه وتعالى يقول كلها.
فما هو حكم تلك الأسماء التي هي لمخترعات ستأتي بعد خلق آدم بقرون طويلة؟
نقول إن الله سبحانه وتعالى حين علّم آدم الأسماء وميَّزه على الملائكة يكون قد أعطى ذلك الأدنى عنصراً ميَّزه عن المخلوق من عنصر أعلى.
فآدم مخلوق من طين، والملائكة مخلوقون من نور.
وقدرات البشر لا تستطيع أن تعطي الأدنى شيئاً أكثر من الأعلى.
ولكن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يُعطي ذلك ليذكِّرنا أن ما نأخذه ليس بقدراتنا ولكن بقدرته هو سبحانه.
ولذلك تجد سليمان وهو ملك ونبي أعطاه الله تعالى مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده وميَّزَه عن خلقه.
يأتي الهدهد ليقول لسليمان: { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [النمل: 22].
كيف يحيط الهدهد -وهو طائر ضعيف محدود- بما لم يحط به سليمان وهو الملك النبي الذي حكم الإنس والجن؟
لأن الله سبحانه وتعالى يكره الغرور من خلقه؛ ولذلك يأتي بآية تميِّز الأدنى عن الأعلى ليعلموا جميعاً أن كل قدراتهم ليست بذاتهم.
وإنما هي من الله.
فيأتي موسى وهو الرسول والنبي، فيتعلم من الخضر وهو العبد الصالح ما لم يكن يعلمه.
وقد خلق الله سبحانه المسميات، وإن كنا لا نعرف وجودها وجعل الملائكة تتلقى أسماء هذه المسميات من آدم، وأن البعض يتساءل عن وسيلة تعليم الخالق الأكرم لآدم عليه السلام.
وتعليم الخالق يختلف عن تعليم الخلق؛ لأن الخالق يُعلِّمُ إلهاماً.
يقذف في قلب آدم أسماء المُسمَّيات كلها لكل ما في الكون من أسماء المخلوقات.
إذن: فالمشهد الأول لآدم مع الملائكة كان قد تم إيجاد كل المسميات وألهمها الله لآدم بدليل أن الملائكة لم تتعرف على هذه المسميات، بينما عرفها آدم.
وهنا لابد لنا من وقفة.
إن الكلام هو ناتج السمع واللغة ناتج البيئة، والله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء.
وهذا العلم لا يمكن أن يأتي إلا إذا كان آدم قد سمع من الله سبحانه وتعالى، ثم نطق.
فأنت إذا أتيت بطفل عربي، وتركته في لندن مثلاً.
فتراه يتكلم الإنجليزية بطلاقة.
ولا يفهم كلمة واحدة من اللغة العربية.
والعكس صحيح.
إذا أتيت بطفل إنجليزي، وتركته في بلد عربي يتكلم العربية.
ولا يعلم شيئاً عن الإنجليزية.
إذن: فاللغة ليست وراثة ولا جنساً ولا بيئة، ولكنها محاكاة يسمعها الإنسان فينطق بها.
وإذا لم يسمع الإنسان شيئاً وكان أصمَّ فإنه لا يستطيع النطق بحرف واحد.
فإذا كان آدم قد نطق بهذه الأسماء؛ فلا بد أنه سمع من الله سبحانه وتعالى والعجيب أن الطريقة التي علَّم الله سبحانه وتعالى آدم بها، هي الطريقة نفسها التي تتبعها البشرية إلى يومنا هذا، فأنت لا تعلم الطفل بأن تقص عليه الأفعال.
ولكن لابد أن يبدأ تعليمه بالأسماء والمسميات.
تقول له: هذا كوب، وهذا جبل وهذا بحر، وهذه شمس، وهذا قمر.
وبعد أن يتعلم المسميات يستطيع أن يعرف الأفعال ويتقدم في التعليم بعد ذلك.
وهكذا نتعرف على النشأة الأولى للكلام، وطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى عَلَّمتْ آدم الأسماء.
وهنا نتوقف لنجيب عن سؤالين: الأول: إذا كان الله سبحانه وتعالى قد علَّم آدم الأسماء كلها.
فهل كان فيها أسماء ما سيستجد من مخترعات في العالم؟
نقول: إنه حتى لو تعلم آدم الأسماء التي يحتاج إليها في أولويات الوجود ويستخدمها في متطلبات حياته على الأرض.
فإذا جد جديد، فإن أولاد آدم يستخدمون هذه الأسماء من المقدمات والأسماء التي تعلموها.
فما يَجِدُّ في الوجود من أسماء تدخل على اللغة، لم تأْتِ من فراغ، وإنما جاءت من اللغة التي تنطق بها وتكتب بها.
كذلك كل شيء في هذا الكون لو أعدته الآن إلى أصله فستجد أن أصله من الله.
فلو أعدت البشرية إلى أصلها لابد أن تصل إلى أن الإنسان الأول خلقه الله سبحانه وتعالى.
ولو أعدت العلم إلى أصله وكل علم يحتاج إلى معلِّم.
نقول لك: مَنْ الذي علَّم المُعلِّم الأول؟
أليس من البديهي أن العلم بدأ بمعلم علمه الله سبحانه وتعالى.
وكان هذا هو المعلّم الأول.
إذن: فالذي علّم الأسماء لآدم هو الله سبحانه وتعالى.
وهو علمها لأولاده.
وأولاده علموها لأولادهم وهكذا.
