أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: الفصل الأول: مجتمعات غير المسلمين، وموقف الشريعة منها. الجمعة 17 مايو 2013, 4:41 am | |
| الفصل الأول: مجتمعات غير المسلمين، وموقف الشريعة منها. المبحث الأول: أقسام مجتمعات المخالفين حسب دياناتها. المبحث الثاني: موقف الشريعة من المخالفين وأصل علاقتها بهم. المبحث الثالث: أقسام ديار غير المسلمين بحسب موقفهم من الإسلام وأهله.
مقدمة: تقسيم المجتمعات البشرية على أساس العقيدة، ليس بالأمر النظري الذي لا أثر له في مسيرة الحياة بالنسبة لنا، أو لا تترتب عليه أحكام، بل إن بحثنا هذا بأكمله ما هو إلا نتاج هذا التقسيم، لما ينشأ عنه من آثار بالغة الأهمية، تمس المرء المسلم في دنياه وأخراه، إذ أن الشرع الحنيف شرَّع الكثير من الأحكام التي تبين للمسلم كيفية التعامل مع غير المسلمين، وما يجب أن يكون عليه موقفه منهم في شؤون الحياة المتنوعة، وطبيعة الصلة بهم، وموقعه بالنسبة لحكوماتهم التي يقيم تحت ظل قوانينها. ومجتمعات غير المسلمين تتباين بحسب أصول عقائدها، فهي ليست سواء، وليست على درجة واحدة، وفي مستوى واحد في نظر الشرع.
المبحث الأول: أقسام مجتمعات المخالفين حسب دياناتها. البشر في نظر الشريعة الإسلامية، ينقسمون بحسب الديانة، إلى طائفتين كبيرتين: أ - طائفة المسلمين. ب - طائفة الكافرين.
والذي نبغي بيانه هنا هو طوائف الكافرين المشهورة منها، وذائعة الصيت، وهؤلاء أصناف وملل شتى، يجمعهم وصف واحد وهو الكفر، وإن كان لكل صنف منهم اسم خاص يميزه عن الآخر.
(والكافر هو من لم يؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى، أو بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم، أو بشريعته، أو بثلاثتها) (1).
وبعبارة موجزة: هو من لم يعتنق دين الله الحق (الإسلام).
وهم أصناف: أولاً: أهل الكتـاب: اختلف الفقهاء في تحديد الكتابي، وفيمن ينطبق عليه هذا الوصف، إلى فريقين:
الفريق الأول: الحنفيـة: فقد ذهبوا في تعريفه إلى: (هو كل من اعتقد دينًا سماويًا، وله كتاب منزل، كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وشيث، وزبور داود) (2)، ونص على ذلك الشافعي (3).
فأهل الكتاب عند هؤلاء ليسوا هم اليهود والنصارى كما هو مشهور فحسب، بل هم من لهم كتاب ذو أصل سماوي.
ويظهر أن الحنفية ومن وافقهم، نظروا إلى طبيعة اللفظ اللغوية (أهل الكتــــاب)، أي أصحـــاب أي كتــاب سمـــاوي، وبه قــال أبــو يعلــى، مــن الحنابلة (4).
الفريق الآخر، وهم جمهور الأمة من العلماء والفقهاء: فقد قالوا: (إن أهـل الكتاب هم اليهود والنصارى فقط)، ولا يدخل غيرهم في هذا المسمى، لقوله تعالى: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) (الأنعام: 156).
ووجه الدلالة، أن أهل الكتاب لـو كـانوا أكثر من طائفتين لما خصهم بهما (أي بالطائفتين).
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إن المقصود بالطائفتين هم اليهود والنصارى، وذهب ابن عطية إلى إضافة القول: (بإجماع من أهل التأويل).
وقال أصحاب هذا القول: وأما أصحاب الصحف فلا يدخلون تحت مسمى (أهل الكتاب)، لأنهـا كانت مواعـــظ، وأمثالاً لا أحكـــام فيهـــا ولا شرائع، فلا يثبت لها حكم الكتب المشتملة على الأحكام.
