8 ـ وبقيت أمور كثيرة:
نختم بأمرين اثنين يتعلّقان بالحديث المدلّس.
الأوّل:
في تعريف المدلّس.
والثاني:
في القاعدة التي وضعها المتأخرون لقبول حديث المدلّس أو عدم قبوله.
فأمّا عن الأمر الأول:
فقد ورد في عبارة الإمام الشافعي تعريف المدلّس بأنّه أن: ((يحدّث عمّن لقي ما لم يسمع منه)).
هذه هي عبارة الشافعي التي نقلت عنه في تعريف التدليس، وهي تحتمل ألاّ تكون تعريفاً شاملاً للتدليس، وإنّما غاية ما فيها أنّها نصّ منه على أخفى نوعي التدليس الذي هو رواية الراوي عمن لقيه وسمع منه ما لم يسمع منه، على ما هو أقلّ خفاء وأكثر ظهورا وهو رواية الراوي عمن ثبت أنّه عاصره ولم يلتق به.
وهذه العبارة هي التي فهم منها الحافظ ابن حجر أنّ الشافعي يشترط اللقاء في التدليس، وأخذ من ذلك ما ذهب إليه من التفريق بين التدليس والمرسل الخفي، فجعل التدليس مخصوصا باللقاء، وجعل رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه من المرسل الخفي، بينما المنقول عن جميع المتقدمين وكلّ من سبق الحافظ ابن حجر يجعل ذلك كلّه ضمن مسمّى التدليس.
فابتداءً من الخطيب ومروراً بابن الصلاح والعراقي وغيرهما لا نكاد نجد خلافاً في أنّ التدليس هو رواية الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه، ورواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه.
أمّا ما سمّاه ابن حجر بالمرسل الخفي:
فقد ورد ذكره عند هؤلاء الأئمّة ولكنهم لا يعنون به أبدا هذا المعنى، وإنّما يريدون به كلّ انقطاع حصل في الإسناد وخَفِيَ بحيث لا يعرفه ولا يدركه إلاّ الحذاق الجهابذة المتمرسون في هذا الشأن، وهو الأمر الذي دعا ابنَ الصلاح وغيرَه إلى إفراده لبيان أهميته ولزوم الاهتمام به، لا على أنّه قسيم للتدليس أو نوع مستقلّ من أنواع علوم الحديث.
قال الحافظ العراقي في توضيح المراد بالمرسل الخفي:
((ليس المراد هنا بالإرسال ما سقط منه الصحابي، كما هو المشهور في حدّ المرسل، وإنّما المراد هنا مطلق الانقطاع، ثمّ الإرسال على نوعين: ظاهر وخفي.
فالظاهر:
هو أن يروي عمن لم يعاصره، بحيث لا يشتبه إرساله باتصاله على أهل الحديث... والخفي هو أن يروي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه، أو عمن لقيه ولم يسمع منه، أو عمن عاصره ولم يلقه، فهذا قد يخفى على كثير من أهل الحديث، لكونهما قد جمعهما عصر واحد، وهذا النوع أشبه بروايات المدلسين، وقد أفرده ابن الصلاح بالذكر عن نوع المرسل، فتبعته على ذلك)).
وما نقله ابن حجر عن البزار في تعريفه للتدليس يعانق المعنى المفهوم من تعريف الشافعي، حيث قال:
((أن يروي عمن قد سمع منه ما لم يسمع منه، من غير أن يذكر أنّه سمعه منه)).
حيث فهم منه ابن حجر أن البزار يحصر معنى التدليس في هذه الصورة التي حصل فيها اللقاء بين الراوي المدلّس وشيخه الذي دلّس عنه.
وهذا يجرّنا إلى ملاحظة أخرى في هذا المقام:
وهي أنّ بعض تعاريف العلماء أصبحت مثل النصوص الشرعية بحيث يمكن أن يكون لها منطوق ومفهوم، ومنها هذا التعريف، فمنطوقه هو المذكور، ومفهومه أن غير هذه الصورة المذكورة لا يسمّى تدليساً.
ولو سلّمنا بهذا فإنّ تعريفاً آخر للبزار يمكن أن يكون له مفهوم يخالف ما ذهب إليه ابن حجر من التفريق بين التدليس والإرسال الخفي، فقد قال البزار أيضاً: »إنّ الشخص إذا روى عَمَّنْ لم يدركه بلفظ موهم، فإنّ ذلك ليس بتدليس، على الصحيح المشهور)).