يأتي السؤال الثاني: إذا كان الله هو المُعلِّم للكلام، فلماذا اختلفت اللغات على الأرض وأصبح هناك ألوان من اللغات والألسنة؟
نقول: إن تنوع فترات التاريخ وانتشار الإنسان على الأرض جعل كل مجموعة من البشر تقترب من بعضها لتكون لها لغة واحدة، وكل لغة موجودة مأخوذة من لغة قديمة.
فالفرنسية والإنجليزية والإيطالية مأخوذة من اللاتينية.
والعبرية والسريالية لهما علاقة باللغة العربية واللهجات التي يتكلم بها العالم العربي -صاحب اللغة الواحدة- تختلف.
حتى أن لهجة الجزائر أو المغرب مثلاً تجدها مختلفة عن اللهجة المصرية أو السودانية.
ولكننا إذا تكلمنا باللغة العربية فَهِمَ بعضنا بعضاً، ولغة هؤلاء جميعاً في الأصل هي لغة القرآن.
وهي العربية، ولكن في فترات الوهن التاريخي الذي مَرَّ على العرب انعزلت البلاد العربية بعضها عن بعض ومضى كل مجتمع يأخذ اللغة كمظهر اجتماعي، فيسقط التفاهم بين اللهجات المختلفة.
وهكذا علَّم الله سبحانه وتعالى آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة وقال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]؟
أي أن الله سبحانه وتعالى كرَّم آدم في العلم، وأعطاه علماً لم يعطه للملائكة.
ثم جعل آدم هو الذي يعلمهم أسماء مسميات لم يعرفوها.
وهذا دليل على طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى الذي يفعل ما يشاء في كونه، وكما قلنا: إن تمييز الأدنى عن الأعلى لا يتم إلا بفعل الله وحده.
ولكي نقرِّبَ هذا إلى العقول: هَبْ أن إنساناً ضعيفاً يريد أن يحمل حملاً ثقيلاً.
إنه لا يقدر.
وإذا كان هناك إنسان قوي يُعينه فإنه لا يستطيع أن يعطيه من قوته ليحمل هذا الحمل، ولكن يعينه بأن يحمل عنه.
أما الذي يستطيع أن يجعل هذا الضعيف قوياً يمكنه أن يحمل هذا الحمل الثقيل فهو الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان لا يستطيع أن يعطي إنساناً آخر من قوته، ولكن الله وحده هو القادر على أن يجعل الضعيف قوياً والقوي ضعيفاً.
وقوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] وهل يكذب الملائكة؟ إن الملائكة خَلْقٌ من نور يسبحون الله، ويفعلون ما يؤمرون.
نقول إن قوله تعالى {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] فيما قستم عليه الأحداث، أو فيما قلتموه ضرباً بالغيب.
ولو أن الملائكة قاسوا حكمهم على حكم جنس آخر كان في الأرض كالجن مثلاً الذين خُلِقوا قبل الإنسان.
فيقول الحق سبحانه وتعالى: إنكم أخطأتم في قياسكم هذا، أو إن كنتم صادقين فيما تنبأتم به من غيب؛ فلا يعلم الغيب إلا الله تعالى.
فالقياسان جانبهما التوفيق.
وليس هذا طعناً في الملائكة، ولكنه تصحيح لهم، وتعريف لنا بأن الملائكة لا يعلمون الغيب.
ولذلك فهم حينما قاسوا أو حكموا على غيب.
جانبهم التوفيق لأن الله وحده هو علّام الغيوب والذي دفع الملائكة إلى أن يقولوا أو يُبْطِنوا هذا الكلام هو حُبُّهم الشديد لله تعالى.
وكراهيتهم للإفساد في كونه. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة البقرة الآيات من 26-35 الجمعة 19 أبريل 2019, 5:59 am | |
| قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [٣٢] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
هذه الآية الكريمة، توضح لنا أن الله سبحانه وتعالى هو المُعلِّم الأول في الكون.
وإذا كان لكل عِلْم مُعلِّم، فإن المعلم الأول لابد أن يكون هو الله سبحانه وتعالى.
وإذا كنا نشاهد في عصرنا ألواناً من العلوم، فهذه العلوم من تفاعل العقل الذي وهبه الله تعالى للإنسان من المواد التي وضعها الله تعالى في الكون بالمنطق والعلم الذي علَّمه الله للإنسان.
إن كل الاختراعات والابتكارات أخذت وجودها من مقدّمات كانت سابقة عليها، فالماء مثلاً كان موجوداً منذ الأزل، والشمس كطاقة تُبخِّر الماء لتصنع منه سحاباً.
فإذا استخدم الإنسان الطاقة الحرارية في تبخير الماء واستخدم البخار كطاقة، فهناك قفزة حضارية في العلوم اسمها "عصر البخار"، وهو الذي كانت تسير به القطارات والآلات في المصانع وغير ذلك.
إن هذا التقدم في العلم، إنما هو نابع من وجود العلم والطاقة، وزاد عليهما القدرة العقلية للإنسان الممنوحة له من الخالق سبحانه وتعالى، وهذه القدرة العقلية هي التي جعلته يفكر في استخدام الطاقة الناتجة من البخار، فإذا توصَّل الإنسان لمراقبة شجرة ساقطة وهي تتدحرج إلى الأرض لأن جذعها أسطواني، فإنه أخذ من نظام هذه الشجرة ما يصنع منه العجلة التي كانت تطوراً هاماً في تاريخ العلم.
إذن: فساق الشجرة الأسطوانية هو الذي أعطى للإنسان فكرة العجلة، فإذا طور الإنسان استخدام البخار وصنع قطاراً يسير بالبخار، فهذا التطوير هو ابن للعلم السابق عن قدرة الطاقة الناتجة عن تبخير الماء، وكيفية صناعة العجلة.
