أسس العلاقة بين معاني القرآن بتعدد القراءات عند ابن الجزري
د. غسان عبد السلام حمدون
كلية التربية - جامعة صنعاء
-------------------------
أ. المقدمة:
عاب القرآن المنافقين الذين يُعرضون عن التدبر والتفكر فيه وفي معانيه فقال سبحانه: ((أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)) أي تفاوتاً وتناقضاً.
لا يوجد التفاوت والتناقض في القرآن لأنه من الله الذي يبصر ويعلم كل ما بالكون والحياة والانسان، فالقرآن لا يعطي حكمه لجزء من هذا الكون بحيث يتناسى أوينسى الأجزاء الأخرى، ولا يعطي حكمه لجزء في نفس الإنسان ويترك الأجزاء الأخرى منه.
إن سمة التناقض والاختلاف تبدو في كثير من الأحيان في بعض أعمال الأديب أو المفكر أو الفنان أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي ؛ لنظرته المحدودة في اختصاصه دون أن ينظر إلى اختصاصات غيره ودون أن ينظر نظرة متكاملة إلى الإنسان والكون والحياة، من هنا نشأ كثير من الخلل فلا توازن فاختلّ القرار والنتيجة وظهر الاختلاف والتناقض...
إن التوازن أمر واضح في هذا الكون فالمجرات في نفسها ومع بعضها متوازنة، فنتج عنه النظام المتكامل في كل أجرام الكون.
والحياة الإنسانية ينبغي أن تسير على الناموس الذي يحكم الكون فيتوازن الإنسان في نفسه ومع أخيه الإنسان ومع الكون والحياة.
تتوازن حقوق الزوجة مع حقوق الزوج، وتتوازن حقوق الولد مع حقوق الوالدين، وتتوازن مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع، وتتوازن الدوافع المادية مع الدوافع الروحية، وتتوازن مصالح الجيل الحاضر مع مصالح الأجيال القادمة، وتتوازن مصلحة القوم مع مصلحة الأقوام... ويتوازن الإنسان مع البشرية...، ثم يتوازن كل شيء في حياة الناس مع الكون والحياة.
ولن يأتي منهج هذا التوازن إلا بعلم حقيقي عن الكون والحياة والإنسان، والله سبحانه وتعالى الذي خلق الكون والحياة والإنسان قادر على إبداع منهج هذا التوازن... لأنه العالم الخالق قال عزوجل: ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)).
((يا أيها الإنسان ماغرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركَّبك)).
من هنا لا ينشأ التناقض والاختلاف في القرآن لأنه من الله الذي خلق وعلم وأبدع ما في الكون والحياة والإنسان.
من خلال كل ذلك علينا أن ننطلق لكي نستنير بقول الله جل جلاله: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)).
ب. اختلاف ألفاظ القراءات ليس تناقضاً:
ولابد هنا من التنويه بحقيقة رئيسة هي أنه لايعتبر من التناقض والتفاوت في القرآن تعدد ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال ومقادير السُّور والآيات لأن هذا التعدد لا يؤدي إلى خلل التوازن في منهج الله سبحانه للإنسان الذي أنزل هذا الكتاب من أجله، وتعدد القراءات المتواترة يرجع إلى تعددها من منزلها وهو الله الحكيم ثم عن جبريل عليه السلام ثم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم عن الصحابة رضوان الله عليهم، ثم كثرت الفتوحات وتفرق الصحابة –رضوان الله عليهم- في الأمصار ولَقّنوا التابعين القرآن على حسب ما تلقنوا من قراءات ثم لقن التابعون تابعيهم وهكذا... فانتشرت القراءات في العالم الإسلامي.
ج. قراء مشهورون جامعون:
ظهر في العالم الإسلامي قراء جهابذة حاولوا أن يجمعوا هذه القراءات مشافهة وكتابة! وكان من أهم هؤلاء القراء وأوسعهم شهرة أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ، ثم أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد المتوفى سنة 324هـ، وكان منهم أخيراً الإمام الحافظ أبو الخير محمد بن محمد بن محمد الجزري الدمشقي الشهير بابن الجزري المتوفى سنة 833هـ بمدينة شيراز في إيران.
