فقد حذّر الرسول الكريم ﷺ من هذا الفعل غاية التحذير ، وأنكر على من فعل هذا أشد الإنكار .
فقد أخرج البخاري (427) ومسلم (528) كلاهما من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي ﷺ ، فقال: « أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات ، بنوا على قبره مسجداً ، وصوّروا فيه تلك الصور ، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ».
وأخرج البخاري (437) ومسلم( 530) كلاهما من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « قاتل الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ».
واتخاذها مساجد يكون بالصلاة عندها ، أو بناء المساجد عليها ، فهذا في من فعل هذا بقبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكون من شرار الخلق ، ويكون ممن لعنه الله - والعياذ بالله - فكيف فيمن فعل هذا مع غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟! فلاشك أن الأمر سيكون أعظم وأشد.
وأخرج مسلم(532) من طريق عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث النجراني ثني جندب قال : سمعت النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول : « إنني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك » .
في هذا الحديث حذّر عليه الصلاة والسلام من هذا الفعل قبل موته بخمسة أيام ، بل وحذّر منه عليه الصلاة والسلام وهو في سياق الموت ، كما أخرج البخاري (435) و(436) ومسلم (531) كلاهما من حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة أن عائشة وعبدالله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه ، فقال وهو كذلك : « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » يحذر ما صنعوا .
وقد سار على هذا المنهج القويم والمسلك المستقيم خلفاؤه من بعده رضي الله عنهم فقد أخرج ابن وضاح في « البدع » ( ص : 41 ) من حديث الأعمش عن المعرور بن سويد قال : خرجنا حجاجاً مع عمر بن الخطاب فعرض لنا في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه ، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله ﷺ ، فقال عمر: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعاً ، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل ، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض ( ) .
وفي رواية أخرى أخرجها ابن وضاح (ص41): أنه رضي الله عنه عندما صلّى الغداة رأى الناس يذهبون مذهباً ، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قيل: يا أمير المؤمنين مسجد صلّى فيه رسول الله ﷺ هم يأتون يصلون فيه. فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا ، يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيعاً ، من أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ، ومن لا فليمض ولا يتعمدها .
فقد أنكر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هذا الفعل وهو التبرك بالأماكن التي صلّى فيها رسول الله ﷺ وبيّن أن بهذا الفعل هلكت الأمم السابقة.
وقد أمر عمر رضي الله عنه بقطع ( ) الشجرة التي زُعم أن الرسول ﷺ بايع تحتها الناس ، مع أن الله تعالى أنسى صحابة رسوله ﷺ مكان هذه الشجرة التي بايعوا عندها رسول الله ﷺ رحمة بهم وبمن أتى من بعدهم.
فقد أخرج البخاري (2958) في «صحيحه» من حديث نافع عن ابن عمر قال : رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها ، كانت رحمة من الله.
وأخرج البخاري (4163) ومسلم (1859) من حديث سعيد بن المسيب قال : ثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله ﷺ تحت الشجرة . قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها . فقال سعيد: إن أصحاب محمد ﷺ لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم !!
قال أبو الفضل ابن حجر في «الفتح» (6/118) تعليقاً على هذا الحديث : « وبيان الحكمة في ذلك وهو أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير فلو بقيت لما أُمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر كما نراه الآن مشاهداً فيما هو دونها وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: «كانت رحمة من الله» أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى » اهـ.
قلت : ومع ما تقدم من كون الصحابة أنسوا مكانها ولم يعرفوه حتى جاء مِنْ بعدهم مَنْ ْزعمَ أنه يَعرف مكانها كما وقع ذلك في عهد عمر رضي الله عنه فعند إذن أمر عمر رضي الله عنه بقطع هذه الشجرة التي يزعم أنها بويع تحتها رسول الله ﷺ ، ثم بعد عهد عمر جاء من يزعم معرفته بهذه الشجرة ، فقد أخرج البخاري (4163) في «صحيحه» من حديث طارق بن عبدالرحمن قال : انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون ، قلت : ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله ﷺ بيعة الرضوان .
قلت : وهذا بعد عهد عمر لأن طارق بن عبدالرحمن من صغار التابعين ومَنْ كان مثله لم يدرك عهد عمر رضي الله عنه، وإنما ولدوا بعد عهد عمر رضي الله عنه .