فكل علم نابع من علم سابق.
يترابط مع إمكانات وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان ولذلك عندما جاء الإسلام ليعرض العلم التجريبي أو المادي، جاء ليلفتنا إلى آيات الخالق في الكون، وطلب منا أن نتأمل في هذه الآيات.
ونُعْمِل فيها العقل والإدراك.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
وهكذا يلفتنا الله جل جلاله إلى آياته التي في السماوات والأرض لنُعْمِل فيها العقل والإدراك، لنستنبط منها ما يعطينا الحضارة.
إن القرآن يطالبنا بأن نواصل العلم الذي علَّمه الله لآدم.
وإذا كان تاريخ العلوم يحمل لنا أخباراً عن قوم لم يكونوا مؤمنين، ومع هذا سبقونا في العلم والاستنباط، فكان الواجب علينا نحن المؤمنين أن نتأمل آيات الله تعالى في الأرض.
فنيوتن -الذي لاحظ قوة جاذبية الأرض- كان يراقب تفاحة تسقط من أعلى الشجرة وتصطدم بالأرض، فتوصَّل إلى قانون الجاذبية.
وإذا أردنا أن نأخذ لمحة من علم الله الذي علَّمه لنا، فيكفي أن ننظر إلى النواة.
ففي هذه النواة الصغيرة نخلة كاملة، متى وضعت النواة في الأرض.
نَمَتْ النخلة، وأصبح لها وجود.
ولكي نوضح هذا كله نقول إن كل علم مبني على نظريات، النظرية الأولى تؤدي إلى الثانية، والثانية تؤدي إلى الثالثة، وهكذا.
ولكن بداية كل هذه العلوم لم تبدأ بنظرية، ولكنها بدأت بما يسمونه البديهيات، أي: الأشياء التي لا تحتاج إلى دليل، إنها الأشياء التي خلقها الله في الكون، وعلى هذه البديهات بنيت النظريات الواحدة بعد الأخرى حتى إذا أردت أن تعيدها إلى أصلها، فإنك تصل في نهاية الأمر إلى أن العلم الأول من الله سبحانه وتعالى، فالمُعلم الأول علَّمه الله.
والثمرة الأولى خلقها الله، وكل اكتشافات الإنسان منذ بداية الحياة وحتى قيام الساعة موجودة بالقوة.
مثل النواة التي فيها النخلة تنتظر التأمل والعمل؛ لتصبح اكتشافاً بالفعل.
والله سبحانه وتعالى وهو المعلم الأول.
وضع في كونه من العلم الكثير.
ويحضرني قول الشاعر أحمد شوقي حين قال: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ خَيْرَ مُعلِّمٍ عَلَّمْتَ بالقلمِ القُرونَ الأولىَ أرْسَلتَ بالتَّوراةِ مُوسَى مُرْشِداً وابنَ البتُولِ يُعلِّم الإنجيلا وَفَجرتَ يَنْبوعَ البَيانِ مُحمداً فَسَقَى الحديثَ ونَاولَ التنزيلا
وكان شوقي يصوغ في أبياته أن كل علم هو منسوب إلى الله وحده.
وهكذا يتضح لنا أن قول الملائكة: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ} [البقرة: 32].
يتضمن الاعتراف بأن العلم كله مرجعه إلى الله؛ فالله سبحانه وتعالى هو مصدر العلم والحكمة.
وقوله سبحانه وتعالى: "العليم الحكيم" العليم أي الذي يعلم كل شيء خافياً كان أو ظاهراً، والعلم كله منه.
وأما الحكمة فتطلق في الأصل على قطعة الحديد التي توضع في فم الفرس لتلجمه؛ حتى يمكن للراكب أن يتحكم فيه.
ذلك أن الحصان حيوان مُدَلَّل شارد، يحتاج إلى ترويض، وقطعة الحديد التي توضع في فمه تجعله أكثر طاعة لصاحبه.
وكأن إطلاق صفة الحكيم على الخالق سبحانه وتعالى هو أنه جل جلاله يحكم المخلوقات حتى لا تسير بغير هدى، ودون دراية، والحكمة أن يوضع هدف لكل حركة لتنسجم الحركات بعضها مع بعض، ويصير الكون محكوماً بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والحكيم العليم هو الذي يضع لكل كائن إطاره وحدوده.
والحكمة هي أن يؤدي كل شيء ما هو مطلوب منه ببراعة.
والحكمة في الفقه هي أن تستنبط الحكم السليم.
والحكمة في الشعر أن تزن الكلمات على المفاعيل.
والحكمة في الطب أن تعرف تشخيص المرض والدواء الذي يعالجه.
والحكمة في الهندسة أن تصمم المستشفى -مثلاً- طبقاً لاحتياجات المريض والطبيب وأجهزة العلاج ومخازن الأدوية، وغير ذلك، أو في تصميم المنزل للسكن المريح.
وحكمة بناء منزل مثلاً تختلف عن حكمة بناء قصر أو مكان للعمل.
والكون كله مخلوق من قِبَل حكيم عليم، وضع الخالق سبحانه وتعالى فيه كل شيء في موضعه ليؤدي مهمته.
وَوَصْفُ الله تعالى بأنه حكيم يتطلب أن يكون عليماً؛ لأن علمه هو الذي يجعله يصنع كل شيء بحكمة، وقد أعطى الله سبحانه وتعالى لكل خلقه من العلم على حاجته، فليس من طبيعة الملائكة أن يعرفوا ماذا سيفعل ذلك الإنسان الذي سيستخلفه الله في الأرض.