حاول ابن الجزري أن يأخذ كل القراءات المتحدرة بالسند عن الصحابة رضوان الله عليهم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في العالم الإسلامي كله، فقرأ على شيوخه بالسند ثلاثة وستين كتاباً بالقراءات، وقد حوى كتابه ثمانين طريقاً غير ما فيه من فوائد وفرائد كثيرة. فكان لهذا -رحمه الله تعالى- أكبر جامع وحافظ للقراءات العشر المتواترة في التاريخ الإسلامي بالسند إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
د. أسس العلاقة بين معاني القرآن بتعدد القراءات:
ولم يقتصر ابن الجزري على النظر في تعدد القراءات العشر المتواترة بل مد بصره إلى المعنى وذلك بتحديد أسس العلاقة بين معاني القرآن الكريم بتعدد القراءات للكلمة الواحدة المرسومة بالرسم العثماني، فقال رحمه الله تعالى: ((وقد تدبرنا اختلاف القراءات كلها فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها- اختلاف اللفظ والمعنى واحد.
الثاني- اختلافهما جميعاً مع جواز اجتماعهما في شيء واحد.
الثالث- اختلافهما جميعاً مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد، بل يتفقان من وجه آخر لايقتضي التضاد)).
ونحن أمام هذه الأسس لمعاني القراءات عند تعددها لابد لنا أن نبينها ونوضح بعض الأمثلة عنها:
أولاً- ((اختلاف اللفظ والمعنى واحد)).
• سبب اختلاف اللفظ في الأساس الأول:
لقد أشار ابن الجزري رحمه الله تعالى إلى أن هذا الاختلاف يطلق عليه أنه لغات فقط، وقد جاء عن أبي بكر الواسطي في كتاب (الإرشاد في القراءات العشر) ما يشير إلى أن لغات العرب في القرآن هي اثنتان وأربعون لغة وهي: لغة قريش وهذيل وكنانة وخثعم والخزرج وأشعر ونمير وقيس عيلان وجرهم واليمن وأزدشنوءة وكندة وتميم وحمير ومدين ولخم وسعد العشيرة وحضرموت وسدوس والعمالقة وأنمار وغسان ومذحج وخزاعة وغطفان وسبأ وعمان وبنو حنيفة وثلعب وطي وعامر بن صعصعة وأوس ومزينة وثقيف وجذام وبلى وعذرة وهوازن والنمر واليمامة.
لكنا نقول ليس للقارئ أن يقرأ القرآن على أي لغة يريدها من هذه اللغات العربية بل عليه أن يتقيد بالسماع والرواية ، بل وبأركان القراءة الصحيحة ومنها صحة السند في هذه القراءة كما سيمر في كلامنا عن أركان القراءة الصحيحة.
ولغات العرب هي لهجاتهم وأما أصل اللغة فواحد، قال الدكتور حسن ضياء الدين العتر: ((ولقد أسمى علماء اللغة الإسلاميون هذه اللهجات لغات تجوزاً وألفوا فيها كتباً عرفت بـ (كتب اللغات) وتسمى هذه اللغات في اصطلاح علماء اللغة المعاصرين (لهجات) واللهجة عند المتقدمين فرع من فروع لغة واحدة لها مجموع من الصفات اللغوية تتميز بها من أهمها الأصوات وطبيعتها وكيفية صدورها كالاختلاف في المد والتفخيم والترقيق...
واللهجة أخص من اللغة لأنها جزء من كل وعضو من جسم واللغة مجموعة لهجات.
لكنّا نؤثر هنا اتباع اصطلاح علماء الاسلام لصلة الموضوع الوثيقة بنصوصهم، فنقول إن اللسان العربي يتألف من عدة لغات، بدل أن نقول عدة لهجات.
ولعل الإسلاميين عمدوا إلى استعمال لفظ اللغة بدل اللهجة لأنها أكثر شمولاً، إذ اللهجة قاصرة على صور أداء اللفظ وكيفياته كالإظهار والإدغام والفتح والإمالة... الخ)).
