أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: الحج.. معراج القلوب إلى السماء الجمعة 25 أغسطس 2017, 6:49 am | |
|
الحج.. معراج القلوب إلى السماء د/ مصطفى مـحـمــود (رحمه الله) ================== الـكـعـبــــــــة ======= شعيرة تجمع الأجناس جميعا في نفس المكان والزمان.
الجمعة.. الشمس تنحدر إلى المغيب على جبل عرفات في أحد مواسم الحج.
الجبل مزروع بالخيام.. مليون وخمسمائة ألف حاج يحطون عليه كالحمام في ثياب الإحرام البيض.. لا تعرف الواحد من الآخر.. لا تعرف من الفقير ومن الغني.. ولا تعرف من التركي ومن العربي؟
اختفت الجنسيات.. واختفت الأزياء المميزة واختفت اللغات.. الكل يلهج بلسان واحد.. حتى الجاوي والصومالي والإندونيسي والزنجي والأذربيجاني.. الكل يتكلم العربية.. بعضهم ينطقها مكسرة وبعضهم ينطقها بلكنة أجنبية.. وبعضهم يمد بعض الحروف ويأكل بعض الحروف ولكنك تستطيع أن تفهم من الجميع وتستطيع أن تسمع أنهم يهتفون.. لبيك اللهم لبيك.
والذين لا يعرفون العربية تراهم قد التفوا حول مطوف يرددون وراءه الدعاء العربي حرفاً حرفاً في خشوع وابتهال.
في البقعة التي كنت أقف فيها أكثر من خمس عشرة جنسية مختلفة في مكان لا يزيد على أمتار معدودة.. التركستان والباكستان وكازخستان وغينيا وغانا ونيجيريا وزنجبار وأوغندة وكينيا والسودان والمغرب واليمن والبرازيل وإسبانيا والجزائر وسيلان.. كلهم حولي يتصافحون ويتبادلون التحية، ويهنئ بعضهم بعضاً.
ولولا أن المطوف أخبرني بهذه الجنسيات لما عرفتها، فالكل كانوا يبدون لعيني وكأنهم عائلة واحدة في مجلس عائلي حميم ..
على بعد خطوات كان أكثر من ستين هنديا يلتفون حول مطوف هندي، وهو الآخر فيما يبدو يقرأ لهم الدعاء العربي من كتاب في يده.. وهم يرددون خلفه الدعاء وهم يبكون وقد تخضبت لحاهم الطويلة الكثة بالدموع .
وهم قطعا لم يكونوا يعرفون العربية، ولم يكونوا يدركون معاني ما يرددون من حروف.. وإنما شعروا بها بقلوبهم فبكوا.
في حضرة الإله الوقـــوف بعرفة ======== يشعر كل حاج أنه في ضيافة الله وفي رحابه، كان كل واحد يشعر أنه يخاطب الله بهذه الحروف وأنه في حضرة الله وفي ضيافته وفي رحابه.. وأنه يقف حيث كان يقف محمد عليه الصلاة والسلام .. النبي العظيم البدوي الفقير الأمي.. وأنه يسجد حيث كان يسجد، ويركع حيث كان يركع، ويردد ما كان يردده من دعاء.. بذات اللسان العربي.. وفي ذات اليوم.. يوم الجمعة من ذي الحجة.. ولعل ذبذبات صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصوات أصحابه مازالت في الفضاء حوله.. فلا شيء يفنى في الطبيعة ولا شيء يستحدث.
عرفت أن هؤلاء الستين هم من أفقر طائفة هندية وأنهم جاءوا إلى مكة على الأقدام وعلى سفن شراعية وعلى الجِمال.
وكان زعيمهم يحمل علماً عبارة عن خرقة ممزقة.
وبعضهم جاوز الثمانين.. وبعضهم كفَّ بصره.. وبعضهم كان يحمل بعضاً، و كان الكل يبكون بحرقة ويذوبون خشوعاً.
كانوا فقراء حقاً.
وعلى بعد خطوات كان هناك هندي آخر، قال لي المطوف إنه مهراجا يملك عدة ملايين.. وكان بذات ملابس الإحرام البيضاء.. وكان يبكي بذات الخشوع.. وكان مشلولاً يحمله أتباعه على محفة.