ولكنهم موجودون لمهمة أخرى.
ومَيَّز الله الإنسان بالعقل ليستكشف من آيات الله في الكون على قدر حاجة حياته.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ * ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ} [الأعلى: 1-3].
إذن فكل شيء خُلِق بقدر.
وكل مخلوق مُيسَّرٌ لما هداه الله له. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة البقرة الآيات من 26-35 الجمعة 19 أبريل 2019, 6:00 am | |
| قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [٣٣] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
فالحق سبحانه وتعالى أراد أن يرد على ملاحظة الملائكة بالنسبة لخلق آدم وخلافته في الأرض، وأن الله سبحانه وتعالى في حكمته ما يخفي عليهم.
ولذلك فهم لم يدركوا هذه الحكمة، وقبل أن يخلق الله آدم ويجعله خليفة في الأرض كان على علم بكل ما سيحدث من آدم وذريته حتى قيام الساعة.
وبعد قيام الساعة.
أما الملائكة، فهم لم يكونوا على علم بذلك.
لأن هذا ليس عملهم.
وكما قلنا: كُلُّ ميسَّر لما خُلِقَ له.
ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطي للملائكة الصورة بأنكم قد حكمتم على آدم إما من تجربة لجنس آخر عاش في الأرض، وإما من ضَرْبٍ بالغيب، والمقياسان غير صحيحين.
ولذلك ميَّزَ الله سبحانه في هذه اللحظة آدم على الملائكة فعلَّمه أسماء المسميات كلها، ثم طلب من الملائكة أن يخبروه بهذه الأسماء. ولكنهم قالوا: إن العلم من الله وحده.
وبما أن الله تعالى لم يعلّمهم الأسماء فإنهم لا يعرفونها.
فطلب الله من آدم أن يخبرهم بأسماء هذه المسميات فأخبرهم بها.
ولكنه لم يخبرهم بها بذاته ولا من قانونه.
ولا بعلم عَلِمَه وحده.
ولكنه أخبرهم بتعليم الله سبحانه وتعالى له.
وفي ذلك يقول الله تعالى: { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76].
إذن، فَعِلْمُ آدم للأسماء كان بمشيئة الله سبحانه وتعالى.
وهذه المشيئة وحدها هي التي جعلت آدم في ذلك الوقت يعلم ما لا تعلمه الملائكة.
وهنا رَدَّ الحق سبحانه وتعالى على قول الملائكة بأن آدم سيفسد في الأرض، فذكَّرهم الله تعالى بقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ} [البقرة: 33] أي أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعلم الغيب، والغيب هنا هو الغيب المطلق، فهناك غيب نسبي.
قد تسرق حافظة نقودي مثلاً وأنا لا أعلم من الذي سرقها فهو غيب عني.
ولكنه معلوم للذي سرق، وللذي سهَّل له طريقة السرقة بأن حرس له الطريق حتى يسرق دون أن يفاجئه أحد.
وقد يكون قد صدر قرار هام بالنسبة لي كترقية أو فصل أو حكم.
لم يصلني.
فأنا لا أعلمه.
ولكن الذي وَقَّع القرار أو الحكم يعلمه.
هذا الغيب النسبي، لا يعتبر غيباً.
ولكن الغيب المطلق هو الذي ليس له مقدمات تنبئ عما سيحدث.
هذا الغيب الذي يفاجئك، ويفاجئ كل من حولك بلا مقدمات.
هذا الغيب لا يعلمه إلا الله وحده.
وقوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33].
تعطينا هنا وقفة.
هل الملائكة قالوا لله سبحانه وتعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] هل قالها الملائكة فعلاً وجهراً، أم أنهم قالوها في أنفسهم ولم ينطقوا بها؟ قوله تعالى "وما كنتم تكتمون" تعطينا إشارة إلى أن الملائكة ربما قالوا هذا سراً.
ولم يبدوه، وعلى أية حال سواء قالوه جهراً أو قالوه سراً.
فقد عَلِمه الله؛ لأن الله جل جلاله بكل شيء محيط.
ولا نريد لهذه النقطة أن تثير جدلاً.
لماذا؟
لأنه في الحالتين سواء في الجهر أو في الكتمان، فإن الموقف يتساوى عند علم الله سبحانه وتعالى.
فلا داعي للجدل لأنه لا خلاف. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة البقرة الآيات من 26-35 الجمعة 19 أبريل 2019, 6:03 am | |
| وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [٣٤] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
أصدر الله تعالى أمره للملائكة ليسجدوا لآدم.
وهذه القضية أخذت جدلاً طويلاً.
قال بعض الناس: كيف يسجد الملائكة لغير الله؟
والسجود لا يكون إلاَّ لله وحده.
وقال آخرون: هل معنى سجود الملائكة لآدم أنهم عبدوه؟
وقالت فئة أخرى: السجود لغير الله لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف.
نقول لهؤلاء: إنكم لم تدركوا المعنى، فالله سبحانه وتعالى بعد أن مَيَّزَ آدم على الملائكة بعلم الأسماء، طلب منهم أن يسجدوا لآدم، وهنا لابد أن نعرف أن السجود لآدم هو إطاعة لأمر الله، وليست عبادة لآدم.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي أمر الملائكة بالسجود.
ولم يأمرهم بذلك آدم.
ولا يحق له أن يأمرهم، فالأمر بالسجود هنا من الله سبحانه وتعالى، مَنْ أطاعه كان عابداً.
