وثبت في «صحيح مسلم» من حديث جابر قال : قال النبي ﷺ : « إن إبراهيم حرم مكة , وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها , لا يقطع عضاهها , ولا يصاد صيدها » .
مسألة : هل يجوز للمحرم أن يأكل من الصيد أم لا ؟
هذه المسألة فيها تفصيل وهو : أن الصيد إذا صيد من أجل هذا المحرم فلا يجوز له الأكل ، أما إذا لم يصد من أجله فإنه يجوز له الأكل .
والدليل على هذا التفصيل حديث أبي قتادة المخرج في «الصحيحين» أنه صاد حمارا وحشيا وهو غير محرم , فقال رسول الله ﷺ لأصحابه وكانوا محرمين : « هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء ؟ » قالوا: لا . قال: « فكلوا ما بقي من لحمه » ( ) .
وثبت في «الصحيحين» أيضا من حديث الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول الله ﷺ حمارا وحشيا , وهو بالأبواء ، أو بودان , فرده عليه , فلما رأى ما في وجهه قال : « إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم » ( ).
وثبت في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ : « خمس من الدواب كلهن فواسق , يقتلن في الحل والحرم : العقرب , والحدأة , والغراب , والفأرة , والكلب العقور » ( ).
هذا الحديث يدل على أن هذه الخمسة تقتل في الحل والحرم ، وذلك لأنها معروفة بالفساد والاعتداء ، فأجاز الشارع قتلها في الحل والحرم ، ويلحق بها أيضاً الحية كما ورد في نصوص أخرى , منها ما رواه مسلم من حديث سعيد بن المسيب عن عائشة أن النبي ﷺ قال : « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية ... » الحديث ( ).
وكذلك الوزغ يقتل في الحل والحرم - فيما يظهر والله أعلم - لأن النبي ﷺ أمر بقتله ، كما ثبت في «صحيح البخاري» من حديث عبد الحميد بن جبير عن سعيد بن المسيب عن أم شريك رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ أمر بقتل الوزغ , وقال : « كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام »( ).
6_ مس الطيب : والدليل عليه ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال في حق المحرم : « ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه الزعفران ولا الورس » ( ) .
وثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : وقصت برجل محرم ناقته فقتلته, فأتي به رسول الله ﷺ فقال: « اغسلوه وكفنوه ، ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا , فإنه يبعث يهل » ( ).
7_ عقد النكاح: من الأشياء الممنوع منها المحرم عقد النكاح والخطبة ، لما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث عثمان بن عفان أن رسول الله ﷺ قال : « لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب » ( ).
ومما يدل على ذلك عموم النصوص التي تنهى عن النكاح ودواعيه ، قال تعالى : { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث } [ ] .
8_المباشرةُ لشهوة : بتقبيل أو لمسِّ أو ضمِّ أو نحوه لقوله تعالى : ﴿ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ﴾ .
ويدخل في الرّفث مقدمات الجماع كالتقبيل والغمز والمداعبة لشهوة.
فلا يحل للمحرم أن يُقبل زوجَته لشهوة ، أو يمسها لشهوة أو يغمزها لشهوة ، أو يداعبها لشهوة .
ولا يحلُّ لها أن تمكنه من ذلك وهي مُحرمة .
9_ الجماع : لقوله تعالى : ﴿ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ﴾ ، والرفث الجماع ومقدماته ، وهو أعظم المحظورات وأشدها أثرا .
* * *
الإحرام
أول ما يبدأ به الحاج فيما يتعلق بأعمال النسك هو الإحرام من الميقات ، فالمسلم عندما يأتي إلى المواقيت التي سبق ذكرها عليه أن يحرم منها إذا كان مريداً للحج والعمرة .
والإحرام : هو نية الدخول في النسك .
وبعض الناس يظن أن الإحرام يكون بلبس ملابس الإحرام وهذا ليس بصحيح , فالإنسان وإن كان لابسا لملابس الإحرام فهو ليس بمحرم حتى ينوي الدخول في النسك .
ومن السنة لمن أراد الإحرام ما يلي :
1- أن يغتسل ، فقد ثبت في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أن الرسول ﷺ أمر أسماء بنت عُمَيْس بأن تغتسل ( ) .