ولا يشترط في الكتابي أن يلتزم بدينه عقيدة وسلوكًا، فقد ذهب جمهور الأمة (5) إلى أنه تكفي العقيدة، فبمجرد أن يعتقد شخص دينًا من أديان أهل الكتاب فإنه يصبح به كتابيًا، ولو لم يلتزم بالعمل بأحكامه، أو لم يكيّف منهجه وفق منهج دينه.
وأما ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اعتراضه على الصحابة لما اعتبروا عرب بني تغلب المتنصّرين من أهل الكتاب، أنه قال : (إنهم ليس معهم من النصرانية سوى شرب الخمر)، فأجابه جميع الصحابة: (حسبنا أنهم صاروا نصارى).
وردّ ابن عبــاس رضــي الله عنهمـا فقــال: قــال تعـالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة: 51).
فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية في نصرهم، وتوليتهم إياهم في الحـــرب لكــانوا منهــم (6)، واتفــق الصحابــة علـى ذلك مــا عـدا عليًا رضي الله عنه (7)، وصالحهم عمر رضي الله عنه على الجزية (8).
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره ذبائحهم ونساءهم، ولم يحرمهما (9).
ثانيًا: المجوس: المجوس قوم يعظمون الأنوار، والنيران، والماء، والأرض، ويقرون بنبوة زرادُشت (10)، وقيل: كــان لــه كتاب، ولهــــم شــرائع يقرون بهـا، وهــم فـــرق شتى (11).
واختلف الفقهاء: هل المجوس أهل كتاب أم لا؟ على قولين: القول الأول: وهو قول جماهير الأمة، أنهم ليسوا بأهل كتاب (12).
القول الثاني: وهو قول الشافعي، أنهم أهل كتاب.
فقد قال في الأم (13): (والمجوس كانوا أهل الكتاب، يجمعهم اسم أنهم أهل كتاب مع اليهود والنصارى).
وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان للمجوس كتاب يقرؤونه وعلم يدرسونه، ولكنه رفع (14).
وقال الصنعاني: (ولا يخفى أن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) (15)، ما يشعر بأنهم ليسوا بأهل الكتاب) (16).
قلت: ومما يؤيد رأي الجمهور، عدم حل ذبائحهم ونكاح نسائهم، باتفاق أهل العلم إلا (أبا ثور) (17).
ومن جهة أخرى، فإن قول علي رضـــي الله عنــه والشافعـــي رحمـــه الله خــلاف ما تــدل عليــــه آيـــة: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين) (الأنعام: 156)، إذا نحن أخذنا بظاهرها، لتصبح لدينا ثلاث طوائف بدل اثنتين.
أماكن وجودهم: توجد في إيران في الوقت الحاضر طائفة من المجوس، يبلغ عددها المليون تقريبًا، ولهم معابد ونيران (18) لا يدعونها تخمد لحظة واحدة (19).
ثالثًا: الدهريون: الدهريون ينكرون الخالق، ويقولون: لا إله ولا صانع للعالَم، وأن هذه الأشياء وجدت بلا خالق.. فهم قد عطلوا المصنوعات عن صانعها، وقالوا ما حكــاه الله عنهـــم: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) (الجاثية: 24).
وقال تعالى عنهم أيضًا: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) (الأنعام: 29).
والدهر هو مر الزمان الطويل، وطول العمر، واختلاف الليل والنهار.
وقالت فرقة منهم: إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل، وإن العالَمَ دائمٌ لم يزل ولا يزال (20).
وهـــؤلاء قديمًا، يتفق معهـم حديثًا -في أصل نظرتهــم للكــون والحياة- الشيوعيون.
والشيوعية: مذهب فكري يقوم على الإلحاد -أي إنكار وجود الله سبحانه، والغيبيات كلها- وأن المادة هي أساس كل شيء.
