ثانيـاً: رواياته عن شيوخه
تشكلت مادة مؤلفات ابن الجزري في علم التجريد -أيضاً- من سماعاته عن شيوخه، حيث كثيراً ما نجده يسوق الخبر رواية مسموعة عن شيوخه ومن ذلك مثلاً ما ساقه من خبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن الوقف، واستدل به على عدم جواز القطع على المعنى القبيح.
قال ابن الجزري أخبرنا ابن الشيخ عمر بن أملية قال أنبأنا ابن البخاري قال: أنبأنا ابن طبرزد: قال أنبأنا أبو البدر إبراهيم بن محمد الكرخي: قال أنبأنا، الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي قال أنبأنا القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي قال: حدثنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي، قال: أنبأنا أبو داود سليمان بن الأشعت، قال: أنبأنا مسدد، قال: أنبأنا يحي عن سفيان بن سعيد، قال: أخبرني عبد العزيز بن رفيع عن تمتم الطائي عن عدي بن حاتم قال: جاء رجلان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فتشهد أحدهما فقال: من يطع الل ورسوله فقد رشد، ومن يعصيهما، ووقف، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قم واذهب، بئس الخطيب".
ونرى من خلال هذا النص:
أن ابن الجزري قد ساق متن هذا الحديث من سماعه عن شيخه بسنده المتصل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرض أن يسوقه من أحد كتب الحديث التي خصصت لهذا الغرض.
ومن ذلك أيضاً ما نقله عن الإمام الداني بسنده لا من كتبه في شأن ظاءات وضادات القرآن فقال ابن الجزري: ومن أحسن ما نظم فيه ما أخبرني به الشيخ عبد الكريم التونسي –قراءة مني عليه– قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن بلاال الأنصاري قال: أخبرنا ابن الغماز، قال: أخبرنا ابن سلمون قال: أخبرنا ابن هذيل، فقال: أخبرنا أبو داود، قال: أملي علينا الشيخ أبو عمرو الداني من نظمه:
فكظمت غيـظ عظيم ما ظنت بنا
ظفـــرت شوظ بحظها من ظلمنا
وظللت انتظـــر الظلال لحفظنا
و ظعنت أنظـر فــي الظهرة ظلة
ظهـر الظهار لأجل غلطة وعظنا
وظمئت في الظلما ففي عظمي لظي
وحظرت ظهر ظهيرها من ظفرنا
أنظرت لفظــي كـي تيقظ فظـه
وفي هذا المثال نلاحظ أنه بالرغم من أن مؤلفات الإمام الداني متوفرة لدى ابن الجزري إلا أنه أبى إلا أن يسوق هذه الأبيات بسماعه من شيخه، ولعل هذه الأبيات مما لم تتضمنها مصنفاته.
المطلب الثالث: مصادره في تراجم القراء
لقد تنوعت مصادر مؤلفات ابن الجزري في تراجم القراء بحسب ما يلي:
أولاً: المشاهدة والمشاركة
لقد كان لاحتكاك ابن الجزري بالعديد من العلماء والمحدثين والقراء أثناء إقامته وأثناء رحلاته الكثيرة ومشاركته في الحياة العلمية أثر بارز في مؤلفاته في تراجم القراء، أعني بالذات كتابه: غاية النهاية؛ إذا هو الكتاب الوحيد الموجود الآن؛ حيث أتيحت له فرصه جمع زحم هائل من المادة العلمية حول من ترجم لهم ممزوجة بذاتية مورده، على اعتبار أن عنصر المشاهدة وإبراز الذات واضح من خلالها، وبرز ذلك خاصة فيمن ترجم لهم من معاصريه ومن لقيهم ومن حدثه عنهم شيوخه..
وقد كان ابن الجزري في كتابه غاية النهاية يصدر هذه المادة العلمية لتراجمه بألفاظ دالة على المعاصرة والمشاهدة وذلك نحو: قوله «رأيته»، «اجمعت به»، «قال لي»، «بلغني»، «ترجمه لي»، «قرأت عليه»، «قرأ علي»، «سألته»، «سألت عنه»، «صاحبنا»، «شيخنا»، «ابنتي»، «في وقتنا»، «لازمني».
ومن الأمثلة التفصيلية لذلك ما يلي:
1- ذكر في ترجمة محمد بن مسعود سعد الدين الكتاني المالكي المولود سنة سبعمائة شهادات الشاهد فيه هو ابن الجزري نفسه فقال: "رأيته يجلس بحانوت الشهود بشارع جامع بشتاك خارج القاهرة، وقصدت القراءة عليه فلم يتفق، لكنه أجاز من استدعاه ...".
2 – وقال أيضاً في ترجمة عبد الله الضرير العجمي: "... لا أعرف من قرأ عليه إلا أنني رأيته يقرئ القرءات السبع، ويستحضر الشاطبية وشروحها عنده وإذا طلب منه أحد تحقيق مسألة فتح الخزانة ومد يده وأخرج الكتاب الذي فيه تلك المسألة وفتحه وناوله الطالب، ووضع يده على موضعها اجتمعت به مرات وكان مقيما بالزاولية الغزلية شمالي الجامع".
والملاحظ في هذين المثالين:
أن عنصر المشاهدة كان المصدر الوحيد لابن الجزري في ترجمة هذين المقرئين، ولعل هذا ما يعطي مؤلفات ابن الجزري تلك القيمة العلمية التاريخية العالية حيث يسوق أخباراً عن تراجمه مصدرها الوحيد هو شهاداته وملاحظاته الذاتية.