وإليك مثالاً عن اختلاف العرب في لهجاتهم قال ابن جنّي:
((رويتُ عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في الصَّقر فقال أحدهما: الصقر بالصاد، وقال الآخر: السَّقر بالسين، فتراضيا بأول وارد عليهما، فحكيا له ماهما فيه فقال: لا أقولُ كما قلتما، إنما هو الزَّقر)).
• أركان القراءة الصحيحة:
كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها.
ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمّن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف إلى الخلف.
• اختلاف القراء واختلاف الفقهاء:
قبل أن نذكر اختلاف القراء في الأساس الأول لابد لنا أن نبين أن اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية الفرعية ليس كاختلاف القراء في القراءات، فإن اختلاف القراء كل حق وصواب نزل من عند الله تعالى وهو كلامه لاشك فيه، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي والحق في نفس الأمر فيه واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة للأخرى حق وصواب -في حال تحقق أركان القراءة الصحيحة- في نفس الأمر نقطع بذلك ونؤمن به.
ذكر ابن الجزري أمثلة على الأساس الأول وهي:
أ - كلمة ((الصراط)):
((الصراط)) هذه الكلمة تقرأ بعدة قراءات وقد بّينها ابن زنجلة بقوله: ((قرأ ابن كثير (السراط) و(سراطَ) بالسين وحجته في أن السين الأصل، ولا ينقل عن الأصل إلى ما ليس بأصل، وروي أن ابن عباس كان يقرؤها بالسين.
وقرأ حمزة بإشمام الزاي، وقرأ الباقون بالصاد وحجتهم أنها كتبت في جميع المصاحف بالصاد، قال الكسائي: هما لغتان)).
ب – كلمة ((عليهم)):
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: ((وفي ((عليْهم)) عشر لغات ؛ ((عليْهُمْ)) بضم الهاء وإسكان الميم.
و((عليهِمْ)) بكسر الهاء وإسكان الميم.
و ((عليْهِمِي)) بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد كسرة.
و((عليهِمُو)) بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة.
و ((عليهُمُو)) بضم الهاء والميم كليهما وإدخال واو بعد الميم.
و ((عليهُمُ)) بضم الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القراء.
وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القراء..)).
ولا اختلاف بالمعنى في هذه القراءات فهي لغات فقط وهذا ما ذهب إليه ابن الجزري كما مرّ.
ج – كلمة: ((يؤده)):
قال ابن زنجلة: ((قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر: ((يؤَدِّهْ إليك)) و ((لا يؤدهْ إليك)) بسكون الهاء، وحجتهم أن من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها فيقول: (ضربتهْ ضرباً شديداً) فينزلون الهاء إذا سكنوها، وأصلها الرفع بمنزلة (أنتمْ) و (رأيتهمْ) إذا سكنوا الميم فيها وأصلها الرفع ولم يصلوها بواو، فلذلك أجريت الهاء مجرى الميم في (أنتم).
وقرأ الباقون: ((يؤدّهي إليك)) و((لا يؤدهي إليك)) يصلون بياء في اللفظ وحجتهم أن الياء بدلاً من الواو، وأصلها (يؤدهو إليك) لكن قلب الواو ياء لانكسار ما قبلها، فلا سبيل إلى حذف الياء وهي بدل من الواو.
قرأ نافع في رواية عن الحلواني: ((يؤدِّه)) بالاختلاس. وحجته أن الكسرة تدل على الياء وتنوب عنها)).
د – كلمة ((القدس)):
قال ابن أبي مريم: ((القدْس)) ساكنة الدال، قرأها ابن كثير وحده في جميع القرآن، ووجهه أن القدْس والقدُس لغتان، وهو الطهارة، والقدْس بإسكان الدال مخففة من القدُس بضم الدال.