وجاء في « جامع الترمذي » من حديث زيد بن ثابت أنه رأى النبي ﷺ تَجَرَّدَ لإهلاله واغتسل ( ) .
وأيضاً ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم ( ) .
وهنا مسألة ينبغي التنبيه عليها وهي أن بعض الناس يأخذ من أظفاره عندما يصل إلى الميقات ويأخذ أيضاً من شعر عانته وإبطه ، ويظن أن هذا من السنة ، وهذا ليس من السنة ، وإنما هذه الأشياء يأخذ الإنسان منها إذا كان محتاجاً ، كأن يكون شعر عانته أو إبطه طويلا ، فهنا يستحب له ، وقد ثبت في « صحيح مسلم » من حديث أبي عِمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك قال : وُقِّتَ لنا في قَصِّ الشارب ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة ( ) . وأما إذا لم يكن محتاجاً فلا يأخذ من هذه الأشياء .
2- أن يَتَطَيَّب قبل أن يدخل في نية النسك ، فقد ثبت من حديث عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كنت أطيب رسول الله ﷺ لإحرامه حين يحرم, ولحله قبل أن يطوف بالبيت( ) .
وفي حديث الأسود ، عن عائشة قالت : كأني أنظر إلى وَبِيص المسك في مفرق رسول الله ﷺ وهو محرم ( ) .
ويجب عليه أن يَتَجَرَّد من المخيط ، ويحرم بإزار ورداء ، كما ثبت في « الصحيحين » من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ أن رجلاً سأله ما يلبس المحرم ؟ فقال : « لا يلبس القميص ، ولا العمامة ، ولا السراويل ، ولا البرنس ، ولا ثوباً مَسَّه الورس أو الزعفران ... » ( ) .
ولا يجوز له أن يُطَيِّب الإزار والرداء ، كما دل عليه حديث ابن عمر هذا وغيره من الأحاديث ، وإنما الطيب يكون في البدن ولا يكون في الثوب ، وإذا أصاب الطيب الثوب وجب عليه غسله ، كما دل على ذلك ما ثبت في «صحيح البخاري» من حديث صفوان بن يعلى أن يعلى قال لعمر : أرني النبي ﷺ حين يوحى إليه . قال : فبينما النبي ﷺ بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال: يا رسول الله , كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو مُتَضَمِّخ بطيب ؟ فسكت النبي ﷺ ساعة , فجاءه الوحي فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى فجاء يعلى وعلى رسول الله ﷺ ثوب قد أظل به , فأدخل رأسه , فإذا رسول الله ﷺ محمرُّ الوجه وهو يغطُّ ثم سري عنه , فقال : « أين الذي سأل عن العمرة ؟ » فأتي برجل , فقال : « اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات , وانزع عنك الجبة , واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك » ( ).
وبعد أن يلبس ثياب الإحرام يستحب له إذا ركب راحلته أن يستقبل القبلة ، كما ثبت في « صحيح البخاري » من حديث أيوب ، عن نافع قال : كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى بالغداة بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت ، ثم ركب ، فإذا استوت به استقبل القبلة قائماً ، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم ثم يُمسك ( ) .
وفي « صحيح البخاري » من حديث أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس رضي الله عنه قال : صَلَّى رسول الله ﷺ - ونحن معه - بالمدينة الظهر أربعاً ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به على البيداء ، حمدَ الله ، وسبح وكبر ، ثم أهَلَّ بحج وعمرة ، وأهلّ الناس بهما ( ) .
والذي يبدو أن هذا التسبيح والتكبير والتهليل إنما هو الدعاء الذي يقال عند ركوب الدابة .
والسنة للمحرم أن يتلفظ بما أهل به من نسك ، فإذا كان يريد العمرة يقول : لبيك اللهم عمرة ، وإذا كان يريد الحج يقول : لبيك اللهم حَجَّاً ، فقد ثبت في « صحيح البخاري » من حديث عكرمة ، أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول : سمعت النبي ﷺ بوادي العقيق يقول : « أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة » ( ) .
وفي « صحيح مسلم » من حديث هشيم ، عن عبد العزيز بن صهيب وحميد الطويل ويحيى بن أبي إسحاق ، عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله ﷺ يلبي بالحج والعمرة جميعاً ، يقول : « لبيك عمرة وحَجَّاً ، لبيك عمرة وحَجَّاً » ( ) .