كان فقيراً هو الآخر حقاً.
ومن منا ليس فقيراً إلى الله.
إن الملايين لا تعفي أحداً من الشيخوخة والعمى والمرض والموت.. من منا ليس فقيراً إلى الله وهو يولد محمولاً ويذهب إلى قبره محمولاً وبين الميلاد والموت يموت كل يوم بالحياة مرات ومرات.
وأين الأباطرة والأكاسرة والقياصرة؟
هم وإمبراطورياتهم آثار.. حفائر.. خرائب تحت الرمال.. الظالم والمظلوم رقدا معا، والقاتل والقتيل لقيا معا نفس المصير، والمنتصر والمهزوم كلاهما توسدا التراب .
انتهى الغرور.. انتهت القوة.. كانت كذبة.. ذهب الغنى.. لم يكن غِنى.. كان وهما.
العروش والتيجان والطيالس والخز والحرير والديباج .. كل هذا كان ديكورا من ورق اللعب…
لا أحد قوي ولا أحد غني.
إنما هي لحظات من القوة تعقبها لحظات من الضعف يتداولها الناس على اختلاف طبقاتهم.
لا أحد لم يعرف لحظة الذل، ولحظة الضعف، ولحظة الخوف، ولحظة القلق.
من لم يعرف ذل الفقر عرف ذل المرض، أو ذل الحب أو تعاسة الوحدة، أو حزن الفقد، أو عار الفضيحة أو هوان الفشل أو خوف الهزيمة، بل إن خوف الموت ليحلق فوق رؤوسنا جميعاً.
كلنا فقراء إلى الله.. كلنا نعرف هذا، وهم يعرفون هذا جيدا.. ويشعرون بهذا تماما، ولهذا يبكون.. ويذوبون خشوعاً ودموعاً.
رمز الوحدة الكبرى ملابس الإحــــــــرام =========== تظل ثياب الإحرام البيضاء هي رمز الوحدة الكبرى التي تذوب فيها الأجناس ويتساوى فيها الفقير والغني.
سألني صديقي وهو رجل كثير الشك: – ما السر في ثياب الإحرام البيضاء وضرورة لبسها على اللحم وتحريم لبس المخيط.. وما معنى رجم إبليس والطواف حول الكعبة.. ألا ترى معي أنها بقايا وثنية.
فقلت له: من يسعى إلى الله بعقله وقلبه.. يقول له الله: إن هذا لا يكفي.. لابد أن تسعى على قدميك، والطواف رمز لهذا السعي الذي يكتمل فيه الحب شعوراً وقولاً وفعلاً.
وهنا معنى التوحيد أن تتوحد جسداً وروحاً بأفعالك وكلماتك؛ ولهذا نركع ونسجد في الصلاة ولا نكتفي بخشوع القلب.. فهذه الوحدة بين القلب والجسد يتجلى فيها الإيمان بأصدق مما يتجلى في رجل يكتفي بالتأمل.
أما ثياب الإحرام البيضاء فهي رمز الوحدة الكبرى التي تذوب فيها الأجناس ويتساوى فيها الفقير والغني.. المهراجا وأتباعه.
ونحن نلبسها على اللحم.. كما حدث حينما نزلنا إلى العالم في لحظة الميلاد وكما سوف يحدث حينما نغادره بالموت.. جئنا ملفوفين في لفافة بيضاء على اللحم.. ونخرج من الدنيا بذات اللفة.
هي رمز للتجرد.. لأن لحظة اللقاء بالله تحتاج إلى التجرد.. كل التجرد.
ولهذا قال الله تعالى لموسى عليه السلام: “إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى” (طه:12) هو التجرد المناسب لجلال الموقف.
وهذا هو الفرق بين لقاء لرئيس جمهورية.. ولقاء مع الخالق؛ فنحن نرتدي لباس التشريفة لنقابل رئيس الجمهورية.
أما أمام الله فنحن لا شيء.. لا نكاد نساوي شيئاً، وعلينا أن نخلع كل ثياب الغرور وكل الزينة.