وقد سار السلف الصالح على هذا النهج ، فقد كانوا لا يأتون إلى مثل هذه الأماكن ، بل وينكرون على من فعله .
قال أبو عبد الله بن وضاح القرطبي في كتابه «البدع» (ص 43) : « وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي ﷺ ما عدا قبا وأحداً .
قال ابن وضاح: وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ، ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها ، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدى به ، وقدم وكيع أيضاً مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان.
قال ابن وضاح: فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين ، فقد قال بعض من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى ، ومتحبب إليه بما يبغضه عليه ، ومتقرب إليه بما يبعده منه ، وكل بدعة عليها زينة وبهجة » ا.هـ
وهذا الذي ذكره ابن وضاح أمر معلوم وظاهر . ولذلك قال أبو العباس أحمد بن عبدالحليم : « وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين الرسول ﷺ ، فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها ، ولم يأمر ببناء مشهد لا على قبر نبي ولا غير قبر نبي ، ولا على مقام نبي ، ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام - لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب - مسجد مبني على قبر ، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلاً ، ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء ، عنده ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي ﷺ ولا عند قبر غيره من الأنبياء ، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي ﷺ وعلى صاحبيه » ا.هـ من «اقتضاء الصراط » (ص 753) .
فتبين مما تقدم أن تتبع آثار الأولياء والصالحين المكانية من البدع الشيطانية ، ومن طريقة اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الجاهلية .
وقد أخرج معمر في «جامعه» - المطبوع مع «مصنف عبدالرزاق» (20763) - عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله ﷺ قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : أي رسول الله ، اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط - وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها - فقال النبي ﷺ : « الله أكبر ، هذه كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ﴿ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ﴾ إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم ».
وأخرجه ابن إسحاق في «السيرة» - كما في «سيرة ابن هشام» - (4/70) وأبو داود الطيالسي (1346) والحميدي (848) وأحمد (5/218) والترمذي (2180) وغيرهم من طريق الزهري به ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
وأخرج البخاري في «صحيحه» (4859) من طريق أبو الأشهب عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما - في قوله تعالى : ﴿ واللات والعزى ﴾ - قال: كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج .
وأخرجه ابن أبي حاتم - كما في «الفتح» (8/612) - من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء به ، ولفظه : كان يلت السويق على الحجر فما يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه .
فهذا الفعل وهو العكوف عند قبور الأولياء والصالحين والتبرك بالأحجار والأشجار طريقة أهل الجاهلية ، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
قال أبو بكر الطرطوشي في كتابه « الحوادث والبدع » ( ص 38 ) - بعد أن ذكر حديث أبي واقد الليثي السابق - : « فانظروا رحمكم الله أيضاً أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ، ويعظمون من شأنها ، ويرجون البرء والشفاء من قبلها ، وينوطون بها المسامير والخرق ، فهي ذات أنواط فاقطعوها » ا.هـ
وقال عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتابه «الباعث على إنكار البدع والحوادث» (ص 24) : « ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبيناني رحمه الله تعالى - أحد الصالحين ببلاد أفريقية في المائة الرابعة - ، حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبدالله محمد بن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى : عين العافية ، كانت العامة قد افتتنوا بها ، يأتونها من الآفاق ، من تعذر عليها نكاح أو ولد ، قالت : امضوا بي إلى العافية فتعرف بها الفتنة ، قال أبو عبدالله : فإنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها فخرجت فوجدته قد هدمها ، وأذن الصبح عليها ، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأساً. قال : فما رفع لها رأس إلى الآن » ا.هـ
قلت : ومع الأسف وقع كثير ممن ينتسب إلى دين الإسلام بما حذر منه الرسول عليه الصلاة والسلام فتراهم يقصدون هذه الآثار ، كالذهاب إلى غار حراء مع أن الرسول ﷺ إنما كان يتعبد فيه قبل البعثة ، وأما بعدها فلم يأت إليه ولا دعى أمته إلى الذهاب إليه ، ومع ذلك تجد كثيراً من الجهال يذهبون إليه .
ومن ذلك المكان الذي يُزعم أن الرسول ﷺ ولد فيه - ومع أن هذا لم يثبت - فهل الرسول ﷺ أرشد أمته إلى الإتيان إلى هذا المكان ، أو فعل ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أو السلف الصالح ؟! وإنما أَحْدَثَ هذا من ضل سواء السبيل ، وخالف الحق المبين .