ثانيـاُ: المشـافهــة
شكلت روايات ابن الجوزي الشفوية مصدراً هاماً لمادة تراجمه وقد ساعده في ذلك سعة حفظه ودقة ضبطه وبراعته في معرفة أحوال الرجال وكشف علل الأسانيد.
ولما كانت تراجمه لم تتحدد بمعاصريه فقط، وتناولت من قبلهم كان لزاماً عليه الاعتماد على الرواية الشفوية خاصة في شأن أولئك الذين لم يترجم لهم في مصنفات سابقيه.
ومن الأمثلة التي يظهر فيها هذا المصدر ما يلي:
1 – قال ابن الجزري في ترجمة أبي جعفر أحمد بن عبد الخالق الجدلي المتوفى سنة ستين وسبعمائة: "... قرأ عليه بعض القرآن بالقراءات صاحبنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن ميمون البلوي وترجمه لي وأخبرني أنه توفى بمالقه في طاعون سنة خمس وستين وسبعمائة عن بضع وستين سنة".
وكان اعتماد ابن الجزري في ترجمة الجدلي على محمد البلوي وهو أحد تلاميذ الجدلي، وهو من جهة أخرى هو صاحب لابن الجزري.
وكان الراوي له أغلب أحوال قراء المغرب الإسلامي إذ أقام بالأندلس طويلاً.
2- قال ابن الجزري في ميلاد أبي العباس الفيروز أبادي: "ولد بعيد السبعين وستمائة كما أخبرني حفيده المحدث...".
3- وقال أيضاً في وفاة أبي العباس العسقلاني: "توفي سنة أربع وعشرين وسبعمائة فيما أخبرني ولده..".
وفي هذين المثالين:
كان مصدر ابن الجزري ما أخبره به أهل المترجم له وأقاربه وهم في أغلب الأحوال أعلم الناس بوفاة وميلاد القريب.
4-وقال أيضاً في ترجمة أحمد بن علي بن تميم الغزي المعروف بالشريف الحسيني المتوفى سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة: "أخبرني الشيخ الإمام الزاهد عز الدين حسين الخلاطي عن إقراره أنه لم يكن شريفاً، وأنه قال: وإنما حملني على إدعاء نسب الشرف مغالاتي في حب آل البيت".
واعتماد ابن الجزري في هذا المثال على الرواية عن أحد شيوخه الذين عاصروا المترجم له وكانت لهم معه محادثات ومقابلات.
ثالثـا: المساءلــة
واعتمد ابن الجزري أيضا في إيضاح بعض المسائل المتعلقة بتراجمه على سؤال يوجه إلى من يظن أنه على دراية بالمسألة وذلك إما بسؤال مباشر يوجه للمترجم له نفسه أو بسؤال غير مباشر يوجه إلى من له معرفة به.
ومن الأمثلة المبينة لذلك ما يلي:
1- قال ابن الجزري في ترجمة شهاب الدين أحمد بن محمد بن بيبرس الشهير بابن الركن المقرئ: "..سألته عن مولده فقال: سنة بضع وعشرين وسبعمائة".
2-وقال أيضاً في ترجمة أبي عبد الله الحفار: "سألت عنه صاحبنا محمد بن محمد بن ميمون فقال لي: إمام محدث ومقرئ مجود ضابط وأخبرني أن مولده سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة تقريبا، وفارقه سنة سبعين وسبعمائة وهو على قيد الحياة".
واتضح من خلال المثالين:
أن ابن الجزري استقى مادته من خلال سؤل مباشر ففي المثال الأول وجه السؤال للمترجم له نفسه وهو أعلم الناس بتاريخ ميلاده، وفي المثال الثاني وجه السؤال إلي معاصر ومعاشر للمترجم له، حيث كان محمد البلوي أحد القراء الذين أقاموا ببلاد الأندلس دهراً طويلاً فعرف عن قرائهم الكثير.
رابعـاً: الخطــوط
اعتمد ابن الجزري كثيراً على ما يجده من خطوط منسوبة إلى أصحابها، وكان أخذه بها في ترجمة أوليك الذين لايعرفهم وليس له دراية بأحوالهم ولم تكتب المصنفات عن أخبارهم.
ومن الأمثلة التي تبين ذلك ما يلي:
1 – ما ذكره ابن الجزري في ترجمة أحمد بن يحي بن مالك السوسي حيث قال: "لا أعرفه لكن رأيت بخط الذهبي أن عبد الوهاب بن عطاء قرأ عليه وكذا انقلب عليه، وإنما قرأ على عبد الله بن عطاء وهو أبو نصر الخفاف".
2 – وما ذكره أيضاً في ترجمة محمد بن إبراهيم المقانعي حيث قال: "... رأيت بخط الحافظ أبي عبد الله الذهبي أن إبراهيم بن الحسن الباهلي أخذ الحروف عنه، وأنا لا أعرف ولا على من قرأ".
3 – وما ذكره كذلك في ترجمة أبي القاسم المعافري حيث قال: "... قرأت بخط القصاع في ترجمته: وكان ثقة ضابطاً مشهوراً في مشيخة المصريين لم يكن في طبقته مثله".
خامساً: الوجـادة
واعتمد ابن الجزري أيضاً على ما يجده مخطوطاً أو منقوشاً على الأحجار والقبور إذا كان فيه ما يفيد الترجمة، خاصة في معرفة سنوات الوفاة أو الميلاد ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن الجزري في ترجمة أبي موسى جعفر بن مكي الموصلي شيخ شيراز حيث قال: "توفي خامس عشر ربيع الآخر سنة ثلاث عشر وسبعمائة بمدينة شيراز ودفن ظهرها، كذا وجدت على قبره".