ومَنْ لم يطعه كان عاصياً.
ومَنْ رَدَّ الأمر على الآمر كان كافراً.
ولكي نفهم معنى العبادة نقول: إن العبادة هي طاعة أوامر الله، واجتناب نواهيه.
فما قال لي الله: افعل.
فإني أفعل.
وما قال: لا تفعل.
فإنني لا أفعل.
لأن العبادة هي طاعة مخلوق لخالقه في أوامره ونواهيه؛ ولذلك عندما نذهب إلى الحج فإننا نُقبِّل الحجر الأسود في الكعبة، ونرجم الحجر الذي يمثل إبليس في مِنَى.
نقبل حجراً ونرجم حجراً.
هذا هو معنى عبادة الله واتباع منهجه.
كما أمرنا نفعل.
لا شيء مقدس عندنا إلا أمر الله ومنهجه.
الملائكة هنا لم يسجدوا لآدم، ولكنهم سجدوا لأوامر الله بالسجود لآدم.
وفرق كبير بين السجود لشيء، وبين السجود لأمر الله. السجود لأمر الله سبحانه وتعالى لا يعتبر خروجاً على المنهج، لأن الأساس هو طاعة الله.
وهل سجد كل الملائكة لآدم؟
لا.
وإنما سجد لآدم الملائكة الذين لهم مهمة معه، وتلك المهمة قد بَيَّنَها الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10-12].
وقوله سبحانه: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
وقوله سبحانه: {فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} [النازعات: 5].
إذن: هناك مِن الملائكة مَنْ سيسجل على الإنسان أعماله، وكل قول يقوله وكل فعل يفعله.
بل ويكتبون هذه الأفعال.
ومنهم مَنْ يحفظه من الشياطين، ومنهم مَنْ ينفذ أقدار الله في الأرض.
هؤلاء جميعاً لهم مهمة مع الإنسان، ولكن الأمر بالسجود لم يشمل أولئك الملائكة العالين من حملة العرش وحراس السماء وغيرهم ممن ليست لهم مهمة مع الإنسان.
ولذلك عندما رفض إبليس السجود، قال له الله تعالى: {قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ} [ص: 75].
قوله تعالى: "كنت من العالين" أي: أنك كنت من الملائكة العالين.
الذين لم يشملهم أمر السجود.
إذن: فأمر السجود لآدم.
كأمر الله لنا بالسجود إلى القبلة في الصلاة، فنحن لا نسجد للقبلة ذاتها.
ولكننا نسجد لأمر الله بالسجود إلى القبلة.
سجد الملائكة الذين شملهم أمر السجود لأمر الله سبحانه وتعالى.
ولكن إبليس رفض أن يسجد، وعصى أمر الله.
بعض الناس يقولون: إن إبليس لم يكن من الذين أمرهم الله تعالى بالسجود.
لأن الأمر شمل الملائكة وحدهم.
وإبليس ليس ملكاً.
ولكنه من الجن.
كما يروي لنا القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50].
ونقول: إن كون إبليس من الجن هو الذي جعله يعصي أمر الله بالسجود، فلو أن إبليس كان من الملائكة -وهم مقهورون على الطاعة- كان لابد أن يطيع أمر الله ويسجد، ولكن كونه من الجن الذين لهم اختيار في أن يطيعوا وأن يعصوا؛ فذلك الذي مَكَّنه أن يعصي أمر السجود؛ ولذلك فإن الذين يأخذون من الآية الكريمة أن إبليس كان من الجن، بأنه لم يشمله أمر السجود، نقول لهم: إن الحق سبحانه وتعالى قد أخبرنا عن جنس إبليس حتى نفهم من أي باب إلى المعصية دخل.
ذلك أنه دخل من باب الاختيار الممنوح للإنس والجن في الحياة الدنيا وحدها، ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون إبليس مقهوراً على الطاعة ما كان يستطيع أن يعصي، ولكن معصيته جاءت من أنه خُلِق مختاراً.
والاختيار هو الباب الذي دخل منه إلى المعصية.
هذه حقيقة يجب أن نفهمها؛ ولذلك يرد الحق سبحانه وتعالى على كل مَنْ سيخطر بباله أن أمر السجود لم يشمل إبليس لكونه من الجن، لقوله سبحانه وتعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12].
وكان كفر إبليس وخلوده في النار أنه ردَّ الأمر على الآمر، وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61].
وقد كان وجود إبليس مع الأعلى منه، وهم الملائكة، مبرراً أكبر للسجود؛ فما دام قد صدر الأمر إلى الأعلى بالسجود، فإنه ينطبق على الأدنى.
وقد كان إبليس كما جاء في الأثر يُسمَّى طاووس الملائكة.
وكان يزهو بخيلاء بينهم.
وهذه الخيلاء أو الكِبْر هو الذي جعله يقع في المعصية، ولأن إبليس خُلِق مختاراً، فقد كان مزهواً باختياره لطاعة الله.
قبل أن يقوده غروره إلى الكفر والمعصية، ولذلك لم يكد يصدر الأمر من الله بالسجود لآدم، حتى امتنع إبليس تكبراً منه.
ولم يجاهد نفسه على طاعة الله.
فمعصية إبليس هي معصية في القمة؛ لأنه ردَّ الأمر على الآمر، وظن أنه خير من آدم.
ولم يلتزم بطاعة الله، ومضى غروره يقوده من معصية إلى أخرى؛ فطرده الله من رحمته وجعله رجيماً.