وقرأ الباقون ((القدُس)) مضمومة الدال وقد ذكرنا أن التخفيف والتثقيل في هذه الكلمة لغتان، والتثقيل هو الأصل، فأجراها هؤلاء على الأصل)) ولا اختلاف بالمعنى في هاتين القراءتين بل المعنى واحد فيهما لقوله ((.. لغتان وهو الطهارة)).
أمثلة أخرى:
وبعد ذكر أمثلة ابن الجزري نود تأكيد هذه القاعدة بأمثلة أخرى لم يذكرها رحمه الله تعالى لنبين أن الأمر ليس محصوراً بأمثلته فنقول ما يلي:
أ – ومن ذلك قوله عزوجل: ((وتخرج الحي من الميِّت وتخرج الميِّت من الحي)) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة بتخفيف الياء في ((الميت)) معاً ساكنة، وقرأ الباقون بتشديدها مكسورة.
قال ابن زنجلة في هذا: ((أصل الكلمة (مَيْوِت) على (فَيْعِل) فقلبوا الواو ياءً للياء التي قبلها فصارت (مْييتاً).
فمن قرأ بالتخفيف فإنه استثقل تشديد الياء مع كسرها فأسكنها فصارت (ميْتاً)، وزنه (فَيْلٌ)، ومن قرأ بالتشديد فإن التشديد هو الأصل، وذلك أن في الأصل (مَيْوِت) فاستثقلوا كسرة الواو بعد الياء فقلبوها ياءً للياء التي قبلها، ثم أدغموا الساكنة في الثاني فصارتا ياءً مشددة، واعلم أنهما لغتان معروفتان.
قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميْتٍ
إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياءِ
قال أبو حيان الأندلسي في القراءتين:
((ولا فرق بين التشديد والتخفيف في الاستعمال كما تقول: ليْن وليّن، وهيْن وهيّن، ومن زعم أن المخفف لما قد مات والمشدد لما قد مات ولمّا يمت فيحتاج إلى دليل)) من كل هذا نعلم أن القراءتين تعطيان معنى واحداً في كلام العرب.
ب - قال الله تعالى: ((أم تسألهم خرجاً فخرْج ربك خير وهو خير الرازقين)) بغير ألف فيهما هكذا قرأها ابن عامر.
وقرأها حمزة والكسائي وخلف ((خراجاً فخراج ربك)) بالألف فيهما وقرأ الباقون ((خرجاً فخراج ربك)) بغير ألف في الأول، وبألف في الثاني.
قال ابن أبي مريم في حجة القراءة الأولى:
والوجه أن الخَرْج هو الأجْرُ والجُعْلُ.
وعن أبي عبيدة:
الخَرْجُ ما يُؤدّيه العبد من الغَلَّةِ، وما يؤديه الرعية إلى الأمير، الخَرْجُ والخراج أيضاً.
وعلى هذا قالوا: إن الخَرْج يقع على الضريبة التي تكون على الأرضين وعلى الجزية.
وقيل: الخَرْج ما تخرجه إلى غيرك وإن لم يكن ضريبة، والمعنى:
أم تسألهم شيئاً يخرجونه إليك من مالهم فما نجعله لك من الرزق وقيل من الثواب، خير لك)).
وقال في القراءة الثانية:
((والوجه أنه في معنى الأول وهو الأجر أو الجُعل وما يُجعل من المال للغير على أن الخراج لما يضرب على الأرضين أكثر)).
وقال في القراءة الثالثة:
((والوجه أنه لما كانت اللغتان لمعنىً واحدٍ، أراد هؤلاء الأخذ باللغتين)).
ثانياً: ((اختلاف اللفظ والمعنى جميعاً في القراءات مع جواز اجتماعهما في شيء واحد)).
والمقصود بهذا جواز اجتماعهما بأمر مشترك في المعنى للقراءتين المختلفتين باللفظ.
ذكر ابن الجزري أمثلة على الأساس الثاني وهي:
أ - قوله: (وأما الثاني فنحو ((مالك))، ((مَلكِ)) في الفاتحة لأن المراد في القراءتين هو الله تعالى لأنه مالك يوم الدين وملكه).