وتُفسِّر الشيوعيةُ التاريخَ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي.. وشعارهم: نؤمن بثلاثة: ماركس (21)، ولينين (22)، وستالين (23)، ونكفر بثلاثة: الله، والدين، والملكية الخاصة!
وينكرون الآخرة، ويؤمنون بأزلية المادة، ويحاربون الأديان (24)، والملكية الخاصة (25)، ومن شعاراتهم العسكرية: بالحديد والنار تنتصـر الثورة.
عُرفت الشيوعية بالقسوة والعنف والإبادة الوحشية للمخالفين لها، لكن التطورات الأخيرة فيما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي حملت انفراجًا للأديان.
رابعًا: المشركون: سمي هؤلاء بالمشركين نسبة إلى الشرك.. والشرك: هو أن يتخذ المرء من دون الله ندًا (أي مثلاً ونظيرًا) يحبه كحبه، ويعظمه كتعظيمه، ويعبده كعبادته، وهذا هو حال مشركي العالم، إذ يسوون آلهتهم برب العالمين (26).
وقد سُئل النبي صلى الله عليه و سلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) (27).
فهؤلاء المشركون يقرون بربوبية الله تعالى في الجملة، وأنه الخالق المالك، ولكنهم لا يفردونه -سبحانه- وحده بالعبادة والتوجه، بل يجعلون معه غيره -ليقربهم إلى الله- مما يستحسنونه من الأصنام والأوثان والشمس والملائكة والنيران والأنَاسِيّ، وغير ذلك.
ومن ملل أهل الشرك ذوات النفوذ والانتشار والأغلبية في ديارها، نذكر: الهندوسية، الكونفوشيوسية، البوذية، السيخية.
المبحث الثاني: موقف الشريعة من المخالفين وأصل علاقتها بهم. مما هو في نطاق اليقين، بإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، أن الدعوة الإسلامية دعوة عالميـــة، لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء: 107).
وقوله: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرًا لكم) (النساء: 170).
وقوله: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا) (الأعراف: 158).
وفي الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهُنَّ أحدٌ قبلي).. وذكر منها: (وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثتُ إلى الناس عامة) (28).
فشريعة محمد صلى الله عليه و سلم ناسخة لجميع الشرائع السماوية والملل الأرضية، ومهيمنة عليها، لها صفة الدوام والخلود، فهي المرحلة النهائية لدين الله، وكلمته الأخيرة للبشرية، لذا فإن الناس جميعًا مخاطبون بها على سبيل الوجوب، وعليهم جميعًا الاستجابة لتعاليمها. فهي دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها جميعًا، وهي منهاج حياة فاضلة تبتغي رقي الإنسان، عقلاً ووجدانًا وأخلاقًا.
جاءت هذه الشريعة لتستوعب الحياة كلها، واتسعت لتخاطب الجن أيضًا وتدعوهم إليها، فهي إذن ليست بإقليمية ولا عنصرية، بل عالمية عامة، وبناءً عليه فهي تعترف بمجتمعات المخالفين اعترافًا واقعيًا بطبيعتهم الإنسانية.
ومادامت هذه هي طبيعتهم، فأساس العلاقة بينها وبين أهل الملل الأخرى هي علاقة دعوة، وهداية بالحجة، وبيان بالمنطق والبرهان، وتعتبر المخالفين لها في ضلال وعلى أباطيل، قال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) (الحج: 62).
وقــــد اختلف فقهاؤنا حـــول توصيــل هــذه الدعــوة إلى المخالفين على فريقين: الفريق الأول: وهم جمهور الأقدمين، يرى أن تعدّ القوة، وتجهز الجيوش، ثم تسير إلى ديار المخالفين، وقبل البدء بالقتال يخيّرون بين الإسلام والجزية (29) -إن كانوا من أهلها- والحرب (30).
كمـــا يـــرى أن أصــــل العلاقـــة بين الإســـلام والكفـــر هو الحــرب، وأما السَّلْم (31) فهو أمر استثنائي ولظروف طارئة، وسبب هذه الحرب هو الكفر، كقوله تعالى: (واقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) (البقرة: 193).
وقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (التوبة: 5).
وقوله: (وقاتلوا المشركين كافة) (التوبة: 36).
وفسّروا (الفتنة) الواردة في الآية الأولى بمعنى الشرك، أي قاتلوهم حتى لا يبقى شرك، وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام.
واستدلوا أيضًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمرتُ أن أُقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله...) (32) الحديث.
الفريق الآخر: وهم جمهور الباحثين من المعاصرين، وقلة من المتقدمين: يرى أن أصل العلاقة مع المخالفين هو السلم، وأما الحرب فهي أمر طارئ مستثنى.
وقالوا : إن على الدولة إعداد الدعاة وتأهيلهم، لبثهم في ديار المخالفين لنشر نعمة الله (الإسلام) بينهم، ودعمهم بكل ما يقتضيه العمل في حقل الدعوة، مع بقاء علاقات المسلمين بغيرهم على أساس الأمن والمسالمة، لا على أساس الحرب والقتال، إلا إذا أرادت دار الكفر بالدعاة سوءًا، لتفتنهم عن دينهم، وتصدهم عن الدعوة إليه، فعندئذ يجب قتالهم، لأن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية، ومن ثَمَّ فهي أشد من القتل، لأنه يجب أن تُتاح الفرص المعقولة لإفهام الجماهير ما تُدعى إليه.
ولا يجوز بدء الكافرين بقتال إلا في حالة اعتدائهم على الدين، أو على الدولة الإسلامية، أو في حالة نقضهم للعهود، أو لنصرة المستضعفين.
فالحرب ما هي إلا أداة لإزالة الطواغيت، التي تحول بين الناس وبين سماع الدعوة، والتي تريد الانفراد بالضمير البشري وتدّعي حق الألوهية وخصائصهـــا، ولتقريـر سلطــان الله في الأرض وكلمــة الله وعدلـــه. فالحرب إذن هي سياج لفكرة الحق والعدل، وعدم البغي والعدوان، التي ما فتئ القرآن يقررها في كل مناسبة (33).
يقول سيد قطب رحمه الله، عند قوله تعالى: (وَيَكُونَ الدِّينُ لله): (استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول، ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه، أو يستجيب له، وأن يبقى عليه. إنه الجهاد للعقيدة لحمايتها من الحصار، وحمايتها من الفتنة) (34).
واستدلوا على ذلك بما يلي: من القرآن قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) (البقرة: 190). وقوله تعالى : (لا إكراه في الدين) (البقرة: 256).
فأفادت أن وسائل القهر والإكراه، ليست من طرق الدعوة إلى الدين، لأن الدين أساسه الإيمان القلبي والاعتقاد، وهذا الأساس تكوّنه الحجة لا السيف.
وقوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) (الأنفال: 61).
وقالوا: إن المأثور المتواتر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الذين ساروا على هداه، أنهم لم يقاتلوا إلا الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين بدءاً، أو نكثًا بعد عهد.
ورد الفريق الأول بأن هذه الآيات منسوخة بآية السيف.
وقالوا: وقـد عمت الآية جميع المشركين، وعمت البقاع إلا ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة (35).
والحقيقة أن القول بالنسخ (36) فيه خلاف واسع بين الفقهاء والمفسرين، مع اتفاقهم على أن لا نسخ إلا بدليل (37).
فالقضية إذًا خلافية، والفيصل في ذلك سيرة النبي صلى الله عليه و سلم، وهديه في الغزو والجهاد.
يقول محمد عــزة دروزة رحمــه الله (38) : (مــن الثـابت أن النبــي صلى الله عليه و سلم لم يقاتل إلا الأعداء المعتدين، والناكثين لعهودهم) (39).