بل وصل الأمر إلى الإتيان إلى مكان يُزعم أن امنة بنت وهب أم الرسول ﷺ دفنت فيه ، فيُفعل في هذا المكان من الشركيات والقبائح ما الله به عليم ، من دعاء آمنة بنت وهب من دون الله تعالى ، والاستغاثة بها ، وصب الطيب في هذا المكان المزعوم أنه قبر آمنة بنت وهب مع أنها ماتت على الشرك ، لأن الرسول ﷺ عندما استأذن ربه أن يستغفر لها لم يأذن له ، كما أخرجه مسلم في «صحيحه» (976) من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ فذكره .
وقد قال الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ .
قال النووي في « شرح مسلم » (7/45) على الحديث السابق : « وفيه النهي عن الاستغفار للكفار » ا.هـ
وقال أيضاً على الحديث الذي أخرجه مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال: « في النار » فلما قفّى دعاه فقال: « إن أبي وأباك في النار ».
قال النووي على هذا الحديث (3/79) : « فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين ، وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار ، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة ، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم » ا.هـ
وقد حكى القرافي في «شرح التنقيح» الإجماع على تعذيب موتى الجاهلية في النار ، وعلى كفرهم.
وللشيخ محمد الغزالي (المتوفى سنة : ) رحمه الله تعالى كلام جميل حول التوحيد , فقال في كتابه «عقيدة المسلم» (60-69) :
( مقَارَنات بَين الشّرَكَاء وَالعَبيد
أراد الله عز وجل أن يُعرِّف سفهاء المشركين بأقدار الآلهة التي عبدوها من دون الله ، فردَّد هذه المعبودات المظلومة بين صنفين :
إما أن تكون من جمادات ، فالعبيد أوسع قدرة من هذه الآلهة ، لأن لهم جوارح يستخدمونها فيما يشاؤون ، أما هذه الأصنام المعبودة فماذا لها ؟
﴿ ألهم أرجلٌ يمشون بها ؟ أم لهم أيدٍ يبطشون بها ؟ أم لهم أعينٌ يُبْصرُون بها ؟ أم لهم آذانٌ يسمعون بها ﴾ .
ليس لها من ذلك شيء ..
وإما أن تكون هذه الآلهة المزعومة تملك ما ذكر من أدوات ومشاعر ، فماذا يمنحها ذلك من فضل ؟
سيكون الآلهة والعبيد سواء في القوى الذاتية والمنزلة الكونية ، فأي ألوهية تلك ؟
﴿ إنَّ الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم ، فادْعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ .
وليست طبيعة الإنسان أن يقف حاسراً قاصراً أما ألوهية هي دونه أو هو فوقها ، فإذا دعاها كانت بين أمرين ، إما ألا تسمع وإما ألا تجيب .
﴿ إن تدعوهم لا يسمعوا دُعاءكُم ، ولو سمعوا ما استجابوا لكم ، ويوم القيامة يكفُرُون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ﴾ .
ولذلك فإن النقائص أن تتعلق النفس البشرية بهذه الأوهام والأباطيل .
***
لقد كثُر في القرآن الكريم ضرب الأمثال ، وسوق الأدلة واستشارة الانتباه ، واستنهاض الكرامة الآدمية حتى تقوم من هذه الوهدة التي تذل فيها لمن هو دونها أو لمن هو مثلها .
وأفاض القرآن في استقصائه للمعاني التي تصون الوجه من دنس الشرك ، وفي مخاطبة العاطفة الإنسانية بأسلوب رائع في رقته ، واضح في غايته .
﴿ أأرباب متفرقون خير ؟ أم الله الواحد القهار ؟ ﴾ .
﴿ ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ، ورجلاً سلماً لرجل ، هل يستويان مثلاً ؟ الحمد لله ، بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ .
والحق أن التوحيد روح الإسلام وجوهر عقيدته ومحور عباداته المنوعة ، ومبدأ التوحيد يسري في تعاليمه كافة سريان الماء في النبات أو الأعصاب في البدن .
وقد وضح القرآن الكريم حقيقته وبسط فكرته ، وناقش ما قد يعرض له أو يعارضه ، حتى ليعتبر التوحيد الإسلامي أصرح وأكمل ما أسسه دين في قلوب بنيه ، ودمغ البشر جميعاً بطابع العبودية لله وحده ، وانتزع كل شعور يتجه بالمرء إلى تقديس كائن ما هنا أو هناك .