قال صديقي في خبث: ورجم إبليس؟
قلت: أنت تضع باقة ورد على نصب تذكاري للجندي المجهول، وتلقي خطبة لتحيته.. هل أنت وثني؟
لماذا تعتبرني وثنياً إذا رشقت النصب التذكاري للشيطان بحجر ولعنته.. إنها نفس الفكرة.
كلها رمزيات ======= أنت تعلم أن النصب التذكاري مجرد رمز، وأنه ليس الجندي، وأنا أعلم أيضا أن هذا التمثال رمز، وأنه ليس الشيطان.
وبالمثل السعي بين الصفا والمروة إلى حيث نبعت عين زمزم التي ارتوى منها إسماعيل وأمه هاجر.. هي إحياء ذكرى عزيزة ويوم لا ينسى في حياة النبي والجد إسماعيل وأمه المصرية هاجر.
وجميع شعائر ديانتنا ليست طقوسا كهنوتية بالمعنى المعروف، وإنما هي نوع من الأفعال التكاملية التي يتكامل بها الشعور والتي تسترد بها النفس الموزعة وحدتها.
إنها وسيلة لخلق إنسان موحد.. قوله هو فعله.. فالكرم لا معنى له إذا ظل تصريحا شفويا باللسان، وإنما لابد أن تمتد اليد إلى الجيب ثم تنبسط في عطاء ليكون الكرم كرما حقيقيا.. هل هذه الحركة وثنية أو طقساً كهنوتياً.
وبهذا المعنى، شعائر الإسلام ليست شعائر، وإنما تعبيرات شديدة البساطة للإحساس الديني، و لهذا كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي بلا طقوس وبلا كهنوت وبلا كهنة.
ألا تراهم أمامك أكثر من مليون يكلمون الله مباشرة بلا واسطة ويركعون على الأرض العراء حيث لا محاريب ولا مآذن ولا قباب ولا منابر ولا سجاجيد ولا سقوف منقوشة بالذهب ولا جدران من المرمر والرخام.
لا شيء سوى العراء.. ونحن عراء، ونفوسنا تعرت أمام خالقها فهي عراء، ونحن نبكي.. كلنا نبكي.
وسكت صديقي وارتفعت أصوات التلبية من مليون وخمسمائة ألف حنجرة.. لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.
حمام: === على الإنسان أن يستشرف ينابيع الحقيقة في تدفقها البكر داخل قلبه.
كنت أعلم –أثناء رحلة الحج– أن صديقي مازال بينه وبين الإيمان الحقيقي أشواط ومراحل ومعراج من المعاناة.
مازال عليه أن يصعد فوق تراكيب هذا البناء المنطقي المسمى العقل ويستشرف ينابيع الحقيقة في تدفقها البكر داخل قلبه.. حينئذ سوف يكف عقله عن اللجاجة والتنطع ويلزم حدوده واختصاصه، ويدرك أن الدين أكبر من مجرد قضية منطقية، وأنه هو في ذاته منطق كل شيء.. وأن الله هو البرهان الذي نبرهن به على وجود الموجودات لأنه قيومها (هو الذي أوجدها من العدم فهي موجودة به وبفضله)، فهو برهان عليها أكثر مما هي برهان عليه.. وكيف يكون العدم برهانا على الوجود.. وكيف يكون المعدوم شاهدا على موجد الوجود.
إنها لجاجة العقل.. وهي سلسلة من الخرائب المنطقية لابد أن نمر بها في معراجنا للوصول إلى الحقيقة.. وهذا عيب العصر الذي يدعي فيه العقل كل شيء.
والواحد منا في بداية تلقيه للعلوم الوضعية، ولفرط انبهاره بها وبمنجزاتها يتصور أنها علوم كلية يمكن أن يناقش بها الأمور الكلية مثل الوجود الإلهي فيقع في خطأ من يحاول أن يقيس السماء بالشبر ويزن الحب بالدرهم.
وتمضي عليه سنوات من التمزق والمعاناة قبل أن يكتشف أن الطبيعة والكيمياء علوم جزئية تبحث في المقادير والعلاقات، واختصاصها هو القضايا الجزئية، وهي لا تصلح بطبيعة معاييرها للحكم على الدين لأنه قضية كلية.