والمتمتع يقول عند إهلاله بالإحرام: لبيك اللهم عمرة ، أو يقول : لبيك اللهم عمرة متمتعا بها إلى الحج .
وأما قول الإنسان : نويت أن أفعل كذا فهذا بدعة ومحدث .
* * *
أنواع النسك
الأنساكُ ثلاثة : إما تمتع ، وإما إفراد ، وإما قِرَان .
والمستحب للحاج أن يتمتع ، بل إن النبي ﷺ أمر من لم يسق الهدي من الصحابة أن يتمتع ، ويجعل طوافه بالبيت وسعيه عمرة ، فقد ثبت من حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أن النبي ﷺ عندما انتهى من السعي وقف على المروة ، وقال : « لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة » ، فقام سُرَاَقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله ﷺ أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : « دخلت العمرة في الحج » مرتين ، « لا ، بل لأبد أبد » ( ) . فأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة ، فيكون بذلك متمتعاً .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى إيجاب التمتع على من لم يسق الهدي ، وممن ذهب إلى هذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو محمد ابن حزم ، ورَجَّح هذا ونَصَره الإمام ابن القيم وذلك في كتابه « زاد المعاد » ( ) .
وأكثر أهل العلم يقولون بالتخيير بين التمتع والقِرَان والإفراد ، لكن لا شك أن المستحب والمتأكد في حَقِّ الحاج إذا لم يسق الهدي أن يتمتع ، كما أمر بذلك الرسول ﷺ .
والتمتع : هو أداء الحج والعمرة في سفرة واحدة في سنة واحدة ، كما ذهب إلى هذا الجمهور ، وتكون هذه العمرة في أشهر الحج وهي شوال وذي القعدة وذي الحجة ، كما ثبت ذلك عن ابن عباس ( ).
فمن أحرم بالعمرة في أول يوم من شوال ، وأدى العمرة في اليوم الثاني من شوال ، وتحلل ، وعندما جاء اليوم الثامن أحرم ، فهذا متمتع ، فالتمتع الذي اتفق عليه أهل العلم هو أداء الحج والعمرة في أشهر الحج ( ).
وأما القران : فهو أن يحرم الإنسان بالحج والعمرة معا , فإذا قدم إلى البيت طاف به سبعا , وهذا يسمى طواف القدوم وهو سنة في حق القارن والمفرد , ثم يسعى بين الصفا والمروة , ويكون السعي في حقه هو سعي الحج , ثم يبقى على إحرامه إلى أن يأتي اليوم الثامن فيذهب إلى منى ويبيت بها , ويفعل باقي أعمال الحج إلى أن يتحلل في يوم العيد , وهذا يكون في حق من ساق الهدي , فمن ساق الهدي فعليه أن يقرن كما فعل الرسول ﷺ , وقد قال عندما سألته حفصة : يا رسول الله ؛ ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : « إني لَبَّدتُ رأسي ، وقَلَّدتُ هديي ، فلا أحل حتى أنحر » ( ) .
وأما الإفراد : فهو أن يحرم الإنسان بالحج وحده , وهو مثل القران من حيث الصفة , ولكن الفرق بينهما أن المفرد ليس عليه هدي .
* * *
التلبية
ثم بعد أن يهل الحاج بنسكه يشرع بالتلبية ، فيقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك .
كما ثبت في « الصحيحين » من حديث مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ( ) .
وثبت أيضاً في «صحيح مسلم» من حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ( ) .
وثبت هذا أيضا في « صحيح البخاري » من حديث عائشة رضي الله عنها ( ) .
ومعنى التلبية : يا رب أنا مقيم على طاعتك مَرَّةً بعد مرة ، فالتلبية الإقامة على طاعة الله عز وجل ، وإعلان القصد ، والإخلاص لله سبحانه وتعالى في أداء هذا العمل .
وجاء أن النبي ﷺ زاد على هذه التلبية ، كما جاء عند النسائي وابن ماجه من حديث عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن أبي هريرة قال : كان من تلبية النبي ﷺ : لبيك إله الحق ( ).
فهذه زيادة قوية , والله تعالى أعلم .