فإنّ هذا الكلام -بمفهومه- إن صحّ أن يكون له مفهوم ـ أنّ الشخص إذا روى عَمَّنْ أدركه فإنّ ذلك يعتبر تدليساً، فيدخل فيه عندئذ صورتا التدليس الأولى والثانية.
وهذا المفهوم هو الصحيح لا لأنّه مفهوم، بل لأنّ منهج المتقدّمين وكثير من المتأخرين -قبل وبعد الحافظ ابن حجر- وألفاظهم كلّها تدلّ عليه.
ولذلك انتقد الحافظ العراقي تعريف البزار المذكور بأنّه تقييد للتدليس، وتضييق للصور التي يشملها بما يخالف المتعارف عليه عند المحدّثين.
وقال -بعد أن بَيَّنَ خطأ هذا الفهم-:
((وما ذكره المصنّف -يعني ابن الصلاح- في حدّ التدليس هو المشهور بين أهل الحديث، وإنّما ذكرت قول البزار وابن القطان كيلا يغترّ بهما من وقف عليهما، فيظنّ موافقة أهل الشأن لذلك)).
وليس المقامُ هنا مقامَ تفصيل لهذه المسألة، ولكن المقصود الإشارة العابرة التي تستدعي بعد ذلك الرجوع إلى كلام العلماء في كتبهم ودراسته.
الأمر الثاني المتعلّق بمبحث التدليس:
فإنّ القاعدة التي اشتهرت عند المتأخرين وتواضعوا عليها هي أنّ حديث المدلّس يُقبل إذا صرَّح بالسَّماع.
أمّا إذا روى بالصيغة الموهمة فإنّ حديثه يكون ضعيفاً، ولكنّ الباحث في هذا الأمر يلحظ في كلام المتقدّمين أمثلة تخرم هذه القاعدة وتعود بالأمر من جديد إلى ملاحظة القرائن والأحوال.
وأسوق لذلك مثالين:
1 ـ لقد ذكر الإمام أبو حاتم الرازي أنّ بقيةَ بنَ الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمعه منهم، فيظنّ أصحابه أنّه سمعه منهم، فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرّحون بسماعه لها منهم، ولا يضبطون ذلك.
وهذا في الحقيقة لو حاكمناه إلى قواعد المتأخرين لاعتبرناه كذباً، بناءً على أنّ المدلّس إذا صرّح بالتحديث فيما لم يسمعه فإنّه يكون كذاباً، يردّ حديثه جملة وتفصيلا، ولكن الكذب هنا لا ينسب لبقية، فليس هو الذي فعل ذلك، ولا ينسب أيضا إلى أصحابه لأنّهم كذلك لم يفعلوا ذلك عمدا، وإنّما كان ذلك على سبيل الخطأ وعدم الضبط، والله أعلم.
2 ـ مثال آخر يؤكّد هذه المسألة ويزيدها وضوحاً:
لقد ذكروا للإمام أحمد قولَ من قال: عن عراك بن مالك، سمعت عائشة.
فقال:
هذا خطأ، وأنكره، وقال: عراك من أين سمع من عائشة؟ إنّما يروي عن عروة عن عائشة.
فهذا الإسناد فيه تصريح بالسماع وهو محض خطأ.
ولذلك قال الإمام ابن رجب تعليقا على هذه الأمثلة التي ذكرناها:
((فحينئذ ينبغي التفطّن لهذه الأمور، ولا يغترّ بمجرّد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد)).
إذا وضح هذا عرفنا طَرَفاً من منهج الإمام البخاري وغيره من المتقدّمين في الرواية عن المدلّسين، وعندئذ لا حاجةَ إلى الاعتذار عن صنيع البخاري وغيره في إيراد أحاديثَ للمدلّسين لاتوجد إلا معنعنةً بأنَّ قبولَ صنيعهم هذا ليس إلاّ إحساناً للظنّ بهم، وإنّما المسألة أعمقُ من ذلك.
إنّها مسألةُ منهج تتضح معالمُه وتفاصيله لكلّ من تعمّق في ملاحظة تصرّفات هؤلاء الأئمة النقاد الكبار، والله أعلم.
بعد هذه الأمثلة التي تبيّن بوضوح وجوبَ ملاحظة الاختلاف بين مصطلحات المتقدّمين والمتأخرين، وتبيّن كذلك أنّ جزءاً من الخلل الذي نعيشه اليوم ناتج عن الغفلة عن هذا الأمر، نرى لزاماً أن نساهم مع إخواننا في تقديم بعض ما نراه علاجا لذلك.