كل ذلك من عناوين الإسلام الأولى وليس من إشاراته الثانوية أبداً .
﴿ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار ﴾ .
والله ـ وحده ـ هو الضار النافع ، والخافض الرافع ، الذي يخذل أو ينصر ، ويعطي أو يمنع .
وليس لأحد بعده تعقيب على حكمه ، وليس من شأن مَلَكٍ في السماء أو نبي في الأرض التدخل في مشيئة الله .
....
ولذلك فإن من إخلاص التوحيد أن نكل ما فوق قدرتنا وإرادتنا إلى الله وحده ، وأن نربط خوفنا ورجاءنا به .
﴿ أليس الله بكافٍ عبده ﴾ .
﴿ قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ؟ أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ؟ قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ﴾ .
للمؤمن قبلة واحدة يوليها وجهه ، ويهب لها فؤاده ، ويبثها نجواه وشكواه ، ويعرف على أشعتها طريقه في ظلمات الحياة .
للمؤمن صلة عليا بالله ، يحدد على أساسها علاقاته بالناس .
وله عواطف تجيش بالأمن والقلق ، والسخط والرضا ، والحب والبغض والوحشة والأنس .
ومهما اضطربت في نفسه هذه المشاعر المعتادة ، فإن ضوابط اليقين تحكمها ، وعرفانه بربه هو الذي ينقضها أو يبرمها .
وقد كان إمام الأنبياء يغرس هذه المعاني في قلوب المؤمنين حين كان يدعو في تهجده : « اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت » .
هذه الضراعة الحارَّة النابضة هي آية التوحيد الكامل .
إذا مشت عصارتها في القلوب هزَّتها بالحياة والنماء ، وإذا فرغت الأنفس منها زوت ، والتوت ، وخطبت في عماء ما بعده عماء .
ونحن ـ في الدنيا ـ نمرُّ بتجارب شتى تكشف عن معادننا وخصائصنا كما تكشف التجارب في معامل الكيمياء عن ميزان الغازات والسوائل المختلفة ...
ما يُعرف الإيمان والكفر ، وما يتكشف الإخلاص والنفاق ، وما يتميز الخبيث والطيب إلا في هدى هذه التجارب التي تكفل القدر بإجرائها :
﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ .
***
وإذا رأيت المرء يحب غير الله أكثر مما يحب الله ، ويخاف العبد أكثر مما يخاف الرب ، ويتعلق قلبه بالناس أكثر مما يتعلق برب الناس ، ويصدر عمله ابتغاء رضاهم أكثر مما يطلب ثواب الآخرة ، فإذا نزلت به نكبة كان تفكيره في فلان قبل تفكيره في الله ، وإذا أصابه خير كان حمده لفلان أسبق من شكره لله ... فاعلم أن هذا الشخص قد أشرك ، ولئن كان بعض العلماء يقول : إن الشرك في العمل غير الشرك في الاعتقاد ، وإن هذا شرك أصغر وذلك شرك أكبر ( ) .
الحقيقة أن المسألة أصعب مما يتصورون وذاك شرك أكبر .
فالشرك عين حمئة قذرة ، إذا انفجرت في قلب وبدأت تسيل قطرات راشحة توشك أن تتحول سيلاً كاسحاً ، ويومئذ لا يبقى في القلب إيمان حق ، ويتحول ما يسمونه شركاً أصغر إلى عين الشرك الذي يعدُّه الإسلام أقبح الكبائر .
إنَّ الأمور صغيرها مما يهيج له العظيم
والإسلام يوم حارب اللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى ، لم يحاربها لذواتها ، ولم يكن بينه وبينها عداوة شخصية ؛ إنما حاربها لأنها احتلَّت من قلوب الملتفين بها مكانة السيد المتصرف من عبيده الأذلّين .
فكل ما يصرف القلوب ، مثلها ، عن الله فهو صنم .
وكل من تكون في قلبه منزلة لشيء ما غير الله ، مثل منزلة هذه الأصنام في قلوب المشركين القدامى ، فهو ـ ولا كرامة ـ مثلها ، يحسب منهم ويحشر معهم .
ولا عجب فالخمر لم تحرم لعينها ، وإنما حرم المسكر من كل شراب .
والإيمان بالله لا تتفاوت حقيقته ، وإن اختلفت نواقضه على توالي الأيام .