وكذلك هناك زيادة على هذه التلبية ، وهي عند الإمام الشافعي - كما في المسند المجموع للشافعي - أن النبي ﷺ كان يلبي ثم رأى ما يعجبه ، فقال : « لبيك إنما العيش عيش الآخرة » ( ).
وهذه ثابتة أيضاً .
ومعلوم أن الصحابة كانوا يزيدون على هذه التلبية ، ولكن هذا هو الثابت من المرفوع إلى النبي ﷺ .
والتلبية سنة وليست بواجبة على الصحيح ، وهو مذهب الجمهور .
ويستحب للحاج أن يرفع صوته بالتلبية ، فقد ثبت في «السنن» من حديث عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن خلاد بن السائب بن خلاد ، عن أبيه قال : قال رسول الله ﷺ : « أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية » ( ) .
وثبت في «جامع الترمذي» من حديث عمارة بن غزية عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن النبي ﷺ قال « ما من ملب يلبي إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله من شجر أو حجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا » ( ).
وجاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أهل مهل قط إلا بشر , ولا كبر مكبر قط إلا بشر " قيل : يا رسول الله , بالجنة ؟ قال : " نعم " ( ).
وثبت عن الصحابة أنهم كانوا يلبون حتى تبح أصواتهم ( ) .
وثبت عن ابن عمر أنه لبى حتى أسمع ما بين الجبلين ( ) .
ويستمر بالتلبية ولا يقطعها حتى يصل إلى منطقة الحرم ، كما ثبت في «الصحيحين» من حديث نافع قال : كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل , ويحدث أن النبي ﷺ كان يفعل ذلك ( ) .
والمقصود بأدنى الحرم : منطقة الحرم .
وثبت ـ أيضاً ـ في حديث عبيد بن حنين عن عبد الله بن عمر أنه إذا أهلَّ فدخل العُرُش ( ) قطع التلبية ، وقال : « خرجت مع رسول الله ﷺ ، فلما دخل العرش قطع التلبية ، فلا تزال تلبيتي حتى أموت » ( ) .
وعن هلال بن يسار قال: حججت مع أنس بن مالك فرأيته يقطع التلبية حين هبط من الثنية حين رأى بيوت مكة ( ).
* * *
الدخول إلى مكة
إذا أراد الشخص أن يدخل مكة فإنه يستحب له أن يغتسل ، وهذا ثابت في حديث عبد الله بن عمر السابق أنه كان يغتسل قبل دخوله إلى مكة ويحدث أن الرسول ﷺ فعل ذلك ( ).
فإذا دخل مكة فالسنة أن يدخل من الأعلى ويخرج من الأسفل ، كما ثبت في «الصحيحين» من حديث عائشة أن النبي ﷺ لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها , وخرج من أسفلها ( ).
ثم يذهب إلى البيت الحرام ، ويسن له أن يدخل من باب بني شيبة ، ولم يثبت هذا صريحاً في حَجَّة الوداع ، وإنما ثبت في قصة بناء الكعبة عند وضع الحجر الأسود ، فعن علي رضي الله عنه قال : لما أن هُدِم البيت بعد جُرْهُم بنته قريش ، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا ، من يضعه ، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب ، فدخل رسول الله ﷺ من باب بني شيبة ، فأمر بثوب ، فوضع الحجر في وسطه ، وأمر كل فخذ أن يأخذ بطائفة من الثوب فيرفعوه ، وأخذه رسول الله ﷺ فوضعه ( ) .
وكذلك أيضاً جاء في مرسل عطاء أنه قال : يدخل المحرم من حيث شاء , ودخل النبي ﷺ من باب بني شيبة ، وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا ( ).
وباب بني شيبة لا وجود له الآن , ولكن ذكروا أن من دخل من باب السلام ومشى إلى الكعبة فإنه يمر بالمكان الذي كان فيه باب بني شيبة .
وليس هناك دعاء خاص يُقال عند الدخول إلى المسجد الحرام ، وإنما يُقال الدعاء الذي يذكر عند الدخول إلى سائر المساجد ، وهو ما جاء في « صحيح مسلم » عن أبي حميد أو عن أبي أسيد قال : قال رسول الله ﷺ : « إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك » ( ) .
وروى أبو داود أيضا من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ كان يقول إذا دخل المسجد « أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم » ( ).