أوّلا: وجوب الحسم في مسألة المنهج:
وهذا هو الجانب النظري.
والمقصود به:
تشجيع الدراسات الجادّة التي تهدف إلى إبراز قواعد هذا العلم بصورة جيدة ومنهجية واضحة في تحديد معالم هذا العلم وقواعده التي مضى عليها المتقدمون، وبيان ما حصل بعد ذلك من اجتهاد فيها أو إخلال بها أو تطوير لها.
إنّه من الضروري والمهم جدا اجتماعُ أهل الاختصاص بهذا العلم للتداول في منهجية تدريس هذه العلوم، والنقاشِ حول كثير من التساؤلات التي تسكن عقولَ الكثير من الباحثين في قواعد علوم الحديث وتلاحقهم، حيث إنّ الباحث في هذا المضمار يلحظ أموراً كثيرة تحتاج إلى نظر ودراسة متأنية عميقة، بعيدا عن سوء الظنّ وكيل التهم وغير ذلك.
ثانياً: مراعاة الطريقة المنهجية الصحيحة في تدريس هذا العلم:
فالمُلاَحظ أنّ كثيراً من الجامعات عندما تقرّر على الطلاب هذه المادّة، تقرّر معها كتاباً من كتب المصطلح وتحدّد للأستاذ قدراً من الساعات الزمنية يجب أن ينهيَه فيها، غيرَ ملاحظين صعوبةَ هذه المادّة وضرورةَ أن يكون تلقينها للطلاب على تؤدة وأناة وحذر، وإلاّ عاد هذا العلم شؤماً على صاحبه وأهله.
وأنا أتصور أنّ قواعد علوم الحديث مثلُ قواعد الرياضيات، ينطلق فيها الطالب من أبسط المعارف ويأخذ في ذلك القسطَ الوافرَ من الوقت ويتمّ مراجعتها وتدريبُ الطالب عليها والتذكير بها في كلّ مرحلة لاحقة، ومن هنا تترتب المعارف والقواعد وينطلق الطالب إلى الأصعب وقد هضم بصفة سليمة وصحيحة كلَّ المبادئ الأولى، وأُمِن عليه من الوقوع في الانحراف في فهم القواعد التالية أو إساءة استعمالها.
والذي يعين على هذا أن نتعرّف على الطريقة التي كانت تُغرس بها قواعدُ هذا العلم في نفوس الأبناء منذ نعومة أظافرهم، وهذا يحتاج إلى تلمّس أساليب المتقدّمين في تلقين هذا العلم وغرسه في نفوس طلاب العلم، وهذا الأمر يحتاج إلى حديث آخر طويل لعلّ أحدَ المختصين يتصدّى لوضع مفرداته وبيان منهج العلماء فيه.
وبناء على هذا، فإنّه ينبغي الاهتمامُ بما يأتي:
1 ـ وضعُ كتابٍ جديد يتضمّن ترتيباً جديداً لمباحث علوم الحديث وأنواعها ومراتبها، بطريقة منهجية، يُجمع فيها كلُّ نوع أو قاعدة مع ما يشاركها أو يوافقها أو يتداخل معها وغير ذلك.
2 ـ تبسيطُ هذه المادّة في مراحلها الأولى، من أجل أن يسهل على الطالب المبتدئ فهمُها وحفظُ قواعدها والإكثارُ من الأمثلة النظرية والعملية، حتى يتمكّن الطالبُ منها، ثمّ ينطلقَ ليبنيَ عليها القواعدَ الأخرى.
3 ـ الاهتمامُ بالحفظ وإعطاؤه حقّه في هذه العلوم، فإنّ كثيراً من تفاصيلها لا تدرك إلاّ بالحفظ، ويُراعى في الحفظ أن يكون مرتباً وموزّعاً بين عدّة أمور، حيث يُصرف جزءٌ من ذلك لحفظ الأحاديث بأسانيدها، تماما كما يُؤمر الولدُ بحفظ القرآن وهو لا يعقل حروفَه ولا معانيَه، فإنّ حفظَ الأسانيد يعوّد الطالبَ على أمرين.
الأول:
حفظُ أكبر عدد ممكن من رجال الأسانيد، مما يعينه لاحقاً على استحضار ذلك أثناء دراسة الأسانيد وتخريج الأحاديث، واستحضار الأمثلة لكلّ نوع من أنواع علوم الحديث، وفي هذا عودة جزئية إلى منهج المتقدّمين في تلقّي هذا العلم وتحصيله.
