المحور الثاني: مباحث علم المصطلح نفسه
أما إذا استطعنا تذليل صعوبات ووعورة المصطلحات.. فنحتاج بعد إلى صياغة علمية متقنة وفي الوقت نفسه ميسرة لدارسي هذا العلم وأيضا نرى -والله اعلم- ان يقوم بذلك فريق من العلماء أهل الاختصاص يكمل بعضهم بعضاً.
ولننظر في كلام الشيخ رشيد رضا في تقديمه لكتاب (قواعد التحديث) للإمام القاسمي قال:
(ليتني كنت أملك من وقتي الحاشد بالضروريات، الحاشد بالواجبات، فرصة واسعة أو نهزاً متفرقة في شهر أو شهرين أقرأ فيها هذا السفر النفيس كله، فأتذكر به من هذا العلم ما لَعَلي نسيت، وأتعلم مما جمعه المؤلف فيه ما جهلت، فهو الحقيق بأن يقرأ ما كتب، ويحصي ما جمع، لتحريه النفع، وحسن اختياره في الجمع، وسلامة ذوقه في التعبير والتقسيم والترتيب والوضع، وبلغ في مصنفه هذا سدرة المنتهي من هذا العلم الاصطلاحي المحض، الذي يوعي بكد الحافظة، ويستنبط بقوة الذاكرة، فلا يستلذه الفكر الغواص على حقائق المعقولات، ولا الخيال الجوال في موارد الشعريات، ولا الروح المرفرف في رياض الأدب أو المحلق في سماء الإلهيات - إذ جعله كأنه مجموعة علوم و فنون وأدب وتاريخ وتهذيب وتصوف، مصطفاة كلها من علم حديث المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله، ومن كتب طبقات العلماء المهتدين به، كأنه قرص من اقرص إبكار النحل، جنته من طرائف الأزهار العطرية، ومجت فيه عسلها المشتار من طوائف الثمار الشهية، فلعل الظمآن لهذا العلم لا يجد فيه كتاباً تطيب له مطالعته كله، فينهله ويعله ولا يمله، كأنه أقصوصة حب أو ديوان شعر اللهم إلا هذا الكتاب).
ويقول أيضاً الشيخ رشيد رضا:
كذلك وقد ألف الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله بعده كتاب (توجيه النظر إلى أصول أهل النظر) وهـو موضوع كتاب (قواعد التحديث) والعلامتان الجزائري والقاسمي كانا سِيَّيْنِ في سعة الاطلاع وحسن الاختيار، إلا أن الجزائري اكثر اطلاعاً على الكتب وولوعاً بالاستقصاء والبحث، والقاسمي اشد تحرياً للإصلاح وعناية بما ينفع جماهير الناس، فمن ثم كان كتاب الجزائري، وهو أطول قاصراً على المسائل الخاصة بمصطلح الحديث وكتب المحدثين التي قلما ينتفع بها إلا المشتغلون بهذا العلم،، فقد وفى بعض مسائلها حقه من الاستقصاء بما لم يفعله القاسمي، وكأنه أطال كل الإطالة بتلخيص (كتاب علوم الحديث) للحاكم النيسابوري وهي اثنان وخمسون نوعـاً، ثم بما لخصه من كتاب (علل الحديث) لابن أبى حاتم الرازي..، ثم بما استطرد من الكلام في مبحث كتابة الحديث إلى الكلام في (الخط العربي وتدرجه بالترقي إلى وصوله للكمال الذي عليه الآن، وما يحتاج إليه بعد هذا الكلام من علائم الوقف والابتداء) وهو على إطالته في هذا الفن، لم يراعه في هذا الفن وكتابه كأكثر الكتب القديمة، وكتاب القاسمي كما علمت في قسيمة وتفصيل عناوينه والبياض بينها لتسهل المطالعة والمراجعة، فهو في هذا وفي طبعه على أحسن ما انتهت إليه الكتب الحديثة،، كما أنه أكثر جمعاً وأعم نفعاً).