تَوحيد العَامَّة وَمَا يَعلوُه مِنْ غبَار
ينبغي لهذه الأمة أن تكون مثلاً عالياً في إسلام الوجه لله وإفراده بالنية والعمل .
بيد أننا نلحظ ـ آسفين ـ أنَّ هناك مسالك شائعة بين الجماهير الغفيرة من المسلمين ، لها دلالتها الخطرة على فساد التفكير وضلال الاتجاه واضطراب المقصد .
ولا نحب أن نوارب في الكشف عن هذه العلة ، فإن أي خلل في دعائم التوحيد معناه الخبل الذي يدرك موطن القيادة الفكرية في هذا الدين الحنيف .
إذ التوحيد في الإسلام حقيقة وعنوان ، وساحة وأركان ، وباعث وهدف ، ومبدأ ونهاية .
ولسنا ـ كذلك ـ ممن يحب تصيُّد التهم للناس ، ورميهم بالشرك جزافاً ، واستباحة حقوقهم ظلماً وعدواناً .
ولكننا أمام تصرفات توجب علينا النظر الطويل ، والنصح الخالص ، والمصارحة بتعاليم الكتاب والسنَّة كلما وُجِدَ عنها أدنى انحراف .
لقد اهتمت حكومة إنجلترا ـ في سبيل مكافحة الشيوعية ـ بالحالة الدينية في مصر !
فكان مما طمأنها على إيمان المصريين (!) أن ثلاثة ملايين مسلم زاروا ضريح أحمد البدوي بطنطا هذا العام .
والذين زاروا الضريح ليسوا مجهولين لديّ ، فطالما أُوفدتُ رسمياً لوعظهم ، فكنت أشهد من أعمالهم ما يستدعي الجلد بالسياط لا ما يستدعي الزجر الكلام ، وكثرتهم الساحقة لا تعرف عن فضائل الإسلام وأنظمته وآدابه شيئاً .
ولو دُعُوا لواجب ديني صحيح لَفَرُّوا نافرين ، وإن كانوا أسرع إلى الخرافة من الفراش إلى النار !
وحسبك من معرفة حالهم : أنهم جاؤوا الضريح المذكور للوفاء بالنذور والابتهال بالدعاء !
ولمن النذور ؟ ولمن الدعاء ؟
إنه أول الأمر للسيد .
فإذا جادلت القوم قالوا : إنه لله عن طريق السيد البدوي .
وأكثر أولئك المغفَّلين لغطاً يقول لك : نحن نعرف الله جيداً ، ونعرف أن أولياءه عبيده ، وإنما نتقرب بهم إليه ، فهم أطهر منا نفساً وأعلى درجةً .
وهذا الكلام ـ على فرض مطابقته لواقع القوم ـ غلط في الإسلام .
فإن الله سبحانه وتعالى لم يطلب منا أن نجيء معنا بالآخرين ليحملوا عنا حسناتنا ، أو ليستغفروا لنا زلاتنا .
﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؟ ﴾ .
بل المعروف من بديهيات الإسلام الأولى أن الطلب ووسيلته جميعاً يجب أن يكونا من الله .
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ .
« إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله » .
أليس من المضحك أن نستنجد بقوم يطلبون لأنفسهم النجدة ، وأن نتوسل بمن يطلب هو كل وسيلة ليستفيد خيراً أو يستدفع شراً ؟ .
﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ، ويرجون رحمته ويخافون عذابه ﴾ .
إن المسلمين لما طال عليهم الأمد نسوا الحق .
والمرء قد يعذر إذا ذهل عن شأن تافه ، أو فاته استصحاب شيء هيِّن ، أما أن يذهل عن كيانه وإيمانه فهنا الطامة .
وأحسب أن القرآن الكريم يقصد إلى التنديد بهذا اللون من إفساد التوحيد عندما قال :
﴿ ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله ، فيقول : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء ؟ أم هم ضلوا السبيل ؟ قالوا : سُبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بُوراً ... ﴾ .
أجل ! لقد نسوا الذكر ، وما قام عليه الذكر من توحيد شامل .
وليس يغني في الدفاع عن أولئك الجهلة من العوام أنهم يعرفون الله ، ويعرفون أنه وحده مجيب كل سؤال ، وباعث كل فضل ، وأن من دونه لا يملكون من ذلك شيئاً .