ولما عرف إبليس أنه طُرِد من رحمة الله طلب من الله سبحانه وتعالى أن يُبقيه إلى يوم الدين، وأقسم إبليس بعزة الله أن يُغري بني آدم.
وحدَّد الأماكن التي يأتي منها الإغواء، فقال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].
نلاحظ هنا أن الجهات بالنسبة للإنسان ستة: اليمين والشمال، والأمام والخلف وأعلى وأسفل، ولكن إبليس لم يذكر إلا أربعة فقط.
أما الجهتان الأخيرتان وهما الأعلى والأسفل، فلا يستطيع إبليس أن يقترب منهما.
أما الأسفل فهو مكان السجود والخضوع لله.
وأما الأعلى فهو مكان صعود الصلاة والدعاء.
وهذان المكانان لا يستطيع إبليس أن يقترب منهما.
وهكذا نرى أن إبليس لم يمتنع عن السجود فقط.
وإنما رد الأمر على الآمر، وهذا أول الكفر، ثم بعد ذلك مضى في غَيِّه، فتوعَّد آدم وذريته بأن يُضِلَّهم عن سبيل الله. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة البقرة الآيات من 26-35 الجمعة 19 أبريل 2019, 6:08 am | |
| وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [٣٥] تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
بعد أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم وأمر الملائكة أن تسجد له وحدث كفر إبليس ومعصيته، أراد الله جل جلاله أن يمارس آدم مهمته على الأرض، ولكنه قبل أن يمارس مهمته أدخله الله في تجربة عملية عن المنهج الذي سيتبعه الإنسان في الأرض، وعلى الغواية التي سيتعرض لها من إبليس.
فالله سبحانه وتعالى رحمة منه لم يشأ أن يبدأ آدم مهمته في الوجود على أساس نظري، لأن هناك فرقاً بين الكلام النظري والتجربة.
قد يقال لك شيء وتوافق عليه من الناحية النظرية، ولكن عندما يأتي الفعل فإنك لا تفعل شيئاً، إذن: فالفترة التي عاش فيها آدم في الجنة كانت تطبيقاً عملياً لمنهج العبودية، حتى إذا ما خرج إلى مهمته لم يخرج بمبدأ نظري، بل خرج بمنهج عملي تعرض فيه لـ (فعل) و (لا تفعل)، والحلال والحرام، وإغواء الشيطان والمعصية، ثم بعد ذلك يتعلّم كيف يتوب ويستغفر ويعود إلى الله، وليعرف بنو آدم أن الله لا يغلق بابه في وجه العاصي، وإنما يفتح له باب التوبة، والله سبحانه وتعالى أسكن آدم الجنة.
وبعض الناس يقول: أنها جنة الخلد التي سيدخل فيها المؤمنون في الآخرة.
وبعضهم قال: لولا أن آدم عصى لكنا نعيش في الجنة.
نقول لهم: لا.
جنة الآخرة هي للآخرة ولا يعيش فيها إنسان فترة من الوقت ثم بعد ذلك يُطرد منها بل هي كما أخبرنا الله تعالى جنة الخلد.
كل من دخلها عاش في نعيم أبدي.
إذن: فما هي الجنة التي عاش فيها آدم وحواء؟ هذه الجنة هي جنة التجربة أو المكان الذي تمت فيه تجربة تطبيق المنهج.
ونحن إذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد أطلق لفظ الجنة على جنات الأرض.
والجنة تأتي من لفظ "جن" وهو الستر، ذلك أن فيها أشجاراً كثيفة تستر مَنْ يعيش فيها، فلا يراه أحد، وفيها ثمرات تعطيه استمرار الحياة.
فلا يحتاج إلى أن يخرج منها.
ونجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17-18].
وهذه قصة الإخوة الذين كانوا يملكون جنة من جنان الأرض، فمنعوا حق الفقير والمسكين واليتيم، فذهب الله بثمر الجنة كلها وأحرق أشجارها.
وهناك في سورة الكهف قصة صاحب الجنتين، في قوله تعالى: {وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32].
وهي قصة ذلك الرجل الذي أعطاه الله جنتين.
فبدلاً من أن يشكر الله تعالى على نعمه.
كفر وأنكر البعث والحساب.
وفي سورة سبأ اقرأ قوله تعالى عن أهل سبأ الذين هداهم الله، وبيَّن لهم الطريق المستقيم ولكنهم فضَّلوا الكفر.
واقرأ قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ} [سبأ: 15-17].
وهكذا نرى أن الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قد أطلق لفظ الجنة على جنات الدنيا، ولم يقصره على جنة الآخرة.
إذن: فآدم حين قال له الله سبحانه وتعالى: {ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ} [الأعراف: 19].
فهي ليست جنة الخلد وإنما هي جنة سيمارس فيها تجربة تطبيق المنهج.
ولذلك لا يقال: كيف دخل إبليس الجنة بعد أن عصى وكفر، لأن هذه ليست جنة الخلد، ولابد أن تنتبه إلى ذلك جيداً حتى لا يقال: إن معصية آدم هي التي أخرجت البشر من الجنة؛ لأن الله تعالى قبل أن يخلق آدم حدَّد مهمته فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
فآدم مخلوق للخلافة في الأرض، ومَنْ صلح من ذريته يدخل جنة الخلد في الآخرة، ومَنْ دخل جنة الخلد عاش في النعيم خالداً.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] فالله سبحانه وتعالى أمدَّ الجنة التي سكنها آدم وحواء بكل ما يضمن استمرار حياتهما، تماماً كما خلق كل النعم التي تضمن استمرار حياة آدم وذريته في الأرض قبل أن تبدأ الحياة البشرية على الأرض.