فهذا أيضاً ثابت ، ولا أعرف دعاء يثبت فيما يقال عند الدخول إلى المسجد غيرهما .
ثم بعد ذلك ينفذ إلى الكعبة ، وليس هناك دعاء ثابت عن النبي ﷺ يقال عند رؤية الكعبة ، وإنما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من رواية سعيد بن المسيب عنه أنه كان إذا دخل البيت قال : « اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، فحينا ربنا بالسلام » ( ) .
* * *
الطواف
وبعد ذلك يأتي إلى الحجر ويكبر ، وليس هناك دعاء يقال عند افتتاح الطواف إلا التكبير ، وما جاء عن النبي ﷺ أنه كان يقول : « اللهم إيماناً بك ، وتصديقاً بكتابك ، ووفاء بعهدك » ( ) فهذا لم يثبت ، وإن قال هذا على سبيل الدعاء فلا بأس ، لكن الذي ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام هو التكبير فقط، كما جاء في «صحيح البخاري» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله ﷺ طاف بالبيت وهو على بعير ، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكَبَّر ( ) .
وأما زيادة البسملة فثبتت عن ابن عمر من قوله أنه كان إذا استلم الركن قال : بسم الله والله أكبر ( ) .
ويشرع له أن يستلم الحجر ويُقَبِّلَه ، كما ثبت في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه أنه قبّل الحجر وقال : لولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك ( ).
فإن لم يستطع تقبيله فإنه يستلمه بيده ويقبل يده , كما ثبت في صحيح مسلم من حديث نافع أنه قال : رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده , ثم قبّل يده , وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ( ).
وروى البيهقي من طريق ابن جريج عن عطاء أنه قال : رأيت جابر بن عبد الله وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وابن عمر رضي الله عنهم إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم . قال ابن جريج : وابن عباس ؟ قال : وابن عباس . حسبت : كثيرا ( ).
فإن لم يستطع وكان معه شيء بيده فيستلمه به ويقبله ، كما ثبت في « صحيح مسلم » من حديث أبي الطفيل قال : رأيت رسول الله ﷺ يطوف بالبيت ، ويستلم الركن بمحجن معه ، ويُقَبِّل المحجن ( ) .
والاستلام : هو وضع اليد عليه .
وإذا لم يستطع أن يفعل شيئا من ذلك فيشير بيده اليمنى ويقول : الله أكبر .
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس أنه يشير بكلتا يديه ، وهذا خلاف السنة ، وكذلك بعض الناس يكبر ثلاث مرات ، وهذا أيضا خلاف السنة ، وإنما السنة أن يكبر مرة واحدة .
وإذا كان الشخص بعيداً عن الحجر فإنه إذا وجد بنظر عينه أنه قد استقبل الحجر فهنا يشير إليه ويشرع بالطواف ، وليس من المشروع أن يتعمد وضع قدميه على الخط الموضوع الآن ، ولا شك أن هذا الخط الموضوع الآن حدث بسببه عدة مفاسد , من اعتقادات فاسدة فيه , ومن زحام , وغير ذلك ( ).
ثم يجعل الكعبة عن يساره ، ويستحب له قبل أن يشرع بالطواف أن يضطبع ، كما ثبت في حديث ابن عباس ، أن النبي ﷺ اضْطَبَعَ ، فاستلم وكبر ( ) .
والاضطباع : هو كشف المنكب الأيمن ، ووضع الرداء على منكبه الأيسر .
ثم يطوف سبعة أشواط ، ويستحب له في الأشواط الثلاثة الأولى أن يَرْمل .
والرَّمَل : هو مُقاربة الخُطَا مع سرعة المشي .
والسنة في حَقِّهِ أن يرمل من الحَجَر إلى الحَجَر ، فقد ثبت من حديث ابن عمر أن الرسول عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع رَمَل من الحَجَر إلى الحَجَر ثلاثا ومشى أربعا( ) .
وثبت من حديث جابر أنه قال : رأيت رسول الله ﷺ رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف ( ).
وعندما يطوف بالبيت ويتجاوز الركن اليماني يقول : « ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار » ، ثبت ذلك في « سنن أبي داود » من حديث ابن جريج ، عن يحيي بن عبيد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن السائب قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول ما بين الركنين : « ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار » ( ) .