من هذا الاستعراض لإفادة الشيخ رشيد رضا والموازنة بين كتابي القاسمي والجزائري يمكن أن نخلص إلى مؤشرات طيبة في ما ينبغي أن نيسر به على طلاب الحديث بدءاً من المحتوى العلمي وانتهاء بطباعة الكتاب والعناية بإخراجه وهذا مالا يخفى إن شاء الله على السادة العلماء الذين توافدوا لخدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المحور الثالث:
مباحث علم الجرح والتعديل
وهذا المحور على خطورته، نجد فيه قصوراً كبيراً جداً عند الطلبة بل وأقول عند من يظن أنه بلغ في هذا العلم مبلغاً ورحم الله الإمام الذهبي فقد قال: والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام، وبراءة من الهوى والميل، وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله ثم نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة. ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام عرف ذلك الإمام الجهبذ واصطلاحه، ومقاصده بعباراته الكثيرة.
أما قول البخاري:
سكتوا عنه فظاهرها أنهم ما تعرضوا له بجرح وتعديل، وعلمنا مقصده بالاستقراء أنها معنى تركوه.
وكذا عادته إذا قال (فيه نظر) بمعنى أنه متهم، أو (ليس بثقة) فهو عنده أسوء حالاً من الضعيف.
وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم (ليس بالقوي) يريد بها:
أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت، والبخــاري يطلق على الشيخ (ليس بالقوي) ويريد أنه ضعيف.
ومن ثَمَّ:
قيل تجب حكاية الجرح والتعديل، فمنهم من نفسه حاد في الجرح ومنهم من هو معتدل ومنهم من هو متساهل.
فالحاد فيهم:
يحيى بن سعيد، وابن معين، وأبو حاتم، وابن خراش وغيرهم.
والمعتدل فيهم:
أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبو زرعة.
والمتساهل:
كالترمذي، والحاكم، والدارقطني في بعض الأوقات.
ثم إن العلم بالرجال وطبقاتهم ميزان علو كعب الرجل في مدارج علوم الحديث وبه ينال التوقير والتبجيل.
لَمَّا دخل الإمـام الذهبي على الإمام ابن دقيق العيد قال له: (من أين جئت؟ قال: من الشام، قال: بم تعرف؟ قال: بالذهبي، قال: من أبو طاهر الذهبي؟ قال له: المخلِّص، فقال: أحسنت، فقال: من أبو محمد الهلالي؟ قال سفيان بن عينيه، قال: أحسنت، اقرأ ومكنه من القراءة حينئذٍ إذ رآه عارفاً بالأسماء).
أقول:
أليس من الغريب أن نجد عندنا اليوم من طلبة الحديث من لا يستطيع التمييز بين الحمادين والسفيانين، ولا يدري كيف تكون المتابعة، وغير ذلك من أوليات دراسة الإسناد؟
بل وجدنا في رسائل الدراسات العليا (الماجستير أو الدكتوراه) من العجائب ما لا يصدق:
* فمثلاً في مسند الإمام أحمد وجدنا مَنْ لا يميز بين أحاديث المسند وزوائد عبدالله على أبيه.
* وأكبر من ذلك هناك من يسوق الإسناد، حدثنا عبدالله حدثني أبي... ثم يذهب يترجم لعبدالله ولأبيه ثم يذكر أقوال علماء الجرح والتعديل.
* وأعجب من ذلك مَنْ يسوق أسانيد كتاب الزهد للإمام عبدالله بن المبارك، ثم يضعف الإسناد بأحد الرواة بعد عصر ابن المبارك بسنوات، وإسناد ابن المبارك كالشمس. إلى ذلك من الطامات التي لا تحصى... كيف كان ذلك؟ ولم هذا القصور الكبير...؟
يرجع ذلك بحسب رأينا -والله أعلم- إلى جملة أسباب لعل من أهمها الآتي:
1 ـ التقليد المطلق والتسليم التام لكتابات بعض المعاصرين من الباحثين والمصنفين في الحديث وعلومه والاكتفاء بما كتبوه وقرروه، وحتى إذا ما اضطروا بحسب المناهج البحثية العلمية الأكاديمية بالرجوع إلى المصادر الأصلية، رجعوا إليها وأعينهم مع كتابات المعاصرين ليصلوا إلى ذات النتائج وما عليهم إلا أن يغيروا أرقام الصفحات وطبعات الكتب وتواريخها، هذا المسلك حجب عنهم حظاً عظيماً من العلم والتعلم... فضلاً عن أغلاط وقع فيها بعض من قلدوهم ونهجوا نهجهم.