ويقول محمد أبو زهرة رحمه الله: (إن الإسلام ما سلَّ سيفًا على طالب حق، وما اعتدى على أحد، ولكن كان اعتداء غاشم، وكان ملوك أرهقوا رعاياهم، وضيّقوا عليهم، ومنعوهم من أن يصل إليهم نور الحق، وقتلوا مَن آمنوا بالحق الذي أدركوا، والدين الذي ارتضوا، فكان قانون التعاون أن يرد كيد الظلم، وأن يرفع عن تلك الشعوب المنكوبة بحكم الطغاة نير العبودية والاسترقاق، وقد كانت -أي الحرب- لذلك، وأن السكوت في هذه الحال ليس من التعاون، بل والحرب العادلة هي التعاون، لأنها منع للفتنة في الدين) (40).
قلت: هذا القول لا يخرج عن دائرة الصواب. فالناظر في سيرة النبي صلى الله عليه و سلم والمتمعن فيها، تتأكد في قرارة نفسه هذه المقـولة (41). فمشركــو قريش كانـــوا أشـــد الناس عـــداوة لمحمــد صلى الله عليه و سلم، فلم يتركوا وسيلة ولا سبيلاً يُضعفه أو يضعف من شأن دعوته بل يقضي عليه إلا سلكوه، بدءاً بتكذيبه في مكة واضطهاده مع أتباعه، وانتهاءً بغزوة الأحزاب، تلك الغــزوة التي حشــدت لهـــا قريش كـــل ما تملك، وجاءت بقَضِّها وقَضِيضِها، يؤازرها في ذلك مَنْ يواليها من القبائل العربية المشركة، ويتفق معها في العقيدة، بتحريض من أعداء الله يهود بني قريظة لوأد ذلك الحق الذي قلب الموازين، وغيّر نظام المجتمع السائد، وبعد أن انجلى الأحزاب عن المدينـــة، قــال النبي صلى الله عليه و سلم: (الآن نغزوهـــم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم) (42).. لماذا؟
لرد الاعتداء وظلم الظالمين، الذين ما برحوا يثيرون مخاوف المسلمين، ويفتنونهم عن دينهم بشتى صنوف التعذيب، ويخرجونهم من ديارهم، ويستولون على أموالهم!
وأما القبائل العربية الأخرى، فكانت منقسمة في ولائها بين فارس والروم، وقد بلغ تهديد تلك القبائل وتخويفهم للمسلمين مبلغه بتحريض من متبوعيهم.
اقرأ ما قاله عمر رضي الله عنه : (...وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبتُ أتاني بالخبر، وإذا غاب كنتُ آتيه بالخبر، ونحن نتخوّف ملكًا من ملوك غسان، ذُكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه...) (43).
وأما الفرس والروم، فيكفي منهما أنهما كانا يؤلبان القبائل التابعة لهما للقضاء على أي قوة، أو عقيدة تجمع الناس من جديد، وتنافسهم في المنطقة الموالية لهما للانفراد بالتسلط والسيطرة، ولم يكتفوا بذلك، بل إن (هرقل) أخذ يضطهد من أسلم من عرب الشام، ويقتلهم، وكان (كسرى) (قد أرسل من يأتي برأس الرسول الأمين) (44)، حين أرسل إليه كتابه يدعوه فيه إلى الإسلام، ورَفْعِ الحجب عن عقول وضمائر رعيته، بالإضافة إلى تهديدهما الفعلي للدولة الإسلامية.
وتكفي هذه الجرائم لتحمل الرسول صلى الله عليه و سلم وخلفاءه من بعده للخلاص من هاتين القوتين الباغيتين، اللتين وقفتا من الدعوة وأصحابها موقف الجبار العنيد، لما أصبح للمسلمين من قوة ضاربة قادرة على دك عروش القياصرة والأكاسرة.
فالحرب في الإسلام ليست هجومية لدك أبواب الكافرين، المسالمين منهم والمعاندين، والله سبحانه ما أراد إفناء الكفـار ولا خلقهـم ليُقتلوا كما قال ابن الصلاح.. وليست هي دفاعية تنتظر من يغزو ديار المسلمين، ثم تهب لتقاتلهم بعد أن يصبح زمام المعركة في يد المعتدين، وإنما هي دفاعية عن الإسلام ودعوته وأهله، تحريرية هجومية تهجم على مَـــن يقف في وجـــه الدعـــوة، بحسب مــا يقتضيـــه الموقــف، بلا بـغـــي ولا عدوان.
يقول صاحب كتاب : (علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى) : (وهذه الصلة القائمة -بين المسلمين والمخالفين- على العقيدة لتتخذ شكل منهج متكامل العناصر، ليواجه مختلف الاحتمالات بما يناسبها من عناصر هذا المنهج، وإن استخدامها ليدور مع مصلحـة الدعـوة وجودًا وعدمًا، فلا يعقل وصفها بأنها دفاعية أو هجومية، وإنما الوصف الملائم لها، أنها عنصر من عناصر المنهج الذي تواجه الدعوة به مختلف الاحتمالات والظروف) (45).
وكنت أتمنى على مَن كتب من المعاصرين عن دوافع الجهاد، واعتبره هجوميًا، وشنّع على المخالفين لمذهبه تشنيعًا قاسيًا عنيفًا -أخرجه من دائرة الباحث المنصف الملتزم بأخلاقيات وآداب البحث العلمي- واعترض عليهم بأنهم لم يعولوا على تفاسير السلف الصالح للآيات المتعلقة بالقتال وأحكامه، التي احتجوا بها، تمنيت على هؤلاء المعترضين أن لو اطلعوا على تفسير الطبري، الذي هو قِبلة المفسرين من بعده وشيخهم، وهم عيال عليه في هذا الفن، وتفسيره تفسير بالمأثور، وهو أسبق من تفسير ابن كثير والشوكاني وغيرهم، من الذين اعتمد عليهم القائلون بأن الجهاد في الإسلام للهجوم، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى(46).
المبحث الثالث : أقسام ديار غير المسلمين بحسب موقفهم من الإسلام وأهلـه: جرت عادة فقهائنا الأقدمين على تقسيم الدنيا إلى دارين رئيسين هما : دار الإسلام ودار الكفر. واشتقوا وصف كل دار من عقيدة أهلها، وطبيعة النظم السياسية الحاكمة، والقواعد القانونية المسيطرة فيها.
وتأسيسًا على هذا الاعتبار سُميت بلاد غير المسلمين بدار الكفر.
فماذا قال فقهاؤنا في تعريفها، وما هي أقسامها؟ قالوا : (هي الدار التي تكون فيها الغلبة لغير المسلمين، أو التي تظهر أحكام الكفر، ولا يمكن إظهار أحكام الإسلام فيها) (47).
ودار الكفر تنقسم إلى دارين : دار حرب، ودار عهد.
أولاً : دار الحرب : (هي الدار التي يكون بينها وبين ديار المسلمين حرب قائمة أو متوقعة، ولا يربطنا معها عهد ولا صلح).
فهذه الدار ليست في حالة سلم مع المسلمين بسبب موقفها العدائي الصارخ، كاعتداء عسكري فعلي، أو صد عن دين الله، أو عدوان على الدعاة، أو إعانة من يحاربنا ويسلب أرضنا، وما شابه ذلك.
ومن هنا أوجب الله على المؤمنين اتخاذ الحيطة والحذر للذَود عن حِياض الإسلام وأهله في أي بقعة من بقاعه، التي تتحدد بوجوده فيها، فنظـــرة الشعــوب غيــر المسلمــة إلى هـــذا الـدين وأتباعـــه، نظرة عدائية ماكرة حاقدة. ودار الحرب دار إباحة بإجماع الفقهاء (48).
ثانيًا : دار العهد: الفرع الأول : تعريف المعاهدة: المعاهدة هي موادعة المسلمين وأهل الحرب مدة معلومة على ترك القتال -بعوض وبغير عوض- وعلى شروط يلتزمونها(49).