فالله سبحانه وتعالى له عطاء ربوبية فهو الذي خلق، وهو الذي أوجد من عدم، ولذلك فقد ضمن لخلقه ما يعطيهم استمرار الحياة على الأرض من ماء وهواء وطعام ونعم لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، فكأن الله تعالى قد أمدَّ الجنة التي سكن فيها آدم وزوجته بكل عوامل استمرار حياتهما قبل أن يسكناها.
كما أمد الأرض بكل وسائل استمرار حياة الإنسان قبل أن ينزل آدم إليها.
إذن: فقوله تعالى: {يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ} [الأعراف: 19].
هذه فترة التدريب على تطبيق المنهج.
والسكن هو المكان الذي يرتاح فيه الإنسان ويرجع إليه دائماً.
فأنت قد تسافر فترات، وكل الدول التي تمر بها خلال سفرك لا تعتبر سكناً إلى أن تعود إلى بيتك، فهذا هو السكن، والرجل يَكِدُّ ويتعب في الحياة، وأينما ذهب فإنه يعود مرة أخرى إلى المكان الذي يسكنه ليستريح فيه.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] هو استكمال للمنهج، فهناك أمر ونهي: افعل ولا تفعل: {ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ} [البقرة: 35] أمر: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} [البقرة: 35] أمر، {وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] نهي، وهذا أول منهج يعلم الإنسان الطاعة لله سبحانه وتعالى والامتناع عما نهى عنه، وكل رسائل السماء ومناهج الله في الأرض أمر ونهي.
افعل كذا ولا تفعل كذا.
وهكذا فإن الحق سبحانه وتعالى ضمن لآدم الحياة، وليست الحياة فقط ولكن رغداً، أي: مباحاً وبلا تعب وعن سعة وبدون مشقة.
كما أننا نلاحظ هنا أن المباح كثير والممنوع قليل، فكل ما في الجنة من الطعام والشراب مباح لآدم، ولا قيد إلا على شيء واحد.
شجرة واحدة من بين ألوف الأشجار التي كانت موجودة في الجنة.
شجرة واحدة فقط هي الممنوعة.
وإذا نظرت إلى منهج السماء إلى الأرض تجد أن الله سبحانه وتعالى قد أباح فيه نعماً لا تُحصى ولا تُعَدُّ وقيَّد فيه أقل القليل.
فالذي نهانا الله عنه بالنسبة لنعم الأرض هو أقل القليل، كما كان في جنة آدم شجرة واحدة، والمباح بعد ذلك كثير.
وإذا أخذنا ألفاظ العبارات نجد أن الله سبحانه وتعالى ساعة يقول: {وقُلْنَا يَآءَادَمُ} [البقرة: 35] أتى بضمير "نا" ضمير الجمع، لأن الله واحد أحد، ولكنهم يسمونها: نون الكبرياء ونون العظمة.
إذن: فكل حدث يأتي فيه الحق تبارك وتعالى بنون الكبرياء ونون التعظيم؛ لأن كل فعل من الأفعال يحتاج إلى صفات متعددة حتى يتم.
فأنت إذا أردت أن تفعل شيئاً فإنه يقتضي منك قوة، ويقتضي منك علماً، ويقتضي منك قدرة، ويقتضي منك حكمة.
إذن: فهناك صفات كثيرة موجودة يقتضيها الفعل.
ولكن حين يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن شهادة التوحيد يقول: "إنني أنا الله" ولا يقول: إنما نحن الله.
لأنه جل جلاله يريد توحيداً، ففي موقع التوحيد يأتي بضمير الإفراد واحد أحد.
أما في صدر الأحداث، فيأتي بضمير الكبرياء والعظمة.
واقرأ قوله تعالى: {وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
وعندما أراد الحق تبارك وتعالى أن يمتدح إبراهيم قال: "إن إبراهيم كان أمة" ما معنى أُمَّة؟
أي: جامعاً لصفات الخير التي لا تجتمع في فرد، ولكنها تجتمع في أمة؛ فالأمة تجتمع فيها صفات الخير.
هذا متميز بالصدق، وذاك بالشجاعة، وذاك بالحلم، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يقول: إن إبراهيم كان أمة، أي أنه كان جامعاً لصفات الخير.
وفي قوله {وقُلْنَا يَآءَادَمُ} [البقرة: 35] آدم: اسم علم على المسمى الذي هو أول خلق الله من البشر {ٱسْكُنْ} [البقرة: 35] تحتاج إلى عنصرين: الهدوء والاطمئنان.
هذا هو معنى "اسكن"، توفير الهدوء والاطمئنان، ومنه أخذ اسم السكن.
وكلمة المسكن، وأطلق على الزوجة.
وإذا فقد المكان الذي تسكن فيه عنصراً من هذين العنصرين، وهما الهدوء والطمأنينة لا يقال عليه مسكن، والزوجة سُميت سكناً كما جاء في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
لأن الهدوء والرحمة والبركة تتوافر في الزوجة الصالحة، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103].
أي: راحة واطمئنانا ورحمة، فالإنسان يريد في بيته أن تكون الحياة فيه مريحة له من عناء العمل وصخب الحياة.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35] وكان من الممكن أن يقول اسكن وزوجك لأن الفاعل في فعل الأمر دائما مستتر.
ولكنه سبحانه قال: {ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35].
وإياك أن تظن أن "أنت" هو فاعل الفعل "اسكن"، ولكنه ضمير جاء ليفصل بين "اسكن" وبين "زوجك" حتى لا يعطف الاسم على الفعل.