ولا نريد استقصاء هذا الأمر ولكن نكتفي ببعض أمثلة من ذلك:
أولاً: في مجال تخريج الأحاديث والحكم عليها، انتشـرت انتشاراً عظيماً كتب الشيخ / ناصر الدين الألباني رحمه الله، واحتفى بها بعض الناس احتفاءً عظيماً لدرجة المبالغة والغلو، حتى إن مشرفاً على مكتبة إسلامية عامة استبعد من صفوف الكتب التي تضمها هذه المكتبة سنن الإمام ابن ماجة.
فسألته لِمَ استبعدت هذا الكتاب وهو الأصل السادس كما تعلم.
فكانت الإجابة مذهلة وقال:
لله الحمد والمنة اقتنينا للمكتبة (صحيح ابن ماجة) للشيخ الألباني.. فلا حاجة لنا بالكتاب إذ ما بقي فيه إلا الضعيف.. والضعيف قال فيه العلماء..
ثم أخذ يشرح مذاهب العلماء في الأخذ بالضعيف أو طرحه ومن ثم أيضاً تدور الدوائر بذات المنطق على سنن أبي داود والترمذي والنسائي.
هذا دفعنا إلى أن ننبه هذا الرجل ومن تشرب مشربه إلى ما كتبه الإمام الحاكم في المدخل قال: (ولعل قائلاً يقول: وما الغرض في تخريج ما لا يصح سنده ولا يعدل رواته؟
والجواب عن ذلك من أوجه وهي:
1 ـ إن الجرح والتعديل مختلف فيهما، وربما عدل إمام وجرح غيره.
2 ـ وكذلك الإرسال مختلف فيه، فمن الأئمة من رأي الحجة به، ومنهم من أبطلها.
3 ـ والأصل فيه الإقتداء بالأئمة الماضين رضي الله عنهم أجمعين، كانوا يحدثون عن الثقات وغيرهم، فإذا سئلوا عنهم بينوا أحوالهم، وهذا مالك بن أنس إمام أهل الحجاز بلا مدافعة روى عن عبدالكريم أبي أمية البصري وغيره ممن تكلموا فيهم، ثم أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي وهو الإمام لأهل الحجاز بعد مالك، روي عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحي الأسلمي، وأبي داود سليمان بن عمرو النخعي وغيرهما من المجروحين، وهذا أبو حنيفة إمام أهل الكوفة روى عن جابر بن يزيد الجعفي وأبي العطوف الجراح بن المنهال الجزري وغيرهما من المجروحين. ثم بعده أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي وأبو عبدالله محمد بن الحسن الشيباني حَدَّثَا جميعاً عن الحسن بن عمارة وعبدالله بن مُحَرَّر وغيرهما من المجروحين.
وكذلك من بعدهما من أئمة المسلمين قرناً بعد قرن أو عصراً بعد عصر إلى عصرنا هذا، لم يخل حديث إمام من أئمة الفريقين من مطعون فيه من المحدثين.
وللأئمة رضي الله عنهم في ذلك غرض ظاهر:
وهو أن يعرفوا الحديث من أين مخرجه، والمنفرد به عدل أو مجروح؟ سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول، سمعت العباس بن محمد الدوري يقول، سمعت يحي بن معين يقول: (لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه).
أخبرنا دعلج بن أحمد ببغداد، حدثنا أحمد بن على الأبار قال: قال يحي بن معين: (كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً).
إذاً هذه التجزئة للكتب الأصول بهذه الصورة أوقعت لبساً عظيماً عند من قصر به العلم والبحث واكتفي بالتقليد. فإذا كان الأئمة رضوان الله عليهم لم يوافقوا الإمام ابن الصلاح في قوله بتعذر التصحيح فكيف نقلد المعاصرين؟
قال الشيخ شاكر رحمه الله في الباعث (ذهب ابن الصلاح إلى أنه قد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بادراك الصحيح بمجرد اعتبار الإسناد ومنع - بناءً على هذا - من الجزم بصحة حديث لم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصاً على صحته في شئ من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، وبنى على قوله هذا: إن ما صححه الحاكم من الأحاديث ولم نجد فيه لغيره من المعتمدين تصحيحاً ولا تضعيفاً حكمنا بأنه حسن، إلا أن يظهر فيه علة توجب ضعفه، وقد ردّ العراقي وغيره قول ابن الصلاح هذا، وأجازوا لمن تمكن وقويت معرفته أن يحكم بالصحة أو بالضعف على الحديث بعد الفحص عن إسناده وعلله، وهو الصواب.