فإن هذه المعرفة لا تصلح ولا تقبل إلاّ إذا صحبها إفراد الله بالدعاء والتوجيه والإخلاص ، فإن المشركين القدماء كانوا يعرفون الله كذلك .
﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض ؟ أمن يملك السمع والأبصار ؟ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ؟ ومن يدبر الأمر ؟ فسيقولون الله ﴾ .
ومع أنهم يقولون « الله » بصراحة وجلاء فلم يُحسبوا بهذا القول مؤمنين ، لأن الإيمان ـ إذا عرفت الله حقاً ـ ألاّ تعرف غيره فيما هو من شؤونه .
ولذلك يستطرد القرآن في مخاطبة هؤلاء :
﴿ ... فقل أفلا تتقون ؟ فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ؟ كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ﴾ .
إن العامة عندما يشدُّون الرِّحال إلى قبور تضم رفات بعض الناس ، وعندما يهرعون بالنذور والحاجات والأدعية إلى من يظنونهم أبواباً لله ، إنما يرتكبون في حق الإسلام مآثم شنيعة .
ومهما قلبنا عملهم هذا من جميع وجوهه فلن نجد فيه ما يطمئن إليه ضمير المؤمن أبداً .
ومحبة الصالحين وبغض الفاسدين من شعائر الإسلام حقاً .
ومظاهر الحب والبغض معروفة ... هي مصادقة للأحياء أو منافرة ، واستغفار للموتى أو لعنة .
وأين من عواطف الحب والبغض هذا الذي يصطنعه المسلمون اليوم ؟
إن الواحد منهم قد يصادق أفسق الناس ، وقد يقطع والديه ـ وهما أحياء ـ ثم تراه مُشَمِّراً مُجِداً في الذهاب إلى قبر من قبور الصالحين ، لا ليدعوا له ويطلب من الله أن يرحم ساكن هذا القبر ، بل ليسأل صاحب القبر من حاجات الدنيا والآخرة ما هو مضطر إليه .
وذلك ضلال مبين ! .
***
وبناء المعابد على قبور الصالحين تقليد قديم ، وقد ذكر القرآن ما يدل على شيوعه في الأمم السابقة .
وفي قصة أهل الكهف تسمع قوله عز وجل :
﴿ فقالوا ابنوا عليهم بُنْيَاناً . ربُّهُمْ أعلهم بهم . قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً ﴾ ....
....غير أن البشر سَفِهُوا أنفسهم ، فالأحجار التي نحتوها للعظماء عبدوها ، أو ـ على حد تعبيرهم ـ اتخذوها إلى الله زلفى .
والمعابد التي أقاموها على قبور الصالحين قدَّسوها وسلكوها مسلك الأصنام في الشرك .
فلما جاء الإسلام أعلن على هذين المظهرين من مظاهر الوثنية حرباً شعواء ، وشدد تشديداً ظاهراً في محق هذه المساخر المنافقة .
وقد رأينا كيف أن النبي ﷺ أرسل علي بن أبي طالب وأمره أن يسوي بالأرض كل قبر وأن يهدم كل صنم ، فجعل الأضرحة العالية والأصنام المنصوبة سواء في الضلالة .
وقال النبي ﷺ ـ في البيان عن سفاهة القدامى وفي التحذير من متابعتهم ـ : « لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد » ، « ألا لا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن هذا » .
وكان يرفع الخُمْرة عن وجهه في مرض الموت ويكرر هذا المعنى ، وكأنه توجس شراً مما يقع به فدعا الله :
« اللهم لا تجعل قبري من بعدي وثناً يعبد » .
ومع كثرة الدلائل التي انتصبت في الإسلام دون الوقوع في هذا المحظور ، أقبل المسلمون على بناء المساجد فوق قبور الصالحين . وتنافسوا في تشييد الأضرحة ، حتى أصبحت تبنى على أسماء لا مسميات لها ، بل قد بنيت على ألواح الخشب وجثث الحيوانات .
ومع ذلك فهي مزارات مشهورة معمورة ، تُقْصَدُ لتفريج الكرب ، وشفاء المرضى ، وتهوين الصعاب !
***
....
وجماهير العامة الآن ينبغي أن تساق سوقاً رفيقاً إلى حقائق الإسلام ، حتى تنصرف ـ في هدوء ـ عن التوجه إلى هذه الأضرحة وشدّ الرحال إلى ما بها من جثث .