وليس هناك ذكر معين ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام غير ما ذكرناه ، فيدعو الحاج في طوافه بما أحب ، وإن سَبَّح وكبَّر أو هَلَّل أو قرأ القرآن أثناء الطواف بالبيت فهذا حَسَنٌ ولا بأس به .
وكذلك أيضاً عند الركن اليماني ليس هناك دعاء ثابت ، فالسنة في الركن اليماني أن تستلمه فقط ولا تقل عنده شيئاً ، من تكبير أو غيره , وإذا لم تستطع استلامه فإنك لا تشير إليه ولا تقل عنده شيئا .
والرواية التي فيها ذكر التكبير عند استلام الركن اليماني شاذة ولا تصح ( ).
وأما ما يذكر في بعض الكتب من دعاء الشوط الأول والثاني والثالث إلى السابع فهذا باطل وليس بصحيح ، وينبغي للشخص أن يتجنب هذه الكتب التي فيها أشياء ليست بصحيحة ولم تثبت في سُنَّة الرسول ﷺ .
وأيضا ليس هناك شيء يقبل إلا الحجر ، وليس هناك شيء يستلم إلا ثلاثة أشياء : الحجر والركن اليماني والملتزم ، فاستلام الحجر والركن ثابت عن النبي ﷺ وأما الملتزم – وهو ما بين الحَجَر والباب - فثبت عن الصحابة أنهم كانوا إذا أرادوا أن يسافروا من مكة أنهم كانوا يضعون أيديهم وجباههم على الملتزم ( ).
وأما التمسح بجدران الكعبة فهذا غير مشروع , وإذا كان هذا التمسح بقصد البركة فهذا شرك .
وإذا حاذى الحجر الأسود في نهاية الشوط السابع فإنه يكون قد انتهى من طوافه فينصرف بدون إشارة إليه ولا تكبير لأن ذلك إنما يكون في بداية الشوط , ويذهب إلى مقام إبراهيم ويتلو ما جاء في قوله تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [ ] ، ثم يجعل المقام بينه وبين الكعبة ، ثم يصلي ركعتين ، وقد جاء أنه يقرأ في هاتين الركعتين : { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } ، كما جاء ذلك في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر الذي رواه مسلم وأصحاب السنن وغيرهم ( ) ، ولكن هذه اللفظة مُدرجه من يحيي بن سعيد القطَّان ( ) ، فهي لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم , وإنما هي من فعل بعض رواة الحديث .
وبعد أن ينتهي من صلاة الركعتين يرجع إلى الحَجَر ويستلمه ثم يخرج إلى الصفا كما ثبت ذلك في حديث جابر عند مسلم ( ) ، وفي رواية عند الإمام أحمد قال: ثم عاد إلى الحجر , ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه , ثم رجع فاستلم الركن ( ), وهذا من السنن وليس بواجب.
أنواع الطواف:
الطواف الذي يقع من الحجاج ثلاثة أنواع :
الأول : طواف القدوم , وهو سنة في حق القارن والمفرد ، والدليل على ذلك حديث عبد الرحمن بن يعمر « الحج عرفة »( ) فهذا يدل على أن بداية الحج عرفة .
وفي حديث عروة بن مضرس الديلي أن النبي ﷺ قال : « من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك »( ) . فهذا أيضا يدل على أن بداية الحج عرفة وما قبله ليس بواجب ( ).
وأما المتمتع فإنه قدم عمرته قبل الحج , وطواف العمرة ركن من أركانها ، فيكون في حقه واجب .
الثاني : طواف الإفاضة وهو ركن من أركان الحج ولا يتم الحج إلا به باتفاق العلماء ، وهو من أعمال يوم النحر , وسيأتي الكلام عليه هناك .
الثالث : طواف الوداع , وسيأتي الكلام عليه أيضا .
تنبيه: الرمل والإضطباع لا يشرعان إلا في الطواف الأول .
فضل الطواف:
جاء من حديث حماد عن عطاء عن عبد الله بن عبيد بن عمير أن رجلا قال : يا أبا عبد الرحمن – وهو ابن عمر - , ما أراك تستلم إلا هذين الركنين ؟ قال : إني سمعت رسول الله ﷺ يقول : « إن مسحهما ( )يحطان الخطيئة » وسمعته يقول : « من طاف سبعا فهو كعدل رقبة » ( ).