وهكذا بين ابن الجزري أن الموصوف هو الله تعالى على القراءتين فوقع الاشتراك، وهناك اشتراك آخر في المعنى بين ((مالِكِ)) و ((مَلِكِ).
فقد قال ابن زنجلة رحمه الله عزوجل:
((وحجة من قرأ (مالك) هي أن (مالكاً) يحوي المُلك ويشتمل عليه ويصير (المُلك) مملوكاً لقوله جل وعز: (قل اللهم مالك المُلك) فقد جعل (المُلك) للمالك، فصار (مالك) أمدح وإن كان يشتمل على ما يشتمل عليه (المُلك) وعلى مِلكه، سوى مايتلوه من زيادة (الألف) التي هي حسنة قد ضمن عنها عشر حسنات)).
ومما قال ابن أبي مريم في حجة (ملِك): ((إن مَلِكاً أبلغ في المدح، والآية إنما نزلت في المدح بدلالة ما قبلها، والربوبية والملك متشابهان ولايكون مَلِكاً حتى يكون مالكاً لكثير من الأشياء، والمعنى المَلِك في يوم الدين))، وما دام الملِك مالكاً فقد وقع الاشتراك في المعنى.
ب – قوله: ((يَكْذِبون)) و((يُكذّبون)) لأن المراد بهما المنافقون لأنهم يُكذّبون بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ويَكذِبون في أخبارهم)).
قال ابن زنجلة موضحاً حجة كل من القراءتين:
((قرأ عاصم وحمزة والكسائي: ((بما كانوا يَكذِبون)) بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد من (كذّب يكذِّب تكذِيباً) أي أنهم يُكذِّبون النبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن وحجتهم ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إنما عوتبوا على التكذيب لا على الكذِب).
وفي التنزيل ما يدل على التثقيل: (ولقد كذبت رسل من قبلك).
وحجة أخرى:
أن وصفهم بالتكذيب أبلغ في الذم من وصفهم بالكذب، لأن كل مكذب كاذب، وليس كل كاذب مكذباً.
وحجة التخفيف أن ذلك أشبه ما قبل الكلمة وما بعدها، فالذي قبلها مما يدل على الكذب: ((ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر..)) وقال الله تعالى: ((ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون))، وما بعدها قوله: ((وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم)).
فقوله:
((وإذا خلوا إلى شياطينهم)) دلالة على كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم، وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده فهو الأولى)).
ج – قوله: ((وكذا ((كيف ننشرها)) بالراء والزاي لأن المراد بهما هي العظام وذلك أن الله أنشرها أي أحياها، وأنشزها أي رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت فضمن الله تعالى المعنيين في القراءتين)).
قال ابن أبي مريم: ((ننشرها)) بالراء وضم النون، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب. ومعنى ذلك: نحييها، من قولهم: أنشر الله الميت فنَشَرَ هو، قال الله تعالى: ((ثم إذا شاء أنشره)).
وقرأ الباقون ((ننشزها)) بالزاي وضم النون أيضاً، على أنه من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، أي يجعل بعضها ناشزة إلى بعض عند الإحياء، أي مرتفعة)).
• مثال آخر:
وهناك مثال آخر نذكره لنؤكد فيه ما قال ابن الجزري، فيتبين أن الأمر ليس محصوراً بأمثلته فنقول ما يلي:
* قال الله تعالى: ((لايسمعون فيها لغواً ولا كذاباً)) قرأ الكسائي ((ولا كِذَاباً)) خفف الكسائي الذال وأما الباقون فقد شددوها.
ومما قال ابن زنجلة في حجة قراءة التشديد: ((هو مصدر (كذّب يكذِّب كِذَّاباً) وأصل مصدر (فعَّلت) إنما هو فِعّال، لأنك إذا جاوزت الثلاثة من الأفعال بالزيادة فوزن المصدر على وزن الفعل الماضي بزيادة الألف في المصدر قبل آخره، وذلك نحو: أكرمت إكراماً وانطلقت انطلاقاً.
فأصل مصدر (فعَّلْت) إنما هو (فِعَّال)، فمن (كذَّبته): كِذَّاباً، وكلَّمته كِلاّماً.