قال الشيخ شاكر:
(والذي أراه أن ابن الصلاح ذهب إلى ما ذهب إليه بناءً على القول بمنع الاجتهاد بعد الأئمة، فكما حظروا الاجتهاد في الفقه أراد ابن الصلاح أن يمنع الاجتهاد في الحديث، وهيهات، فالقول بمنع الاجتهاد قول باطل، لا برهان عليه من كتاب ولا سنة، ولا نجد له شبه دليل).
وقد ذكر الإمام الكتاني في رسالته بعد سرده للكتب من بعد الصحيحين وما فيها من أنواع الحديث قوة وضعفاً قال: (وحينئذٍ لابد من النظر في أحاديث كل ليحكم على كل واحد منها بما يليق).
بل ليت الأمر وقف عند حدود طلبة العلم المبتدئين فقد تعداه إلى من ينتسب إلى العلم في أعلي مدارجه، فقد كنت أرسلت كتاباً إلى مؤسسة علمية أكاديمية رفيعة في بلد عربي، فرأت الجهات المسئولة أن تعرض كتابنا هذا على محكمين لإبداء الرأي فيه... فمما قرأته بخط للمحكم اعتراضه على حديث أوردناه وهو حديث أبي خزامة عن أبيه قال: قلت: (يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل تـرد من قدر الله شـيئاً؟ قـال: هي مـن قـدر الله) قال المحـكم: (أورد - أي المؤلف - حديثاً ضعيفاً ولم يشر إلى ضعفه والحديث كما قرر العلامة الألباني ضعيف، وذلك في كتابه ضعيف الترمذي).
ولم ندر ممن نعجب من عالم محكم في بحوث علمية، يرجع في أحكامه إلى التقليد أو نعجب من أن هذا الحديث نفسه الذي ضعّفه الألباني حسنّه الألباني في مكان آخر من كتبه وذلك في تخريجه لأحاديث كتاب (مشكلة الفقر) ص13 برقم ،11 إذ قال عنه: (حسن).
أقول:
فإذا كان هذا حال العلماء المحكمين، فما بال صنيع الطلبة الدارسين.
2 ـ الاعتماد على المختصرات:
وأما في تراجم الرواة والحكم على الأسانيد... فقد ذهبت طائفة عظيمة في أزماننا هذه على اعتماد قول الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب بصورة تكاد تكون نهائية، وإن كنا نوافق الدكتور الطحان في قوله عن التقريب (والكتاب جيد ومفيد، كاف لطلبة العلم المبتدئين في الفن، لاسيما في موضوع الحكم على الشخص من حيث الجرح والتعديل، فانه يعطي المراجع عصارة الأقوال فيه لكنه مضغوط جداً).
ونعقب على ذلك فنقول:
1 ـ إن الحافظ ابن حجر على جلالة قدره في هذا الفن، إلا أن هناك بعض هنات وهفوات وقعت في التقريب، كأن يتضارب حكم الحافظ على رجل في موضعين في كتابه، أو يوثقه حينـاً ويجهله حينـاً آخــر، وقد تتبع بعض هذه الهفـوات الأستاذ / محمد عوامة فليراجع.
ولا حرج في هذا التتبع ممن تمكن ودقق في علم الرجال، فهذا أبو حاتم جهل جماعة من الرواة ولم يسلم له العلماء بذاك، قال الإمام السيوطي في التدريب (جهل جماعة من الحفاظ قوماً من الرواة لعدم علمهم بهم، وهم معروفون بالعدالة عند غيرهم، وأنا أسرد ما في الصحيحين: من ذلك أحمد بن عاصم البلخي جهله أبو حاتم لأنه لم يخبر بحاله ووثقه ابن حبان وقد روى عنه غيره، وأسباط أبو اليسع جهله أبو حاتم ووثقه ابن المدينى، وابن حبان، وابن عدي وروى عنه البخاري وأبوزرعة والحسين بن الحسن بن يسار جهله أبو حاتم ووثقه الذهلي وروى عنه أربعة ثقات، وعباس بن حسين القنطري جهله أبو حاتم ووثقه أحمد وابنه وروى عنه البخاري).