العلم الكلي: ====== الدين هو العلم الكلي الذي يحتوي على كل تلك العلوم.. في حين لا يحتوي عليه أي منها.
وعندنا نور آخر نستدل به على الحقيقة الدينية، نور القلب وهدى البصيرة واستدلال الفطرة والبداهة.
هنا نور نستشف به الحقيقة بدون حيثيات.. هنا منطقة في الإدراك هيأها الله للإدراك المباشر.
وهي مرتبة أعلى من مراتب الشعور العادي، وكما أن العقل أعلى في الرتبة من حاسة مثل الشم واللمس، كذلك البصيرة أعلى في الرتبة من العقل ومن الإدراك بالمنطق العقلي الجدلي.
والبصيرة هبة متاحة لكل منا، ولكن صدأ العرف والتقليد والادعاء العقلي، والأحكام الجاهزة الشائعة، هذا عدا الغرور وظلمة الشهوات والرغبات وسعار الأحقاد والمطامع.. كل هذه الغواشي ترين على مرآة البصيرة فتحجب أنوارها الكاشفة.
ويمضي العمر والإنسان يصارع هذه الرغبات ويتمزق، ويعاني ويسأل ويتساءل ويحفر في داخل نفسه حتى تنتهك الأستار، وتنجلي الغواش، ويبدأ يدرك الحقيقة بهذه الرؤية الكلية التي هي هبة بصيرته.
وجلاء القلب فضل إلهي قد يوهب وقد يكتسب، ولا توجد شروط في المعارف الإلهية، وهذا الهندي المسلم الفقير الحافي العاري الغارق في دموعه قد يعرف عن الله أكثر مما نعرف نحن الذين نكتب عن الدين والله.
وربما لو سألته عن شعوره لما استطاع أن يشرحه في عبارات مثل العبارات المنمقة التي نكتبها.. وهو أمر لا يهم.. فالمعارف العالية قد تعلو على العبارة وقد تعجز عنها الإشارة.. فلا يبقى إلا الصمت والدموع. لقاء مع النفس ومع الله.
ولهذا هم يبكون على عرفات في لحظة لقاء مع النفس والله.. تبدو فيه الكلمات مبتذلة.. واللسان عاطلا، والعبارات خرساء، فلا تبقى إلا الدموع، وهي دموع فرح وحزن وندم وتوبة وتطهر وميلاد.. وهي فجر روحي يعرفه من جربه.
وقد توحي اللحظة الواحدة والظرف الواحد بشيئين مختلفين تماما وربما متناقضين، فحينما كنا نطوف بالكعبة في زحام من ألوف مؤلفة، كان صديقي يلهث مختنقا وكل ما يخطر له بالمناسبة هو تخيله لو كانت هذه الكعبة في أوروبا -في برلين مثلا- إذن لاختلف الأمر ولطاف حولها الأوروبيون في طوابير منظمة لا يزاحم فيها الواحد الآخر.. بينما كنت أنا أنظر إلى الألوف المؤلفة التي تدور كالذرات البيضاء وأرى فيهم الملايين بلا هوية ممن حجوا وطافوا وعاشوا وماتوا.. أرى فيهم أبي وأمي .. كانوا هنا يطوفون منذ سنوات في هذا الزحام نفسه.. ومن قبلهم جدي الذي جاء إلى هنا على ظهور الإبل.. ثم الأجداد، وأجداد الأجداد من قبل إلى أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي خرج من مكة مهاجراً وعاد إليها فاتحاً…
كنت أنظر في الجموع الحاشدة من منظور تاريخي وفي خناق الزحام نسيت نفسي تماما، وفقدت هويتي، ولم أعد أعرف من أنا.. هأنذا قد مت أنا الآخر.. وهذا ابني يطوف ويذكرني وهو يطوف، ثم يموت ذات يوم ويصبح هو الآخر ذكرى.. كانت لحظة روحية شديدة التوهج فقدت فيها إحساسي بذاتي تماماً، وغبت عن نفسي وامتلأت إدراكا بأنه لا أحد موجود حقا سوى الله.. وتذكرت السطر الأول من قصة الخلق.
في البدء كـان الله ولا شيء معه. وفي الختام يكون ولا شيء بعده. ================== هو الأول والآخر.