قال سيبويه:
قوله (كلمته تكليماً وسلَّمته تسليماً وكذّبته تكذيباً) إنما كرهوا التضعيف، فالتاء عوض من التضعيف، والياء التي قبل الآخر كالألف في قوله (كِذّابا)، وحجتهم إجماع الجميع على قوله: ((وكذَّبوا بآياتنا كِذَّاباً)) فردُّ ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه أولى.
فأما (الكِذاب) بالتخفيف فهو مصدر (كذب كِذاباً) مثل: كتبه كتاباً وحسبه حساباً، كذا قال الخليل.
قال الأعشى:
فصدَقْتُهُمْ وكذبْتُهُمْ
والمرءُ ينفعه كِذابُه
إن من نعمة الله عز وجل على المتقين في الجنة ألا يكذبهم أَحَدٌ من الناس تكذيباً كما فعل بهم الكفار في الدنيا فقد كذّبوهم في صدقهم عن الحق في دعوة الإسلام وصدق محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد أراحهم الله من هذا التكذيب.
وتكذيب المؤمنين فيما سبق هو كذب في حد ذاته، فمن كذَّب صادقا فقد كذب، وهنا يقع الاشتراك بين التكذيب والكذب مع أن الكذب أشمل، فقد بينت الآية أن أهل الجنة لايسمعون كذباً البتة، وهذا سواء في التكذيب أو الكذب، وبهذا يكون هنا اشتراك بين الكِذَّاب والكِذاب ولكن الكِذاب وهو الكذب أشمل من الكِذَّاب وهو التكذيب.
ثالثاً: ((اختلافهما جميعاً مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد بل يتفقان من وجه آخر لا يقتضي التضاد)).
فابن الجزري -رحمه الله تعالى- في هذا الأساس يمنع اجتماع المعنى في القراءتين بقوله: ((مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد))، وأما قوله: ((بل يتفقان من وجه آخر لا يقتضي التضاد)) فإنه لم يشر إلى بيان هذا في الأمثلة رحمه الله تعالى.
أمثلة ابن الجزري:
وإليك الأمثلة التي عرضها ابن الجزري كلها في هذا الأساس ودراسة هذه الأمثلة في اتفاقها واختلافها مع الأساس الذي عرضه مع تصورنا للوجه الآخر الذي لايقتضي التضاد.
أ- قال الله تعالى في كتابه العزيز:
((حتى إذا استيأس الرُسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنُجِّيَ من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين)) قرأ أبو جعفر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف ((قد كُذِبُوا)) خفيفة الذال، وقرأ الباقون ((قد كُذِّ بُوا)) مشددة الذال.
يقول ابن الجزري:
((فأما وجه تشديد ((كذِّبوا)) فالمعنى وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم، ووجه التخفيف توهم المرسَل إليهم أن الرسل قد كَذَبوهم فيما أخبروهم به، فالظن في الأولى يقين والضمائر الثلاثة للرسل، والظن في القراءة الثانية شك والضمائر الثلاثة للمرسَل إليهم)).
لقد ذهب الآلوسي إلى أن الظن كان من الرسل في حالة تخفيف ((كُذِبوا)) في القول الراجح لأدلته والله أعلم إذ قال رحمه الله تعالى: ((الضمائر الثلاثة للرسل والظن بمعنى التوهم لا بمعناه الأصلي ولا بمعناه المجازي أعني اليقين، وفاعل ((كذبوا)) المقدر إما أنفسهم أورجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون أو كذبهم رجاؤهم النصر والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لانصر لهم في الدنيا (جاءهم نصرنا).
والظن هنا ما يخطر بالبال ويهجس بالقلب من شُبَه الوسوسة وحديث النفس على ماعليه البشرية.
وقد يكون المقصود حديث النفس المعفو، وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يارسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحرق حتى يصير حمماً أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال: ((أوقد وجدتموه؟)) قالوا: نعم. قال: ((ذلك صريح الإيمان)).
يتبع إن شاء الله...