وعند الطبراني عن المنكدر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من طاف حول البيت أسبوعا لا يلغو فيه كان كعدل رقبة يعتقها ( ).
* * *
السعي
ثم يذهب إلى الصفا والمروة ، وعند الوصول والصعود إلى الصفا يتلو أيضاً قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } [ ] ، ثم يقول : « أبدأ بما بدأ الله » ، وهذا إنما يقال في أول السعي فقط ولا يكرر عند كل شوط.
ثم يصعد قليلاً ويستقبل الكعبة ثم يكبر ثلاثاً : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، ثم يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، يقول ذلك ثلاث مرات ، ويدعو بين ذلك ، كما ثبت ذلك في حديث جابر الذي رواه مسلم وغيره ( ) .
والذي يبدو ـ والله أعلم ـ أن التكبير والتهليل يكون ثلاث مرات ، والدعاء يكون مرتين ، لأنه قال : « بين ذلك » ، فيفتتح بالتكبير والتهليل ، ويختتم أيضاً بالتكبير والتهليل .
وعند الدعاء يرفع يديه ، كما ثبت ذلك في « صحيح مسلم » أن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما صعد على الصفا رفع يديه ودَعَا ( ) .
ثم بعد ذلك ينحدر من الصفا إلى بطن الوادي حتى ينفذ إلى المروة ، وعندما يصل إلى الميل الأول فعليه أن يهرول حتى يصل إلى الميل الثاني ، كما ثبت ذلك عن الرسول عليه الصلاة والسلام ( ) , ويوجد الآن ضوء أخضر لتحديد الميل الأول والميل الثاني .
وليس هناك في السعي دعاء أو ذكر معين إلا ما سبق فيما يقال على الصفا والمروة ، وإذا قال : « رب اغفر وارحم ، وتجاوز عما تعلم ، إنك أنت الأعز الأكرم » كما ثبت ذلك عن عبد الله بن مسعود ( ) فلا بأس .
فإذا وصل إلى المروة يكون قد انتهى من الشوط الأول , فيصعد عليها ويستقبل الكعبة ، والآن لا يستطيع الإنسان إذا صعد على المروة أن يرى الكعبة ، فعليه أن يتجه إلى جهتها ، ويفعل على المروة مثل ما فعل على الصفا ، ثم ينزل إلى الصفا , ويكون هذا هو الشوط الثاني في حقه , ويفعل في هذا الشوط وبقيه الأشواط مثل ما فعل في الشوط الأول , حتى يصل إلى الشوط السابع ، وتكون بدايته من الصفا فيكبر ويهلل ، ثم ينفذ إلى المروة ، وعندما يصل في الشوط الأخير إلى المروة فلا يسبح ولا يهلل ، لأن بداية الشوط السابع تكون عند الصفا ، فإذا وصل إلى المروة يخرج ويكون قد انتهى من السعي.
حكم السعي:
هذا السعي في حق المتمتع هو ركن العمرة , وأما القارن والمفرد فهذا السعي في حقهما هو ركن الحج ، وعليه فإذا أتى يوم النحر فالمفرد والقارن لا يسعيان مرة أخرى إذا كانا قد سعيا عند القدوم , بخلاف المتمتع فعليه أن يسعى مرة أخرى .
الحلق أو التقصير :
وبعد أن ينتهي من السعي عليه أن يُقَصِّرَ من شعره إذا كان متمتعا ، وذكر أهل العلم أن الشخص إذا كان بينه وبين الحج وقت قصير ـ كما هو الحاصل الآن فغالب الناس يذهبون إلى الحج في اليوم الخامس أو السادس أو السابع - فهنا يستحب له أن يُقَصِّر ، فإذا كان يوم النحر فهنا يحلق .
فإذا قصَّر أو حلق فإنه يكون قد تحلل من العمرة ، فيشرع له أن يخلع الإحرام ويلبس ثيابه ، هذا في حق المتمتع ، وأما القارن والمفرد فيبقيان على إحرامهما .
ثم بعد ذلك يبقى المتمتع متحللاً إلى أن يأتي اليوم الثامن ، والسنة في حَقِّهِ أن يبقى في مكة ، مثل ما بقي الرسول ﷺ فيها كما جاء في « الصحيح » ( ) .