إننا لابد أن نلاحظ أن كلمة زوج تطلق على الفرد ومعه مثله.
ولذلك لم يأت بتاء التأنيث.
اسكن أنت وزوجتك.
لأن الأمر التكليفي من الله.
سواء فيه الذكر والأنثى.
واقرأ قوله تعالى: {وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [غافر: 40].
إذن: فهما متساويان في هذه الناحية، هذه الجنة ماذا وفَّر الله سبحانه وتعالى لآدم وزوجه فيها؟ اقرأ قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ} [طه: 118-119].
هذه عناصر الحياة التي وفَّرها الله لآدم وزوجه في جنة التجربة الإيمانية العملية على التكليف.
وهكذا نرى من الأوصاف التي أعطاها الله سبحانه وتعالى لنا لهذه الجنة أنها ليست جنة الآخرة؛ لأنها أولاً فيها تكليف، في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] وجنة الآخرة لا تكليف فيها، والحق تبارك وتعالى أباح لآدم وحواء أن يأكلا كما يشاءان من الجنة.
والجنة فيها أصناف كثيرة متعددة.
ولذلك قال: {حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35].
وأنت لا تستطيع أن تقدم لإنسان صنفاً أو صنفين وتقول له: كُلْ ما شئت؛ لأنه لا يوجد أمامه إلا مجال ضيق للاختيار، كما أن قلة عدد الأصناف تجعل النفس تمل، ولذلك لابد أن يكون هناك أصناف متعددة وكثيرة.
ثم جاء النهي في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] أي: لا تقتربا من مكانها، ولكن لماذا لم يقل الحق سبحانه وتعالى: ولا تأكلا من هذه الشجرة؟ لأن الله جل جلاله رحمة بآدم وزوجه كان لا يريدهما أن يقعا في غواية المعصية.
فلو أنه قال: ولا تأكلا من هذه الشجرة لكان مباحاً لهما أن يقتربا منها، فتجذبهما بجمال منظرها ويقتربان من ثمارها فتفتنهما برائحتها العذبة ولونها الجذاب، حينئذ يحدث الإغواء، وتمتد أيديهما تحت هذا الإغراء إلى الشجرة ليأكلا منها.
ولكن الله تعالى يعلم أن النفس البشرية إذا حُرِّم عليها شيء، ولم تَحُمْ حوله كان ذلك أدعى ألا تفعله، فالله تعالى حين حرم الخمر لم يقل حُرِّمت عليكم الخمر، وإلا كنا جلسنا في مجالس الخمر ومع الذين يشربونها، أو نتاجر فيها وهذا كله إغراء بشرب الخمر.
ولكنه قال: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
هذا النص الكريم قد جعلنا نبتعد عن الأماكن التي فيها الخمور. فلا نجلس مع مَنْ يشربونها، ولا نتاجر فيها حتى لا نقع في المعصية، فإذا رأيتَ مكاناً فيه خمر فابتعد عنه في الحال، حتى لا يغريك منظر الخمر وشاربها بأن تفعل مثله.
والحق جل جلاله يقول في المحرمات: {وَلاَ تَقْرَبَا} [البقرة: 35] واجتنبوا.
أي: لا تحوموا حولها.
لأنها إذا كانت غائبة عنك فلا تخطر على بالك فلا تقع فيها.
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمَنْ اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرْضه، ومَنْ وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل مَلَكٍ حِمَى، ألا وإِن حمى الله محارمه). ولقد كان بعض الناس يُقبلون على شرب الخمر ويقولون: إنه لم يَردْ فيها تحريم صريح.
فلم تأت مسبوقة بكلمة "حُرِّمت".
نقول: إن كلمة اجتنبوا أشد من التحريم، فقوله تعالى: {فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ} [الحج: 30] معناه ألا تنظر حتى إلى الصنم واجتناب الخمر ألا تقع عينك عليها.
وقد اختلف الناس في نوع هذه الشجرة، وهل هي شجرة تفاح أو تين أو عنب أو غير ذلك؟
ونحن نقول: ليس هذا هو المقصود، ولكن المقصود هو التحريم؛ لأن منهج الله سبحانه وتعالى يُحلِّل أشياء، ويُحرِّم أشياء.
وقوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] الظلم هو الجور والتعدي على حقوق الغير.
والظالم هو مَنْ أخذ فوق ما يستحقه بغير حق.
والظلم يقتضي ظالماً ومظلوماً، وموضوعاً للظلم.
فكل حق -سواء كان مادياً أو معنوياً -يعتدي عليه إنسان بدون حق فقد حمل ظلماً، حتى الإنسان، فإنه أحيانا يظلم نفسه.
واقرأ قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ} [آل عمران: 135].
كيف يظلم الإنسان نفسه؟
قد يظلم الإنسان غيره، ولكنه لا يظلم نفسه أبدا لأنه يريد أن يعطيها كل ما تشتهيه، وهذا هو عين الظلم للنفس، لأنه أعطاها شهوة عاجلة في الدنيا، ربما استمرت ساعات، وحرمها من نعيم أبدي في الآخرة، فكأنه ظلمها بأن أعطاها عذاباً أليماً في الآخرة مقابل متعة زائلة لا تدوم.
وهناك مَنْ يبيع دينه بدنياه، ولكن أظلم الناس لنفسه مَنْ يبيع دينه بدنيا غيره، يشهد زوراً؛ ليرضي رئيساً، أو يتقرَّب لمسئول، أو يرتكب جريمة.
إذن قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] أي من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله. |
|
| |
| سورة البقرة الآيات من 26-35 | |
|