ولذلك قال العلامة اللكنوي:
لا تغتر بقول أبي حاتم في كثير من الرواة على مايجده من يطالع (الميزان) وغيره أنه مجهول مالم يوافقه غيره من النقاد العدول، فإنَّ الأمان من جرحه بهذا مرتفع عندهم، فكثيراً ماردوا عليه بأنه جهل من هو معروف عندهم، فقد قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: الحاكم بن عبدالله البصري قال ابن أبى حاتم عن أبيه: مجهول، قلت: ليس بمجهول من روي عنه أربعة ثقات ووثقه الذهلي.
وقال أيضاً: عباس القنطري قال ابن أبى حاتم عن أبيه مجهول. قلت: إن أراد العين فقد روى عنه البخاري، وموسى بن هلال، والحسن ابن علي المعمري، وإن أراد الحال فقد وثقه عبدالله بن أحمد قال: سألت أبى، فذكره بخير، وقال ابن دقيق العيد: لا يكون تجهيل أبى حاتم حجة، ما لم يوافقه غيره.
2 ـ ومما يؤخذ على من عكف على التقريب فحسب، ولم يراجع المطولات من كتب الجرح والتعديل، إن ملكة النقد عنده تكون ضعيفة وليست بذات بال، ويتبين ذلك جلياً عندما يكون الرجل المترجم له ليس من رواة الكتب الستة، عندها يحار الباحث في الحكم تجريحاً أو تعديلاً.
أما عن تنزيل أحكام الجـرح والتعـديل بما في التقـريب، كما قسمها الشيخ العلامة /أحمد محمد شاكر في كتابه الباعث الحثيث، حتى أصبحت هذه العبارات والتقسيمات عبارة عن قوالب جاهزة، توضع دون النظر واعمال الفكر فيها، أقول هذا التنزيل وهذه الأحكام يفيد فيها إن شاء الله ما كتبه الدكتور /وليد العاني في كتابه منهج دراسة الأسانيد).
وبعد هذا كله نقول إن علوم الحديث والسنة المشرفة لا تنفصل بحال عن باقي علوم الإسلام من تفسير وفقه وعقائد وعلوم اللغة العربية، إذ بهذه العلوم تتقوى ملكة الطالب ويتدرب على فنون العلم.
قال الذهبي:
أول ما ينبغي تقديمه مقدمة في الاعتقاد تشتمل على الدليل على معرفة الله سبحانه وتعالى ويذكر فيها ما لابد منه، ثم يعرف الواجبات، ثم حفظ القرآن الكريم، ثم سماع الحديث.
ولابد من حفظ مقدمة في النحو يقوم بها اللسان والفقه عمدة العلوم، وجمع العلوم ممدوح إلا أن أقواماً أذهبوا الأعمار في حفظ النحو واللغة، وأغابوا فيها غريب القرآن والحديث، وما يفضل عن ذلك ليس بمذموم، غير أن غيره أهم منه، فإن أقواماً أذهبوا أزمانهم في علوم القرآن فاشتغلوا بما غيره أصلح منه من الشواذ المهجورة، والعمر أنفس من تضييعه في هذا، وإن أقواماً أذهبوا أعمارهم في حفظ طرق الحديث ولعمري أن ذلك حسن إلا أن تقديم غير ذلك أهم، فنرى أكثر هؤلاء المذكورين لا يعرفون الفقه الذي هو ألزم من ذلك، ومتى أمعن طالب الحديث في السماع والكتابة ذهب زمان الحفظ، وإذا علت السن لم يقدر على الحفظ المهم، وإذا أردت أن تعرف شرف الفقه فانظر إلى مرتبة الأصمعي في اللغة، وسيبويه في النحو، وابن معين في معرفة الرجال، كم بين ذلك ومرتبة أحمد والشافعي في الفقه، ثم لو حضر شيخ مسن له إسناد لا يعرف شيئاً من الفقه بين يديه شاب متفقه فجاءت مسألة: سكت الشيخ وتكلم الشاب).
ومن ذلك كله نقول:
إن تجزئة علوم الحديث عن بعضها، كالاهتمام بالجرح والتعديل دون الغريب، أو الاهتمام بتعريفات أنواع الحديث، دون الاجتهاد في تطبيق ذلك والتدريب عليه من متون الحديث، كما إن تجزئة علوم الحديث عن باقي علوم الشرع فقهاً وتفسيراً وأصولاً وغيرها، تساهم في تكريس الضعف عند طلبة هذا العلم الشريف.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم...