الباب الأول
مقدمة في ذكر أمور يحتاج إليها في علم الأنساب ومعرفة القبائل.
وهي خمسة فصول:
الفصل الأول في فضل علم الأنساب وفائدته ومسيس الحاجة إليه:
لا خفاء أن المعرفة بعلم الأنساب من الأمور المطلوبة والمعارف المندوبة لما يترتب عليها من الأحكام الشرعية والمعالم الدينية فقد وردت الشريعة المطهرة باعتبارها في مواضع.
منها:
العلم بنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه النبي القرشي الهاشمي الذي كان بمكة وهاجر منها إلى المدينة فإنه لابد لصحة الإيمان من معرفة ذلك ولا يُعذر مسلم في الجهل به وناهيك بذلك.
ومنها:
التعارف بين الناس حتى لا يعتزي أحد إلى غير آبائه ولا ينتسب إلى سوى أجداده وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا"، وعلى ذلك تترتب أحكام الورثة فيحجب بعضهم بعضًا وأحكام الأولياء في النكاح فيقدم بعضهم على بعض واحكام الوقف إذا خص الواقف بعض الأقارب أوبعض الطبقات دون بعض وأحكام العاقلة في الدية حتى تضرب الدية على بعض العصبة دون بعض وما يجري مجرى ذلك فلولا معرفة الانساب لفات ادراك هذه الامور وتعذر الوصول اليها.
ومنها:
اعتبار النسب في الامامة التي هي الزعامة العظمى وقد حكى الماوردي في الاحكام السلطانية الاجماع على كون الامام قرشيا ثم قال: ولا اعتبار بضرار حيث شد فجوزها في جميع الناس فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأئمة من قريش ولذلك لما اجتمع الانصار يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة وأرادوا مبايعة سعد بن عبادة الأنصاري احتج عليهم الصديق رضي الله تعالى عنه بهذا الحديث فرجعوا إليه وبايعوه وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: قدموا قريشاً ولا تتقدموها.
قال أصحابنا الشافعية:
فان لم يوجد قرشي اعتبر كون الإمام كنانيًا من ولد كنانيا من ولد كنانة بن خزيمة فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسماعيل عليه السلام فإن تعذر اعتبر كونه من إسحاق فان تعذر اعتبر كونه من جرهم لشرفهم بصهارة إسماعيل بل قد نصوا أن الهاشمي أولى بالإمامة من غيره من قريش.
فلولا المعرفة بعلم النسب لفاتت معرفة هذه القبائل وتعذر حكم الإمامة العظمى التي بها عموم صلاح الأمة وحماية البيضة وكف الفتنة وغير ذلك من المصالح.
ومنها:
اعتبار النسب في كفاءة الزوج للزوجة في النكاح عند الشافعي رضي الله عنه حتى لا يكافئ الهاشمية والمطلبية غيرها من قريش ولا يكافئ القرشية غيرها من العرب ممَّن ليس بقرشي وفي الكنانية وجهان أصحهما أنه لا يكافئها غيرها ممن ليس بكناني ولا قرشي وفي اعتبار النسب في العجم أيضًا وجهان أصحهما الاعتبار فاذا لم يعرف النسب تعذرت معرفة هذه الاحكام ومنها مراعاة النسب الشريف في المرأة المنكوحة.
فقد اثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"تنكح المرأة لأربع لدينها وحسبها ومالها وجمالها" فراعى صلى الله عليه وسلم ومنها: التفريق بين جريان الرق على العجم دون العرب على مذهب يرى ذلك من العلماء وهو أحد القولين للشافعي رضي الله عنه فاذا لم يعرف النسب تعذر عليه ذلك إلى غير ذلك من الأحكام الجارية هذا المجرى وقد ذهب كثر من الأئمة المحدثين والفقهاء كالبخاري وابن اسحاق والطبري إلى جواز الرفع في الأنساب احتجاجًا بعمل السلف فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه في علم النسب بالمقام الأرفع والجانب الأعلى وذلك أول دليل وأعظم شاهد على شرف هذا العلم وجلالة قدره وقد حكى صاحب الريحان والريعان عن أبي سليمان الخطابي رحمه الله أنه قال: كان أبو بكر رضي الله عنه نسابة فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فوقف على قوم من ربيعة فقال: ممَّن القوم.
قالوا: من ربيعة.
قال: وأي ربيعة أنتم أمن هامتها أم من لهازمها قالوا: بل من هامتها العظمى.
قال أبو بكر: ومن أيها.
قالوا: من ذهل الأكبر.
قال أبو بكر: فمنكم عوف الذي يقال له لا حر بوادي عوف.
قالوا: لا.
قال: أفمنكم بسطام بن قيس ذو اللواء أبو القرى ومنتهى الاحياء.
قالوا: لا.
قال: أفمنكم الحوفزان "الحارث بن ئريك" قاتل الملوك وسالبها نعمها وأنفسها؟
قالوا لا.
قال: أفمنكم المزدلف "ابن أبي ربيعة ابن ذهل بن شيبان" الحر صاحب العمامة الفردة.
قالوا: لا.
قال: أفمنكم الملوك من كندة.
قالوا: لا.
قال: أفمنكم أصهار الملوك؟
فقام إليه غلام من شيبان يقال له دغفل وقد بقل وجهه فقال: إن على سائلنا أن نسأله والعبء لا تعرفه أو تحمله يا هذا إنك قد سألت فأخبرناك ولم نكتمك شيئًا من خبرنا فممَّن الرجل قال أبو بكر: أنا من قريش.
قال بخ بخ أهل الشرف والرئاسة.
فمن أي القرشيين أنت قال: من ولد تيم بن مرة.
قال الفتى: امكنت والله الرامي من صفاء الثغرة.
أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر وكان يدعى مجمعًا قال: لا.
قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه قال: لا.
قال: أفمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الذي كأن وجهه قمر يضيء في الليلة الظلماء قال لا.
قال أفمن المفيضين بالناس أنت قال: لا.
قال: أفمن أهل الندوة أنت قال: لا.
قال: أفمن أهل السقاية أنت قال: لا.
قال: أفمن أهل الرفادة أنت قال: لا.
قال: أفمن أهل الحجاجة أنت! قال: لا.
واجتذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الفتى: صادف درأ السيل درأ يدفعه يهيضه حينًا وحينًا يصدعه أما والله يا أخا قريش لو ثبت لاخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب أو ما أنا بدغفل.
قال: فاخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبسم.
فقال علي رضي الله عنه يا أبا بكر لقد وقعت من الغلام الأعرابي على باقعة.
قال أجل يا أبا الحسن: ما من طامة إلا وفوقها طامة وإن البلاء موكل بالمنطق.
ودغفل هذا هو دغفل بن حنظلة النسابة الذي يضرب به المثل في النسب وقد كان له معرفة بالنجوم وغيرها أيضًا من علوم العرب.
قدم مرة على معاوية إبن أبي سفيان في خلافته فاختبره فوجده رجلًا عالمًا فقال: بم نلت هذا يا دغفل.
قال: بقلب عقول ولسان سؤول وآفة العلم النسيان.
فقال اذهب إلى يزيد فعلمه النسب والنجوم.
وقد ذكر أبو عبيدة أن ممَّن يقاربه في العلم بالأنساب من العرب زيد ابن الكيس النمري من بني عوف بن سعد بن تغلب ابن وائل وفيه دغفل المقدم ذكره.
يقول مسكين بن عامر الشاعر:
فحــــكم دغفلاً وارحل إليه ولا تدع المطي من الكلال
أو ابن الكيس النمري زيدًا ولو أمسى بمنخرق الشمال.
وممن كان مقدماً في النسب من العرب النجار بن أوس بن الحارث بن سعيد ابن هذيم العذري من قضاعة، فقد قال أبو عبيدة: أنه أنسب العرب.
وقد صنف في علم الأنساب جماعة من جملة العلماء وأعيانهم كأبي عبيدة والبيهقي وابن عبد البر وابن هرم وغيرهم وهو دليل شرفه ورفعة قدره.
يتبع إن شاء الله...