وإخلاص المعلّم وأسلوبه في الدعوة ، عليهما معول كبير في تمحيص العقيدة مما عَلِقَ بها من شوائب وعلل .
وقد تكون لدى البعض شبه في معنى التوسل .
فلْنُفهِم أولئك القاصرين أن التوسل في دين الله ، إنما هو بالإيمان الحق والعمل الصالح ، وقد جاء في السنّة .
« اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلاّ هو ، الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد » .
فهذا توسل بالإيمان بذات الله .
وجاء ـ كذلك ـ توسل بالعمل الصالح في حديث الثلاثة الذين آواهم الغار .
وجاء توسل بمعنى دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب ، ودعاء المسلم للمسلم مطلوب على أية حال .
ولا نعرف في كتاب الله ولا في سنة رسوله توسلاً بالأشخاص مهما علت منزلتهم ـ سواء كانوا أحياء أو أمواتاً ـ على هذا النحو الذي أطبق عليه العامة وحسبوه من صميم الدين ، ودافعوا عنه بحرارة وعنف ضد المنكرين والمستغربين ) ا.هـ كلام الشيخ الغزالي , وإنما نقلناه لموافقته للكتاب والسنة ولما فيه من إقناع لمن أراد الحق .
وقد قدمت بهذه المقدمة بين يدي هذا الكتاب , لأهمية هذا الموضوع وشدة الحاجة إليه , ولأن سائر الأعمال لا تصح ولا تقبل إلا من أهل التوحيد , وإذا وقع الإنسان في شيء من الشرك , فإن ذلك يكون سببا لحبوط عمل العبد وبطلانه , كما سبق ذكر الأدلة على ذلك ، والله ولي التوفيق .
صفة الحج
تعريف الحج لغة وشرعا:
الحج لغة : هو القصد .
وشرعاً : هو القصد إلى بيت الله الحرام ، في وقت معلوم ، لأداء أمور معلومة ، شَرَعَهَا الله عز وجل لعباده .
حكم الحج :
قد أوجب الله على عباده الحج إلى بيته المُحَرَّم ، قال تعالى : { ولله على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا } [ آل عمران : 97 ] .
وسبق ماجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ : « بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان » ( ) .
فالحج فريضة من الفرائض التي أمر الله عز وجل عباده بها ، وهو ركن من أركان الإسلام ، والإسلام مبني على خمسة أركان ومنها الحج .
* * *
المواقيت
ثبت في « الصحيحين » من حديث عبد الله بن طاووس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن النبي ﷺ وَقَّتَ لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلمم ، قال : « هُنَّ لهن ، ولمن أتى عليهن ، من غيرهن ، ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة » ( ) .
ففي هذا الحديث بَيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أربعة من مواقيت الحج ، وهذه المواقيت هي التي وَقَّتها الرسول ﷺ للإحرام من عندها .
وجاء في حديث ابن عمر الذي في « صحيح البخاري » أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ذكر ميقاتاً خامساً وهو ذات عرق وهو لأهل العراق ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما فُتِحَ هذان المصران ( ) أتوا عمر ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إن رسول الله ﷺ حَدَّ لأهل نجد قرناً ، وهو جَوْرٌ عن طريقنا ، وإنَّا إن أردنا قرناً شَقَّ علينا ، قال : فانظروا حذوها من طريقكم ، فحَدَّ لهم ذات عرق ( ) .
فهذه المواقيت يجب على من أراد الحج ومر بها أن يحرم منها .
* * *
محظورات الإحرام
1_ إزالة شعر الرأس بحلق أو غيره ، لقوله تعلى : ﴿ ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ﴾ ، وألحق جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى شعر بقية الجسم بشعر الرأس ، وعلى هذا فلا يجوز للمحرم أن يُزيل أي شعر كان من بدنه .
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى فدية حلق الرأس بقوله : ﴿ فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ﴾ .
وأوضح النبي ﷺ أن الصيام مقداره ثلاثة أيام ، وإن الصدقة مقدارُها ثلاثة آصع من الطعام لستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وأن النسك شاة ، والمراد شاة تبلغ السن المعتبر في الهدي ، وتكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء ، كما ثبت «الصحيحين» عن كعب بن عجرة أنه قال : حملت إلى رسول الله ﷺ والقمل يتناثر على وجهي , فقال : « ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى , أتجد شاة ؟ » . قلت : لا . قال : « فصم ثلاثة أيام , أو أطعم ستة مساكين , لكل مسكين نصف صاع » ( ).