وأجمع الفقهاء على أن أهل الهدنة هم الذين صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم -سواء أكان الصلح على مال أو بدونه- لا تجري عليهم أحكام الإسلام كمــا تجــري على أهل الذمــة، لكن عليهم الكـف عــن محاربــة المسلمين، وهؤلاء يسمــون أهــل العهــــد، وأهــل الصلــح، وأهل الهدنة (50).
وعلــى هـــذا التعريــف، فلا تعتبـــر دار العـهـــد مــن دار الإسـلام إذا لم يستول المسلمون عليها ويتمكنوا من إقامة شعائر دينهم فيها باتفاق (51)، سواء أكان الاستيلاء قد تمّ عنوة وقهرًا أم صلحًا، وسواء أكان الصلح على أن تبقى الأرضون لنا أم لهم، مقابل خراج (52) أو جزية (53)، وتبقى من دار الكفر لعدم التزام حكم الإسلام فيها، ولعدم ظهوره.
وإذا ما تحققت شروط الصلح وتوفرت أصوله العامة، فحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء بكل الالتزامات والعهود، وعلى هذا إجماع العلماء(54).
ومن شرط الوفاء بالعهد، محافظة العدو -المعاهد لنا- عليه بحذافيره من نص القول وفحواه ولحنه المعبر عنهما في هذا العصر بروحه (55). قـال تعـالـى : (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) (التوبة : 7).. وهنا يجب التنبه إلى نقطة هامة وبالغة الخطورة، قد يغفل عنها بعض الباحثين هي : فمع وجوب مراعاة العهود والاستقامة عليها، فإنه يلزم الإمام الحيطة والحذر والترقب الدائم لحركات العدو المعاهد، ورصد سلوكياته، وعدم أمن جانبه وترك الثغـور رهوًا. إن الحقد لا ينمحي بمجرد حبر على ورق، وهم لا يرقبون فينا إلاًّ ولا ذمة، فيحرم علينا أن نترك الإعداد لمجرد العهد، فيطمع فينا كل وضيع وحقير، وخاصة أننا مستهدفون بالقتل والرد عن الدين، قال تعالى : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) (البقرة : 217).
الفرع الثاني : موجبات عقد الموادعة والأمان : قال المفكر السياسي الإسلامي الماوردي : (وعقد الهدنة موجب لثلاثة أمور)(56) :
الأول : الموادعة في الظاهر : وهو الكف عن القتال، وترك التعرض للنفوس والأموال.. (وقد أجمع الفقهاء على أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان، أو بموادعة، حرم تعرضه لشيء من دمٍ ومالٍ وفرجٍ منهم، إذ المسلمون على شروطهم) (57).
والمعروف أن الدول اليوم لا تمنح أي راغب في دخول أراضيها تأشيرة دخول إلا على أن يلتزم بدساتيرها وقوانينها العامة التي تقضي بتحريم السرقة والغش وأكل أموال الآخرين بالباطل والاعتداء وما شابه ذلك، وهذا العرف مقارن لحصول الشيء بل سابق عليه.
(وحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء به ولو لمشرك، ما لم يتضمن شرطًا فاسدًا فيه معصية لله) (58)، وعليه يحرم كذلك قتل نفوسهم، أو إزهاق أرواحهم أو خطفهم والتنكيل بهم، عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذي هو (قاعدة العبادة لله وتقواه) (59).
الثاني(60) : (ترك الخيانة في الباطن، وهو ألا يُسِرُّوا بفعل ما ينقض الهدنة لو أظهروه، وهذا يستوي الفريقان في التزامه).
الثالث : المجاملة في الأقوال والأفعال، فعليهم أن يكفوا عن القبيح من القول أو الفعل، ويبذلوا للمسلمين (أحسن) القول والفعل، ولهم علينا الأول (القول) دون الثاني (الفعل) أ.هـ.
قلت : مجاملة المعاهدين لنا بالأفعال لا يوجد في الشرع ما يمنعه، بل قد يكون دافعًا لتقبل الإسلام لدى الكثيرين واعتناقه، وهذا هو غاية الجهاد الأولى في الإسلام(61). |
|