الثاني:
التعوّدُ على مراقبة مواقع الرواة في الأسانيد، مما يربّي في الطالب ملكةَ الانتباه لأيّ انقطاع يحصل في السند أو خللٍ يقع في سلسلة الإسناد، وهذا جزءٌ من المعرفة الذهنية التي تعينه في المستقبل على تحديد العلل الواقعة في الأسانيد وتدلّه على إدراك الخفيّ منها.
4 ـ التدرّج في إعطاء هذه المادّة للطلاب، فإنّ من الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها بعضُ من يدرّس هذا العلم أن يبذله للعامّة من الناس في المساجد، ممّن لا يحسنون أحكام الوضوء والصلاة، أو يُفرغه على الطلاب مرّة واحدة، مما يشعرهم بالغرور ويدفعُهم إلى الجرأة في تطبيق بعض ما عرفوه من القواعد على الأحاديث.
ولم يزل علماؤنا السابقون يراعون هذا التدرّجَ ويسلكون بطلابهم مسالكَ الاعتدال في طلب العلم وينتهرون كلَّ مَن يريد أن يَحرِق المراحل أو يقفز على درجات السلّم يبغي الوصولَ بقفزة واحدة.
قال ابن حجر:
((وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج، لأنّ الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حُبِّب إلى مَن يدخلُ فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبتُه غالباً الازديادَ، بخلاف ضدّه)).
5 ـ الاهتمام بهذا العلم وتلقينه للصغار عن طريق تحفيظهم المنظومات التي وضعها العلماء قديما وحديثا في هذا العلم وقواعده، من مثل البيقونية والقصيدة الغزلية وألفية الحديث للعراقي والسيوطي، مبتدئين في ذلك بالأسهل منها والأخصر والأوجز، ثمّ الانطلاق إلى الألفيات منها.
إلا أنّه يجب التنبيهُ إلى وجوب استكمال تدريس هذا العلم:
فإنّ من الخطأ المنهجي الاقتصارَ في تدريس علوم الحديث على تدريس المصطلحات الأولى، دون الاهتمام بالمراحل الأخرى المهمّة التي تشكل صلبَ هذه العلوم وثمرتَها الحقيقية، وهي علم الجرح والتعديل والتخريج ودراسة الأسانيد.
6 ـ إنّه من الضروري اللجوء -وخاصة في المراحل الأولى من هذا العلم- إلى الوسائل التي تضمن فهم الطالب واستيعابه.
إنّ من أنجع الوسائل في التعليم تصويرَ المعاني لترسخ في الذهن، ويتم ذلك بضرب الأمثال ومقارنةِ الشبيه بالشبيه والمَثل بالمَثل، ولتحديد الفكر في النظر في المتماثلات من المعاني والأشباه.
إنّه من الضروري تقديمُ هذه المادة بأسلوب شيّق، مطعّمٍ بالأمثلة من واقع الناس، أو ما له صلةٌ بحياتهم، ليعين ذلك الطلابَ على الحفظ والاستيعاب. وقد سجّل علماؤنا السابقون نماذجَ في ذلك، فكانوا يَنْظِمون هذه القواعدَ بأسلوب الغزل، أو يسوقون معانيَها بأسلوب لا يخلو من الدعابة والمرح والنكتة، من أجل أن تستقر هذه المعاني في النفوس بسهولة ويسر.
انظر مثلاً كلام العلماء في تقريب هذا المعنى من مثل قول ابن معين:
»الرجل الذي له في الحديث طريق واحد كالرجل له امرأة واحدة، إذا حاضت بقي«. أي: لم يجد غيرها.
وقول حماد بن سلمة:
»مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف اللغة مثل الحمار يحمل مخلاة لا شعير فيها«.
وقول الأوزاعي وغيره:
»مثل الذي يكتب ولا يقابل مثل الذي دخل الخلاء ولم يستنج«، وغير ذلك من الأمثلة التي يراد بها ومنها غرس هذا العلم في نفوس الطلاب بصورة متينة وقوية.