2_ تقليم الأظافر قياسا على حلق الشعر على المشهور عند أهل العلم ،ولا فرق بين أظفار اليدين والرجلين ، لكن لو انكسر ظُفُرهُ وتأذى به فلا بأسَ أن يقص القدر المؤذي منه ، ولا فدية عليه ، كما روى ابن أبي شيبة وغيره عن عكرمة عن ابن عباس قال : إذا انكسر ظفر المحرم فليقصه ( ).
3_ تغطية الرأس : لا يجوز للرجل أن يغطي رأسه ، والدليل على ذلك ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ سئل : ما يلبس المحرم من الثياب , قال : « لا يلبس القميص , ولا العمائم ... » الحديث ( ).
ولكن إذا حمل الإنسان على رأسه شيئا فهذا ليس من التغطية ، وثبت في «مسند الشافعي» أن عمر رضي الله عنه قال لابن عباس : تعال أباقيك في الماء أينا أطول نفسا ، قال : ونحن محرمون( ). والماء فيه نوع من التغطية فهذا أيضا غير داخل في النهي ، وإنما المقصود هو أن يتعمد الإنسان تغطية رأسه بشيء .
4_ لبس المخيط : والمقصود بالمخيط الثياب التي تكون على قدر البدن أو عضو من أعضائه ، وهي الثياب العادية ، فلا يجوز للمحرم أن يلبس شيئا من ذلك .
والدليل على ذلك ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ سئل : ما يلبس المحرم من الثياب , قال : « لا يلبس القميص , ولا العمائم , ولا السراويلات , ولا البرانس , ولا الخفاف , إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا شيئا مسه زعفران ولا الورس » ( ).
وجاء في بعض روايات الحديث زيادة : « ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين » ( ) .
ويدل هذا الحديث على أن الإنسان إذا لم يجد نعلين يحرم فيهما , فإنه يلبس الخفين ، وكذلك إذا لم يجد الإزار فإنه يلبس السراويل .
وثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عباس أن النبي ﷺ خطب بعرفة وقال : « من لم يجد النعلين فليلبس الخفين » ( ) ولم يذكر القطع .
وحديث ابن عمر كان بالمدينة ، وحديث ابن عباس بعده ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ومعلوم أن الذين شهدوا خطبة يوم عرفة بعضهم لم يشهد خطبة النبي ﷺ في المدينة ، فلو كان القطع واجباً لبينه الرسول ﷺ ، فالأقرب أن الأمر بالقطع منسوخ ، والله أعلم.
ويدل حديث ابن عمر السابق على أن المرأة المحرمة تمنع من لبس النقاب والقفازين , ولكن يجب عليه إذا كانت بحضرة رجال أجانب أن تستر وجهها ولا يجوز لها أن تكشفه ، كما ثبت عن أسماء وعائشة رضي الله عنهما , فقد روى الإمام مالك في «موطئه» عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت : كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات , ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق ( ) .
وروى أبو داود وابن ماجه من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة قالت : كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله ﷺ محرمات , فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها , فإذا جاوزنا كشفناه ( ).
وذكر ابن حزم في «المحلى» عن وكيع عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية قالت : سئلت عائشة أم المؤمنين : ما تلبس المحرمة؟ فقالت : لا تنتقب ولا تلثم وتسدل الثوب على وجهها ( ).
وقال سعيد بن منصور – كما في «الفتح» لابن حجر (3/406) - : حدثنا هشيم حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها ( ) .
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن هشام عن الحسن وعطاء قالا : لا تلبس القفازين والسراويل ، ولا تبرقع ولا تلثم ( ) .
5_ قتل الصيد: من الأشياء المحرمة على المحرم الصيد ، كما ذكر ذلك الله عز وجل في كتابه فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [ ] ، فالمحرم لا يجوز له أن يصيد من حين يدخل في الإحرام .
وأما إذا كان الإنسان في مكة فلا يجوز له أن يصيد أبداً سواء كان محرماً أو حلالاً ، لأن مكة محرمة ، وكذلك المدينة محرمة ، والأدلة على ذلك كثيرة , منها ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال: « إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي , ولا تحل لأحد بعدي , وإنما أحلت لي ساعة من نهار , لا لمعرف » وقال العباس : يا رسول الله , إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا . فقال : « إلا الإذخر » ( ).