هو.. نعم.. هو ولا سواه.
كانت لحظة من المحو الكامل لكل شيء بما في ذلك نفسي ذاتها، في مقابل ملء مطلق لموجود واحد مطلق هو الله.
وبالرغم من الإحساس بالغياب فإنه كان إحساسا في الوقت ذاته بالحضور.. الحضور الشامل المهيمن المالئ لكل ذرة من الشعور…
وأحار في وصف تلك اللحظة ولا أجد الألفاظ ولا العبارات وأكتفي بأنها أعمق ما عشت من لحظات.
هو إحساس ديني يصعب تصويره في كلمات.
أين كان صديقي من هذا كله؟
ما أبعد كل منا عن الآخر مع أن ذراعي في ذراعه.. كان يفكر ويمنطق ويرتب الحيثيات.
وكنت أذوب حبا وقد قفزت بي اللحظة فوق حاجز العقل وجاوزت بي الحدود والتفاصيل لتضعني على ذروة أرى منها رؤية كلية، وأدرك منها إدراكاً كلياً.
هو الحب. ===== والدين في جوهره حب .. والحج هجرة إلى بيت الحبيب والطواف للعشاق.
هؤلاء لا يجدون فيه كلفة ولا تكليفاً.
وإنما يجدون حواراً مؤنساً.. ومكالمة من تلك المكالمات السرية التي تضيء مجاهيل القلب.
وما أكثر ما شعرت به في الكعبة مما لا أجد له كلمات.
قد يسأل سائل: لماذا نتكبد المشاق لنذهب إلى الله في رحلة الحج؟ ولماذا هذه الهجرة المضنية والله معنا في كل مكان؟ بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو القائل إنه قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه.. بل إن قربه لنا هو منتهى القرب.. فما الداعي إلى سفر وارتحال لنقف فوق عرفة ندعوه منها.. وهو القريب منا قرب الدم في أجسادنا؟! .
سؤال وجيه! ======= الحقيقة أن الله قريب منا بالفعل وأقرب إلينا من الدم في أجسادنا، ولكننا مشغولون على الدوام بغيره.
إنه لا يقيم دوننا الحجب ولكننا نحن الذين نقيم هذه الحجب.. نفوسنا بشواغلها وهمومها وأهوائها تلفنا في غلالات مكثفة من الرغبات.. وعقولنا تضرب حولنا نطاقا من الغرور.. وكبرياؤنا يصيبنا بنوع من قصر النظر، ثم العمى .. فلا نعود نرى أو نحس بشيء سوى نفوسنا.. وهذا هو البعد برغم القرب..
والهجرة على القدمين وتكبد المشقات والنفقات هي وسيلة مادية للخلوص من هذه الشواغل وتفريغ القلب لذكر خالقه، ولإيقاظ الحواس على حقيقة هذا القرب القريب لله.
ومن هنا كانت كلمة (عرفة).. فبعد رحلة من ألوف الأميال يتيقظ القلب على (معرفة).. فهو (يتعرف) على ربه ويكتشف قربه (ويتعرف) على نفسه ويكتشف بعدها..
هي إذن معرفة شاملة من كل الوجــوه. ===================== وحينما يفد الحاج بجسده إلى البيت يكون عقله قد أشرق على معرفة.. وإذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة فإنه سوف يدع الخلاف معه، سوف يدع الذنوب ظاهرة وباطنة وسوف يكف عن منازعته في أمر قدره وقضائه لأنه اكتشف كامل عدله وحكمت...
وسوف يدع الخلاف بينه وبين الخلق فيكف عنهم أذاه ويحتمل أذاهم ويترفق بهم ويشفق عليهم. و سوف يدع الخلاف بينه وبين نفسه ويصل إلى حا']'\لة من الوحدة فيقول ما يبطن، ويفعل ما يقول فيصبح ظاهره باطنه وقوله فعله.
وهذا هو الانسجام مع النفس والكون والله.. وانعقاد الصلة بين الروح وخالقها.. وبلوغ السكينة التي لا تزلزلها الجبال . _____________________________ المصدر: بتصرف من كتاب/ الإسلام.. ما هو، د. مصطفى محمود، ص:34-42.
|
|