لقد كنت أثناء تدريسي لهذه المادة للطلاب ألجأ من أجل توضيح الأسانيد وارتباطها واتصالها أو انقطاعها، أو في توضيح شروط أنواع الحديث وغير ذلك، كنت ألجأ إلى تطبيق ذلك للطلاب أثناء التدريس، فأقول مثلا: هذا الصف من القسم يمثّل سندا من الأسانيد وأحدّد أسماءهم، ثمّ أقوم بتوضيح كيف يمكن أن يكون هذا الصف متصلاً أو منقطعاً، وما هي أشكال الانقطاع وأنواعه التي يمكن أن تحدث، وماذا يحصل لهذا الصف عندما يكون أحدُ أفراده مجهولَ الاسم أو ضعيفاًً بنوع من أنواع الضعف، أو لم يسمع ممّن فوقه، وهكذا أستمرّ في التطبيق العملي لمباحث هذا العلم.
وقد رأيت أنّ هناك فائدتين تحققتا من وراء ذلك:
أ ـ أنّ الطلاب كانوا يفهمون وبشكل جيّد ما نذكره بعد ذلك من قواعد علوم الحديث ومباحثها.
ب ـ أنّ هذا كان سبباً في طرد الملل والسآمة التي تحصل غالباً في مثل هذه العلوم المجرّدة والمعارف الدقيقة، فيحصل نوع من الحيوية داخلَ الفصل يكون عاملاً آخر في حسن الاستماع وجودة الاستيعاب وسلامة التلقّي.
7 ـ أمر آخر لا نرى أن نختم حديثنا قبل الإشارة إليه، وهو لا يقلّ أهمية عما سبق، وهو الاهتمام بتدريس فقه الحديث ومناهج العلماء في استنباط الأحكام الشرعية منه.
ذلك أنّ كثيراً من طلاب العلم كان حظُّهم من دراسة هذا العلم معرفة الأسانيد، وقلّت بضاعتهم -أو انعدمت- في باب فقه الحديث ومنهج الاستدلال به عند المتقدّمين، فكان أن وقعوا في الانحراف في هذا الباب، حيث يعمد أحدهم إلى تخطئة ما ذهب إليه أحد المتقدّمين من ردّ حديث صحيح أو الاستدلال بحديث ضعيف في جملة قرائن وأحوال ظهرت له، ومرجّحات وقواعد من الشريعة أيّدت فعله وتصرّفه، وهذا في الحقيقة هو الفقه، وأمّا غيره فليس يعجز عنه الكثير.
8 ـ ولا أغادر هذا المكان دون أن أهمس في أذان إخواننا وزملائنا ألاّ يعطوا هذا العلم مجرّدا عن حيثياته ومنهجه المتكامل، فينشأ في نفوس أبنائنا سوء الأدب مع العلماء، وليس السبب كامنا في هذا العلم، وإنّما الخلل ناتج من الإهمال أو عدم التركيز من العلماء المتصدين لهذا العلم على جوانب التربية، بل إنّه أحيانا يصدر عن هذا العالم أو المحدث من العبارات والإشارات والكلمات ما يكون سببا في تشكيل هذه العقلية المنحرفة الخالية من الأدب مع سلف هذه الأمة من العلماء والمحدثين والفقهاء، بل والمشحونة بما يطعن في أخلاقهم أو دينهم أو إيمانهم.
ويجب في هذا المقام أن يحرص الأستاذ على تنبيه أبنائه إلى وجوب التفريق بين الشجاعة في مناقشة ما أورده السابقون من الآراء والأقوال وبين سوء الأدب معهم والوقيعة فيهم والطعن عليهم فإنّ هذه تجارةُ المفلسين.
وقبل هذا طبعاً وتأسيساً عليه لا بد من وجود القدوة الحسنة في القائمين على تدريس هذا العلم، فإنّه علم يُطلب به ما عند الله تعالى، فلا ينبغي أن يكون أهله إلاّ مثالاً للالتزام والاهتداء، وقد كان طلاب العلم سابقاً لا يأخذون من العالم حتى ينظروا إلى هديه وسمته ودينه.
قال الحسن بن صالح بن حي:
((كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه حتى يقال: أتريدون أن تزوّجوه)).
وبعد:
فهذه مساهمة متواضعة في هذا الموضوع، أسعد بتقديمها والمشاركة بها في هذه الندوة المباركة، آملا أن تساهم -مع أخواتها- في إنشاء رأي عام يهتم بهذه العلوم ويعطيها حقّها الذي أوجبه الله لها، إذ جعلها سببا لحفظ كتابه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتــــــــور: عبد العزيز صغير دخان
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
جامعـــــــة عجمان للعلوم والتكنولوجيا